مفاهيم القرآن الجزء ٣

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 543

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 543 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 194295 / تحميل: 5701
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

كتاب القصاص والديات

قد شدد الله تعالى في كتابه المجيد وعلى لسان رسوله الامين والائمة من أهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين في دم المؤمن وانتهاك حرمته وأكد على ذلك، فقد قال تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميع)، وعن الامام زين العابدين (عليه السلام) أنه قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يغرنكم رحب الذراعين بالدم، فإن له عند الله قاتلاً لا يموت، قالوا: يا رسول الله وما قاتل لا يموت؟ فقال: النار»، وفي عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضوان الله عليه): «إياك والدماء وسفكها بغير حله، فإنه ليس شيء أدنى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقه، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة»، وعن الامام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «من قتل مؤمناً متعمداً أثبت الله على قاتله جميع الذنوب، وبرئ المقتول منه. وذلك قول الله عزوجل: (إني اُريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار)».. إلى غير ذلك.

بل ورد التشديد في الاعانة على قتل المؤمن والاشتراك فيه والرضا به، فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «والذي بعثني بالحق لو أن أهل السماء والارض شركوا في دم امرئ مسلم ورضوا به لأكبهم الله على مناخرهم [وجوههم] في النار»،

٢٦١

وعن الامام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إن الرجل ليأتي يوم القيامة ومعه قدر محجمة من دم فيقول: والله ما قتلت ولا شركت في دم، فيقال: بلى ذكرت عبدي فلاناً فترقى في ذلك حتى قتل فأصابك من دمه»، وعن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «من أعان على مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله»... إلى غيرذلك.

وكذا يحرم إيواء القاتل ومنعه من أولياء المقتول، كما تظافرت بذلك الاخبار عن أهل بيت العصمة الاطهار صلوات الله عليهم أجمعين.

لكن الجرم مهما عظم فباب التوبة منه مفتوح، رحمة من الله تعالى بعباده واستصلاحاً لامرهم وإبعاداً لهم عن القنوط المهلك. نعم التوبة مشروطة..

أولاً: بتسليم المعتدي نفسه لاولياء المقتول، فإن شاؤوا اقتصو، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وإن شاؤوا عفو.

وثانياً: بأداء الكفارة إن رضي أولياء المقتول بالدية ولم يقتصو، وقد تقدم التعرض لها في كتاب الكفارات.

وقد جعل الله سبحانه القصاص حقاً لاولياء المقتول على القاتل وثقّل في الدية تعظيماً لحرمة القتل وردعاً عنه، قال عز اسمه: (ولكم في القصاص حياة يا اُولي الالباب).

كما أنه تعالى قد خص القصاص بالمعتدي ولم يرض به على غيره عدلاً منه تعالى في الحكم، قال عز اسمه: (ولا تزر وازرة وزر اُخرى)، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «إن أعتى الناس على الله عزوجل من قتل غير قاتله ومن ضرب من لم يضربه» والاخبار في ذلك كثيرة.

لكن مع كل ذلك نرى كثيراً من الناس ينتهكون حرمات الله تعالى

٢٦٢

ويتعدون حدوده - استخفافاً وتهاوناً وطغياناً وتجبراً - فهم يستخفون بالدماء ويتسرعون في إهراقها ثم هم يمنعون القاتل من أن يقتص منه ويدافعون عنه عصبية وحمية. كما أنهم يعصبون الدم بغير القاتل من الاهل والعشيرة ويقتصون منهم، رجوعاً لعادات الجاهلية الجَهْلاء، واندفاعاً وراء العصبية الحمقاء، واستجابة لدعوة الشيطان الرجيم، وعزوفاً عن دين الله القويم وصراطه المستقيم (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)، و(إن الذين يحادُّون الله ورسوله اُولئك في الاذلين * كتب الله لاغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز)، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد رأينا أن نقتصر في هذا الكتاب على المهم من أحكام القصاص والديات على ما هو مورد للابتلاء من ذلك سداً لحاجة المؤمنين، مع إيكال بقية الفروع والاحكام للمطولات، حيث يضيق المقام عن استقصاء الكلام فيه. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ويقع الكلام في ذلك في قسمين..

٢٦٣

القسم الأول

في القصاص

وهو جزاء الجناية على البدن بمثله، والكلام فيه في ضمن فصول..

الفصل الأول

في قصاص النفس

من قتل نفساً كان لاولياء المقتول الاقتصاص منه وقتله بشروط..

الأول: أن يكون كامل، بأن يكون عاقلاً بالغ، فلا قصاص على المجنون وإن كان عامداً وكذا الصبي، وإن بلغ خمسة أشبار على الأحوط وجوب.

(مسألة ١): في ثبوت القصاص على السكران إذا بلغ حداً لا يعتد بقصده عن العقلاء إشكال. نعم لو كان يعلم من نفسه أنه إذا سكر اعتدى فأقدم على السكر كان عليه القصاص. كما أنه إذا لم يكن سكره أثر في جنايته فلا إشكال في عدم القصاص عليه. كما إذا رمى بما لايقتل عادةً فقتل اتفاقاً أو رمى حيواناً فأصاب إنسان، كما يتحقق ذلك من السكران كثير.

الثاني: أن يكون القتل عمد، فإن لم يكن عمداً لم يكن عليه قصاص. بل تثبت بقتله الدية على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى.

(مسألة ٢): القتل على أنحاء ثلاثة..

٢٦٤

الأول: العمد، ويتحقق بالقصد للقتل وإن كان بفعل ما لا يوجبه عادة، كما إذا رمى رجلاً بحصاة صغيرة أو ضربه بعصا صغيرة ضربة خفيفة أو دفعه دفعاً خفيفاً فصادف قتله بذلك. كما يتحقق بالقصد إلى إصابة المقتول بما يتوقع به القتل عادة، بحيث لا يستغرب تحقق القتل به، وإن لم يقصد بذلك القتل.

الثاني: الشبيه بالعمد، ويتحقق بما إذا قصد إصابة المجني عليه بما لا يوجب القتل عادة من دون أن يقصد به القتل فصادف حصول القتل.

الثالث: الخطأ المحض، وهو الذي لا يقصد به إصابة المجني عليه، كما لو رمى شاة أو كافراً مهدور الدم فأصاب إنساناً مسلماً فقتله. وأولى من ذلك ما إذا لم يقصد به الفعل الذي تحقق به القتل، كما إذا مشى على سقف فخسفه فوقع على شخص فقتله، أو أخذ السلاح الناري ليصلحه فانطلقت منه رصاصة فأصابت شخصاً فقتلته ونحو ذلك.

الثالث: أن يكون المقتول حراً إن كان القاتل حر، فلا يقتص من الحر بقتل العبد ويقتص من العبد بقتل الحر أو العبد. ولا مجال لاطالة الكلام في ذلك وفي فروعه بعد عدم الابتلاء به أو ندرته.

الرابع: أن يكون المقتول مسلماً إن كان القاتل مسلم، فلا يقتص من المسلم بقتل الكافر، ويقتص من الكافر بقتل المسلم والكافر.

(مسألة ٣): إذا قتل الكافر المسلم دفع الكافر إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا استرقوه وإن شاؤوا عفو. وكذا يدفع لهم ماله. وإن أسلم قبل الاسترقاق لم يسترق، وكان لهم القتل أو العفو.

(مسألة ٤): إذا قتل الكافر كافراً اقتص منه إلا أن يسلم القاتل قبل القصاص فلا يقتل حينئذٍ، بل ليس لاولياء المقتول إلا الدية إن كان للمقتول دية.

(مسألة ٥): إذا تعمد المسلم قتل الذمي اقتص منه بعد أن يعطى فضل

٢٦٥

ما بين دية المسلم والذمي، فإن دية الذمي ثمانمائة درهم، على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

الخامس: أن لا يكون القاتل أباً للمقتول، فلا يقتص من الاب لو قتل ابنه، ويقتص من الابن لو قتل أباه، كما يقتص من الاُم لو قتلت ولده، ومن الولد لو قتل اُمه، لكن بعد رد فاضل الدية إن كان ذكر.

السادس: أن لا يكون المقتول مجنون، فإن من قتل مجنوناً لا يقتص منه.

(مسألة ٦): الأحوط وجوباً عدم الاقتصاص من الرجل إذا قتل الطفل غير البالغ.

السابع: أن يكون القاتل مبصر، فإن كان أعمى فلا قصاص، بل تثبت الدية وتحملها عاقلته، لانه في حكم قتل الخط.

الثامن: أن يكون القتل محرم، فلو كان سائغاً في حق القاتل فلا قصاص، كما في سابّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة (عليهم السلام) ، والمرتد الفطري قبل توبته، والمقتول بقصاص أو حدّ، والمهاجم لو قُتل دفاع.

(مسألة ٧): الظاهر ثبوت القصاص بقتل من عليه القتل حداً - كاللائط والزاني المحصن - إذا تولاه من ليس له إقامة الحد. وكذا بقتل من عليه قصاص إذا تولاه من ليس له القصاص من دون توكيل منه.

(مسألة ٨): إذا قتل المولود الشرعي ولد الزنا المحكوم بإسلامه ثبت لوليه القصاص، ولكن يعطى للقاتل فاضل الدية، فإن دية ولد الزنا ثمانمائة درهم كما يأتي.

(مسألة ٩): يثبت القصاص على الرجل بقتله للرجل وللمرأة، ويثبت القصاص على المرأة بقتلها للرجل وللمرأة. لكن لو قتل الرجل المرأة لم يقتل به

٢٦٦

إلا بعد دفع فاضل الدية له، فإن دية المرأة نصف دية الرجل. أما لو قتلت المرأة الرجل فهي تقتل به لا غير، ولا يجب عليها دفع فاضل الدية لاوليائه.

(مسألة ١٠): إذا اجتمع اثنان على قتل واحد فأمسكه أحدهما وقتله الآخر كان القصاص على القاتل، وكان على من أمسكه أن يخلَّد في السجن حتى يموت عقوبة وحدّ، فإن كان معهم ثالث ينظر إليهم لا يغير عليهم وهو يقدر على التغيير كانت عقوبته أن تسمل عيناه.

(مسألة ١١): إذا أمر رجل رجلاً بقتل رجل آخر فقتله كان على القاتل القصاص، وعلى الامر أن يخلّد في السجن حداً وعقوبة. إلا أن يكون المأمور عبداً للامر، فيقتل الامر ويخلّد العبد في السجن. ويجري ذلك فيما لو كان الامر أو المأمور أو المقتول امرأة. أما لو كان المأمور صغيراً غير مميز أو مجنوناً كذلك فيقتل الامر مطلقاً ولا شيء على المأمور. وأما لو كان المأمور صبياً مميزاً فلا قصاص على الامر ولا على المأمور، بل يخلّد الامر في السجن، وتثبت الدية على المأمور تؤديها عنه عاقلته، كما يظهر مما يأتي في الديات.

(مسألة ١٢): إذا اشترك أكثر من واحد في قتل واحد ثبت القصاص عليهم. وحينئذٍ يتخير الولي في استيفائه بين وجوه..

الأول: أن يقتص منهم جميعاً بعد رد فاضل الدية على كل منهم، فإذا كانا اثنين رد عليها دية تامة بينهم، وإن كانوا ثلاثة رد عليهم ديتان بينهم، لكل منهم ثلثا دية، وإن كانوا أربعة رد عليهم ثلاث ديات بينهم لكل منهم ثلاثة أرباع الدية، وهكذ.

الثاني: أن يقتص من واحد منهم، وحينئذٍ يجب على من بقي أن يرد على ولي المقتص منه ما فضل من الدية، فإن كان من بقي واحداً دفع إليه نصف الدية، وإن كانا اثنين دفع كل واحد منهما ثلث الدية، وإن كانوا ثلاثة دفع إليه

٢٦٧

كل منهم ربع الدية، وهكذ.

الثالث: أن يقتص من بعضهم أكثر من واحد. مثلاً إذا كان المشتركون في القتل أربعة كان له أن يقتص من اثنين، بعد أن يدفع لكل منهما نصف الدية، ويدفع الاثنان الباقيان كل منهما ربع الدية لوليي المقتص منهما فيكون لكل واحد من المقتولين المقتص منهما ثلاثة أرباع الدية، وهكذا بقية الصور المتصورة.

والضابط أن على كل مشترك من دم القتيل بنسبة شركته، فإن استوفى منه أكثر من ذلك بالاقتصاص منه كان له الفاضل من الدية على المستوفي للقصاص وعلى من لم يقتص منه ممن شارك في القتل بنسبة شركتهم. ومن ذلك يظهر أنه لو كان المشترك في القتل امرأة فقد لا يكون لها رد مع الاقتصاص منه، لأن ديتها نصف دية الرجل، فلو كان القاتل للرجل امرأتين كان لولي القتيل قتلهما معاً من دون رد عليهم. ولو كان القاتل رجلاً وامرأة كان له قتل الرجل وترد المرأة على ولي الرجل نصف الدية، وله قتل المرأة، ويرد الرجل نصف الدية على ولي القتيل لا على ولي المرأة، وعلى هذا النهج تجري بقية الصور المتصورة.

(مسألة ١٣): في كل مورد يجوز القصاص مع رد الولي فاضل الدية، يتعين تقديم رد الفاضل للجاني ثم الاقتصاص منه، ولا يحل الاقتصاص منه قبل الرد. أما لو كان الرد من غير الولي - كما تقدم في المسألة السابقة - فلا يتوقف الاقتصاص على تقديم الرد، بل يجوز الاقتصاص للولي قبله، ويجب بعده أن يرد بقية الجناة على ورثة المقتص منه.

(مسألة ١٤): إذا قتل الجاني أكثر من واحد كان لاولياء كل قتيل الاقتصاص منه. فإن اجتمعوا على الاقتصاص منه فلا شيء لهم. وإن عفا بعضهم أو رضي بالدية وقبل بها الجاني لم يسقط حق الباقين من القصاص. وإن سبق بعضهم بالقصاص من دون مراجعة الباقين فقد استوفى حقه. وهل

٢٦٨

يسقط حق الباقين، أو ينتقلون للدية - كما فيمن تعذر الاقتصاص منه - وجهان أقواهما الثاني.

(مسألة ١٥): المسلمون تتكافأ دماؤهم، فكل مسلم محترم الدم يثبت القصاص بقتله مهما كان نسبه ومن أي فرقة كان، بعد مراعاة الشروط المتقدمة.

الفصل الثاني

في أحكام القصاص

(مسألة ١٦): لا يثبت القصاص إلا بعد موت المجني عليه، فمن اقتص قبله بعد الجناية كان ظالماً للجاني وكان لولي الجاني حينئذٍ القصاص من المقتص، أو الرضا بالدية أو العفو. نعم إذا مات المجني عليه الاول بعد قتل الجاني ثبتت ديته في مال الجاني المقتول.

(مسألة ١٧): لا يستحق ولي المقتول مع القتل العمدي إلا القصاص. وليس له الالزام بالدية بدلاً عن القصاص إلا برضا الجاني. وحينئذٍ فلهما التراضي بما زاد على الدية أو نقص عنه.

(مسألة ١٨): إذا توقف القصاص من ولي المقتول على رده فاضل الدية للجاني كان لولي المقتول الخيار بين القصاص مع الرد وأخذ الدية، وليس للجاني الامتناع من الدية.

(مسألة ١٩): إذا تعذر القصاص في قتل العمد للخوف من القاتل أو موته أو لمنع السلطان من القصاص أو نحو ذلك ثبتت الدية في ماله، فإن لم يكن له مال بقيت في ذمته كسائر ديونه. نعم إذا هرب القاتل فلم يقدر عليه ولم يكن له مال اُخذت الدية من قرابته الاقرب له فالاقرب، فإن لم يكن له قرابة كانت

٢٦٩

الدية على الامام، ولا يتعدى لغير ذلك من صور تعدد القصاص.

(مسألة ٢٠): إذا صالح الجاني على الدية ثم امتنع من أدائها فلا يعود حق القصاص ويبقى مطالباً بالدية، وكذا إذا عجز عن أدائها فإنها تبقى في ذمته كسائر ديونه ولا يتحملها عاقلته عنه ولا الامام.

(مسألة ٢١): إذا أراد ولي المقتول القصاص من القاتل، فخلصه شخص أو قوم حتى امتنع الاقتصاص على الولي اُلزم الذي خلصه بإرجاعه وحبس حتى يحضره، فإن فدى نفسه بالدية ورضي بها ولي المقتول فذاك، وإن لم يفعل حتى مات القاتل اُلزم بالدية.

(مسألة ٢٢): يثبت حق القصاص لولي الميت وهو وارث المال وفي ثبوته للزوج والزوجة إشكال، نعم هما يرثان من الدية لو رضي بها الوارث بدلاً عن القصاص. وكذا من الدية الثابتة ابتداء، وهي دية الخط. وأما ما تعارف عند كثير من القبائل من إناطة الامر بغير الوارث، كرئيس القبيلة وأكابرها فهو من عادات الجاهلية التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان. واللازم على المؤمنين نبذ ذلك والرضوخ لاحكام الله تعالى والمحافظة على حدوده لينالوا بذلك رضاه ويستحقوا رحمته، وإلا تعرضوا لنقمة الله تعالى وعقابه في الدنيا والآخرة.

(مسألة ٢٣): لولي الميت القصاص، وأخذ الدية برضا الجاني وبدونه على اختلاف الصور المتقدمة. كما أن له العفو، إلا الامام فإنه ليس له العفو، بل لابد له إما من القصاص أو أخذ الدية.

(مسألة ٢٤): إذا كان المقتول مسلماً وليس له أولياء من المسلمين إلا الامام وكان له أولياء من أهل الذمة عرض عليهم الامام الاسلام فمن أسلم منهم فهو وليه، فإن شاء اقتص وإن شاء عفا وإن شاء أخذ الدية، وإن لم يسلم منهم أحد كان الامر للامام، وليس له إلا القصاص أوأخذ الدية، كما تقدم.

٢٧٠

(مسألة ٢٥): إذا كان ولي المقتول مولى عليه لصغر أو جنون فالظاهر أن لوليه العمل على ما فيه صلاحه من القصاص أو الدية أو العفو. والأحوط وجوباً له الاقتصار على مقتضى المصلحة المهمة التي يكون تفويتها تفريطاً في حقه عرف. ومع عدم وضوحها للولي ينتظر به حتى يرتفع الحجر عنه فيعمل حقه بنفسه.

(مسألة ٢٦): إذا كان ولي الميت محجوراً عليه لسفه أو فلس لم يمنعه ذلك من طلب القصاص، كما لا يمنعه من الرضا بالدية.

(مسألة ٢٧): يجوز لولي الميت المبادرة بالقصاص وإن كان الاولى استئذان الامام، أو نائبه الخاص، وفي عصر الغيبة يستأذن الحاكم الشرعي.

(مسألة ٢٨): إذا تعدد الاولياء كان لكل منهم الاقتصاص من القاتل منفرد، لكن مع ملاحظة حق الآخرين، فإن رضوا بالقصاص فذاك، وإن أراد بعضهم الدية دفع له سهمه منه، وإن عفا بعضهم دفع سهمه من الدية لاولياء المقتص منه. وإن كان بعضهم غائباً لم يبطل حقه، بل ينتظر حتى يحضر فيعمل حقه، وكذا إذا كان مجنوناً أو صغيراً فإنه لا يبطل حقه بل يعمله وليه أو ينتظر به ارتفاع الحجر عنه، كما تقدم.

(مسألة ٢٩): للولي استيفاء القصاص بنفسه مباشرة، أو بتوكيل غيره على أن يقوم به مجاناً أو باُجرة، وتكون الاُجرة عليه لا على المقتص منه.

(مسألة ٣٠): إذا كان المقتول ناقصاً - كمقطوع اليد أو الرجل أو فاقد العين - ثبت القصاص أو الدية على قاتله وإن كان تاماً ولا يجب على أولياء المقتول رد دية العضو الناقص على القاتل. نعم إذا كان المقتول مقطوع اليد اليمنى قصاصاً أو كان قد جني عليه في قطعها فأخذ ديتها كان على أوليائه رد دية اليد قبل القصاص، وإذا أخذوا الدية استثنوا دية اليد. وفي عموم ذلك لليد

٢٧١

اليسرى فضلاً عن بقية الاعضاء إشكال، بل منع.

(مسألة ٣١): المقتول عمداً إن كان عليه دين وليس له مال فلاوليائه القصاص ولا يضمنون الدين. نعم إذا عفوا في قتل العمد والخطأ ضمنوا الدين. ولو أخذوا الدية كان عليهم وفاء الدين منه.

(مسألة ٣٢): اللازم في القصاص قتل الجاني بما يجهز عليه من دون تعذيب ومثلة ونحوهما حتى لو كان قد قتل المجني عليه بالوجه المذكور. والمشهور أنه لا يقتص منه إلا بالسيف، ولكن الظاهر الاكتفاء بكل ما يجهز عليه كالسلاح الناري. هذا كله مع استسلامه للقصاص جبراً أو اختيار، أما مع امتناعه بحيث لا يمكن الاقتصاص منه إلا مباغتة فالظاهر جواز ما تيسر من الوجوه مع تحري الابعد عن التعذيب والاقرب للاجهاز.

(مسألة ٣٣): إذا أراد ولي الدم أن يقتص من الجاني فضربه ضربة غير قاتلة كان ضامناً لما حصل منه، فإن كان عامداً وكانت الضربة مما يقتص فيه كان على ولي الدم القصاص، وإلا كان عليه دية الضربة له، ثم يقتص منه. نعم إذا ضربه ضربة قاتلة حتى ظن أنه أجهز عليه لكنه عولج فبرئ فالأحوط وجوباً سقوط القصاص بذلك.

(مسألة ٣٤): ليس للمجني عليه قبل موته حق العفو أواختيار القصاص أو الدية، ولو اختار شيئاً من ذلك فلا أثر له، بل يبقى الحق للولي.

٢٧٢

الفصل الثالث

في قصاص الطرف

والمراد منه ما لا تبلغ فيه الجناية إزهاق النفس، سواءً اقتضت إتلاف عضو - كاليد والعين - أم ل، بل مجرد الاعتداء على البدن بمثل الجرح والخدش. فإنه يثبت في ذلك القصاص بالمثل في الجملة على تفصيل يتضح مما يأتي.

(مسألة ٣٥): يشترط في قصاص الطرف ما يشترط في قصاص النفس من كمال الجاني - بالبلوغ والعقل - وعمده، وحرية المجني عليه إذا كان الجاني حر، وإسلامه إذا كان الجاني مسلم، وعدم كون الجاني أباً للمجنى عليه وعدم كون المجني عليه، مجنوناً بل ولا صبياً على الأحوط وجوب، وأن يكون الجاني مبصر، وأن تكون الجناية محرمة، على التفصيل المتقدم هناك.

(مسألة ٣٦): الظاهر أن الجناية عمداً على الطرف موجبة لتخيير المجني عليه بين القصاص والدية، فإن اختار الدية فليس للجاني الامتناع، بخلاف الجناية على النفس، كما تقدم.

(مسألة ٣٧): إذا جنت المرأة على الرجل كان له القصاص بالمثل لا غير، وإذا جنى الرجل على المرأة كان لها القصاص منه بلا رد ما لم تبلغ دية الجناية ثلث دية قتل الرجل، فإذا بلغت ثلث الدية نزلت ديتها إلى النصف وكان عليها رد فاضل الدية. فمثلاً: إذا قطع الرجل إصبعاً أو إصبعين أو ثلاثاً من أصابع المرأة كان لها القصاص من دون رد، فإن قطع أربعاً كان لها القصاص مع رد نصف دية الاصابع المذكورة. وإذا فقأ الرجل عين المرأة أو قطع رجلها كان لها القصاص بفقء عينه أو قطع رجله مع رد نصف دية العين والرجل، وهو ربع

٢٧٣

دية النفس، وهكذ.

(مسألة ٣٨): المعيار في بلوغ الثلث وعدمه على وحدة الجناية عرفاً وتعدده، فإذا كان قطع الاربع الاصابع دفعة واحدة عرفاً كانت الجناية أكثر من الثلث وثبت الرد، أما إذا كان متفرقاً بحيث تعد جنايات متعددة فكل جناية دون الثلث ولا ردّ فيه.

(مسألة ٣٩): لا يشترط في القصاص في الاطراف التساوي في السلامة والعيب، فيقتص للمعيبة بالسليمة وللسليمة بالمعيبة بلا رد. نعم إذا كانت اليد شلاء فالأحوط وجوباً عدم القصاص فيه، بل الدية وهي ثلث دية اليد الصحيحة.

(مسألة ٤٠): تقطع اليد باليد، فإن كان للجاني مماثل للمقطوع من حيثية اليمين واليسار كان هو المقدم في القصاص، فتقطع اليمين باليمين واليسار باليسار، وإلا سقطت المماثلة في ذلك، فإن لم يكن للجاني يد قطعت رجله مع مراعاة المماثلة من حيثية اليمين واليسار مع الامكان، ويسقط مع التعذر.

(مسألة ٤١): إذا فقأ الاعور عيناً واحدة من ذي عينين كان له القصاص، فيفقأ عينه وإن صار أعمى. وأظهر من ذلك ما لو فقأ عين أعور مثله.

(مسألة ٤٢): إذا فقأ صحيح العينين العين الصحيحة من الاعور تخير المجني عليه بين القصاص من إحدى عيني الجاني مع أخذ نصف دية الانسان وأخذ دية تامة من دون قصاص. نعم لو كان عور الاعور لجناية جان فالأحوط وجوباً مع اقتصاصه عدم أخذ فاضل الدية.

(مسألة ٤٣): في إذهاب الرؤية من العين مع بقائها القصاص إن أمكن من دون تعد على الجاني بأكثر مما جنى ومع خوف التعدي تتعين الدية. وكذا الحال في جميع منافع الاعضاء إذا ذهبت مع بقاء العضو سالم.

٢٧٤

(مسألة ٤٤): يثبت القصاص في إزالة الشعر إذا لم يكن فيه إفساد لمحله بل كان ينبت ثاني. وكذا إذا كان فيه إفساد لمحله بحيث لا ينبت ثانياً إن أمكن القصاص، وإلا تعينت الدية.

(مسألة ٤٥): يثبت القصاص في قطع الذكر من الرجل والفرج من المرأة بالمثل، أما لو قطع الرجل فرج المرأة أو المرأة فرج الرجل فلا قصاص، بل تتعين الدية. نعم إذا قطع الرجل فرج امرأته وامتنع عن دفع الدية كان للمرأة القصاص بقطع ذكره.

(مسألة ٤٦): يثبت القصاص في الاسنان ذات الاُصول الثابتة في أصل الفك. ولا يسقطه نباتها بعد ذلك وإن عادت كحالها الاول. نعم الأحوط وجوباً عدم القصاص إذا كانت لغير البالغ، لما تقدم في شروط القصاص. وأما الاسنان النابتة في اللحم غير ذات الاُصول - المسماة بالاسنان اللبنية - فالظاهر وجوب القصاص فيها بمثلها إذا كان الجاني والمجني عليه كبيرين، وإن كان الفرض نادر. أما القصاص عنها بالسن الاصلية فهو لا يخلو عن إشكال. والأحوط وجوباً عدمه، والرجوع إلى الدية سواءً عادت أم لم تعد.

(مسألة ٤٧): لابد من المماثلة في قصاص الاسنان، فلا يقتص لاسنان المقدم بالطواحن ولا العكس، ولا يقتص بشيء منها بالانياب ولا العكس، بل الأحوط وجوباً عدم الاقتصاص للعليا بالسفلى وبالعكس. بل وعدم الاقتصاص للثنيتين المتوسطتين بالرباعيتين اللتين على جانبيهما وبالعكس، بل يرضى في جميع ذلك بالدية. نعم الظاهر عدم إخلال اختلاف الجانب بالمماثلة عرف، فيقتص لما في الجانب الايمن بما في الجانب الايسر وبالعكس. وإن كان الأحوط وجوباً الحفاظ على المماثلة في الجانب مع الامكان وعدم الاخلال بها إلا مع التعذر كما إذا لم يكن للجاني سن مماثل في الجانب الذي اعتدي على مثله في

٢٧٥

المجني عليه. ويجري جميع ذلك في الاصابع وفي جميع الاطراف.

(مسألة ٤٨): إذا قطع شيء من جسد الانسان أو شق ثم اُلصق واُعيد إلى ما كان عليه قبل الجناية - كما يشيع ذلك في عصورنا - فالظاهر سقوط القصاص. بل يشكل ثبوت الدية، ويحتمل الرجوع للحكومة التي يأتي الكلام فيها في الديات، فاللازم التصالح. نعم إذا اُصلح النقص بأجنبي لم يمنع من القصاص، كما لو فقأ عينه فزرع عين حي أو ميت بدله، أو قطعت شحمة اُذنه فوضع بدلها لحمة من بدنه أو بدن غيره بعملية تجميل أو نحو ذلك.

(مسألة ٤٩): إذا جنى بما يستوجب القطع أو الشق ثم اقتص منه فأراد إصلاحة بإلصاقه وإعادته على ما كان عليه قبل القصاص لم يمكّن من ذلك، ولو فعل اُعيد القصاص عليه لابقاء النقص. نعم في منعه من إصلاح النقص بأجنبي - نظير ما تقدم في المسألة السابقة - إشكال، والاظهر العدم.

(مسألة ٥٠): إذا قطع منه شيء واقتص لنفسه ثم تسنى للمجني عليه أن يعيد ما قطع منه بنفسه ورجع الحال إلى ما كان عليه قبل الجناية، فإن كان يعلم قبل الاقتصاص بقدرته على الاصلاح وحصوله منه ثم اقتص بنفسه كان عليه القصاص، وإن لم يعلم بذلك أو وكّل شخصاً بالقصاص ولم يباشره فلا قصاص عليه، بل الدية إن كان قد اقتص بنفسه جاهلاً بالحال. وإن قام غيره مقامه في الاقتصاص فلا دية عليه أيض، بل يتحملها المباشر، إلا أن يكون تابعاً للامام فتكون على بيت مال المسلمين. نعم إذا كان المجني عليه غارّاً لمطالبته بالقصاص مع علمه بحصول الاصلاح كان لمن يؤدي الدية الرجوع بها عليه. وعلى كل حال ليس للمقتص منه منع المجني عليه من الاصلاح، فضلاً عن أن يلزمه بعد حصول الاصلاح بإرجاع الحال إلى ما كان قبله.

(مسألة ٥١): لا يثبت القصاص في الجراح والشجاج مع انضباطها وعدم

٢٧٦

كون القصاص معرضاً للنفس للهلاك أو معرضاً للعضو التلف أو الضرر.

(مسألة ٥٢): لا يثبت القصاص في الجرح الواصل للجوف ولا الناقل للعظم عن محله، ولا الواصل لاُم الرأس، ولا الهاشم للعظم.

(مسألة ٥٣): لا يثبت القصاص في كسر العظم حتى كسر الذراع على الأحوط وجوب.

(مسألة ٥٤): في الجراح والشجاج التي يثبت فيها القصاص لابد من مساواة القصاص للجناية طولاً وعرضاً وعمقاً وتكفي المساواة العرفية. كما أنه يجوز الاقتصاص بالاقل. وفي استحقاق الدية للزائد إشكال.

(مسألة ٥٥): إذا اقتص من الجاني فسرت الجناية عليه بوجه غير متوقع لطوارئ خارجية فمات أو تلف عضو منه أو نحو ذلك فلا قصاص له ولا دية. وكذا إذا سرت الجناية بنفسها بوجه غير متوقع لا لطوارئ خارجية وكان القصاص بأمر الامام أو الحاكم الشرعي. وأما إذا لم يكن بأمره فلا قصاص، وفي سقوط الدية للسراية إشكال، فاللازم التصالح.

(مسألة ٥٦): في ثبوت القصاص في الضرب بالسوط وغيره، وفي اللطمة ونحوها إشكال، والأحوط وجوباً الاقتصار على الدية.

خاتمة

فيها مسائل..

الاُولى: إذا لجأ الجاني لحرم مكة المعظمة لم يقتص منه في النفس ولا في الجراح ولا في غيره، بل لا يبايع ولا يشارى ولا يطعم ولا يسقى ولا يكلم حتى يخرج منه. نعم إذا جنى في الحرم اقتص منه فيه. ولا يلحق بالحرم المذكور

٢٧٧

حرمُ المدينة المشرفة ولا مشاهد الائمة (عليهم السلام) ، إلا أن يلزم من القصاص فيها هتكه، فيحرم.

الثانية: يستحب العفو عن القصاص في النفس والطرف وغيرهم، كما حثّ على ذلك الكتاب المجيد وتظافرت به الاخبار، قال تعالى:(وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم). وفي الحديث: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: (فمن تصدق به فهو كفارة له) قال: يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفى عنه من جراح أو غيره». ويتأكد ذلك في النادم التائب، فإن في الندم وتأنيب الضمير من الالم النفسي ما قد يزيد على العقاب البدني. وخصوصاً إذا استسلم للقصاص الذي فيه من كسر النفس والاقدام على تحمل المشقة ما يطفئ غضب المعتدى عليه ويشفي غيضه وما يستحق به المستسلم للشكر الجزيل والجزاء الجميل.

الثالثة: إذا عفا من بيده القصاص عن القصاص فليس له الرجوع في ذلك، لأن حقه قد سقط بالعفو ولا يعود بعد سقوطه، قال تعالى: (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم)، وعن الامام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الاية أنه قال: «هو الرجل يقبل الدية أو يعفو أو يصالح ثم يعتدي، فله عذاب أليم، كما قال الله عزوجل».

٢٧٨

القسم الثاني

في الديات

الدية هي المال المفروض تداركاً للجناية الواردة على النفس أو البدن. وهي تثبت بالاصل في مورد الخط، ومع العمد في مورد لا قصاص فيه. كما تثبت شرعاً بدلاً عن القصاص في مورد تعذره، وتثبت بالتراضي بدلاً عن القصاص مع إمكانه، كما يتضح مما تقدم.

ويقع الكلام فيها في ضمن فصول.

الفصل الاول

في دية النفس

(مسألة ٥٧): دية قتل المسلم عمداً أحد اُمور..

الأول: مائة من الابل. ولابد من كونها مسنة. والأحوط وجوباً أن تكون داخلة في السنة السادسة، وأن تكون فحولة لا إناث.

الثاني: مائتان من البقر. ويكفي فيه ما يصدق عليه أنه بقر. وإن كان الأحوط استحباباً أن تكون إناثاً مسنّة، وهي الداخلة في السنة الثالثة.

الثالث: ألف من الغنم. ويكفي فيه ما يصدق أنه شاة.

الرابع: ألف دينار ذهب. وقد تقدم في كتاب الزكاة أن الدينار أربعة

٢٧٩

غرامات وربع تقريب، فتكون الدية أربعة كيلوات من الذهب وربع الكيلو تقريب.

الخامس: عشرة آلاف درهم فضة. وقد تقدم في كتابي الزكاة واللقطة أن الدرهم ثلاثة غرامات إلا ربع عشر الغرام تقريب، فتكون الدية ثلاثين كيلواً إلا ربع الكيلو من الفضة تقريب.

السادس: مائتا حلّة، وكل حلة ثوبان إزار ورداء. والأحوط وجوباً الاقتصار على برود اليمن.

(مسألة ٥٨): الأحوط وجوباً الاقتصار في كل خصلة من خصال الدية الستة على من يناسبه، فيؤخذ من أهل الابل - وهم أهل البوادي - الابل، ومن أهل البقر البقر، ومن أهل الغنم الغنم، ومن أهل الدنانير الدنانير، ومن أهل الدراهم الدراهم، ومن أهل الحلل الحلل، وإن كان بعض الناس من أهل أكثر من نوع واحد خيّر بينهم. نعم من لم يكن من أهل شيء من هذه الخصال كأهل المدن في زماننا - يتخير بين الخصال الستّ.

(مسألة ٥٩): في مورد ثبوت التخيير فالذي يخير هو الجاني ومن يقوم مقامه ممن يكلف بدفع الدية، لا من يستحق الدية. نعم إذا ثبتت الدية بالصلح بدل القصاص أمكن جعلها على وجه آخر، كما يمكن الزيادة على الدية.

(مسألة ٦٠): دية العمد يؤديها الجاني نفسه. نعم إذا ثبتت بالصلح بدل القصاص أمكن أن تجعل على غيره.

(مسألة ٦١): تؤدى دية العمد في سنة. والمراد بذلك أنها تؤدى في سنة من حين ثبوتها لا من حين حصول القتل. نعم إذا ثبتت بالصلح بدل القصاص أمكن تحديد مدة أدائها على خلاف ذلك.

(مسألة ٦٢): تقدم في أول الكلام في القصاص أن الخطأ على قسمين..

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

١٠ ـ التنبّؤ حول اليهود والنصارى :

من عجائب التنبؤات القرآنية وغرائبها، تحدّيه اليهود بأبسط الأشياء وأسهلها ومطالبته إيّاهم بما هو ميسور لهم في كلّ وقت وحين، وفي متناول قدرتهم، ودائرة استطاعتهم في كل زمان، ومع ذلك عجزوا عن تكذيبه وانصرفوا عن مخالفته، وهذا يدل قبل كلّ شيء على أنّ القرآن كلام من بيده القلوب والضمائر.

قال سبحانه:( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ *وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) ( البقرة: ٩٤ ـ ٩٦ ).

لما زعم اليهود أنّهم الشعب المختار عند الله، وأنّ الدار الآخرة خالصة لهم كما تحكي عنه الآية ويدل عليه أيضاً قوله سبحانه:( وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ) ( البقرة ـ ٨٠ ).

عرض عليهم سبحانه، رداً على مقالهم ( انّ نعيم الآخرة وقف على الشعب المختار، وانّ الدار الآخرة خالصة لهم ) أن يتمنّوا الموت جناناً ولساناً وعملاً، فإنّ الانسان بفطرته إذا خيّر بين العيش الخالص عن التعب والألم، والعيش الممزوج بألوان العذب والكد، يختار الأوّل، ولا ريب أنّ عيش الآخرة هو العيش الخالص عن شائبة التعب، فلو أنّهم يزعمون أنّهم صادقون في ما يقولون بألسنتهم من أنّ لهم الدار الآخرة، وأنّهم الاُمّة المختارة من بين شعوب الناس بالحياة الدنيا، يجب أن لا يكونوا أحرص الناس على الحياة الدنيا، بل يلزم عليهم تمنّي الموت تمنّياً صادقاً، تظهر آثاره في حياتهم وتقلبهم بين الناس.

غير أنّ التاريخ والحس يقضيان بخلاف ما يدّعونه، وأنّهم أحرص الناس على

٣٨١

الحياة وكل واحد منهم يودّ لو يعمّر ألف سنة، وما تمنى ولن يتمنّى أحد منهم الموت أبداً تمنّياً تلوح منه آثار الصدق، لا أقول إنّهم ما تمنّوا تلفّظاً ولقلقة باللسان، بل تمنّياً من صميم الروح، تظهر آثاره على الجوارح والأفعال، ولذلك قال سبحانه :

( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ( الجمعة: ٦ ـ ٧ ).

نعم إنّ الزرقاني فسّر الآية على وجه يشمل التمنّي باللسان وقال: « ولقد كان بمقدور اليهود في العادة أن يقولوا ولو بألسنتهم نحن نتمنّى الموت كي تنهض حجّتهم على محمد ويسكتوه، لكنّهم صرفوا فلم يقولوا ولم يستطع أحد أن يقول: إنّي أتمنّى الموت »(١) ، غير أنّ ما ذكره خلاف ظاهر الآية فإنّ التمنّي حالة نفسانية للنفس، واللفظ الدال عليه معبر عمّا في الضمير، ولا يطلب القرآن منهم التمنّي الكاذب ولا يدعوهم إليه بل التمنّي الصادق الكاشف عن الإرادة الجدية والطلب الحقيقي له، مع ظهور آثاره في حياة المتمنّي وسلوكه

ثمّ إنّ القرآن تنبّأ بانهزام اليهود في مضمار الحرب والنضال مع النبي والمسلمين قال سبحانه :

( قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ ) ( آل عمران ـ ١٢ ).

قال الطبرسي: روى محمد بن يسار عن رجاله: لما أصاب رسول الله قريشاً ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال: يا معشر اليهود احذروا من الله مثلما نزل بقريش يوم بدر، واسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، وقد عرفتم أنّي نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم، فقالت اليهود: يا محمد لا يغرّنك أنّك لقيت قوماً اغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، إنّا والله لو قاتلناك لعرفت إنّا نحن الناس فأنزل الله هذه

__________________

(١) مناهل العرفان: ج ٢ ص ٢٧٦.

٣٨٢

الآية(١) ، ولقد صدق الخبر، الخبر، فغلب النبي على من في الجزيرة من اليهود فضلاً عن خصوص القانطين منهم في المدينة.

ثمّ إنّ في القرآن تنبّؤات بالمستقبل المظلم الأسود الذي لم يزل يواكب بعضها اليهود طيلة أربعة عشر قرناً من نزول القرآن إلى يومنا هذا، لم ينخرم أي واحد منها أبداً، وذلك قوله سبحانه:( لَن يَضُرُّوكُمْ إلّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ *ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ) ( آل عمران: ١١١ ـ ١١٢ ).

وفي هاتين الآيتين تنبّؤات :

١. إنّ هذا الشعب الماكر اللئيم، لا يمكنه القيام بحرب مواجهة ومقابلة الند للند، وإنّما يقع ضررهم على المسلمين عن طريق الغدر والمكر.

٢. ولو قاتلوا المسلمين لولّوهم الأدبار.

٣. ضرب عليهم الذل كضرب السكة على الدينار والخيمة على الانسان، نعم كتب عليهم الذل والهوان إلّا إذا تمسّكوا بحبل من الله ودخلوا في عهد منه أو عهد من الناس يستعينون بهم ويستظلّون بظلالهم.

٤. ضربت عليهم المسكنة وهي زي الفقر والخوف منه، وفيهم من يملك آلاف الآلاف وليس فيه غنى النفس، فهم أشد الشعوب خوفاً من الفقر، وأشدها طمعاً وشرها في جمع الدنيا، لا يعرفون القناعة وإن غرقوا في المال، ولا يتورّعون عن الجري وراء الدنايا، بأحط الوسائل.

٥. حلول غضب الله عليهم كما يعطيه قوله:( وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ ) .

والمراد من الضمير المتصل من قوله:( لَن يَضُرُّوكُمْ ) وإن كان هو أهل الكتاب ،

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٤١٣.

٣٨٣

الوارد في الآية المتقدمة، غير أنّ المقصود منه هم اليهود بلا كلام لما في ذيل الآية التالية من تعليل ضرب الذل والمسكنة عليهم بقتلهم الأنبياء وهو من فعل اليهود.

ويؤيده قوله سبحانه، في شأن اليهود:( اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ) ( البقرة ـ ٦١ ) وبذلك يظهر أنّ ما يقال من عمومية الآية، لمطلق أهل الكتاب، أخذاً بمفاد الضمير المتصل، الراجع إلى أهل الكتاب، المذكور في الآية السابقة، ليس بسديد.

وقد تنبأ سبحانه بقوله:( لَن يَضُرُّوكُمْ إلّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ) بما جرى بين المسلمين وطوائف من اليهود من « بني النضير وقريضة وقينقاع » فحاربوا المسلمين ولم يثبتوا بل استسلموا، وهو تنبّؤ صادق شهد به التاريخ الصحيح، بل يمكن أن يكون تنبّأ بعامة ما جرى بينه وبين اليهود أيام حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله فهو قد طهّر الجزيرة العربية من هذه العناصر الماكرة، أعداء الله وأعداء الانسانية في مدة قليلة ولم ينصروا بعد قط.

والمراد من الاستثناء في قوله سبحانه:( لَن يَضُرُّوكُمْ إلّا أَذًى ) هو الضرر اليسير الذي ليس فيه كبير تأثير من سب باللسان وخوض في النبي، وقد تحقق المخبر به كما أخبر في تطهير أرض المدينة وما حولها من الطوائف الثلاث الذي اسميناهم، فلم ينالوا من المسلمين إلّا سبّاً باللسان أو ضرراً قليلاً كما هو الحال في غزوة خيبر على ما هو مسطور في السير والتاريخ، ومفاد الآية راجع إلى عصر الرسالة فقط كما أوضحنا، ويفيده التدبر في الآية وفي الضمائر الواردة فيها من قوله:( لَن يَضُرُّوكُمْ ) (١) .

وأما الآية الثانية المتضمّنة لضرب الذلة والمسكنة عليهم فربّما يحتمل اختصاص مفادها بعصر الرسالة غير أنّه محجوج بأمرين :

__________________

(١) قال الطبرسي ففي هذه الآية دلالة على صحة نبوّة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله لوقوع مخبره على وفق خبره لأنّ يهود المدينة من بني قريضة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر الذين حاربوا النبي والمسلمين لم يثبتوا لهم قط وانهزموا ( مجمع البيان: ج ١ ص ٤٨٨ ).

٣٨٤

الأوّل: إنّ المتبادر من قوله سبحانه:( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ) في كلتا الآيتين هو العموم والشمول وكأنّه يريد أن يقول: عجنت طينتهم بالذل والهوان والمسكنة ولا تنفك عن تلكم الطائفة في أي جيل وزمان.

الثاني: انّه سبحانه علّل ضرب الهوان والذل والمسكنة عليهم بأمرين: أحدهما: الكفر بآيات الله وهو مشترك بين الجميع. وثانيهما: وهو يرجع إلى أسلافهم وأجدادهم، من قتل الأنبياء ولكن اليهود المعاصرين لعصر الرسالة لما رضوا بفعالهم وعملهم الشنيع، صاروا مثلهم « فإنّ من رضي بفعل قوم فهو منهم » فأسند سبحانه الفعل إليهم أيضاً، فضرب الذلة على جميعهم من أوّلهم إلى آخرهم. ولو كان هذا هو الملاك لضرب الذل على يهود عهد الرسالة فهو بعينه موجود في الباقين بعده إلى زماننا هذا، ولا وجه لاختصاص الذل والمسكنة ببعضهم دون بعض، إذ ليس الهوان أو المسكنة، إلّا جزاءً ونكالاً من الله سبحانه بالنسبة إلى هذه الطائفة، فهم بين مقترف لأشد المعاصي وأهولها، وبين راض بما ارتكبه قومه من الجنايات الموبقة، فكل من الطائفتين يعاقب ويؤخذ بجزاء عمله كما قال سبحانه:( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ *ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) ( آل عمران: ١٨١ ـ ١٨٢ ).

وقد أثبتت القرون والأجيال صدق ما تنبّأ به القرآن من لدن نزوله إلى عصرنا، ولكي نتحقق من ذلك لا بد من الرجوع إلى التاريخ: « فها هو « بخت نصر » دخل أورشليم وقاد أكثر أهلها أسرى وكان ذلك عام ٥٨٧ ق.م وفي سنة ٣٠٢ ق.م أثقل ملوك سوريا كواهل اليهود بالضرائب واضطهدوهم.

وأمّا إضطهادهم بعد الإسلام فكثير، فقد أجلى النبي « بني قينقاع » « وبني النضير » وقتل « بني قريظة » لما تآمروا عليه كما هاجمتهم جميع الاُمم المسيحية فلم يجدوا ملجأ إلّا الأندلس حيث أحاطهم اُمراء الإسلام بعطف خاص، لكن عندما احتل النصارى الأندلس أخذوا بتشريد اليهود وطردهم وإجبارهم على مغادرة البلاد الإسبانية، وقد

٣٨٥

وقع كثير منهم في أيدي القراصنة الذي انتشروا حول الشواطئ فجرّدوهم من أموالهم واتخذوهم عبيداً ارقّاء.

هذا ما عدا الذين ماتوا جوعاً أو اُصيبوا بالطاعون فأهلكهم ثم لجأ ثمانون ألفاً إلى البرتغال ارتكاناً إلى وعد ملكها، لكن القساوسة الأسبانيين أثاروا الرأي العام في تلك البلاد ضدهم، وعمدوا إلى اقناع ملك البرتغال بعدم إيوائهم، فأصدر أمراً يقضي بابعاد جميع اليهود البالغين، أمّا الأولاد الذين لا تتجاوز سنهم أربعة عشر عاماً فقد انتزعوا من أحضان اُمّهاتهم لكي يربوا وينشأوا على مبادئ الدين المسيحي.

ولم يقتصر الغربيّون على طرد اليهود من إسبانيا والبرتغال فقط بل طردوا وشردوا من انجلترا، فرنسا، بلجيكا، هولندا، ايطاليا، ألمانيا، روسيا و »(١) .

أي ذل وهوان أوضح من هذا الذي صادفوه طيلة القرون الغابرة إلى يومنا هذا، كل ذلك مضافاً إلى تنفّر الناس عن كل يهودي ماكر، وإسرائيلي لئيم، وابتعادهم عنهم في حلّهم وترحالهم، لما هم عليه من الغدر والمكر والشره والطمع وعدم اندماجهم مع غيرهم وعدم وفائهم للذين استضافوهم وآزروهم، لما يظنون أنّهم شعب يمتاز على الشعوب التي يعيشون بينها، وأنّهم يحق لهم اغتصاب حقوق الغير أخذاً بتعاليم التلمود حيث يعبّر عن املاك غير اليهود ب‍ « أنّه كالمال المتروك الذي يحق لليهودي أن يملكه ».

هذا وذاك أوجب بأن يعلن القرآن منذ أربعة عشر قرناً بأنّه سبحانه يبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة حيث قال سبحانه:( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأعراف ـ ١٦٧ ).

فقضى الله سبحانه أنّه ليسلّطنّ على بني إسرائيل إلى يوم القيامة من يذيقهم أشد العذاب، جزاء لهم على أعمالهم ونكالاً بهم، فكما هو سبحانه سريع الصفح عن ذنب التائب، فهو أيضاً سريع العقاب.

__________________

(١) راجع لمعرفة تفصيل ذلك كتاب « اليهود في القرآن » ٩٤ ـ ٩٦.

٣٨٦

إجابة عن سؤال

إلى هنا يكون قد تبيّن صحة تنبّؤ القرآن حول اليهود، وأنّه ما تخلف طيلة أربعة عشر قرناً، قدر شعرة غير أنّ هنا سؤالاً، يوجهه الشباب حول الآية وهو أنّه كيف وصفهم الله بضرب الذل والهوان عليه مع أنّه استقرّت لهم السيادة في الأراضي المحتلّة فجمعوا من العدة والعدد ما أوجب نجاحهم في هذه المعارك الرهيبة لا سيّما في نكسة الخامس من حزيران، وتمكن الاجابة عن هذا السؤال بوجوه :

الجواب الأوّل :

إنّ مشيئة الله سبحانه في خلقه وعباده تجري على وفق القوانين والسنّن الكونيّة ولا تختلف باختلاف الاُمم، فالعارف بفن السباحة ـ مثلاً ـ يعوم ويصل إلى شاطئ الأمان والجاهل بها يرسب ويكون عرضةً للهلاك، ومن زرع حصد ومن لم يزرع لم يحصد، والإيمان لا ينبت قمحاً والكفر لا ينبت شوكاً في هذه الحياة، وكذلك من أعدّ العدّة لعدوّه واحتاط له، ظفر به وإن كان ملحداً، إذا لم يكن الآخر على حذر واستعداد، ومن تقاعس وأهمل خسر، وإن كان من الأولياء والصدّيقين، قال تعالى مخاطباً أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالآية ٤٦ من الآنفال:( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنّ هؤلاء ـ يشير إلى أصحاب معاوية ـ قد انتصروا باجماعهم على باطلهم وخذلتم ـ الخطاب لأصحابه ـ بتفرّقكم عن حقّكم »، إذن الحق لا ينتصر لمجرد أنّه حق، والباطل لا يخذل لمجرد أنّه باطل، بل هناك سنن في هذه الحياة تسير المجتمع، وتتحكّم به، والله سبحانه لا يسقطها ولا يعطّل سيرها، تماماً كما هو شأنه في سنن الطبيعة، انّ الله سبحانه قد خلق الحياة وجعل لها قوانين تحكمها، وتأبى هذه القوانين أن تمطر السماء نصراً على غير العاملين له.

وعليه فلا عجب أن تغتال الصهيونيّة جزءً من أرضنا بمعونة الإستعمار مادمنا في

٣٨٧

غفلة عنها وعن مقاصد أعوانها منقسمين إلى دويْلات لا جامع بينها إلّا لفظ العرب والعربية(١) .

إنّ للسعادة والشقاء والحضارة والتقدّم والتدهور والانحطاط، قوانين وسنن لا تنفك عنها آثارها ومسبباتها ومن دقَّ باباً ولجَّ ولج، من غير فرق بين اُمّة واُمّة أو طائفة دون اُخرى، إنّ نكسة الخامس من حزيران والاحتلال الصهيوني للأراضي المقدسة الإسلامية، كان نتيجة عمل طويل واعداد متواصل من قبل اليهودية العالمية التي تلاقت أهدافها مع مصالح الاستعمار في الشرق الأوسط من جانب، ومع الفساد السياسي الاجتماعي الشامل الذي كان المسلمون يعيشون فيه من جانب آخر، فالعدوّ تمسّك بأقوى وسائل القهر والغلبة، وأعد نفسه للتقابل مع المسلمين في معارك صعبة قرابة قرن، وتحمّل في طريقه جهوداً وبذل من نفسه وماله الكثير، وأمّا المسلمون ففي القرن الذي كان العدوّ يجمع العدة والعدد، ويتجهّز بالعلم والصنعة وتربية الخبراء ومهرة الفن، كانوا يعيشون في فرقة ونفاق، يضطهد بعضهم بعضاً، مضافاً إلى ما يعانون من ميوعة وخيانة وإنحلال في الأخلاق، والمشي على المخططات التي رسمها لهم الأعداء المصبوغة بطابع الود والاحسان.

وعلى ذلك فلا غرو في أن يحتل العدو الغاشم جزءً كبيراً من أرضنا ويترصد لأخذ جزء آخر، وإذن الظهور والغلبة لهم والنكسة للعرب جاءت على وفق القوانين والسنن التي تحكم على الحياة.

إذا عرفت ما ذكر، فالجواب عن السؤال واضح بعد الإمعان في الآية التالية:( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ) ( آل عمران ـ ١١٢ ).

ترى أنّه سبحانه حكم بضرب الذل والهوان عليهم ثمّ استثنى عنه بقوله:( إلّابِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ) وفي الوقت نفسه حكم بضرب المسكنة عليهم بلا

__________________

(١) من هنا وهناك: ص ٤٢ ـ ٤٣.

٣٨٨

استثناء.

وبعبارة اُخرى: ترى أنّه سبحانه استثنى من احاطة الذل والهوان صورتين: إذا تمسّكوا بحبل من الله، وإذا تمسّكوا بحبل من الناس، وبهذين السببين يمكن أن يدفعوا عن أنفسهم الذل والهوان، والمراد من الحبل هو العهد(١) فلو دخلوا في عهد الله وهو الإسلام ودفعوا الجزية وعملوا بشرائط الذمة وتركوا الغدر والحيلة مع المسلمين فسيعود لهم العز كسائر الذمّيين، ويعاملون بالمساواة، وتصان دماؤهم وأعراضهم وأموالهم، ويذاد عنهم كما يذاد عن غيرهم، ولو تمسّكوا بحبل من الناس واستعانوا باحدى الاُمم ممّن له منعة وقدرة يتيسر لهم بواسطتها أن يطردوا عن أنفسهم الذل والهوان، ويستحصلوا على العزّ والقدرة ما داموا كذلك.

ولا شك أنّ اُمّة اليهود ما احتلت أرضاً، وما كسبت سلطاناً، وما أدركت عزّاً إلّا بحبل من الناس ومساعدة من الاُمم الكبرى ممّن توافقت أهدافهم العالمية مع مصالح العدو الطريد(٢) .

« إنّ إسرائيل ليست سوى قاعدة عسكرية مزودة بكافة الأسلحة الحديثة، أقامتها الولايات المتحدة، لحماية مصالحها في بلاد العرب، وأهمّها شركات البترول التي يحتاج بقاؤها والاحتفاظ بها، إلى نصف مليون جندي امريكي لولا وجود إسرائيل... فليس من المعقول أن تكون للولايات المتحدة شركات احتكارية في بلد من البلدان ولا يكون إلى جانبها قاعدة حربية أو حلف عسكري يحميها من الثورات والحركات الوطنية، وقد وجدت في إسرائيل غنى عن القواعد والأحلاف »(٣) .

أضف إلى ذلك أنّ إسرائيل وإن اُسّست باسم الدين وصبغت بالصبغة الشريعة

__________________

(١) سمّي حبلاً لأنّه يعقد به الأمان كما يعقد الشيء بالحبل.

(٢) قال الطبرسي في تفسير قوله:( إلّابِحَبْلٍ ) أي بعهد من الله وحبل من الناس أي وعهد من الناس على وجه الذمة وغيرها من وجوه الأمان، مجمع البيان: ج ١ ص ٤٨٨.

(٣) من هنا وهناك: ص ٩٩.

٣٨٩

إلاّ أنّ كثيراً منهم لا يمتون إلى الدين بشيء، ولا صلة بينهم وبين دين اليهود، فحكومتهم حكومة ذات نزعة عنصرية طائفية، مدفوعة بكونهم من أولاد إسرائيل واخلافهم سواء أكانوا مؤمنين بدينه أم كافرين به، ملتزمين بأحكام التوراة أم لا، وما تنبّأ به القرآن إنّما هو راجع إلى اليهود الذين آمنوا بشريعة إسرائيل وما بعده إلى موسى والتزموا باُصول دينهم وفروعه، ووقفوا في وجه سائر الشرائع، متنسّكين بشريعة، وليست إسرائيل ومن يعيش في أرضها، يمثلون هؤلاء، فهي دولة مادية صبغة باسم الدين وطابعه كما هو واضح لمن لاحظ كتبهم وجرائدهم ومجلاّتهم، وعلى كل حال فخذلان بني إسرائيل التي يحتّمها القرآن إنّما تكون حتمية فيما لو وقفوا تجاه المسلمين بما هم يدينون بدين اليهود، لا بما أنّهم يتعصّبون إلى يهوديتهم تعصّباً عنصرياً أعمى من غير تدين.

الجواب الثاني :

ربّما يجاب عن الإشكال بوجه آخر وهو أنّ المراد من ضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم، والدليل على ذلك قوله:( أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ) فإنّ ظاهر معناه أينما وجدهم المؤمنون أي تسلطوا عليهم، وهو يناسب الذلة التشريعية التي من آثارها الجزية فيؤول معنى الآية إلى أنّهم أذلاّء، بحسب حكم الشرع الإسلامي إلّا أن يدخلوا تحت الذمّة أو أمان من الناس بنحو من الأنحاء(١) .

غير أنّ هذا الجواب لا يلائم ظهور الآية فإنّ القضاء التشريعي بذلتهم لا يختص بتلكم الطائفة بل يعم أهل الكتاب جميعاً، وقد أوضحنا أنّ الآية مختصة باليهود.

الجواب الثالث :

إنّ القرآن وإن تنبّأ بضرب الذلّة والمسكنة على اليهود، غير أنّه تنبّأ أيضاً بعود القدرة والمنعة إليهم في فترة من الزمن، مرتين فيفسدون في الأرض، إلى أن يقيّض الله

__________________

(١) الميزان: ج ٣ ص ٣٨٤.

٣٩٠

رجالاً اُولي بأس شديد، ينتقم منهم، ودونك الآيات في سورة الإسراء :

( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ) .

( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ) .

( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) .

( إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) .

( عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) ( الإسراء: ٤ ـ ٨ ).

فإنّ الآيات تعرب عن افساد الطائفة المذكورة في الأرض مرتين وانتقام الله سبحانه منها بعد كل فساد تقوم به، ويدل على الفساد الأوّل قوله سبحانه:( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا ) وعلى الفساد الثاني قوله عزّ وجلّ:( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ ) .

أمّا الانتقام الأول فيدل عليه قوله سبحانه:( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ ) .

أمّا الانتقام الثاني فيدل عليه قوله تعالى:( لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) (١) .

ثمّ إنّ المفسّرين مالوا يميناً وشمالاً في تفسير هذه الآيات ولم يأتوا بأمر مقنع تطمئن إليه النفس ودونك بعض ما ذكروه من الوجوه :

١. المراد من الفساد الأوّل قتل يحيى بن زكريا، ومن الانتقام غلبة بخت نصر مع

__________________

(١) الضمائر كلّها ترجع إلى « عباد اُولي بأس شديد » المحاربين لليهود.

٣٩١

النبطيين على بني اسرائيل، والمراد من الفساد الثاني غلبة بني إسرائيل على النبطيين مرة ثانية ولم يذكروا المراد من الانتقام الثاني.

٢. الفساد الأوّل هو قتل زكريا والثاني هو قتل يحيى بن زكريا، والانتقام الأوّل تسلّط « سابور » ذي الاكتاف، والانتقام الثاني هجوم « بخت نصر » على اليهود.

٣. المراد من الفساد الأوّل قتل زكريا وغيره من الأنبياء وبالانتقام الأوّل تسلّط « بخت نصر » على اليهود، والمراد من الفساد الثاني طغيان اليهود بعد اخذ استقلالهم على يد كوروش، ومن الانتقام الثاني ما وقع بيد « انطياخوس » ملك الروم(١) .

وهذه الوجوه وأضرابها مما يحصل من تركيب بعضها مع بعض لا يمكن الركون إليها فإنّها منقولة عن اناس كانوا يأخذون ما يقولونه عن أحبار اليهود وعلمائهم فهي قصص اسرائيلية يجب تنزيه القرآن عنها.

أضف إلى ذلك أنّ لفظي:( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا ) يعرب عن مكانة المنتقمين عند الله وأنّهم مبعوثون من جانبه سبحانه وهم عباد ممدوحون له، وهل يمكن عد نظراء بخت نصر، ذلك الكافر السفّاك الأثيم الذي اقترف من الجرائم ما لا يعد ولا يحصى، أو سابور ذي الاكتاف ذلك الرجل القاسي المجرم الذي فعل مع العرب ما فعل، أو انطياخوس واضرابه، من العباد الممدوحين وأنّهم كانوا مبعوثين من جانبه سبحانه.

ويليه في الضعف ما يقال انّ المراد من الفساد الأوّل قتلهم أشعيا النبي، والانتقام الأوّل تسلط جالوت على بني اسرائيل، ومن الفساد الثاني هو غلبة بني إسرائيل على جالوت.

أو ما يقال من أنّ المراد من أحد الانتقامين ما جرى بيد ادولف هتلر من الاُمور القاسية، كما اختاره سيد قطب في ظلال القرآن.

إذ كيف يمكن أن يقال أنّ جالوت وعملاق ألمانيا أو غيرهم من الجبابرة كانوا

__________________

(١) تفسير الطبري: ج ١٥ ص ٣٨، ومجلة الهادي العدد الثاني.

٣٩٢

مبعوثين من جانبه سبحانه، فقد حارب جالوت داود ومن معه من صالحي بني إسرائيل وكما حارب طالوت الذي بعثه الله ملكاً، وأمّا عملاق ألمانيا فحدّث عن جرائمه ولا حرج.

وما يقال إنّه لما كان تسلّط بخت نصر وقهره لهم جزاء لهم على أعمالهم السيئة فأسنده سبحانه لنفسه وقال: بعثنا عليكم عباداً لنا(١) توجيه لا تركن إليه النفس، ونضيف إلى ما ذكر أنّ كل هذه الوجوه لا تلائم ظاهر الآية لاستلزامها التفكيك بين مراجع الضمائر إذ الظاهر أنّ الضمائر الغائبة في:( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ) وفي:( لِيَسُوءُوا ) و:( لِيَدْخُلُوا ) و:( دَخَلُوا ) و:( لِيُتَبِّرُوا ) يرجع إلى من وصفهم الله بقوله ثم:( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) ولازم ذلك اتحاد الفئة التي تحارب اليهود في المرة الاُولى مع الفئة المتغلبة عليهم في المرة الثانية، وإن هناك حربين تقعان بين اليهود وجماعة خاصة، لا أنّ كل واحد من الحربين تقع مع جماعة غير الجماعة الاُخرى.

وهذا الأمر غير موجود في الوجوه التي ذكروها إذ لم يقع أي إشتباك مجدد بين اليهود وبخت نصر، أو بينهم وبين سابور، ولم تصدر كرّة منهم عليهم مجدداً، أضف إلى ذلك أنّ ظاهر قوله سبحانه وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرة أنّ المحاربين لليهود يدخلون المسجد مرتين ويتسلّطون على المسجد الأقصى كما يستفاد من تعريفه باللام، مرة بعد مرة، مع أنّ بخت نصر وسابور لم يتسلّطا على المسجد أكثر من مرة، وما دخلوه أكثر منها.

وعلى الجملة: إنّ هذه الوجوه لا تلائم ظاهر الآية ويحتمل أن تكون الآيات مشيرة إلى الأحداث الجارية في الأراضي المحتلة، ويعلم الله سبحانه أنّ أي واحد من الوعدين تحقق، وأنّ الوضع الحاضر يمثل أيّاً منهما ولا شك أنّهم مزوّدون بالأموال والبنين مضافاً إلى دعم الدول العالمية الكبرى لهم، وبعد ذلك كلّه فما ذكرناه إنّما هو أحد الآراء

__________________

(١) الميزان: ج ١ ص ٤٠.

٣٩٣

المذكورة حول الآية، ولسنا حاكمين بواحد من هذه الوجوه، والله سبحانه هو العالم.

وعلى أي حال فالتوفيق سهل بين ضرب الذلّة والهوان عليهم، وبين ما ترى فيهم من القوة والمنعة، والأوّل من هذه الوجوه هو الأولى.

ختامه مسك :

فلنختم البحث بتنبّؤات وردت في آية واحدة وهي قوله سبحانه:( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) .

١.( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) .

٢.( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ) .

٣.( وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) ( المائدة ـ ٦٤ ).

ودونك بيانها على وجه الاجمال.

١. الظاهر أنّ الضمير في « بينهم » راجع إلى اليهود المذكورين في صدر الآية وما في المنار(١) من رجوعه إلى اليهود والنصارى المذكور في الآية الحادية والخمسين بعيد جداً بل كان الأولى له عندئذ أن يقول انّه راجع إلى أهل الكتاب الوارد ذكرهم في الآية التاسعة والخمسين، أي قوله:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ ) فالآية حاكية عن تضارب اليهود بعضهم ببعض واختلافهم في المذاهب إلى يوم القيامة، ويفسره قوله سبحانه:( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ *وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إلّا مِن بَعْدِ

__________________

(١) ج ٦ ص ٤٥٧، ولو رجع الضمير إلى الاُمتين فلا مانع أيضاً أن يكون المراد تضارب بعض الفرق من كل اُمة مع الاُخرى كتضارب اليهود بعضهم ببعض وتضارب الفرقة الكاثوليكية مع البروتستانت، أو النسطورية والملكانية واليعقوبية من اُمّة المسيح بعضهم مع بعض.

٣٩٤

مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( الجاثية: ١٦ ـ ١٧ ).

والفرق بين العداوة والبغضاء أنّ الاُولى عبارة عن البغض الذي يظهر أثره في الخارج، وأمّا البغضاء فهو مطلق المنافرة وإن لم يستعقب شيئاً من العمل.

هذا إذا قلنا برجوع الضمير إلى اليهود فقط، وأمّا إذا قلنا بمقالة المنار من رجوعه إلى اليهود والنصارى فالعداوة بينهم غير منقطعة، وأوضحه صاحب المنار بقوله: « العدواة على أشدها في بلاد روسيا على أقلها في انكلترا وفرنسا والمانيا واليهود أغنى أهلها والمديرون لأرحية أعظم الأعمال المالية فيها، وهم على مكانتهم هذه مبغوضون في جماهير النصارى، فكم اُلّفت كتب في فرنسا وغيرها في التحريض عليهم، قال: « قد أخبرني ألماني من المستشرقين أنّهم لا يعدون اليهودي من بلاده منهم بل يقولون هذه يهودي وهذا ألماني »(١) .

نعم تنبّأ القرآن في آية اُخرى باغراء الله سبحانه العداوة والبغضاء بين النصارى إلى يوم القيامة قال سبحانه:( وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( المائدة ـ ١٤ ) والعداوة بين فرق النصارى أشد وأوضح لمن زاولهم وطالع كتبهم.

وفي الوقت نفسه فإنّ الآيتان تنبئان عن بقاء دينهم إلى يوم القيامة وهو تنبّؤ آخر تضمّنته الآيتان، فلاحظ.

٢. قوله سبحانه:( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ ) فالحرب ضد السلم وهو أعم من القتال والقتال يصدق بالاخلال بالأمن والنهب والسلب وتهييج الفتن والاغراء بالقتال، وقد أغرى اليهود المشركين بالنبي والمؤمنين وهم الذين حزّبوا الأحزاب على

__________________

(١) المنار: ج ٦ ص ٤٥٧.

٣٩٥

رسول الله، حتى قدموا على قريش مكة وقالوا: إنّا سنكون معكم عليه، حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنّكم أهل الكتاب الأوّل والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أديننا خير أم دينه ؟قالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه(١) .

بل منهم من سعى لتحريض الروم على غزوهم ومنهم من كان يقطع الطريق على المؤمنين ويأوي أعداءهم ويساعدهم ككعب الأشراف.

ويمكن أن تكون الآية ناظرة إلى الأعمال الإجرامية التي كانوا يرتكبونها قبل الميلاد وبعده ثم ضد المسلمين.

والمراد من الاطفاء خذلانهم في كل ما يكيدون لرسوله وللمؤمنين، امّا بخيبتهم في ما يسعون إليه من الاغراء والتحريض، وامّا بنصر الله رسوله والمؤمنين وعلى أي تقدير، المراد خيبة مساعيهم في الحروب التي يوجهونها على دين الله ورسوله والمؤمنين، بما هم متدينون ومؤمنون بالله وآياته، وأمّا الحروب والنيران التي يوقدونها لا لمحق الدين بل لأغراض سياسية، أو تغلب جنسي، فهي خارجة عن مساق الآية.

قال الطبرسي: وفي هذا دلالة ومعجزة لأنّ الله أخبر فوافق خبره المخبر عنه، فقد كانت اليهود أشد أهل الحجاز بأساً وأمنعهم داراً حتى أنّ قريشاً كانت تعتضد بهم والأوس والخزرج تستبق إلى محالفتهم وتتكثر بنصرتهم، فأباد الله خضراءهم واستأصل شأفتهم واجتث أصلهم، فأجلى النبي بني النضير وبني قينقاع وقتل بني قريظة وشرّد أهل خيبر وغلب على فدك، ودان له أهل وادي القرى فمحى الله آثارهم صاغرين(٢) .

٣. قوله سبحانه:( وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا ) فليس الهدف من تقلبهم في البلاد، السعي وراء صالح الأعمال والأخلاق، أو اصلاح شؤون الاجتماع، بل لا

__________________

(١) سيرة ابن هشام: ج ١، ص ٥٤ و ٥٥ و ٢١٤.

(٢) مجمع البيان: ج ٢ ص ٢٢١.

٣٩٦

يستهدفون إلّا منع خروج المسلمين من الاُمية إلى العلم، ومن الوثنية إلى التوحيد، وهم يحسدونهم في ذلك حباً في دوام امتيازهم عليهم.

وقد قرر القرآن هذه الحقيقة منذ أربعة عشر قرناً غير أنّا نحسها في يومنا هذا بوضوح، فإنّ من مخططاتهم تقويض الأخلاق عند الغير، لأضعافه والسيطرة عليه، وهل الإباحية والخلاعة إلّا أحد مخططاتهم التي تتجلى في الأفلام السينمائية والمرابع والحانات وحتى في الساحات العامة.

وفسره سبحانه في آية اُخرى وقال:( وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( المائدة ـ ٦٢ ).

ملاحظة :

هذه هي الأخبار الغيبية الواردة في القرآن ولم نعرضها على وجه التفصيل والاستقصاء، وإنّما جئنا بها على وجه الاجمال وفي ما ذكرناه غنى وكفاية.

قل لي بربّك هل انخرم واحد من تلكم الأخبار أو تخلّف، أو كلّها غيب تحققت في المستقبل، كما أنّ ما سألوا عنه حول أصحاب الكهف وذي القرنين والروح غيب أما تحقق في الماضي أو جار فيه، وفي الحال كما في السؤال عن الروح وقد أجابهم عن ما سألوه ولم يكن عنده شيء يستند إليه سوى الوحي، ولم يكذّبوه فيما حدثهم.

وكل واحد من هذه الانباء معجزة كبرى ولو عددت كل ما ورد في الكتاب من الانباء الغيبية على أقسامها، تبين لك عدد تلكم المعجزات، ويزيدك اعجاباً بها إذا وقفت على أنّ المتحدث بها اُمّي ربيب البادية لم يحضر على أحد في شيء من تلكم الأخبار والمغيبات.

ويزيدك اعجاباً أكثر أنّ انجيل « متى » تنبّأ بأمر واحد حول المسيح وهو أنّه يبقى مدفوناً في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال، ولكن ما برح انجيل « متى » أن كذّب في

٣٩٧

أواخره هذا الإخبار فوافق الأناجيل الثلاثة الاُخر على أنّ المسيح في مساء ليلة السبت طلب بعض الناس جثته من بيلاطس فأنزلها عن الصليب وكفّنها ودفنها، وقبل الفجر من يوم الأحد قام المسيح من الموت، وخرج من قبره، وعلى ذلك لا يكون المسيح بقي في القبر إلّا ليلة السبت ونهاره وليلة الأحد، وذلك نهار وليلتان(١) .

( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَىٰ ) .

__________________

(١) مقدمة آلاء الرحمن للعلّامة البلاغي.

٣٩٨

الفصل السابع

اختصاص العلم بالغيب

بالله سبحانه

لقد ورد لفظ الغيب في الذكر الحكيم، مع بعض مشتقاته أربعاً وخمسين مرة، وقد عرفت بما أسلفناه ما هو المراد من الغيب، غير أنّا نريد في المقام أن نتحدث عن ناحية اُخرى لها تعلّق به، وهي أنّه هل الغيب مختص بالله سبحانه لا يعدو غيره أو غير مختص به ويتصف به سواه ؟!

والقول الفصل في المقام هو أنّ العلم بالغيب على ضربين :

أحدهما: ما هو مختص بالله سبحانه لا يشاركه فيه غيره، ولا يتجاوز إلى سواه، وأنّ ما جاء في الذكر الحكيم من الاشارة إلى علم الغيب، لا يراد منه إلّا هذا، فقوله سبحانه:( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إلّا اللهُ ) ( النمل ـ ٦٥ ) لا يراد منه إلّا هذا المعنى المختص به تعالى كسائر أوصافه ونعوته.

ثانيهما: ما يتصف به غيره سبحانه من ملائكته ورسله ومن يظهره على غيبه، وهذا لا يصح اطلاقه على الله سبحانه، وهذا الانقسام كما يجري في علم الغيب كذلك

٣٩٩

يجري في سائر نعوته وصفاته من قدرته وحياته و فما يجري منها على الواجب سبحانه لا يمكن تشريك الغير فيه، ولا يصح اطلاقه عليه، وما يجري على من سواه لا يصح اطلاقه عليه سبحانه، ولا يطلق إلّا على غيره من المخلوقين، فلنذكر ما يدل على اختصاص العلم بالغيب بالمعنى الأول والذي يمكننا استفادته منه وجوه :

١. قصره على الله سبحانه في بعض الآيات :

فمن الآيات الدالّة على الحصر به قوله سبحانه:( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلّا هُوَ ) ( الانعام ـ ٥٩ ) وقوله تعالى:( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إلّا اللهُ ) ( النمل ـ ٦٥ ).

وأمّا قوله سبحانه:( فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ ) ( يونس ـ ٢٠ ).

وقوله تعالى:( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) ( النحل ـ ٧٧ ) وقوله سبحانه:( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ) ( هود ـ ١٢٣ )، فلا يدل على مانحن بصدده.

إذ المقصود من قوله:( إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ ) هي الآيات الباهرات والمعجزات التي يستدل بها على نبوّة المدعي وصلته به سبحانه، وذلك ظاهر لمن أمعن النظر في سياق الآيات. وأمّا قوله سبحانه:( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) فالمراد منه: أنّ الحكومة المطلقة في السماوات والأرض غيبهما وشهادتهما، باطنهما وظاهرهما، لله سبحانه، وأنّه تعالى يملك غيب السماوات والأرض ملكاً لا حدود له، وله أن يتصرّف فيه كيف يشاء كما يملك شهادتهما، وكيف لا وغيب الشيء لا يفارق شهادته وهو موجود ثابت معه، وله الخلق والأمر ؟!

ويؤيده ذيل الآية، وهو قوله:( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) والمعنى أنّ الساعة الموجودة، ليست بأمر محال حتى لا تتعلّق بها قدرة، بل هي من غيب

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543