مفاهيم القرآن الجزء ٣

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 543

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 543 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196584 / تحميل: 5845
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

(٥٤)أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ

____________________________________

جوابا وجزاء كما قال الشيخ الرضي وهو المعني بقول سيبويه اذن جزاء وحكاه في المغني عن سيبويه بدون تقييد بالأكثر وقال الشيخ الرضي كما اطلق النحاة ولكن قيده بذلك الفراء محتجا بقولهم أحبك فتقول اذن أظنك صادقا واختاره الشيخ الرضي وحجته قوله تعالى حكاية عن قول موسى لفرعون( فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) - هذا وقد سبق في الآيتين حال اليهود مع المشركين وضلالهم وتألبهم واماني غيهم ولعن الله لهم وذلك يتضمن الإنكار عليهم في حالهم النبي ومحادتهم لرسول الله والمؤمنين وفي أمانيهم الخاسئة في الانتصار عليهم فترقى القرآن عما سبق في توبيخهم وانتقل بالإضراب إلى الإنكار عليهم وتوبيخهم بوجه آخر وهو ان غرورهم وغلواءهم في الغي والمحادة هل لأن لهم نصيبا ذاتيا وحقا طبيعيا في ملك الله من حيث الدنيا والزعامة الدينية فيحتكرون ذلك عمن يشاءون فسفها لهم من اين يكون هذا الحق ويكفي في بطلان ادعائهم لذلك ما يعرف من حالهم الخسيس في الشبح وسنة الله في عباده وهو انهم ان كان لهم هذا النصيب والحق فاذن لا يؤتون الناس من هذا الملك مقدار نقير في الزنة والقيمة ولكن غيرهم من الناس قد نالوا اكثر منهم من مال الدنيا ورياساتها وزعاماتها الروحانية وما ذاك إلّا لأن أمر الملك بيد الله يؤتيه من يشاء.

فيكون حاصل الآية الكريمة هو الاضراب بالترقي في توبيخ اليهود على ما ذكر قبلها من تألبهم مع الطواغيت من المشركين على عداوة رسول الله والمؤمنين وتزلفهم للمشركين بتفضيلهم على المؤمنين والإنكار عليهم فيما تضمنه ضلالهم المذكور من أوهامهم تمنيهم أن ينتصروا بالمشركين على رسول الله والمؤمنين ٥٤( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ) أي رسول الله باعتبار ما أوتي من الرسالة والوحي وسيطرتها وواجب الطاعة وكذا أمناء الله ورسوله على وحيه ودينه باعتبار مقامهم الرفيع في ذلك وواجب الطاعة وبهذا الاعتبار ما جاء في الصحيح المستفيض عن الباقر والصادق (ع) في الآية نحن المحسودون كما احصى بعضه في تفسير البرهان وقال ابن حجر في صواعقه أخرج ابن المغازلي عن الباقر (ع) نحن الناس أي المحسودون وفي الدّر المنثور أخرج ابن المنذر والطبراني من طريق عطا عن ابن عباس في الآية قال نحن الناس دون الناس( عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) كما أشرنا إليه فإن اليهود يحاولون بطغيانهم في الضلال وتوغلهم

١٤١

فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبراهيم الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٥)فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٦)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

____________________________________

في دناءة الحسد أن يخصوا كل نبوة وكل زعامة دينية بقومهم لأنهم كما يزعمون أنهم شعب الله وابنه البكر وأبناؤه وأحباؤه كل ذلك إعجابا بكونهم من بني إسرائيل لأجل مكان يعقوب عند الله. إذن فأين هم عن إبراهيم خليل الله رجل التوحيد وبطله وداعيته وشيخ النبوة ودعوتها وها هم العرب أولاد إسماعيل آل إبراهيم وكفى بذلك كرامة في الحسب الكريم. إذن فلترغم آنافهم( فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبراهيم الْكِتابَ ) أي القرآن باعتبار انزاله على رسول الله سيد ولد إبراهيم وباعتبار استيداعه أمناء الوحي وكونهم عدل الكتاب في هدي الأمة واحد الثقلين الذين لا يضل من تمسك بهما وهما كتاب الله وعترة الرسول أهل بيته اللذين لن يفترقا حتى يردا على رسول الله الحوض كما تقدم ذكر الحديث في ذلك وتواتره في الجزء الأول ص ٤٣( وَالْحِكْمَةَ ) حكمة الرسالة وحكمة الإمامة( وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) وهو سلطان الرسالة وسيطرة الدين والشريعة والطاعة المفروضة على العباد ويتبع ذلك زعامة الإمامة التي هي عهد الله لإبراهيم في ذريته وفي الصحيح المستفيض عن الباقر والصادق (ع) كما في الكافي وبصائر الدرجات وتفسير العياشي وأحصى بعضه في تفسير البرهان ان الملك العظيم هي الطاعة المفروضة وهو تفسير بالأثر الظاهر الجامع مما ذكرناه وفي الكافي وبصائر الدرجات عن الباقر (ع) رواية في تفسير الآية واللتين قبلها ما يفضي بخلاف ما قلناه ويمكن تنزيل الرواية على ما ذكرناه والله العالم ٥٥( فَمِنْهُمْ ) أي من آل إبراهيم وقيل من اليهود والأول أقرب وأنسب( مَنْ آمَنَ بِهِ ) أي بالملك العظيم بدخولهم في الإسلام( وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ) تستعمل صد قاصرة بمعنى أعرض أي صرف نظره ووجهه عن الشيء المرئي له فيكون المعنى انهم أعرضوا عن الإيمان بهذا الملك العظيم بعد ما قامت به الحجّة الواضحة وكان لهم كالمرأي بالعيان فويل للذين لعنهم الله ويحسدون الناس على ماءاتاهم والذين يصدون عن سلطان الإسلام وملكه العظيم( وَكَفى بِجَهَنَّمَ ) في عذابهم( عِيراً ) بمعنى مسعور يستوي فيه المذكر والمؤنث يقال سعر النار وأسعرها إذا أوقدها بل الذي يفهم من موارد الاستعمال هو إيقادها بشدة وشدة اتقادها ٥٦( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

١٤٢

بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦)وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

____________________________________

بِآياتِنا ) فكفروا بالرسول الأكرم والكتاب الكريم( سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ) يوم القيامة( ناراً ) مسعرة يصلونها( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ) بسعيرها( بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها ) في الصورة بأن تعود بقدرة الله تلك الجلود الناضجة كالتي لم تنضج ليبقى فيها حسها فيدوم بذلك عذابهم فعن أمالي الشيخ مسندا وفي كتاب الاحتجاج عن الصادق (ع) انه سئل عن ذلك فقال هي هي وهي غيرها وضرب لهم المثل باللبنة إذا كسرتها حتى صارت ترابا ثم صببت عليها الماء وجبلتها لبنة على هيأتها فهي هي في المادة وانّما حدث التغيير والمغايرة في الصورة. أقول وهذا هو المنطبق على حكمة المعاد الجسماني(١) وان الله يحيي العظام وهي رميم ومن ذلك قوله تعالى في سورة الأسراء( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُوا حِجارَةً أو حَدِيداً أو خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) (٢) وهو الوجه للرازي وجزم به أبو السعود( لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ) الدائم( إِنَّ اللهَ كانَ ) ولا يزال( عَزِيزاً ) في حكمه( حَكِيماً ) في أعماله ٥٧( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

__________________

(١) وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في الجزء الثالث من المدرسة السيارة ص ١٢١ حتى ١٢٣ في الطبعة الأولى والثانية

(٢) ولكن صاحب المنار نسب هذا المروي للمتكلمين وقال انه سفسطة ظاهرة. وليته ابان الوجه في كونها سفسطة ظاهرة وقد اختار هو ان يكون ذلك من مقتضى العادة في الدنيا في ان الجلد إذا لفحته النار وفسد نبت تحته جلد آخر يخلفه كما جرى ديدنه في تفسيره من إبائه لخوارق العادة بقدرة وتنزيل ما جاء من ذلك في القرآن على السنة الكونية والنظام الطبيعي كما أشرنا إلى بعضه في بعض تعليقاتنا في هذا التفسير على كلامه ولكنه لماذا لا يلتفت ان أمر القيامة وبقاء الأجسام في تلك النار العظيمة المهولة دهورا وأحقابا إنّما هو خرق لما هو العادة والسنة الكونية في الحياة الدنيا واما ما يراه من نبات الجلد في الدنيا تحت الجلد المحترق فإنما هو من تقدير الله للنمو بالتغذي إذا لم يمنع ما قدر الله منعه كدوام النار عليه ومن اين يكون لأهل جهنم والسعير ذلك النمو المقدر في الدنيا والحال انهم في جهنم «ليس لهم طعام إلّا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع» بل جعل الجوع زيادة في العقاب لا لأجل التغذي والنمو فأين قياسه وكيف يقيس

١٤٣

الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً

____________________________________

الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ) قد مر في متفرقات الجزء الأول تفسير ذلك في جمله ومفرداته( لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ) في الفقيه عن الصادق (ع) اللاتي لا يحصن ولا يحدثن والظاهر انه (ع) ذكر اكبر القذارات الملازمة لنوع النساء ومقتضى إطلاق التطهير لهن انهن مبرات من كل نجاسة وخبث وقذارة في الخلقة والأخلاق

إلى هنا وقف براعه الشريف ولم يمهله الأجل «قده» لإتمام هذا السفر الجليل وقد أحب تعجيلا للخير ذكر الآية السادسة من سورة المائدة لمناسبة ذكر آية التيمم المار ذكرها قريبا في سورة النساء فقال طاب ثراه

وحيث ان الآية السادسة من سورة المائدة لها مشاركة مع آية التيمم في كثير من الأحكام آثرنا أن نتعرض لتفسيرها في هذا المقام قياما بحق المناسبة وما نحاوله من الاختصار وتعجيلا للخير ومن الله التوفيق والتسديد.

فلا يخفى انه يعرف من الآية ان الجنب لا يقرب الصلاة حتى يغتسل وان ذلك الاغتسال هو طهارة الجنب لاستباحة الصلاة كما يؤكده قوله تعالى في آية المائدة( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) كما يعرف من الآية ان المجيء من الغائط له قسم من الطهارة المائية مقابل لطهارة الجنب وعند فقد الماء يتيمم وقد أشرنا ان المجيء من الغائط كناية عما يعرض للذاهب إلى الغائط من خروج البول أو العذرة أو الريح ذات الصوت أو غيرها ولا يبعد ان ذلك معلوم عند المسلمين من السنة الشريفة من أول تشريع الصلاة وجاءت الآية مؤكدة لتشريعه على وجه الإشارة لحفظ تلك المشروعية وحجتها بما وعد الله به من حفظ القرآن الكريم نعم لا يفهم من الآية وجوب الطهارة للقيام من النوم فقال جل اسمه في سورة المائدة تأكيدا لحفظ شرعية الوضوء وصورته الواجبة في سورة المائدة التي دل الحديث المتفّق عليه بين المسلمين انها آخر ما نزل من القرآن وان أحكامها محكمة لم يعترها نسخ وتغيير( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ ) متوصلين بقيامكم إلى الصلاة في التهيؤ لها. وليس المراد منه القيام الذي هو من أفعال الصلاة فإنه قيام للصلاة كالسجود للصلاة لا قيام إلى الصلاة وللرازي في المقام في المسألة الأولى كلام غير

١٤٤

منتظم. وروى الشيخ في التهذيب في الصحيح عن عبد الله بن بكير(١) قلت لابي عبد الله يعني الصادق (ع) قوله تعالى( إِذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ ) ما يعني بذلك قال (ع) إذا قمتم من النوم قلت ينقض النوم الوضوء قال نعم الحديث. وفي قلائد الدرر للجزائري وتفسير البرهان وفي تفسير العياشي عن بكير بن أعين عن أبي جعفر يعني الباقر (ع) في قول الله جل وعلا( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ ) قال قلت ما عنى بها قال من النوم وروى مالك في الموطأ عن زيد بن اسلم(٢) ان تفسير هذه الآية إذا قمتم من المضاجع يعني النوم وفي الدّر المنثور أخرج مالك والشافعي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن زيد بن اسلم والنحاس وذكر مثله. واخرج ابن جرير عن السدي مثله( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) اطلاق الغسل يقضي بجريانه على العادة في الغسل بالماء ويوضحه قوله تعالى( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ) ماء وعلى النحو الذي لا يؤتى به لازالة وسخ تحتاج إلى ذلك وكثرة إفاضته للماء لأجل كثرته واستيلائه على الوجه بل يكفي فيه ما يحصل به غسل النقي عن الوسخ والحاجب للماء عن البشرة والعادة في مثله تقتضي انه باليد الواحدة وهي اليمنى وهي المعدة للأعمال مضافا إلى انها المطلوبة في الشرع للأعمال المحترمة ولا يكون الغسل للوجه بكلتا اليدين في العادة إلّا في مقام الحاجة إلى افاضة الكثير لأمر هو فوق مسمى الغسل كإزالة الخضاب مثلا أو التراب الكثير أو الطين ونجو ذلك مضافا إلى ان العادة في الوضوء هو استعمال اليد اليسرى بإفراغ الماء من الإناء في اليمنى إذا فلا حاجة ولا مداخلة لليسرى في الغسل. كما أنَّ المعتاد عليه في غسل الوجه ان يكون من أعلاه إلى أسفله فالإطلاق بحسب دليل الحكمة في الطبيعة المهملة إنّما يجري في الافراد العادية التي تتسابق بصدق الطبيعة إلى الذهن فيقال حينئذ لو أراد المتكلم افرادا خاصة من هذه لحصرها بالتقييد وأما الافراد الخارجة عن الغالب والمعتاد فلا تسبق إلى الذهن مع الغالب والمعتاد فلا يسري دليل الحكمة بالإطلاق إليها بل يقال حينئذ لو أرادها المتكلم لنص على ارادتها

__________________

(١) الظاهر الاتفاق على انه ثقة وان كان فطحيا وعن الكشي انه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه وأقروا له بالفقه

(٢) زيد ابن اسلم تابعي من الخامسة ثقة والنحاس ثقة فاضل من صغار العاشرة. والسدي إسماعيل بن عبد الرحمن صدوق بهم ورمي بالتشيع من الرابعة وإسماعيل بن محمد الفزاري نسيب السدي الأول أو ابن بنته أو أخته صدوق يخطى ورمي بالرفض من العاشرة. ومحمد بن مروان بن عبد الله بن إسماعيل السدي كوفي متهم بالكذب من الثامنة (قب)

١٤٥

بما يمثلها للذهن بالاستقلال أو مع الافراد الغالبة المعتادة. هذا وان تعلق الغسل باسم الوجه يقضي بأن يغسل جميع ما يسمى وجها كما تقدم في صحيحة زرارة عن الباقر (ع) والمرجع في بيان مسمّى العرف العام ومن لم يغسله كلّه لم يتحقق منه غسل الوجه فلا يتحقق منه امتثال الأمر به ومن المعلوم الوجه من جانب الطول هو من قصاص شعر الناصية في مستوى الخلقة دون الأنزع والأغم إلى آخر الذقن وفي صحيح الكافي والفقيه والتهذيب عن زرارة قلت لابي جعفر الباقر (ع) أخبرني عن حد الوجه الذي ينبغي ان يوضأ الذي قال اللهعزوجل فقال (ع) الوجه الذي قال اللهعزوجل وأمر اللهعزوجل بغسله الذي لا ينبغي لأحد ان يزيد عليه ولا ينقص منه الذي ان زاد عليه لم يؤجر(١) وان نقص منه اثم ما دارت عليه الوسطى والإبهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن وما جرت عليه الإصبعان مستديرا فهو من الوجه فقال له الصدغ(٢) من الوجه فقال لا (انتهى) والمراد من الوجه ما يواجه بالرؤية وان كان شعر اللحية والشارب( وَأَيْدِيَكُمْ ) وهي اسم للعضو المعروف وتشملها إلى الكتف ولا يدخل في مسماها الشعر فلا يكفي غسله عن غسل البشرة( إِلَى الْمَرافِقِ ) المرفق هو مجمع عظمي الذراع والعضد وجرت الآية على المعتاد والمتعارف من أنَّ الذي يغسل من اليد ما كان من ناحية الأصابع والكف والذراع فإنه المعرض لما يحتاج إلى الغسل دون ما كان من ناحية الكتف إلى المرفق فلا اطلاق في الآية ولا إجمال ولا إبهام كما أنّ العادة في غسل الذراع خصوصا من الغبار والأوساخ بل وللتبريد ان يغسل من الأعلى متدرجا إلى الأنامل فيجري الإطلاق عليه كما تقدم في تعيين المغسول في اليد إلى المرافق مع ان النكس في تمام غسل اليد مما يحتاج إلى صعوبة كما نرى ان العمل عليه لا يقع غالبا إلّا مبعضا وربما يجري على هذا ما في الدّر المنثور مما أخرجه الدارقطني والبيهقي في سننهما عن جابر بن عبد الله قال كان رسول الله إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه. وما أخرجه أحمد ومسلم عن عمرو بن عتبة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حديثه وإذا غسل وجهه كما امره الله إلّا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ثم غسل يديه إلى المرفقين إلّا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله مع الماء (الحديث) وهو يوضح ان منتهى مجرى الغسل ومجرى الماء هي أطراف اللحية والأنامل أقول وحاصل المقام ان كلمة الى

__________________

(١) هذا في صورة عدم التشريع واما مع التشريع يأثم

(٢) الصدغ بضم الصاد وهو منبت الشعر ما بين مؤخر العين واصل الاذن في الانثي والذكر

١٤٦

ليس لتحديد الغسل وبيان انتهائه إلى المرفق بعد ابتدائه من أول اليد بل إنّما هي لتحديد المغسول كما تقول إغسل ثوبك إلى جيبه واخضب كفّك إلى مفصل الزند واصقل السيف إلى ضبته ونحو ذلك وعلى هذا اجماع الإمامية وحديثهم نعم يحكى عن بعضهم جواز النكس تشبثا بإطلاق الغسل كما في الامثلة المذكورة ولكن ما ذكرنا من العادة والغالب في غسل هذا المقدار من اليد يمنع الإطلاق عن النظر إلى غير الغالب المعتاد مضافا إلى صحيحة بكير وأخيه زرارة المروية في الكافي والتهذيبين في حكاية الباقر (ع) لوضوء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وفيها فغسل يده اليمنى من الموفق إلى الأصابع لا يرد الماء إلى المرفق ثم غمس كفه اليمنى في الماء فاغترف بها من الماء فأفرغه على يده اليسرى من المرفق إلى الكف لا يرد الماء إلى المرفق كما صنع في اليمنى ثم مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفيه لم يجدد ماء وفي رواية الكافي فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكف لا يردها إلى المرفق والمراد إلى ناحية الكف ونحوهما في الصراحة رواية الكافي في الحسن كالصحيح عن زرارة عن الباقر (ع) وجاء لفظ المرافق باعتبار صورة الخطاب بالجمع( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) كما يقال اغسلوا أيديكم إلى مرافقكم وان كان لكل مكلّف مرفقان ويصح ان يقال إلى المرفقين باعتبار النظر إلى ان خطاب الجماعة بالتكليف ينحل في الحقيقة إلى خطابات متعددة بتعدد المخاطبين المكلفين فيذكر المرفقان باعتبار كل مكلف ولم يسمع في فصيح الكلام وصحيحه حل جمع الايدي إلى افرادها فيقال وأيديكم إلى المرفق باعتبار اليد الواحدة إلّا أن يقال فاغسلوا وجوهكم وأيديكم كل يد إلى المرفق وامسحوا أرجلكم كل واحدة إلى العقب والسر في ذلك ان غير الجموع الخطابية لا علاقة لها يحلها إلى المفردات إلّا ان يشار إلى المفرد بقولك كل واحدة أو كل يد أو كل رجل ثم تحكم على المفرد بحكمه فلا تقول ولم تسمع قسمت الدراهم إلى نصفين مثلا وإن تريد قسمة كل درهم إلى نصفين بل لا بد لك أن تقول قسمت الدراهم كل درهم إلى نصفين لأنّ الحكم يجره سوق الكلام إلى الجمع( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) قد بينا سابقا من مكان الباء التي هي للآلة أنَّ المسح بالرأس يكون ببعضه كما كان المسح في التيمم بالوجه ببعضه وقد سبقت الحجّة من الباقر (ع) على أنَّ المسح يكون ببعض الرأس.

١٤٧

فهرس الجزء الثاني في كتاب آلاء الرحمن

أوّله سورة النساء ٢

(سورة النساء) ٢

آدم ابو البشر وأصله ٣

آدم اصل البشر وما يزعمه أهل الصين ٤

صاحب المنار واستاذه - اوالارحام ٥

فانكحوا ما طاب ٦

تعدد الزوجات ٩

علامات البلوغ ١٤

رشد اليتيم ١٥

مال اليتيم ١٧

في الميراث ٢٣

ارث البنات والأبوين ٢٤

كلالة الأم ٢٧

الكافر لا يرث المسلم والمسلم يرث الكافر ٣١

العبد لا يرث. ولد الزنا لا يرث ٣٣

في التعصب ٣٤

في العول ٤٦

ارث الزوجة - الحبوة ٥٤

في التوبة المطلوبة ٥٨

عوائد بعض العرب إذا مات حميم الرجل وله امرأة ٥٩

في مصاديق الفاحشة ٦٠

معنى البهتان ٦١

١٤٨

ما ينسب إلى الشافعي في ولد الزنا ٦٣

ارضاع المحرم ٦٤

في الفرق بين ام الزوجة والربيبة ٦٦

حرمة ام الموطوءة بالملك ٦٧

في حرمة الربائب ٦٨

في حرمة حليلة الابن ومملوكته ٧٠

في حرمة حليلة الابن الرضاعي وكلام صاحب المنار في تحريم الجمع بين الاختين ٧١

في حرمة الجمع حتى في الملك ٧٢

متعة النساء ٧٤

متعة النساء وتسمية هذا النكاح بالمتعة ٧٦

متعة النساء ودوام مشروعيتها إلى ما بعد زمن النبي (صلى الله عليه وآله) ٧٧

في متعة النساء ودعوى نسخها ٨٠

في متعة النساء وكلام صاحب المنار ٨٥

في متعة النساء وما يتشبث به لتحريمها ٨٦

تزويج الأمة ٩١

المراد من الإحصان ٩٢

معنى العنت ٩٤

معنى اللام في (ليبين) واشتباه الرازي ٩٥

١٤٩

لاتأكلوا: ومعنى الأكل ٩٧

في مصاديق قتل النفس ٩٨

معنى الكبائر والسبب لاخفائها ٩٩

في ان الأئمة كرسول الله (صلى الله عليه وآله) وارث من لا وارث له ١٠٤

في بيان من له سيطرة البعث ١٠٨

بيان الإحسان ١٠٩

بيان تكرار القربى ١١٠

لاتقربوا الصلاة وانتم سكارى والروايات الواردة في سبب نزولها ١١٥

اضطراب الروايات في سبب نزول لاتقربوا ١١٦

سبق تحريم الخمر وانه محرم في كل شريعة ١١٧

قصاص الرواة ينسبون لقدس رسول الله (صلى الله عليه وآله) اشنع شيء ١١٨

المراد من (سكارى) هو سكر النوم ١١٩

١٥٠

المراد من (لا تقربوا) ١٢٠

في جواز اجتياز الجنب المسجد ١٢٤

معنى الصعيد ١٢٧

في بيان التيمم وكلام صاحب المنار ١٢٨

مزاعم صاحب المنار ودعوى القيد ١٢٩

معنى الطيب ١٣٠

كيفية التيمم ١٣١

في بيان الممسوح والممسوح به ١٣٢

معنى الطمس ١٣٥

ان الله لا يغفر ان يشرك به اي الرشك الدائم ١٣٦

في معنى التزكية ١٣٨

في معنى الفتيل لغة وموارد استعماله ١٣٩

ام يحسدون الناس ١٤١

في ان الناس هم النبي (صلى الله عليه وآله) واهل بيته ١٤١

في تفسير آية الوضوء ١٤٤

١٥١

انا لله وانا اليه راجعون

قد انقطع (بالرغم منا و من المسلمين) سلك هذا السفر العظيم والكتاب الكريم قبل اختتامه اقصمت عروته الوثقى قبل انتهائه وفجع الاسلام و المسلمون بمفاجأة الأجل لعميدهم وعماده اعني الناظم لهذه الدرر المنثورة والجامع لشتات هذه اللئالئ المنشورة (هو) الذي عقمت النساء في هذه الأعصار ان يلدن له من مثيل وهيهات ان يرينا الدهر لمثله من نظير (هو) الذي لاغاية لأمد جهاده ولا منتهى لدى اصلاحه (هو) الذي تمثل مناضلا عن الدين ومدافعا عن شريعة سيد المرسلين.

(هو) الذي كان المزبر سادس أنامله والقرطاس أليف نهاره وسمير ليله (هو) الذي كان في حر النجف القائظ وبرده القارس جليس غرفته لا هم له الا الأخذ بناصر الدين والنظر في صالح المسلمين بتأليف او بيان الا (وهو) الامام المجاهد بطل العلم و العمل حجة الاسلام والمسلمين برهان الملة والدين آية الله البلاغي (الشيخ محمد جواد) بن الشيخ حسن النجفي طيب الله ثراه واحسن مثواه ولم يزل (قده) مكبا على التصنيف والتأليف بكل جد وسعي حتى تضاءلت قواه وضعفت باصرته على شيخوخة من عمره لكن في جدة من شباب عزيمته حتى انه (قده) أنهى اواخر هذا التفسير بالقائه على التلاميذ والكتبة المحتفين به على ما هو عليه من شدة المرض وغاية الضعف مطروحاً في فراش الموت فجزاه الله تعالى عن الاسلام والمسلمين خير جزاء المحسنين وكان له (قده) من العمر ما بقرب من السبعين وكانت ولادته في النجف الاشرف من العراق في نف و ١٢٨٠ هـ وبها كان نشؤه وارتقاؤه ومبادئ تحصيله وأتم دروسه العالية لدى اعلام عصره الفطاحل آيات الله على الانام الحاج آقا رضا الهمداني. والشيخ محمد طه نجف. والمولى محمد كاظم الخراساني قدس الله تعالى اسرارهم ثم كانت هجرته الى سامراء على عهد الامام المقدم آية الله الميرزا محمد تقي الشيرازي طاب ثراه وطوى هنالك عشرا من الأعوام وبها ألف بعض كتبه (كالهدى) وغيره ثم غادرها لما احتلها الحشد البريطاني وهاجر من كان بها الى الكاظمية ومنهم المترجم (قده) ومكث فيها عامين له فيهما مساعية المشكورة مع العلماء الاعلام حول القضية العراقية وطلب الاستقلال وتسجيله وفيها ألف رسالته في تنحيس المتنجس ثم بارحها معرجا على النجف الأشرف ثانيا واقام بها الى ان صار أحد أعلامها الهداة والحجج والآيات ثم أتاه الأجل المحتوم وقضى نحبه سعيدا ليلة ٢٢ من شهر شعبان سنة ١٣٥٢ هـ وكان لوفاته (قده) أثر كبير في نفوس عظماء الدين كافة وأقيمت له الفواتح في جميع البلاد العراقية وتشادق الادباء في رثائه وتأبينه وطار نبأ فجيعته شرقا و غربا فنسأل الله تعالى أن يعلي في الخلد مقامه ويرفع اعلامه وكان تمام طبع الاوراق الأخيرة على بد الاحقر الراجي حسن الحسيني اللواساني النجفي عفي عنه في الثامن من شهر رجب الاصب سنة ١٣٥٥ هـ.

١٥٢

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

ويلاحظ بأنّ الإسلام، هو الذي يواجه وحده، بهذا الاشكال من بين سائر الشرائع، إذ ليس الإسلام عبارة عن تعاليم منحصرة في عدة أحكام عبادية وأخلاقية تؤدّى بصورة فردية، بين الانسان وربّه، أو بينه وبين نفسه، دون أن يتدخل في تحديد المناهج الاجتماعية والعلاقات الانسانية والمدنية، وليس منحصراً في هذه المقررات البسيطة، حتى لا يكون وافياً في جميع الأزمنة، بالغاية التي يهدف إليها وإنّما هو نظام تشريعي كامل، قد تدخل في شؤون المجتمع كافة، فهو ذو قوانين مدنية وقضائية وسياسية واجتماعية وعسكرية وعائلية، كفيلة باغناء البشرية، عن كل تشريع سوى تشريعه، وعن كل اصلاح غير اصلاحه، فهذه القوانين المحدودة كيف تغني المجتمع البشري عن ممارسة التشريع في الحوادث والموضوعات التي لم يكن بها عهد زمن نزول القرآن وبعثة الرسول ؟

وفي هذه النقطة، تفترق المسيحية عن الإسلام، إذ هي لا تتجاوز في تشريعها نطاق الأخلاق الفردية والتعبّد لله، بصلاة وصوم، في وقت معين، أمّا مناهج الحياة الاجتماعية وتنظيمها وتنسيق معاملاتها، ذلك ما يقرّه المجتمع نفسه، ويفوّضونه إلى السلطات الحاكمة.

ولكن الإسلام يتعرض لكل شأن من شؤون الحياة، ويقنّن ويشرّع لكل أمر من اُمور المجتمع، المدنية والمعاشية، بالاضافة إلى تشريعاته وقوانيه الأخلاقية، والعبادية الفردية، ويسد باب التشريع في ذلك على غيره، فالسلطة التشريعية بيده وحده، وعلى المجتمع أن يختار السلطة التنفيذية والسلطة القضائية فقط، ضمن ما يشرعه الإسلام.

وملخص السؤال، انّ المجتمع الإنساني، يواجه أوضاعاً وأحداثاً جديدة تطرح عليه مشاكل لاعهد للأزمنة السابقة بها، فلا نجد في التشريع الإسلامي لهذه الأوضاع والأحداث حكماً من الأحكام، إذن فحاجة المجتمع إلى قوانين وتشريعات جديدة لا تزال تتزايد كل يوم تبعاً لذلك، وبما أنّ نصوص الشريعة من الكتاب والسنّة محدودة، وحوداث المجتمع غير محدودة، فكيف يمكن أن تفي النصوص المحدودة بالحوادث الطارئة غير المتناهية ؟

٢٦١

الجواب :

انّ خلود التشريع وبقاءه في جميع الأجيال ومسايرته للحضارات الانسانية، واستغناءه عن كل تشريع سواه، يتوقف على وجود أمرين فيه :

الأوّل: أن يكون التشريع ذا مادة حيوية خلاقة للتفاصيل بحيث يقدر معها علماء الاُمّة والاخصائيون منهم على استنباط كل حكم يحتاج إليه المجتمع البشري في كل عصر من الأعصار.

الثاني: أن ينظر إلى الكون والاجتماع بسعة وانطلاق، مع مرونة خاصة تماشي جميع الأزمنة والأجيال، وتساير الحضارات الانسانية المتعاقبة.

وقد أحرز التشريع الإسلامي كلا الأمرين :

أمّا الأمر الأوّل، فقد أحرزه بتنفيذ اُمور :

الأوّل: الاعتراف بحجية العقل في مجالات خاصة :

انّ من سمات التشريع الإسلامي التي بها يمتاز عن سائر التشريعات، ادخال العقل في دائرة التشريع، والاعتراف بحجيته في الموارد التي يصلح له التدخل والقضاء فيها، فالعقل أحد الحجج الشرعية وفي مصاف المصادر الاُخر للتشريع وأنّه يكشف عن الحكم الشرعي ويبيّن وجهة نظر الشارع في مورده، وأنّ من الممتنع أن يحكم العقل بشيء ولا يحكم الشرع على وفاقه أو يحكم بخلافه، فالملازمة بين العقل والشرع حتمية.

و لا يهمنا البحث في أنّ ما يدركه العقل في مورد هل هو نفس الحكم الشرعي ومن صميم التشريع الإسلامي أو أنّه يكشف عن نظر الشارع إذا توفرت فيه الشروط التي اعتبرها الشارع في حجية ادراكاته.

وإنّما المهم أن نقف على أنّ العقل احتل محلاًّ خاصاً في التشريع الإسلامي وانّ كل ما يحكم به العقل فكأنّه ينطق على لسان الشرع كالكتاب والسنّة، فعند ذاك اعتمد

٢٦٢

عليه في تبليغ الأحكام إلى الناس كما اعتمد على القرآن والسنّة.

وقد فتح هذا الاعتراف للإسلام بقاء وخلوداً، وجعله صالحاً للانطباق مع عامة الحضارات الانسانية، وغدا التشريع الإسلامي في ضوئه ذا سعة وانطلاق وشمول لما يتجدد من الأحداث ولما يطرأ من الأوضاع الاجتماعية الجديدة.

هذا بخلاف ما إذا اعتبرناه عنصراً غريباً في صعيد التشريع وعزلناه عن الحكم ورفضنا كل ما يدركه من الأحكام العقلية المحضة، فإنّه يؤدي إلى تجميد المخطط القانوني وعدم صلاحيته للحكم والتطبيق في البيئات والظروف الاجتماعية المختلفة.

نعم ليس معنى الاعتراف بحجية العقل، أنّه يطلق سراحه في جميع المجالات حتى يتاح له ( بما اُوتي من امكانات ووسائل محدودة ) أن يتسرّع في الحكم في مصالح الفرد والمجتمع وشكل العلاقات والروابط الاجتماعية والعبادات والأحكام التوقيفية.

بل فسح له الحكم في مجالات خاصة إذا توفرت فيه الشرائط التي تصونه عن الاشتباه والخطأ واقترن بالضمانات الكافية التي تحفظه عن الزلل، وسوف نشير إلى هذه الشرائط والضمانات، وستوافيك نماذج من الأحكام العقلية في هذا البحث.

فالقارئ الكريم إذا لاحظ كتاب الله العزيز وسنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته: يرى فيهما الحث البالغ الأكيد على التدبّر والتفكّر والتعقّل لما يعسر على الانسان الاحاطة والاحصاء ولنكتف بذكر بعض ما اثر في المقام.

قال الإمام الطاهر موسى بن جعفرعليه‌السلام لتلميذه هشام :

إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال:( فَبَشِّرْ عِبَادِ *الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبَابِ ) ( الزمر ١٧ ـ ١٨ ).

يا هشام: إنّ الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ونصر النبيين بالبيان ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة فقال:( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ

٢٦٣

وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ( البقرة ـ ١٦٤ ).

يا هشام: ثم وعظ أهل العقل ورغّبهم في الآخرة فقال:( وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( الأنعام ـ ٣٢ ).

يا هشام: إنّ العقل مع العلم فقال:( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلّا الْعَالِمُونَ ) ( العنكبوت ـ ٤٣ ).

ثم ذم الذين لا يعقلون فقال:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ) ( البقرة ـ ١٧٠ ).

يا هشام ثم ذكر اُولي الألباب بأحسن الذكر وحلالهم بأحسن الحلية فقال:( يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إلّا أُولُوا الأَلْبَابِ ) ( البقرة ـ ٢٦٩ ).

يا هشام: إنّ الله تعالى يقول في كتابه:( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ) يعني: عقل.

وقال( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ ) ( لقمان ـ ١٢ ) قال: الفهم والعقل.

يا هشام: ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلّا ليعقلوا عن الله فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام: إنّ لله على الناس حجّتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة وأمّا الباطنة فالعقول(١) .

وقال الصادق: حجة الله على العباد، النبي، والحجة في ما بين العباد وبين الله ،

__________________

(١) الكافي: ج ١ ص ١٣ ـ ١٦ ولم ننقله بطوله وإنّما اقتبسنا مقتطفات منه.

٢٦٤

العقل.

هذا الحديث وما قبله وغيرهما يعرب عن نظر الإسلام السامي في الأحكام التي يستقل بها العقل بشرط أن يتجرّد عن الرواسب المنحرفة والغرائز الحيوانية والعواطف الانسانية ويحكم حكماً باتاً عقلانياً محضاً غير منبعث عن هذه الجوانب ويحترز عن بعض الأساليب التي منع الشارع عن أعمالها في طريق استنباط الحكم الشرعي كالاقيسة والاستحسانات.

نعم لا يخلص الحكم العقلي من الزلل والخطأ إلّا بعد ملاحظة اُمور :

١. قصور الفكر الانساني وعجزه عن الاحاطة بمسائل الكون والنفس والاجتماع وضعف المدارك الحسية التي تربط الانسان بالواقع الاجتماعي والنفسي والكون الذي يعيشه.

٢. تأثّر الفكر الانساني بالجانب الانفعالي والحيواني من النفس كالغرائز النفسية والدوافع الحيوانية المستقرة في النفس التي لا تتخلّص منها النفس والفكر إلّا بعد جهد شاق.

٣. انطباع الفكر بالرواسب اللاشعورية والأعراف والتقاليد التي يرثها الانسان من البيئة الاجتماعية والتي تنتقل في المجتمع مع الأجيال من دون أن تفقد تأثيرها الخاص واطارها الاجتماعي الذي يسبغ عليها جانباً قدسياً في المجتمع.

وقد حاول الإسلام أن يحقق الضمانات الكافية التي تعصم الفكر من هذه الوجوه الثلاثة في مجال الحكم والتشريع.

كما حاول الإسلام من جانب أن يفسح المجال للعقل في الحكم ليحفظ الدستور ويصلح للحكم والتطبيق في البيئات والظروف المختلفة.

ومن جانب آخر حاول الإسلام أن يحفظ العقل ممّا يمكن أن يحفظ به إلى المستويات الحيوانية واللاشعورية أو ممّا تقصر عنه امكاناته العلمية(١) .

__________________

(١) لاحظ المدخل إلى دراسة التشريع الإسلامي ص ١٠٧ ـ ١٠٨.

٢٦٥

قال العلّامة الحجة الشيخ محمد حسين الاصفهاني: إنّ القضايا المشهورة على أقسام :

منها ما فيه مصلحة عامة: كالعدل حسن، والجور قبيح، وعبّر عنها بالتأديبات الصلاحية.

منها: ما ينبعث عن الأخلاق الفاضلة كالحكم بقبح كشف العورة لانبعاثه عن الحياء وهو خلق فاضل.

منها: ما ينبعث عن رقة أو حمية أو أنفة أو غير ذلك واستلزام الحسن والقبح عقلاً للحكم الشرعي بالمعنى المتقدم في ما كان منشأه المصالح العمومية واضح لأنّ الشارع يرعى المصالح العمومية وكذا ما ينبعث عن الأخلاق الفاضلة لأنّ المفروض أنّها ملكات فاضلة، والمفروض انبعاث الحكم بالحسن والقبح عنها وأمّا ما ينبعث عن انفعالات طبيعية من رقة أو حمية أو أنفة أو غير ذلك فلا موجب لاشتراك الشارع مع العقلاء.

ولذا ترى الشارع ربّما يحكم لحكمة ومصلحة خاصة بما لا يلائم الرقة البشرية كالحكم بجلد الزاني والزانية غير ذات البعل مع كمال التراضي(١) .

وللشيخ الرئيس في اشارته كلام يوقفنا على أقسام الادراكات العقلية فراجع الاشارات وشرحها للحكيم الطوسي(٢) .

فإذا توفرت في الحكم العقلي هذه الشرائط وكان حكمه منبعثاً عن الجانب العقلي المحض، غير متأثر عن الجوانب اللاشعورية، والغرائز الحيوانية والعواطف الانسانية، وتجنب عن الأساليب الممنوعة وحكم من صميم التدبّر والتفكّر بحكم بات، يصير حجة بين الله وعبده، وحينئد يجب السير والسلوك على مقتضى حكمه وتنفيذ ما يقضي به تأسيساً أو تحديداً لاطلاق حكم شرعي أو تخصيصاً لعمومه ويصير عند ذاك أحد

__________________

(١) نهاية الدراية: ج ٢ ص ١٣٠.

(٢) الاشارات: ج ١ ص ٢٢٠ ط طهران.

٢٦٦

الأدلة التي يستنبط منها، الحكم الشرعي ويدور عليها رحى الاستنباط، ويعد قريناً للكتاب والسنّة، والاجماع ولا ينفك عن قرنائه وأعداله.

والباحث النابه، يجد الملازمة بين العقل والشرع، أحد القواعد المسلمة عند المحققين، من علماء الإسلام، الذين يعتنى بقولهم، فقد صرحوا بأنّ كل ما حكم به العقل، حكم به الشرع، وكل ما حكم به الشرع حكم به العقل.

إنّ للعقل دوراً كبيراً في استنباط كثير من الأحكام التي يصلح للعقل القضاء فيها ويقدر على ادراك ملاك الحكم ومناطه نظير الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته، ووجوب الشيء وحرمة ضده أو عدمهما، وجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه وصحة العبادة والمعاملة وفسادهما، واجزاء الأوامر الاضطرارية والظاهرية والأحكام المتفرعة على تنجيز العلم الاجمالي وما يستقل به العقل عند اليأس عن الأدلّة السمعية فيحكم بالبراءة أو الاشتغال أو التخيير، حسب ما اقتضاه المقام. بل له دور واسع في باب المعاملات وغيرها.

فهذه الملازمات وغيرها، من الأحكام العقلية، مصادر لاستنباط كثير من الأحكام واستكشاف ما هو المرضي لدى الشارع، يستريح إليه الفقيه في تأسيس الحكم الشرعي أو تحديده، وفي تشخيص الوظيفة العملية عند اليأس عن العثور على الأدلّة السمعية وبذلك يسد الفراغ المتوهم في التشريع الإسلامي.

كل ذلك يرشدنا إلى أنّ التشريع الإسلامي، يتبنى الواقع ولا يحيد عن متطلبات الحياة، وأنّه ليس لتعاليمه طابع الرمز والتعبد السماوي وأنّ للإسلام علاقة واقعية بالعقل، لا تجد مثلها في الشرائع الاُخرى، بل لا يسوغ لغيره أن يدخل العقل في مصادر تشريعه، ويعده أحد الأدلّة.

الثاني: إنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد :

إنّ الأحكام الشرعية عند العدلية من المسلمين، الذين يمثلون الطبقة العليا

٢٦٧

منهم، تابعة لمصالح ومفاسد في متعلقاتها، فلا واجب إلّا لمصلحة في فعله، ولا حرام إلّا لمفسدة في اقترافه، وقد تحقق عندهم إنّ للتشريع الإسلامي نظاماً لا تعتريه الفوضى وهذا الأصل، وإن خالف فيه بعض الاُمّة، غير أنّ نظرهم محجوج بكتاب الله وسنّة نبيه ونصوص خلفائه: ترى أنّه سبحانه يعلّل حرمة الخمر والميسر بقوله :

( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) ( المائدة ـ ٩١ ).

ويستدل على وجوب الصلاة بقوله سبحانه:( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ ) ( العنكبوت ـ ٤٥ ) إلى غير ذلك من الفرائض والمناهي التي صرح أو اُشير إلى ملاكات تشريعهما في الذكر الحكيم.

وقد قال الإمام الطاهر علي بن موسى الرضاعليه‌السلام : « إنّ الله تبارك وتعالى لم يبح أكلاً ولا شرباً إلّا لما فيه المنفعة والصلاح، ولم يحرّم إلّا ما فيه الضرر والتلف والفساد »(١) .

وقالعليه‌السلام في الدم: « إنّه يسيء الخلق ويورث القسوة للقلب، وقلة الرأفة والرحمة ولا يؤمن أن يقتل ولده ووالده »(٢) .

وهذا باقر الاُمّة وإمامها يقول: « إنّ مدمن الخمر كعابد وثن، ويورثه الارتعاش، ويهدم مروته ويحمله على التجسّر على المحارم من سفك الدماء وركوب الزنا »(٣) .

وغيرها من النصوص المتضافرة عن أئمّة الدين(٤) .

فإذا كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في الموضوع، فالغاية المتوخّاة من تشريعها، إنّما هو الوصول إليها، أو التحرّز عنها، وبما أنّ المصالح والمفاسد ليست على

__________________

(١) مستدرك الوسائل: ج ٣ ص ٧١.

(٢) بحار الأنوار: ج ٦٢: ص ١٦٥، الحديث ٣.

(٣) المصدر نفسه ص ١٦٤، الحديث ٢.

(٤) راجع علل الشرائع للشيخ الصدوق فقد أورد فيه ما أثر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة: في بيان علل التشريع وفلسفته.

٢٦٨

وزان واحد، بل ربّ واجب يسوغ في طريق احرازه، اقتراف بعض المحارم، لاشتماله على مصلحة كبيرة لا يجوز تركها أصلاً، وربّ حرام ذي مفسدة كبيرة، لا يجوز اقترافه، وإن استلزم ترك الواجب أو الواجبات.

ولأجل ذلك قد عقد الفقهاء باباً خاصاً، لتزاحم الأحكام وتصادمها في بعض الموارد، فيقدمون « الأهم على المهم » والأكثر مصلحة على الأقل منها، والأعظم مفسدة على الأحقر منها، وهكذا ويتوصّلون في تمييز الأهم عن المهم، بالطرق والامارات التي تورث الاطمئنان، وباب التزاحم في علم الاُصول غير التعارض فيه، ولكلّ أحكام.

وقد أعان فتح هذا الباب على حل كثير من المشاكل الاجتماعية التي ربما يتوهم الجاهل أنّها تعرقل خطى المسلمين في معترك الحياة، وأنّها من المعضلات التي لا تنحل أبداً، ولنأت على ذلك بمثال، وهو :

أنّه قد أصبح تشريح بدن الانسان في المختبرات من الضروريات الحيوية التي يتوقف عليه نظام الطب الحديث، فلا يتسنّى تعلم الطب إلّا بالتشريح والإطلاع على خفايا الأمراض والأدوية.

غير أنّ هذه المصلحة تصادمها، مصلحة احترام المؤمن حيّه وميّته، إلى حد أوجب الشارع، الاسراع في تغسيله وتكفينه وتجهيزه للدفن، ولا يجوز نبش قبره إذا دفن، ولا يجوز التمثيل به وتقطيع أعضائه، بل هو من المحرمات الكبيرة التي لم يجوز الشارع حتى بالنسبة إلى الكلب العقور، غير أنّ عناية الشارع بالصحة العامة وتقدم العلوم جعلته يسوغ اقتراف هذا العمل لتلك الغاية، مقدماً بدن الكافر على المسلم، والمسلم غير المعروف على المعروف منه، وهكذا

الثالث: التشريع الإسلامي ذو مادة حيوية

إنّ التشريع الإسلامي في مختلف الأبواب، مشتمل على اُصول وقواعد عامة، تفي باستنباط آلاف من الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري، على امتداد القرون

٢٦٩

والأجيال، وهذه الثروة العلمية، التي اختصت بها الاُمّة الإسلامية من بين سائر الاُمم، أغنت الشريعة الإسلامية عن التمسّك بكل تشريع سواها.

وقد تضافرت الروايات على أنّ جميع ما يحتاج الناس إليه قد جاءت فيه آية محكمة أو سنّة متّبعة.

أخرج الكليني باسناده عن عمر بن قيس عن أبي جعفرعليه‌السلام قال سمعته يقول: إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله وجعل لكل شيء حداً، وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد حداً.

روي باسناده عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال سمعته يقول: ما من شيء إلّا وفيه كتاب أو سنّة.

اُخرج عن سماعة عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام قال: قلت له: أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه، أو تقولون فيه ؟ قال: بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيه(١) .

وهذا العلّامة الحلي، أحد فقهاء الإمامة في القرن الثامن، قد ألّف عشرات الكتب في الفقه واُصوله، منها « تحرير الأحكام الشرعية » وقد حوى من الأحكام والقوانين ما يربو على أربعين ألف مسألة، استنبطها من هذه الاُصول الواردة في القرآن والسنّة النبوية، والأحاديث المأثورة عن أئمّة الدين، رتبها على ترتيب كتب الفقه في أربع قواعد: العبادات، والمعاملات، والايقاعات، والأحكام(٢) .

وجاء من بعده من الفقهاء والمجتهدين، فبحثوا عن موضوعات وأحكام، لم تكن لعصره بها صلة، فاستخرجوا ما لها من الحكم الشرعي، من تلكم الاُصول والقواعد بوضوح وانطلاق، ولم يجدوا التشريع الإسلامي عاجزاً في هذه المجالات.

__________________

(١) راجع الكافي « باب الرد إلى الكتاب والسنّة » ج ١ ص ٥٩ ـ ٦٢، تجد فيه أحاديث تصرح بما ذكر، والمراد منها اُصول الأحكام وجذورها لا فروعها وجزئياتها.

(٢) راجع الذريعة: ج ٤ ص ٣٧٨.

٢٧٠

وهذا « صاحب الجواهر » ذلك الفقيه الأعظم، من فقهاء القرن الثالث عشر الإسلامي، قد جاء في مشروعه الوحيد « جواهر الكلام » بأضعاف ما جاء به العلّامة الحلي، فإنّ الباحث عندما يقف أمام هذا الكتاب الثمين وينظر في مباحثه، يرى أمامه بحراً يزخر بالدرر التي تحار في حصرها النهى والخواطر وتنبهر لها عيون البصائر، فلقد حوى من الفروع والقوانين، ما يعسر عدها.

ولأجل ذلك استعارت منا الاُمم الغربية كثيراً من قوانينه، ( بعكس ما نحن عليه الآن من تبعيّتنا للقوانين الأجنبية ) وليس ذلك إلّا لأجل كون الفقه الإسلامي ذا مادة حيوية، وقواعد متموّجة، تستطيع أن تواجه الأحداث الطارئة طيلة القرون.

يوم كان الإسلام يبسط ظله على أكثر من نصف المعمورة، حيناً من الدهر وإنّ الاُمّة الإسلامية، كانت تتألّف من شعوب مسلمة مختلفة الألوان، لكلّ بيئة خواصها في العادات والتقاليد، وما يقع فيها من وقائع وأحداث، كان التشريع الإسلامي بقواعده واُصوله الوافرة، وافياً لاستخراج أحكامها، من دون أن تمدّ يدها إلى المساعدات الأجنبية.

الرابع: تشريع الاجتهاد

وهو بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية عن مصادرها المعينة، وهو رمز خلود الدين وبقاء قوانينه، لأنّه يحفظ غضاضة الدين وطراوته، ويجدده ويصونه عن الإندراس، ويغني المسلمين عن موائد الأجانب، باعطائه كل موضوع ما يقتضيه من حكم.

« أمّا لزوم فتح هذا الباب في أعصارنا هذه فلا يحتاج إلى البرهنة والدليل إذ نحن في زمن تتوال فيه المخترعات والصناعات، وتجعلنا هذه المجالات أمام أحد اُمور :

أمّا بذل الوسع في استنباط أحكام الموضوعات الحديثة، من الاُصول والقواعد الإسلامية.

أو اتباع المبادئ الاوربية، من غير نظر إلى مقاصد الشريعة، وأمّا الوقوف من غير

٢٧١

اعطاء حكم »(١) .

« وليس الاجتهاد من البدع المحدثة، فإنّه كان مفتوحاً في زمن النبوّة وبين أصحابهصلى‌الله‌عليه‌وآله فضلاً عن غيرهم، وفضلاً عن سائر الأزمنة التي بعده، نعم غايته إنّ الاجتهاد يومئذ، كان خفيف المؤونة جداً، لقرب العهد، وتوفّر القرائن، وامكان السؤال المفيد للعلم القاطع، ثم كلّما بعد العهد من زمن الرسالة وكثرت الآراء والأحاديث والروايات، ربّما قد دخل فيها الدس والوضع، وتوفرت دواعي الكذب على النبي، أخذ الاجتهاد ومعرفة الحكم الشرعي، يصعب ويحتاج إلى مزيد من المؤونة واستفراغ الوسع »(٢) .

ويرشدك إلى وجوده في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قول الرسول لأمير المؤمنينعليه‌السلام عندما بعثه إلى اليمن: قال عليعليه‌السلام : بعثني رسول الله إلى اليمن، قلت يا رسول الله تبعثني وأنا شاب، أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء ؟ قال: فضرب بيده في صدري وقال: « اللّهمّ أهد قلبه وثبّت لسانه » فو الذي نفسي بيده ما شككت في قضاء بين اثنين(٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمعاذ بن جبل حين وجهه إلى اليمن: بم تقضي ؟ قال: بما في كتاب الله، قال فإن لم تجد ؟ قال: بما في سنّة رسول الله، قال: فإن لم تجد ؟ قال: اجتهد رأيي، ولا آلو جهداً، فسر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسوله بما يرضي رسوله(٤) .

__________________

(١) رسالة الإسلام، السنة الثالثة، العدد الثاني، عن مقال « أحمد أمين المصري ».

(٢) أصل الشيعة واُصولها، ص ١١٩ طبعة بيروت.

(٣) أعلام الورى: ص ١٣٧، والبحار: ج ٢١ ص ٣٦١، وشتان بين علمه واجتهادهعليه‌السلام وعلم الآخرين واجتهادهم.

(٤) الطبقات الكبرى: ج ٢ ص ٣٤٧ والاستيعاب، لابن عبد البر، في ترجمة « معاذ » واللفظ للثاني.

أقول: لو صح الحديث يكون المراد منه باعتبار وروده في أمر القضاء، هو فصل الخصومة في الأموال والنفوس، بما يعدها العقلاء عدلاً وأنصافاً وهذا المراد من قوله: اجتهد رأيي. وعندئذ لا يكون الحديث دليلاً على صحة مطلق الرأي حتى المستند إلى القياس والاستحسان واشباههما التي لا قيمة لها عندنا في عالم الاستنباط.

٢٧٢

« وبطبيعة الحال، أنّ الصحابي قد يسمع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في واقعة، حكماً ويسمع الآخر في مثلها خلافه، وتكون هناك خصوصية في أحدهما اقتضت تغاير الحكمين وغفل أحدهما عن الخصوصية أو التفت إليها وغفل عن نقلها مع الحديث فيحصل التعارض في الأحاديث ظاهراً، ولا تنافي واقعاً، ولهذه الأسباب وأضعاف أمثالها، احتاج حتى نفس الصحابة الذين فازوا بشرف الحضور، في معرفة الأحكام إلى الاجتهاد، والنظر في الحديث وضم بعضه إلى بعض والالتفات إلى القرائن الحالية، فقد يكون للكلام ظاهر، ومراد النبي خلافه اعتماداً على قرينة في المقام، والحديث نقل، والقرينة لم تنقل ».

« وكل واحد من الصحابة، ممن كان من أهل الرأي والرواية، تارة يروي نفس ألفاظ الحديث، للسامع من بعيد أو قريب، فهو في هذا الحال راو ومحدّث وتارة يذكر الحكم الذي استفاده من الرواية أو الروايات، بحسب نظره فهو في هذا الحال، مفت وصاحب رأي »(١) .

ولم يزل هذا الباب مفتوحاً عند الشيعة، من زمن صاحب الرسالة إلى يومنا هذا، وقد تخرج منهم الآلاف من المجتهدين والفقهاء، قد أحيوا الشريعة وأنقذوها من الانطماس، وأغنوا بذلك الاُمّة الإسلامية في كل مصر وعصر، عن التطلع إلى موائد الغربيين، وألّفوا مختصرات ومتطوّلات، لا يحصيها إلّا الله سبحانه.

وقد اقتدى الشيعة في فتح هذا الباب على مصراعيه في وجه الاُمّة بأئمّة دينهم وخلفاء رسولهم، الذين حثوا شيعتهم بأقوالهم وأفعالهم، على التفقّه في الدين والاجتهاد فيه، وأنّه « من لم يتفقّه، فهو اعرابي » وأرشدوهم إلى كيفية استخراج الفروع المتشابكة، من الآيات والاُصول المتلقاة عنهم، بالتدبر في الآيات والاُصول المتلقاة عنهم، وأمروا أصحابهم بالتفريع(٢) وقد بلغت عنايتهم بذلك ما جعلهم ينصبون بعض من يعبأ بقوله ورأيه في منصب الافتاء، إلى غير ذلك.

__________________

(١) أصل الشيعة: ص ١١٨.

(٢) ستوافيك روائع نصوصهم في هذا المضمار.

٢٧٣

والاجتهاد كما عرّفناك هو بذل الجهد في استنباط الأحكام عن أدلّتها الشرعية فلا يحتج به إلّا إذا بنيت أحكامه على أساس الكتاب والسنّة، وما يرجع إليها فهو مقيد من هذه الجهة وإن كان متحرراً من سوى ذلك، فلا يتقيد بمذهب ولا برأي، بل هو فوق المذاهب.

غير أنّ أئمّة أهل السنّة، قد أقفلوا باب الاجتهاد، إلّا الاجتهاد في مذهب خاص، كمذهب أبي حنيفة والشافعي، وبما أنّ الفتاوى المنقولة عنهم، مختلفة أخذ علماء كل مذهب يبذلون جهدهم لتشخيص ما هو رأي كل إمام في هذا الباب.

ولا أدري لماذا اقفل هذا الباب المفتوح من زمن الرسول، وإن تفلسف في بيان وجهه، بعض الكتّاب من متأخّريهم، وقال: ولم يكن مجرد اغلاق باب الاجتهاد باجتماع بعض العلماء واصدار قرار منهم، وإنّما كان حالة نفسية واجتماعية ذلك أنّهم رأوا غزو التتار لبغداد وعسفهم بالمسلمين، فخافوا على الإسلام ورأوا أنّ أقصى ما يصبون إليه، هو أن يصلوا إلى الاحتفاظ بتراث الأئمّة مما وضعوه واستنبطوه(١) .

ولا يكاد يخفى على القارئ الكريم ما في اعتذاره من الاشكال.

ولقد صدع بالحق الدكتور « حامد حفني داود » اُستاذ الأدب العربي بكلية الألسن في القاهرة في ما قدمه على كتاب عقائد الإمامية(٢) وقال :

إنّ الصورة المتوارثة عن جهابذة أهل السنّة أنّ الأجتهاد اُقفل بابه بأئمّة الفقه الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل.

هذا إذا عنينا الاجتهاد المطلق أمّا ما حاوله الفقهاء بعد هؤلاء من اجتهاد لا يعدو أن يكون اجتهاداً في المذهب أو اجتهاداً جزئياً في الفروع، وأنّ هذا ونحوه لا يكاد يتجاوز عند أهل السنّة القرن الرابع بحال من الأحوال، أمّا ما جاء عن الغزالي في القرن الخامس، وأبي طاهر السلفي في القرن السادس، وعز الدين بن عبد الله السلام وابن

__________________

(١) رسالة الإسلام: العدد الثالث، من السنة الثالثة عن مقال لأحمد أمين المصري.

(٢) للعلاّمة المغفور له الشيخ محمد رضا المظفر راجع ص ١٧ ـ ١٨ من المقدمة.

٢٧٤

دقيق العيد في القرن السابع، وتقي الدين السبكي، وابن تيمية في القرن الثامن والعلاّمة جلال الدين عبد الرحمان بن أبي بكر السيوطي في القرن التاسع فإنّ هذا ونحوه لا يتجاوز ـ في نظر المنهج العلمي الحديث ـ باب الفتوى ولا يدخل في شيء من الاجتهاد، وهو القدر الذي أوضحناه في كتابنا « تاريخ التشريع الإسلامي في مصر ».

أمّا علماء الشيعة الإمامية فإنّهم يبيحون لأنفسهم الاجتهاد في جميع صوره التي حدّثناك عنها، ويصرّون عليه كل الاصرار ولا يقفلون بابه دون علمائهم في أي قرن من القرون حتى يومنا هذا.

وأكثر من ذلك تراهم يفترضون بل يشترطون وجود « المجتهد المعاصر » بين ظهرانيهم، ويوجبون على الشيعة اتباعه رأساً دون من مات من المجتهدين مادام هذا المجتهد المعاصر استمد مقوّمات اجتهاده ـ اُصولها وفروعها ـ من المجتهدين، وورثها عن الأئمّة كابراً عن كابر.

وليس هذا غاية ما يلفت نظري أو يستهوي فؤادي في قولهم بالاجتهاد.

وإنّما الجميل والجديد في هذه المسألة أنّ الاجتهاد على هذا النحو الذي تقرأه عنهم يساير سنن الحياة وتطوّرها، ويجعل النصوص الشرعية حية متحركة نامية متطورة، تتمشى مع نواميس الزمان والمكان، فلا تجمد ذلك الجمود الذي يباعد بين الدين والدنيا، أو بين العقيدة والحياة الذي نشاهده في أكثر المذاهب التي تخالفهم. ولعل ما نلاحظه من كثرة عارمة في مؤلفات الإمامية وتضخّم مطّرد في مكتبة التشيّع راجع ـ في نظرنا ـ إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه ».

هذا هو الاجتهاد، وهذا دوره في خلود الدين وصلوحه للظروف والبيئات ولم يكن اغلاقه إلّا جهلاً بأهميته أو ابتغاء للفتنة، أو تزلفاً إلى أبناء الدنيا، أو جبناً عن النطق بالصواب، وعلى أي تقدير فقد تنبّه بعض الجدد(١) من أهل النظر بلزوم فتحه وإنمائه، وأنّ الاجتهاد أحد مصادر الشريعة التي تسع كل تطور تشريعي، قال في مقال

__________________

(١) الاُستاذ علي علي منصور المصري مستشار مجلس الدولة لمحكمة القضاء الاداري.

٢٧٥

له حول الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية بمصر وإثبات ما عليه القواعد الشرعية من سموّ وشمول ودقة وأحكام مع اتسامها دائماً بالجدة، وملائمة أحكامها لكل حضارة ولكل بيئة ولكل زمان: « النصوص الشرعية للأحكام التي وردت في الكتاب والسنّة قليلة إذا ما قيست بمواد القانون في أي شريعة وضعية، إذ الآيات القرآنية التي تضمّنت اُصول الأحكام على ما أحصاها ابن قيم الجوزية لا تعدو مائة وعشرين آية من نيف وستة آلاف آية، أمّا الأحاديث فخمسمائة من أربعة آلاف حديث، ولقد أراد الله بذلك أن يهيأ للناس فرصة الاجتهاد في الفروع دون الاُصول، فجعل النصوص الأصلية لقواعد الشريعة عامة، دون التعمّق في التفاصيل ليتسع لها عقل من نزل فيهم القرآن وليترك للقوى الانسانية التي أودعها مخلوقاته، فرصة العمل والتفكير والتدبير واستنباط الأحكام فيما لا نص فيه من كتاب أو سنّة، لما يجد ويعرض لهم في حياتهم من مشاكل وأقضية تختلف باختلاف الزمان والمكان، وهذا هو الاجتهاد وهو أحد مصادر الشريعة المحمدية.

ومشروعية هذا المصدر ثابتة من حديث معاذ بن جبل إذ أنّه لـمّا بعثه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليمن قال له: بم تقض يا معاذ؟ قال: بكتاب الله، قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن لم تجد ؟ قال: فبسنّة رسول الله، قال: وإن لم تجد ؟ قال: اجتهد برأيي، فأقره على ذلك »(١) وما كان يمكن أن ينزل الكتاب والسنّة على غير هذا الاجمال والتعميم، لأنّ هذه الشريعة إنّما نزلت لكل زمان وكل مكان:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) .

ولو أنّ صاحب الشريعة عني بالتفاصيل والجزئيات لوجب أن يقدر ما سيكون عليه العالم من نظم مختلفة واختراعات مستحدثة في جميع الأمكنة والأزمنة فيضع لها ولما تفرّع عنها، من التفاصيل، ولو أنّه فعل ذلك لما اتسع وقت الرسالة لهذا كلّه، بل لأعرض الناس عن هذه الدعوة لتعقدها، ولأنّها تضمّنت أحكاماً عن جزئيات ومخترعات لا تقع تحت حسهم، ويصعب عليهم تصورها، لأنّها لم تعرف في زمانهم، ولنضرب لذلك مثلاً

__________________

(١) قد مر المراد من الحديث فلاحظ.

٢٧٦

فقد نزلت في القرآن آية تضمّنت الحكم العام لآداب التلاوة وجرت على نسق مختصر:( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) وحدث بعد نزولها بنيف وألف وثلثمائة عام أن اخترع المذياع ( الراديو والتلفزيون )، ولما بدأ باذاعة آيات الذكر الحكيم به، بدأ التسائل عن حكم الشرع والدين في ذلك أحلال هو أم حرام ؟ وهل تصح اذاعته في منتدى ترتكب فيه الآثام والموبقات وتدار كؤوس الخمر ؟

لا بدع في أنّ حكم هذه الجزئية لم يرد بنص صريح في الكتاب، وانّ ذلك ترك للاجتهاد على هدى الحكم العام الوارد بالآية الشريفة، لا بدع في ذلك، إذ لو اُريد للشريعة أن تتضمّن الأحكام المفصلة لجميع الفروع والجزئيات لوجب أوّلاً افهام الذين نزل عليهم الدين وقت الرسالة ما هو الراديو وما هو التلفزيون، ولو حاول الرسول ذلك وقال لهم: إنّ مخترعات البشر باذن الله ستجيء للعالم بعد ألف وثلثمائة عام بآلة يستطيع بها الانسان أن يسمع ويرى صورة المحدث وهو على بعد آلاف الفراسخ والأميال، لما صدّقوه لعدم امكانهم تصوره ولجادلوه فأكثروا جداله في كنه تلك الآلة، ولما لزمتهم حجته في أنّ الذي يقوله ليس من عنده وإنّما هو من عند الله لأنّ الحجة لا تلزمها صفة الاقناع إلّا متى دخلت مناط العقل، أمّا إذا كانت فوق إدراك المرسل إليهم فهي داحضة

والاجتهاد هو الباب الذي دخلت منه إلى حضيرة الشريعة الإسلامية كل الحضارات بما فيها من مشاكل قانونية ومالية واجتماعية فوسعها جميعاً وبسط عليها من محكم آياته وسديد قواعده ما أصاب المحجة، فكان للشريعة الإسلامية في ذلك تراث ضخم تسامي على كل الشرائع وأحاط بكل صغيرة وكبيرة من اُمور الدين والدنيا

أفبعد ذلك يصح في الأفهام أن تتهم الشريعة الإسلامية بالقصور، أو بأنّها نزلت لعرب الجزيرة لتعالج اُمورهم في حقبة من الزمان انقضى عهدها، أو أنّها تضيق عن أن تجد الحلول لمشاكل الحضارات الحديثة، إرجعوا إليها وإلى تراثها الضخم تجدوا أنّها عالجت الجليل والخطير والصغير والكبير من اُمور الدين والدنيا فيها ذكر ما مضى ،

٢٧٧

وفيها ذكر الحاضر، وفيها ذكر المستقبل وسيظل العلم الحديث يكشف عمّا فيها من كنوز وستترى المشاكل على العالم جيل بعد جيل، ويضطرب العالم في محاولة الحلول لها دون جدوى إلّا إذا رجع إلى أحكام هذا الدين وهذه الشريعة المحكمة السمحة، حيث الدواء الشافي والعلاج الحاسم لكل ما يجيب العالم في حاضره وفي مستقبله(١) .

وممّا يؤيد لزوم انفتاح باب الاجتهاد إلى يوم القيامة هو ما ذكره المقريزي في خططه حيث قال ما هذا ملخّصه :

انّه لم يكن كل واحد من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله متمكناً من دوام الحضور عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأخذ الأحكام عنه، بل كان في مدة حياته يحضره بعضهم دون بعض وفي وقت دون وقت، وكان يسمع جواب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن كل مسألة يسأل عنها بعض الأصحاب ويفوت عن الآخرين فلمّا تفرق الأصحاب بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله في البلدان تفرقت الأحكام المروية عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها، فيروى في كل بلدة منها جملة، ويروى عنه في غير تلك البلدة جملة اُخرى حيث أنّه قد حضر المدني من الأحكام ما لم يحضره المصري، وحضر المصري ما لم يحضره الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضره البصري، وحضر البصري ما لم يحضره الكوفي إلى غير ذلك، وكان كل منهم يجتهد فيما لم يحضره من الأحكام.

ولعدم تساوي هؤلاء المجتهدين في العلوم والإدراكات وسائر القوى والملكات تختلف طبعاً الآراء والاجتهادات، فمجرد تفاوت أشخاص الصحابة تسبب اختلاف فتواهم ثم تزايد ذلك الاختلاف بعد عصر الصحابة.

ثمّ قال: ثمّ بعد الصحابة تبع التابعون فتاوى الصحابة فكانوا لا يتعدون عنها غالباً، ولما مضى عصر الصحابة والتابعين صار الأمر إلى فقهاء الأمصار أبي حنيفة والسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جريح بمكة، ومالك وابن الماجشون بالمدينة، وعثمان التيمي ( الظاهر عثمان بن مسلم البطي ) وسوار بالبصرة، والأوزاعي بالشام والليث بن سعد بمصر فكان هؤلاء الفقهاء يأخذون من التابعين وتابعيهم أو يجتهدون.

__________________

(١) مجلة رسالة الإسلام لجماعة دار التقريب العدد الأوّل من السنة الخامسة.

٢٧٨

وذكر المقريزي في الجزء الرابع من الخطط ما هذا ملخّصه :

انّه تولّى القاضي أبو يوسف القضاء من قبل هارون الرشيد بعد سنة ١٧٠ إلى أن صار قاضي القضاة فكان لا يولّي القضاء إلّا من أراده، ولـمّا كان هو من أخص تلاميذ أبي حنيفة فكان لم ينصب للقضاء ببلاد خراسان والشام والعراق وغيرها إلّا من كان مقلّداً لأبي حنيفة، فهو الذي تسبب في نشر مذهب الحنفية في البلاد.

وفي آوان انتشار مذهب الحنفية في المشرق نشر مذهب مالك في افريقية المغرب، بسبب زياد بن عبد الرحمان، فإنّه أوّل من حمل مذهب مالك إليها، وأوّل من حمل مذهب مالك إلى مصر سنة ١٦٠ هو عبد الرحمان بن القاسم.

قال: ونشر مذهب محمد بن ادريس الشافعي في مصر بعد قدومه إليها سنة ١٩٨ وكان المذهب في مصر لمالك والشافعي إلى أن أتى القائد « جوهر » بجيوش مولاه « المعز لدين الله أبي تميم معد » الخليفة الفاطمي، إلى مصر سنة ٣٥٨ فشاع بها مذهب الشيعة حتى لم يبق بها مذهب سواه ( أي سوى مذهب الشيعة ).

ثمّ إنّ المقريزي بين بدء انحصار المذاهب في أربعة فقال :

فاستمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة ٦٦٥ حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة وعودي من تمذهب بغيرها، وانكر عليه ولم يول قاض ولا قبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعمل على هذا إلى اليوم(١) .

وهذه الكلمة الأخيرة « وتحريم ما عداها » تكشف عن أعظم المصائب على الإسلام حيث أنّه قد مضى الإسلام ما يقرب من سبعة قرون ومات فيها على دين الإسلام ما لا يحصى عددهم إلّا ربّهم ولم يسمع أحد من أهل القرنين الأوّلين اسم المذاهب أبداً ثم فيما بعد القرنين كان المسلمون بالنسبة إلى الأحكام الفرعية في غاية من

__________________

(١) راجع الخطط المقريزية: ج ٢ ص ٣٣٣ و ٣٣٤ و ٣٤٤.

٢٧٩

السعة والحرية، كان يقلد عاميهم من اعتمد عليه من المجتهدين وكان المجتهدون يستنبطون الأحكام عن الكتاب والسنّة على موازينهم المقررة عندهم في العمل بالسنّة النبوية، فأي شيء أوجب في هذا التاريخ على عامة المسلمين: « العامي المقلد والفقيه المجتهد » أن لا يخرج أحد في الأحكام الشرعية عن حد تقليد الأئمّة الأربعة، وبأي دليل شرعي صار اتباع أحد المذاهب الأربعة واجباً مخيراً، والرجوع إلى ما ورائها حراماً معيّناً مع علمنا بأحوال جميع المذاهب من بدئها وكيفية نشرها وتأثير العوامل في تقدم بعضها على غيرها، بالقهر والغلبة من الدولة والحكومة كما أفصح عن بعض ذلك ما ذكره ابن الفوطي في الحوادث الجامعة، ص ٢١٦ في وقائع سنة ٦٤٥ يعني قبل انقراض بني العباس باحدى عشرة سنة في أيام المستعصم الذي قتله هولاكو، سنة ٦٥٦ فلاحظ ذلك الكتاب(١) .

وفي الختام نلفت نظر القارئ الكريم لمعرفة قضية الاجتهاد وتطورة وعلل إيصاد بابه لدى بعض المسلمين إلى المصادر التالية :

١. المواعظ والاعتبار في الخطط والآثار: تأليف الشيخ تقي أبو العباس المعروف بالمقريزي المولود في بعلبك عام ٧٦٦ والمتوفّى بالقاهرة عام ٨٤٥.

٢. تاريخ اليعقوبي المعروف بابن واضح وقد طبع عام ١٣٥٨.

٣. الحوادث الجامعة في المائة السابعة لكمال الدين عبد الرزاق بن المروزي الفوطي البغدادي المتوفّي سنة ٧٢٣.

٤. الانصاف في بيان سبب الاختلاف.

٥. عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد: ألّفهما ولي الله الدهلوي المولود سنة ١١١٤ والمتوفّى ١١٨٠.

٦. الاقليد لأدلّة الاجتهاد والتقليد.

__________________

(١) راجع تاريخ حصر الاجتهاد لشيخنا العلّامة الطهراني ص ١٠٤.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543