مفاهيم القرآن الجزء ٣

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 543

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 543 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196614 / تحميل: 5848
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

٧. الطريقة المثلى في الاشارة إلى ترك التقليد: ألّفهما صديق حسن خان القنوجي البخاري المتوفّى سنة ١٣٠٧، وطبعا بالاستانة عام ١٢٩٥.

٨. حصول المأمول من علم الاُصول: له أيضاً طبع في الجوائب سنة ١٢٩٦.

٩. مقالة صاحب السعادة أحمد تيمور باشا ابن إسماعيل بن محمد المولود في القاهرة سنة ١٢٨٨ وهي تحت عنوان نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة، طبعت مستقلة في القاهرة سنة ١٣٤٤.

١٠. ما كتبه محمد فريد وجدي في دائرة معارفه في مادتي « جهد وذهب » وما كتبه يعد أبسط ما كتب في الموضوع.

١١. أعلام الموقعين عن ربّ العالمين: للحافظ ابن القيم.

١٢. تاريخ حصر الاجتهاد: لشيخنا العلّامة الطهراني المتوفّى يوم الجمعة ١٣ ذي الحجة عام ١٣٨٩.

إلى غير ذلك من المؤلفات، وقد أشار إلى غير ما ذكرنا صديق حسن خان في كتابه حصول المأمول في علم الاُصول ص ١٩٨.

الحقيقة بنت البحث :

كلمة موجزة ومثل سائر، يهدف إلى أوضح الحقائق وأنصعها ويفيد أنّ الوقوف على الحقيقة وإماطة الستر عن وجهها وليد النقاش العلمي ووليد المحادثة وهذا مما لا يرتاب فيه أحد ويدركه كل من له حظ من الفكر والنظر.

وفي الحقيقة إنّ التقاء أفكار ذوي الآراء كالتقاء الأسلاك الكهربائية، فكما أنّ الأشعة الكهربائية، تتفجر من اتصالها سلباً وإيجاباً، فكذلك نور الحقيقة يشع أمامنا بتبادل الفكرتين وتعارضهما بالنفي والإيجاب.

إذ طالما يتخيل للانسان أنّه صائب في فكره ونظره، فإذا عرضه للبحث والنقاش

٢٨١

وتوارد عليه النفي والاثبات ربّما ظهر وهنه وضعفه.

نعم يجب على الباحث عن الحقيقة أن يعرض آراءه وأفكاره للجو الهادئ المتحرر عن التعصب لفئة غابرة، أو فكرة حاضرة، الشاخص أمام كل رأي فارغ عن الدليل والبرهنة، فالاجتهاد بهذا النحو رمز كشف الحقيقة، رمز خلود الإسلام وبقائه، رمز كونه غضاً طرياً في كل عصر وجيل.

نعم ربّما يجد الناشئ الجديد في نفسه حرجاً عند وقوفه على اختلاف أصحاب الآراء والمذاهب في اُصول الإسلام وفروعه، ويتخيله حاجزاً يعرقل خطاه عن الوصول إلى الواقع، ويتمنّى رفع الخلاف الفكري في المسائل من رأس بتأسيس مؤتمرات علمية من ذوي الأفكار.

بل ربّما نسمع من بعض الشباب سؤالاً يوجهه إلى الهيئات العلمية الإسلامية ويقول كان في وسع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجمع اُصول الإسلام وفروعه وكل ما يرجع إليه في كتاب، ويتركه بين الاُمّة حتى يسد بذلك باب التقوّل من بعده على المتقوّلين، فلماذا لم يفعل ذلك ؟!

لكنّه رأي غير ناضج، إذ لو جمعها النبي في كتاب وسلمه إلى الاُمّة، لاستولى الركود الفكري والتدهور العقلي على عقلية الاُمّة، وانحسر كثير من المفاهيم والقيم الإسلامية عن ذهنيتها، وأوجب ضياع العلم وتطرق التحريف إلى اُصوله وفروعه حتى إلى الكتاب الذي كتب فيه كل صغير وكبير.

فلم تقم للإسلام دعامة، ولا حفظ كيانه ونظامه، إلّا على ضوء هذه البحوث العلمية والنقاشات الدارجة بين العلماء، ورد صاحب فكر على ذي فكر آخر بلا محاباة.

وقد حكى شيخنا العلّامة المتضلّع شيخ الشريعة الاصفهاني(١) في مقدمة

__________________

(١) فقيه متضلّع، اُصولي بارع، خبير باسرار الحديث والتفسير فهو ممن يضن بهم الدهر إلّا في فترات يسيرة، كانرحمه‌الله آية في الذكاء والحفظ، أثنى عليه كل من أدركه وقرأ عليه، توفّي عام ١٣٣٩ هجرية قمرية في النجف الأشرف ودفن في الصحن الحيدري.

٢٨٢

كتابه(١) عن بعض الأعلام كلاماً يعرب عمّا قلناه، قال: إنّ عدم محاباة العلماء بعضهم لبعض من أعظم مزايا هذه الاُمّة التي أعظم الله بها عليهم النعمة، حيث حفظهم عن وصمة محاباة أهل الكتابين، المؤدية إلى تحريف ما فيها، وإندارس تينك الملتين، فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخول إلّا بيّنوه، ولفاعل فيه تحريف، إلّا قوّموه، حتى اتضحت الآراء وانعدمت الأهواء ودامت الشريعة البيضاء على ملئ الآفاق بأضوائها وشفاء القلوب بها من أدوائها، مأمونة عن التحريف، ومصونة عن التصحيف.

شبهة حول الاجتهاد الدارج في عصرنا :

ربّما يختلج في اذهان بعض القصر من الناس عدم مشروعية الاجتهاد الدارج في أعصارنا هذه مستدلاً بأنّ الفقه في هذه الأعصار أخذ لنفسه صورة فنية، وجاء على طراز سائر العلوم العقلية الفكرية بعدما كان في أعصار المتقدمين من العلوم البسيطة المبنية على سماع الأحكام من النبي والأئمّة وبثّها بين الناس من دون أن يجتهد الراوي في تشخيص حكم الله ويرجّح دليلاً على الآخر، أو يقيده أو يخصّص واحداً بالآخر، إلى غير ذلك من الاُصول الدارجة في زماننا.

الجواب عن الشبهة :

إنّ ذلك أشبه شيء بالشبهة ويمكن الجواب عنه بوجهين :

الأوّل: أنّ الاجتهاد بالمعنى الوسيع وأعمال النظر في الروايات، والتدقيق في دلالتها، وترجيح بعضها على بعض، كان موجوداً في أعصارهم، دارجاً بين أصحابهم فإنّ الاجتهاد وإن توسع نطاقه في أعصارنا وبلغ مبلغاًعظيماً، إلّا أنّ أصل الاجتهاد بالمعنى الجامع بين عامة مراتبه كان دارجاً في تلك الأعصار وأنّ الأئمّة أرجعوا شيعتهم إلى فقهاء أعصارهم، وكانت سيرة الناس الرجوع إليهم من دون تزلزل وتردد، أمّا ما يدل

__________________

(١) ابانة المختار، مخطوط نحتفظ بنسخة منه.

٢٨٣

على وجود الاجتهاد بهذا المعنى في أعصارهم فعدة روايات هي :

١. ما رواه ابن ادريس في « مستطرقات السرائر » نقلاً عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: إنّما علينا أن نلقي إليكم الاُصول وعليكم أن تفرّعوا(١) .

٢. ما روى عن كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضاعليه‌السلام : « قال علينا القاء الاُصول وعليكم التفريع »(٢) فإنّ التفريع الذي هو استخراج الفروع عن الاُصول الكلية الملقاة، وتطبيقها على مواردها وصغرياتها، إنّما هو شأن المجتهد وما هو إلّا الاجتهاد، نعم التفريع والاجتهاد يتفاوت صعوبة كما يتفاوت نطاقه حسب مرور الزمان، فإذا قالعليه‌السلام : لا تنقض اليقين بالشك، أو روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ضرر ولا ضرار، كان على المخاطبين وعلى علماء الأعصار المستقبلة استفراغ الوسع في تشخيص صغرياتها وما يصلح أن يكون مصداقاً له أو لا يصلح، فهذا هو ما نسميه الاجتهاد.

٣. ما رواه الصدوق في معاني الأخبار عن داود بن فرقد، قال: سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول: أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا إنّ الحكمة لتصرف على وجوه ولو شاء انسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب(٣) .

فإنّ عرفان معاني الكلام ليس إلّا تشخيص ما هو الأظهر بين المحتملات، بالفحص عن القرائن الحافّة بالكلام وبعرض أخبارهم على الكتاب والسنّة إلى غير ذلك ممّا يتضح به المراد، ويتعيّن ما هو المفاد، وليس هذا إلّا الاجتهاد.

٤. ما رواه الصدوق في عيونه بإسناده عن الرضاعليه‌السلام قال: من رد متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم، ثم قال: إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن ومتشابهاً كمتشابه القرآن فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا(٤) فإنّ رد المتشابه إلى محكمه يجعل أحدهما قرينة على الآخر، لا يتحقق

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ج ١٨: ص ٤١ ـ ٤٢، كتاب القضاء الباب ٦ من أبواب صفات القاضي، الحديث ٥١ و ٥٢.

(٣ و ٤) الوسائل: ج ١٨ كتاب القضاء الباب التاسع من أبواب صفات القاضي الحديث ٢٧ و ٢٢.

٢٨٤

بدون الاجتهاد.

٥. الروايات الواردة في تعليم أصحابهم كيفية استفادة الأحكام والفروع عن الذكر الحكيم، مثل قول الإمام الباقرعليه‌السلام بعد ما سأله زرارة بقوله: إلّا تخبرني من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فضحك وقال: يا زرارة قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ونزل به الكتاب عن الله عزّ وجلّ قال:( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل، ثم قال:( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ ) فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين، ثم فصل بين الكلام فقال:( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) فعرفنا حين قال:( بِرُءُوسِكُمْ ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال:( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما ثم فسّر ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فضيّعوه(١) .

٦. ما في رواية عبد الأعلى مولى آل سام بعد ما سأل الإمام عن حكم المسح على المرارة. قال: هذا واشباهه يعرف من كتاب الله عزّ وجلّ قال الله تعالى:( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ( الحج ـ ٧٨ ) امسح على المرارة، فقد أوضح على السائل كيفية الاستنباط، ورد الفروع على اُصولها(٢) ونظير ما تقدم بل أقوى منه ما في مرسلة(٣) يونس الطويلة الواردة في أحكام الحائض والمستحاضة، فإنّ فيها موارد ترشدنا إلى طريق الاجتهاد إلى غير ذلك من الروايات المرشدة إلى دلالة الكتاب وكيفية الاستدلال، وهي منبثّة في طيات أبواب الفقه فراجع :

٧. قول الباقرعليه‌السلام لزرارة ومحمد بن مسلم حيث سألا أبا جعفر الباقرعليه‌السلام وقالا له: ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي ؟ فقال: إنّ الله عزّ

__________________

(١) الوسائل: ج ١ أبواب الوضوء الباب ٢٣ الحديث ١.

(٢) الوسائل: ج ١ أبواب الوضوء الباب ٣٩ الحديث ٥.

(٣) وسائل الشيعة: ج ٢ أبواب الحائض الباب ٣ الحديث ٤.

٢٨٥

وجلّ يقول:( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) ( النساء ـ ١٠١ ).

فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في الحضر، قالا قلنا: إنّما قال الله عزّ وجلّ:( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ) ولم يقل: « افعلوا » فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر ؟ فقالعليه‌السلام : أوليس قد قال الله عزّ وجلّ:( إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) ( البقرة ـ ١٥٨ ).

ألاّ ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض لأنّ الله عزّ وجلّ ذكره في كتابه وصنعه نبيه وكذلك التقصير شيء صنعه النبي وذكره الله في كتابه(١) .

٨. مقبولة عمر بن حنظلة ورواه المشايخ العظام في جوامعهم وتلقاها الأصحاب بالقبول، بل عليها المدار في كتاب القضاء وهي تصرح بوجود الاجتهاد بالمعنى الدارج في زماننا في عصر الصادقعليه‌السلام ودونك متنها: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحل ذلك ؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتاً وإن كان حقّه ثابتاً لأنّه أخذ بحكم الطاغوت ـ إلى أن قال: ـ قلت: كيف يصنعان ؟ قال: ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي جعلته عليكم حاكماً ومن ردّه فإنّما بحكم الله استخف، وعلينا قد رد والراد علينا كالراد على الله وهو على حد الشرك بالله، قلت: فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.

قال: قلت: فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه ؟ قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به، المجمع

__________________

(١) الوسائل: ج ٥: ص ٥٣٨، الباب ٢٢ من أبواب صلاة المسافر، الحديث٢.

٢٨٦

عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، إلى آخر ما أفاده وفيه إرشاد إلى كيفية استنباط الحكم عن الكتاب والسنّة، وعلاج الخبرين المتعارضين بعرضهما عليهما(١) .

٩. روى العباس بن هلال عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: ذكر أنّ ابن أبي ليلى وابن شبرمة دخلا المسجد الحرام فأتيا محمد بن عليعليه‌السلام فقال لهما: بما تقضيان ؟ فقالا: بكتاب الله والسنّة، قال: فما لم تجداه في الكتاب والسنّة؟ قالا: نجتهد رأينا، قالعليه‌السلام : رأيكما أنتما ؟

فما تقولان في امرأة وجاريتها كانتا ترضعان صبيين في بيت وسقط عليهما فماتتا وسلم الصبيان ؟ قالا: القافة، قال: القافة يتجهم منه لهما، قالا: فاخبرنا ؟ قال: لا !!

قال ابن داود: مولى له جعلت فداك بلغني أنّ أمير المؤمنين علياًعليه‌السلام قال: ما من قوم فوّضوا أمرهم إلى الله وألقوا سهاهم إلّا خرج السهم الأصوب فسكت(٢) .

١٠. روى الصيقل عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قلت: رجل طلّق امرأته طلاقاً لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره فتزوّجها رجل متعة أتحل للأوّل ؟ قالعليه‌السلام : لا، لأن الله تعالى يقول:( فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا ) ( البقرة ـ ٢٣٠ ) والمتعة ليس فيها طلاق(٣) .

١١. روى الحسن بن الجهم قال: قال لي أبو الحسن الرضاعليه‌السلام : يا أبا محمد ما تقول في رجل يتزوّج نصرانية على مسلمة ؟ قلت: جعلت فداك، وما قولي بين يديك ؟ قال: لتقولنّ فإنّ ذلك تعلم به قولي، قلت: لا يجوز تزويج نصرانية على مسلمة ولا على غير مسلمة، قال: ولِمَ ؟ قلت: لقول الله:( وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ) ( البقرة ـ ٢٢١ ) قال: فما تقول هذه الآية :

__________________

(١) الوسائل كتاب القضاء ج ١٨ الباب التاسع من أبواب صفات القاضي الحديث ١.

(٢) التهذيب: ج ٩ باب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم ص ٣٥٩.

(٣) الوافي: ج ٣ أبواب النكاح باب تحليل المطلّقة لزوجها ص ٤٧.

٢٨٧

( وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ) ؟ ( المائدة ـ ٥ ) قلت فقوله:( وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ ) نسخت هذه الآية فتبسّمعليه‌السلام ثم سكت(١) .

١٢. بل يظهر من كثير من الروايات وجود الاجتهاد بين أصحاب الأئمّة ونورد من تلكم الروايات حديثاً واحداً.

روى حسن بن محمد بن سماعة قال: سمعت جعفر بن سماعة وسئل عن امرأة طلقت على غير السنّة: ألي أن أتزوّجها ؟ فقال: نعم، فقلت: أليس تعلم أنّ علي بن أبي حمزة، روى: « إيّاكم والمطلّقات ثلاثاً على غير السنّة فإنّهنّ ذوات الأزواج » ؟ فقال: يا بني رواية علي بن أبي حمزة أوسع على الناس، قلت: وأي شيء روى علي بن أبي حمزة ؟ قال: روى عن أبي الحسن أنّه قال: الزموهم من ذلك ما ألزموا به أنفسهم، وتزوّجوهنّ فأنّه لا بأس بذلك(٢) .

فقد اجتهد جعفر بن سماعة حيث قدم الخبر الثاني على الأوّل باحدى ملاكات التقديم.

وقد ألّف في هذا المضمار العلّامة الحجة السيد عبد الرسول الشيرازي رسالة ممتعة وطبع قسم منها في بعض المجلاّت نسأل الله أن يوفّقه لنشر الجميع.

الخامس: حقوق الحاكم الإسلامي :

من الأسباب الباعثة على بقاء الدين وكونه ذا مادة حيوية صالحة لحل المشاكل والمعضلات الطارئة، كون الحاكم الإسلامي بعد النبي ممثلاً لقيادته الحكيمة في اُمور الدين والدنيا، التي من شأنها أن توجّه المجتمع البشري إلى أرقى المستويات الحضارية الصحيحة، فقد منح مثل هذا الحاكم بنص الشريعة الإسلامية كافة الصلاحيات

__________________

(١) الوافي: ج ٣ ص ٢٦ باب نكاح الذمية المشركة.

(٢) الوافي: ج ٢ كتاب الطلاق ص ١٦١ باب أنّ المخالف يقع طلاقه.

٢٨٨

المؤدية إلى حق التصرف المطلق في كل ما يراه ذا مصلحة للاُمّة، لأنّه يتمتع بمثل ما يتمتع به النبي والإمام من النفوذ المطلق، إلّا ما يعد من خصائصهما.

وإلى ذلك يشير شيخ الاُمّة الميرزا النائيني في أثره الخالد « تنبيه الاُمّة وتنزيه الملة » ويقول: « فوّض إلى الحاكم الإسلامي وضع ما يراه لازماً من المقررات لمصلحة الجماعة وسد احتياجاتها، في اطار القوانين الإسلامية »(١) .

مثلاً إذا رأى الحاكم، أنّ المصلحة تقتضي فتح طريق أو شارع، فقد فوض إليه ذلك الأمر، فله أن يقرر وينفذ ما يحقق هذه الغاية، في ضوء العدل والانصاف كاجبار أصحاب الأراضي التي يمر بها الطريق على بيع أراضيهم ووضع ضريبة على صنف خاص من الشعب، أو كلّه لتأمين هذه الغاية.

وله أن يقرر ما يراه مناسباً لتنظيم السير، متوخياً في ذلك سلامة النفوس وسهولة الذهاب والاياب، كل ذلك في إطار القوانين العامة الإسلامية.

وهذه الحقوق كانت ثابتة في الدرجة الاُولى، للنبي الأعظم، لقوله تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ( الأحزاب ـ ٦ ) وبعده لخلفائه المعصومين، أئمّة الدين، وفوضت من بعدهم، إلى علماء الاُمّة وفقهائهم الذين اُلقيت على كواهلهم اُمور تدبير حياة الاُمّة، وصيانة الشريعة، بالأدلّة القطعية المقررة في محلها.

إنّ الحاكم الإسلامي إذا نجح في تأسيس حكومة إسلامية في قطر من أقطار الإسلام أو في مناطقه كلّها وتوفرت فيه الشرائط والصلاحيات اللازمة وأخص بالذكر العلم الوسيع والعدل، يجب على المسلمين اطاعته، وله من الحقوق والمناصب والولاية، ما للنبي الأكرم من اعداد القوات العسكرية ودعمها بالتجنيد وتعيين الولاة وأخذ

__________________

(١) تنبيه الاُمّة وتنزيه الملة: ص ٩٧ ولا ينافي ما ذكره شيخ الاُمّة المحقق النائيني مع ما حققناه في الجزء الأول من كون التقنين والتشريع مختصاً بالله سبحانه، فإنّ ما يضعه الحاكم الإسلامي، أو مجلس الشورى إنّما هو من قبيل التخطيط، وتطبيق الكليات على مواردها لا من قبيل التشريع والتأسيس.

٢٨٩

الضرائب وصرفها في محالها إلى غير ذلك

وليس معنى ذلك أنّ الفقهاء والحكّام الإسلاميين مثل النبي والأئمّة في جميع الشؤون والمقامات حتى في الفضائل النفسانية والدرجات المعنوية فإنّ ذلك رأي تافه لا يركن إليه، إذ إنّ البحث إنّما هو في الوظائف المخوّلة إلى الحاكم الإسلامي والموضوعة على عاتقه لا في المقامات المعنوية والفضائل النفسانية، فإنّهم صلوات الله عليهم في هذا المضمار في درجة لا يدرك شأوهم ولا يشق لهم غبار حسب روائع نصوصهم وكلماتهم.

وليست السلطة مفخرة للحاكم يعلو بها على سائر المحكومين بل هي من وجهة النظر الإسلامية مسؤولية اجتماعية كبرى أمام الله سبحانه أوّلاً، وأمام المسلمين ثانياً، والجهة الجامعة ما بين الحاكم والإمام في إدارة دفة الحكم وسياسة العباد ليس لها أي ارتباط بالمثل الخلقية والصفات النفسانية(١) .

وهذه الوجوه التي مرت عليك بالاجمال أوجبت خلود الشريعة، وبقاءها وصلاحها لإدارة المجتمع في الأعصار كلّها، مع اختلافها في الحضارة والتقدم.

الأمر الثاني مرونة أحكامه :

من الأسباب الدافعة إلى صلوح الإسلام للبقاء والخلود، مرونة أحكامه التي تمكّنه من أن يماشي جميع الأزمنة والحضارات، وقد تمثّلت هذه المرونة باُمور :

١. الإسلام دين جامع والاُمّة الإسلامية اُمة وسط :

إنّ من الأسباب التي أوجبت خلود الدين الإسلامي، وأعطته الصلاحية للبقاء مع اختلاف الظروف وتعاقب الأجيال، كونه ديناً جامعاً بين الدعوة إلى المادة والدعوة

__________________

(١) ولاية الفقيه للاُستاذ الأكبر الإمام الخميني ـ قدّس الله سرّه ـ ص ٦٣ ـ ٦٦ وقد أشبعنا الكلام حول حقوق الحاكم الإسلامي في الجزء السابق فلاحظ.

٢٩٠

إلى الروح، ديناً وسطاً بين الماديّة البحتة والروحية المحضة، فقد آلف بتعاليمه القيمة بينهما، موالفة تفي بحق كل منهما، بحيث يتيح للانسان أن يأخذ قسطه من كل منهما بقدر ما تقتضيه المصلحة.

وذلك أنّ المسيحية غالت في التوجه إلى الناحية الروحية، حتى كادت أن تجعل كل مظهر من مظاهر الحياة المادية خطيئة كبرى، فدعت إلى الرهبانية والتعزّب وترك ملاذ الحياة والانعزال عن المجتمع، والعيش في الأديرة وقلل الجبال، وتحمل الظلم والرفق مع المعتدين، كما غالت اليهودية في الانكباب على المادة حتى نسيت كل قيمة روحية، وجعلت الحصول على المادة بأي وسيلة كانت، المقصد الأسنى، ودعت إلى القومية الغاشمة والطائفية الممقوتة.

وهذه المبادئ سواء أصحت عن الكليم والمسيحعليه‌السلام أم لم تصح ( ولن تصح إلّا أن يكون لاصلاح انغمار الشعب الاسرائيلي في ملاذ الحياة يوم ذاك وانجائهم عن التوغل في الماديات وسحبهم إلى المعنويات بشدة وعنف ) وإن شئت قلت: « كانت تعاليمه اصلاحاً مؤقتاً لاسراف اليهود وغلوهم في عبادة المال حتى أفسد أخلاقهم وآثروا دنياهم على دينهم والغلو يقاوم موقتاً بضده »(١) . لا تتماشى مع الحضارات الانسانية التقدمية ولا تسعدها في معترك الحياة، ولا تتلائم مع حكم العقل ولا الفطرة السليمة.

لكن الإسلام جاء لينظر إلى واقع الانسان، بما هو كائن، لا غنى له عن المادة، ولا عن الحياة الروحية، فأولاهما عنايته، فدعا إلى المادة والالتذاذ بها بشكل لا يؤثر معه على الحياة الروحية، كما دعا إلى الحياة الروحية بشكل لا يصادم فطرته وطبيعته.

وحصيلة البحث: أنّه لم يعطل الفطرة في تشريعه وتقنينه، بل جعلها مقياساً لحكمه بالوجوب والتحريم، فإذا كان الحكم مطابقاً لطبع من شرعت له الأحكام حافظاً لكيانه، لا يتعارض مع ما يحتاج إليه جسمه وروحه، كان ماضياً ونافذاً حسب بقاء الفطرة ودوامها.

__________________

(١) الوحي المحمدي: ص ١٥٣.

٢٩١

وأمّا تفصيل الآيات التي تمثل رأي الإسلام في الدعوة إلى الدين والدنيا، إلى الروح والجسم، إلى المادة والمعنى، فليرجع فيه إلى الكتب المعدة لبيان ذلك.

ونختم البحث بكلمة عن أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قال: للمؤمن ثلاث ساعات، ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يرم فيها معاشه، وساعة يخلي بينه وبين نفسه ولذاتها(١) .

فقد قرن بين عبادة الله وطلب الرزق وترفيه النفس، بحيث جعل الجميع في مستوى واحد، فندب إلى عبادة الله، كما ندب إلى طلب المعاش، وتوخي اللذة بحكم واحد بلا مفاضلة.

فلو كان أداء الصلاة والصوم والقيام بالحج وظيفة دينية، فشق الطريق لطلب الرزق والمعاش، والقيام بالنزهة بين الرياض أو سباحة في البحر والعمل الرياضي البدني، وظيفة دينية للمؤمن، كما نص الإمامعليه‌السلام .

وهذا من الاُسس التي تنسجم مع الإسلام وتحول بينه وبين التصادم مع الحضارات المتواصلة، إلى عصرنا هذا، فإذا كان المنهج، منهجاً متوسّطاً بين المادية والروحية، مطابقاً لفطرة الانسان انقادت له مقاليد الحضارات الانسانية الصاعدة وارتفع التصادم.

٢. النظر إلى المعاني، لا المظاهر :

إنّ الإسلام ينظر إلى المعاني والحقائق، لا المظاهر والقشور، ولذلك لا تجد في الإسلام مظهراً خاصاً من مظاهر الحياة، له من القداسة ما يمنع تغييره، ويوجب حفظه إلى الأبد بشكله الخاص، ولأجل ذلك لا يقع التصادم بين تعاليمه مع التقدم العلمي الهائل في مظاهره، وأشكاله الخارجية.

توضيحه: أنّه لا شك أنّه كان في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هندسة خاصة للمساكن

__________________

(١) نهج البلاغة باب الحكم، رقم ٣٩٠.

٢٩٢

والبيوت، وشكل خاص في المأكل والملبس، ونمط خاص لبث العلم والتربية غير أنّ الذي كان يهم الإسلام ـ في جميع الأزمنة ـ لم يكن تخطيط الحياة البشرية على تلك الأشكال والأنماط بل كان الحقيقة والجوهر من كل ذلك، فإنّ الذي يبتغيه الدين الإسلامي هو وجود المسكن وتوفر الملبس وإشاعة العلم والتربية، وكون الغذاء حلالاً طيباً طاهراً.

وأمّا الكيفية والشكل والصورة فلا يهم الدين ولا يحدد شيئاً في مجاله، فليكن البيت بأيّة هندسة كانت، ولتصنع الملابس بأي شكل كان، وليطبخ الناس طعامهم على النحو الذي يريدون، وليشاع العلم بأيّة وسيلة كانت فليس كل ذلك مهماً ومطروحاً للدين.

وهذا هو سر خاتمية الدين الإسلامي وهذا هو سر خلوده، وتمشّيه مع تطور الحياة، وتقدم الحضارات.

والذي يوقفك على ذلك أنّ بيع الدم وشراءه كان من المعاملات المحرّمة ومصداقاً لقوله سبحانه :

( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ) ( البقرة ـ ١٨٨ ).

وذلك لعدم وجود منفعة محلّلة للدم ولذلك قال الشيخ الأعظم الأنصاري في مكاسبه ( ص ٤١ ) :

« تحرم المعاوضة على الدم بلا خلاف » بل عن النهاية وشرح القواعد لفخر الدين والتنقيح: « الاجماع عليه، وتدل عليه الأخبار ».

بيد أنّ تقدم العلوم والحضارة أوجد للدم منفعة محلّلة كبيرة، فعليها تقوم « العملية الجراحية » ومداوة الجرحى عن طريق الحقن الدموية.

ولهذا عادت المعاملة بالدم ـ في هذا العصر ـ معاملة صحيحة، لا بأس بصحّتها وجوازها وليس هذا من قبيل منسوخية الحكم بل لتبدّل الحكم بتبدّل موضوعه كتبدل الخمر إلى الخل.

٢٩٣

وقس على ذلك سائر الاُمور فللإسلام خاصية الاهتمام باللب والجوهر في عامة المجالات وهذا أحد العناصر التي تجعله يساير عامة الحضارات الإنسانية إلى قيام يوم الدين.

٣. الأحكام التي لها دور التحديد :

من الأسباب الموجبة لمرونة هذا الدين وانطباقه على جميع الحضارات الانسانية تشريعه للقوانين الخاصة التي لها دور التحديد والرقابة بالنسبة إلى عامة تشريعاته وقد اصطلح عليها الفقهاء، بالأدلّة الحاكمة، لأجل حكومتها وتقدمها على كلّ حكم ثبت لموضوع بما هو هو. فهذه القوانين الحاكمة، تعطي لهذا الدين مرونة يماشي بها كل حضارة انسانية، مثلاً: قوله سبحانه :

( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ( الحج ـ ٧٨ ) حاكم على كل تشريع استلزم العمل به حرجاً، لا يتحمل عادة، للمكلف، فهو مرفوع، في الظروف الحرجية، ومثلاً قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا ضرر ولا ضرار » فكل حكم استتبع العمل به ضرراً شديداً، فهو مرفوع في تلك الشرائط، وقس عليهما غيرهما من القوانين الحاكمة.

نعم تشخيص الحاكم عن المحكوم، وما يرجع إلى العمل بالحاكم من الشرائط، يحتاج إلى الدقة والامعان والتفقّه والاجتهاد، ومن رأينا أنّ الموضوع يحتاج إلى التبسط أكثر من هذا، فالى مجال آخر أيها القارئ الكريم.

خاتمة المطاف :

إنّ بعض الكتّاب من الجدد طرح سؤالاً في المقام وجاء بجواب مبهم أوجد قلقاً واستياء في الأوساط العلمية ونحن ننقله بتعريب منّا :

السؤال: إنّكم تذهبون إلى ضرورة التكامل حتى في وجود الشخص النبي وأثبتم أنّ كل موجود يحتاج إلى السير التكاملي، إذن لماذا كان النبي محمد يقول: أنا خاتم

٢٩٤

النبيين ؟

الجواب: لقد أجاب على قسم من هذا الفيلسوف الإسلامي الكبير « محمد اقبال » وأضيف أنا الجواب على بقيته، وهو ما أذهب إليه وأنا مسؤول عنه، فأقول: عندما يقول النبي: « أنا خاتم الأنبياء » لا يريد أن يقول: « إنّ التشريعات التي أتيت بها تكفي البشرية إلى الأبد » بل الخاتمية تريد أن تقول: كان الانسان يحتاج حتى الآن ـ لاستمرار حياته إلى الهداية بما وراء ما يستمده من عقله وما توحيه تربيته البشرية، والآن في هذا العصر ( القرن السابع الميلادي ) وبعد أن أوجدت المدنية اليونانية وحضارة روما والتمدّن الإسلامي، وبعد أن اُنزل القرآن والإنجيل والتوراة، بلغت التربية المذهبية إلى الحد الذي كان لابد منه. وبعد هذا العصر ـ وعلى ضوء هذا القسم من التربية ـ بإمكان الانسان أن يحيى ويتكامل من دون حاجة إلى وحي ونبوّة جديدة وعلى هذا ختمت النبوّة فشقّوا الطريق بأنفسكم.

ولم يظهر لنا ماذا قصد من هذا الجواب وإليك بعض احتمالاته :

١. أن يقصد من قوله: « لا يريد أن يقول انّ التشريعات التي أتيت بها تكفي البشرية إلى الأبد » ما أوضحناه عند البحث عن السؤال الخامس، من أنّه يجب على علماء الاُمّة وفقهائهم عندما يحدث شيء من المشكلات والأزمات في جميع مجالات الحياة من الحوادث التي لم تكن معهودة في عصر صاحب الرسالة، استفراغ الوسع في استنباط أحكامها على ضوء الكتاب والسنّة واطار سائر المصادر الشرعية، فلو أراد هذا فهو حق لا إشكال فيه غير أنّ تلك النظرية لا تختص به ولا بالفيلسوف الإسلامي « محمد اقبال » حتى يكون هو المسؤول فيما ذهب إليه واختار، بل كل مسلم يؤمن بأنّ الإسلام شريعة الله الخالدة الدائمة الكاملة الوافية بحل جميع اُمور الحياة ومشاكلها من اُصولها إلى فروعها.

٢. أن يكون المقصود منه الاعلام بختم النبوّة والرسالة دون ختم التشريع فهو مفتوح لم يوصد بعد، فعلى الاُمّة أن تشرّع من القوانين حسب ما تحتاج إليه عبر الزمان.

٢٩٥

غير أنّ تلك فكرة عليها مسحة مسيحية محجوجة بما دلّت الضرورة والأدلّة على أنّ التشريع من حقوق الله سبحانه على عباده لم يفوّضه لأحد من أفراد الاُمّة.

٣. أن يكون المقصود أنّ هنا أحكاماً ثابتة ومقررات متغيّرة، حسب مقتضيات الزمان ومصالح الوقت، فلو أراد ذلك فقد أوضحنا حاله عند البحث عن السؤال الرابع فلاحظ.

* * *

هذه هي الخاتمية، ودلائلها المشرقة، وشبهاتها الضئيلة، وأسئلتها الهامة، وأجوبتها الرصينة عرضناها للبحث والتنقيب، ولم يكن رائدنا إلّا تبنّي الحقيقة وكشف الغطاء عن وجهها، متحررين من كل رأي سابق لا دليل عليه.

٢٩٦

الفصل الخامس

النبي الاُمّي

في الذكر الحكيم

لم يختلف اثنان من الاُمّة الإسلامية في أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان اُمّياً لا يحسن القراءة والكتابة قبل بزوغ دعوته لمصلحة صرّح الله بها في الكتاب العزيز وسوف يوافيك بيانها. وصحائف حياته البيضاء أوضح دليل على ذلك، وقد أجمع أهل السير والتاريخ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يدخل مدرسة ولم يحضر على أحد للدراسة وتعلّم الكتابة، بل هو منذ نعومة أظفاره، يوم كان في أحضان جده وعمّه إلى أن بلغ الأربعين، لم يحم حول هذه الاُمور وقد تواترت على ذلك كلمات العلماء الأبرار والفطاحل من أئمّة الإسلام، وقد اقتفوا في ذلك أثر كتاب الله العزيز ودونك نصوصه من مواضع مختلفة.

النص الأوّل قوله سبحانه :

( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت ـ ٤٨ ) سبحان الله ما أصرح كلامه وأوضح دلالته.

٢٩٧

هل تجد من نفسك ريباً في أنّه بصدد نفي تلاوة أي كتاب عن نبيّه الأكرم قبل نزول الوحي عليه، وكتابة أي صحيفة عنه، أوليس من القواعد الدارجة بين أئمّة الأدب، أنّ النكرة في سياق النفي تفيد انتفاء الحكم عن كل أفرادها وتعطي شمول السلب كقوله سبحانه:( وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ) ( الحج ـ ١٨ ) وقد قال سبحانه:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) فأدخل النفي على النكرة وجعلها في سياقه، فإذن المراد من التلاوة المنفية تلاوة مطلق الكتاب كما أنّ المراد من الخط المنفى عنه تسطير أي كتاب وترسيم أي صحيفة تقع في ذهن السامع، فالضمير المتصل بالفعل ( لاتخطه ) عائد إلى ( كتاب ) وكأنّه جل شأنه قال وما كنت تخط كتاباً. وقد وافاك أنّ مثل هذا الكلام لوقوع النكرة في سياق النفي يفيد عموم النفي فالله سبحانه نفى عن نبيه، مطلق التلاوة والكتابة قبل بعثته.

ثمّ إنّه عزّ اسمه، علّل سلب هذا الأمر عن نبيّه بمصلحة أولى وألزم، وهي نفي ريب المبطلين وشك المشككين، إذ لو كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في برهة من عمره تالياً للكتب، وممارساً للصحف، لساغ للبسطاء من اُمّته والمعاندين منهم أن يرتابوا في رسالته وقرآنه، ويلوكوا في أشداقهم بأنّ ما جاء به من الصحف والزبر والسور والآيات، إنّما تلقّاها من الصحف الدينية وقد صاغها وسبكها في قوالب فصيحة، تهتز منها النفوس وترتاح إليها القلوب، فليست لما يدّعيه من نزول الوحي على قلبه، مسحة حق أو لمسة صدق.

وقد حكى سبحانه هذه الفرية الشائنة عن بعض المشركين فقال سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إلّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا *وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان: ٤ ـ ٥ ) فالله سبحانه لقلع جذور الشك عن قلوب السذج من الاُمّة، والمبطلين منهم، صرفه عن تعلّم الكتابة حتى يصبح لنبيّه أن يتلو على رؤوس الاشهاد قوله سبحانه:( قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( يونس ـ ١٦ ).

٢٩٨

يعني يا معشر العرب: أنتم تحيطون خبراً بتاريخ حياتي فإنّي تربيّت بين ظهرانيكم ولبثت فيكم عمراً يناهز الأربعين، فهل رأيتموني أتلو كتاباً أو اخط صحيفة، فكيف ترمونني بالافك الشائن: بأنّه أساطير الأوّلين اكتتبتها، ثم افتريتها على الله، وأعانني على ذلك قوم آخرون.

فلو لم يكن النبي اُمّياً لا يحسن القراءة والكتابة بل كان قارئاً وكاتباً وممارساً لهما على رؤوس الأشهاد، لما أمكن له أن يتحدى الاُمّة العربية وفي مقدمتهم صناديد قريش بقوله:( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان ـ ٦ ). فلأجل تحقيق هذه المصلحة المهمة، نشأ النبي في أحضان قومه وشب وترعرع إلى أن ناهز الأربعين وهو اُمّي لا يحسن القراءة والكتابة، ولو كان وقتئذ قارئاً وكاتباً وهم اُمّيون لراجت شبهتهم في أنّ ما جاء به نتيجة اطلاع ودرس وأثر نظر في الكتب.

وجاء المفسّرون في المقام بكلمات درية وجمل موضحة للمراد فقال أمين الإسلام في تفسير الآية: « اللام » في قوله:( إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) للقسم وفي الكلام حذف، تقديره: ولو خططته بيمينك أو تلوت قبله كتاباً إذاً والله لارتابوا، والمعنى لو كنت تقرأ كتاباً أو تكتبه لوجد المبطلون طريقاً إلى إيجاد الشك في أمرك والقاء الريبة لضعفة الناس في نبوّتك ولقالوا: إنّما تقرأ علينا ما جمعته من كتب الأوّلين فلما ساويتهم في المولد والمنشأ ثمّ أتيت بما عجزوا عنه وجب أن يعلموا أنّه من عند الله تعالى وليس من عندك، إذ لم تجر العادة أن ينشأ الانسان بين قوم يشاهدون أحواله من صغره إلى كبره، ويرونه في سفره وحضره، لا يتعلّم شيئاً من غيره، ثم يأتي من عنده بشيء يعجز الكل عنه وعن بعضه ويقرأ عليهم أقاصيص الأوّلين(١) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٤ ص ٢٨٧.

٢٩٩

نظريات شاذة للدكتور الهندي

ثمّ إنّ للدكتور عبد اللطيف الهندي المعاصر ـ في مقال خاص له حول اُمّية النبي الأعظم ـ رأياً شاذاً وقد ألقى مقاله هذا باللغة الانكيلزية في المؤتمر الإسلامي المنعقد في حيدر آباد عام (١٩٦٤) فخرق الاجماع المسلّم بين طوائف المسلمين على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب، وخالف الرأي العام وقال إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن اُمّياً لا يحسن القراءة والكتابة بل كان يقرأ ويكتب في حداثة سنّه إلى اُخريات أيّامه(١) ولما رأى أنّ تلك النظرية تخالف النص الصريح في القرآن الكريم جاء يتأوّل ظاهر الآية تأويلاً بارداً وقال ما هذا حاصله :

المراد من الكتاب في قوله:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) إنّما هو الكتب السماوية نظائر التوراة والانجيل النازلة بغير اللغة العربية فلم يكن النبي عارفاً بتلكم اللغات ولا قادراً على تلاوتها وهو غير القول بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن قارئاً ولا كاتباً حتى باللغة العربية التي هي لسان قومه وبيته.

ولا أدري ماذا حمل الكاتب على هذا التأويل إذ لو كان المراد نفي معرفته بهذه الكتب المعينة، لما صح له أن يقول:( مِن كِتَابٍ ) بل كان عليه أن يقول: ما كنت تتلو من قبله الكتاب أو الكتب مشيراً باللام إلى الكتاب أو الكتب المعهودة وقد أتى باللام فيما قصد نفي العرفان بالكتب السماوية عنه فقال تعالى:( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الشورى ـ ٥٢ ).

وقال عزّ شأنه:( وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَٰؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ ) ( العنكبوت ـ ٤٧ ).

__________________

(١) وقد تأثر في نظره عن رجال الكنيسة والتبشير، قال الحداد في كتابه ـ القرآن والكتاب ـ ص ٤١٠ محمد لم يكن اُمّياً بل تاجراً دولياً ومثقفاً ومطّلعاً وبحاثة دينياً

٣٠٠

وإصراراً على الاستمرار على النهج ، وعلى الولاء للحق. كانت ( الزيارات ) بيعاً وشراء للأنفس ، والأموال في سبيل الله تعالى. وكانت تظاهرة وتعظيماً لشعائر الله في الأرض. واستهداء بمصابيح الهدى الزاهرة في ليل الانحراف الداجي. والأيام الصعبة السوداء. فليس - على هذا - من عجب أنْ رأينا زيارة سيد الشهداءعليه‌السلام تفضل في النصوص على الكثير من الإعمال والمستحبات الخطيرة

هذا مضافاً إلى ما ورد عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام :

( إنّ لكل إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته ، وإنّ من تمام الوفاء بالتعهد زيارة قبورهم ، فمَن زارهم رغبةً في زيارتهم ، وتصديقاً بما رغبوا فيه كانوا أئمّتهم شفعاءهم يوم القيامة )

(١) - عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :

( إنّ زيارة قبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وزيارة قبور الشهداء ، وزيارة قبر الحسين صلوات الله عليه ، تعدل حجّة مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )

(٢) - ( عن عمران بن عبد الله بن طلحة الهندي ، عن أبيه قال : دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام

قال : ( يا عبد الله بن طلحة ، ما تزور قبر أبي الحسين ). قلت : بلى إنّا لنأتيه

قال : ( أتأتونه في كل جمعة ؟) قلت لا ، قال : ( أفتأتونه في كل شهر ؟ ) قلت : لا، فقال : ( ما أجفاكم ، إنّ زيارته تعدل حجّة وعمرة )

٣٠١

(٣) - وعن أبي الحسن موسىعليه‌السلام :

( أدنى ما يثاب به زائر أبي عبد اللهعليه‌السلام بشط الفرات إذا عرف حقّه ، وحرمته وولايته ، أنْ يُغفر له ما تقدّم من ذنبه ، وما تأخّر )

(٤) - من وصايا أبي جعفرعليه‌السلام لأصحابه - كما عن محمد بن مسلم :

( مروا شيعتنا بزيارة الحسينعليه‌السلام ؛ فإنّ إتيانه يزيد في الرزق ، ويمدّ في العمر ، ويدفع مدافع السوء ، وإتيانه مفترض على كلّ مؤمن يقرّ به بالإمامة من الله )

(٥) - علي بن ميمون الصائغ قال : قال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام :

( يا علي ، بلغني أنّ أناساً من شيعتنا تمرّ بهم السنة والسنتان ، وأكثر من ذلك لا يزورون الحسين بن علي ) ، قلت : إنّي لأعرف أناساً كثيراً بهذه الصفة. فقال : ( أما والله لحظّهم أخطأوا ، وعن ثواب الله زاغوا ، وعن جوار محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في الجنّة تباعدوا )(١٥)

ونلاحظ من خلال بعض هذه النصوص : أنّ من أهداف الأئمةعليهم‌السلام

٣٠٢

أنْ يخلقوا تيّاراً اجتماعياً لزيارة الإمام الحسينعليه‌السلام . وكان هذا مرتبطاً بأهداف الثورة ونجاحها

ونلاحظ أيضاً أنّ زيارة المشاهد ليست فقط محاولة لخلق جو إيماني. وإنما هي أيضاً استشعار لوجود القدوة. وتمثّل معانيها الخيرة في الفكر ، والروح ، والسلوك ، وفي العطاء والجهاد ؟ تأكيداً للشعور بالائتمام والاقتداء.

الأخ الصالح في الله

وممّا ينبغي على المؤمن - في مجال التربية الروحية - اتخاذ الأخ الصالح في الله. والإخوة الصلحاء. فإنّ للإخوة والقرناء التأثير البالغ على شخصية الإنسان ؛ لأنّهم أكثر ما في البيئة الاجتماعية تأثيراً عليه ، وأثراً في شخصيته. وقد سجّل القرآن الكريم أنّ بعض الناس دخلوا إلى النار بسبب قرناء السوء. وبعضٌ كادوا أنْ يدخلوها. وعن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( المرء على دين خليله وقرينه )(١٦)

والتعاشر بين المؤمنين ، ولقاؤهم ، وعلاقتهم الشخصية له دور كبير في استمرار الروح الإيمانية عندهم ، وتنميتها وتحصينهم من الانحراف ، والتحلل ، والتميع وتركيز القيم الإيمانية في نفوسهم فهي - بأي مستوى كانت من الجدية والهدفية - مثمرة ومنتجة ، وأفضل بكثير من العزلة والانطواء على الذات. إنّ الانطواء ، والعزلة عند أكثر الناس سبب لانحرافهم تماماً مثل معاشرة الأشرار.

٣٠٣

وهكذا ينبغي على المؤمن :

(١) - التخلّص من العلاقة بقرناء السوء إذ :

( لا ينبغي للمسلم أنْ يواخي الفاجر ؛ فإنّه يزيّن له فعله ، ويحب أنْ يكون مثله ، ولا يعينه على أمر دنياه ولا أمر معاده. ومدخله إليه ومخرجه من عنده شين عليه ) كما ورد عن أمير المؤمنين(١٧)

ولكن إذا كان يضمن عدم التأثّر به ويحتمل التأثير عليه فلا بأس بمصاحبته من أجل هدايته ، وإصلاحه ، وفي ذلك ثواب عظيم

( يا علي ، لأنْ يهدينّ الله بك رجلاً خيرٌ لك ممّا طلعت عليه الشمس وما غربت )

(٢) - عدم العزلة والانقباض عن الناس خصوصاً عن المؤمنين لما للعزلة من أخطار كثيرة ، وكبيرة على شخصية الإنسان. وإنْ كانت العزلة الموقتة الدورية أمراً ضرورياً في حياة المؤمن كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى

ولذا ورد عنهمعليهم‌السلام : الحث على التزاور والتعاطف

( اتقوا الله كثيراً ، وكونوا إخوة بررة ، متحابين في الله ، متواصلين متراحمين ، تزاوروا ، وتلاقوا ، وتذاكروا أمرنا ، وأحيوه )

٣٠٤

( تواصوا ، وتباروا ، وتراحموا ، وكونوا إخوة بررة ، كما أمركم الله عزّ وجل )

وعن خثيمة قال : دخلت على أبي جعفرعليه‌السلام أودّعه فقال :

( يا خثيمة ، أبلغ من ترى من موالينا السلام ، وأوصهم بتقوى الله العظيم ، وأنْ يعود غنيّهم على فقيرهم ، وقويّهم على ضعيفهم. وأنْ يشهد حيّهم جنازة ميّتهم ، وأنْ يتلاقوا في بيوتهم ، فإنْ لقيا بعضهم بعضاً حياة لأمرنا ، رحم الله عبداً أحيى أمرنا ، يا خثيمة ، أبلغ موالينا أنّا لا نغني عنهم شيئاً إلاّ بعمل ، وأنّهم لن ينالوا ولايتنا إلاّ بالورع ، وأنّ أشدّ الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثمّ خالفه إلى غيره )

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام :

( لقاء الإخوان مغنم جسيم وإنْ قلّوا )

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام :

( تزاوروا فإنّ في زيارتكم إحياء لقلوبكم ، وذكراً لأحاديثنا ، وأحاديثنا تعطف

٣٠٥

بعضكم على بعض )

وعن ميسر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال لي :

( أتخلون ، وتتحدثون ، وتقولون ما شئتم ؟ فقلت : إي والله ، إنّا لنخلو ونتحدث ، ونقول ما شئنا. فقال : أما والله لوددّت أنّي معكم في تلك المواطن ، أما والله إنّي لأحب ريحكم وأرواحكم ، وأنّكم على دين الله ، ودين ملائكته ، فأعينوا بورعٍ واجتهاد )(١٨)

(٣) - وليس يكفي قطع العلاقة مع الأشرار ، وقرناء السوء وتكوين العلاقات الوثيقة بالمؤمنين. وإنّما يلزم كل مؤمن - من أجل تكوين الجو الإيماني - أنْ ينمّي من جدية العلاقة لا بمعنى إخلائها من كل مضمون عاطفي ، وصلات شخصية ، بل بمعنى إثرائها ، والاستفادة الرسالية منها. لأنّ هذا هدف رئيس من أهداف تمتين العلاقة ، وتوثيقها بالمؤمنين.

الأزمنة الخاصّة للعبادة والتربية

وكما أمر الإسلام باتخاذ ( أمكنة ) خاصة للتربية والعبادة كذلك ركّز في الشعور الديني عند المسلمين ( أزمنة معيّنة ) خصّصها للتربية ، والعبادة من قبيل الشهر العظيمر ، شهر رمضان المبارك ، شهر الله الذي يستضيف فيه المؤمنين ويستمطرون بركاته ، وهداه ، وغفرانه ، ورحمته.

هوامش

__________________

(١٠) - الوسائل أبواب الذكر

(١١) - البيان من تفسير القرآن للسيد الخوئي ص ٢٦ - ٢٧

(١٢) - المرجع السابق ص ٢٩ - ٣٠

(١٣) - هذا مع أنّهم ( الأئمة ) يفعلون العكس ويقولون : ( ما خالف كتاب الله فهو زخرف لم نقله ) و( ما جائكم عنّي يُخالف كتاب الله فلم أقله ) ، و( كل شيء لا يوافق كتاب الله فهو زخرف ) و( وما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه )

(١٤) - الوسائل أحكام المساجد باب ٣

(١٥) - الوسائل أبواب المزار من كتاب الحج باب ٢ و٢٥ و٣٧ و٣٨

(١٦) - أصول الكافي ج ٢ ص ٦٤٢

(١٧) - أصول الكافي ج ٢ ص ٦٤

(١٨) - أصول الكافي ج ٢ ص ١٧٥ - ١٧٩ وص ١٨٦ - ١٨٧

٣٠٦

هذا الشهر الحافل بالعطاء ، والممارسات العبادية التي يعزّ على الإنسان المؤمن أنْ تفوته حتى لو كان يمارس أعمالاً أخرى أهم وألزم

هذا الشهر الذي فيه كثرة ، وتركيزاً في الصلاة ، وكثرة وتركيزاً في الدعاء ، والتوجّه إلى الله تعالى. واحتفالاً عامّاً في مشاعر الناس ، وشعاراتهم. الشهر المليء بالخيرات ، والمليء بالمناسبات الدينية العظيمة

لقد شاء الله تعالى في تربيته لعباده. أنْ يوجد إلى جانب الخط الدائم في التربية. خط الصلاة اليومية والذكر المستمر خطاً آخر دورياً يتمثّل في أوقات معينة يستعد فيها المؤمنون إلى نشاطات عبادية أكبر

دورة أسبوعية تمثّله في يوم الجمعة المباركة من حيث ما فيه من أدعية ، وزيارات ، وتوجيهات ، ودورة سنوية متمثّلة في شهر رمضان المبارك ، الذي يتم الإعداد الروحي له في شهر رجب ، وشعبان ، والشهرين العظيمين في الشهور. ودورة حياتية متمثلة في الحج قابلة للاستزادة في كل حين. ودورة في أيام معدودات متمثلة في الاعتكاف الذي يمكن أداؤه في أي وقت تقريباً وفي هذه الدورات ينتفي مضعف الألفة الذي نجده في الصلاة اليومية ، ويعيش المؤمن العبادة غضّة طريّة في أيامٍ قليلة من العمر.

خامساً : الثقافة الإيمانية

الثقافة هي - في واحد من مداليلها المتعددة ، نقصده هنا بالذات - هي الرؤى الفكرية التي تؤثّر في عواطف الإنسان وسلوكه ، وقيمه ،

٣٠٧

وطريقته في الحياة

والثقافة الإيمانية ، هي بصائر ، وهدى ، وأفكار تقرب من الله وتسهل الطريق على من يريد أنْ يتكامل في هذا الطريق

ليست الأفكار مقطوعة الصلة بالحياة العاطفية والسلوكية للإنسان ، بل لها أكبر الأثر فيها ، وتؤثّر ، وتتأثّر بها ، ويتكاملان ، كما يقتضي ذلك منطق القرآن الكريم

( كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ) (١٩)

( لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) (٢٠)

وعلى أساس هذا المنطق القرآني ففي الثقافات ما يقرب إلى الله ومنها ما يبعد عنه : الدافع إلى الله الذي يفتح للإنسان عينه ، ويبصره نقاط ضعفه ، وسبيل نموه ، وأساسيات حياته الدينية ، ومنها الحاجز الذي يحول بين الروح الإنسانية ، وبين الانطلاق في طريق التحرّر الذاتي والتكامل الوجداني وعبادة الله

والثقافة الإيمانية التي تقرب إلى الله تعالى. تتألّف من عنصرين :

(١) - المنهج الإسلامي في التفكير الذي ينظر إلى الأشياء بالطريقة القرآنية ، أو المنطق الإسلامي الخاص ، الصدور عن القرآن الكريم ،

٣٠٨

التلقّي من الله تعالى ، والانفتاح على كلماته التعامل الفكري مع الغيب ، لا الغيبية الميتة ، بل التعقّل الذي يأخذ فيه الدين موقعاً مركزياً ، سَواء في الشعور أم في الالتزام. والمعايشة الفكرية الكثيرة ، للفكر الغربي والاتجاهات المادية ، وعدم الاهتمام الثقافي بالقرآن الكريم والسنّة ، والتاريخ الخاص يؤثّر بشكل واضح على طريقة المؤمن في التفكير ، وكيفية تناوله للأمور ، ويبدو له الدين من خلال ذلك اتجاهاً بين الاتجاهات. وطريقة من الطرق يدافع عنها ولكن منهكاً مرهقاً

(٢) - الأفكار والمعلومات الإيمانية في مجال العبادة والأخلاق ، والسيرة والقرآن الكريم ، والنفس البشرية والعلاقات مع الناس ، وغير ذلك ممّا تتشكل المعرفة فيه إعداداً فكري ، للتربية الروحية ، وتكوين الأحاسيس ، والمشاعر الإيمانية ، وبناء السلوك الديني المستقيم ، وقد تعيش مع الكثير من المؤمنين ، يستهينون بالإعمال العبادية ، فلا يرونها مهمة إنّما المهم عندهم الفكر ، والعمل الفكري ، والاهتمام بأمور الناس ، وهؤلاء لا يفتقرون إلى قلبٍ سليم ، أو نيّة حسنة أو روح دينية ، وإنّما يفتقرون إلى رؤية سليمة فقط من الممكن أنْ تتوضّح لهم بسهولة. فيفتح لهم ذلك الطريق إلى الله. والنمو الروحي والوجداني

إنّ الأفكار والثقافة التي تتصل بالقرآن الكريم ، وكلمات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وسيرته تصحّح الكثير من الأفكار الخاطئة عن التربية الروحية ، وعن الإسلام بشكلٍ عام ، وتصدر بالإنسان المسلم من منبع ثقافي أصيل ، وتخلق له إطاراً ذهني ، وشعوراً يتعامل معه. وداخله ، وهو إطار يفترض المبادئ الدينية ، ويجعل من المؤمن يتعامل مع الأفكار

٣٠٩

من خلاله ، وليس على حسابها. وهي أيضاً معايشة ، ولقاء مستمر مع الله تعالى ، ومع القادة الميامين الأطهارعليه‌السلام

ومن الممكن هنا أنْ نسجّل بعض الكتب في المجال الأخلاقي والتربوي نرى من الضروري للإنسان المؤمن أنْ يتدارسه ، ويتعامل معها باستمرار :

(١) - أصول الكافي لثقة الإسلام الكليني المتوفى في النصف الأول من القرن الرابع الهجري ، والجزء الثاني منه بالخصوص وهو يشتمل على كتاب الإيمان ، والكفر ، كتاب الدعاء ، كتاب فضل القرآن ، كتاب العشرة

(٢) - وسائل الشيعة للحر العاملي ، فإنّ فيه مجموعة كبيرة مفيدة من هذه الناحية. منها : - كتاب جهاد النفس. المذكور في كتاب الجهاد ، وكتاب أبواب العشرة. في كتاب الحج ، كتاب جامع السعادات للنراقي ، وهو كتاب أخلاقي إسلامي. وهو على العموم كتاب نافع جليل ، ومؤثّر أريد به أنْ يكون ردّاً على الانحراف الصوفي والتحلل الديني في آن واحد ، ولا يضر في الاستفادة من هذا الكتاب عدم ضبط رواياته ، أو تأثره بالفلسفة الإغريقية وروحه الفردية أحياناً ؛ لأنّه كما قلنا نافع على العموم. ومأمون الجانب في هذا المجال

ومن الكتب النافعة وفي هذا المجال. مجال الفكر الإيماني كتاب فلسفة الصلاة ،ومكّة في ضمير المسلم للشيخ علي الكوراني ، وتذكرة الدعاء للبهي الخولي ، والكتاب المسيحي ، دائرة المعارف السيكولوجية المترجم في

٣١٠

جزئين من قبل عبد اللطيف شرارة ، وبعض آخر فإنّه كتاب نفسي عملي ومفيد.

سادساً : مخالفة الأهواء - الصوم :

إنّ كل مؤمن له أهواؤه - قلّت أو كثرت وهي قد تتعلّق بالمال ، الأكل والشرب ، الجاه والمركز ، التحكّم والسيطرة على الآخرين ، الخ

والهدف النهائي الذي يطمح إليه المؤمن هو إلغاء هذه الأهواء من نفسه ، وتطهير مشاعره ، ووجدانه ودوافعه منها تطهيراً كاملاً

أمّا المهمّة الآنية والملحة ، فهي إضعاف تأثير هذه الأهواء على السلوك ، والتحكم فيها ، وعدم السماح لها بالسيطرة على النفس ، بل عدم السماح لها بالنفوذ بأي شكل من الإشكال

وبكلمة أخرى : إنّ المهمّة الآنية للإنسان المؤمن هي تأمين سيطرة الإرادة الربانية على النشاط ، والسلوك بحيث تكون مقدمة على الأهواء ، والميول الذاتية في النفس

والتحكّم في الأهواء ، وإلغاؤها نهائياً من صفحة النفس والشعور ينتج من مجموعة عوامل أهمّها أو من أهمّها. مخالفة الهوى

( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى )

وذلك لان كل عاطفة ، أو انفعال أو هوى ، يضعف إذا لم تنفذ مطالبه ، ولم يلبّ ما تقتضيه من تصرفات

٣١١

وبكلمة أخرى : توجد لدينا حقيقتان ثابتتان :

(١) - إنّ لكل عاطفة أو هوى ، أو انفعال تصرّفاً يقتضيه وينتهي إليه ، فحب المال ينتهي إلى الحفاظ عليه ، وعدم التصدّق به وحبّ المركز يقتضي من الإنسان أنْ يحاول الظهور أمام الناس في المجالات الفكرية ، أو الخطابية أو الدينية

(٢) - إنّ الفصل بين الهوى ، وبين نتيجته العملية ، وعدم تلبية مطالبه إضعاف له ، وزعزعة لسيطرته على النفس ، وتحكمه في السلوك ، وتقوية للإرادة الربانية ( الجهاز الحاكم في الشخصية الإسلامية ). والفصل بين الهوى ، ونتيجته العملية أمر ممكن لان العلاقة بينهما علاقة ( الاقتضاء ) لا علاقة ( اللزوم )

إنّ مخالفة الأهواء بالنسبة إلى الإنسان المؤمن العامل في سبيل الله هي من أهم مهامه الآنية ؛ لأنّه أحوج من غيره إلى الإرادة الحازمة ، والقدرة على التحكم في الأهواء ومخالفة النفس. إنّ خوف مقام الله تعالى ، ومخالفة النفس ، والصبر ، واليقين هي دعائم الشخصية الرسالية القيادية ، أو من دعائمها المهمة ، وقد بين الله تعالى ، إنّه قد جعل من بني إسرائيل أئمّة لمّا صبروا ، وكانوا بآياته يوقنون والصبر ، هو الإرادة الحازمة ضد ميول النفس ، واتجاهاتها الذاتية ، ولا يتم تكوين هذه الإرادة إلاّ من خلال مخالفة النفس

وللإسلام طريقته الخاصة في مخالفة الأهواء. إنّ الصوفي لا يهمه أنْ يخالف هواه عن طريق إلقاء ماله في البحر. أو عن طريق سرقة أموال

٣١٢

الناس ليكتشفوه بعد ذلك فيهينوه ، وتسقط هيبته من أعينهم فيعاف الظهور ، والمركز ، أو عن طريق الوقوف على رأسه إلى الصباح كما ينقل الغزالي ذلك في ( إحياء علوم الدين )

إنّ هذه الوسائل محرّمة في نظر الإسلام ، ولم ينزل الله بها من سلطان ، قلنا فيما سبق إنّ من روائع الإسلام ، ومن نعم الله تعالى علينا أنّه كما حدّد لنا الأهداف التربوية كذلك حدّد لنا الوسائل ولم يتركنا للتخبط الصوفي ، وترهات الغزالي ، وأمثاله ، أو إلى طريقة التأمل البوذي. أو غير ذلك من محاولات هذا الكائن الجاهل الضعيف

أمر الإسلام بالتحكّم في النفس. وأكد على ضرورة سيطرة الإرادة الربّانية ومخالفة الأهواء. وحدّد لنا الطريق

لا ترمِ مالك في البحر ، ولا تبسط يدك كل البسط فتقعد ملوماً مدحوراً ، ولا تسرف لأنْ الله لا يحب المسرفين ، ولكن أنفق العفو ، وأدّ الصدقات المستحبّة والواجبة. والإسلام يعي أنّ الهدف من الزكاة ، والصدقة ليس هو إعانة الفقراء فقط ولكن تطهير الوجدان البشري من حب المال ، وتمكّنه من القلب

( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا )

ومن هنا فإنّ الإسلام في باب الصدقة أوجب الزكاة. ولكن من جهة أخرى حث على الصدقة. وكان هذا الحث بدرجة الاستحباب.

٣١٣

وهذا يعني أنّ الإسلام يريد من ذلك أنْ يكون طواعية ، واختياراً ليكون أثر قدرة على التطهير والتزكية. وحثّ إلى جانب ذلك أنْ تكون الصدقة سرّاً ؛ لأنّ صدقة السر أفضل من صدقة العلانية. وأكثر قدرة على تنمية الروح المخلصة والروح المرتبطة بالله. ومن هنا كان على المؤمن أنْ ينفق عفو ماله وفضله ، أنْ يتحسس حاجات إخوانه ، وأنْ يحافظ على الطابع السرّي للإنفاق قدر الإمكان

ولم يرد الإسلام أنْ يعيش على مزابل الكلاب ليواجه بذلك أهواءه كما يقول الصوفي

(لا يكون الصوفي صوفياً حتى يجعل من زوجته أرملة ، ومن أولاده أيتاماً ، ويعيش على مزابل الكلاب )

وإنّما أمره إلى جانب الصدقة ، والإنفاق السري أنْ يصون لسانه من الكذب ، والغيبة ، ومن محاولات الظهور والثرثرة ، وأنْ تكون قاعدته الصمت إلاّ في موارد الحاجة والضرورة ، وأنْ يتعلّم الصوم المستحب. الذي يكف به عن الشهوة ساعات.

شهوة الجنس ، وشهوة الطعام والشراب. والصوم المستحب من أروع العبادات الإسلامية التي تربط الإنسان بالله تعالى ، وتنمّي الإرادة ، وتصعد من ملكة الصبر. ومن أهم مجالات الصوم المستحب ، صوم ثلاثة أيام في الشهر. ( أول خميس من الشهر ، وآخر خميس ، والأربعاء الوسطى ) وقد ورد الحث الشديد على ذلك في النصوص. وهو من القدرات الروحية التي إنْ كانت مستحبّة على

٣١٤

الإنسان المسلم من زاوية شرعية ، فهي إلزامية على الداعية من ناحية المنطق الأخلاقي ، والروحية الإسلامية ؛ لأنّ الداعية يلزمه أنْ يعد نفسه لتحمّل القول الثقيل ، والسير في طريق ذات الشوكة ، وأنْ يعاني مرارة الاستقامة في خضم العمل الاجتماعي ، وكل هذا لا يتم إلا من خلال التربية ، والإعداد الروحي القائم على هذا ، وأمثاله. ومن عناصر الداعية المسلم في هذا الميدان هو أنْ يتأمّل ذاته ، ويحسب نشاطاته ، ويدرسها. سيجد أنّ بعض التصرّفات تقوم على أساس دواعي الهوى ولم يقصد الله فيها ، ولم يذكره أصلاً. هنا يجب عليه ، أو ينبغي له أنْ يتوقف مؤقتاً ، وأنْ يتأمّل قبل الأداء ، فإنْ كان تصرّفه ، وموقفه ضرورياً من الناحية الشرعية أقدم عليه ، وأداه مثاباً مأجوراً ، وأنْ لم يكن موقفه ضرورياً من الناحية الشرعية ، والدعوتية تركه ، وأهمله. خاصة في موارد التقييمات ، والكلام على الناس ، ومواجهتهم

سابعاً المحاسبة والنقد الذاتي

(١) عن أبي الحسن الماضيعليه‌السلام قال :

( ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ، فإنْ عمل حسناً استزاد الله ، وإنْ عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه )

(٢) - عن أبي ذر ( ره ) في وصية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :

( يا أبا ذر حاسب نفسك ، قبل أن تحاسب ،

٣١٥

فإنّه أهون لحسابك غداً ، وزن نفسك ، قبل أنْ توزن. وتجهز للعرض الأكبر يوم تعرض ، لا تخفى على الله خافية. يا أبا ذر ، لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه اشد من محاسبة الشريك شريكه فيعلم من أين مطعمه ومن أين مشربه ، ومن أين ملبسه ، امن حلال أو من حرام ، يا أبا ذر ، من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين أدخله النار )

(٣) عن عليعليه‌السلام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

( أكيس الكيّسين مَن حاسب نفسه ، وعمل لما بعد الموت ) ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين ، كيف يحاسب نفسه ؟

قال : ( إذا أصبح ثمّ أمسى رجع إلى نفسه وقال : يا نفسي ، إنّ هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك أبداً. والله يسألك عنه بما أفنيته ، فما الذي عملت فيه أذكرت الله أم حمدته ، أقضيت حوائج مؤمن فيه ، أنفّست عنه كربه ، أحفظته بعد الموت في مخلفيه ، أكففت عن غيبة أخ مؤمن ، أعنت مسلماً ، ما الذي صنعت فيه ؟ فيذكر ما كان منه ،

٣١٦

فإنْ ذكر أنّه جرى منه خير حمد الله ، وكبره على توفيقه وإنْ ذكر معصية ، أو تقصيراً استغفر الله ، وعزم على ترك معاودته)

(٤) علي بن طاوس روينا في الحديث النبوي المشهور :

( حاسبوا أنفسكم قبل أنْ تحاسَبوا ، وزِنوها قبل أنْ توزَنوا ، وتجهّزوا للعرض الأكبر )(٢١)

إنّ البناء الروحي. وهو تمكين الإيمان والإرادة الربانية من النفس في فكرها ، ووجدانها ، ونشاطها. لا يتم إلاّ من خلال تقوية الإيمان ، والوجدان الإسلامية ، والإرادة الربانية من جهة. والوعي الذاتي ، ومعرفة حيَل النفس ، وأساليبها في الدفاع ، ونقاط ضعفها من جهة أُخرى ؛ وذلك لأنّ من الممكن أنْ تعمل الدوافع الذاتية في النفس من دون أنْ يشعر بها الإنسان

والوعي الذاتي الشامل ، ومعرفة النفس يتم من خلال ما يلي :

(١) - دراسة النفس دراسة شاملة. حيث يقوم المؤمن هنا بملاحظة ذاته من خلال تجربتها السابقة ، وخبرته الطويلة بها ، ويدرسها دراسة كاملة. ويحدّد ما فيها من نقاط ضعف ، ونقاط قوة. ويركّز ذلك في ذهنه ، أو يسجله في مذكّراته ، وتشمل هذه الدراسة الحالات كافّة ، الجانب الثقافي ، والجانب الروحي والجانب العلمي. الخ

(٢) - يراقب الإنسان المؤمن ذاته ، ويركّز نظره عليها في نشاطها

٣١٧

اليومي

(٣) - يحاسب ذاته محاسبة دورية يومية ، أو أسبوعية ، ويدرس في ذلك نشاطاته السابقة ما قدمه ، وما خالف فيه ، وما قصر عنه ويحدّد ذلك. فيحمد الله ، إنْ هو أطاع الله وذكره وتورّع عن محارمه ، ويتوب عما خالف. ويعزم على الترك ، ويبني نهجاً جديداً ، وهكذا في كل دورة

وليحذر المؤمن إثناء كل ذلك من خداع النفس ، ومن غرورها ، وعجبها فإنّها أمّارة بالسوء إلاّ ما رحم الله. مهلكة لصاحبها إلاّ ما وفّق

ثامناً : الاعتكاف

عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :

( كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان العشر الأواخر ( من رمضان ) اعتكف في المسجد وضُربت له قبّة من شعر ، وشمّر المئزر وطوى فراشه )

وعنهعليه‌السلام عن آبائه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( اعتكاف عشرة في شهر رمضان تعدل حجّتين ، وعمرتين )(٢٢)

في الاعتكاف عناصر متعدّدة ، وجهات كثيرة تمثّل طابعه التربوي المتميز وفيه :

٣١٨

(١) - التفرّغ للعبادة وذكر الله. فالمؤمن في أيّامه العادية يحكم ضرورات الحياة ، وضرورات العمل لا يمكن أنْ يؤدّي الكثير من المستحبّات العبادية ، ولهذا فهو يقتصر على مقدار قليل معيّن من العبادات أمّا الاعتكاف ، فهو المكث في المساجد للعبادة. فيه يتفرّغ الإنسان المؤمن ، ويتنصّل مؤقّتاً عن الأشغال في الحياة الخاصة ، والأعمال الاجتماعية ليؤدّي لربّه حقه. ولنفسه حقّها. وهو عليه دورة تربوية ضرورية للإنسان المسلم ، يستزيد فيها من ذكر الله ، ومعايشة تصوراته عن الكون ، والحياة ، والوجود ، ويتذكّر فيها أيّام الله الخالية فتعيش روحه ، وقلبه ، بالنشاط العبادي المكثّف الجديد على النفس ، الذي لم يتضرّر بالألفة ، وروتين العادة ، واقتطاع هذه الأيام المعدودة ضرورة تربوية من أجل الإعداد ، والتركيز الروحي. وهو نظام اختطّه الله تعالى في منهجه التربوي لهذا الإنسان

(٢) - مخالفة الأهواء. متمثّلة في الصوم إذ ( لا اعتكاف إلا بصوم ) الذي يمثّل مخالفة هوى النفس في الأكل والشرب والجماع. وفي الامتناع عن المراء ، والجدال

(٣) - العزلة المؤقّتة عن الناس ، وإتاحة الفرصة لمراجعة النفس ، ومحاسبتها واختبارها. فأنت في خضمّ العمل الاجتماعي مملوك لمهمّاتك الاجتماعية. وهذا ما يضعف من أصالة الفعل ، وإيداع النشاط ، ومن مراجعة الذات ، وتقييمها وبالتنصّل مؤقّتاً من العمل الاجتماعي ، وسفاسف الحياة الصغيرة ، وحتى عن العمل الفكري يتيح للإنسان أنْ يراجع ذاته ، وينظر في عيوبها ، ويقيمها تقييماً شاملاً ، ولينطلق بعد ذلك

٣١٩

في مواقفه عن طواعية ، واختيار ، وتلقائية ، وإخلاص وليزيد من تثبّته الديني ، وتركيز علاقته بالله تعالى وانقطاع رجائه ، وانشداه إلى الناس ، والأشياء ، والأهداف المرحلية اليومية

ومن هنا كان الاعتكاف. إحدى الضرورات الدورية المهمّة للداعية يتخلّى فيها عن رداءة التصرّف ، ويمحّص ذاته من شوائب الرياء والسمعة والانشداد إلى الناس ويتجلّى فيها الإخلاص ، والتثبّت ، والتركيز ، الديني. تركيز العلاقة بالله تعالى. ونشير أخيراً. إلى أنّ الإسلام لا يشجع العزلة التامّة المستمرّة عن الناس فإنّ في هذا أخطاراً كبيرة على النفس ، وتتنافى مع ما يعدّه الإسلام للإنسان المسلم من أدوار اجتماعية ، وعطاء اجتماعي متميّز. ولهذا يؤكّد الإسلام في نصوص كثيرة على أنْ لا يكون الاعتكاف إلاّ في مسجد جامع تقام فيه الصلاة جماعة.

تاسعاً : نظرة عامّة في الأساليب التربوية(٢٣)

نلاحظ أنّ أساليب الإسلام في التربية أكثر مما ذكرنا. ونحن هنا لخصّناها بإيجاز

عن علي بن أبي طالبعليه‌السلام :

( لا خير في العيش إلاّ لرجلين : رجلٌ يزداد في كل يوم خيراً ، ورجل يتدارك منيته ( سيئته ) بالتوبة )

عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543