مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن6%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219058 / تحميل: 6013
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الإداريّة، والقدرة على التدبير والدراية ما للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يخلّفه في سياسة الاُمّة، وتسيير اُمورها الاجتماعيّة والفرديّة.

وربّما يتصوّر أنّنا نقسوا على الصحابة مع ما يكيل لهم الجمهور من تجليل واحترام كبيرين، غير أنّ من يرجع إلى القرآن الكريم، يجد بأنّنا لم نقس على أحد منهم، بل القرآن الكريم هو الذي يقسمهم إلى صنفين، فيمدح صنفاً ويذم صنفاً بصراحة كاملة.

فالصنف الأوّل الذين يمدحهم القرآن ويذكر عنهم بخير يشمل السابقين الأوّلين إلى الإسلام والتابعين لهم، حيث يقول عنهم :

١.( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة: ١٠٠ ).

٢.( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح: ١٨ ).

٣.( لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر: ٨ ).

٤.( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح: ٢٩ ).

__________________

(١) لا يخفى أنّ الرضاية الإلهيّة الواردة في الآية مقيّدة بظرفها ووقتها ( أي ظرف المبايعة ووقتها ) لقوله( إِذْ يُبَايِعُونَكَ ) ، فبقاء الرضاية يحتاج إلى دليل، كما أنّ ادّعاء نفيها يحتاج أيضاً إلى دليل.

٨١

غير أنّ هناك آيات جمّة ـ إلى جانب ذلك ـ تدلّ على عدم كون الصحابة كلّهم عدولاً، بل وممدوحين، إذ فيهم المنافق الذي يقلّب الاُمور على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم من مرد على النفاق ونبت عليه:( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة: ١٠١).

ومنهم من خلط عملاً صالحاً بعمل سيّئ:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) ( التوبة: ١٠٢ ).

وطائفة قد بلغ ضعف إيمانهم إلى حدّ الدنوّ إلى الارتداد والعودة إلى الجاهليّة:( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) ( آل عمران: ١٥٤ ).

وطائفة قد بلغ مبلغ إيمانهم بالله ورسوله أنّهم كلّما أعتورهم الخوف وداهمهم الخطر، لاذوا بالفرار، قال سبحانه عنهم:( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا *هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا *وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلّا غُرُورًا *وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إلّا فِرَارًا *وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إلّا يَسِيرًا *وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً *قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلاً *قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا *قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلّا قَلِيلاً *أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا *يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ

٨٢

يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إلّا قَلِيلاً ) ( الأحزاب: ١٠ ـ ٢٠ ).

وهذه الآيات، تشرح بصراحة ما عليه جماعة كثيرة من أصحاب النبيّ ولا تختصّ بالمنافقين، لقوله سبحانه:( إِذْ جَاءُوكُم مِن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) وقوله سبحانه:( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) عاطفاً لها على المنافقين فقال( وَالَّذِينَ ) ولم يقل ( الذين ).

نعم كانت في صحابة النبيّ ثلة جليلة بالغة منتهى الإيمان والعمل، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله:( ولـمّارَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا *مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) . ( الأحزاب: ٢٢ ـ ٢٣ ).

إجابةٌ عن سؤال

ولعل القائل يقول: بأنّهم كيف لم يبلغوا الدرجة الكاملة في أمر القيادة مع أنّهم، حطّموا امبراطوريتين كبيرتين، وبنوا فوق أنقاضها صرح الإسلام، أضف إلى ذلك، أنّه سبحانه وصفهم في سورة الفتح بقوله:( فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ ) ( الفتح: ٢٩ ).

فهو يدل على كفاءتهم في أمر القيادة والاعتماد على أنفسهم، حيث شبّههم بالزرع المستغلظ القائم على سوقه.

ولكن الإجابة على هذا السؤال سهلة بعد الوقوف على ما نذكره :

١. إنّ التسلّط على الامبراطوريّتين لم يكن نتيجة قوة القيادة وصحتها، بل كان لقوّة تعاليم الإسلام، أكبر سهم في نفوذهم وسيطرتهم عليهما، حيث كانت التعاليم بمجرّدها تسحر القلوب، وتجذب العقول وتفتح الطريق خاصّة بين تلك الشعوب التي طالما عاشت الضغط والحرمان، وعانت من الظلم والاضطهاد المرير.

٨٣

٢. إنّ التأريخ يشهد، بأنّ الامبراطوريتين كانتا تلفظا أنفاسهما الأخيرة، وكانتا قد بلغتا درجةً كبيرةً من الضعف، فساعد الإسلام على سقوطها واندحارها.

ويشهد على ذلك، أنّ الشعوب التي كانت تعيش تحت حكميهما كانت تسارع إلى استقبال الفتح الإسلامي وترحّب بحكم المسلمين ونظامهم، فتفتح أبواب المدن لعساكر الإسلام وتبدي رغبتها الشديدة في العيش تحت لواء الحكومة الإسلامية.

روى البلاذريّ: ( لـمّا ردّ المسلمون على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، قال أهل حمص لهم :

لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. و

ونهض اليهود وقالوا: والتوراة، لايدخل عامل هرقل مدينة حمص إلّا أن نغلب ونجهد. فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود.

وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه وإلاّ فإنّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد فلمّا هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدّوا الخراج )(١) .

٣. إنّ المراجع للتأريخ الإسلاميّ يجد أنّ أمير المؤمنين عليّاًعليه‌السلام كان له السهم الأوفر في القيادة، وتحقيق الانتصارات التي أصابها المسلمون بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويدلّ على تلك المساهمة الفعلية، ما قاله عليّعليه‌السلام عندما شاوره عمر بن الخطاب في الخروج بنفسه إلى غزو الروم: « إنّك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن

__________________

(١) فتوح البلدان للبلاذريّ: ١٤٣.

٨٤

تكن الاخرى كنت ردءاً للناس ومثابةً للمسلمين »(١) .

وبالرغم من أنّهعليه‌السلام قد اقصي عن الخلافة، ولم يكن يخطر بباله أنّ العرب تزعج هذا الأمر ـ من بعد النبيّ ـ عن أهله، فإّنه لم يمسك يده عن نصرة المسلمين، عندما لاحظ رجوع الناس عن الإسلام يريدون محق دين محمد، والعودة إلى الجاهلية وفي ذلك يكتب إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لـمّا ولاّه إمارتها ويقول: « حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه »(٢) .

٤. إنّ الفرق الكبير بين قيادتهم وقيادة من كان يجب أن يسلّم الأمر إليه إنّا يعلم، لو باشرت تلك الطائفة الاخرى أمر القيادة، فعند ذلك نعلم مدى صحة قيادة الطائفة الاولى.

وبما أنّ الأمر لم يسلّم إلى من كان يجب تسليم الأمر إليه. صارت قيادتهم عندنا قيادةً عاريةً عن الضعف والنقص.

والذي يدل على ذلك. أنّ القيادة بعد النبيّ جرّت على المسلمين أكبر المآسي والويلات، خصوصاً عندما أخذت بنو اميّة وبنو العباس زمام الأمر، وعادت الخلافة الإسلاميّة ملكاً عضوضاً وحكماً قيصرياً كسروياً.

وللبحث عن أحوال الصحابة ومواقفهم في القرآن الكريم، مجال آخر ربّما نتوفّق للبحث عنها في وقت آخر. ولا نريد بهذه الكلمة تعكير الصفو، أو تمزيق الوحدة، وإنّما نريد أن نوقف القارئ الكريم على الحقيقة على وجه الإجمال.

وخلاصة القول، أنّ الصحابة ليس كلّهم عدولاً يقتدى بهم ويستضاء بنورهم ،

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٣٠ ( طبعة عبده ).

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم (٦٢).

٨٥

بل هم على أقسام تحدّث عنها القرآن الكريم، ويقف عليها من استشفّ الحقيقة عن كثب، كما لم تبلغ الاُمّة إلى حد الإكتفاء الذاتي في القيادة، كما هو محط البحث.

ب ـ الاُمّة الإسلاميّة والخطر الثلاثيّ

من الواضح لكل مطلع على أوضاع الاُمّة الإسلاميّة قبيل وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الدولة الإسلاميّة الحديثة التأسيس كانت محاصرة من جهتي الشمال والغرب بأكبر إمبراطوريّتين عرفهما تأريخ تلك الفترة، إمبراطوريّتان كانتا على جانب كبير من القوة والبأس والقدرة العسكرية المتفوّقة مما لم يتوصّل المسلمون إلى أقل درجة منها وتلك الامبراطوريّتان هما: الروم، وإيران.

هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل، فقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من جماعة المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدوّ الداخلي المبطّن ( أو ما يسمى بالطابور الخامس ).

ولأجل أن نعرف مدى الخطر المتوجّه من هذه الجهات الثلاث على الاُمّة والدولة الإسلاميّة يجدر بنا أن ندرس كلّ واحدة منها بالتفصيل :

١. خطر إمبراطوريّة إيران

لقد كانت إيران إمبراطوريّةً ضخمةً، ذات حضارة متقدمة زاهرة، وذات سلطان عريض فرضته على عدد كبير من المستعمرات أحقاباً مديدةً من السنين، ممّا أكسبت ملوكها وزعماءها روح التسلّط والسيطرة، وأصبح من العسير أن يعترفوا بسيادة أمّة طالما كانت تعيش تحت سلطانهم في العراق واليمن، وهم الذين لم يعترفوا بالسيادة لأحد قروناً طويلةً، فلأجل هذه الغطرسة والأنانية شمخ الامبراطور الفارسيّ (خسرو برويز ) بأنفه عندما أتته دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فمزّق رسالته المباركة التي كتبهاصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعوه فيها إلى الإسلام وعبادة الله تعالى وكتب إلى عامله باليمن :

٨٦

( ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز [ ويعني الرسول ] رجلين من عندك جلدين فليأتياني به )(١) .

٢. خطر الروم

كانت الامبراطوريّة البيزنطيّة تقع في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغل بال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله دائماً، ولم يبارحه التفكير في خطرها حتى رحل إلى ربّه.

ولقد كان لهذا القلق مبرّره، فإنّ هذه الامبراطورية على غرار الامبراطوريّة الإيرانية، كانت ذات صفة توسّعيّة، وكان قادتها يقمعون أي حركة ومحاولة من مستعمراتهم للخروج من فلكها.

ولقد وقعت بين هذه الامبراطوريّة وبين المسلمين اشتباكات عديدةً. وكان أوّل اشتباك مسلّح وأوّل صدام عسكريّ عنيف هو الذي وقع في السنة الثامنة من الهجرة، وذلك عندما بعث النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ( الحارث بن عمير الأزدي ) مع رسالة إلى ( الحارث بن أبي شمر الغساني ) يدعوه فيها وقومه إلى الإسلام، فلمّا وصل إلى ( مؤتة ) تعرّض له ( شرحبيل بن عمرو الغساني )، وضرب عنقه(٢) .

ولمّا كان قتل الرسل أمراً ممنوعاً في جميع الحالات والظروف، وكان يعني أعتداءً على الجهة المرسلة، فإنّ هذا الفعل ( اعني قتل رسول النبيّ ) كشف عن استهانتهم بقوة الإسلام وأمره، وعن تعصبهم ضدّه، وعدم اعترافهم بكيانه السياسيّ، وقد حملت هذه الاُمور النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله على، أن يجهّز لهم جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل، ويوجّهه إلى ( مؤتة ) وقد قتل في هذه الموقعة من اختارهم لقيادة الجيش وهم جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وأخذ اللواء بعدهم خالد بن الوليد، ورجع الجيش الإسلاميّ من تلك الواقعة منهزماً أمام الجيش البيزنطيّ.

__________________

(١) الكامل للجزري ٢: ١٤٥.

(٢) اُسد الغابة ١: ٣٤١ ـ ٣٤٢.

٨٧

ولقد أثار إخفاق المسلمين وهزيمتهم في هذه المعركة، واستشهاد القادة الثلاثة، لوعةً ونقمةً في نفوس المسلمين اتّجاه الروم. كما أنّه زاد من جرأة جيوش الروم، ولأجل ذلك توجّه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبوك في السنة التاسعة يقصد غزو ذلك الجيش المعادي، ولكنّه لم يلق أحداً فأقام في تبوك أياماً، وصالح أهلها على الجزية، وقد حققت هذه الحملة هدفاً كبيراً وبعيداً على الصعيد السياسيّ وأنست تقهقر الجيش الإسلاميّ المحدود في طاقاته، أمام جحافل الروم المجهّزة بأحسن تجهيز(١) .

ولم يكتف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الحملة، بل عمد في أخريات حياته إلى بناء جيش إسلاميّ بقيادة ( أسامة بن زيد ) لمواجهة جيش الروم(٢) .

٣. خطر المنافقين

إنّ الدارس للمجتمع الإسلاميّ إبّان الدعوة الإسلاميّة، والمطّلع على تركيبته يجد، أنّ ذلك المجتمع كان يزخر بوجود المنافقين بين صفوفه.

والمنافقون هم الذين استسلموا للمدّ الإسلاميّ وأسلموا بألسنتهم دون قلوبهم إمّا خوفاً أو طمعاً. فكانوا يتجاهرون بالولاء للإسلام والمودّة للمسلمين، ولكنّهم يضمرون لهم كل سوء ويتحيّنون الفرص، لتوجيه الضربات إلى الدين الجديد، وضرب المسلمين بعضهم ببعض، وإضعاف الدولة الإسلاميّة من الداخل بإثارة الفتن، بين أفرادها وأبنائها، والسعي لتمزيق صفوفهم وإشعال الحروب الداخليّة فيما بينهم بإيقاظ النخوة الجاهليّة التي طهّر الإسلام أرض الجزيرة منها.

وربّما كانوا يتربّصون بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الدوائر، حتّى أنّهم كادوا له ذات مرّة، وأرادوا أن يجفلوا به بعيره في العقبة عند عودته من حجة الوداع، وربّما اتّفقوا مع اليهود والمشركين لتوجيه الضربات إلى الكيان الإسلاميّ من الداخل تخلّصاً من هذا الدين الذي هدّد

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٥١٥ ـ ٥٢٩.

(٢) الملل والنحل ١: ٢٩ ( طبعة القاهرة )، الطبقات الكبرى ٤: ٦٥، الكامل في التاريخ ٢: ٢١٥.

٨٨

مصالحهم.

ولقد كان المنافقون ولايزالون أشدّ خطراً من أي شيء آخر على الإسلام وذلك، لأنّهم كانوا يوجّهون ضرباتهم بصورة ماكرة وخفية، وبنحو يخفى على العاديين من الناس(١) .

وإليك طرفاً ممّا ذكره القرآن الكريم حولهم، فهم متآمرون يبيّتون خلاف ما يظهرونه ويبدونه أما م النبيّ إذ يقول:( وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ) ( النساء: ٨١ ).

وهم يريدون الشر للمسلمين دائماً، ولذلك يذيعون الشائعات التي من شأنها إضعاف معنويات المسلمين إذ يقول عنهم:( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ) ( النساء: ٨٣ ).

وهم يريدون الفتنة دائماً، لذلك يقلبون الوقائع ويخفون الحقائق كما يقول القرآن:( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة: ٤٨ ).

وهم لا يرتدعون عن أي عمل يحقّق مصالحهم وأغراضهم المضادّة للإسلام، حتّى ولو كان بالتحالف مع المشركين والكفار، بل حتّى ولو كان باعطاء الوعود الكاذبة لهم، والتغرير بهم وخذلانهم عند اللقاء، وعدم الوفاء بالوعد:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) ( الحشر: ١١ ـ ١٢ ).

__________________

(١) لقد تصدّى القرآن الكريم، لفضح المنافقين والتشهير بجماعتهم، وخططهم، الجهنّمية ضدّ الدين والنبيّ والاُمّة في أكثر السور القرآنيّة، مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب ومحمّد والفتح والمجادلة والحديد والحشر، كما نزلت في حقّهم سورة خاصّة تسمّى بسورة المنافقين.

٨٩

ولذلك، شدّد القرآن الكريم في ذكر عذابهم أكثر من أي جماعة اخرى إذ يقول:( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ( النساء: ١٤٥ ).

ويحدثنا التأريخ كيف لعب المنافقون دوراً خبيثاً، وخطيراً في تعكير الصفو وإفساح المجال أمام أعداء الإسلام الأجانب ـ سواء قبل قوة الإسلام وبعدها ـ للمكر بالإسلام والكيد له، والمؤامرة عليه، بحيث لولا وجود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأتوا على ذلك الدين، ولقضوا على كيانه وأطاحوا بصرحه، وأطفأوا نوره.

وقد كان من المحتمل ـ بقوة ـ أن يتّحد هذا الثلاثي الخطر ( الفرس والروم والمنافقون ) لاكتساح الإسلام واجتثاث جذوره، وخاصّة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وغياب شخصه عن الساحة.

وكان من المحتمل جداً، أن يتفق هذا الثلاثي ـ الناقم على الإسلام ـ على محو الدين، وهدم كلّ ما بناه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله طوال ثلاثة وعشرين عاماً من الجهود والمتاعب، وتضييع كلّ ما قدّمه المسلمون من تضحيات في سبيل إقامته.

ج ـ العشائريّات تمنع من الاتّفاق على قائد

لقد كان من أبرز ما يتميّز به المجتمع العربيّ قبل الإسلام، هو النظام القبلي، والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتلّ ـ في ذلك المجتمع ـ مكانةً كبرى، وتتمتّع بأهمّية عظيمة.

فلقد كان شعب الجزيرة العربية، غارقاً في هذا النظام الذي كان سائداً في كلّ أنحائها.

صحيح أنّ جميع القبائل العربية ـ آنذاك ـ كانت ترجع ـ في الأصل ـ إلى قبيلتي، القحطانيين ( وهم اليمنيّون ) والعدنانيين ( وهم الحجازيّون )، إلّا أنّ هذا التقسيم الثنائيّ قد تحوّل بمرور الزمن، إلى تقسيمات كثيرة وعديدة، حتّى أصبح من العسير، إحصاء القبائل العربيّة وأفخاذها وفروعها وبطونها.

٩٠

فمن يراجع الكتب التالية: ( بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ) تأليف السيد محمود شكري الآلوسي، و ( المفصّل في تأريخ العرب ) تأليف علي جواد، الجزء (٤) الفصل (٤٦)، و ( معجم قبائل العرب القديمة والحديثة ) تأليف عمر رضا كحالة الجزء (٣). من يراجع هذه المؤلفات التي تشرح النظام القبليّ وأبعاده في المجتمع العربيّ قبل الإسلام، يعرف ـ معرفةً كاملةً ـ مدى تغلغل وتوسّع النمط القبليّ عند العرب، ومدى تأثير القبيلة وعدد بطونها وأفخاذها وفروعها، تلك القبائل والأفخاذ والبطون التي كانت تبدأ أسماؤها ـ في الغالب ـ بلفظة ( آل ) مثل، آل النعمان وآل جفنة، أو لفظة ( بنو)، كبني أشجع وبني بكر وبني تغلب، أو كان يطلق على جميع أبنائها اسم الجدّ الأعلى للقبيلة مثل، غطفان وخزاعة ( وهما ـ في الحقيقة ـ اسمان للجدود ولكنّهما اطلقا على القبيلة ).

ولقد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربية ـ قبل الإسلام ـ وعلى أساسها كانت تدور المفاخرات وتنشد القصائد، وتبنى الأمجاد، كما كانت هي، منشأ أكثر الحروب وأغلب المنازعات التي ربّما كانت تستمرّ قرناً أو قرنين من الزمان، كما حدث بين الأوس والخزرج، أكبر قبيلتين عربيّتين في يثرب ( المدينة )، وكلّفهم آلاف القتلى قبل دخول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة.

كما أنّ التأريخ يشهد لنا، كيف كاد التنازع القبليّ في قضية بناء الكعبة الشريفة ووضع الحجر الأسود في موضعه أيام الجاهلية، أن يؤدي إلى الاختلاف فالصراع الدموي، والاقتتال المرير، لولا تدخّل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي حسم الأمر بطريقة أرضت جميع القبائل المتنافسة، وأطفأت نار الفتنة التي كادت أن تأكل كلّ أخضر ويابس(١) .

ونظراً لما كان يتمتع به رؤساء هذه القبائل من نفوذ، وكانت تلك الجماعات تملك من قوّة ورابطة ـ في ذات الوقت ـ فقد سعى الرسول الأكرم ـ وبحكمة كبرى ـ أن

__________________

(١) راجع السيرة النبويّة لابن هشام ١: ١٩٦ تحت عنوان اختلاف قريش فيمن يضع الحجر ولعقة دم، ومروج الذهب ٢: ٢٧٨ تحت عنوان بناء قريش الكعبة واختلافهم في وضع الحجر الأسود وحكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم.

٩١

يستفيد من قدرة تلك القبائل ونفوذ رؤسائها، في إنجاح الدعوة الإسلامية وتقوية أركانها، والتغلّب على أعدائها من الكفّار والمشركين وغيرهم من المعارضين.

إلاّ أنّ هذا النظام ( القبلي ) لما كان ينطوي عليه ـ في نفس الوقت ـ من سيئات جسيمة، وتبعات لا يمكن التغاضي عنها، ومنافاتها مع ما ينشده الإسلام ويدعو اليه من الوحدة والاتّحاد بين جميع أفراد المسلمين، فقد سعى الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في محو الروح القبلية، وتذويب الفوارق العشائرية. وصهر تلك التجمّعات المتشتّتة المتباينة في بوتقة الإيمان الموحّد، والصف الإسلامي الواحد، ولكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله رغم ما أوجده في ضوء التعاليم الإسلامية من تحوّلات عظيمة في حياة العرب، إلّا أنّ أكثر هذه التحوّلات كانت تتعلّق بقضايا العقيدة، والمسائل الأخلاقية والروابط الاجتماعية ولم يكن من الممكن أن ينقلب شكل النظام القبليّ العربيّ في خلال ( ٢٣ عاماً ) ويتبدل كليةً. ويدلّ على ذلك، وجود بقايا من هذا النظام في القسم الأكبر من شبه الجزيرة العربية مثل اليمن ونجد والحجاز و و.

إنّ اُصول هذه العشائر ـ في ابّان العهد الإسلاميّ ـ وإن كانت عبارةً عن حمير وكهلان وقضاعة ومضر وربيعة، إلّا أنّ هذه القبائل الأساسية تفرّعت وتشعّبت باستمرار، إلى قبائل وأفخاذ وفروع، وكان لكل قبيلة وفخذ منها شيخ ورئيس يرأس الجماعة وتكون له الكلمة والقيادة وتعطي له الإحترام والطاعة.

وقد كانت النفسيات والأخلاق العشائرية، المتوغّلة في نفوسهم بحيث لم تنعدم انعداماً كلياً، رغم ما تلقاه اُولئك من التعاليم الإسلاميّة والتربية القرآنية، ولذلك كانت تظهر بين الفينة والاخرى، وينشأ بسببها النزاع ويكاد يتوسّع لولا حكمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وتدبيره.

فقد ذكر ابن هشام، حادثةً عند عودة النبيّ والمسلمين من غزو بني المصطلق، بدأت من قضية صغيرة وكادت أن تتطوّر إلى نزاع قبليّ واسع لولا تصرّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال: ( بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عائداً من غزو بني المصطلق وقد نزل عند ماء، وردت

٩٢

واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنيّ حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنيّ: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين(١) ، فغضب عبد الله بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش [ أي من أسلم من المهاجرين ] إلّا كما قال الأوّل: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك عند فراغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عدوّه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه ؟ لا، ولكن أذّن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرتحل فيها فارتحل الناس(٢) .

كما أنّ هناك حادثةً اخرى تدلّ على أنّ مادة الاختلاف كانت كامنةً في أعماقهم، وكانت مستعدةً للإنفجار في كلّ لحظة، وبأقل تحريك، وإيقاد للعصبيات والرواسب القبليّة الجاهليّة.

فها هو ابن هشام ينقل: أنّ شأس بن قيس وكان شيخاً من اليهود قد أسنّ، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، مرّ ذات يوم على نفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه، فغاضه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من

__________________

(١) قال السهيليّ: ( لـمّا سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الكلمات قال: « دعوها فإنّها دعوة منتنة » يعني أنّها كلمة خبيثة لأنّها من دعوى الجاهليّة، وجعل الله المؤمنين إخوةً وحزباً واحداً، فإنّما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين ).

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٩٣

العداوة في الجاهلية. فقال: قد اجتمع ملأُ بني قيلة بهذه البلاد لا والله مالنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار، فأمر فتىً شابّاً من يهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثمّ اذكر يوم بعاث وما كان قبله، وانشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار.

وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهليّ، أبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمرو النعمان البياضيّ، فقتلا جميعاً

قال ابن هشام: قال أبو قيس بن الأسلت :

على أن قد فجعت بذي حفاظ

فعاودني له حزن رصين

فأما تقتلوه فإنّ عمراً

أعض برأسه عضب سنين

وهذان البيتان في قصيدة له، وحديث يوم بعاث أطول ممّا ذكرت.

قال ابن هشام: ففعل [ ذلك الشاب ما أراده شأس ] فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتّى تواثب رجلان من الحييّن على الركب، أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس، وجبّار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا ثمّ قال أحدهما لصاحبه، إن شئتم رددناها الآن جذعة [ أي رددنا الآخر إلى أوّله وأعدنا الاقتتال والتنازع ] فغضب الفريقان جميعاً وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة [ أي الحرّة ] السلاح السلاح فخرجوا إليها فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتّى جاءهم، فقال: « يا معشر المسلمين، الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بين قلوبكم » فعرف القوم أنّها نزعة [ أي إفساد بين الناس ] من الشيطان وكيد من عدوّهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثمّ انصرفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّ الله شأس بن قيس، فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وما صنع:( قُلْ يَا أَهْلَ

٩٤

الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ *قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( العمران: ٩٨ ـ ٩٩ ).

وأنزل الله في أوس بن قيظيّ وجبّار بن صخر ومن كان معهما من قومهما، الذين صنعوا ما صنعوا عمّا أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ *وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * إلى أخر قوله تعالى ـوَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران: ١٠٠ ـ ١٠٥ )(١) .

وممّا يدلّ أيضاً على وجود رواسب الخلاف عند قبيلتي الأوس والخزرج حتّى بعد دخولهم في الإسلام، وانضوائهم تحت لوائه في صف واحد، ما نقله الشيخ البخاري في صحيحه، في قصّة الإفك قال، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو على المنبر: « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلّا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلّا خيراً، وما يدخل على أهلي إلّا معي ».

قالت عائشة: فقام سعد بن معاذ(٢) أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.

قالت: فقام رجل من الخزرج وهوسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمرو الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عمّ سعد [ بن معاذ ]، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمرو الله لنقتلنّه، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ١: ٥٥٥ ـ ٥٥٧.

(٢) فيه تأمل، فإنّ سعداً توفّي قبل غزو بني المصطلق.

٩٥

قالت عائشة: فصار الحيّان ( الأوس والخزرج ) حتّى همّوا أن يقتتلوا، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قائم على المنبر.

قالت: فلم يزل رسول الله يخفّضهم ( أي يهدّئهم )حتّى سكتوا وسكت(١) .

فكيف كان يجوز ـ والحال هذه ـ أن يترك الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمّته المفطورة على العصبيّات القبليّة، وعلى الاستئثار بالسلطة والزعامة وحرصها على النفس، ورفض سلطة الآخر ؟

فهل كان يجوز للنبيّ أن يترك تعيين مصير الخلافة لتقوم به أمّة هذه حالها، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ؟

وهل كان من المحتمل أن تتفق كلمة الاُمّة جمعاء على واحد ولا تخضع للرواسب القبليّة ولا تبرز إلى الوجود مرّة اخرى ما مضى من الصراعات والتطلّعات العشائرية، وما يتبع ذلك من حزازات ؟

أم هل يصلح لقائد يهتمّ ببقاء دينه واُمّته أن يترك أكبر الاُمور وأعظمها، وأشدّها دخالةً في حفظ الدين، إلى أمّة نشأت على الاختلاف، وتربّت على الفرقة، مع أنّه كان يرى الاختلاف منهم في حياته أحياناً أيضاً كما عرفت ؟

إنّ التأريخ يدلّ على أنّ هذا الأمر قد وقع فعلاً بعد وفاة النبيّ ـ في السقيفة التي سيأتي ذكرها مفصّلاً ـ حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح نفسها للزعامة، منتحلةً لنفسها حججاً وأعذاراً وطالبةً ما تريد بكلّ ثمن حتّى بتجاهل المبادئ وتناسي التعاليم الإسلاميّة، والوصايا النبويّة.

فقد ذكر ابن هشام تحت عنوان « أمر سقيفة بني ساعدة، تفرّق الكلمة » نقلاً عن عمر بن الخطاب، ما يدلّ على اختلاف الكلمة وعدم الاتفاق على أحد :

قال عمر: لـمّا جلسنا ( أي في سقيفة بني ساعدة ) قام واحد من الأنصار فأثنى

__________________

(١) صحيح البخاري ٥: ١١٩ باب غزو بني المصطلق.

٩٦

على الله بما هو أهله ثمّ قال :

( أمّا بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا، وقد دفّت دافّة من قومكم ( أي جاء جماعة ببطء ) وإذا هم يريدون أن يحتازونا ( أي يدفعوننا ) من أصلنا، ويغصبونا الأمر ).

... فقام أبو بكر وقال :

( أمّا ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر ( أي الزعامة ) إلّا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم ) وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجّراح :

ثمّ قام وقال قائل من الأنصار ( أنا جذيلها المحكّك، وعذيلها المرجّب، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ).

قال عمر بن الخطاب: ( فكثر اللغط ( أي اختلاف الأصوات ودخول بعضها على بعض )، وارتفعت الأصوات حتّى تخوّفت الاختلاف )(١) .

ولم يقتصر اختلاف الاُمّة على هذا الذي ذكرناه، بل ظهرت مظاهر التشتت القبليّ حتّى بعد ما جرى في السقيفة من بيعة من فيها لأبي بكر، حيث راح المهاجرون والأنصار يتهاجون فيما بينهم، وجرت بينهم مشادات كلاميّة وشعريّة هجائيّة، هاجم فيها كلّ فريق الفريق الآخر بأشدّ أنواع الهجاء نقلها المؤرّخون ونذكر منها شيئاً :

فقد جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد نقلاً عن كتاب الموفّقيّات: لـمّا بويع أبو بكر وراح أبو سفيان بن حرب يدّعي الفضل لقريش ويذكر اُموراً في هذا المجال، قال حسّان بن ثابت :

تنادى سهيل وابن حرب وحارث

وعكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل

قتلنا أباه وانتزعنا سلاحه

فأصبح بالبطحا أذلّ من النعل

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٦٥٩ ـ ٦٦٠.

٩٧

فأمّا سهيل فاحتواه ابن دخشم

أسيراً ذليلاً لا يمرّ ولا يحلي

وصخر بن حرب قد قتلنا رجاله

غداة لوا بدر فمرجله يغلي

اولئك رهط من قريش تبايعوا

على خطّة ليست من الخطط الفضل

وأعجب منهم قابلوا ذاك منهم

كأنّا اشتملنا من قريش على ذحل

وكلّهم ثان عن الحقّ عطفه

يقول اقتلوا الأنصار بئس من فعل

نصرنا وآوينا النبيّ ولم نخف

صروف الليالي والبلاء على رجل

بذلنا لهم أنصاف مال أكفّنا

كقسمة أيسار الجزور من الفضل

ونحمي ذمار الحيّ فهو بن مالك

ونوقد نار الحرب بالحطب الجزل

فكان جزاء الفضل منّا عليهم

جهالتهم حمقاً وما ذاك بالعدل

فبلغ شعر حسّان قريشاً، فغضبوا وأمروا أبي عزّة شاعرهم أن يجيبه، فقال :

معشر الأنصار خافوا ربّكم

واستحيروا الله من شّر الفتن

إنّني أرهب حرباً لاقحاً

يشرق المرضع فيها باللبن

جرّها سعد وسعد فتنة

ليت سعد بن عبّاد لم يكن

خلف برهوت خفيّاً شخصه

بين بصرى ذي رعين وجدن

ليس ما قدّر سعد كائناً

ما جرى البحر وما دام حضن

ليس بالقاطع منّا شعرةً

كيف يرجى خير أمر لم يحن

ليس بالمدرك منها أبداً

غير أضغاث أماني الوسن

واتّفق أن اجتمع الأنصار والمهاجرين في مجلس، فأفاضوا الحديث عن يوم السقيفة، فقال عمرو بن العاص: والله لقد دفع الله عنّا من الأنصار عظيمةً، ولما دفع الله عنهم أعظم، كادوا والله أن يحلّوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه، ويخرجوا منه من أدخلوا فيه ؟ ولقد قاتلونا أمس فغلبونا، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة، فلم يجبه أحد وانصرف إلى منزله وقد ظفر فقال :

٩٨

ألا قل لأوس إذا جئتها

وقل إذا ما جئت للخزرج

تمنّيتم الملك في يثرب

فأنزلت القدر لم تنضج

إلى آخر الأبيات.

فلمّا بلغ الأنصار مقالته وشعره، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن العجلان فقال لعمرو وهو في جماعة من قريش: ( والله يا عمرو ما كرهتم من حربنا إلّا ما كرهنا من حربكم، وما كان اللّه ليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه، إن كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « الأئمّة من قريش » فقد قال: « لو سلك النّاس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار » فأمّا المهاجرون والأنصار فلا فرق بينهم، ولكنّك وترت بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة، لقتل جعفر وأصحابه، ووترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد ).

ثمّ أنشد أبياتاً يمتدح فيها قومه الأنصار ويهجو المهاجرين.

فلمّا انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش غضب كثير منهم.

وقد طالت المماحكات والمشاجرات الكلاميّة وطال التهاجي الحاد بين الصحابة حتّى قال أحدهم :

أيال قريش أصلحوا ذات بيننا

وبينكم قد طال حبل التماحك

فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا

ولا خير فينا بعد فهر بن مالك

فلا تذكروا ما كان منّا ومنكم

ففي ذكر ما قد كان مشيُ التساوك(١)

إنّ ما نقلناه لك هنا، هو غيض من فيض ممّا جرى بين صحابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من المنازعات والاختلافات في مسألة القيادة، فهل كان يجوز ترك مثل هذا المجتمع غير المتّفق في تطلعاته وآرائه دون نصب قائد يكون نصبه قاطعاً لدابر الاختلاف ومانعاً من مأساة التمزّق والتقاطع والفرقة ؟.

* * *

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦: ١٧ ـ ٣٨ ( طبعة مصر ).

٩٩

تلك محاسبات عقليّة واجتماعيّة من واقع المجتمع الإسلاميّ الأوّل، تدلّنا على أنّ الحقّ في مسألة القيادة في المجتمع الإسلاميّ بعد وفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو أن يستخلفصلى‌الله‌عليه‌وآله ( قائداً ) للاُمّة، وراعياً لمصالحها وشؤونها، لما في نفس التنصيب من مصلحة وقطع دابر الاختلاف.

فمثل هذه المحاسبات، تمنع القائد الحكيم أن يترك الاُمّة من بعده من دون أن يعيّن لها قيادةً تحافظ على الكيان الإسلاميّ الناشيء من الأخطار المحدقة به، وتقود الاُمّة الإسلاميّة الفتية في الطريق الشائك إلى الهدف المرسوم لها، والغاية المطلوبة.

إنّ القائد الحكيم، والرئيس المحنّك هو من يعتبر بالأوضاع الاجتماعيّة لاُمّتة والظروف المحيطة بها، ويأخذ بنظر الاعتبار ما يمكن أنّ يحدث لها جرّاء غيبته ووفاته، ثمّ يرسم على ضوء تلك الظروف والأحوال، والتوقّعات والمحاسبات ما يراه صالحاً للاُمّة ولمستقبلها، وأهم تلك الاُمور هو تعيين القائد لها، والمدير لشؤونها من بعده.

إنّ أوضاع المسلمين آنذاك، والظروف الحرجة المحيطة بهم، كانت تقتضي أن لا يدع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الاُمّة الحديثة العهد بالإسلام وتلك الدولة الفتية الجديدة البنيان، لآراء الاُمّة وإرادتها لتختار هي بنفسها قائدها ورئيسها، وهي في خضمّ تلك الأخطار، والظروف الحسّاسة البالغة الخطورة، إذ ربمّا كانت تبتلي ـ في ذلك الأمر ـ بالخلاف الذريع، والفرقة الكبيرة، فتسهل للخصم سبيل السيطرة عليها وتمكّنه من مؤامراته ونواياه.

إنّ عدم بلوغ الاُمّة الإسلاميّة حدّ الاكتفاء الذاتيّ في القيادة والادارة، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأخطار التي كانت تحدق بها، والرواسب القبليّة الجاهليّة، وعدم قدرتها على التغلّب على كلّ ذلك لوحدها، كانت توجب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بحكم العقل السليم، أن ينصّب للاُمّة قائداً يدبّر شؤونها ويجمع شتاتها ويحافظ على وحدتها، ويقود سفينتها إلى شاطيء الأمن والدعة والسلام.

١٠٠

ماذا يُراد من الخلافة عن رسول الله ؟

إنّ الإمامة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والخلافة عنه تتصوّر بمعنيين :

الأوّل: أنّها إمرة إلهيّة واستمراراً لوظائف النبوّة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهيّ، وهذا ما تعتقده الشيعة الإماميّة في الإمامة والخلافة، ويشترط فيه كلّ ما يشترط في النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا ما استثني.

الثاني: أن تكون رئاسةً دينيّةً لتنظيم اُمور الاُمّة، من تدبير الجيوش وسدّ الثغور وردع الظالم والأخذ للمظلوم وإقامة الحدود وقسم الفيء بين المسلمين وقيادتهم في حجّهم وغزوهم(١) . وهذا ما يعتقده اخواننا أهل السنّة في الخلافة، ولأجل ذلك لا يشترط فيها نبوغ في العلم زائداً على علم الرعيّة، بل هو والاُمّة في علم الشريعة سيّان، كما لا يشترط سائر الصفات سوى القدرة على التدبير.

فلو كانت الخلافة بالمعنى الثاني الذي اختاره إخواننا أهل السّنّة، فيكفي في لزوم نصب الإمام ما مرّ في البحث السابق.

وأمّا إذا قلنا بما اختاره الشيعة الإماميّة، فيجب أن يكون الإمام ذات صفات وملكات يملأُ بها كلّ الفراغات الحاصلة بوفاة النبيّ، والإمام بهذه الخصائص يحتاج إلى تربية إلهيّة كما في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يعرف تلك الشخصيّة مع ما تتصف به من الصفات إلّا الله سبحانه، فيجب أن يعرّفها إلى الاُمّة وإلاّ جهلها الناسن ويلزم نقض الغرض.

ولأجل الاختلاف في معنى الإمامة، عقدنا هذا البحث وفصلناه عن البحث السابق.

__________________

(١) وقد أجمل الماورديّ مسؤوليّات الإمام في عشرة، لاحظ الأحكام السلطانيّة: ١٥ ـ ١٦.

١٠١

الطريق الثاني

٢

وفاة النبيّ والفراغات الهائلة

١. الفراغ في بيان الحلول التشريعية للمشكلات الجديدة.

٢. الفراغ في تفسير القرآن الكريم وشرح مقاصده.

٣. الفراغ في مواصلة تكميل الاُمّة روحياً ونفسياً.

٤. الفراغ في مجال الردّ على الأسئلة والشبهات.

٥. الفراغ في صيانة الدين من محاولات التحريف.

دراسة الفراغات لماذا ؟

إنّ دراسة الفراغات الهائلة المذكورة والحاصلة بوفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والوقوف على كيفيّة سدّها بعده، تعيننا على معرفة لون الحكومة الإسلاميّة ـ بعده ـ.

وعلى القارئ، أن يتأمّل في هذه النقاط الحساسة، بتجرّد وموضوعية، حتّى يقف على ضالّته المنشودة.

لا شكّ أنّ وجود النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يملأُ فراغاً كبيراً وعظيماً في حياة الاُمّة الإسلاميّة.

فالرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تقتصر مسؤوليّاته وأعماله على تلقيّ الوحي الإلهيّ وتبليغ الرسالة الإلهيّة إلى الناس، بل كانت تتجاوز ذلك بكثير.

١٠٢

فقد كان النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم ب‍ :

١. بيان الأحكام الإسلاميّة من كليات وجزئيات.

٢. تفسير الكتاب العزيز وشرح مقاصده وبيان أهدافه، وكشف رموزه وأسراره.

٣. دفع اُمّته ـ بحسن قيادته ودرايته ـ في طريق الكمال والرّقيّ والتقدّم. وتربية المسلمين، وتهذيبهم وتزكيتهم وتخليص نفوسهم من شوائب الشرك والكفر والجاهلية، وإعداد المسلم القرآني الكامل.

٤. الردّ على الشبهات والتشكيكات التي كان يلقيها أعداء الإسلام، ويوجّهونها ضد الدعوة الإسلاميّة.

٥. صون الدين الإسلاميّ والرسالة الإلهيّة من أيّة محاولة تحريفية ومن أي دس في التعاليم المقدّسة.

وقد كانت كلّ هذه الاُمور تعتمد بالإضافة إلى ( الوحي ) إلى قدرات نفسيّة عالية، وقابليات فكريّة هائلة، ومعنويّات خاصّة تؤهّل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله للقيام بكلّ تلك المهام الجسيمة، والاضطلاع بجميع تلك المسؤوليات الكبرى.

ولا ريب أنّ من كان يقوم بمثل هذه المسؤوليات، يعتبر فقده وغيابه من الساحة ملازماً لحدوث فراغ هائل في الحياة الاجتماعيّة، وثغرة كبرى في القيادة لا يسدّها إلّا من يقوم مقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في القدرة القياديّة، والإداريّة، ويتمتّع بكلّ تلك الكفاءات الذاتيّة، ويتحلّى بجميع تلك الصفات النفسية العليا، والمؤهّلات الفكريّة والعلميّة والسياسيّة، ما عدا خصيصة النبوّة وتلقّي الوحي.

ولمّا كانت هذه الكفاءات النفسيّة والمؤهّلات المعنويّة من الاُمور الباطنيّة الخفيّة التي لا يمكن الوقوف عليها ومعرفتها إلّا بتعريف من الله تعالى وتعيينه وتشخيصه.

كما أنّها لـمّا كانت لا تحصل للشخص بطريق عاديّ وبالتربية البشريّة المتعارفة بل لابدّ من اعداد إلهيّ خاص، وتربية إلهيّة خاصّة، ينطرح هذا السؤال :

١٠٣

هل كان يمكن للاُمّة أن تتعرفّ بنفسها على هذا الشخص وتكتشف من تتوفر فيه تلك المؤهّلات والكفاءات الخفيّة بالطرق العاديّة ؟ أو كان يحتاج ذلك إلى تشخيص الله تعالى، وتعيينه وتنصيبه ؟.

ولو قلت: إنّ رحيل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يوجد فراغاً في الرسالة واستمرار الوحي فكيف يمكن سد هذا الفراغ ؟ أو هل يمكن ملؤه أيضاً ؟.

قلنا: إنّ خصيصة الخاتميّة التي أخبر عنها القرآن الكريم، واتّصفت بها النبوّة المحمّديّة، تخبر عن عدم حصول مثل هذا الفراغ، وعدم احتياج الاُمّة إلى تتابع الرسالات واستمرار الوحي، والاتصال السماويّ بالأرض، لأنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله جاء بأكمل الشرائع وأتمّها، وأوفاها بحاجات البشريّة.

وبعبارة اخرى، إنّ الرسول الخاتم قد أتى بكلّ ما تحتاج إليه البشريّة من تشريعات للحاجات الفعليّة، ومن اُصول للتشريعات اللازمة للحاجات المستجدّة فلا توجد وفاة الرسول فراغاً في ذلك الجانب، وإنّما الفراغ هو في الجوانب القياديّة الخمس المذكورة، التي تحتاج إلى الكفاءات والمؤهّلات الذاتيّة والنفسيّة التي كان يتمتّع بها الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ الوجوه التي تدلّ بصراحة كافية على أنّ الاُمّة الإسلاميّة لم يكن في مقدورها اختيار ومعرفة القائد المناسب الذي يخلّف الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقود الاُمّة بنفس المؤهّلات والكفاءات التي كان يتحلّى بها النبيّ الراحل ـ ما عدا الوحي ـ بل كان يجب تعريفه من جانب الله سبحانه، وتعيينه ونصبه لقيادة الاُمّة وسدّ ما حدث ـ بوفاة النبيّ القائد المعلّم ـ من فراغ بل فراغات

إنّ هذه الوجوه هي :

١. الفراغ في مجال الحلول التشريعية للمشكلات الجديدة

لا شكّ أنّ الوحي الإلهيّ انقطع بوفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كما لا شكّ أنّ

١٠٤

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله التحق بربه وقد أدّى ما عليه من مهمّة التبليغ والدعوة خير أداء، وقام بتثقيف الاُمّة الإسلاميّة أفضل قيام، ولكن الاُمّة كانت تعاني ـ بعد وفاة النبيّ ـ من مشكلات كبيرة تشريعيّة بالنسبة للحوادث المستجدّة والوقائع الجديدة، فماذا كان السبب ؟ فهل كان هناك نقص في التشريع الإسلاميّ، أم كان هناك أمر آخر يتعلّق بالاُمّة نفسها ؟.

وبعبارة اخرى: إنّ القرآن الكريم والسنّة المطهّرة أعلنا من جانب عن إكمال الشريعة وأنّه ما من شيء تحتاج إليه الاُمّة إلّا وقد جاء به الكتاب والسنّة، وبيّنه وأتمّه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهذا ممّا لا يشكّ فيه أحد من المسلمين، خصوصاً بعد القول بخاتميّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وانسداد باب الوحي الإلهيّ.

ومن جانب آخر، نرى بأن الاُمّة الإسلاميّة فوجئت بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بحوادث جمّة لم تجد لها حلولاً في الكتاب والسنّة، وقد اعترفت بذلك أتم اعتراف.

فكيف يمكن الجمع بين الأمرين والتوفيق بينهما ؟.

إنّ الذي تدلّ عليه الشواهد التأريخية، هو أنّ المسلمين لم يستطيعوا ـ رغم ما بذله الرسول الأكرم من جهود كبرى في فترة رسالته ـ أن يستوعبوا التربية العلميّة الكافية والتعبئة الفكريّة اللازمة التي تؤهّلهم لمواجهة جميع المفاجئات، وحلّ جميع المشكلات والمسائل المستجدّة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك لأنّ مثل هذه التربية الكافية، وهذه التعبئة الوافية بالحاجة والحاجات المستجدّة كانت تتطلّب فترة طويلة، وجوّاً من الطمأنينة، وتركيزاً شديداً.

ولكن هذه الظروف والشرائط المساعدة لم تتوفّر لا للمسلمين، ولا للنبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله خلال مدّة الدعوة التي استغرقت ٢٣ عاماً.

وإليك فيما يأتي تفصيل العوامل التي حالت دون أن يستوعب المسلمون جميع أبعاد الشريعة، ويتلقّوا عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله التعبئة الفكرية الكافية والتعليم الواسع، رغم

١٠٥

ما بذلهصلى‌الله‌عليه‌وآله في سبيل تحقيق ذلك من جانبه :

(أ): لقد قضى الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله الفترة المكّيّة من حياته الرسالية ـ التي استغرقت ١٣ عاماً كاملة ـ في دعوة المشركين في مكّة، وما حولها. تلك الدعوة الرفيقة الرحيمة المخلصة التي كانت تقابل بالعناد واللجاج منهم، وتواجه بالمضايقات وخلق الصعوبات.

وحتّى لو تمكّن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من إحراز بعض النجاح في مهمّته فإنّ عناد المشركين والوثنيين يجعل تلك النتائج قليلة وضئيلة واستمر هذا الحال في مكّة حتّى انتهى إلى محاولة اغتيال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله والقضاء على حياته الشريفة ـ في فراشه ـ، وكانت الهجرة المباركة إلى يثرب ( المدينة ).

إنّ تركيز الدعوة في مكّة على الجوانب الاعتقادية لم يسمح بالتكلّم عن القوانين العباديّة والاجتماعيّة، والسياسيّة هذا مضافاً إلى أنّ التحدّث عن هذه الجوانب والمسائل التي تتعلّق بالنظام الاجتماعيّ في ذلك الجوّ الخانق، ومع تلك العقول البدائيّة، والنفوس غير المستعدّة، كان بعيداً عن مقتضى البلاغة، التي تقتضي أن يكون لكلّ مقام مقال ولكلّ مقال مقام.

لأجل ذلك نجد أنّ الآيات التي نزلت في مكّة تدور ـ في الأغلب ـ حول قضايا التوحيد والمعاد وإبطال الشرك ومقارعة الوثنيّة وغيرها من القضايا الاعتقاديّة الكليّة، حتّى صار أكثر المفسّرين يعرف الآيات المكّية والمدنيّة ويميّز بينهما بهذا المعيار.

وأمّا في الفترة المدنيّة التي استقبل فيها أهل المدينة رسول الإسلام بحفاوة بالغة وشوق كبير، فقد تمكّن الرسول الأكرم ـ بعد أن وجد بعض الأجواء المناسبة للتربية والتعليم ـ أن يبيّن للاُمّة بعض أحكام الإسلام ويطبق قسماً منها، ويعرّف الناس بواجباتهم وحقوقهم، وما يجب أن يعرفوه من مسائل الحلال والحرام.

غير أنّ حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة لم تسلم ولم تخل هي أيضاً من مزاحمة

١٠٦

المشاكل الكثيرة، فقد أثار تمركز المسلمين في يثرب، وتعالي شوكتهم، وتعاظم أمر الرسالة الإسلاميّة حفيظة الكفّار والمشركين، وخوفهم وقلقهم من مستقبل الأمر، ودفعهم ذلك إلى التعرّض للرسول والمسلمين في المدينة اكثر من مرة.

وهذه الحملات والتحرشات وإن كانت تواجه موقفاً شجاعاً وقوياً من المسلمين بقيادة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وكانت تعود في كل مرة بالويل والخيبة على أصحابها، كما تشهد بذلك وقائع بدر وأحد والأحزاب وغيرها، إلّا أنهّا كانت ـ ولا شكّ ـ تأخذ الكثير الكثير من أهتمام الرسول ووقته الذي كان يصرفه إلى تجهيز المسلمين وتهيئتهم لصد العدوان، ومواجهة الأعداء أو إبطال المؤامرات التي كانت تبيّت ضدّ الدولة الإسلاميّة الفتيّة، الحديثة التأسيس في المدينة المنوّرة.

هذا إلى جانب المشاكل الداخلية التي كان يثيرها المنافقون واليهود الذين كانوا ـ كما قلنا ـ بمثابة الطابور الخامس، وكان لهم دور كبير في إثارة البلبلة في صفوف المسلمين، وخلق المتاعب للقيادة من الداخل، وكانوا بذلك يفوّتون الكثير من الوقت الذي كان يمكن أن يصرف على تربية المسلمين وتعبئتهم الفكريّة واعدادهم العلميّ، وتعليمهم ما يعينهم على حلّ كلّ ما قد يطرأ على حياتهم ويستجدّ من مشكلات ومسائل وحوادث في المستقبل.

إنّ اشتراك النبيّ في (٢٧) غزوة، كان البعض منها يستغرق أكثر من شهر، والاشتغال ببعث وتسيير ما يقارب (٥٥) سرّية لقمع المؤمرات وإبطالها، وصدّ التحركات العدوانيّة.

وبالتالي، أنّ ماصرفه الرسول القائد في مواجهة المثلّث التآمري ( اليهود ـ المنافقون ـ المشركون ) اخذ من وقت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله واهتمامه وجهده ما لو اتيح له أن يصرفه على تعبئة المسلمين علميّاً، وتربيتهم فكرياً، لأتى بثمار كبيرة وكثيرة.

على أنّ الوظائف المهمة التي كان يضطلع بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقوم بها بنفسه لم تقتصر على هذه الاُمور، بل كانت تقع على كاهله مهمّة: ( عقد الاتفاقيّات السياسيّة

١٠٧

والمواثيق العسكريّة الهامّة ) التي يزخر بها تأريخ الدعوة الإسلاميّة(١) .

مثل هذه الحياة الحافلة بالأحداث والوقائع، الزاخرة بالصعوبات والمتاعب، كانت تحمل المسلمين من جانب آخر على صرف جلّ اهتمامهم وأوقاتهم في مسألة الدفاع عن حياض الإسلام، وحياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا ما تيسّر لهم بعض الفرصة والفراغ، وانصرفوا إلى تعلّم الأحكام والقوانين الإسلاميّة، إذا بحوادث جديدة تستقطب اهتمامهم، وتسلب منهم فرصة الأخذ، والتعلّم الواسع من النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وخاصّة إذا عرفنا أنّ أوضاع المسلمين وإمكاناتهم البشريّة وعددهم لم يبلغ حدّاً يسمح بأن تتفرّغ كل جماعة منهم لعمل خاصّ، جماعة للدفاع وجماعة للزراعة، وجماعة للتعلّم والتفقّه، ولكن كان الجميع جنوداً عند تعرّض البلاد لهجوم الأعداء، فإذا فرغوا من الحرب انصرفوا ـ بعض الوقت ـ إلى الزراعة أو التعلّم، أو التكسّب والتجارة.

(ب): لقد كان التشريع الإسلاميّ يشقّ طريقه نحو التكامل بصورة تدريجية، لأنّ حدوث الوقائع والحاجات الاجتماعيّة في عهد الرسول الأكرم، وما كانت تثيره من أسئلة وتتطلّب من حلول هي التي كانت توجب نزول التشريع عن طريق الوحي الإلهيّ، وبهذه الصورة كان التشريع الإسلاميّ يتكامل، ويتخذ صيغته الكاملة.

وهذا هو شأن كلّ تشريع، فلا يمكن أن يكون القانون وليد لحظة واحدة من الزمان أو مقتضيات يوم واحد، بل يكون وقوع الحوادث والوقائع هو السبب في اتّساع دائرة القانون وتكامله.

ثمّ إنّ تكامل التشريع الإسلاميّ ليس بالمعنى المتبادر في التشريعات البشريّة المتكاملة تدريجياً.

فإنّ الباعث على التدرّج في التشريعات ( الوضعيّة ) هو عدم علم المشرّع بما سيحدث، وأمّا التشريع الإسلاميّ فالمشرع فيه هو الله سبحانه وهوعالم بمقتضيات الأحكام ومصالحها وملابساتها وما يوجب النسخ والتخصيص فيكون معنى التكامل

__________________

(١) راجع كتاب الوثائق السياسيّة للبروفسور محمّد حميد الله. ومكاتيب الرسول للعلاّمة الأحمدي.

١٠٨

التشريعيّ في الإسلام، هو التكامل في البيان والتدريج في النزول، لأجل أنّ بيان الأحكام لا يصحّ إلّا بعد وجود مقتضيات وشروط في نفس المجتمع.

أضف إلى ذلك، أنّ التدريج في البيان والنزول إذا كان متّصلاً بالواقعة الخاصّة التي نزل في حقّها القرآن يكون أوقع في النفوس وأقرب إلى الحفظ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) ( الفرقان: ٣٢ ) وقوله سبحانه:( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) ( الاسراء: ١٠٦ ).

هذا مضافاً إلى ناحية خاصّة بالمجتمع المدنيّ في عهد الرسول كانت تستوجب هذا التدرج، وهو كون ذلك المجتمع فاقداً لأيّ قانون اجتماعيّ وأخلاقيّ، فكان تعليمه جميع القوانين الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة دفعةً واحدةً، أو في فترة قصيرة، أمراً يكاد يكون مستحيلاً حتّى لو خلت حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من المشاكل والمتاعب التي مرّ ذكرها.

وقد كان ذلك عاملاً من عوامل عدم قدرة الاُمّة على استيعاب كلّ معالم الشريعة وأبعادها وتفاصيلها وتفريعاتها، وأخذها من النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ إنّ اُموراً وأسباباً عديدةً اخرى كانت تقتضي التدرّج في نزول القرآن الكريم إلى جانب ما ذكرناه، ويمكن تلخيصها فيما يلي :

١. تثبيت فؤاد النبيّ

إنّ النبيّ إذ كان يتحمّل مسؤوليةً ضخمةً جداً وكان يواجه في هذا السبيل صعوبات ومشقّات صعبة جدّاً، كان لابدّ له من إمداد غيبيّ مستمرّ غير منقطع ونجدة إلهيّة متّصلة، ولهذا كان نزول جبرائيل المتكرر موجباً لتسليته وتقويته الروحيّة وإلى هذا أشار القرآن إذ قال:( كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) ( الفرقان: ٣٢ ).

١٠٩

٢. تسهيل عملية التعليم

إنّ صعوبة مهمّة التعليم كانت تقتضي أن يتنزّل القرآن شيئاً فشيئاً، ليسهل تعليمه للناس وإلقاؤه إليهم.

كيف لا، والنبيّ طبيب يعالج النفوس، ويداوي الأرواح وذلك يقتضي التدرّج في العلاج كما يفعل المداوون.

٣. بيان الميزة التطبيقيّة للقرآن

إنّ القوانين التي تسنّ طبقاً للحاجات، وعند ظهور المشكلات، تكون أقرب إلى النتيجة المطلوبة منها فيما لو سنّت جملةً في وقت واحد.

ولهذا، كانت الآيات القرانية تتنزّل وفقاً للحاجات وتبعاً للحوادث التي كانت تقع شيئاً فشيئاً، فيأخذ بها المسلمون ويعالجون بها مشكلاتهم فيشاهدون النتائج العمليّة الطيّبة، فبسببها تزداد ثقتهم بالوحي ويزداد تعلقّهم به.

وبهذا كان القرآن يحقّق نجاحات كبيرةً في النفوذ إلى القلوب والأعماق لأنّه كان يقرن العلم بالعمل، ويلبّي الحاجات الفكريّة والحياتية وهي أفضل وسيلة للتأثير في القلوب.

٤. تعدّد الاحتجاجات

إنّ قسماً كبيراً من الآيات القرآنية كانت تتنزّل على النبيّ في مقام الاحتجاج على طوائف اليهود والنصارى، الذين كانوا يتوافدون على النبيّ بين فينة وأخرى، فكان طبيعياً أن تنزل الآيات في أوقات متعدّدة وأزمنة متفاوتة.

٥. التدليل على صدق الرسالة

إنّ التدرّج في التنزيل كان أحد الأدلة الساطعة على صدق هذا الكتاب في

١١٠

انتسابه إلى الله، وكونه وحياً سماوياً وليس تأليفاً بشريّاً إذ أنّ نزول الآيات في مواسم وأشهر وأعوام متفاوتة مع حفظ النمط الخاصّ بها، ورغم ما تعرّض له الرسول في حياته الرسالية من شدّة ورخاء، وعسر ويسر، وهدوء واضطراب، وسلم وحرب، كان خير دليل على أنّ هذا الكلام لم يكن إلّا وحياً يوحى إليه من إله قادر حكيم، وخالق عليّ عليم فكان ذلك أظهر لعظمة القرآن، وأقوى دليل على إعجازه.

* * *

(ج): إنّ اتساع رقعة الدولة الإسلاميّة، ومخالطة المسلمين للشعوب والأقوام المختلفة بسبب الفتوحات المتتالية التي قام بها المسلمون، جعلهم أمام مشاكل مستجدّة ومسائل مستحدثة لم تكن معهودةً ولا معروفةً في عهد النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لم تكن فيه الدولة الإسلاميّة قد توسعت كما توسعت بعد وفاته والتحاقه بالرفيق الأعلى.

فهل كان من الصحيح ـ والحال هذه ـ أنّ يبيّن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله للناس، حلولاً لمشاكل لم تحدث بعد، ويتحدث عن موضوعات لم يعرفوا شيئاً عن ماهيتها وتفاصيلها، ولم يشهدوا لها نظيراً في حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وانّما كانت تحدث بصورة طبيعية فيما بعد ؟.

ألم يكن بيان تلك الأحكام والحلول لتلك الموضوعات المستقبلية المجهولة عملاً غير مفيد، بل أمراً صعباً للغاية، لأنّه لم يكن في وسع المسلمين أنّ يدركوا معناه وهم لم يعرفوها عن كثب ولم يعرفوا لها أي مثيل ونظير ؟.

وهكذا لم يتسنّ للمسلمين أنّ يتعرّفوا على كلّ شيء فيما يتعلق بالحوادث والموضوعات الواقعة في المستقبل، ولذلك كانوا يجهلون الكثير من الأحكام المتعلّقة بها، والحلول اللازمة لها.

هذه كانت أهم العوامل التي حالت دون أن يستطيع المسلمين استيعاب كافة التعاليم والأحكام الإسلاميّة من النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلم يكن ما وعوه منهصلى‌الله‌عليه‌وآله وافياً بالحاجات المستجدة وهذا ما يلمسه كلّ من درس تأريخ الاُمّة الإسلاميّة في الصدر الأوّل وستقف على نماذج من هذه الحاجات

١١١

التي لم يجد فيها المسلمون الأجوبة فيما لديهم من تشريع.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر أنّ القرآن الكريم يصرّح في غاية الوضوح بأنّ الله سبحانه أكمل دينه بنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ يقول سبحانه:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة: ٣ ).

كما يصرّح النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك في خطابه التأريخي عند عودته من حجة الوداع إذ يقول: « يا أيّها الناس والله ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به وما من شيء يقرّبكم من النّار ويباعدكم من الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه »(١) .

وأكّدالإمام عليّعليه‌السلام على هذه الحقيقة أيضاً إذ قال: « أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه، أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى، أم أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسول ـصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه يقول:( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) وفيه تبيان لكلّ شيء(٢) .

فإذا كان الله قد أكمل دينه فلا نقصان، بل كمال وتمام، فلماذا كانت الاُمّة تعجز عن حل المعضلات الجديدة التي تواجهها في حياتها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة ؟.

ترى كيف اُكمل الدين في السنة العاشرة من الهجرة، وبيّن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة من علوم ومعارف وأصول وفروع وحلول لمشاكلهم الفعليّة والحادثة فيما بعد ؟.

هل استودع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ ذلك عند الاُمّة نفسها، وقد تقدم استحالة تحقق ذلك في تلكم الفترة القصيرة ومع تلك المشاكل الكثيرة، وعدم قدرة الناس على الاستيعاب والأخذ الكامل ؟.

__________________

(١) الكافي ٢: ٧٤ وتحف العقول: ٤٠ ( طبعة إيران ).

(٢) نهج البلاغة: الخطبة رقم (١٨).

١١٢

كيف لا ؛ وكلّ الأحاديث الصحيحة التي نقلها أعلام السنّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في الفروع والاُصول لا تتجاوز (٥٠٠) حديثاً.

قال السيد محمّد رشيد رضا في الوحي المحمّديّ: ( إنّ أحاديث الأحكام الاُصول خمسمائة حديث تمدّها أربعة آلاف فيما أذكر )(١) .

وقال أيضاً في موضع آخر: ( يقولون: إنّ مصدر القوانين الاُمّة، ونحن نقول بذلك في غير المنصوص في الكتاب والسنّة كما قرره الإمام الرازيّ، والمنصوص قليل جداً )(٢) .

هذه هي كلّ الأحاديث المنقولة عن طرق أهل السنّة، وهي تتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله غالباً، بينما نعلم أنّ ما حدث ووقع بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان أكثر بكثير ممّا حدث في حياته الشريفة.

ثمّ لما كانت أكثر الأحاديث ردّاً على الأسئلة التي يطرحها الصحابة، وتدور حول ما كان يحدث لهم، لذلك لم يسألوا عمّا لم يحدث ولم يقع بعد.

وقد كان هذا عاملاً مهمّاً من عوامل قلّة الحديث النبويّ في الأحكام.

هذا مضافاً إلى، أنّ السبب الآخر لقلّة الحديث النبويّ، هو ضياع طائفة كبيرة منه، لعدم اعتناء الأوائل بتدوين السنّة وهو الأمر الذي استوجب وقوع الخلاف والاختلاف حتى في أبسط المسائل، وأكثرها ابتلاء، مثل الاختلاف في عدد التكبيرات في صلاة الموتى، وهو أمر كما نعلم ممّا يبتلى به المجتمع كثيراً، ولو كان هناك شيء مكتوب لما وقع الاختلاف والحيرة.

فإذا بطل هذا الشقّ ( أي استيعاب الاُمّة جميع ما يحتاجون إليه وتكميل الدين من هذا الطريق ) تعيّن الشقّ الآخر لتفسير تكميل الدين، وهو أنّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أودع كل ما تحتاج إليه الاُمّة من اُصول وفروع لدى فرد أو طائفة خاصّة من الاُمّة، لكي يرجع إليهم المسلمون بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويعالجوا بما يخرجونه إليهم من تلك المعارف والعلوم ،

__________________

(١) الوحي المحمّديّ ( الطبعة السادسة ): ٢١٢.

(٢) تفسير المنار لرشيد رضا ٥: ١٨٩.

١١٣

مشاكلهم في العقيدة والعمل، في اُمور الدين والدنيا.

أجل لابدّ أن يكون في الاُمّة من يرفع هذه الحاجة، أي يكون حاملاً لعلم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وإن لم يكن له نصيب في النبوّة، إيفاءً لغرض التشريع الإلهيّ ويكون له من الكفاءات والمؤهّلات ما تؤهّله للقيام بمثل هذه العبء الثقيل والأمر الخطير، ويسدّ بالتالي ما أحدثه رحيل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وغيابه من فراغ بل فراغات هائلة وخطيرة.

على أنّ من يتحمّل هذه العلوم لا يمكن أن يتحمّلها عن طريق الأسباب العاديّة والتربية العرفيّة المتعارفة، وإلاّ لتيسّر للجميع أن يتحمّلوها ثمّ إنّ التعلّم والتربية على هذا النمط، أقصر من أن ينتج شخصيّةً متفوّقةً علميّةً كفوءةً للقيام مقام النبيّ في علمه وسياسته ودرايته وكياسته، وتدبيره وإدارته وجميع مؤهّلاته ( ما عدا النبوّة وتلقّي الوحي الإلهيّ السماوي ) ويفي بغرض التشريع ويسدّ الفراغ الحاصل بوفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

بل لابدّ أن يكون تعلّمه وأخذه لتلك المعارف والعلوم الجمّة من طرق غير متعارفة وتربية تفوق نوعاً وكيفاً ما تعارف من التربية والتعليم.

ثمّ إنّ التعرف على مثل هذا الشخص أمر متعذّر على الاُمّة لدقّة المواصفات وخفاء المؤهّلات فلابدّ أن يكون التعريف من جانب الله المحيط بجمبع عباده، العارف بأسرارهم وسرائرهم، العالم بنفوسهم ونفسياتهم، وذلك بالتنصيص عليه بالاسم والشخص.

وبعبارة اُخرى: إنّ هناك أمرين يتطلّبان أن يكون القائم مقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله متعيّناً بتنصيص من الله سبحانه :

الأوّل: أنّه يجب أن يكون القائم مقامه قادراً على تبيين ما لم يبيّنه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لكافّة المسلمين وعامّتهم، لأسباب خاصّة وقفت عليها في هذا المقام وهذه المقدرة لا تحصل في فرد أو طائفة، إلّا بتربية إلهيّة خاصّة، وتعليم خارج عن نطاق التعليم المألوف، ولولا هذه العناية الخاصّة لما قدر القائم مقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على سدّ الفراغ الحاصل من وفاته.

١١٤

الثاني: أنّ التعرف على هذا الشخص لا يتحقق بالاختبار والتجربة، أو أنّه يصعب معرفته بهذا الطريق.

وعلى هذين الأمرين، يجب أن يكون القائم مقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذا تربية إلهيّة أوّلاً، ومعرّفاً من جانبه سبحانه ثانياً وهذا يعيّن لون الحكومة وشكلها بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ ما ذكرناه، عن عدم إحاطة الاُمّة ومعرفتها بكلّ معالم الشريعة الإسلاميّة وأحكامها ومعارفها على النحو الذي يعينها على حلّ مشاكلها المستحدثة، لم يكن مجرّد ادّعاء خال من الدليل، فلنا أن نستدل على ذلك بوجهين :

الأوّل: اعتراف ثلّة من الصحابة بعدم وجود الحلول في الكتاب أو السنّة لبعض المسائل.

الثاني: ذكر بعض الموارد التي لم يردفيها نصٌّ اسلاميٌّ صريح، ممّا جعل المسلمين أن يأخذوا فيها بظنونهم، أو أن يأخذوا بمقاييس ومعايير لم يرد على صحّتها دليل.

وإليك أمثلة من الوجهين :

أوّلاً: اعتراف الصحابة بالقصور

أ ـ عن ميمون بن مهران قال: ( كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم عن رسول الله في ذلك الأمر سنّة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين فقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قضى في ذلك بقضاء ؟ فربّما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه قضايا، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا علم نبيّنا. فإن أعياه أن يجد فيه سنّةً عن رسول الله، جمع رؤوس الناس وخيارهم فأستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به )(١) .

إنّ هذا اعتراف صريح من الخليفة والصحابيّ، بأنّ الكتاب والسنّة النبويّة

__________________

(١) دائرة المعارف لفريد وجدي ٣: ٢١٢ ( مادة جهد ).

١١٥

ـ عندهم ـ كانا غير وافيين بالحاجات الفقهيّة، ولهذا كان يعمد إلى الأخذ بالرأي والمقاييس المصطنعة لاستنباط حكم الموضوع.

ب ـ عندما نصب عمر بن الخطاب شريحاً قاضياً للكوفة، قال له فيما قال: ( ان جاءك شيء من كتاب الله، فاقض به ولا يلفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، فانظر سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم تكن في سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنّة رسول الله، ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فاختر أي الأمرين شئت إن شئت أن تجتهد برأيك لتقدّم فتقدّم، وإن شئت أن تتأخّر فتأخّر، ولا أرى التأخّر إلّا خيراً لك )(١) .

في حين نجد الإمام عليّاًعليه‌السلام لـمّا ولّى شريحاً القضاء يشترط عليه أن لا ينفّذ القضاء حتّى يعرضه عليه(٢) .

ج ـ عن عبد الله بن مسعود قال: ( أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك، وإنّ الله قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون، فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عزّ وجلّ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن جاءه ما ليس في كتاب الله ولم يقض به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فليقض فيه بما قضى به الصالحون، ولا يقل إنّي أخاف وإني أرى )(٣) .

وزاد مؤلف كتاب « تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّة » :

فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيّه ولم يقض به الصالحون، فليجتهد برأيه فإن لم يحسن فليقم ولا يستحيي(٤) .

__________________

(١) دائرة المعارف لفريد وجدي ٣: ٢١٢ ( مادة جهد ).

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ٦ كتاب القضاء ( أبواب صفات القاضي، الباب الثالث ).

(٣) دائرة المعارف لفريد وجدي ٣: ٢١٢ ـ ٢١٣ ( مادة جهد ).

(٤) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّة: ١٧٧، على ما نقله مؤلّف: الإمامة في التشريع الإسلاميّ.

١١٦

د ـ كان ابن عباس إذا سئل عن أمر: فإن كان في القرآن أخبر به، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر به، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر، فإن لم يكن قال فيه رأيه(١) .

إنّ هذه العبارات وما يشابهها من الاعترافات، تستطيع أن تكشف عن مدى قصور الصحابة في أخذ التعاليم والأحكام الإسلاميّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فهي تكشف ـ بوضوح ـ عن أنّ الصحابة كانوا يواجهون وقائع وحوادث جديدةً لا يجدون لها حلولاً في الكتاب الكريم أو في ما تلقّوه من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولذلك كانوا يحاولون استنباط حلول لها من غير الكتاب والسنّة.

* * *

ثانياً: بعض ما لا نص فيه من المسائل

إنّ الوجه الثاني الذي يدل على عدم استيعاب الاُمّة لكل أبعاد الشريعة وتفاصيلها، هو الموارد التي لم يرد فيها نصٌّ صريحٌ، فعمد الصحابة إلى الأخذ بالرأي والقياس، التماساً للحلول والأحكام المناسبة.

ولذلك أضطرّ الصحابة منذ الأيام الاولى من وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى إعمال الرأي والاجتهاد في المسائل المستحدثة، وليس اللجوء إلى الاجتهاد بمختلف أشكاله إلّا تعبيراً واضحاً عن عدم استيعاب الكتاب والسنّة النبويّة ـ عندهم ـ للوقائع المستحدثة بالحكم والتشريع.

غير أنّ الاجتهاد في هذا العصر وما بعده، لم يكن مقصوراً على الاجتهاد المألوف بين الشيعة الإماميّة من ردّ الفروع إلى الاُصول، وتطبيق الكليات على المصاديق والجزئيات، بل كان يعبّر عن لون آخر أشبه بإبداء الرأي من عند الشخص بلا دليل وحجّة قاطعة فيما بينه وبين الله.

__________________

(١) دائرة المعارف لفريد وجدي ٣: ٢١٣ ( مادة جهد ).

١١٧

فقد أحدثوا مقاييس للرأي، واصطنعوا معايير جديدة للاستنباط لم يكن منها أثر في الشرع، وكان القياس أوّل هذه المقاييس، ومن هذه المعايير: المصالح المرسلة، وسدّ الذرائع والاستحسان، إلى غيرها من القوانين التي اضطرّ الفقهاء إلى اصطناعها عندما طرأت على المجتمع الإسلاميّ ألوان جديدة من الحياة لم يألفوها، وتشعّبت بهم مذاهبها، ولم يجد الفقهاء بدّاً من الالتجاء إلى إعمال الرأي في مثل هذه المسائل، وللبحث حول هذه المعايير المصطنعة مقام ومجال آخر فيطلب منه.

وإليك فيما يلي بعض هذه الموارد، وهي غيض من فيض، وقليل من كثير :

(أ): فيمَنْ شرب خمراً

رفع رجل إلى أبي بكر وقد شرب الخمر، فأراد أنّ يقيم عليه الحدّ، فقال: إنّي شربتها ولا علم لي بتحريمها، لأنّي نشأت بين قوم يستحلّونها، ولم أعلم بتحريمها حتى الآن فتحيّر أبو بكر في حكمه فأرسل إلى أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام فقال :

« مرّ رجلين ثقتين من المسلمين يطوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار يناشدانهم هل فيهم أحد تلى عليه آية التحريم، أو أخبره بذلك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن شهد بذلك رجلان فأقم عليه الحدّ، وإنّ لم يشهد أحد بذلك، فاستتبه وخلّ سبيله ».

ففعل أبو بكر ذلك فلم يشهد أحد فاستتابه وخلاّ سبيله(١) .

(ب): ما الكَلاَلَة ؟!

سئل أبو بكر عن الكلالة في قوله تعالى( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ) ( النساء: ١٧٦ ). فقال: إنّي سأقول فيها برأيي فإن يك صواباً فمن الله وإن يك خطأً فمنّي ومن الشيطان والله

__________________

(١) الإرشاد للمفيد: ١٠٦، مناقب ابن شهر آشوب: ٤٨٩

١١٨

ورسوله بريئان منه، أراه ما خلا الولد والوالد، فلمّا استخلف عمر قال: إنّي لأستحيي الله أن أردّ شيئاً قاله أبو بكر(١) .

وهكذا نرى من يتصدر مقام الزعامة والقيادة في المجتمع الإسلاميّ، يجهل حكماً إسلامياً ويعمد إلى رأيه الشخصيّ، والأخذ بظنه.

(ج): أمرأةٌ ولدت لستّة أشهر

رفعت إلى عمر بن الخطاب إمرأة ولدت لستة أشهر فهمّ برجمها، فبلغ ذلك عليّاً فقال: « ليس عليها رجم » فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه فسأله فقال: « قال الله تعالى:( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) ( البقرة: ٢٣٣ ) وقال:( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) ( الأحقاف: ١٥ ) فستّة أشهر حمله وحولان رضاعه فذلك ثلاثون شهراً »، فخلاّ عنها(٢) .

ولا يمكن القول بأنّ حكم هذه المسألة قد جاء في صريح الكتاب، لأنّ معنى وروده في الكتاب العزيز هو أن يكون مفهوماً لأغلبية الصحابة، ومعلوماً لهم، وخاصّةً لمن يتصدر مقام الزعامة، ولكن الواقعة بمجموعها تثبت بأن استخراجه وفهمه لم يكن مقدوراً إلّا للإمام.

(د): مسألة العوْل

لقد شغلت هذه المسألة بال الصحابة فترةً من الزمن وكانت من المسائل المستجدّة بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله التي واجهت جهاز الحكم.

__________________

(١) سنن الدارمي ٢: ٣٦٥، تفسير الطبري ٦: ٣٠، الجامع الكبير للسيوطي ٦: ٢٠، تفسير ابن كثير ١: ٢٦٠.

(٢) السنن الكبرى ٧: ٤٤٢، مختصر جامع العلم: ١٥٠، تفسير الرازي ٧: ٤٨٤، الدرّ المنثور ١: ٢٨٨، ذخائر العقبى: ٨٢.

١١٩

ويعنى من العول ؛ أن تقصر التركة عن سهام ذوي الفروض، ولا تقصر إلّا بدخول الزوج أو الزوجة في الورثة، ومثال ذلك، ما إذا ترك الميت زوجةً وأبوين وبنتين. ولـمّا كان سهم الزوجة ـ حسب فرض القرآن ـ الثمن، وفرض الأبوين الثلث، وفرض البنتين الثلثين، فإنّ التركة لا تسع للثمن والثلث والثلثين، أو إذا ماتت امرأة وتركت زوجاً وأختين للأب، فلمّا كان فرض الزوج النصف، وفرض الأختين الثلثين، زادت السهام عن التركة، فهنا ـ عندما ـ يجب إدخال النقص على من له فريضة واحدة في القرآن، وذلك كالأبوين والبنتين والأختين لاستحالة أن يجعل الله في المال ثمناً وثلثاً وثلثين، أو نصفاً وثلثين وإلاّ كان جاهلاً أو عابثاً تعالى عن ذلك.

ولكن هذه المسألة لـمّا طرحت على عمر بن الخطاب تحيّر، فأدخل النقص على الجميع استحساناً وهو يقول: ( والله ما أدري أيكم قدّم الله، ولا أيّكم أخّر، ما أجد شيئاً هو أوسع لي من أن أقسم المال عليكم بالحصص وادخل على ذي حقّ ما أدخل عليه من عول الفريضة )(١) .

( ه‍ ): الطلاق في الجاهليّة والإسلام

سئل عمر بن الخطاب عن رجل طلّق امرأته في الجاهلية تطليقتين وفي الإسلام تطليقةً فقال: ( لا آمرك ولا أنهاك ).

فقال عبد الرحمان بن عمر: ( لكنّي آمرك، ليس طلاقك في الشرك بشيء )(٢) .

(و): معنى الأبّ

بينا عمر جالس في أصحابه إذ تلا هذه الآية( فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا *وَعِنَبًا وَقَضْبًا *

__________________

(١) أحكام القرآن للجصّاص ٢: ١٠٩، مستدرك الحاكم ٤: ٣٤٠ وصحّحه.

(٢) كنز العمال ٥: ١٦١.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627