مفاهيم القرآن الجزء ٣

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 543

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

الصفحات: 543
المشاهدات: 184830
تحميل: 4941


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 543 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 184830 / تحميل: 4941
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 3

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

١٠ ـ التنبّؤ حول اليهود والنصارى :

من عجائب التنبؤات القرآنية وغرائبها، تحدّيه اليهود بأبسط الأشياء وأسهلها ومطالبته إيّاهم بما هو ميسور لهم في كلّ وقت وحين، وفي متناول قدرتهم، ودائرة استطاعتهم في كل زمان، ومع ذلك عجزوا عن تكذيبه وانصرفوا عن مخالفته، وهذا يدل قبل كلّ شيء على أنّ القرآن كلام من بيده القلوب والضمائر.

قال سبحانه:( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ *وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) ( البقرة: ٩٤ ـ ٩٦ ).

لما زعم اليهود أنّهم الشعب المختار عند الله، وأنّ الدار الآخرة خالصة لهم كما تحكي عنه الآية ويدل عليه أيضاً قوله سبحانه:( وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ) ( البقرة ـ ٨٠ ).

عرض عليهم سبحانه، رداً على مقالهم ( انّ نعيم الآخرة وقف على الشعب المختار، وانّ الدار الآخرة خالصة لهم ) أن يتمنّوا الموت جناناً ولساناً وعملاً، فإنّ الانسان بفطرته إذا خيّر بين العيش الخالص عن التعب والألم، والعيش الممزوج بألوان العذب والكد، يختار الأوّل، ولا ريب أنّ عيش الآخرة هو العيش الخالص عن شائبة التعب، فلو أنّهم يزعمون أنّهم صادقون في ما يقولون بألسنتهم من أنّ لهم الدار الآخرة، وأنّهم الاُمّة المختارة من بين شعوب الناس بالحياة الدنيا، يجب أن لا يكونوا أحرص الناس على الحياة الدنيا، بل يلزم عليهم تمنّي الموت تمنّياً صادقاً، تظهر آثاره في حياتهم وتقلبهم بين الناس.

غير أنّ التاريخ والحس يقضيان بخلاف ما يدّعونه، وأنّهم أحرص الناس على

٣٨١

الحياة وكل واحد منهم يودّ لو يعمّر ألف سنة، وما تمنى ولن يتمنّى أحد منهم الموت أبداً تمنّياً تلوح منه آثار الصدق، لا أقول إنّهم ما تمنّوا تلفّظاً ولقلقة باللسان، بل تمنّياً من صميم الروح، تظهر آثاره على الجوارح والأفعال، ولذلك قال سبحانه :

( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ( الجمعة: ٦ ـ ٧ ).

نعم إنّ الزرقاني فسّر الآية على وجه يشمل التمنّي باللسان وقال: « ولقد كان بمقدور اليهود في العادة أن يقولوا ولو بألسنتهم نحن نتمنّى الموت كي تنهض حجّتهم على محمد ويسكتوه، لكنّهم صرفوا فلم يقولوا ولم يستطع أحد أن يقول: إنّي أتمنّى الموت »(١) ، غير أنّ ما ذكره خلاف ظاهر الآية فإنّ التمنّي حالة نفسانية للنفس، واللفظ الدال عليه معبر عمّا في الضمير، ولا يطلب القرآن منهم التمنّي الكاذب ولا يدعوهم إليه بل التمنّي الصادق الكاشف عن الإرادة الجدية والطلب الحقيقي له، مع ظهور آثاره في حياة المتمنّي وسلوكه

ثمّ إنّ القرآن تنبّأ بانهزام اليهود في مضمار الحرب والنضال مع النبي والمسلمين قال سبحانه :

( قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ ) ( آل عمران ـ ١٢ ).

قال الطبرسي: روى محمد بن يسار عن رجاله: لما أصاب رسول الله قريشاً ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال: يا معشر اليهود احذروا من الله مثلما نزل بقريش يوم بدر، واسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، وقد عرفتم أنّي نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم، فقالت اليهود: يا محمد لا يغرّنك أنّك لقيت قوماً اغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، إنّا والله لو قاتلناك لعرفت إنّا نحن الناس فأنزل الله هذه

__________________

(١) مناهل العرفان: ج ٢ ص ٢٧٦.

٣٨٢

الآية(١) ، ولقد صدق الخبر، الخبر، فغلب النبي على من في الجزيرة من اليهود فضلاً عن خصوص القانطين منهم في المدينة.

ثمّ إنّ في القرآن تنبّؤات بالمستقبل المظلم الأسود الذي لم يزل يواكب بعضها اليهود طيلة أربعة عشر قرناً من نزول القرآن إلى يومنا هذا، لم ينخرم أي واحد منها أبداً، وذلك قوله سبحانه:( لَن يَضُرُّوكُمْ إلّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ *ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ) ( آل عمران: ١١١ ـ ١١٢ ).

وفي هاتين الآيتين تنبّؤات :

١. إنّ هذا الشعب الماكر اللئيم، لا يمكنه القيام بحرب مواجهة ومقابلة الند للند، وإنّما يقع ضررهم على المسلمين عن طريق الغدر والمكر.

٢. ولو قاتلوا المسلمين لولّوهم الأدبار.

٣. ضرب عليهم الذل كضرب السكة على الدينار والخيمة على الانسان، نعم كتب عليهم الذل والهوان إلّا إذا تمسّكوا بحبل من الله ودخلوا في عهد منه أو عهد من الناس يستعينون بهم ويستظلّون بظلالهم.

٤. ضربت عليهم المسكنة وهي زي الفقر والخوف منه، وفيهم من يملك آلاف الآلاف وليس فيه غنى النفس، فهم أشد الشعوب خوفاً من الفقر، وأشدها طمعاً وشرها في جمع الدنيا، لا يعرفون القناعة وإن غرقوا في المال، ولا يتورّعون عن الجري وراء الدنايا، بأحط الوسائل.

٥. حلول غضب الله عليهم كما يعطيه قوله:( وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ ) .

والمراد من الضمير المتصل من قوله:( لَن يَضُرُّوكُمْ ) وإن كان هو أهل الكتاب ،

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٤١٣.

٣٨٣

الوارد في الآية المتقدمة، غير أنّ المقصود منه هم اليهود بلا كلام لما في ذيل الآية التالية من تعليل ضرب الذل والمسكنة عليهم بقتلهم الأنبياء وهو من فعل اليهود.

ويؤيده قوله سبحانه، في شأن اليهود:( اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ) ( البقرة ـ ٦١ ) وبذلك يظهر أنّ ما يقال من عمومية الآية، لمطلق أهل الكتاب، أخذاً بمفاد الضمير المتصل، الراجع إلى أهل الكتاب، المذكور في الآية السابقة، ليس بسديد.

وقد تنبأ سبحانه بقوله:( لَن يَضُرُّوكُمْ إلّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ) بما جرى بين المسلمين وطوائف من اليهود من « بني النضير وقريضة وقينقاع » فحاربوا المسلمين ولم يثبتوا بل استسلموا، وهو تنبّؤ صادق شهد به التاريخ الصحيح، بل يمكن أن يكون تنبّأ بعامة ما جرى بينه وبين اليهود أيام حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله فهو قد طهّر الجزيرة العربية من هذه العناصر الماكرة، أعداء الله وأعداء الانسانية في مدة قليلة ولم ينصروا بعد قط.

والمراد من الاستثناء في قوله سبحانه:( لَن يَضُرُّوكُمْ إلّا أَذًى ) هو الضرر اليسير الذي ليس فيه كبير تأثير من سب باللسان وخوض في النبي، وقد تحقق المخبر به كما أخبر في تطهير أرض المدينة وما حولها من الطوائف الثلاث الذي اسميناهم، فلم ينالوا من المسلمين إلّا سبّاً باللسان أو ضرراً قليلاً كما هو الحال في غزوة خيبر على ما هو مسطور في السير والتاريخ، ومفاد الآية راجع إلى عصر الرسالة فقط كما أوضحنا، ويفيده التدبر في الآية وفي الضمائر الواردة فيها من قوله:( لَن يَضُرُّوكُمْ ) (١) .

وأما الآية الثانية المتضمّنة لضرب الذلة والمسكنة عليهم فربّما يحتمل اختصاص مفادها بعصر الرسالة غير أنّه محجوج بأمرين :

__________________

(١) قال الطبرسي ففي هذه الآية دلالة على صحة نبوّة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله لوقوع مخبره على وفق خبره لأنّ يهود المدينة من بني قريضة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر الذين حاربوا النبي والمسلمين لم يثبتوا لهم قط وانهزموا ( مجمع البيان: ج ١ ص ٤٨٨ ).

٣٨٤

الأوّل: إنّ المتبادر من قوله سبحانه:( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ) في كلتا الآيتين هو العموم والشمول وكأنّه يريد أن يقول: عجنت طينتهم بالذل والهوان والمسكنة ولا تنفك عن تلكم الطائفة في أي جيل وزمان.

الثاني: انّه سبحانه علّل ضرب الهوان والذل والمسكنة عليهم بأمرين: أحدهما: الكفر بآيات الله وهو مشترك بين الجميع. وثانيهما: وهو يرجع إلى أسلافهم وأجدادهم، من قتل الأنبياء ولكن اليهود المعاصرين لعصر الرسالة لما رضوا بفعالهم وعملهم الشنيع، صاروا مثلهم « فإنّ من رضي بفعل قوم فهو منهم » فأسند سبحانه الفعل إليهم أيضاً، فضرب الذلة على جميعهم من أوّلهم إلى آخرهم. ولو كان هذا هو الملاك لضرب الذل على يهود عهد الرسالة فهو بعينه موجود في الباقين بعده إلى زماننا هذا، ولا وجه لاختصاص الذل والمسكنة ببعضهم دون بعض، إذ ليس الهوان أو المسكنة، إلّا جزاءً ونكالاً من الله سبحانه بالنسبة إلى هذه الطائفة، فهم بين مقترف لأشد المعاصي وأهولها، وبين راض بما ارتكبه قومه من الجنايات الموبقة، فكل من الطائفتين يعاقب ويؤخذ بجزاء عمله كما قال سبحانه:( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ *ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) ( آل عمران: ١٨١ ـ ١٨٢ ).

وقد أثبتت القرون والأجيال صدق ما تنبّأ به القرآن من لدن نزوله إلى عصرنا، ولكي نتحقق من ذلك لا بد من الرجوع إلى التاريخ: « فها هو « بخت نصر » دخل أورشليم وقاد أكثر أهلها أسرى وكان ذلك عام ٥٨٧ ق.م وفي سنة ٣٠٢ ق.م أثقل ملوك سوريا كواهل اليهود بالضرائب واضطهدوهم.

وأمّا إضطهادهم بعد الإسلام فكثير، فقد أجلى النبي « بني قينقاع » « وبني النضير » وقتل « بني قريظة » لما تآمروا عليه كما هاجمتهم جميع الاُمم المسيحية فلم يجدوا ملجأ إلّا الأندلس حيث أحاطهم اُمراء الإسلام بعطف خاص، لكن عندما احتل النصارى الأندلس أخذوا بتشريد اليهود وطردهم وإجبارهم على مغادرة البلاد الإسبانية، وقد

٣٨٥

وقع كثير منهم في أيدي القراصنة الذي انتشروا حول الشواطئ فجرّدوهم من أموالهم واتخذوهم عبيداً ارقّاء.

هذا ما عدا الذين ماتوا جوعاً أو اُصيبوا بالطاعون فأهلكهم ثم لجأ ثمانون ألفاً إلى البرتغال ارتكاناً إلى وعد ملكها، لكن القساوسة الأسبانيين أثاروا الرأي العام في تلك البلاد ضدهم، وعمدوا إلى اقناع ملك البرتغال بعدم إيوائهم، فأصدر أمراً يقضي بابعاد جميع اليهود البالغين، أمّا الأولاد الذين لا تتجاوز سنهم أربعة عشر عاماً فقد انتزعوا من أحضان اُمّهاتهم لكي يربوا وينشأوا على مبادئ الدين المسيحي.

ولم يقتصر الغربيّون على طرد اليهود من إسبانيا والبرتغال فقط بل طردوا وشردوا من انجلترا، فرنسا، بلجيكا، هولندا، ايطاليا، ألمانيا، روسيا و »(١) .

أي ذل وهوان أوضح من هذا الذي صادفوه طيلة القرون الغابرة إلى يومنا هذا، كل ذلك مضافاً إلى تنفّر الناس عن كل يهودي ماكر، وإسرائيلي لئيم، وابتعادهم عنهم في حلّهم وترحالهم، لما هم عليه من الغدر والمكر والشره والطمع وعدم اندماجهم مع غيرهم وعدم وفائهم للذين استضافوهم وآزروهم، لما يظنون أنّهم شعب يمتاز على الشعوب التي يعيشون بينها، وأنّهم يحق لهم اغتصاب حقوق الغير أخذاً بتعاليم التلمود حيث يعبّر عن املاك غير اليهود ب‍ « أنّه كالمال المتروك الذي يحق لليهودي أن يملكه ».

هذا وذاك أوجب بأن يعلن القرآن منذ أربعة عشر قرناً بأنّه سبحانه يبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة حيث قال سبحانه:( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأعراف ـ ١٦٧ ).

فقضى الله سبحانه أنّه ليسلّطنّ على بني إسرائيل إلى يوم القيامة من يذيقهم أشد العذاب، جزاء لهم على أعمالهم ونكالاً بهم، فكما هو سبحانه سريع الصفح عن ذنب التائب، فهو أيضاً سريع العقاب.

__________________

(١) راجع لمعرفة تفصيل ذلك كتاب « اليهود في القرآن » ٩٤ ـ ٩٦.

٣٨٦

إجابة عن سؤال

إلى هنا يكون قد تبيّن صحة تنبّؤ القرآن حول اليهود، وأنّه ما تخلف طيلة أربعة عشر قرناً، قدر شعرة غير أنّ هنا سؤالاً، يوجهه الشباب حول الآية وهو أنّه كيف وصفهم الله بضرب الذل والهوان عليه مع أنّه استقرّت لهم السيادة في الأراضي المحتلّة فجمعوا من العدة والعدد ما أوجب نجاحهم في هذه المعارك الرهيبة لا سيّما في نكسة الخامس من حزيران، وتمكن الاجابة عن هذا السؤال بوجوه :

الجواب الأوّل :

إنّ مشيئة الله سبحانه في خلقه وعباده تجري على وفق القوانين والسنّن الكونيّة ولا تختلف باختلاف الاُمم، فالعارف بفن السباحة ـ مثلاً ـ يعوم ويصل إلى شاطئ الأمان والجاهل بها يرسب ويكون عرضةً للهلاك، ومن زرع حصد ومن لم يزرع لم يحصد، والإيمان لا ينبت قمحاً والكفر لا ينبت شوكاً في هذه الحياة، وكذلك من أعدّ العدّة لعدوّه واحتاط له، ظفر به وإن كان ملحداً، إذا لم يكن الآخر على حذر واستعداد، ومن تقاعس وأهمل خسر، وإن كان من الأولياء والصدّيقين، قال تعالى مخاطباً أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالآية ٤٦ من الآنفال:( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنّ هؤلاء ـ يشير إلى أصحاب معاوية ـ قد انتصروا باجماعهم على باطلهم وخذلتم ـ الخطاب لأصحابه ـ بتفرّقكم عن حقّكم »، إذن الحق لا ينتصر لمجرد أنّه حق، والباطل لا يخذل لمجرد أنّه باطل، بل هناك سنن في هذه الحياة تسير المجتمع، وتتحكّم به، والله سبحانه لا يسقطها ولا يعطّل سيرها، تماماً كما هو شأنه في سنن الطبيعة، انّ الله سبحانه قد خلق الحياة وجعل لها قوانين تحكمها، وتأبى هذه القوانين أن تمطر السماء نصراً على غير العاملين له.

وعليه فلا عجب أن تغتال الصهيونيّة جزءً من أرضنا بمعونة الإستعمار مادمنا في

٣٨٧

غفلة عنها وعن مقاصد أعوانها منقسمين إلى دويْلات لا جامع بينها إلّا لفظ العرب والعربية(١) .

إنّ للسعادة والشقاء والحضارة والتقدّم والتدهور والانحطاط، قوانين وسنن لا تنفك عنها آثارها ومسبباتها ومن دقَّ باباً ولجَّ ولج، من غير فرق بين اُمّة واُمّة أو طائفة دون اُخرى، إنّ نكسة الخامس من حزيران والاحتلال الصهيوني للأراضي المقدسة الإسلامية، كان نتيجة عمل طويل واعداد متواصل من قبل اليهودية العالمية التي تلاقت أهدافها مع مصالح الاستعمار في الشرق الأوسط من جانب، ومع الفساد السياسي الاجتماعي الشامل الذي كان المسلمون يعيشون فيه من جانب آخر، فالعدوّ تمسّك بأقوى وسائل القهر والغلبة، وأعد نفسه للتقابل مع المسلمين في معارك صعبة قرابة قرن، وتحمّل في طريقه جهوداً وبذل من نفسه وماله الكثير، وأمّا المسلمون ففي القرن الذي كان العدوّ يجمع العدة والعدد، ويتجهّز بالعلم والصنعة وتربية الخبراء ومهرة الفن، كانوا يعيشون في فرقة ونفاق، يضطهد بعضهم بعضاً، مضافاً إلى ما يعانون من ميوعة وخيانة وإنحلال في الأخلاق، والمشي على المخططات التي رسمها لهم الأعداء المصبوغة بطابع الود والاحسان.

وعلى ذلك فلا غرو في أن يحتل العدو الغاشم جزءً كبيراً من أرضنا ويترصد لأخذ جزء آخر، وإذن الظهور والغلبة لهم والنكسة للعرب جاءت على وفق القوانين والسنن التي تحكم على الحياة.

إذا عرفت ما ذكر، فالجواب عن السؤال واضح بعد الإمعان في الآية التالية:( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ) ( آل عمران ـ ١١٢ ).

ترى أنّه سبحانه حكم بضرب الذل والهوان عليهم ثمّ استثنى عنه بقوله:( إلّابِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ) وفي الوقت نفسه حكم بضرب المسكنة عليهم بلا

__________________

(١) من هنا وهناك: ص ٤٢ ـ ٤٣.

٣٨٨

استثناء.

وبعبارة اُخرى: ترى أنّه سبحانه استثنى من احاطة الذل والهوان صورتين: إذا تمسّكوا بحبل من الله، وإذا تمسّكوا بحبل من الناس، وبهذين السببين يمكن أن يدفعوا عن أنفسهم الذل والهوان، والمراد من الحبل هو العهد(١) فلو دخلوا في عهد الله وهو الإسلام ودفعوا الجزية وعملوا بشرائط الذمة وتركوا الغدر والحيلة مع المسلمين فسيعود لهم العز كسائر الذمّيين، ويعاملون بالمساواة، وتصان دماؤهم وأعراضهم وأموالهم، ويذاد عنهم كما يذاد عن غيرهم، ولو تمسّكوا بحبل من الناس واستعانوا باحدى الاُمم ممّن له منعة وقدرة يتيسر لهم بواسطتها أن يطردوا عن أنفسهم الذل والهوان، ويستحصلوا على العزّ والقدرة ما داموا كذلك.

ولا شك أنّ اُمّة اليهود ما احتلت أرضاً، وما كسبت سلطاناً، وما أدركت عزّاً إلّا بحبل من الناس ومساعدة من الاُمم الكبرى ممّن توافقت أهدافهم العالمية مع مصالح العدو الطريد(٢) .

« إنّ إسرائيل ليست سوى قاعدة عسكرية مزودة بكافة الأسلحة الحديثة، أقامتها الولايات المتحدة، لحماية مصالحها في بلاد العرب، وأهمّها شركات البترول التي يحتاج بقاؤها والاحتفاظ بها، إلى نصف مليون جندي امريكي لولا وجود إسرائيل... فليس من المعقول أن تكون للولايات المتحدة شركات احتكارية في بلد من البلدان ولا يكون إلى جانبها قاعدة حربية أو حلف عسكري يحميها من الثورات والحركات الوطنية، وقد وجدت في إسرائيل غنى عن القواعد والأحلاف »(٣) .

أضف إلى ذلك أنّ إسرائيل وإن اُسّست باسم الدين وصبغت بالصبغة الشريعة

__________________

(١) سمّي حبلاً لأنّه يعقد به الأمان كما يعقد الشيء بالحبل.

(٢) قال الطبرسي في تفسير قوله:( إلّابِحَبْلٍ ) أي بعهد من الله وحبل من الناس أي وعهد من الناس على وجه الذمة وغيرها من وجوه الأمان، مجمع البيان: ج ١ ص ٤٨٨.

(٣) من هنا وهناك: ص ٩٩.

٣٨٩

إلاّ أنّ كثيراً منهم لا يمتون إلى الدين بشيء، ولا صلة بينهم وبين دين اليهود، فحكومتهم حكومة ذات نزعة عنصرية طائفية، مدفوعة بكونهم من أولاد إسرائيل واخلافهم سواء أكانوا مؤمنين بدينه أم كافرين به، ملتزمين بأحكام التوراة أم لا، وما تنبّأ به القرآن إنّما هو راجع إلى اليهود الذين آمنوا بشريعة إسرائيل وما بعده إلى موسى والتزموا باُصول دينهم وفروعه، ووقفوا في وجه سائر الشرائع، متنسّكين بشريعة، وليست إسرائيل ومن يعيش في أرضها، يمثلون هؤلاء، فهي دولة مادية صبغة باسم الدين وطابعه كما هو واضح لمن لاحظ كتبهم وجرائدهم ومجلاّتهم، وعلى كل حال فخذلان بني إسرائيل التي يحتّمها القرآن إنّما تكون حتمية فيما لو وقفوا تجاه المسلمين بما هم يدينون بدين اليهود، لا بما أنّهم يتعصّبون إلى يهوديتهم تعصّباً عنصرياً أعمى من غير تدين.

الجواب الثاني :

ربّما يجاب عن الإشكال بوجه آخر وهو أنّ المراد من ضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم، والدليل على ذلك قوله:( أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ) فإنّ ظاهر معناه أينما وجدهم المؤمنون أي تسلطوا عليهم، وهو يناسب الذلة التشريعية التي من آثارها الجزية فيؤول معنى الآية إلى أنّهم أذلاّء، بحسب حكم الشرع الإسلامي إلّا أن يدخلوا تحت الذمّة أو أمان من الناس بنحو من الأنحاء(١) .

غير أنّ هذا الجواب لا يلائم ظهور الآية فإنّ القضاء التشريعي بذلتهم لا يختص بتلكم الطائفة بل يعم أهل الكتاب جميعاً، وقد أوضحنا أنّ الآية مختصة باليهود.

الجواب الثالث :

إنّ القرآن وإن تنبّأ بضرب الذلّة والمسكنة على اليهود، غير أنّه تنبّأ أيضاً بعود القدرة والمنعة إليهم في فترة من الزمن، مرتين فيفسدون في الأرض، إلى أن يقيّض الله

__________________

(١) الميزان: ج ٣ ص ٣٨٤.

٣٩٠

رجالاً اُولي بأس شديد، ينتقم منهم، ودونك الآيات في سورة الإسراء :

( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ) .

( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ) .

( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) .

( إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) .

( عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) ( الإسراء: ٤ ـ ٨ ).

فإنّ الآيات تعرب عن افساد الطائفة المذكورة في الأرض مرتين وانتقام الله سبحانه منها بعد كل فساد تقوم به، ويدل على الفساد الأوّل قوله سبحانه:( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا ) وعلى الفساد الثاني قوله عزّ وجلّ:( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ ) .

أمّا الانتقام الأول فيدل عليه قوله سبحانه:( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ ) .

أمّا الانتقام الثاني فيدل عليه قوله تعالى:( لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) (١) .

ثمّ إنّ المفسّرين مالوا يميناً وشمالاً في تفسير هذه الآيات ولم يأتوا بأمر مقنع تطمئن إليه النفس ودونك بعض ما ذكروه من الوجوه :

١. المراد من الفساد الأوّل قتل يحيى بن زكريا، ومن الانتقام غلبة بخت نصر مع

__________________

(١) الضمائر كلّها ترجع إلى « عباد اُولي بأس شديد » المحاربين لليهود.

٣٩١

النبطيين على بني اسرائيل، والمراد من الفساد الثاني غلبة بني إسرائيل على النبطيين مرة ثانية ولم يذكروا المراد من الانتقام الثاني.

٢. الفساد الأوّل هو قتل زكريا والثاني هو قتل يحيى بن زكريا، والانتقام الأوّل تسلّط « سابور » ذي الاكتاف، والانتقام الثاني هجوم « بخت نصر » على اليهود.

٣. المراد من الفساد الأوّل قتل زكريا وغيره من الأنبياء وبالانتقام الأوّل تسلّط « بخت نصر » على اليهود، والمراد من الفساد الثاني طغيان اليهود بعد اخذ استقلالهم على يد كوروش، ومن الانتقام الثاني ما وقع بيد « انطياخوس » ملك الروم(١) .

وهذه الوجوه وأضرابها مما يحصل من تركيب بعضها مع بعض لا يمكن الركون إليها فإنّها منقولة عن اناس كانوا يأخذون ما يقولونه عن أحبار اليهود وعلمائهم فهي قصص اسرائيلية يجب تنزيه القرآن عنها.

أضف إلى ذلك أنّ لفظي:( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا ) يعرب عن مكانة المنتقمين عند الله وأنّهم مبعوثون من جانبه سبحانه وهم عباد ممدوحون له، وهل يمكن عد نظراء بخت نصر، ذلك الكافر السفّاك الأثيم الذي اقترف من الجرائم ما لا يعد ولا يحصى، أو سابور ذي الاكتاف ذلك الرجل القاسي المجرم الذي فعل مع العرب ما فعل، أو انطياخوس واضرابه، من العباد الممدوحين وأنّهم كانوا مبعوثين من جانبه سبحانه.

ويليه في الضعف ما يقال انّ المراد من الفساد الأوّل قتلهم أشعيا النبي، والانتقام الأوّل تسلط جالوت على بني اسرائيل، ومن الفساد الثاني هو غلبة بني إسرائيل على جالوت.

أو ما يقال من أنّ المراد من أحد الانتقامين ما جرى بيد ادولف هتلر من الاُمور القاسية، كما اختاره سيد قطب في ظلال القرآن.

إذ كيف يمكن أن يقال أنّ جالوت وعملاق ألمانيا أو غيرهم من الجبابرة كانوا

__________________

(١) تفسير الطبري: ج ١٥ ص ٣٨، ومجلة الهادي العدد الثاني.

٣٩٢

مبعوثين من جانبه سبحانه، فقد حارب جالوت داود ومن معه من صالحي بني إسرائيل وكما حارب طالوت الذي بعثه الله ملكاً، وأمّا عملاق ألمانيا فحدّث عن جرائمه ولا حرج.

وما يقال إنّه لما كان تسلّط بخت نصر وقهره لهم جزاء لهم على أعمالهم السيئة فأسنده سبحانه لنفسه وقال: بعثنا عليكم عباداً لنا(١) توجيه لا تركن إليه النفس، ونضيف إلى ما ذكر أنّ كل هذه الوجوه لا تلائم ظاهر الآية لاستلزامها التفكيك بين مراجع الضمائر إذ الظاهر أنّ الضمائر الغائبة في:( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ) وفي:( لِيَسُوءُوا ) و:( لِيَدْخُلُوا ) و:( دَخَلُوا ) و:( لِيُتَبِّرُوا ) يرجع إلى من وصفهم الله بقوله ثم:( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) ولازم ذلك اتحاد الفئة التي تحارب اليهود في المرة الاُولى مع الفئة المتغلبة عليهم في المرة الثانية، وإن هناك حربين تقعان بين اليهود وجماعة خاصة، لا أنّ كل واحد من الحربين تقع مع جماعة غير الجماعة الاُخرى.

وهذا الأمر غير موجود في الوجوه التي ذكروها إذ لم يقع أي إشتباك مجدد بين اليهود وبخت نصر، أو بينهم وبين سابور، ولم تصدر كرّة منهم عليهم مجدداً، أضف إلى ذلك أنّ ظاهر قوله سبحانه وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرة أنّ المحاربين لليهود يدخلون المسجد مرتين ويتسلّطون على المسجد الأقصى كما يستفاد من تعريفه باللام، مرة بعد مرة، مع أنّ بخت نصر وسابور لم يتسلّطا على المسجد أكثر من مرة، وما دخلوه أكثر منها.

وعلى الجملة: إنّ هذه الوجوه لا تلائم ظاهر الآية ويحتمل أن تكون الآيات مشيرة إلى الأحداث الجارية في الأراضي المحتلة، ويعلم الله سبحانه أنّ أي واحد من الوعدين تحقق، وأنّ الوضع الحاضر يمثل أيّاً منهما ولا شك أنّهم مزوّدون بالأموال والبنين مضافاً إلى دعم الدول العالمية الكبرى لهم، وبعد ذلك كلّه فما ذكرناه إنّما هو أحد الآراء

__________________

(١) الميزان: ج ١ ص ٤٠.

٣٩٣

المذكورة حول الآية، ولسنا حاكمين بواحد من هذه الوجوه، والله سبحانه هو العالم.

وعلى أي حال فالتوفيق سهل بين ضرب الذلّة والهوان عليهم، وبين ما ترى فيهم من القوة والمنعة، والأوّل من هذه الوجوه هو الأولى.

ختامه مسك :

فلنختم البحث بتنبّؤات وردت في آية واحدة وهي قوله سبحانه:( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) .

١.( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) .

٢.( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ) .

٣.( وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) ( المائدة ـ ٦٤ ).

ودونك بيانها على وجه الاجمال.

١. الظاهر أنّ الضمير في « بينهم » راجع إلى اليهود المذكورين في صدر الآية وما في المنار(١) من رجوعه إلى اليهود والنصارى المذكور في الآية الحادية والخمسين بعيد جداً بل كان الأولى له عندئذ أن يقول انّه راجع إلى أهل الكتاب الوارد ذكرهم في الآية التاسعة والخمسين، أي قوله:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ ) فالآية حاكية عن تضارب اليهود بعضهم ببعض واختلافهم في المذاهب إلى يوم القيامة، ويفسره قوله سبحانه:( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ *وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إلّا مِن بَعْدِ

__________________

(١) ج ٦ ص ٤٥٧، ولو رجع الضمير إلى الاُمتين فلا مانع أيضاً أن يكون المراد تضارب بعض الفرق من كل اُمة مع الاُخرى كتضارب اليهود بعضهم ببعض وتضارب الفرقة الكاثوليكية مع البروتستانت، أو النسطورية والملكانية واليعقوبية من اُمّة المسيح بعضهم مع بعض.

٣٩٤

مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( الجاثية: ١٦ ـ ١٧ ).

والفرق بين العداوة والبغضاء أنّ الاُولى عبارة عن البغض الذي يظهر أثره في الخارج، وأمّا البغضاء فهو مطلق المنافرة وإن لم يستعقب شيئاً من العمل.

هذا إذا قلنا برجوع الضمير إلى اليهود فقط، وأمّا إذا قلنا بمقالة المنار من رجوعه إلى اليهود والنصارى فالعداوة بينهم غير منقطعة، وأوضحه صاحب المنار بقوله: « العدواة على أشدها في بلاد روسيا على أقلها في انكلترا وفرنسا والمانيا واليهود أغنى أهلها والمديرون لأرحية أعظم الأعمال المالية فيها، وهم على مكانتهم هذه مبغوضون في جماهير النصارى، فكم اُلّفت كتب في فرنسا وغيرها في التحريض عليهم، قال: « قد أخبرني ألماني من المستشرقين أنّهم لا يعدون اليهودي من بلاده منهم بل يقولون هذه يهودي وهذا ألماني »(١) .

نعم تنبّأ القرآن في آية اُخرى باغراء الله سبحانه العداوة والبغضاء بين النصارى إلى يوم القيامة قال سبحانه:( وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( المائدة ـ ١٤ ) والعداوة بين فرق النصارى أشد وأوضح لمن زاولهم وطالع كتبهم.

وفي الوقت نفسه فإنّ الآيتان تنبئان عن بقاء دينهم إلى يوم القيامة وهو تنبّؤ آخر تضمّنته الآيتان، فلاحظ.

٢. قوله سبحانه:( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ ) فالحرب ضد السلم وهو أعم من القتال والقتال يصدق بالاخلال بالأمن والنهب والسلب وتهييج الفتن والاغراء بالقتال، وقد أغرى اليهود المشركين بالنبي والمؤمنين وهم الذين حزّبوا الأحزاب على

__________________

(١) المنار: ج ٦ ص ٤٥٧.

٣٩٥

رسول الله، حتى قدموا على قريش مكة وقالوا: إنّا سنكون معكم عليه، حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنّكم أهل الكتاب الأوّل والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أديننا خير أم دينه ؟قالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه(١) .

بل منهم من سعى لتحريض الروم على غزوهم ومنهم من كان يقطع الطريق على المؤمنين ويأوي أعداءهم ويساعدهم ككعب الأشراف.

ويمكن أن تكون الآية ناظرة إلى الأعمال الإجرامية التي كانوا يرتكبونها قبل الميلاد وبعده ثم ضد المسلمين.

والمراد من الاطفاء خذلانهم في كل ما يكيدون لرسوله وللمؤمنين، امّا بخيبتهم في ما يسعون إليه من الاغراء والتحريض، وامّا بنصر الله رسوله والمؤمنين وعلى أي تقدير، المراد خيبة مساعيهم في الحروب التي يوجهونها على دين الله ورسوله والمؤمنين، بما هم متدينون ومؤمنون بالله وآياته، وأمّا الحروب والنيران التي يوقدونها لا لمحق الدين بل لأغراض سياسية، أو تغلب جنسي، فهي خارجة عن مساق الآية.

قال الطبرسي: وفي هذا دلالة ومعجزة لأنّ الله أخبر فوافق خبره المخبر عنه، فقد كانت اليهود أشد أهل الحجاز بأساً وأمنعهم داراً حتى أنّ قريشاً كانت تعتضد بهم والأوس والخزرج تستبق إلى محالفتهم وتتكثر بنصرتهم، فأباد الله خضراءهم واستأصل شأفتهم واجتث أصلهم، فأجلى النبي بني النضير وبني قينقاع وقتل بني قريظة وشرّد أهل خيبر وغلب على فدك، ودان له أهل وادي القرى فمحى الله آثارهم صاغرين(٢) .

٣. قوله سبحانه:( وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا ) فليس الهدف من تقلبهم في البلاد، السعي وراء صالح الأعمال والأخلاق، أو اصلاح شؤون الاجتماع، بل لا

__________________

(١) سيرة ابن هشام: ج ١، ص ٥٤ و ٥٥ و ٢١٤.

(٢) مجمع البيان: ج ٢ ص ٢٢١.

٣٩٦

يستهدفون إلّا منع خروج المسلمين من الاُمية إلى العلم، ومن الوثنية إلى التوحيد، وهم يحسدونهم في ذلك حباً في دوام امتيازهم عليهم.

وقد قرر القرآن هذه الحقيقة منذ أربعة عشر قرناً غير أنّا نحسها في يومنا هذا بوضوح، فإنّ من مخططاتهم تقويض الأخلاق عند الغير، لأضعافه والسيطرة عليه، وهل الإباحية والخلاعة إلّا أحد مخططاتهم التي تتجلى في الأفلام السينمائية والمرابع والحانات وحتى في الساحات العامة.

وفسره سبحانه في آية اُخرى وقال:( وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( المائدة ـ ٦٢ ).

ملاحظة :

هذه هي الأخبار الغيبية الواردة في القرآن ولم نعرضها على وجه التفصيل والاستقصاء، وإنّما جئنا بها على وجه الاجمال وفي ما ذكرناه غنى وكفاية.

قل لي بربّك هل انخرم واحد من تلكم الأخبار أو تخلّف، أو كلّها غيب تحققت في المستقبل، كما أنّ ما سألوا عنه حول أصحاب الكهف وذي القرنين والروح غيب أما تحقق في الماضي أو جار فيه، وفي الحال كما في السؤال عن الروح وقد أجابهم عن ما سألوه ولم يكن عنده شيء يستند إليه سوى الوحي، ولم يكذّبوه فيما حدثهم.

وكل واحد من هذه الانباء معجزة كبرى ولو عددت كل ما ورد في الكتاب من الانباء الغيبية على أقسامها، تبين لك عدد تلكم المعجزات، ويزيدك اعجاباً بها إذا وقفت على أنّ المتحدث بها اُمّي ربيب البادية لم يحضر على أحد في شيء من تلكم الأخبار والمغيبات.

ويزيدك اعجاباً أكثر أنّ انجيل « متى » تنبّأ بأمر واحد حول المسيح وهو أنّه يبقى مدفوناً في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال، ولكن ما برح انجيل « متى » أن كذّب في

٣٩٧

أواخره هذا الإخبار فوافق الأناجيل الثلاثة الاُخر على أنّ المسيح في مساء ليلة السبت طلب بعض الناس جثته من بيلاطس فأنزلها عن الصليب وكفّنها ودفنها، وقبل الفجر من يوم الأحد قام المسيح من الموت، وخرج من قبره، وعلى ذلك لا يكون المسيح بقي في القبر إلّا ليلة السبت ونهاره وليلة الأحد، وذلك نهار وليلتان(١) .

( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَىٰ ) .

__________________

(١) مقدمة آلاء الرحمن للعلّامة البلاغي.

٣٩٨

الفصل السابع

اختصاص العلم بالغيب

بالله سبحانه

لقد ورد لفظ الغيب في الذكر الحكيم، مع بعض مشتقاته أربعاً وخمسين مرة، وقد عرفت بما أسلفناه ما هو المراد من الغيب، غير أنّا نريد في المقام أن نتحدث عن ناحية اُخرى لها تعلّق به، وهي أنّه هل الغيب مختص بالله سبحانه لا يعدو غيره أو غير مختص به ويتصف به سواه ؟!

والقول الفصل في المقام هو أنّ العلم بالغيب على ضربين :

أحدهما: ما هو مختص بالله سبحانه لا يشاركه فيه غيره، ولا يتجاوز إلى سواه، وأنّ ما جاء في الذكر الحكيم من الاشارة إلى علم الغيب، لا يراد منه إلّا هذا، فقوله سبحانه:( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إلّا اللهُ ) ( النمل ـ ٦٥ ) لا يراد منه إلّا هذا المعنى المختص به تعالى كسائر أوصافه ونعوته.

ثانيهما: ما يتصف به غيره سبحانه من ملائكته ورسله ومن يظهره على غيبه، وهذا لا يصح اطلاقه على الله سبحانه، وهذا الانقسام كما يجري في علم الغيب كذلك

٣٩٩

يجري في سائر نعوته وصفاته من قدرته وحياته و فما يجري منها على الواجب سبحانه لا يمكن تشريك الغير فيه، ولا يصح اطلاقه عليه، وما يجري على من سواه لا يصح اطلاقه عليه سبحانه، ولا يطلق إلّا على غيره من المخلوقين، فلنذكر ما يدل على اختصاص العلم بالغيب بالمعنى الأول والذي يمكننا استفادته منه وجوه :

١. قصره على الله سبحانه في بعض الآيات :

فمن الآيات الدالّة على الحصر به قوله سبحانه:( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلّا هُوَ ) ( الانعام ـ ٥٩ ) وقوله تعالى:( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إلّا اللهُ ) ( النمل ـ ٦٥ ).

وأمّا قوله سبحانه:( فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ ) ( يونس ـ ٢٠ ).

وقوله تعالى:( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) ( النحل ـ ٧٧ ) وقوله سبحانه:( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ) ( هود ـ ١٢٣ )، فلا يدل على مانحن بصدده.

إذ المقصود من قوله:( إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ ) هي الآيات الباهرات والمعجزات التي يستدل بها على نبوّة المدعي وصلته به سبحانه، وذلك ظاهر لمن أمعن النظر في سياق الآيات. وأمّا قوله سبحانه:( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) فالمراد منه: أنّ الحكومة المطلقة في السماوات والأرض غيبهما وشهادتهما، باطنهما وظاهرهما، لله سبحانه، وأنّه تعالى يملك غيب السماوات والأرض ملكاً لا حدود له، وله أن يتصرّف فيه كيف يشاء كما يملك شهادتهما، وكيف لا وغيب الشيء لا يفارق شهادته وهو موجود ثابت معه، وله الخلق والأمر ؟!

ويؤيده ذيل الآية، وهو قوله:( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) والمعنى أنّ الساعة الموجودة، ليست بأمر محال حتى لا تتعلّق بها قدرة، بل هي من غيب

٤٠٠