مفاهيم القرآن الجزء ٣

مفاهيم القرآن14%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 543

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 543 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196646 / تحميل: 5853
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

المظالم، وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر »(١) .

ولعل في قولهعليه‌السلام : « سبيل الأنبياء » إشارة إلى أنّ هذا الأمر موكول إلى الاُمّة بعد انقطاع الوحي وإيصاد باب النبوّة.

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا ظهرت البدع، فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله »(٢) .

ثمّ أنّ هناك جواباً آخر، ربّما يكون ملائماً لاُصول الشيعة الإمامية في مسئلة الإمامة والخلافة ولأجل إيقاف القارئ الكريم عليه نأتي به إجمالاً ولا يعلم إلّا بالوقوف على معنى الإمامة لدى الشيعة ودور أهل البيت في إكمال الدين.

دور أهل البيت في إكمال الدين وختم الرسالة :

إنّ للشيعة الإمامية نظراً خاصاً في كيفية استغناء الاُمّة الإسلامية عن ضرورة استمرارية النبوّة وتواصلها بعد لحوق النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرفيق الأعلى، وعمدة ذلك هو ثبوت نظرية الإمامة التي تتبناها الشيعة الإمامية في باب الولاية الإلهية والخلافة بعد رسول الله.

فالإمامة عندهم عبارة عن الولاية الإلهية العامة على الخلق فيما يختص بشؤونهم الدينية والدنيوية وهي مستمرة بعد قبض النبي الأعظم، لم يوصد بابها بل أنّه مفتوح إلى أن يشاء الله إيصاده، وإنّما الذي ختم بالنبي الأعظم هو باب النبوّة التي هي تحمل النبأ عن الله سبحانه، وباب الرسالة التي هي تنفيذ ما تحمله النبي عن الله سبحانه بين الاُمة(٣) .

هذه الولاية الالهية غير النبوّة والرسالة وإن كانت تجامعهما تارة وتفارقهما اُخرى

__________________

(١) وسائل الشيعة كتاب الأمر بالمعروف الباب الأوّل الحديث ٦.

(٢) وسائل الشيعة كتاب الأمر بالمعروف الباب الأربعون الحديث ١.

(٣) سيوافيك توضيح الفرق بين النبوّة والرسالة في الجزء الرابع من كتابنا هذا.

٢٢١

فقد تمثلت المناصب الثلاثة في شخص إبراهيم.

إذ كانعليه‌السلام يمثل منصب الإمامة، كما كان يمثل منصبي النبوّة والرسالة ولقد حباه الله سبحانه منصب الإمامة، بعد ما منحت له النبوّة وأرسله رسولاً ويدل على ذلك قوله سبحانه:( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ( البقرة ـ ١٢٤ )(١) .

والأئمّة الاثنا عشر لدى الإمامية يمثلون منصب الإمامة، من دون أن يكونوا أنبياء أو رسلاً، فهم أئمّة الدين، وأولياء الله بين الاُمّة، ولهم رئاسة إلهية عامة، دينية ودنيوية على وجه يوجب على الاُمّة الانقياد لهم وهم حجج الله على عباده يهتدى بهم إليه سبحانه ولا تبقى الأرض بغير إمام حجة لله على عباده(٢) .

والباعث على انفتاح باب الولاية الإلهية في وجه الاُمّة، بعد ختم النبوّة والرسالة وإيصاد بابها بالتحاق الرسول الكريم بالرفيق الأعلى اُمور نشير إلى واحد منها(٣) .

لا يختلف اثنان من المسلمين بانقطاع وحي السماء عن وجه الأرض بموت النبي وقبضه كما لا يختلفان في أنّ النبي قام بمهمة التشريع والتبليغ وتثقيف الاُمّة الإسلامية بالثقافة الدينية وبث العقيدة الدينية فيهم وحفظ الشريعة عن شبهات المنكرين وإرجاف المرجفين بأحسن الوجوه وأكملها وقال سبحانه:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة ـ ٣ ) غير أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يراعي في نشر الأحكام حاجة الناس ومقتضيات الظروف فكانت هناك اُمور مستجدة

__________________

(١) روى ثقة الإسلام الكليني عن جابر عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال سمعته يقول: أن اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً، واتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، واتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، واتخذه خليلاً قبل أن يتخذه إماماً، فلما جمع له هذه الأشياء وقبض قال له يا إبراهيم إني جاعلك للناس إماماً فمن عظمها في عين إبراهيم قال يا ربّ ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ( الكافي باب طبقات الأنبياء والرسل ج ١ ص ١٧٥ ).

(٢) هكذا وصف الإمام باقر العلوم، راجع الكافي باب « إنّ الأرض لا تخلو من حجة » ج ١ ص ١٧٨.

(٣) قد أوضحنا تلك الاُمور في الجزء الثاني من هذه الموسوعة فلاحظ بحث: صيغة الحكومة الإسلامية بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢٢٢

ومسائل مستحدثة، لم تكن معهودة في زمن الرسول ولم يأت بها نص في الكتاب الكريم وسنّته الثابتة، ولم يتسن للنبي الإشادة بها أمّا لتأخر ظروفها أو لعدم تهيأ النفوس لها أو لغير ذلك من العلل.

وقد ظهرت بوادر هذا الأمر عندما اتسع نطاق الإسلام وضرب بجرانه خارج الجزيرة العربية وطفق المسلمون يخوضون في غمار معارك طاحنة وحروب دامية، يفتحون البلاد ويخالطون الاُمم ففوجئوا بمسائل مستجدة لم يعرفوا لها حلاً في الكتاب الكريم ولا في سنّة نبيهم مع أنّ الله سبحانه كان قد أخبر في كتابه عن اكمال الدين واتمام النعمة وبناء على هذا فإننا نستكشف أنّ النبي إيفاء لغرض التشريع استودع معارفه عند من يقوم مقامه ويكون له من الصلاحيات ما تخوله للقيام بمثل هذا الأمر الخطير.

وإلى ذلك يشير باقر العلوم بقوله مخاطباً لهشام بن عبد الملك بن مروان: إنا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما الله على نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) والأرض لا تخلو ممّن يكمل هذه الاُمور التي يقصر غيرنا عنها(١) .

ثمّ إنّ الكتاب الكريم الذي هو أحد الثقلين فيه محكم ومتشابه وعامّ وخاصّ ومطلق ومقيد ومنسوخ وناسخ، يجب على الاُمّة عرفانها، إذ الجهل بها يوجد اتجاهات مذهبية متضاربة. غير أنّ تفسير المتشابه من دون الاستناد إلى ركن وثيق يورث اختلافاً عنيفاً بين المسلمين، وتفسير المعضل وتفصيل المجمل وتشخيص المنسوخ عن ناسخه يحتاج إلى احاطة كاملة بمفاهيم الكتاب وتشريعاته جليلها ودقيقها وهو ليس إلّا النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن يتلو تلوه.

فلأجل رفع هذه المحاذير يجب عليه سبحانه حفاظاً على وحدة الاُمّة وصيانتها عن الشرود في متاهات الضلال أن يشفع كتابه بميزان آخر، وهاد يدعم أمره، ومعلم يوضح لهم أسراره، ليرجع إليه المسلمون حتى يكتمل به غرض التشريع ويرتفع

__________________

(١ بحار الأنوار: ج ٤٦ ص ٣٠٧.

٢٢٣

التضارب والخلاف في الشؤون الدينية.

وإلى ذلك يشير قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض(١) ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أني أوشك أن اُدعى فاُجيب وأني تارك فيكن الثقلين كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، وأنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما(٢) .

وهذا هو الإمام الصادقعليه‌السلام يعرف الإمام ومكانته العظيمة بقوله: أنّ الأرض لا تخلو وفيها إمام، كيما إن زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإن نقصوا شيئاً أتمّه لهم(٣) .

وأبلغ تعبير عن حقيقة الإمامة عند الشيعة ما روي عن الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا في حديث طويل وفيها: أنّ الإمامة منزلة الأنبياء وأرث الأوصياء أنّ الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول، الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين، أنّ الإمامة أساس الإسلام النامي وفرعه السامي.

الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة(٤) .

__________________

(١) أخرجه الحاكم في مستدركه: ج ٣ ص ١٤٨، وقال هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

(٢) مسند أحمد: ج ٣ ص ١٧ و ٢٦ وللحديث صور كثيرة كلها تنص على وجوب التمسك بأهل بيته وعترتهصلى‌الله‌عليه‌وآله وطرقها عن بضع وعشرين صحابياً متضافرة، وقد صدع بها رسول الله في مواقف له شتى: يوم غدير خم، يوم عرفة في حجة الوداع، بعد انصرافه من الطائف، على منبره في المدينة، وفي حجرته في اُخريات أيامه.

وقد أنهى إسناده العلّامة الجليل، السيد مير حامد حسين في بعض أجزاء كتابه الكبير « العبقات » وطبع في ستة أجزاء بإيران وفاح أريجه بين لابتي العالم وقد اغرق نزعاً في التحقيق، ولم يبق في القوس منزعاً، وقد أغنانا كتابه عن الافاضة والبحث.

(٣) الكافي: ج ١ ص ١٧٨.

(٤) الكافي: ج ١ ص ٢٠٠.

٢٢٤

وبذلك تعرف وجه غنى الاُمّة الإسلامية بعد النبي عن أي نبي مروّج وأية نبوّة تبليغية، ويتضح أنّ الإسلام في تخطيطه المبدئي، قد فرض أنّه ( بعد إنتهاء وظيفة النبي الأعظم وقطعه أشواطاً بعيدة في الجهات المختلفة المتقدمة ) يتكفّل القيادة المعصومة من بعده من يقوم مقامه بنصه سبحانه وتعيينه، وله من الشرائط ما للنبي سوى ما يختص به على ما تبيّن في محله حتى تنتهي هذه العملية إلى مراحلها النهائية المفروضة.

ولا يضير الإسلام في شيء أن تكون الاُمّة قد انحرفت عن الخط المفروض لها من قبل الله سبحانه، وتجاوزت عن كل الضمانات التي وضعها لتنفيذ مخطّطه الالهي.

وفي الختام نقول: إنّ التاريخ ليشهد بأنّه ما من إمام من أئمّة الشيعة الاثنى عشرية إلّا وقد قام بأعباء مهمة الإمامة خير قيام، وأنّ حياة كلّ منهم كانت مشحونة بالعمل المتواصل في سبيل إيصال مفاهيم الإسلام الصحيحة إلى الاُمّة ولقد عانوا في ذلك من المشاق ولاقوا من الأهوال ما لاقاه النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فعند ذاك استغنت الاُمّة الإنسانية بشكل عام والمسلمون بشكل خاص، بتعاليمهم الدائرة حول نطاق رسالة جدهم السماوية، عن استمرارية كلتا النبوّتين، وبصورة خاصة التبليغية منها.

٢٢٥

السؤال الثاني

« لماذا حرم الخلف من الاُمم، من المكاشفة الغيبية، والاتصال بالملأ الأعلى، واستطلاع ما هنالك من معارف وحقائق » ؟

يقول السائل: إنّ النبوّة منصب معنوي ورقي روحي، تقدر معه النفس على الاتصال بالملأ الأعلى، والاطلاع على ما هنالك من معارف عقلية، والتحدث مع الوحي الالهي، إلى غير ذلك من الفيوضات المعنوية، ولكن هذا الباب قد اُوصد بعد إكمال الشريعة الإسلامية وختم النبوّة.

هب أنّ الشريعة الإسلامية، هي أكمل الشرائع، وأنّ الخلف من الاُمم قادر على حفظ تراثه الديني، ولأجل ذلك اُوصد باب النبوّة التشريعية والتبليغية ولكن لماذا انقطعت الفتوحات الباطنية والمحادثة مع ملائكته سبحانه، أو القاء الحقائق في روع الانسان، إلى غير ذلك من الفيوضات السماوية، فهذه الاُمور كلّها من لوازم النبوّة، فلا يعقل انفتاحها مع إيصاد بابها

ثم إنّه لماذا كان باب هذا الفيض مفتوحاً في وجه الاُمم السالفة، وحرم منها الخلف الصالح بعد النبي ؟ هل كانت الاُمم السالفة اُولى وأجدر بهذه النعمة ؟ وهل الاُمّة المتأخرة عنهم أقل جدارة بها واستحقاقاً لها ؟!

٢٢٦

الجواب :

ليس الإطلاع على ما احتجب عن عامة الناس من الحقائق، من لوازم النبوّة، حتى ينسد بابه بانسداد بابها، ولا الخلف محروم من الفيض الذي كان مفتوحاً في وجه الاُمم السالفة، فإنّ الولاية الالهية التي تلازم تلكم الفتوحات الباطنية، ليست من خصائص النبوّة وتوابعها، حتى تنقطع بانقطاعها، بل هي كرامة إلهية يرزقها سبحانه، المخلصين من عباده، المتحلّين بفضائل الأخلاق المتطهرين عن درك الشرك ولوث المعاصي، إلى غير ذلك من صفات كريمة.

والنبوّة باب خاص من الولاية تستتبع تحمل الوحي التشريعي أو التبليغي فيوصد بابه بإيصاد بابها، وأمّا سائر الفتوحات الباطنية من المكاشفات والمشاهدات الروحية والايحاءات الملكوتية، فلم يوصد بابها قط.

وللتوضيح نحن نتساءل: ماذا أراد السائل من إيصاد باب الاتصال، بختم باب النبوّة ؟

فإن أراد الاتصال بالله ومعرفة أسمائه وصفاته والوقوف على ما هنالك من معارف عن طريق البرهنة والاستدلال والتدبر في آياته الآفاقية، فهذا الطريق مفتوح إلى يوم القيامة في وجه من أراد الإطلاع على حقائق الكون ودقائقه، وما وراء الحس من عوالم ودقائق.

وقد قال سبحانه:( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( فصلت ـ ٥٣ )(١) .

__________________

(١) نعم ربّما تفسر الآية بوجه آخر تسقط معه دلالتها على ما نرتئيه وهو أنّ المراد ما يسّر الله عزّ وجلّ لرسوله والمسلمين من بعده في آفاق الدنيا وارجاء العالم من الفتوح التي لم يتيسّر أمثالها لأحد من الجبابرة والأكاسرة، وتغلب قليلهم على كثير من أعدائهم، وتسليط ضعافهم على أقويائهم، ونشر دعوة الإسلام في أقطار المعمورة وبسط دولته في أقاصيها. فهذه الاُمور الخارقة للعادة يقوى معها اليقين ويزداد بها الإيمان، ويتبين أنّ دين الإسلام هو الدين الحق الذي لا يحيد عنه إلّا مكابر راجع الكشاف ج ٣ ص ٧٥ وما حققناه حول الآية في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة ص ١٧٣.

٢٢٧

وقال سبحانه:( وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ *وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ( الذاريات: ٢٠ ـ ٢١ ).

ولو أراد معرفة ربّه وأسمائه وصفاته، وعظمته وكبريائه، وما هناك من مقامات ودرجات، بلا توسيط برهان، أو تسبيب دليل، بل مشاهدة بعين قلبه وبصر روحه، وبعبارة أوجز: شهود الحقائق العلوية، وانكشاف ما وراء الحس والطبيعة، من العوالم الروحية، والمشاعر الإلهية، ومعرفة ما يجري عليه قلمه تعالى في قضائه وقدره والاتصال بجنوده وملائكته واستماع كلامهم ووحيهم وصوتهم إلى غير ذلك من الاُمور، فهذا مقام خطير، يحصل للعرفاء الشامخين المخلصين من عباده، المطهرين من اللوث والدنس، المتحررين عن قيود الطبيعة، الحابسين أنفسهم في ذات الله، الحاكمين بالكتاب، العاملين بسننه وسنن نبيّه حسب اخلاصهم وعرفانهم، حسب استعدادهم وقابليتهم، حسب ما لهم من المقدرة والطاقة، لتحمل عجائب الحقائق الغيبية، ومشاهدة جلال الله وجماله وكبريائه وعظمته، وما لأوليائه من مقامات ودرجات، وما لأعدائه من نار ولهيب ودركات.

ثمّ إنّ لأهل السلوك والعرفان كلاماً في المقام، لا يخلو عن فائدة، وخلاصته :

أنّ اليقين الحقيقي النوراني المنزّه عن ظلمات الأوهام والشكوك، لا يحصل من مجرد أعمال الفكر والاستدلال، بل يتوقف حصوله على الرياضة والمجاهدة وصقل النفس وتصفيتها عن كدورات ذمائم الأخلاق، وإزالة الصدأ عنها، ليحصل لها التجرد التام، والسر أنّ النفس بمنزلة المرآة تنعكس على صفحتها الصور المتعلّقة بالموجودات الخارجية، ولا ريب في أنّ انعكاس الصور من ذواتها على المرآة، يتوقف على تمامية شكلها وصفاء جوهرها، وحصول ما يتمكن انعكاسه عليها وإرتفاع الحائل بينهما، والظفر بالجهة التي فيها الصور المطلوبة، كذلك يجب في انعكاس حقائق الأشياء من العقل على النفس، تحقق اُمور :

١. عدم نقصان جوهرها، بأن لا تكون كنفس الصبي التي لا تتجلىّ لها

٢٢٨

المعلومات، لنقصانها.

٢. صفاؤها عن كدورات ظلمة الطبيعة، وخبائث المعاصي، وهو بمنزلة الصيقل عن الخبث والصدأ.

٣. توجّهها التام وانصراف فكرها إلى المطلوب، بأن لا يكون غارقاً في الاُمور الدنيوية، وهو بمنزلة المحاذاة.

٤. تخليتها عن التعصب والتقليد، وهو بمنزلة إرتفاع الحجب.

٥. التوصل إلى المطلوب بتأليف مقدمات، مناسبة للوصول إليه على الترتيب المخصوص والشرائط المقررة، وهو بمنزلة العثور على الجهة التي فيها الصورة.

ولولا هذه الأسباب المانعة للنفوس عن افاضة الحقائق اليقينية إليها، لكانت عالمة بجميع الأشياء المرتسمة في العوالم الروحانية.

إذ كل نفس لكونها أمراً ربّانياً وجوهراً ملكوتياً بحسب الفطرة، صالحة لمعرفة الحقائق، فحرمان النفس عن معرفة حقائق الموجودات إنّما هو لأحد الموانع.

وقد أشار سيد الرسل إلى أنّ كدورات المعاصي وصدأها مانعة عن ذلك بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم، لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض.

فلو ارتفعت عن النفس، حجب السيئات والتعصب، وحاذت شطر الحق الأوّل لتجلّت لها صورة عالم الملك والشهادة بأسرها، إذ هو متناه يمكن لها الإحاطة به، وصورة عالمي الملكوت وإلجبروت، بقدر ما يتمكّن منه، بحسب مرتبته(١) .

فالعارف الشامخ في عالم المعرفة، إذا اتصف بما ذكرناه: « صار سمع الله الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاه أجابه، وإن سأله أعطاه »(٢) .

__________________

(١) جامع السعادات: ج ١ ص ١٢٥ ـ ١٢٦ ولاحظ مقدمة ابن خلدون.

(٢) وسائل الشيعة، كتاب الصلاة أبواب اعداد الفرائض ونوافلها ـ الباب ١٧ الحديث ٦.

٢٢٩

فالفتوحات الباطنية من المكاشفات والمشاهدات الروحية والالقاءات في الروع، غير مسدودة بنص الكتاب العزيز :

١. قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا ) ( الأنفال ـ ٢٩ ) أي يجعل في قولبكم نوراً تفرّقون به بين الحق والباطل وتميّزون به بين الصحيح والزائف، لا بالبرهنة والاستدلال، بل بالشهود والمكاشفة.

٢. وقال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الحديد ـ ٢٨ ).

إنّ صاحب الكشّاف ومن لفّ لفّه وإن فسره بقوله: « ويجعل لكم يوم القيامة نوراً تمشون به » إلّا أنّ الظاهر خلافه، وأنّ المراد النور الذي يمشي المؤمن في ضوئه طيلة حياته، في معاشه ومعاده، في دينه ودنياه، وهذا النور الذي يحيط به ويضيء قلبه، نتيجة إيمانه وتقاه ويوضّحه قوله سبحانه:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) ( الأنعام ـ ١٢٢ ).

٣. وقال سبحانه:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) ( العنكبوت ـ ٦٩ ).

٤. وقال تعالى:( وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( البقرة ـ ٢٨٢ ).

فإنّ عطف الجملة الثانية على الاُولى يحكي عن صلة بين التقي وتعليمه سبحانه.

٥. وقال سبحانه:( كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ *لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ ) ( التكاثر: ٥ ـ ٦ ).

فإنّ الظاهر أنّ المراد رؤيتها قبل يوم القيامة، رؤية البصيرة، وهي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين على ما يشير إليه قوله تعالى:( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) ( الأنعام ـ ٧٥ ).

وهذه الرؤية القلبية غير محققة قبل يوم القيامة لمن الهاه التكاثر بل ممتنعة في حقه لامتناع اليقين عليهم.

٢٣٠

والمراد من قوله:( ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ) هو مشاهدتها يوم القيامة بقرينة قوله سبحانه بعد ذلك:( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) فالمراد بالرؤية الاُولى رؤيتها قبل يوم القيامة، وبالثانية رؤيتها يوم القيامة(١) .

٦. وقال سبحانه:( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) ( محمد ـ ١٧ ) فلو أنّ الانسان جعل نفسه في مسير الهداية، وطلبها من الله سبحانه زاده تعالى هدى وآتاه تقواه.

٧. وقال سبحانه:( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) ( الكهف ـ ١٣ ) والآية تبيّن حال أصحاب الكهف الذين اعتزلوا قومهم، وتغرّبوا لحفظ إيمانهم ودينهم فزاد الله من هداه في حقهم وربط على قلوبهم كما يقول سبحانه :

٨.( وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلَٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) ( الكهف ـ ١٤ ).

والقرآن يصرح بانفتاح باب الهجرة إلى الله ورسوله، والهجرة كما تشمل الهجرة الظاهرية تشمل الهجرة المعنوية، التي هي عبارة عن السير في مدارج الكمال والإنابة إليه سبحانه.

٩. يقول سبحانه:( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ) ( النساء ـ ١٠٠ )، وإلى الهجرة المعنوية ( هجرة النفوس عن السيئات إلى الطاعات ) يشير النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ يقول :

« من كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى مال يصيبه فهجرته إلى ما هاجر إليه »(٢) فحمل الآية والرواية على خصوص الهجرة الظاهرية والخروج عن الأوطان والتغرّب لحفظ الإيمان هو أحد أبعاد الآية، فهناك بعد آخر، وهو حملها على مهاجرة النفوس من الظلمة إلى النور، ومن الضلال إلى الهداية ،

__________________

(١) الميزان: ج ٢٠ ص ٤٩٦ ـ ٤٩٧.

(٢) صحيح البخاري: ج ١ كتاب الإيمان الباب ٤٢ ص ١٦.

٢٣١

ويؤيده قوله سبحانه :

١٠.( فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ) ( آل عمران ـ ١٩٥ ). فالمراد من المهاجرة هو الهجرة المعنوية حتى تصح مقابلتها مع قوله سبحانه:( وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ ) إلى غير ذلك من الآيات والروايات.

نعم كثرت في القرون الأخيرة عناية طوائف من صوفية أهل السنّة بمسألة الإمامة والإمام ومنهم « النجانية » وقد كتب عنهم العقاد في كتابه « بين الكتب والناس » ومنهم « السنوسية » وقد أفاض فيهم القول البستاني في دائرة معارفه غير أنّ في بعض ما ذكروه خداعاً وضلالاً، وللبحث عن ما يدّعونه من الكشف والعرفان مجال آخر لا يسعه المقام.

انّ الناظر في نهج البلاغة يجد في كلام الإمام عليعليه‌السلام تصريحات وإشارات على فتح هذا الباب وعدم إيصاده فالإمامعليه‌السلام يقول :

« قد أحيى عقله، وأمات نفسه، حتى دق جليله، ولطف غليظه، وبرق له لامع، كثير البرق، فأبان له الطريق، وسلك به السبيل، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه، في قرار الأمن والراحة »(١) ، ويقول :

« هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين »(٢) .

فهذه الكلمات العلوية تبيّن جلياً أنّ القلب يمكن أن يصبح محلاً للإشعاع الإلهي على مدار الزمان وفي زمن الخاتمية.

وقد روى الفريقان عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال من أخلص لله أربعين صباحاً، فجّر الله ينابيع الحكمة من قلبه، على لسانه(٣) .

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ٢١٥.

(٢) نهج البلاغة قصار الكلم الرقم ١٤٧.

(٣) سفينة البحار، مادة « خلص » نقله عن عدة الداعي لابن فهد الحلي.

٢٣٢

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لولا تمريج في قلوبكم وتكثير في كلامكم، لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع »(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « ما أخلص عبد الإيمان بالله أربعين يوماً، إلّا زهّده الله في الدنيا، وبصره داءها ودواءها، وأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه »(٢) .

وهناك كلمة طيبة عن الإمام أمير المؤمنين، تعرب عن رأي الإسلام في المقام، قالعليه‌السلام :

« إنّ الله تعالى جعل الذكر جلاء للقلوب، تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة، وما برح لله، عزت آلاؤه، في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات(٣) ، عباد ناجاهم في فكرهم وكلمهم في ذات عقولهم »(٤) .

فهوعليه‌السلام يصرح بأنّ الذاكرين من عباده قد بلغ بهم المقام إلى درجة يناجيهم الله في سرائر ضمائرهم، ويكلمهم من طريق عقولهم، فهل يوجد مقام أرفع من هذا، أو درجة أشرف من تلك.

وقريب من ذلك ما رواه الديلمي في إرشاده في خطابات له سبحانه لنبيّه في ليلة المعراج بلفظ « يا أحمد ! فمن عمل برضائي الزمه ثلاث خصال، أعرفه: شكراً لا يخالطه الجهل، وذكراً لا يخالطه النسيان، ومحبّة لا يؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين، فإذا أحبّني أحببته وأفتح عين قلبه إلى جلالي، ولا اُخفي عليه خاصّة خلقي، واُناجيه في ظلم الليل ونور النهار، حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي، واُعرفه السرّ الذي سترته عن خلقي، وألبسه الحياء حتى يستحي منه الخلق كلهم، ويمشي على الأرض مغفوراً له، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً، ولا اُخفي عليه شيئاً

__________________

(١) حديث مشهور.

(٢) سفينة البحار، مادة « ربع ».

(٣) التخصيص بعد التعميم فلا يضر بالمطلوب لو كان المراد منه الفترة بين المسيح وبعثة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(٤) نهج البلاغة، الخطبة ٢١٧.

٢٣٣

من جنّة ولا نار، واُعرّفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول والشدة. وما اُحاسب به الأغنياء والفقراء والجهال والعلماء ـ إلى أن قال: ـ يا أحمد ! اجعل همّك هماً واحداً، واجعل لسانك لساناً واحداً، واجعل بدنك حياً لا يغفل أبداً، من غفل عنّي لا اُبالي بأي واد هلك »(١) .

وهذه الرواية توقفنا على أنّ المعرفة الحقيقية، التي تحيى بها نفوسنا، لا تستوفى بالسير الفكري، ولا يقف السالك في سبيل الحق على هذه الاُمور، إلّا بتهذيب النفوس وتطهير القلوب والانقطاع إلى الربّ عن كل شيء، حتى يرفع دونه كل حجاب مضروب، وكل غشاء مسدول، فيعرف ربّه وأسماءه، وصفاته حق المعرفة، ويشاهده بعين القلب ويسمع كلامه وكلام ملائكته، ويرى عظمته وسرادقات كبريائه.

فهذه الفتوحات الباطنية بمراتبها، ميسّرة في وجه الاُمّة، لم توصد قط.

الاسفار المعنوية الأربعة :

ثم إنّ للسالك من العرفاء والأولياء أسفاراً، وهي على ما اعتبرها أهل الشهود أربعة.

أحدها: السفر من الخلق إلى الحق.

ثانيها: السفر من الحق إلى الحق بالحق.

ثالثها: السفر من الحق إلى الخلق بالحق.

رابعها: السفر من الخلق إلى الخلق بالحق.

فبعض هذه الأسفار وقطع منازلها وإن كان يختص بأنبيائه ورسله، إلّا أنّ السفر الأوّل والثاني، لا يختصان بهم، بل يتيسّران لكل سالك الهي، لا يقصد إلّا الاناخة في ساحة ربّه، والنزول على طاعته، بلا استثناء، ودونك توضيح ذينك السفرين: ففي السفر الأوّل، أعني السفر من الخلق إلى الحق، ترفع الحجب المظلمة، بين السالك وربّه ،

__________________

(١) إرشاد القلوب للديلمي: ص ٣٢٩.

٢٣٤

فيشاهد جمال الحق ويفني ذاته فيه، ولأجل ذلك يسمى مقام الفناء. وعندما ينتهي السفر الأوّل يأخذ السالك في السفر الثاني، وهو السفر من الحق إلى الحق بالحق وإنّما يكون بالحق لأنّه صار ولياً، وصار وجوده وجوداً حقّانياً، فيأخذ السلوك من موقف الذات إلى الكمالات واحداً بعد واحد حتى يشاهد جميع كمالاته فيعلم جميع أسمائه كلّها إلّا ما استأثر به عنده، فتصير ولايته تامة، ويفني ذاته وأفعاله وصفاته في ذات الحق وصفاته وأفعاله، فبه يسمع، وبه يبصر وبه يمشي وبه يبطش، وحينئذ تتم دائرة الولاية.

ولعمري لولا خوف الإطالة، والخروج عمّا هو الهدف الأسمى للرسالة، لشرحت للقارئ الكريم، تلكم الاسفار والمواطن واحداً بعد واحد، وكفانا ما حبرته يراعة العرفاء الشامخين في هذا الباب(١) .

وفي الاُمّة الإسلامية رجالاً مخلصون، لا يدرك شأوهم ولا يشق غبارهم، اُولئك أولياء الله في أرضه وخلفاؤه في خلقه، تغبطهم النبوّة، كما قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ لله عباداً ليسوا بأنبياء، تغبطهم النبوّة(٢) .

هب أنّ النبوّة قد اُوصد بابها، إلّا أنّ باب الفيض المعنوي، من جانب الإمام الحيعليه‌السلام بعد مفتوح لم يوصد(٣) .

__________________

(١) راجع تعاليق الأسفار الأربعة ج ١ ص ١٣ ـ ١٨ للحكيم السبزواري.

(٢) حكاه صدر المتألّهين في مفاتيح الغيب، وقال: هذا الحديث ممّا رواه المعتبرون من أهل الحديث، من طريقة غيرنا، نعم لم أقف عليه مسنداً حتى اُحقق حاله.

(٣) وقد دلّت البراهين الكلامية على أنّ الأرض لا تخلو عن حجّة، وأنّه لا بد للناس في كل دورة وكورة من إمام معصوم يهدي إلى الرشد ـ وقد تفرّدت به الشيعة عن سائر فرق الإسلام.

وقال أمير المؤمنين: اللّهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة: أمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته وكم ذا وأين اُولئك ؟ اُولئك ـ والله ـ الأقلون عدداً والأعظمون عند الله قدراً، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعونها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقه بالمحل الأعلى، اُولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه، آه آه شوقاً إلى رؤيتهم ( نهج البلاغة باب الحكم رقم ١٤٧ ).

٢٣٥

وقد حقق في أبحاث الولاية الالهية أنّ وجه الأرض والمجتمع الانساني لا يخلو أبداً من انسان كامل ذي يقين، مكشوف له عالم الملكوت، وله ولاية على الناس في أعمالهم، يهديهم إلى الحق ويوصلهم إلى المطلوب بأمر من الله سبحانه، كما هو شأن الإمام في كل عصر ودور، لقوله سبحانه:( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) ( السجدة ـ ٢٤ ).

فهذا الفيض الالهي والعرفان المعنوي، لم يزل يجري علي المجتمع البشري بأمر منه سبحانه، وينزل عليهم من طريق الإمام، ليهديهم سبيل الحق ويرشدهم إلى مدارج الكمال، حسب استعداداتهم وقابلياتهم.

قال سيدنا الاُستاذقدس‌سره : إنّه سبحانه كلّما تعرض لمعنى الإمامة تعرض معها للهداية، تعرض التفسير قال تعالى في قصة إبراهيم:( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ *وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ( الأنبياء ـ ٧٢ ـ ٧٣ ).

وقال سبحانه:( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) ( السجدة ـ ٢٤ ).

فوصفهم بالهداية وصف تعريف، ثمّ قيد هذا الوصف بالأمر فبيّن أنّ الإمامة ليست مطلق الهداية بل هي الهداية التي تقع بأمر الله، فالإمام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم وهدايتهم، إيصالهم إلى الكمال بأمر الله دون مجرد اراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول وكل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة(١) .

فهذا الباب من الفتوحات الغيبية والفيوض الالهية مفتوح، في وجه الاُمّة لم يوصد أبداً.

__________________

(١) الميزان: ج ١ ص ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

٢٣٦

مثل الفضيلة والأخلاق

قد كان لأمير المؤمنين صفوة من الأصحاب يستدر بهم الغمام، ويندر مثالهم في الدهر كزيد وصعصعة ابني صوحان واُويس القرني والأصبغ بن نباتة، ورشيد الهجري، وميثم التمار، وكميل بن زياد، وأشباههم، وكان هؤلاء مثلاً للفضيلة وكرم الاخلاص وخزنة للعلم والاسرار، منحهم أمير المؤمنين من سابغ علمه واستأمنهم على غامض أسراره ممّا لا يقوى على احتماله غير أمثالهم فجمعوا العلم، سرّه وجهره، والفضائل، نفسية وخلقية، ذاتية وكسبية، والعبادة قولاً وعملاً وجارحة وجانحة، فاكتسبوا من أمير المؤمنين جميع الفعال والخصال وأخذوا عنه أسرار العلم وعلم الأسرار، حتى زكت بهم النفوس وكادوا أن يزاحموا الملائكة المقرّبين في صفوفهم، وغبطهم الملأ الأعلى على ما اتصفوا به من كمال الذات والصفات، فصاروا أهلاً، لأن يأتمنهم الإمام على نفائس الأسرار وأسرار النفائس فكادوا أن يكونوا بعد التصفية ملائكة مجردة عن النقائص، لا يعرفون الرذيلة ولا تعرفهم.

فهذا ميثم، عظيم من حواري علي، وولي من أوليائه وأحد خريجي مدرسته العالية، الذين نهجوا في السير على هداه واتبعوه قائداً وقدوة في أمره ونهيه فصار مستودع أسراره وحقل علومه وخاصة حواريه.

كان رسول الله يخلو بعلي يناجيه، وكانت اُم سلمة زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تلك البرة الطاهرة، تلتقط من المناجات درراً ثمينة، فممّا التقطته منها، وصاياه لأبي الحسنعليه‌السلام في ميثم، فدخل ميثم على اُمّ سلمة وهو يريد الحج، فقالت له: طالما سمعت رسول الله يذكرك في جوف الليل ويوصي بك علياً.

وكان ميثم يصحب الإمام أحياناً إلى الأماكن الخالية وعند خروجه في الليل إلى الصحراء، فيستمع منه الأدعية والمناجاة، وكثيراً ما يجلس إليه الإمام في السوق وأفواج الناس ذاهبة وآيبة، ينظرون الإمام وهو في دكان « ميثم » يسامره ويحادثه ويلقي إليه

٢٣٧

دروسه ويميره من العرفان الالهي، فعلّمه علم المنايا والبلايا، أي علم الآجال وعلم الحوادث والوقائع التي يبتلى بها الناس، حتى أخبره أنّه سيصلب على باب عمرو بن حريث.

لم يكن ميثم فريداً من بين أصحاب الإمام وحوارييه، وإن كان أحد عظمائهم إذ أنّه قد أودع هذا العلم عند من كان يأتمنه عليه من أفذاذ أصحابه الآخرين، نظراء رشيد الهجري واُويس القرني، وعمار بن ياسر وعمرو بن الحمق الخزاعي وكميل بن زياد ومن يشابههم في الإيمان الشامخ.

ولولا خوف الإطالة والخروج عن الغاية، لنقلنا كثير ممّا دار بينهم من المحادثات حول البلايا والمنايا.

فهذا ميثم نفسه، وقد قيد على خشبة الصلب يقول للناس رافعاً صوته، أيها الناس من أراد أن يسمع الحديث المكنون عن علي بن أبي طالبعليه‌السلام قبل أن اُقتل فوالله لأخبرنّكم بعلم ما يكون إلى أن تقوم الساعة، وما يكون من الفتن(١) .

لم يكن عليعليه‌السلام نسيج وحده في تربية هؤلاء العظماء الذين صقلت نفوسهم وتجلّت لهم صور ما في الكون من الحقائق والموجودات، بل سبقه سيد الرسل فأدّب أناساً، نهجوا في السير على هداه، واتبعوه في أمره ونهيه، وساروا في الطريق الذي رسمه لهم، فكانوا مثلاً أعلى للفضيلة وكرم الأخلاق وخزنة للعلم والأسرار، فشاهدوا الخليقة وما فيها من حقائق غامضة، ورأوا ملكوت السماوات والأرض، وعاينوا الحقائق العلوية والعوالم الروحية، من قبل أن يخرجوا من الدنيا.

روى أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال: استقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حارثة ابن مالك بن النعمان الأنصاري، فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك ؟ فقال: يا رسول الله مؤمن حقاً، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لكل شيء حقيقة، فما حقيقة قولك ؟ فقال :

__________________

(١) راجع في ترجمة ميثم، كتب الرجال، ولا سيما « قاموس الرجال » ج ٩ ص ١٦٤ ـ ١٧١ وما دبجته براعة الاُستاذ المغفور له الشيخ محمد حسين المظفر حول حياة ميثم.

٢٣٨

يا رسول الله ! عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري كأنّي أنظر إلى عرش ربّ ـ ي وقد وضع للحساب، وكأنيّ أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون في الجنّة وكأنيّ أسمع عواء أهل النار في النار، فقال له رسول الله: عبد نوّر الله قلبه، أبصرت فاثبت، فقال: يا رسول الله اُدع الله لي أن يرزقني الشهادة معك، فقال: اللّهمّ أرزق حارثة الشهادة، فلم يلبث إلّا أياماً حتى بعث رسول الله سرية فبعثه فيها فقاتل، فقتل تسعة أو ثمانية ثم قتل(١) .

أخرج الكليني عن إسحاق بن عمار، قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كيف أصبحت يا فلان ؟ قال: أصبحت يارسول الله موقناً، فعجب رسول الله من قوله وقال: إنّ لكل يقين حقيقة، فما حقيقة يقينك ؟ فقال: إنّ يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب، وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم، وكأنيّ أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون، وعلى الأرائك متّكئون، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذّبون مصطرخون، وكأنّي الآن أسمع زفير النار، يدور في مسامعي فقال رسول الله لأصحابه: هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان(٢) .

هذا هو الإيمان المحض والعبودية الخالصة بل أنّه لشأن لا يتوصل إليه بالحس والعلم.

فكم في الاُمّة الإسلامية من ذوي الرتب العلوية، رجال وأبدال شملتهم العناية الالهية، فجردوا أنفسهم عن أبدانهم، حينما أرادوا، فعاينوا الحقائق واطلعوا على الأسرار.

وقد تضافرت الأحاديث على أنّ في الاُمّة الإسلامية مثل الاُمم السابقة رجالاً مخلصين محدّثين ( بالفتح ) يطلعون على المغيبات باحدى الطرق التي ألمحت إليها

__________________

(١) الكافي: ج ٢ ص ٥٤.

(٢) الكافي: ج ٢ ص ٥٣.

٢٣٩

الروايات.

والمحدث على ما تشرحه الأحاديث من تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ولا رؤية صورة، أو يلهم له ويلقى في روعه شيء من العلم على وجه الالهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره.

روى البخاري عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لقد كان في من كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء(١) .

روى شيخ الطائفة باسناده عن أبي عبد الله قال كان عليعليه‌السلام محدثاً وكان سلمان محدثاً، قال: قلت فما آية المحدث ؟ قال: يأتيه ملك فينكت في قلبه ومنّا من يخاطب(٢) .

قال صدر المتألهين في الفاتحة الحادية عشرة :

« اعلم أنّ الوحي إذا اُريد به تعليم الله عباده، فهو لا ينقطع أبداً، وإنّما انقطع الوحي الخاصّ بالرسول والنبي من نزول الملك على اُذنه وقلبه »(٣) .

نعم ليس كل من رمى أصاب الغرض، وليست الحقائق رمية للنبال، وإنّما يصل إليها الأمثل فالأمثل، فلا يحظى بما ذكرناه من المكاشفات الغيبية والفتوحات الباطنية إلّا النزر القليل ممّن خلص روحه وصفا قلبه، كما كان كذلك في الاُمم السابقة أيضاً.

* * *

__________________

(١) صحيح البخاري: ج ٢ ص ١٤٩.

(٢) أمالي الطوسي: ص ٢٦٠.

(٣) مفاتيح الغيب: ص ١٢.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

إلى ما يريدون ، وأقبل الإمام تحفّ به البقيّة الطيّبة من صحابة الرسول (صلّى الله عليه وآله) فقوبل بموجة من الهتافات المؤيّدة له ، وقد أعلنوا عن رغبتهم الملحّة في أن يتولّى شؤون المسلمين ، واعتلى الإمام أعواد المنبر فخاطب الجماهير قائلاً : «أيها الناس ، إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلاّ مَن أمّرتم ، وقد افترقنا بالأمس وكنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم ، ألا وأنه ليس لي أن آخذ درهماً دونكم ، فإن شئتم قعدت لكم وإلاّ فلا أأخذ على أحد».

وألقى الإمام (عليه السّلام) الأضواء على سياسته المالية النيّرة ، فهو يحتاط كأشدّ ما يكون الاحتياط بأموال الدولة ، فلا يستأثر بأيّ شيء منها ، ولا ينفق درهماً على مصالحه وشؤونه الخاصة ، وهو يشير بذلك إلى الذين تمرّغوا في أموال الخزينة المركزية أيّام الحكم المباد فنهبوا الأموال ، وأخذوها بغير حلّها ، وإنه إذا تولّى شؤون المسلمين فسوف يحرمون منها ويعاملون كبقية أفراد الشعب ، ويعود المال حسب ما يريد الله للاُمّة لا للحاكم.

وتعالت الهتافات من جميع جنبات المسجد وهي تعلن الإصرار الكامل على انتخابه ، قائلين بلسان واحد : نحن على ما فارقناك عليه بالأمس.

وتدافعت الجماهير كالموج المتلاطم إلى البيعة ، وتقدّم طلحة بيده الشلاّء التي سرعان ما نكث بها عهد الله فبايع ، فتطيّر منه الإمام (عليه السّلام) وطفق يقول : «ما أخلقه أن ينكث»(1) .

وتوالت الجماهير تبايع الإمام ، وهي إنما تبايع الله ورسوله ، وبايعته القوات المسلحة من المصريِّين والعراقيِّين ، وبايعه عرب الأمصار وأهل

__________________

(1) العقد الفريد 3 / 93.

٤٠١

بدر والمهاجرين والأنصار عامّة(1) . ولم يظفر أحد من الخلفاء بمثل هذه البيعة في شمولها واتّساعها ، وعمّت الأفراح والمسرّات جميع المسلمين ، وقد وصف الإمام (عليه السّلام) مدى ابتهاج الناس وسرورهم ببيعته بقوله : «وبلغ من سرور الناس ببيعتهم أن ابتهج بها الصغير ، وهدج(2) إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب»(3) .

لقد ابتهج المسلمون بهذه البيعة التي تحقق أهدافهم ، وتحقق ما يصبون إليه من العزّة والكرامة ، وقد كانت بيعته يوم السبت لإحدى عشر ليلة بقيت من ذي الحجة(4) .

وقد انبرى أعلام الصحابة فأعلنوا أمام جماهير الاُمّة عن تأييدهم الشامل ودعمهم الكامل لحكومة الإمام ، وقد ذكرنا ذلك بصورة مفصّلة في كتابنا (حياة الإمام الحسن) ، كما ذكرنا فيه عرضاً للوفود التي أقبلت من أغلب مناطق العالم الإسلامي وهي تشارك المسلين فرحتهم ، وتعلن عن دعمها لبيعة الإمام.

تطهير جهاز الدولة :

وأوّل عمل قام به الإمام فور توليته لمنصب رئاسة الدولة هو عزل ولاة عثمان الذين سخّروا جهاز الحكم لمصالحهم الخاصة ، واثروا ثراءً فاحشاً مما اختلسوه من بيوت المال ، وقد عزل معاوية بن أبي سفيان ، ويقول

__________________

(1) أنساب الأشراف 5 / 22.

(2) هدج : الشيخ الكبير الذي يمشي في ارتعاش.

(3) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 1 / 376 ، الطبعة الثالثة.

(4) أنساب الأشراف 1 ق 1.

٤٠٢

المؤرّخون : إنّه أشار عليه جماعة من المخلصين بإبقائه في منصبه ريثما تستقر الأوضاع السياسية ثمّ يعزله فأبى الإمام ، وأعلن أنّ ذلك من المداهنة في دينه ، وهو مما لا يقره ضميره الحيّ الذي لا يسلك أيّ طريق يبعده عن الحقّ ، ولو أبقاه ساعة لكان ذلك تزكيةً له وإقراراً بعدالته ، وصلاحيته للحكم. لقد تحرّج الإمام أشدّ ما يكون التحرّج في أيّام حكومته فابتعد عن جميع ألوان السياسة المبتنية على الخداع والتضليل.

تأميم الأموال المختلسة :

وانطلق رائد العدالة الإسلاميّة يقيم في ربوع الدولة الإسلاميّة حكم الله ويرفع راية الحق ، وقد أصدر قراره الحاسم بتأميم الأموال المختلسة التي نهبها الحكم المباد ، وبادرت السلطة التنفيذية بوضع اليد على القطائع التي أقطعها عثمان لذوي قرباه ، والأموال التي استأثر بها عثمان ، وقد صودرت أمواله حتّى سيفه ودرعه ، وأضافها الإمام (عليه السّلام) إلى بيت المال ، وقد فزع بنو اُميّة كأشدّ ما يكون الفزع ، واندفعوا إلى الإنكار على الإمام (عليه السّلام).

يقول الوليد بن عقبة يعاتب بني هاشم ، وينكر عليهم ذلك يقول :

بني هاشمٍ ردّوا سلاحَ ابنِ اُختكُمْ

ولا تنهبوهُ لا تحلُّ مناهبُهْ

بني هاشمٍ كيف الهوادةُ بيننا

وعند عليٍّ درعُهُ ونجائبُهْ

بني هاشمٍ كيف التوددُ منكمُ

وبزّ ابن أروى فيكمُ وحرائبُهْ

بني هاشمٍ ألاّ تردّوا فإننا

سواءٌ علينا قاتليه وسالبُهْ

بني هاشمٍ إنّا وما كان منكمُ

كصدعِ الصفا لا يشعب الصدعَ شاعبُهْ

قتلتمْ أخي كيما تكونوا مكانَهُ

كما غدرتْ يوماً بكسرى مرازبُهْ

٤٠٣

وألمّت هذه الأبيات بالتوتر والأحقاد التي أترعت بها نفوس الاُمويِّين ، فهم يرون الإمام هو الذي قام بالحركة الانقلابية التي أطاحت بحكومة عثمان ، وهم يطالبون الهاشميِّين بردّ سيف عثمان ودرعه وسائر ممتلكاته التي صادرتها حكومة الإمام (عليه السّلام) ، وقد شاع هذا الشعر وردّدته الأندية وحفظه الناس ، وقد ردّ عليه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بأبيات منها :

فلا تسألونا سيفكُمْ إنّ سيفكُمْ

اُضيع وألقاهُ لدى الروعِ صاحبُهْ

وشبّهتهُ كِسرى وقد كان مثلَهُ

شبيهاً بكسرى هديهُ وضرائبُهْ(1)

وطعن هذا الشاعر بشخصية عثمان فقد رماه بالخور ، وأنه ألقى سيفه لدى الروع حينما هجم عليه الثوار ، فلم يذبّ به عن نفسه ، ولم يقُم بأيّ دور في الحماية والدفاع عنه ، وإنما استسلم لسيوف الثوار التي تناهبت شلوه.

فزع القرشيّين :

وفزعت القبائل القرشية وأصابها الذهول فقد أيقنت أنّ الإمام سيصادر الأموال التي منحها لهم عثمان بغير حق ، فقد كتب عمرو بن العاص رسالة إلى معاوية جاء فيها : ما كنت صانعاً فاصنع إذا قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه ، كما تقشر عن العصا لحاها(2) .

لقد خافت قريش على ثرواتها ، وخافت على نفوذها ومكانتها ، فقد عرفت الإمام وعرفت مخططاته الهادفة إلى إقامة الحق والعدل ، وتحطيم الامتيازات الغير المشروعة ، وأنه سيعاملهم كبقية أفراد الشعب ؛ فلذا أظهرت

__________________

(1) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 1 / 343 ، الطبعة الثانية.

(2) الغدير 8 / 288.

٤٠٤

أحقادها البالغة على حكومته ، وقد وصف ابن أبي الحديد مدى فزعهم واضطرابهم بقوله :

كأنها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمّه من إظهار ما في النفوس ، وهيجان ما في القلوب حتّى الأحلاف من قريش ، والأحداث والفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه وفتكاته في أسلافهم وآبائهم ، فعلوا ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله(1) .

لقد راح الحسد ينهش قلوب القرشيّين ، والأحقاد تنخر ضمائرهم ، فاندفعوا إلى إعلان العصيان والتمرّد على حكومة الإمام ، وسنذكر لذلك عرضاً في البحوث الآتية.

التياع الإمام (عليه السّلام) :

وامتحن الإمام (عليه السّلام) امتحاناً عسيراً من الاُسر القرشية ، وقد عانى منها أشدّ ألوان المحن والخطوب في جميع أدوار حياته ، يقول (ع) : «لقد أخافتني قريش صغيراً ، وأنصبتني كبيراً ، حتّى قبض الله رسوله فكانت الطامة الكبرى ، والله المستعان على ما تصفون»(2) .

وتحدّث (عليه السّلام) في رسالته إلى أخيه عقيل عن إجماعهم على حربه ، كما أجمعوا على حرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، يقول : «فدع عنك قريشاً في الضلال ، وتجوالهم في الشقاق ، وجماحهم في التيه ، فإنهم قد أجمعوا على حرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قبلي ، فجزت قريشاً

__________________

(1) شرح نهج البلاغة.

(2) شرح نهج البلاغة 4 / 108.

٤٠٥

عنّي الجوازي ؛ فقد قطعوا رحمي ، وسلبوني سلطان ابن اُمّي»(1) .

ولم يعن بهم الإمام ، وانطلق يؤسس معالم سياسته العادلة ، ويحقق للاُمّة ما تصبوا إليه من العدالة الاجتماعية ، وقد أجمع رأيه على أن يقابلهم بالمثل ، ويسدّد لهم الضربات القاصمة إن خلعوا الطاعة وأظهروا البغي ، يقول (عليه السّلام) : «ما لي ولقريش! لقد قتلتهم كافرين ، ولأقتلنّهم مفتونين. والله لأبقرنّ الباطل حتّى يظهر الحقّ من خاصرته ، فقل لقريش فلتضجّ ضجيجها»(2) .

لقد جهدت قريش على إطفاء نور الله ، وتدمير المثُل الإسلاميّة بكل قواها ، في محاربة الإمام والإطاحة بحكومته ، كما جهدت من قبل على حرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وردّ رسالة الإسلام لمصدرها.

سياسة الإمام (عليه السّلام) :

لا أعرف حاكماً سياسياً أو مصلحاً اجتماعياً تبنّى العدل بجميع رحابه ومفاهيمه كالإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقد بنى حكمه على الحقِّ الخالص والعدل المحض ، وتبنّى مصالح المظلومين والمضطهدين على اختلاف قوميّاتهم وأديانهم ، وقد أجهد نفسه وكلّفها رهقاً فيما بسطه من صنوف العدل والمساواة ؛ فكان يشرف على كل بادرة في رقاع دولته ، ويتفقّد جميع شؤون رعيّته ؛ فكان يطيل التفكير في البؤساء والضعفاء في جميع أرجاء دولته الممتدّة الأطراف ، وقد رأى أن يشاركهم في جشوبة العيش ، وخشونة اللباس ، ويبيت طاوياً ؛ إذ لعلّ بالحجاز أو اليمامة مَن لا عهد له بالقوت ،

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 16 / 36.

(2) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 1 / 341.

٤٠٦

ولا طمع له بالشبع ؛ لذلك ضيّق على نفسه ، وحرّم عليها جميع متع الحياة وحملها على الجهد والحرمان ، واتجه فكره النيّر وضميره الحي إلى إسعاد الناس ، ونشر الدعة والرفاهية فيهم وفيما يلي عرضاً موجزا لسياسته.

سياسته المالية :

أمّا السياسة المالية التي انتهجها الإمام (عليه السّلام) فإنما هي امتداد لسياسة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ، الذي عنى بتطوير الحياة الاقتصادية ، وإنعاش الحياة العامة في جميع أنحاء البلاد ، بحيث لا يبقى فقير أو بائس أو محتاج ، وذلك بتوزيع ثروات الاُمّة توزيعاً عادلاً على جميع القطعات الشعبية.

أمّا مظاهر تلك السياسة الاقتصادية الخلاّقة فهي :

1 ـ المساواة في التوزيع والعطاء ، فليس لأحد على أحد فضل أو امتياز ، وإنما الجميع على حدّ سواء ، فلا فضل للمهاجرين على الأنصار ولا لاُسرة النبي (صلّى الله عليه وآله) وأزواجه على غيرهم ، ولا للعربي على غيره ، وقد طبّق الإمام (عليه السّلام) هذه الجهة بصورة دقيقة وشاملة فكان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ قد ساوى بين المسلمين في العطاء ، ولم يميّز قوماً على آخرين ؛ فقد وفدت إليه سيّدة قرشية من الحجاز طالبة منه الزيادة في عطائها ، وقد التقت قبل أن تصل إليه بعجوز فارسية كانت مقيمة في الكوفة فسألتها عن عطائها فإذا به يساوي ما خصص لها ، فأمسكت بها وجاءت بها إليه ، وقد رفعت عقيرتها قائلة : هل من العدل أن تساوي بيني وبين هذه الأمة الفارسيّة؟!

فرمقها الإمام (عليه السّلام) بطرفه ، وتناول قبضة من التراب وجعل ينظر إليه ويقلّبه بيده وهو يقول :

٤٠٧

«لم يكن بعض هذا الترب أفضل من بعض». وتلا قوله تعالى :( إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) .

وقد أثارت هذه العدالة في التوزيع غضب الرأسماليين من القرشيين وغيرهم ، فأعلنوا سخطهم على الإمام ، وقد خفّت إليه جموع من أصحابه تطالبه بالعدول عن سياسته ، فأجابهم الإمام : «أَ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ؟ وَاللَّهِ لا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً. لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ؟! أَلا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ ، وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الآخِرَةِ ، وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللَّهِ»(1) .

لقد كان الإمام يهدف في سياسته المالية إلى إيجاد مجتمع لا تطغى فيه الرأسمالية ، ولا تحدث فيه الأزمات الاقتصادية ، ولا يواجه المجتمع أيّ حرمان أو ضيق في حياته المعاشية.

لقد أدّت هذه السياسة المشرقة ، المستمدّة من واقع الإسلام وهديه ، إلى إجماع القوى الباغية على الإسلام أن تعمل جاهدة على إشاعة الفوضى والاضطراب في البلاد ، مستهدفة بذلك الإطاحة بحكومة الإمام.

ويرى المدائني : إنّ من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى تخاذل العرب عن الإمام اتّباعه لمبدأ المساواة ، حيث كان لا يفضل شريفاً على مشروف في العطاء ، ولا عربياً على عجمي(2) . لقد ورمت آناف اُولئك الطغاة من سياسة الإمام (عليه السّلام) التي

__________________

(1) نهج البلاغة ـ محمد عبده 25 / 10.

(2) شرح ابن أبي الحديد 1 / 180.

٤٠٨

هدّمت الحواجز ، وألغت الطبقية ، وساوت بين جميع أبناء المسلمين لا في العطاء فقط وإنما في جميع الحقوق والواجبات.

2 ـ الإنفاق على تطوير الحياة الاقتصادية وإنشاء المشاريع الزراعية ، والعمل على زيادة الإنتاج الزراعي الذي كان العمود الفقري للاقتصاد العام في تلك العصور ، وقد أكّد الإمام في عهده لمالك الأشتر على رعاية إصلاح الأرض قبل أخذ الخراج منها ، يقول (عليه السّلام) : «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ؛ لأن ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة ، ومَن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ، ولم يستقم أمره إلاّ قليلاً»(1) .

لقد كان أهم ما يعني به الإمام (عليه السّلام) في سياسته الاقتصادية زيادة الدخل الفردي ، ونشر الرفاهية والرخاء بصورة شاملة في جميع أنحاء العالم الإسلامي ، وقد حفلت رسائله إلى ولاته بالاهتمام في هذه الجهة ، فقد أكّد عليهم لزوم الإنفاق على تطوير الاقتصاد العام حتّى لا يبقى أيّ شبح للفقر والحرمان في البلاد.

3 ـ عدم الاستئثار بأيّ شيء من أموال الدولة ، فقد تحرّج الإمام فيها كأشدّ ما يكون التحرّج ، وقد أثبتت المصادر الإسلاميّة بوادر كثيرة من احتياطه البالغ فيها ، فقد وفد عليه أخوه عقيل طالباً منه أن يمنحه الصلة ، ويرفّه عليه حياته المعاشية ، فأخبره الإمام : إنّ ما في بيت المال للمسلمين ، وليس له أن يأخذ منه قليلاً ولا كثيراً ، وإذا منحه شيء فإنه يكون مختلساً ، فلم يفقه عقيل ذلك وأخذ يلحّ عليه ويجهد في مطالبته ، فأحمى له الإمام (عليه السّلام) حديدة وأدناها منه ، وكاد أن يحترق من ميسمها ، وضجّ ضجيج ذي

__________________

(1) نهج البلاغة ـ محمد عبده 3 / 106.

٤٠٩

دنف ، فلمّا أفاق أجمع رأيه على الالتحاق بمعاوية ، لينعم بصلاته وهباته التي يختلسها من أموال المسلمين.

لقد أجمع المؤرّخون على أنّ الإمام (عليه السّلام) قد أجهد نفسه وأرهقها من أمره عسراً ، فلم ينعم هو ولا أهل بيته من خيرات الدولة ، ولم يصطفِ منها أي شيء ، وقد نفر منه ذوو الأطماع ، وراح يوصي بعضهم بعضاً في الابتعاد عن الإمام.

يقول خالد بن معمر الأوسي لعلباء بن الهيثم ـ وكان من أصحاب علي ـ : اتق الله يا علباء في عشيرتك ، وانظر لنفسك ولرحمك ماذا تؤمل عند رجل أردته على أن يزيد في عطاء الحسن والحسين دريهمات يسيرة ريثما يرأبان بها ظلف عيشهما فأبى وغضب ، فلم يفعل(1) ؟!

إنّ الإنسانية على ما جرّبت من تجارب ، وبلغت من رقي وإبداع في الأنظمة الاقتصادية فإنها بأي حال لم تستطع أن تنشأ مثل هذا النظام الاقتصادي الذي انتهجه الإمام ؛ فإنه يرتبط بواقع الحياة ، ولا يشذّ عن سننها ، وهو يهدف قبل كل شيء إلى عدالة التوزيع وبسط الرفاهية على الجميع ، والقضاء على الحاجة والحرمان.

وعلى أيّ حال فإن السياسة الاقتصادية الخلاّقة التي تبنّاها الإمام قد ثقلت على القوى المنحرفة عن الإسلام ، فانصرفوا عن الإمام وأهل بيته ، والتحقوا بالمعسكر الاُموي الذي يضمن لهم الاستغلال والنهب ، وسلب قوت الشعب والتلاعب باقتصاد البلاد.

وقد كان قادة الجيش الذي خفّ لحرب ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من ذوي الثروات الطائلة ، كعمرو بن حريث(2) ، وشبث بن ربعي ، وحجار بن أبجر وغيرهم ممن منحتهم الحكومة

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 10 / 250.

(2) تاريخ الطبري 1 / 5 / 2600 ، وجاء فيه : إنّ عمرو بن حريث كان أكثر أهل الكوفة مالاً.

٤١٠

الاُمويّة الثراء العريض ، فاندفعوا إلى حرب الإمام ؛ حفظاً على مصالحهم الشخصية ، وإبقاءً على ثرواتهم التي تكوّنت بغير وجه مشروع ؛ فقد أيقنوا أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) إذا استتبّ له الأمر فإنه لا يشذّ عن منهج أبيه وسياسته ، وأنهم سيفقدون المنح والهبات التي تغدقها عليهم الحكومة الاُمويّة ، وسنذكر ذلك مشفوعاً بالتفصيل في البحوث الآتية ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن سياسته المالية.

سياسته الداخليّة :

وأجهد الإمام (عليه السّلام) نفسه على أن يحقق بين الناس العدل الاجتماعي والعدل السياسي ، ويحملهم على الطريق الواضح الذي لا التواء فيه ، ويسير فيهم بسياسة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الهادفة إلى تطبيق العدل ، وبسط الحقّ بين القريب والبعيد ، بحيث لا يسمع أنين لمظلوم أو محروم ، ولا يعد ظل للحاجة والبؤس حسبما يريده الله في الأرض. لقد عنى الإمام (عليه السّلام) بإزالة جميع أسباب التخلّف والانحطاط ، وتحقيق حياة كريمة يجد فيها الإنسان جميع متطلّبات حياته من الدعة والأمن والرخاء والاستقرار ، ونلمع فيما يلي إلى بعض مظاهرها :

المساواة :

أمّا المساواة بين الناس فهي من العناصر الذاتية في سياسة الإمام (عليه السّلام) وقد تبنّاها في جميع أدوار حكومته ، ورفع شعارها عالياً حتّى عُرف برائد العدل والمساواة في الأرض ؛ أمّا مظاهرها فهي :

٤١١

1 ـ المساواة في الحقوق والواجبات.

2 ـ المساواة في العطاء.

3 ـ المساواة أمام القانون.

وقد ألزم الإمام عمّاله وولاته بتطبيق المساواة بين الناس على اختلاف قومياتهم وأديانهم ، يقول (عليه السّلام) في بعض رسائله إلى عمّاله : «واخفض للرعيّة جناحك ، وابسط لهم وجهك ، وألن لهم جنابك ، وآس بينهم في اللحظة والنظرة ، والإشارة والتحيّة ؛ حتّى لا يطمع العظماء في حيفك ، ولا ييأس الضعفاء من عدلك»(1) .

ولم تقنّن في أيّ دين أو مذهب اجتماعي مثل هذه المساواة المشرقة التي تنشد كرامة الإنسان وعزّته ، وتؤلف ما بين المشاعر والعواطف ، وتجمع الناس على صعيد من المحبّة والإخاء.

الحريّة :

أمّا الحرية عند الإمام فهي من الحقوق الذاتية لكل إنسان ، ويجب أن تتوفّر للجميع ، شريطة أن لا تستغل في الاعتداء والإضرار بالناس. وكان من أبرز معالمها هي :

الحريّة السياسة :

ونعني بها أن تتاح للناس الحرية التامّة في اعتناق أيّ مذهب سياسي دون أن تفرض عليهم السلطة رأياً معاكساً لما يذهبون إليه ، وقد منح الإمام هذه الحرية بأرحب مفاهيمها للناس ، وقد منحها لأعدائه وخصومه الذين تخلّفوا عن بيعته كسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وحسان بن

__________________

(1) نهج البلاغة ـ محمد عبده 2 / 10.

٤١٢

ثابت ، وكعب بن مالك ، ومسلمة بن مخلد ، وأبي سعيد الخدري(1) ، وأمثالهم من أنصار الحكم المباد الذين كان يغدق عليهم عثمان بصلاته وهباته ، فلم يجبرهم الإمام (عليه السّلام) ، ولم يتخذ معهم أيّ إجراء حاسم كما اتخذه أبو بكر ضدّه حينما تخلّف عن بيعته.

كان الإمام يرى أنّ الناس أحرار ، ويجب على الدولة أن توفّر لهم حرّيتهم ما دام لم يخلّوا بالأمن ، ولم يعلنوا التمرّد والخروج على الحكم القائم ، وقد منح (عليه السّلام) الحرية للخوارج ولم يحرمهم عطاءهم ، مع العلم أنهم كانوا يشكّلون أقوى حزب معارض لحكومته ، فلمّا سعوا في الأرض فساداً ، وأذاعوا الذعر والخوف بين الناس انبرى إلى قتالهم ؛ حفظاً على النظام العام ، وحفظاً على سلامة المواطنين. ويتفرّع على هذه السياسة ما يلي :

1 ـ حرية القول :

ومن مظاهر الحرية الواسعة التي منحها الإمام للناس حرية القول ، وإن كان في غير صالح الدولة ما لم يتعقّبه فساد ، فالعقاب يكون عليه. فقد روى المؤرّخون : إنّ أبا خليفة الطائي لمّا رجع من النهروان التقى مع جماعة من إخوانه ، وكان فيهم أبو العيزار الطائي ، وكان من الخوارج ، فقال لعدي بن حاتم : يا أبا طريف ، أغانم سالم أم ظالم آثم؟

ـ بل غانم سالم.

ـ الحكم ذاك إليك.

وأوجس منه خيفة الأسود بن زيد والأسود بن قيس ، فألقيا القبض عليه وجاءا به مخفوراً إلى الإمام (عليه السّلام) ، ونقلا له حديثه المنطوي على الشرّ والتمرّد ، فقال (عليه السّلام) لهما :

__________________

(1) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 2 / 383.

٤١٣

«ما أصنع؟».

ـ تقتله.

ـ «أقتل مَن لا يخرج عليّ؟!».

ـ تجسّسه.

ـ «ليست له جناية ، خلّيا سبيل الرجل»(1) .

ولم تمنح مثل هذه الحرية للمواطنين في جميع المذاهب الاجتماعية ، فلم يحاسب الإمام الناس على ما يقولون ، وإنما تركهم وشأنهم لهم حرية القول والفكر ، ولم يفرض عليهم رقابة تحول بينهم وبين حرّياتهم.

2 ـ حرية النقد :

وكان من مظاهر الحرية السياسية التي منحها الإمام للناس هي حرية النقد للحكم ، وعدم التعرّض للناقدين بسوء أو مكروه ، يقول المؤرّخون : إنه كان يقرأ في صلاته وخلفه جماعة من أصحابه ، فقرأ أحدهم معارضاً لقراءته :( إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) . فردّ عليه الإمام معارضاً :( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ) (1) .

ولم يتخذ معه أيّ إجراء وإنما عفا عنه وخلى عن سبيله ، لقد كان يرى للناس الحق في الحرية الواسعة ، فلم يفرض على أحد أمراً ، ولم يستكره أحداً على الطاعة ، ولم يرغم الناس على ما لا يحبّون.

هذه بعض مظاهر الحرية التي أعطاها الإمام للناس في أيّام حكمه ، وقد حققت العدل الاجتماعي والعدل السياسي بين الناس.

العدل الشامل :

وكان العدل الشامل هو الشعار الذي رفعه الإمام (عليه السّلام) عالياً ، وتبنّاه في جميع

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 3 / 73.

٤١٤

أدوار حكومته ، فقد جهد نفسه على إقامة العدل ورفع مناره ، وكان ـ فيما يقول المؤرّخون ـ أوّل حاكم في الإسلام بنى بيتاً للمظالم ، يضع فيه المظلومون والمعتدى عليهم رقاعاً يذكرون فيها ما أصابهم من اعتداء أو مكروه ، وكان بنفسه يتولّى الإشراف عليها ، فيأخذ لهم بحقّهم ، ويدفع عنهم غائلة ما أصابهم من أذى أو مكروه(1) .

لقد عنى الإمام عناية بالغة ببسط العدل ونشره بين الناس ، وكان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ قد وجّه جميع أجهزة حكومته للقضاء على الظلم وتدمير أصوله ومحو أثره ، وقد قال (عليه السّلام) : «الذليل عندي عزيز حتّى آخذ الحق له ، والقوي عندي ضعيف حتّى آخذ الحق منه».

وقد عزل أحد ولاته حينما أخبرته سودة بنت عمارة بأنه قد جارَ في حُكمه ، فجعل الإمام يبكي ويقول بحرارة : «اللّهمّ أنت الشاهد عليّ وعليهم أنّي لم آمرهم بظلم خلقك ، ولا بترك حقّك». ثمّ عزله في الوقت(2) .

ونقل المؤرّخون بوادر كثيرة من صور عدله بين الناس بما لم يشاهد له مثيل في جميع أدوار التاريخ.

وحدة الاُمّة :

وجهد الإمام كأكثر ما يكون الجهد والعناء على العمل على توحيد صفوف الاُمّة ونشر الاُلفة والمحبّة بين أبنائها ، واعتبر الاُلفة الإسلاميّة من نِعَم الله الكبرى على هذه الاُمّة ، يقول (ع) : «إنّ الله سبحانه قد

__________________

(1) صبح الأعشى.

(2) العقد الفريد 1 / 211.

٤١٥

امتنّ على جماعة هذه الاُمّة فيما عقد بينهم من حبل هذه الاُلفة التي ينتقلون في ظلّها ويأوون إلى كنفها ، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة ؛ لأنها أرجح من كلِّ ثمن ، وأجلّ من كلِّ خطر»(1) .

وناهض كل مَن يدعو إلى التفرقة وتصديع الشمل ، وأمر بأن يعلا وجهه بالسيف ـ على حدّ تعبيره ـ وقاوم العصبية التي هي من أسباب التفرقة والبغضاء بين الناس ، ودعا إلى التعصّب لمكارم الأخلاق ، يقول (عليه السّلام) : «فإن كان لا بدّ من العصبية فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال ، ومحامد الأفعال ، ومحاسن الاُمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل بالأخلاق الرغيبة ، والأحلام العظيمة ، والأخطار الجليلة ، والآثار المحمودة ؛ فتعصّبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار ، والوفاء بالذمام ، والطاعة للبر ، والمعصية للكبر ، والأخذ بالفضل ، والكفّ عن البغي ، والإعظام للقتل ، والإنصاف للخلق ، والكظم للغيظ ، واجتناب الفساد في الأرض»(2) .

لقد عنى الإمام بوحدة الاُمّة وتبنّى جميع الأسباب التي تؤدي إلى تماسكها واجتماع كلمتها ، وقد حافظ على هذه الوحدة في جميع أدوار حياته ؛ فقد ترك حقه وسالم الخلفاء صيانة للأمة من الفرقة والاختلاف.

التربية والتعليم :

ولم يعهد عن أحد من الحلفاء أنه عنى بالناحية التربوية أو بشؤون التعليم كالإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وإنما عنوا بالشؤون العسكرية ، وعمليات الحروب ،

__________________

(1) نهج البلاغة ـ محمد عبده 2 / 180.

(2) نهج البلاغة 2 / 175.

٤١٦

وتوسيع رقعة الدولة الإسلاميّة ، وبسط نفوذها على أنحاء العالم ، ومن ثم كانت حقول التربية الدينية ضعيفة للغاية ؛ الأمر الذي أدّى إلى انتشار القلق الديني وقلّة الوعي الإسلامي ، وكان من نتائجه ظهور الحركات الإلحاديّة والمبادئ الهدّامة في العصر الاُموي والعباسي ، كما كان من نتائجه شيوع الخلاعة والمجون في كثير من أنحاء البلاد ، أمّا بيوت الخلفاء والوزراء فكانت من مراكز اللهو والدعارة والتفسّخ.

وقد أولى أمير المؤمنين (عليه السلام) المزيد من اهتمامه بهذه الناحية ؛ فاتّخذ جامع الكوفة معهداً يلقي فيه محاضراته الدينية والتوجيهية ، وكان يشغل أكثر أوقاته بالدعوة إلى الله ، وإظهار فلسفة التوحيد ، وبث الآداب والأخلاق الإسلاميّة ؛ مستهدفاً من ذلك نشر الوعي الديني ، وخلق جيل يؤمن بالله إيماناً عقائدياً لا تقليدياً ، وكانت مواعظه تهزّ أعماق النفوس خوفاً ورهبة من الله. وقد تربى في مدرسته جماعة من خيار المسلمين وصلحائهم ؛ أمثال : حجر بن عدي ، وميثم التمار ، وكميل بن زياد ، وغيرهم من رجال التقوى والصلاح في الإسلام.

وكانت وصاياه إلى ولديه الحسن والحسين (عليهما السّلام) وسائر تعاليمه من أهم الاُسس التربوية في الإسلام ؛ فقد قُنّنت اُصول التربية ، ووُضعت مناهجها على أساس تجريبية كانت من أثمن ما يملكه المسلمون في هذا المجال. أما التعاليم فقد كان الإمام (عليه السّلام) هو المعلم والباعث للروح العلمية ، فهو الذي فتق أبواب العلوم في الإسلام ؛ كعلم الفلسفة ، والكلام ، والتفسير ، والفقه ، والنحو ، وغيرها من العلوم التي تربو على ثلاثين علماً ، وإليه تستند ازدهار الحركة العلمية في العصور الذهبية في الإسلام حسب ما نص عليه المحققون.

لقد كان الإمام (عليه السّلام) المؤسس الأعلى للعلوم والمعارف في دنيا الإسلام ،

٤١٧

وقد بذل جميع جهوده على إشاعة العلم ونشر الآداب والثقافة بين المسلمين ، وكان دوماًُ يذيع بين أصحابه قوله : «سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن طرق السماء فإني أبصر بها من طرق الأرض».

ومن المؤسف والمحزن حقاً أنهم لم يستغلّوا وجود هذا العملاق العظيم فيسألوا منه عن حقيقة الفضاء والمجرّات التي تسبح فيه ، وغيرها من أسرار الطبيعة التي استمد معارفها من الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ، لم يسألوا عن أي شيء من ذلك ، وإنما راحوا يهزؤون ، وقد قال بعضهم بسخرية : كم طاقة في رأسي من شعر؟

لقد عاش الإمام غريباً في وسط ذلك المحيط الجاهل الذي لم يعِ أي شيء من أهدافه ومثله ، ولم يعرف حق قيمته ، ولم يثمن عبقرياته ومواهبه.

وعلى أي حال ، فإن الإمام أقام حكومته على تطوير الحياة الفكرية والعلمية ، وبث المعارف والآداب بين جميع الأوساط.

ولاته وعمّاله :

واحتاط الإمام أشدّ ما يكون الاحتياط في الولاة والعمّال ، فلم يستعمل أحداً على قطر من الأقطار الإسلاميّة أو يعهد إليه بعمل إلاّ بعد إحراز الثقة بدينه والكفاءة بقدراته الإدارية ، ولم يستعمل أحداً محاباة أو إثرة وإنما استعمل خيار المسلمين وصلحاءهم ؛ أمثال مالك الأشتر ، ومحمد بن أبي بكر ، وسهل بن حنيف ، وحبر الاُمّة عبد الله بن عباس ، ونظرائهم من الذين توّفرت فيهم الخبرة التامة في شؤون الحكم والإدارة ، وقد زوّدهم برسائل مهمّة عرض فيها لشؤون الحكم وسياسة الدولة ، كما حددت من صلاحياتهم ومسؤولياتهم.

وكان من أروع تلك الوثائق السياسية عهده لمالك الأشتر ،

٤١٨

فقد حفل بتشريع ضخم لإصلاح الحياة السياسية والاقتصادية والعسكرية ، وهو أرقى وثيقة سياسية تهدف إلى ارتقاء المجتمع وتحقيق مصالحه ، ولولا الخروج عن الموضوع لوضعنا بنوده موضع التحليل.

مراقبة الولاة :

وكان فيما أجمع عليه المؤرّخون يتفقد شؤون ولاته وعمّاله ، ويرسل العيون لتحرّي أعمالهم ؛ فإن رأى منهم خيانة أو تقصيراً في واجبات أحد منهم عزله وأنزل به أقصى العقوبات. وقد بلغه أن ابن هرمة قد خان سوق الأهواز فكتب إلى عامله : «إذا قرأت كتابي فنح ابن هرمة عن السوق ، وأوقفه للناس واسجنه وناد عليه ، واكتب إلى أهل عملك تعلمهم رأيي فيه ، ولا تأخذك فيه غفلة ولا تفريط فتهلك عند الله ، وأعزلك أخبث عزلة ـ وأعيذك منه ـ. فإذا كان يوم الجمعة فأخرجه من السجن ، واضربه خمسة وثلاثين سوطاً ، وطف به إلى الأسواق ، فمَنْ أتى عليه بشاهد فحلفه مع شاهده ، وادفع إليه من مكسبه ما شهد به عليه ، ومر به إلى السجن مهاناً مقبوحاً منبوحاً»(1) .

إنها صرامة العدل التي تحسم الخيانة ، وتقضي على الرشوة ، ولا تدع أي مجال للسرقة من الشعب ؛ وقد تحرّى كل بادرة تصدر من ولاته وقد بلغه أن عامله على البصرة قد دعي إلى وليمة قوم من أهلها ، فكتب إليه يلومه على ذلك ، وقد جاء في رسالته : «أما بعد يابن حُنيف ، فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها ؛ تُستطاب لك الألوان ، وتُنقل إليك الجنان ، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو ، وغنيّهم مدعو ، فانظر

__________________

(1) البحار 16 / 26.

٤١٩

إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه»(1) .

إنّ الإنسانية على ما جربت من تجارب وبلغت من رقي وإبداع في أنظمة الحكم والإدارة فإنها لم تستطع أن تنشأ مثل هذا النظام الذي يدعو الموظّف إلى الترفع ورفض كل دعوة توجّه إليه ؛ خوفاً من تركه للحقِّ ، واستجابته لدواعي الخيانة والغرور.

إقصاء الانتهازيِّين :

ولم يقرب الإمام أحداً من الانتهازيين الذين لا يخلصون للحقِّ ، وإنما يسعون وراء أطماعهم ومصالحهم ، ولا يفقهون المصالح العامة ؛ فإنهم عون للسلطة على الباطل لا على العدل. وكان المجتمع الكوفي يضم طائفة كبيرة منهم كالأشعث بن قيس ، وعمرو بن حريث ، وشبث بن ربعي ، وأمثالهم من الذي ضربت مصالحهم في عهد الإمام (عليه السّلام) ، فاتصلوا بحكومة دمشق ، وقاموا بدور العمالة لها ، فراحوا يعقدون المؤامرات لإفساد جيش الإمام وشعبه ؛ مستهدفين من ذلك الإطاحة بحكومته.

وقد كانوا ـ فيما يقول المؤرّخون ـ قادة الجيش الذي اقترف أبشع جريمة في التاريخ ، وهي قتل سيد الشهداء (عليه السّلام) ؛ فقد أيقنوا أنه إذا استتب له الأمر فإنه سيدمّر مصالحهم ، فإنّ سياسته إنما هي امتداد لسياسة أبيه التي لا ظل فيها للخونة والمجرمين.

إبعاد الطامعين :

ويرى الإمام (عليه السّلام) أنّ الإمارة وسيلة من وسائل الإصلاح الاجتماعي لا يجوز

__________________

(1) نهج البلاغة ـ محمد عبده 3 / 78.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543