مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219088 / تحميل: 6016
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الثاني: إنّ الملوكية التي اتّصف بها الأنبياء، كانت معطاة من الله سبحانه، لا أنّهم اكتسبوها بالقوّة والقهر كما هو شأن ملوك الأرض.

ولو كانت الملوكية مجردةً عن ذينك الأمرين، لأدّى إلى الفساد، والتفرعن كما يشهد به التأريخ.

وأقصى ما يمكن أن يقال حول توصيف الله سبحانه لبعض الأنبياء الصالحين بالملوكيّة: أنّ التأريخ وإن كان يشهد على أنّ الملوكيّة وإن كانت مقرونة بالاستكبار والتفرعن والفساد، غير أنّه لم يكن يتبادر من تلك الكلمة ـ في عصر نزول القرآن ـ ما يتبادر في العصور المتأخّرة عن نزوله وبالأخصّ في هذه الأعصار الأخيرة.

ولأجل ذالك وصف الله سبحانه طالوت بالملوكيّة( بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ) ومنّ على بني اسرائيل بأن جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكاً، قال سبحانه:( اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) ( المائدة: ٢٠ ).

كما وصف آل ابراهيم بقوله:( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) ( النساء: ٥٤ ).

إلى أن عاد سبحانه ينقل عن داود بأنّه طلب من الله سبحانه أن يهب له ملكاً، قال تعالى:( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ) ( ص: ٣٥ ).

إنّ الملكيّة بكلّ أنواعها، مرفوضة في نظر الإسلام وخاصّة الوراثيّة منها، لما في ذلك من الفساد وضياع الحق والعدل كما أثبتته التجارب التأريخيّة في حياة البشريّة.

يقول المؤرّخ المعروف ابن خلدون في مقدّمته في الفصل الحادي والعشرين تحت عنوان ( فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه ) :

( إذا استقر الملك في نصاب معيّن ومنبت واحد من القبيل القائمين بالدولة وانفردوا به، ودفعوا سائر القبيل عنه، وتداوله بنوهم واحداً بعد واحد، بحسب الترشيح، فربّما حدث التغلّب على المنصب من وزرائهم وحاشيتهم، وسببه في الأكثر ولاية صبيّ

٦١

صغير، أو مضعف من أهل المنبت يترشّح للولاية بعهد أبيه، أو بترشيح ذويه وخوله، ويؤنس منه العجز عن القيام بالملك، فيقوم به كافله من وزراء أبيه وحاشيته ومواليه أو قبيله، ويورّي بحفظ أمره عليه حتّى يؤنس منه الاستبداد ويجعل ذلك ذريعةً للملك، فيحجب الصبيّ عن الناس، ويعوده اليها ترف أحواله، ويسيمه في مراعيها متى أمكنه، وينسيه النظر في الاُمور السلطانيّة حتّى يستبدّ عليه، وهو بما عوّده يعتقد أنّ حظّ السلطان من الملك، إنّما هو الجلوس على السرير، وإعطاء الصّفقة، وخطاب التهويل، والقعود مع النساء خلف الحجاب، وأنّ الحلّ والربط والأمر والنهي ومباشرة الأحوال الملوكيّة، وتفقُّدها من النظر في الجيش والمال والثغور، إنّما هو للوزير، ويسلّم له في ذلك إلى أن تستحكم له صبغة الرئاسة والاستبداد، ويتحوّل الملك إليه ويؤثر به عشيرته وأبناءه من بعده كما وقع لبعض البلاد.

وقد يتفطّن ذلك المحجور المغلّب لشأنه، فيحاول على الخروج من ربقة الحجر والاستبداد، ويرجع الملك إلى نصابه، ويضرب على أيدي المتغلّبين عليه، إمّا بقتل أو برفع عن الرتبة فقط، إلّا أنّ ذلك في النادر وإنّما يحدث لأبناء الملوك ذلك، لأنّهم ينشأون منغمسين في نعيمه وقد نسوا عهد الرجولة )(١) .

وصفوة القول، أنّ النظام الملكيّ المطلق منه والدستوري والوراثيّ، أمر ملازم للاستعلاء والطغيان.

* * *

٢. الحكومة الأشرافيّة

إنّ المقصود من هذا النوع، هو أن يتسلّم فريق من أعيان المجتمع ووجوهه زمام الحكم والسلطة بحجّة تفوّقهم الروحيّ والفكريّ أو النسبيّ على الآخرين، وهذا هو ما يصطلح عليه الآن بالحكومة ( الارستقراطيّة ) أو حكومة طبقة ( الأعيان ).

ولا يخفى، أنّ مجرّد التفوّق الروحيّ أو الفكريّ أو النسبيّ ما لم يقترن بسائر

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون: ١٨٥ ـ ١٨٦.

٦٢

الصلاحيّات والمؤهلات، لا يمكن أن يكون مسوّغاً للقيادة والحاكميّة، ولأجل ذلك لا تكون الأشرافية بهذا المعنى ملاكاً لها.

أضف إلى ذلك، أنّه ربّما تتصدّر شرذمة من الطغاة الحريصين على الحكم والسلطة مسند الحاكميّة بادعاء تفوّقهم الروحيّ أو الفكريّ أو النّسبيّ على الآخرين من دون أن يكون فيهم شيء من ذلك.

* * *

٣. حكومة الأغنياء (١)

وهي تتحقّق باستيلاء جماعة من ذوي الثراء الكبير على زمام الحكم لثرائهم، وهذا النمط هو ما يسمّى بحكومة الخاصّة أيضاً.

ويبرّر هذا الفريق حقّهم في الأخذ بزمام الحكم دون غيرهم، بقدرتهم الاقتصادية وتفوّقهم الإداريّ.

ولكن هذا النوع وما تقدمه من الحكومات، لا يلتقي ولا ينسجم مع النظام الإسلاميّ مالم يرتضيه الشعب، ولم يكن موافقاً للاسس والضوابط الإسلاميّة في مجال الحكم والحاكم، لأنّ هذه الحكومات تؤول ـ لا محالة ـ إلى الديكتاتورية والاستغلال، وإن كانت تغطّي نفسها ـ أحياناً ـ برداء الديمقراطيّة، وتدّعي خدمة الشعوب.

٤. النمطُ الديمقراطيّ

ويعني هذا النوع من الحكومة: « حكومة الشعب على الشعب »، وهو في ظاهره يختلف عن الأنواع السابقة بأنّه يستند إلى إرادة الشعب، ورأيه، ويتحقّق بأن يكون الحاكم أو الرئيس منتخباً من جانبهم، أو يكون موضع قبولهم على الأقلّ.

وهذا النمط، وهو الذي تدّعيه أكثر الحكومات الحاضرة وخاصّةً في الغرب بل ،

__________________

(١) وتسمّى حكومة الاستئثار.

٦٣

ويتبجّح به العالم الغربيّ ويفتخر به ويدّعي أنه السبيل الوحيد لضمان الحريات التي يتطلبها الإنسان، طيلة حياته، ويشتريها بأغلى ثمن ولكنّه ادعاء خال عن الحقيقة، مجرد عن الواقع.

فإنّ الديمقراطيّة الدارجة في الغرب ديمقراطيّة ظاهريّة، وحريّة صوريّة غير حقيقّية، فالناخبون هناك ينتخبون نوّابهم وحكاّمهم مجبورين ومضطّرين في الواقع وإن كانوا مختارين في الظاهر.

فهم ينتخبون تحت تأثير الوسائل الإعلاميّة الفعّالة، والمؤثرات الخفيّة والجليّة التي تدفع بالناخب الغربيّ إلى أن ينتخب ـ بصورة لا إرادية ـ ما تروّج له أجهزة الإعلام، أو تسوّله دعايات اصحاب الشركات والمعامل الكبرى، أو تدعو له الراقصات والمغنّيات والمغنون.

إنّ المرء يتصوّر ـ في بادئ الأمر ـ، أنّ الغرب يمارس ديمقراطيّةً حقيقيّةً، غير أنّ من يطالع الأوضاع وخلفياتها الخفيّة، يرى صورةً عن الديمقراطيّة لا روح فيها، وشكلاً من حرية الانتخاب لا واقع لها، فالإنسان في تلك الديار مسيّر بفعل العوامل الدعائية التي تملكها شرذمة من أصحاب الثروة والنفوذ والمصالح، فالإنسان الغربي يمارس ديمقراطيّةً كاذبةً، لأنّه لا يختار إلّا ـ تحت التأثير الإعلاميّ ـ من تريده تلك الشرذمة من أصحاب المصالح والنفوذ لا ما يريده هو في قرارة وجدانه، أو يحكم به عقله، وتقتضيه مصالحه.

وهل يستطيع أحد أن ينكر تأثير الأجهزة الإعلاميّة والدعائية في بذر فكرة خاصّة وإلقائها في أذهان الناس، وتوجيههم الوجهة التي تريد، ودفعهم إلى اختيار من تشاء ؟.

أم هل يمكن إنكار الدور المؤثر لوسائل الطّرب، وللفنّ، والحفلات الغنائيّة والموسيقيّة ؟ فكيف لا يؤثر في الأذهان، جعل صورة المرشّح للرئاسة أو للنيابة على صدور الفتيات الشبه عاريات والراقصات أمام الجماهير، أو ترديد اسم المرشّح في أناشيد

٦٤

المطربين والمطربات وفي أغاني المغنّين والمغنّيات ؟.

أم هل يمكن أن ينسى تأثير الوعود البرّاقة الكاذبة، أو شراء الأصوات بالأموال الطائلة أو التحالفات العشائريّة، وغير ذلك من الوسائل المتّبعة في الغرب وفي النظم الديمقراطية السائدة في عالمنا الحاضر ؟.

وليس من شكّ في أنّ انتخاب الإنسان المسيّر في اختياره، المدفوع تلقائياً إلى انتخاب مرشّح شرذمة معينة، لا قيمة له في ميزان العدل والحق، ولا يمكن أن يسمى انتخاباً حرّاً واختياراً صحيحاً، ولا يكون مثل هذا في الغرب إلّا لأنّهم لا يشترطون في الانتخاب شرطاً من الاُمور المعنويّة عدا كونه منتخباً لأكثريّة الشعب فحسب. ولكن الإسلام يشترط في الناخب والمنتخب شروطاً كثيرةً عدا كونه مقبولاً للشعب ومرضيّاً عندهم، ولا يأذن لأحد أن يتجاوز هذه الشروط أو يتغافلها، بلغ الأمر ما بلغ.

إنّ النمط الديمقراطيّ للحكم ـ على ما يراه الغرب ومن تبعهم في الشرق ـ لا يهتمُّ إلّا بكثرة الأصوات والتفوق في عدد الآراء لا غير.!!

يكتب ( فرانك كنت ) الكاتب السياسيّ في هذا الصدد قائلاً: ( انّ مسألة « ضرورة تحصيل أغلبيّة الأصوات » موضوع مهم جداً، وفي سبيل تحصيلها لا يمكن أن يسمح أبداً بأن تتدخّل فيها مواضيع تافهة مثل قضية الأخلاق، ومراعاة الحقّ، والباطل ).

ويكتب هذا الكاتب نفسه أيضاً: ( إنّ أهمّ نقد وجّهه النائب « آشورست » إلى أحد زملائه الذي كان يخوض حملةً انتخابيةً في انتخابات ( ١٩٢٠ م ) هو: أنّك لاتريد أن تتحايل على الناس، يعني أنّك لا تريد في سبيل الوصول إلى المركز النيابيّ أن تسحق وجدانك، إنّك يجب أن تتعلّم بأنّ على الرجل السياسيّ ـ في بعض الموارد ـ أن يتجاهل ضميره، ويتناسى وجدانه )(١) .

__________________

(١) اقتبس من مقال لجون اف كندي الرئيس الأسبق للولايات المتّحدة.

٦٥

ثمّ إنّ هذا النوع من نظام الحكم وإن لم يكن من مصاديق الاستعلاء المذموم في القرآن الكريم، غير أنّ مجرد كونه شعبياً لا يكفي في شرعيّته وصحته، بل لابدّ أن يكون ناشئاً من حاكميّة الله سبحانه، إمّا بالنصّ، أو موضع تأييده برعاية الضوابط والسنن التي نصّ عليها في الشريعة الإسلاميّة في مجال الحكم والحاكم. وبذلك تختلف صيغة الحكومة الإسلاميّة ـ التي سيأتي ذكرها ـ عن سائر الصيغ والأنماط الرائجة لنظام الحكم، وإن كانت بعض هذه الصيغ موضع قبول الشعوب ورضاها.

إنّ الحاكميّة ـ حسب منطق العقل والدين ـ مخصوصة بالله سبحانه ومحض حقّ له دون سواه، ولذلك، لابدّ أن تكون حاكميّة غيره ناشئةً منه، أو موضع تأييده سبحانه.

وبعد استجلاء هذه الحقيقة، ينطرح هذا السؤال: ما هي إذن صيغة الحكومة الإسلاميّة ؟.

٦٦

الفصل الثاني

١

صيغة الحكومة الإسلاميّة

كيف ؟

تلخيصٌ لما سبق :

لقد أثبتت الأبحاث السابقة اُموراً، هي :

١. أنّ العقل ـ فضلاً عن الآيات القرآنيّة، والأحاديث الشريفة ـ يقضي بلزوم وجود( دولة ) تدير دفّة البلاد، وتتولّى ادارة شؤون المجتمع، إذ بدون الدولة لن يكون أمر الاُمّة إلّا فوضى واختلاف.

٢. أنّ طبيعة القوانين الإسلاميّة في مختلف المجالات المدنية والاقتصاديّة والدفاعيّة تقتضي وجود مثل هذه الدولة، وإلاّ كان تشريعها لغواً وعبثاً.

٣. أنّ على المسلمين إذن، أن يقوموا بتشكيل مثل هذه الدولة لتطبيق الإسلام في جميع الأصعدة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.

٦٧

٤. أنّ الحكومة الإسلاميّة ليست على نمط النظام الملكيّ، أو حكومة الأشراف أو حكومة الخاصّة، أو النظام الديمقراطي الرائج في الغرب، أو المتّبع في بلدان العالم الثالث.

بعد أن ثبت كلّ ذلك في الأبحاث السابقة ينطرح السؤال التالي :

ما هي صيغة الحكومة الإسلاميّة إِذنْ ؟

إنّ البحث عن شكل وصيغة « الحكومة الإسلاميّة » رغم أنّه من أهمّ المباحث في هذا المجال، لكننا لا نجد دراسةً وافيةً شاملةً عنها.

إنّ علماء الشيعة لـمّا كانوا يمثّلون ـ طوال العصور ـ، جبهة الرّفض والمعارضة للحكومات الجائرة، فإنّهم كانوا بسبب ذلك يعانون من أشدّ أنواع الملاحقة والمضايقة، فلم تسمح لهم تلك الظروف العصيبة أن يتحدثوا عن صيغة الحكومة الإسلاميّة، أو يتفرّغوا للكتابة عنها، وتوضيح ملامحها، ورسم خطوطها، ويؤلّفوا فيها كما ألّفوا عن بقيّة المجالات الإسلاميّة.

نعم، لقد قام بعض علماء السّنّة بتأليف بعض الكتب في هذا المجال، ولكن هذه الكتب لم تشرح إلّا الوضع الذي كانت عليه الحكومات السائدة حينذاك في المجتمعات الإسلاميّة، من دون أن ترفع النّقاب عن وجه الحكومة الإسلاميّة الواقعيّة كما تحدّث عنها القرآن الكريم والسّنّة المطهّرة ودلّ عنها العقل السليم.

ولأجل ذلك، لا يرى القارئ في ( الأحكام السلطانيّة ) للماورديّ وما يماثله من الكتب والمصنّفات إلّا هذا الأمر وأما تصوير الحكومة الإسلاميّة كما ينبغي أن تكون فلا يكاد أن يجده كما ستعرف.

ويمكن أن نعزي غياب الصورة الحقيقيّة للحكومة الإسلاميّة إلى عدّة اُمور أخرى :

١. توالي الحكومات المنحرفة على دفّة الحكم في الاُمّة الإسلاميّة، الأمر الذي حال

٦٨

دون قيام الحكومة الإسلاميّة الواقعيّة، وكان ذلك من أسباب غياب النمط الواقعيّ لنظام الحكم الإسلاميّ، وعدم معرفتنا به.

أضف إلى ذلك، أنّ تأريخ المسلمين في العصور الماضية كان له صبغة الإسلام وصبغة القيادة الإسلاميّة، لا أنّه كانت تتوفّر فيه جميع عناصر الدولة الإسلاميّة وشرائط المجتمع الإسلاميّ ومواصفاته، ولأجل ذلك لم تكن تلك الحكومات المنصبغة بصبغة الإسلام ممثّلةً لواقع القيادة الإسلاميّة.

٢. بعدنا الزمني عن العهد النبويّ وتطوّر اللغة، ممّا جعلنا لا نفهم الكثير من مقاصد المصطلحات القرآنيّة التي تدلّ على ملامح الحكومة الإسلاميّة كما كان يفهم العربي المعاصر لذلك العهد.

وتتعيّن على الكتّاب المعاصرين، لاستجلاء الملامح الغائبة للحكومة الإسلاميّة، اُمور :

أوّلاً: العودة إلى المصادر الأساسيّة للإسلام، ونعني بها الكتاب والسّنّة المطهّرة والسيرة الشريفة التي سار عليها الأئمّة الواقعيّون.

ثانياً: أن لا يخلطوا بين ما وقع وجرى على الساحة الإسلاميّة في مجال الحكم، وبين ما هو مرسوم لنظام الحكم في أصل الشريعة المقدّسة.

ثالثاً: أن لا يخلطوا بين تأريخ المسلمين ونظام الدين، لأنّ ذلك التأريخ لا يكون ممثلاً واقعيّاً لكلّ تعاليم الدين، ولا مبرزاً لجميع حقائقه.

فإذا تجاوزنا جميع هذه الحواجز المانعة عن رؤية الحقيقة، استطعنا أن نقف على الصورة الحقيقيّة لنظام الحكم الإسلاميّ وأبعاده، وجميع خصوصياته وامتيازاته.

إنّا مع تقديرنا لكلّ ما قام به علماؤنا الأقدمون من خدمات عظيمة في تدوين الفكر الإسلاميّ وحمايته وصيانته وتعميقه وتوضيحه، نعذرهم في عدم توضيحهم لصورة الحكومة الإسلاميّة، نظراً للظروف الصعبة وغير العاديّة التي عاشوها وقاسوا منها الأمرّين كما ستعرف، ولكنّنا نعتبر القيام بهذا الأمر واجباً حتميّاً بالنسبة إلى كتّابنا

٦٩

ومفكّرينا المعاصرين، وخاصّةً أنّ الحاجة إلى ذلك ـ بعد قيام أوّل حكومة إسلاميّة من نوعها في بلد إسلاميّ هو إيران ـ قد أصبحت شديدةً وماسةً في الوقت الذي يتطلّع فيه الكثير من المسلمين إلى إقامة الحكومة الإسلاميّة الواقعيّة في بلادهم أيضاً.

إنّ غموض موضوع ( الحكومة الإسلاميّة ) جعل أكثر المسلمين في هذا العصر لا يعرفون عنها سوى، أنّها كبقية الحكومات القائمة في بعض البلاد الإسلاميّة التي تنتحل لنفسها صفة الإسلام واسمه، وهي أبعد ما تكون عن الإسلام جوهراً وشكلاً، أسلوباً وسياسة.

إنّ الحكومة الإسلاميّة تمتاز بخصوصيّات وخصائص عديدة تميّزها عن جميع الحكومات الحاضرة ـ والغابرة ـ التي تتقمّص رداء الإسلام كذباً وزوراً.

إنّ التتبّع في الكتاب والسّنّة يقضي، بأنّ الحكومة في الإسلام تقوم بأحد أمرين، لكلّ واحد ظرفه الخاصّ :

١. التنصيص الإلهيّ على الحاكم الأعلى باسمه وشخصه. وهذا فيما لو كان هناك نصّ أو نصوص على حاكميّة شخص معيّن على الاُمّة كما في النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله باتّفاق المسلمين، أو الأئمة المعصومين حسب ما يذهب إليه الشيعة.

ومن المعلوم، أنّه لو كان هناك نصّ لما جاز العدول عنه إلى الطريق الآخر الذي سنشير إليه.

٢. التنصيص الإلهيّ على صفات الحاكم الأعلى، وشروطه، ومواصفاته الكليّة فيما إذا لم يكن هناك تنصيص على الشخص، أو كان ولكن الظروف تحول دون الوصول إليه، والانتفاع بقيادته.

ومن المعلوم، أنّ الطريق الثاني يؤخذ به في ظرف عدم الطريق الأوّل.

وعلى كلّ تقدير، فالحاكميّة تنصيصيّة منه سبحانه مطلقاً، فهي إمّا بالتنصيص على الشخص المعيّن، أو التنصيص على المواصفات الكليّة، وإلى هذا القسم الثاني يرجع انتخاب الاُمّة حسب الشرائط والضوابط.

٧٠

التنصيص الإلهيّ على الحاكم الأعلى

باسمه وشخصه

إن الحاكميّة كما أسلفنا(١) ، حقّ مختصّ بالله سبحانه، ولا حاكمية لسواه إلّا بإذنه، وله الحقّ وحده في تعيين من يقود البشرية، ويسوس اُمورهم ويحكمهم

وهذا هو ما يؤكّده القرآن الكريم في كثير من آياته صراحة وتلويحاً، إذ يقول :

( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام: ٥٧ ).

( أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الانعام ٦٢ ).

( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ أَمَرَ إلّا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ ) ( يوسف: ٤٠ ).

يقول العلاّمة الطباطبائيّ: ( إنّ نظرية التوحيد التي يبني عليها القرآن الشريف بنيان معارفه، لـمّا كانت تثبت حقيقة ( التأثير في الوجود ) لله سبحانه وحده لا شريك له، وإن كان الإنتساب مختلفاً باختلاف الأشياء، غير جار على وتيرة واحدة، كما ترى أنّه تعالى ينسب الخلق إلى نفسه، ثمّ ينسبه في موارد مختلفة إلى أشياء مختلفة بنسب مختلفة، وكذلك العلم والقدرة والحياة والمشيئة والرزق والحسن، إلى غير ذلك. وبالجملة، لـمّا كان التأثير له تعالى، كان(٢) الحكم الذي هو نوع من التأثير والجعل له تعالى، سواءً في

__________________

(١) راجع الجزء الأول من كتابنا: ٥٧٨.

(٢) جواب لـمّا الشرطيّة.

٧١

ذلك الحكم في الحقائق التكوينيّة أو في الشرائع الوضعيّة(١) الاعتباريّة، وقد أيّد كلامه تعالى هذا المعنى، كقوله:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) ( الأنعام: ٥٧ يوسف: ٦٧ ) وقوله تعالى:( أَلا لَهُ الحُكْمُ ) ( الأنعام: ٦٢ ) وقوله تعالى:( لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَىٰ وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ ) ( القصص: ٧٠ ) وقوله تعالى:( وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) ( الرعد: ٤١ ) ولو كان لغيره تعالى حكم لكان له أن يعقّب حكمه ويعارض مشيئته، وقوله تعالى:( فَالْحُكْمُ للهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) ( غافر: ١٢ ) إلى غير ذلك.

ويدل على اختصاص خصوص الحكم التشريعي به تعالى، قوله:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ أَمَرَ إلّا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) ( يوسف: ٤٠ ) فالحكم لله سبحانه لا يشاركه فيه غيره، على ظاهر ما يدلّ عليه ما مرّ من الآيات، غير أنّه تعالى ربّما ينسب الحكم مطلقاً وخاصةً التشريعيّة منه إلى غيره، كقوله تعالى:( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ) ( المائدة: ٩٥ ) وقوله لداوودعليه‌السلام :( إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ ) ( ص: ٢٦ ) وقوله للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ ) ( المائدة: ٤٩ ) وقوله( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) ( المائدة: ٤٤ ) إلى غير ذلك من الآيات وضمّها إلى القبيل الأوّل يفيد، أنّ الحكم الحقّ لله سبحانه ب‍ ( الأصالة ) وأوّلاً، لا يستقلّ به أحد غيره، ويوجد لغيره بإذنه وثانياً. ولذلك عدّ تعالى نفسه أحكم الحاكمين وخيرهم، لما أنّه لازم الأصالة والاستقلال والأوّليّة، فقال:( أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ ) ( التين: ٨ ) وقال:( وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( الأعراف: ٨٧ )(٢) ».

وكتب حول قوله تعالى:( أَلا لَهُ الحُكْمُ ) ( الأنعام: ٦٢ ) أيضاً يقول: ( قوله

__________________

(١) المصطلح لدى الاُصولييّن في الوضعيّة هو الأحكام والقوانين المجعولة كالسببيّة والشرطيّة والرئيسيّة والمرؤوسيّة والحاكميّة والمحكوميّة ويقابله الأحكام التكليفيّة الخمسة المعروفة كالوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة.

غير أنّ الأستاذ قدس‌سره أراد منها هنا مطلق الأحكام التشريعيّة سواء أكانت بلسان الوجوب والحرمة، أم غيرها، ممّا تسمّى ـ اصطلاحاً بالأحكام الوضعيّة.

(٢) تفسير الميزان ٧: ١١٧ ـ ١١٨.

٧٢

تعالى:( أَلا لَهُ الحُكْمُ ) إلخ لـمّا بيّن تعالى اختصاصه بمفتاح الغيب وعلمه بالكتاب المبين الذي فيه كل شيء، وتدبيره لأمر خلقه من لدن وجدوا، إلى أن يرجعوا إليه، تبيّن أنّ الحكم إليه لا إلى غيره، وهو الذي ذكره فيما مرّ من قوله:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) أعلن نتيجة بيانه فقال:( أَلا لَهُ الحُكْمُ ) ليكون منبّهاً لهم ممّا غفلوا عنه )(١) . فإذا لم تكن الحاكميّة إلّا لله تعالى، كان إليه وحده أمر التنصيص والتعيين للحاكم الأعلى، أمّا على الاسم والشخص، كما إذا اقتضت المصالح أن يكون لون الحكومة على هذا النمط، أو على الصفات والشروط اللازمة فيه، كما إذا اقتضت المصلحة أن يكون لون الحكومة على هذا الطراز.

بيد انّ المسلمين قد اتفقوا على أنّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان حاكماً منصوباً من جانبه سبحانه على الاُمّة.

ومن المعلوم، أنّه لو كان هناك تنصيب للشخص لما كان للاُمّة رفض النصّ والتعيين والركون إلى الطريق الآخر يقول سبحانه:( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينًا ) ( الأحزاب: ٣٦ ).

وقد نصّ الله تعالى على حاكمية النبيّ، وحاكميّة ولاة الأمر من بعده إذ قال في كتابه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ( النساء: ٥٩ ).

ومن الواضح أنّ وجوب إطاعة النبيّ واولي الأمر(٢) في كلّ ما يأمر وينهى دليل

__________________

(١) تفسير الميزان ٧: ١٣٦.

(٢) المشهور بين الإماميّة تبعاً للأخبار أنّ المراد من اولي الأمر، أشخاص معيّنون بأسمائهم وشخصيّاتهم، وقد نصّ النبيّ عليهم في متواتر الأحاديث والروايات، التي رواها أعلام الحديث من الفريقين، فهي قضيّة خارجيّة ـ حسب المصطلح المنطقيّ ـ مقصورة على أولئك الأشخاص، وليست قضيّةً كليّةً قانونيّةً مضروبةً على إطاعة كلّ من ولي الأمر من المؤمنين، حتّى تصير قضيّةً حقيقيّةً حسب اصطلاح المنطق. وإن كان ـ ربّما ـ يجب إطاعة ولي الأمر من المؤمنين، لكنّه بسبب دليل آخر لا لأجل هذه الآية، وهناك وجه آخر في مفاد الآية قرّر في محلّه.

٧٣

على حاكميّته وولايته المفوّضة إليه من جانب الله بتنصيصه سبحانه على ذلك.

كيف لا وقد صرح القرآن بولاية النبيّ، وحكومته على الأنفس فضلاً عن الأموال بقوله سبحانه:( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ( الأحزاب: ٦ ).

فهذه الآية، تدلّ ـ بوضوح ـ على أنّه تعالى نصب النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله حاكماً، وأولاه سلطةً على نفوس المؤمنين وأموالهم، سلطةً شرعيةً في إطار الحقّ والعدل والصلاح.

خاصّةً أنّه ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: « إنّها نزلت في الإمرة يعني الإمارة »(١) .

هذا والأدلة على أنّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان حاكماً منصوباً من جانبه سبحانه، أكثر ممّا ذكرناه من الآيات، وبما أنّه لم يختلف فيه أحد من المسلمين نكتفي بما أوردناه.

إنّما البحث في صيغة الحكومة بعد النبيّ الأكرم، فهل هي كانت على غرار حكومة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ الله سبحانه نصب أشخاصاً معيّنين للحكومة بلسان نبيّه، أو أنّ الحكومة بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله على غرار الطريق الثاني، أعني التنصيص على الصفات والشروط الكلية اللازمة للحاكم، وحثّ الاُمّة على تعيين الحاكم من عند أنفسهم حسب تلك الصفات والشروط وعلى ضوء تلكم المواصفات.

فهناك قولان، ذهبت إلى كلّ واحد طائفة من المسلمين.

ما هي صيغة الحكومة بعد النبيّ ؟

إنّ تحليل صيغة الحكومة بعد النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من المسائل الهامّة التي فرقت المسلمين إلى طائفتين كبيرتين، تمثّل كلّ واحدة منهما شطراً كبيراً من الاُمّة الإسلاميّة.

ورفع النقاب عن وجه الحقيقة في هذا المجال، يحتاج إلى تجرد عن الأهواء والميول

__________________

(١) مجمع البحرين: ٤٥٧، الطبعة الجديدة.

٧٤

الطائفية، ولأجل ذلك نسأل الله سبحانه أن يوفّقنا لإراءة ما نلمسه بالدليل فنقول :

إنّ طائفةً كبيرةً من المسلمين ذهبت إلى أنّ صيغة الحكومة بعد الرسول، وإلى مدّة خاصّة من الزمن، كانت حكومةً تنصيصيةً إلهيّةً على غرار حكومة النبيّ الأكرم نفسه، فالله تعالى نصّ على أسماء من يجب أن يخلفوا النبيّ، على لسانه، وأوجب طاعتهم وحرّم مخالفتهم.

ويمكن استجلاء الحقيقة، وصدق هذا المدّعى، بالطرق الثلاث التالية :

١. محاسبة المصالح العامّة، وما كانت تقتضيه في تلك الفترة، فنرى، ماذا كانت تقتضي مصالح الاُمّة الإسلاميّة آنذاك، وأيّ لون من ألوان الحكومة كانت تتطلّب، هل كانت تقتضي الحكومة التنصيصيّة على الاسم والشخص ؟ أو التنصيص على الصفات والشروط ؟

وبتعبير آخر: هل كانت المصالح في تلك الفترة تقتضي التنصيص على أشخاص معيّنين ؟ أو ترك الأمر إلى انتخاب الاُمّة حسب الضوابط المقرّرة شرعاً ؟.

٢. لا شك أنّ وفاة الرسول الأكرم وغيابه عن الساحة كان من شأنه أن يحدث فراغاً بعده، فكان لابد من سد هذا الفراغ بمن يكون كالنبيّ علماً وسياسةً وخلقاً وقيادةً، فهل كان يمكن سدّ هذا الفراغ بانتخاب الاُمّة، أو لا يمكن إلّا بالتنصيص على فرد معيّن ؟.

٣. لـمّا كانت مسألة القيادة موضع اهتمام المسلمين في حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده، فحينئذ لا بدّ أن يكون للنبيّ وأصحابه في ذلك المجال رأي ونظر، فماذا يستفاد من النصوص الواردة حول هذه المسألة ؟.

ولنبدأ بعون الله بذكر هذه الطرق على وجه التفصيل :

٧٥

الطريق الأوّل

المصالح العامّة في الصدر الأوّل

وشكل الحكومة

١. عدم بلوغ الذروة في أمر القيادة.

٢. الاُمّة الإسلاميّة وآلخطر الثلاثيّ.

٣. العشائريات تمنع من الاتفاق على قائد.

ماذا كانت تقتضيه المصالح ؟

ماذا كانت تقتضي مصالح الاُمّة الإسلاميّة آنذاك ؟ هل كانت تقتضي أن يترك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمّته لتختار هي من تريد لقيادتها ؟ وهل كانت الظروف آنذاك تساعد على مثل هذا الأمر ؟ أو كان يجب النص على أشخاص معيّنين لذلك المقام الخطير ؟ وبعبارة واضحة: هل كانت المصلحة تقتضي تنصيب الإمام من جانب الله سبحانه بلسان نبيّه ؟ أو كانت المصلحة تقتضي أن يترك مسألة الخلافة بعده إلى رأي الاُمّة ؟

إنّ اُموراً كثيرةً تدلّ على أنّ مصالح الاُمّة كانت آنذاك تتطلّب تنصيب الإمام والقائد الذي يخلّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وتعيينه بلسانه في حياته، بل كان في عدم التعيين والتنصيب، وترك الأمر إلى اختيار الاُمّة وانتخابها، من الاختلاف والتفرّق وعدم الاتّفاق

٧٦

ما يشكل أكبر الخطر على تلك الجماعة ويعرّضها للتقهقر.

وإليك بيان هذه الاُمور :

أ ـ عدم بلوغ الذروة في أمر القيادة

إنّ الاُمّة الإسلاميّة ـ كما يدلّنا عليه التأريخ ـ لم تبلغ في القدرة على تدبير اُمورها، وإدارة شؤونها، وقيادة سفينتها حدّ الاكتفاء الذاتيّ، الذي لا يحتاج معه إلى نصب قائد لها من جانب الله تعالى.

وقد كان عدم بلوغ الاُمّة هذا طبيعياً، لأنّه من غير الممكن إعداد أمّة كاملة الصفات، قادرة على إدارة نفسها، وبالغة في الرّشد القياديّ والإداريّ حدّاً يجعلها مستغنيةً عن نصب قائد محنّك رشيد لها.

إنّه من غير الممكن إعداد مثل هذه الاُمّة وتربيتها في فترة ثلاث وعشرين سنة مليئة بالأحداث والوقائع الجسيمة، ومشحونة بالحروب الطاحنة والهزات العنيفة.

وليس هذا مختصاً بالاُمّة الإسلاميّة، بل التجارب تدلّ على أنّه من غير الممكن تربية أمّة كانت متوغّلةً في العادات الوحشيّة والعلاقات الجاهليّة، والنهوض بها إلى حدّ تصير أمّة كاملةً تدفع عن نفسها تلك الرواسب والعادات والخصائص الجاهليّة المتخلّفة، وتتقدّم بنفسها إلى ذرى الكمال، بحيث تستغني عن نصب قائد محنّك ورئيس مدبر، بل هي تقدر على تشخيص مصالحها في تعيين القائد.

إنّ إعداد مثل هذه الجماعة ومثل هذه الاُمّة لا يمكن ـ في العادة ـ إلّا بعد انقضاء جيل أو جيلين، وبعد مرور زمن طويل يكفي لتغلغل التربية الإسلاميّة إلى أعماق تلك الاُمّة، بحيث تخلط مفاهيم الدين بدمها وعروقها، وتتمكّن منها العقيدة درجةً يحفظها من التذبذب، والتشرذم والتراجع إلى الوراء.

وهذا ممّا لم يتيسّر للمسلمين الذين تولّى النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله تربيتهم وصياغتهم، فإنّ الأحداث التي وقعت، أثبتت، أنّ الإسلام لم يتعمّق في نفوس أكثرية المسلمين

٧٧

وعقولهم، ولم تجتثّ الرواسب الجاهلية المتأصّلة فيهم، فقد كانت هذه الرواسب تلوح منهم بين حين وآخر، وتظهر مظاهر التذبذب والتردّد، كلمّا أحكمت الصعوبات والمحن بقبضتها عليهم !!!

ففي معركة ( احد ) مثلاً عندما ترك بعض الرماة مواقعهم على الجبل ( خلافاً لأمر الرسول الأكرم وتأكيداته على البقاء ) وبوغت المسلمون بهجوم الكفار عليهم وهم يجمعون الغنائم، واصيبوا بنكسة كبرى وروّج الأعداء المشركون شائعات عن مقتل النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هرب بعض المسلمين من ساحة المعركة، ولاذ بعضهم بالجبل، بل فكّر بعضهم بالتفاوض مع المشركين حتّى أتاهم أحد المقاتلين ووبّخهم على فرارهم وتخاذلهم وتردّدهم قائلاً: « إن كان محمّد قد مات فربّ محمّد حيّ، قوموا ودافعوا عن دينه »(١) .

ولم تكن هذه الواقعة وحيدة من نوعها، فقد ظهرت بادرة الارتداد من بعضهم في ( هوازن ) ما لا يقلّ عمّا ظهر في أحد.

فقد روى ابن هشام عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، قال: لـمّا استقبلنا وادي حنين، انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف( أي متّسع ) حطوط( أي منحدر ) انّما ننحدر فيه انحداراً، وقال: وفي عماية الصبح، وكان القوم ( العدو ) قد سبقونا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه وقد أجمعوا وتهيّأوا وأعدّوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلّا الكتائب قد شدّوا علينا شدّة رجل واحد وانشمر ( أي انهزم ) الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد وانحاز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذات اليمين، ثمّ قال: « أين أيّها الناس هلمّوا إلّي، أنا رسول الله ».

فانطلق الناس ( أي هربوا ) إلّا أنّه قد بقي مع رسول الله نفر من المهاجرين والأنصار.

فلمّا انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من جفاة أهل مكّة الهزيمة ،

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٨٣.

٧٨

تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضّغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإنّ الأزلام لمعه في كنانته، وصرخ جبلة بن الحنبل: ( الا بطل السحر اليوم )(١) .

إلى غير ذلك من الأحداث والوقائع، التي كشفت عن تأصّل الرواسب الجاهليّة في نفوسهم، وعدم تغلغل الإيمان والعقيدة في قلوبهم. حتّى أنّنا نجد القرآن يشير إلى ذلك تعليقاً على ما حدث ووقع منهم في معركة ( أحد ) إذ يقول سبحانه:( وَمَا مُحَمَّدٌ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) ( آل عمران: ١٤٤ ).

ويقول في شأن من راح يبحث عن ملجأ له فراراً من الموت:( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ ) ( العمران: ١٥٤ ).

وصفوة القول، أنّنا لا ننكر ـ في الوقت نفسه ـ وجود من بلغت عقيدته واستقامته حداً استوجب أن يتحدث الله عنه في كتابه بقوله:( إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة: ١١١ ).

بيد أنّ الأكثرية منهم لم تكن قد بلغت ذلك المبلغ من رسوخ الإيمان وعمق العقيدة، ولم يكونوا قد تخلّصوا تماماً من رواسب الجاهلية.

ويدلّ على ما ذكر من عدم تغلغل الإيمان في نفوس أكثرية الصحابة والمعاصرين للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالإضافة إلى ما ورد من آيات، ما أخرجه أصحاب الصحاح والسنن، والمسانيد في هذا المجال من أخبار وأحاديث صحيحة.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٤٤٢ ـ ٤٤٤.

٧٩

فقد روى البخاري عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله: « ما بعث الله من نبيّ ولا استخلف من خليفة إلّا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشّرّ وتحضّه عليه، فالمعصوم من عصمه الله »(١) .

وروى البخاري أيضاً في صحيحه(٢) في باب ( وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ) من كتب التفاسير بسنده عن ابن عباس، قال :

خطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: « ألا وإنّه يجاء برجال من امتي فيؤخذ بهم ذات الشّمال فأقول يا ربّ: أصحابي فيقول: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصّالح( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) فيقال: إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم ما فارقتهم »(٣) .

فهل كان يجوز لصاحب الدعوة ـ والحال هذه ـ أنّ يتجاهل أمر القيادة من بعده، ولا ينصب أحداً باسمه وشخصه، ويدع تلك الاُمّة الحديثة العهد بالإسلام، الناشئة في الدين، التي لم تترسّخ العقيدة الإسلاميّة في مشاعر الأكثريّة من أبنائها وأفرادها، ولم تكتسب من التربية الفكريّة، والإداريّة ما يجعلها قادرةً على إدارة نفسها بنفسها بحزم، ومتمكّنةً من تدبير شؤونها بدراية وحنكة ؟!

أم لابدّ من تعيين قائد ونصب زعيم مدير لها بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يكون له من المؤهلات

__________________

(١) صحيح البخاري ٤: باب ( بطانة الإمام وأهل مشورته ): ١٥٠.

(٢) صحيح البخاري ٣: ٨٥.

(٣) وقد ورد هذا الحديث بنصّه وطوله، أو باختلاف يسير في: كتاب التفسير في باب( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ) وفي باب ( كيف الحشر ) من صحيح البخاري نفسه، وفي صحيح مسلم في كتاب الجنّة ونعيمها، وفي صحيح الترمذيّ بطريقتين باب ( ما جاء في شأن الحشر ) وفي أبواب ( تفسير القرآن )، وفي صحيح النسائيّ ( ج ١ ) في ذكر أوّل من يكسى، وفي مستدرك الحاكم في كتاب التفسير في ( سورة الزخرف )، وفي مسند أحمد بن حنبل ( ج١: ص٢٣٥ وص ٢٥٣ ) وفي مسند الطيالسيّ ( ج ١ ) في أحاديث سعيد بن جبير عن ابن عبّاس.

وفي الدرّ المنثور للسيوطيّ في تفسير قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ) وقال أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذيّ.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

من نتائج التطبيق:

إيجابيّات

استنساخ أعداد كبيرة من العباقرة والموهوبين وراثيّاً.

سلبيات:

١ - فتح باب الإنجاب بلا زواج.

٢ - ليست المواهب ولا الفضائل نتيجة الوراثة فحسب.

٣ - احتمال الكوارث المرضيّة الجامعة في هؤلاء المتشابهين وراثيّاً، فالمعروف أنّ التغاير والتشاكل في الوراثة من أسباب حماية الجنس البشري وارتقائه(١) .

ويقول طبيب آخر في هذا الموضوع:

أمّا موضوع التكاثر اللاّتزاوجي الذي أُطلق عليه( الاستنساخ ) فأُحب أنْ أضع فيه بعض النقاط على الحروف، فطريقة الاستنساخ ليست وسيلة تكاثر، أعني ليس أنّ شخصاً أنتج شخصاً آخر بوسيلة لا تزاوجيّة، أي بغير تزاوج، ولكنّ المهمّ هنا أنّ هذا الوليد تكون فيه جميع الخصائص الوراثيّة لهذا الكائن، وهذا لا يحدث إطلاقاً في أيّ تكاثر بطريقة التزاوج ؛ لأنّ كلّ مولود نصفه من الأُمّ ونصفه من الأب، أمّا هذا المولود فكلّه من الأب، أو كلّه من الأُمّ، إذا حصل يجب أن يكون كلّه من الأب ؛ لأجل أن يرث جميع الخصائص الممتازة.

___________________

(١) ص١٣١ وص١٣٢، الإنجاب في ضوء الإسلام.

١٢١

هذا الخيال صار حقيقةً مؤكّدةً، وأنتج ٢٠ ضفدعةً واحدة في عمليّة واحدة، فكلّها معبَّر عنها بأنّها توائم الأب ؛ لأنّها نسخة طبق الأصل من هذا الأب ولكنّها أصغر منه سنّاً ؛ لأنّها اُنتجت بعد عشرين سنة أو أربعين سنة، ولكنّها صورة دقيقة للغاية، كأنّها التوأم المتشابه(١) .

وعرّف الاستنساخ أو النسخ طبيب ثالث بقوله: إنّه يريد به المختصّون محاولة تقديم كائن، أو خليّة، أو جزيء يمكنه التكاثر عن غير طريق التلقيح ومن غير نقص أو إضافة للمحتوى الوراثي(٢) .

أقول في المقام مطالب:

١ - إذا حصل العلم من مذاق الشرع(٣) بعدم رضاه بتحقّق إنسان من رجل وامرأة بهذا النحو(٤) لا نكاح بينهما حتّى إذا لم يستلزم الزنا وحراماً آخر فيقيّد جواز العمليّة من الوجهة الدينيّة بأخذ الخليّتين المذكورتين من الزوجين فإنّها إنجاب بلا جماع لا بلا طرفين كما لا يخفى، وإلاّ فلا.

٢ - الظاهر جواز العمليّة المذكورة خارج الرحم لأصالة البراءة، نعم في صحّة نسبه إلى رجل أُخذت الخليّة من جسده، وإلى امرأة صاحبة البويضة غير واضح ؛ فإنّه لم يخلق من مائه:( خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ) (٥) ، وأمّا صاحبة البويضة فإنّها غير حامل وغير والدة ،

___________________

(١) ص١٧٥ نفس المصدر.

(٢) ص١٥٥ نفس المصدر.

(٣) هذا ما يُسمّى بالدليل اللُبّي في مقابل الدليل اللّفظي، والدليل اللّفظي غير متوفّر بنظري في المقام.

(٤) أي من منيّ امرأة وخليّة جسديّة من رجل.

(٥) الطارق آية ٦.

١٢٢

( إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ ) (١) ، فلاحظ.

وعلى كلٍّ، لا مانع من فرض إنسان أُمّ له شرعاً ( أو لا والد له ) فلا تحرم العمليّة المذكورة مادامت إرادة هذا المولود حرّةً، واختياره غير مسلوب فلاحظ، ومادامت الصفات المورثة ممّا لم تكن مبغوضة للشرع.

٣ - إذا ثبت في علم الطب - ولمّا يثبت لعدم وقوع الفرض حتّى تناله التجربة - أنّ الكوارث المرضيّة الجامعة في هؤلاء المتشابهين وراثياً ذات مخاطر فتحرم العمليّة لأجلها، فكما يحرم الإضرار بالغير الموجود يحرم التوسط في إيجاد موجود محفوف بالضرر والنقص.

٤ - لا سلبيّات للعمليّة سوى احتمال تلك الكوارث، تعتمد عليها في منع العمليّة شرعاً، وما قيل، من سلبيات أُخر، ضعيف أيضاً(٢) .

٥ - إذا حملته صاحبة البويضة وولدته فإنّها أُمّه جزماً، وإنْ شككنا أو نفينا نسبه عن الرجل، فإنّ مريم أمّ عيسىعليها‌السلام بلا شكّ، ولا والد لهعليه‌السلام .

___________________

(١) المجادلة آية ٢.

(٢) الإنجاب في ضوء الإسلام ص١٥٦.

١٢٣

المسألة الخامسة عشرة

المستقبل البيوتكنولوجي للإنسان ومعطيات النظام الاجتماعي

توصّل علماء الطبّ والبيولوجيا والكيمياء إلى اكتشاف بعض خبايا ميكانيكيّة الخليّة الحيّة، وصاغوا بعض القوانين العلميّة التي تحكم الشِّفْرة الوراثيّة للخليّة، ثمّ شرعوا بعد ذلك، في هندسة المستقبل الوراثيّة للأنواع الحيّة، إمّا عن طريق تجزئة الخلايا( الهندسة الوراثيّة ) وإمّا عن طريق اتّحاد الخلايا( الهندسة المشيجيّة ) .

واستعمل العلماء هذه الطرق، في التحكّم في التكوين الخلقي للخليّة، وفي تطويرها، فهناك ما يُسمّى بالتكاثر بالخلايا الجسديّة، حيث يراود العلماء الأمل، في تحويل الخليّة الجسديّة إلى خليّة جنينيّة يمكن لها أن تتكاثر، مثلها في ذلك مثل أصلها وهو البويضة الملقّحة، وذلك بعد تخليصها من القفل الكيميائي الذي يمنعها من محاكاة أصلها.

ومن بين الاستخدامات المتصوَّرة لتكنيك التكاثر بالخلايا الجسديّة بعث الذات البيولوجية للإنسان، وقوام هذا الاستخدام، هو نسخ نسخة طبق الأصل من الإنسان الذي أُخذت من جسده الخليّة الجسديّة. ويقال: إنّه من الممكن تحقيق نفس الغرض حتّى إذا أُخذت الخليّة من جثّة الإنسان، مادام أنّ هذه الخليّة ذاتها لم تمت. وبذلك يمكن ضمان بقاء العباقرة على قيد الحياة لتستفيد البشريّة من علمهم.

ولا بأس من أن أذكر تطبيقاً آخر للإمكانيّات البيولوجية الحديثة التي

١٢٤

ترتّب عليها كسر الحدود الفاصلة بين الأنواع المختلفة للكائنات.

فمما تفتّقت عنه قريحة العلماء: فكرة خلط خلايا بشريّة بخلايا نباتيّة أو حيوانيّة، لنصل بذلك إلى الإنسان الخضري ( الكلورفيلي ) أو الإنسان المجتر. ويستهدف العلماء من أبحاثهم هذه إنتاج سلالة بشريّة جديدة، يدخل في تكوينها بعض الصفات النباتيّة أو الحيوانيّة المرغوبة، كجعل الإنسان ذاتي التغذية، يعتمد على ذاته في غذائه كالنبات ( التمثيل الضوئي ).

ويفكّر العلماء - أيضاً - في إنتاج طراز جديد من الجنس البشري، عن طريق استخدام طريقة التكاثر الجسدي في تنمية الخلايا المختلطة، وبعد التأكّد من نجاح إنتاج هذا الطراز الجديد، فيمكن تعميمه بالطريق الطبيعي أي التكاثر الجنسي.

ولم يقف التلاعب بالحياة على المستوى العضوي، بل إنّ الفكر العلمي الحديث يتّجه إلى ابتداع طرق التحكّم في إرادة الإنسان بأجهزة الكترونية، وهذا هو الإنسان الالكتروني، الذي يمكنه إشباع رغباته وحاجاته عن طريق أزرار مركّبة على جسده.

ورغم ما يُقال عن تكنولوجيا التكاثر من أنّها ما زالت في طور الخيال، وأنّها لا تعدو أن تكون حاليّاً مجرّد أضغاث أحلام، إلاّ أنّ استخدامها الناجح على مستوى الحيوان والنبات، شجّع العلماء على التفكير في تطبيق قوانينها العلميّة على الجنس البشري، وما زراعة الأجنّة، أو طفل الأُنبوب، إلاّ تجسيد حيّ لطموح الإنسان في التحكّم في خلقته وصفاته، ولعلّ جهود العلماء في هذا المضمار، تجسّد رغبة الإنسان في التوصّل إلى إكسير الحياة ؛ ليكرّس بذلك خلوده وانتصاره على الموت، الذي هو مع ذلك سنّة الله في خلقه، ونذكر هنا أنّ أحد المليونيرات الأجانب طلب إنتاج نسخة من ذاته

١٢٥

وأبدى استعداده لتمويل أبحاث التكاثر الجسدي. ومثل هذا التفكير يحمل في طيّاته معاني كثيرة يفهمها كلّ لبيب(١) .

وقال بعضٌ آخر من الأطبّاء: موضوع الهندسة الوراثيّة في غاية الأهمّيّة، لسبب أنْ تقرّر أنّ كلّ القرارات الإلهيّة الموجودة داخل الخليّة يبدأ البحث فيها بمنتهى الدقّة، وهي تمثّل ٣٠٠ مليون جزئيّة. العالم بدأ في دراستها علميّاً واعتمد لها ١٥ مليار دولار، فتولّت ثلاث دول هذه العمليّة: أمريكا واليابان وألمانيا الغربيّة.

ومن المنتظر أنْ يتمّ الكشف عن هذه الجينوم، أو هذه الوثيقة بعد ١٥ عاماً...(٢) .

وقيل: إنّ بداية الإنسان ما هو إلاّ خليّة واحدة فيها نواة، إذا درسنا هذه النواة نجد أنّ فيها الحقيبة الوراثية، عبارة عن ٤٦ صبغ موجودين بين ٢٣ من الأب و٢٣ من الأُمّ، هذه الصبغيّات تحمل مورِّثات، هذه المورِّثات سواءٌ كانت تتحكّم في الصفات الطبيعيّة، أم الصفات المرضيّة، عددها كبير جدّاً يُقدّر بحوالي ٢ مليون مورِّث لغاية الآن، نحن الآن لم نعرف تقريباً أكثر من (٤٣٤٠) مورِّث بعضها يقيني وبعضها ليس بيقيني... ربّما يكون الأب سليماً من مرض، ثمّ يُبتلى ابنه به لوجود الصفات الوراثيّة في نواة الخليّة، انتهى كلامه بتغيير(٣) .

أقول : هذا البحث - من ناحيةٍ علميّةٍ - طويل عريض عميق جداً، ويُقال: إنّ العلم قادر على إيجاد لونٍ خاصٍّ لشعر المولود، وكيفيّة وجهه إلى

___________________

(١) الإنجاب في ضوء الإسلام ص ١٣٨ وما بعدها.

(٢) ص ٦٣٦ رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة.

(٣) ص ٤٩١ وص ٤٩٢ نفس المصدر، ولم أفهم وجه التفاوت بين الرقمين ( ٣٠٠ مليون ) و ( حوالي مليونين ).

١٢٦

غير ذلك من الإنجازات المحيِّرة للعقول العامّيّة، وتحقيق هذه المسائل وأحكامها الفقهيّة ربّما يحتاج إلى تأليفٍ مستقلٍّ، وكلّ ميسّر لما خلق لأجله.

وحيث لا سبيل لي إلى جزئيّات هذه المسألة وإلى عشرين أعشارها ؛ نقتصر على ذكر بعض الأحكام الشرعيّة، حسب ما أدّى إليه نظري، والله العاصم والهادي:

التغيير في جنين الإنسان أو نطفته ربّما يكون على نحو نعلم بعدم رضا هذا الإنسان بعد ولادته وإدراكه وبلوغه بل يتنفّر منه ويتأذّى، بل يكون له ضرريّاً، وهذا غير مباح حتّى إذا طلبه الزوجان، إذ لا ولاية لهما على أولادهما بهذه السعة والإطلاق، وقد لا نعلم بذلك أو نعلم رضاه به، وهو على أقسام:

القسم الأوّل: إن التغيير قد ينجرّ إلى ما يستلزم إفراطه في الشهوة الجنسيّة، أكثر ممّا هو عليه الآن، أو تمايله الشديد في القتل والتعدّي.

وبالجملة: يصل الإنسان بوسيلة العمليّة الطبّيّة والبيولوجية والكيمياوية إلى حدٍّ تقوى غرائزه الحيوانيّة، بحيث تضعف به قواه العقلانية، ويختلّ به النظام الاجتماعي، والسلوك الأخلاقي، والاقتضاء الروحاني، وهذا حرام غير جائز بلا شبهة، ومخالف لهدف خِلقة الإنسان، وقد لا يستلزم ذلك بل إلى حدٍّ ما من الشرور، وفي جوازه نظر وبحث.

القسم الثاني: قد ينجرّ إلى ما يرغِّبه في الطاعات والخيرات، بحيث يسلب إرادته للشرور والمعاصي، والظاهر عدم جوازه ؛ لأنّ الطاعة المقبولة المطلوبة من الإنسان ما صدر عنه باختياره:( وَ لَوْ شَاءَ لَهَدَاکُمْ

١٢٧

أَجْمَعِينَ‌ ) (١) .

ومنه يظهر حرمة ما يرغبه في المعاصي بحيث يسلب عنه إرادة الصالحات، بطريق أولى.

القسم الثالث: وقد يرغِّبه الى الأفعال الصالحة والأخلاق الحميدة من غير سلب اختياره، وعندي أنّه جائزٌ بل حسن، يظهر وجهه ممّا ورد في حق الأُمّ المرضِعة وغير ذلك.

القسم الرابع: وقد ينجرّ إلى سلب إرادة الإنسان وجعله تابعاً في أفعاله - سواء كانت مباحة أو غير مباحة - إلى إرادة الغير، صالحاً كان أو شريراً، فهذا - أيضاً - غير جائز، فإنّه مضادٌّ لغرض الخِلقة، فإنّ الله سبحانه خلق الإنسان للتكامل الحاصل من العبوديّة، وإطاعة الربّ في جميع شئون الحياة، وهذا التكامل لا يحصل إلاّ بكونه مريداً مختاراً لا مجبوراً مضطرّاً.

القسم الخامس: وقد ينجرّ إلى تغييرات جسمانيّة بداع التجمّل والتحسّن، وهذا لا بأس به في حدّ نفسه، حتّى إذا سبّب طول قامته أو قصرها أو هزاله أو سمنه، فضلاً عن بياض وجهه، وشباهة عينه بعين الظبي، واصفرار لون شعره ونحو ذلك.

وقد تقدّم حكم بعض مانقلناه في أوّل الكلام هنا في المسائل المتقدّمة، والله الموفِّق.

___________________

(١) النحل آية ٩.

١٢٨

المسألة السادسة عشرة

التحكّم في معطيات الوراثة

عرّفت الوراثة بانتقال الصفات من الأُصول إلى الفروع، أو من السَّلف إلى الخَلَف، وهي تشمل إلى جانب الخصائص، الأمراض القابلة للتوريث(١) .

قيل: إنّ الصور المطروحة على بساط البحث لا تعدو ثلاثة أنواع، هي:

١ - النسخ ( الاستنساخ )، وهو الحصول على نسخ من الكائن دون التزاوج.

٢ - المزج بين صفات وخصائص معيّنة في المخلوق بالتصرّف في مورِّثاته.

٣ - استصفاء جنس معيّن باستبقاء عنصره في الطّور الأوّل للجنين(٢) .

أقول : أمّا الأوّل، فقد مرّ توضيحه وحكمه.

وأمّا الثاني، فقد سمّاه بعض الأطبّاء بالاستبدال، وهو كما عرّفه المختصّون: التمويل على ما للحامض النووي ( النوويك ) من خصائص ولاسيّما خاصّة الالتحام عند قصّه بحيث يمكن التحكّم في إبدال المورِّثات من خلال عمليّات معقّدة يعود تحقّق نتائجها إلى تلك الخصائص في الحامض المذكور.

___________________

(١) ص ١٤٩ الإنجاب في ضوء الإسلام.

(٢) ص ١٥١ نفس المصدر.

١٢٩

فإن اتّجه هذا التصرّف إلى العلاج من علّة، سواءٌ كانت مرضاً وراثيّاً قائماً بالجسم، أم انحرافاً في الطبيعة الأصليّة، أم تقاصراً عن القدر المألوف فيها ؛ فإنّه ممّا يندرج في التصرّفات المشروعة شرعاً، وإمّا إن اتّجه إلى سلب الإرادة حتّى في جانب الخير، أو إلى الانحراف بالسجايا إلى الميول الشرّيرة، فلا يجوز، كما لا يجوز كلّ ما يُؤثر على الفطرة الأصليّة، سواء كان بأسباب مادّيّة منضبطة: كالإسكار والتخدير، والإكراه الملجئ أو بأسباب أُخرى خاصّة، كالذي يتعاطاه السحرة النافثون في العُقَد، أو الحسدة هواة الإصابة بالعين، أو المرجفون، وما إلى ذلك من المؤثِّرات المعنويّة، أو النفسيّة السلبيّة أو المفسدة.

فلا يقلّ عن هذه التصرّفات في الخطورة، ما يصل إليه الإنسان من نتائج بالوسائل المادّيّة المختبريّة والإجراءات الطبيّة، فكلّ مِن هذا وذاك استجابة لأمر الشيطان، ومطاوعة لنزغاته بالقيام بالتصرّف المُعْتَبر سبباً تنشأ عنه مسبِّبات منسجمة مع ذلك التغيير، فإنّ الله ربط الأسباب بالمسبِّبات، والحكم كما يتعلّق بالمباشر، يتعلّق بالتسبّب إذا ما توفّرت صلته السببيّة كما ذكره بعضهم(١) ولا يخلو عن متانةٍ وصحّةٍ.

وأمّا الثالث، وهو التحكّم في جنس الجنين بعد تشخيصه(٢) فهو - أيضاً - في حدّ نفسه جائز، وقد مرّ تفصيله.

___________________

(١) ص١٥٨ نفس المصدر.

(٢) وفسّر الاستصفاء بعضهم بالاصطفاء لأحد الجنسين على الآخر.

١٣٠

المسألة السابعة عشرة

حكم البييضات الفائضة

تبقى من البييضات المخصبة في أُنبوبة المختبر، إذ يمكن تلقيح عشرين بويضة ولا يحتاج إلاّ إلى اثنين أو ثلاثة، فما هو حكم البقيّة الفائضة ؟

الأسئلة الشرعيّة المتعلِّقة بالمقام أُمور:

١ - هل يجوز إهدارها والإزهاق بها أو يحرم ؟

٢ - هل تجب الديّة بإهدارها ؟

٣ - هل يُعزل لها من الإرث سهمها ؟

٤ - ما هو الحكم بالنسبة إلى عدّة صاحبتها ؟

٥ - هل يُعطّل الحدّ الشرعي بالنسبة إلى صاحبتها ؟

٦ - مَن يملك التصرّف فيها ؟

٧ - هل يجوز نقلها في رحم صاحبتها بعد وفاة زوجها، أو بعد طلاقها ؟

وإليك أجوبة هذه الأسئلة مستعيناً بالله تعالى:

أمّا السؤال الأوّل فجوابه: أنّه لا مصرف للبييضات الفائضة إلاّ رحم صاحبتها أيّام حياة زوجها، فإن أمكن وجب إبقائها على الأحوط، حتّى تُنقل إليها، وإن لم يمكن - ولو بانصراف صاحبتها عنها - فلا بُدّ من إتلافها ؛ حذراً من استعمالها على نحو الحرام شرعاً.

نعم، إذا كانت البييضات في الأُنبوبة في مسير حياتها الإنسانيّة، وأمكن ذلك طبّيّاً، ولم يستلزم المؤنات الكثيرة ؛ فالأحوط لزوماً إبقاءها، بل إذا تعلّق

١٣١

بها الروح وجب حفظها، مهما أمكن ؛ فإنّها نفسٌ محترمةٌ يحرم إتلافها، بلا فرق بين كونها في رحم، أو في أُنبوبة، أو في محلٍّ آخر.

وجواب السؤال الثاني: أنّه إذا وجب إهدارها لا ديّة لها، وإذا تعلّق بها الروح، وأمكن حفظها، وجبت الديّة جزماً على مَن أتلفها، وإذا لم تتعلّق بها الروح، وكان في مسيرها إلى الحياة الإنسانيّة فالأحوط لزوماً وجوب الديّة بالشرطين المذكورين، ( أيّ إمكان حياتها إلى ولادتها في الأُنبوبة طبّاً، ووجود مَن يقوم بمؤنتها ).

وعلى كلٍّ، الأحوط للطبيب أنْ لا يخصب البيضات أكثر من حاجة صاحبتها.

وجواب الثالث: أنّها إذا تعلّق بها الروح، وخرجت من الأُنبوبة إنسانا حيّاً يرث أباه، وقد مرّ الإشكال في نسبه إلى صاحبة البويضة، فإنّ الحكم بأُمومتها مع قوله تعالى:( إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ ) (١) مشكل، وإذا علموا بعدم خروجها حيّةً فلا يعزل له سهم، وأمّا إذا شكّ فالأحوط عزل السهم له، وكذا إذا علم بخروجه حيّاً من الأُنبوبة.

ويمكن أن يُقال بعدم وجوب عزل سهمٍ له، لأنّ موضوعه الحمل، ولا يصدق على ما في الأُنبوبة حمل بوجه، فإذا خرج حيّاً وقد قسّم الورثة الإرث بينهم، عليهم أن يردّ كلُّ واحدٍ من سهمهم ما يبلغ حقّ الحيّ المذكور.

وأمّا جواب الرابع: فهو منفيٌّ جزماً، فإنّ وجود البييضة في الأُنبوبة لا تجعلها حاملاً، وهذا واضح.

___________________

(١) المجادلة آية ٢.

١٣٢

وجواب الخامس: أنّه لا يُعطّل الحدّ عليها، نعم إذا فرضنا الجنين في معرض الخروج عن الأُنبوبة حيّاً، ولا توجد له حاضنة ومربّية سواها، ففي جريان الحدّ عليها تردّد، وتحقيقه في محلّه.

وجواب السادس: أنْ حق الأولويّة لصاحب الحيوان المنوي وصاحبة البويضة، وإذا مات أحدهما سقط حقّ الاستفادة عن البويضة المخصَّبة نهائيّاً كما ظهر ممّا سبق.

وأمّا جواب الأخير فقد اتّضح ممّا سبق، وأنّ النقل المذكور غير جائز.

بقي في المسألة أُمورٌ ينبغي ذكرها:

١ - إذا أُخصبت البييضة بحيوانٍ منويٍّ من غير الزوج، ثمّ تزوّج بصاحبتها، فهل يجوز نقلها إلى رحمها بعد الزواج ؟ فيه وجهان: أقربهما الجواز لعدم المانع، وهذا غير مَن حملت من أجنبي ثمّ زُوّجته، فإنّ الولد ولد زنا، ولا يرث من الرجل، ولا يخرج الولد بالعقد اللاحق عمّا انعقد عليه من الزنا بلا شبهة. نعم هو ولده لغةً وطبّاً، ولكنّه ليس بولده بحيث يرث منه ويورِث، كما مرّ.

٢ - إنّ زراعة خلايا بشريّة جنينيّة من خلال ثقب صغير بالجمجمة بمقدار ستّة مليمترات مكعّبة، بالأُسلوب الجراحي المجسّم، قد تمّت في تشيكوسلوفاكيا في أغسطس ١٩٨٩(١) ، فإذا أمكنت زراعة البييضات الفائضة في ذلك فلا بأس به شرعاً، كما أنّ زراعة خلايا بشريّة من جنينٍ ساقطٍ - أيضاً - لا مانع منه، لكنّ جواز الأوّل في فرض كون البييضات الفائضة

___________________

(١) ص٦٥ رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة.

١٣٣

من صاحبة الجنين لا غير، كما عرفت سابقاً، نعم الخلايا غير المنويّة من أحد لا بأس بزراعتها في بدن جنينٍ آخر.

٣ - قيل: يمكن الاحتفاظ باللقيحة الى خمسين سنة، يعني حتّى إلى ما بعد المعدّل الأقصى لعمر الأبوين، إذ المعتاد أنْ لا يباشر الأطبّاء عملية التلقيح المُجرى إلاّ ما بعد الثلاثين سنة من عمر الأبوين(١) .

٤ - قيل: إنّه يمكن استخراج خمسين بويضة من امرأةٍ واحدةٍ، وإنّ أحد مراكز أطفال الأنابيب كان لديه ١٢٠٨ جنيناً فائضاً، أُودعت الثلاّجات وجمدت من ٤٣٢ امرأة أُجريت لهنّ عمليّة طفل الأُنبوب(٢) .

أقول : للحكومة منع إنشاء الأجنّة الفائضة عن مقدار الحاجة بتاتاً ؛ سدّاً لذرائع الفساد والحرام، لأجل حصول الثروة - كما منعت ألمانيا الغربية على ما نُقل - بل الأحسن منع استخراج البييضات الفائضة عن حاجة الزوجين مطلقاً.

___________________

(١) ص١١١ وص١١٢ نفس المصدر.

(٢) ص١٧٤ نفس المصدر.

١٣٤

المسألة الثامنة عشرة

في دفع الموت في الجملة

من الممكن قدرة الطبّ - في مستقبلٍ قريبٍ أو بعيدٍ - على حفظ الصحّة العامّة للبدن وحفظ خلاياه عن الفتور والفساد، فلا يُستبدل الشباب بالهرم والشيخوخة، فيدفع الموت ويطيل عمر الإنسان، بل تأثير الطبّ في دفع الأمراض المُهْلِكة، وتكثير النسل الإنساني، وطول العمر في الجملة، واقعٌ بالفعل ومن زمنٍ ولا مجال لإنكاره.

وقد يُتوهم حرمة دفع الموت شرعاً لجريان سنّة الله، على أنّ كلّ نفس ذائقة الموت، قال الله سبحانه وتعالى:

( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ... ) (١) ، وقال تعالى:( وَ اللَّهُ خَلَقَکُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاکُمْ ) (٢) ، وقال سبحانه:( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيکُمْ ) (٣) .

أقول : إنْ أراد هذا القائل أنّ الله تعالى أراد موت كلِّ إنسانٍ حين أجله، استناداً إلى هذه الآيات وأمثالها، فلا يجوز دفعه ؛ لأنّه تعجيز له تعالى ! فهو هذيان، والقائل به جاهل بالله وقدرته، وربّما لا يكون مؤمناً، قال الله تعالى:

( وَ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ کُنْ فَيَکُونُ‌ ) (٤) ، وقال تعالى:( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) ، وقال سبحانه:( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي

___________________

(١) النساء آية ٧٨.

(٢) النحل آية ٧٠.

(٣) الجمعة آية ٨.

(٤) البقرة آية ١١٧.

١٣٥

السموات ولا في الأرض ) (١) وقال تعالى:( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ ) (٢) .

وبالجملة: بطلان هذا التخيّل على ضوء العقل والدين غير خفي، وقد ثبت في محلّه أنّ الكائنات تفتقر إليه تعالى في وجودها وصفاتها وأفعالها، حدوثاً وبقاءً.

على أنّ تأثير الأسباب في المسبَّبات، ووصول الإنسان الساعي إلى الأسباب - أيضاً - من سنّة الله ومشيئته، وقال سبحانه:( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ ) (٣) ، وقال سبحانه:

( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَانٍ ) (٤) .

وهل علم الإنسان وقدرته إلاّ قطرة مفاضة من علمه وقدرته اللذين لا يت-ناهيان.

ولبّ الكلام: أنّ البحث في إرادته التشريعيّة التي هي بمعنى طلبه تعالى شيئاً أو تركاً من المكلَّف، من طريق إرادته واختياره، فقد يمتثله المكلَّف وقد يعصيه. لا في إرادته التكوينيّة التي يستحيل تخلّف المراد عنها، بناءً على وحدة واجب الوجود واستحالة الشرك. وهذا، فليكن ببال القرّاء في جميع مطالب هذا الكتاب وغيره.

وإن أراد القائل المذكور أنّ دفع الموت حرام على المكلَّفين، فهذا شيءٌ ممكنٌ عقلاً، لكنّه باطلٌ ؛ لعدم دليل في الكتاب والسنّة يدلّ على

___________________

(١) فاطر آية ٤٤.

(٢) الأنفال آية ٥٩.

(٣) البقرة آية ٢٥٥.

(٤) الرحمن آية ٣٣.

١٣٦

حرمته، بل لا شكّ في جواز المواظبة على أساس التوصيات الطبّيّة على صحّة البدن، وطول العمر، ولزوم العلاج على المريض بكلّ الوسائل الممكنة، كما سبق.

وإنْ أراد أنّ الله سبحانه وتعالى أخبر بانّ كلّ إنسانٍ يموت، وهذا يكشف عن عدم إمكان دفع الموت، فكلّ محاولةٍ له تصبح فاشلةً لا محالة، فتحرم لكونها عبثاً وإسرافاً للمال، فممنوع أيضاً ؛ لأنّ الطبّ لا يدّعي - ولا يصحّ له أن يدّعي - دفع الموت عن الإنسان بنحوٍ مطلق، وأنّه لا يموت أصلاً، ضرورة أنّ للموت أسباباً، غير صحّة البدن ونشاط الخلايا، كالغرق والحرق والقتل وافتراس مفترس وغير ذلك، والله سبحانه قادر على إماتة الإنسان بكلّ هذه الأسباب.

والطبُ إنّما يدّعي دفع الموت عن طريقٍ واحدٍ وسببٍ فاردٍ، فلا تناقض بين الأخبار عن موت كلّ أحدٍ، وقدرة الطبّ على دفع الموت عن بعض الأفراد، وهي من قدرة الله وتقديره.

وفي الدِّين ما يؤيّد إمكان الطبّ على دفع الموت وتطويل العمر: بحفظ الخلايا، ودفع الأمراض، من بقاء عيسى بن مريمعليه‌السلام على أظهر الأقوال، بل وببقاء الخضرعليه‌السلام كما اشتهر، وببقاء وليّ العصر، وناموس الدهر، المهدي الموعود المنتظر - عجّل الله تعالى فرجه - على عقيدتنا الشيعيّة الإماميّة.

فإن قيل: إنّ القرآن يقول بأنّ لكلّ أُمّةٍ أجلٌ لا يستقدمون منه ساعة ولا يستأخرون(١) ، فأيّ أثر للطّب ؟

يُقال له: لا شكّ في صدق القرآن في

___________________

(١) الأعراف آية ٣٤، ويونس آية ٤٩.

١٣٧

إخباره، لكن من أين علمت أنّ أجل مَن ينتفع بالطبّ، ويستفيد من العلم الحديث ثمانون سنةً فقط لا ألف ومئة وثمانون سنة، أو أنّه مليون سنة.

والواقع أنّ كثيراً من مدّعي العلم، الذين ليسوا من الراسخين في المعارف الإسلاميّة، وجميع الملحدين المادّيّين، يتخيّلون إرادة الله تعالى وأفعاله في عرض الأسباب الطبيعيّة، فتحيّروا ضلالةً وجهالةً، بل ألحد المادّيّون بأنّ الأسباب المادّيّة تُغني عن الخالق المدبِّر المريد، ولو علموا أنّ إرادة الله وأفعاله في طول الأسباب المادّيّة، وأنّ الموجودات محتاجة إلى إفاضته تعالى في جميع شؤنها حدوثاً وبقاءً ؛ لم يضلّوا ولن يلحدوا، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أنّ هدانا الله.

نعم أجل كلّ إنسانٍ يُحدّد في ضمن الأسباب المادّيّة لا خارجها، وفهم ذلك ينفعك في مقامات كثيرة بإذن الله المنّان دائم الفضل.

وفي الأخير تخيّل متخيّل: أنّ دفع الموت يهدم تشريع الميراث الذي اهتمّ به الشارع، وهو خبط عشواء، فإنّ أحكام الإرث تترتّب على الموت وإنّما اهتمّ بها الشارع في فرض الموت، فإذا زال الموضوع أو تأخّر زالت الأحكام أو تأخّرت بتبعه، كما أنّ الأحكام المتعلّقة بالسفر والمسافر، من قصر الصلاة وإفطار صوم رمضان تزول بزواله.

وبالجملة: الأحكام لا توجب حفظ الموضوع بل تترتّب إذا تحقّق، وليكن هذا واضحاً.

ولنا أنْ نقول على سبيل النقض والجدل: إنّ الإيمان بالله وباليوم الآخر وبالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله واجب ومن أهمّ الواجبات، فيجب حفظ الحياة، وإطالة العمر، لحفظ الإيمان بالله تعالى وتحصيل مرضاته !

١٣٨

المسألة التاسعة عشرة

نهاية الحياة الإنسانيّة

( ١ )

نظر الشريعة الإسلاميّة

المفهوم من القرآن المجيد أنّ موت الإنسان - وهو نهاية الحياة الإنسانيّة - بأخذ روحه، وهو انقطاع اتّصال الروح وتدبيرها عن البدن انقطاعاً نهائيّاً غير مؤقّت.

قال الله تعالى:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا... ) (١) ، وقال:( قُلْ يَتَوَفَّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِي وُکِّلَ بِکُمْ ) (٢) ، وقال:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِکَةُ ) (٣) ... وقال:( كلّ نفسٍ ذائقة الموت ) (٤) ، وقال:( أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ) (٥) ، وقال:( إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ‌ ) (٦) ، وقال:( إذا بلغت التراقي ) (٧) - بناءً على رجوع الضمير المستتر في كلمة( بلغت ) إلى النفس أو الروح وقوله:( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى

___________________

(١) الزمر آية ٤٢.

(٢) السجدة آية ١١.

(٣) النحل آية ٣٢.

(٤) آل عمران ١٨٣ وغيرها.

(٥) الأنعام آية ٩٣.

(٦) الواقعة آية ٨٣.

(٧) القيامة آية ٢٦.

١٣٩

رَبِّکِ... ) (١) ، وغيرها من الآيات.

وليكن هذا واضحاً مسلّماً غير قابل للخلاف والنقاش في الشريعة الإسلاميّة(٢) …، لكن لحظة انقطاع الروح غير محسوسة ولا منصوصة، فهل لها علامة طبيّة وما هي ؟

هل هي سكون القلب عن النبض كما يقول به الأطبّاء القدامى ؟

أو موت جذع المخّ كما يعتقد به الأطبّاء الجدد ؟ أو كلاهما ؟

لا شكّ أنّ إدراك الكليّات والعواطف الإنسانيّة: كالإيثار، وحبّ العلم والكمال، وحب الله تعالى، وغيرها، من أبرز آثار الروح والنفس الإنسانيّة، بل وكذا الإحساس والحركة الإراديّة.

وربّما يتوهّم متوهّمٌ أنّ الحسّ والحركة الإراديّة من خواصّ النفس الحيوانيّة دون الإنسانيّة لثبوتهما في الحيوانات أيضاً، لكنّه توهُّمٌ خاطئ، فإنّهما وإن وُجدا في الحيوان والإنسان معاً، لكن ليس للإنسان نفسٌ حيوانيّة في قِبال النفس الإنسانيّة، ليستند إليها الحسّ والحركة، بل هما يستندان إلى النفس الإنسانيّة، ومن هنا جعل الاستهلال والحركة في المولود علامتين لحياته في الأحاديث(٣) .

كما لا شكّ في علم الطبّ، وعلم الجنين، وغيرهما، لحدّ الآن أنّ القلب - كاليد والرجل والأنف والكبد والكلية ونحوها - لا حسّ له ولا علم ولا إدراك، بل هو أجنبي عن العواطف الإنسانيّة أيضاً، وهي من آثار المخّ

___________________

(١) الفجر آية ٢٨.

(٢) والمتأمِّل المتدبِّر في هذه الآيات يفهم أنّ قوله تعالى:( ثمّ أنشأناه خلقاً آخر ) يُراد به ظاهراً إنشاء اتصال الروح بالجنين، وبه تبدأ الحياة الإنسانيّة. فافهم ذلك جيّداً.

(٣) ص٣٥٠ وص٣٥١ ج٢٤ جامع أحاديث الشيعة.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627