مفاهيم القرآن الجزء ٣

مفاهيم القرآن7%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 543

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 543 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196615 / تحميل: 5849
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

بينما يخص الانذار بالمخاطبين في هذه الآية يعمّم الانذار لكلّ الناس في آية اُخرى ويقول:( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ) ( يونس ـ ٢ ).

٢. عد بعض أهل الكتاب من الصالحين :

انّ القرآن الكريم يعد بعض أهل الكتاب من الصالحين حيث يقول :

( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ *يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ) ( آل عمران: ١١٣ ـ ١١٤ ).

فلو كانت رسالة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عالمية يجب أن يرجع إلى شريعتها كلّ من يعيش تحت السماء من أصحاب الشرائع السماوية فعندئذ كيف يعد بعض من لم يرجع إليها من الصالحين ويصفهم بالأوصاف المذكورة في هاتين الآيتين ؟

الجواب :

انّ الإجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الرجوع إلى سياق الآيات فانّه سبحانه لـمّا وصف أهل الكتاب بأنّ أكثرهم الفاسقون وقال :

( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) .

وقال:( لَن يَضُرُّوكُمْ إلّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) .

وقال في حق اليهود :

( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ) ( آل عمران: الآيات١١٠، ١١١، ١١٢ ).

أراد سبحانه أن لا يبخس حق الأقلّية الصالحة منهم، تمشّياً مع الحقيقة، ووفاء للحق. وقال :

( لَيْسُوا سَوَاءً ) .

٦١

أي ليس الجميع ـ من أهل الكتاب ـ على وتيرة واحدة، وأنّه يوجد بينهم من يستقيم على دينه، ويثبت على أمر الله، ويتلوا آيات الله فهم الذين يعدّون من الصالحين أي الذين صلحت نفوسهم فاستقامت أحوالهم وحسنت أعمالهم.

ومن المعلوم أنّ توصيف ثلة قليلة بالصلاح إنّما هو في مقابل الأكثرية الموصوفة بالفسق والطغيان وقتل الأنبياء والاعتداء.

وهذا التحسين النسبي لا يدل على إقرار شريعتهم وعدم نسخه بالإسلام وأنّهم لو عملوا بشريعتهم لكانوا من الناجحين.

ويدل على ذلك أنّه سبحانه يصرّح في الآية ١١٠ بلزوم إيمان أهل الكتاب بما آمن به المسلمون ويقول :

( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ) .

وعلى ذلك يتّضح مساق الآية وهدفها.

إجابة اُخرى :

غير أنّ المفسرين فسّروا الآية على وجه آخر وقالوا: لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة قالت أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلّا شرارنا فأنزل الله:( لَيْسُوا سَوَاءً ـ إلى قوله ـمِنَ الصَّالِحِينَ ) .

روي ذلك عن ابن عباس وقتادة وابن جريح.

وقيل انّها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم(١) .

غير أنّ هذا التفسير لا يلائم ظاهر الآية فالظاهر أنّ الموصوفين بالصلاح من أهل الكتاب حين نزول الآية كما هو ظاهر قوله:( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) ولو كان المراد هو المؤمنون المسلمون لما عبّر عنهم بهذا العنوان ولا ينافي ما ذكرنا توصيفهم

__________________

(١) مجمع البيان ج ٤ ص ٤٨٨، راجع الدر المنثور ج ٢ ص ٦٤ و ٦٥.

٦٢

بأنّهم يتلون آيات الله آناء الليل إذ عندهم من المناجات والأدعية له الشيء الكثير لا سيّما في زبور داود.

٣. تخصيص الانذار باُمّ القرى ومن حولها :

وهناك بعض الآيات تخص الانذار باُمّ القرى ومن حولها حيث يقول :

( وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) ( الأنعام ـ ٩٢ ).

وقال سبحانه :

( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) ( الشورى ـ ٧ ).

فهاتان الآيتان يستظهر منهما اختصاص نطاق رسالته في إطار أُمّ القرى ومن حولها.

وأُمّ القرى أمّا علم من اعلام مكّة أو كلّي اطلق عليها في هذه الآية.

وعلى أي تقدير فتشعر باختصاص الرسالة بما ذكر فيها.

الجواب :

غير خفي على القارئ النابه أنّ ما ادّعاه من الظهور ضعيف جداً، ولو سلم فلا يتجاوز حد الاشعار الابتدائي(١) ولا يعتنى به اتّجاه الحجّج الدامغة الدالّة على سعة نطاق رسالته وعدم محدوديتها بشيء من الحدود والقيود، كما وافاك بيانها.

__________________

(١) بل ذيل نفس الآية دليل على عموم رسالته، حيث أنّه سبحانه قال:( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) وظاهره أنّ كل من يؤمن بالآخرة من العرب والعجم يؤمن بهذا الكتاب، وإنّه منزّل من ربّهم: مصدّق لما تقدمه من الكتب، فلو كانت دعوته اقليمية أو طائفية لما كان لإيمان من ليس من تلك الطائفة أو لا يعيش في الجزيرة العربية معنى صحيح.

٦٣

نحن نسأله لماذا نسي أو تناسى قوله سبحانه في نفس هذه السورة ( الأنعام ) الدالّ على عمومية رسالته، وأن ّ الله سبحانه أمره أن ينذر بكتابه كلّ من بلغه هتافه في أقطار الأرض وأرجاء العالم. وقال سبحانه:( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام ـ ١٩ ).

وصريح هذه الآية أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرلينذر بقرآنه كلّ من بلغه ووصل إليه هتافه، عربياً كان أو أعجمياً، شرقياً كان أم غربياً، فلماذا أخذ الكاتب بالإشعار الضعيف وترك التصريح على خلافه مع كونهما في سورة واحدة ؟!

فلو أنّه كتب ما كتب بدافع التحقيق والبخوع للحقائق، فلماذا فتح بصره وألقى أسدالاً على بصيرته فاعتمد على الاشعار ورفض التصريح.

ومن المتحتمل أنّه رأى الآيتين، لكنّه حسب أنّ الله تعالى نقض كلامه الوارد في ابتداء السورة بختامها وهو سبحانه يقول:( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ( النساء ـ ٨٢ ).

نحن لا نميط الستر عن نواياه وضمائره وهو قد وقف على هذه الآية وغيرها مما سردناه من الآيات الدالّة على عالمية رسالته، لكن الظاهر أنّه لا يستهدف بذلك إلّا تعكير الصفو وبث بذور الشك في قلوب السذّج والبسطاء من الاُمّة الإسلامية لغاية هو أعرف بها وإن كان لا يفوتنا عرفانها.

والحق أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن في دعوته وانذاره بدعاً من الرسل، فقد مشى في ابلاغه على سنن من قبله من المرسلين، فالمسيح كان رسول الله، إلى اُمّة كبيرة أوسع من بني إسرائيل(١) ، ومع ذلك كلّه فقد بدأ هتافه بكونه رسولاً إلى بني إسرائيل مع أنّه رسول

__________________

(١) نعم لم يثبت كون المسيح مبعوثاً إلى الناس أجمع، كما سيوافيك بيانه في هذا البحث بل كان مبعوثاً إلى اُمّة كبيرة أوسع من بني اسرائيل، لما ثبت من بعثهعليه‌السلام رسلاً من حوارييه وتلاميذه إلى الاُمم التي لا تمت إلى بني إسرائيل بصلة، وهو دليل على أوسعية نطاق رسالته من بني اسرائيل.

٦٤

إليهم وإلى غيرهم وقال:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) ( الصف ـ ٦ ).

فخصّ خطابه ورسالته ببني إسرائيل مع كونه رسول الله إلى غيرهم أيضاً ولا ضير في ذلك لأنّ كونه رسولاً إليهم لا ينافي كونه رسولاً إلى غيرهم فإنّ اثبات الحكم لموضوع لا يلازم نفيه عن غيره.

وقد ضارعه نبي الإسلام، فهو مع كونه رسول الله إلى الناس جميعاً، ومع أنّه أمره الله أن ينذر بقرآنه قومه وكلّ من بلغه كتابه في مشارق الأرض ومغاربها(١) أمره الله سبحانه أن يقول:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الأنعام ـ ٩٢، الشورى ـ ٧ ) فإنّ كونه مبعوثاً لانذار الاُمّة العربية القاطنة في عاصمتها مكة ومناطقها التابعة لها، لا ينافي كونه مبعوثاً إلى غيرها أيضاً ومنذراً بكتابه سواها.

وقد حذى الرسول حذو القرآن في خطاباته الشخصية في اندية الانذار والابلاغ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما وفدت إلى داره عشيرته وأقربوه: « انّي رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامّة » وهو في الوقت نفسه حينما صعد على الصفا خص قريشاً بالخطاب وقال: « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار ».

وقد وافيناكم بتلك الدرية في صدر البحث(٢) .

هذه سيرة الرسول وسيرة من قبله، من اُولي العزم من الرسل، فهم يقتفون في توجيهاتهم ودعواتهم مقتضى الحال، مراعين في ذلك شرائط البلاغة، وإلقاء الكلام على وفق الحكمة، فربّما دعت المصلحة إلى توجيه الكلام إلى مجتمع خاص، كما أنّه ربّما اقتضت توجيهه إلى الناس عامة من دون أي تنافر وتناكر في التوجيهين.

وإن شئت قلت: انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بُعث إلى عشيرته والعرب والناس جميعاً على سبيل « تعدد المطلوب » كما قال: « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار » وقال: « انّي رسول

__________________

(١) الأنعام ـ ١١٩.

(٢) أنظر ص ١٣٥ من كتابنا هذا.

٦٥

الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة » وكانت كلّ واحدة من هذه الطوائف الثلاثة صالحة لأن يبعث إليهم رسول خاص. وعلى ذلك فله أن يصرّح حسب مقتضيات المقام بأحد الأغراض التي اُرسل لأجلها ويسكت عن الآخرين بلا استنكار.

ويشير إلى ذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « بعثت إلى الناس كافة، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب، فإن لم يستجيبوا لي، فإلى قريش، فإن لم يستجيبوا لي، فإلى بني هاشم، فإن لم يستجيبوا لي، فإلي وحدي »(١) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام :

« إنّ الله تبارك وتعالى أعطى محمداً شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى:: التوحيد والاخلاص وخلع الانداد والفطرة الحنيفية السمحة ولا رهبانية ولا سياحة إلى أن قال: ونصره بالرعب وجعل له الأرض مسجداً وطهوراً وأرسله كافة إلى الأبيض والأسود والجن والانس »(٢) .

ونظير ذلك لو بعثت انساناً لينجز لك اُموراً مختلفة، وكان كلّ واحد منها صالحاً لأن يبعث لانجازه شخص خاص، فعند ذلك يصح لك أن تقول: بعثته ليعمل كذا وتذكر أحد الاُمور التي بعث لأجلها وتسكت عن ذكر الباقي كما يصح للمبعوث أن يقول: بعثت لأفعل كذا ويذكر أحد الأهداف التي بعث لتحقيقها من دون أن يذكر الأمرين الآخرين وهكذا

على أنّ الآية التي استدل بها القائل على ضيق نطاق رسالته، مكية، وردت في سورتي الأنعام والشورى المكيتين، ولم تكن الظروف في مكة تبيح له الاجهار غالباً بنفس رسالته، فضلاً عن الاجهار بعالميتها، فلا عتب عليه لو خص خطابه بجمع دون جمع. مع سعة نطاقها في نفس الأمر، إذا اقتضت المصلحة ذلك لأنّ المرمى الأهم في هذه البيئة، الاجهار بنفس الرسالة لا كمّها ولا كيفها وإن كان يصلح أن يصرّح في بعض

__________________

(١) الطبقات الكبرى ج ١ ص ١٩٢.

(٢) الكافي ج ٢ ص ١٧ وسيوافيك بعض الروايات عند البحث عن « الخاتمية في الأحاديث ».

٦٦

الأوقات بعالمية رسالته إذا كان الظرف في مكّة صالحاً. كما في قوله سبحانه:( وَمَا هُوَ إلّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) ( القلم ـ ٥٢ ) والآية مكية بلا كلام. وكما في قوله:( لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام ـ ١٩ ) والسورة مكية، وإن شئت قلت: انّ الظروف في مكّة كانت مختلفة متلوّنة، ولم تكن حياة الرسول رخاءاً وشدة على نسق واحد، فتارة كانت بيئة مكة قاسية عنيفة لا تسمح بالجهر بنفس رسالته، فضلاً عن المصارحة بكيفها وكمّها، والمسلمون من جانب ـ اضطهاد قريش لهم ـ كانوا يعيشون في حالة عصيبة واُخرى كانت الأزمة قليلة مخففة بحلول أشهر الحج أو طروء حوادث تمنع العصابة المشركة المجرمة وتكفّهم عن إيذاء المسلمين.

وعند ذاك كان يفسح المجال أمام النبي وأصحابه بأن يبلغوا الدعوة وفق الظروف وحسب المقتضيات شدة وضعفاً، فنراه في مواقفه بمكة يصرّح بجانب من جوانب الدعوة على صعيد خاص كقوله: يا معشر قريش انقذوا أنفسكم واُخرى ينادي بعموم دعوته مما يستفاد من أنّه بعث إلى الناس كافة ولأجل ذلك نواجه في سورة واحدة لونين من طريقة الدعوة، فنرى أنّها في صدرها تأخذ بجميع جوانب دعوته وتصرّح بعموم دعوته وعالمية رسالته، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمر من جانبه سبحانه أن ينذر بقرآنه قريشاً وكلّ من بلغه كتابه وانذاره حيث قال:( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) وفي الوقت نفسه نرى في خلال السورة، لوناً خاصاً من الدعوة حيث تخصّها بمن في اُمّ القرى ومن حولها ويقول:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) فيعلم من ذلك أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يوجّه دعوته حسب ما تقتضيه المصلحة تبعاً للأحوال المختلفة وتبدل الظروف الزمانية والمكانية من دون توهّم تناقض في طريق الدعوة ولونها.

جواب آخر عن الشبهة :

جاء بعض المعاصرين من الأجلاّء، في تعاليقه القيّمة على كتاب « الابطال » بجواب آخر(١) مبني على أمرين :

__________________

(١) ترى اجمال هذا الجواب في مجمع البيان ج ٣، ص ٣٣٤، و ج ٥، ص ٢٢ والمفردات للراغب مادة « اُم ».

٦٧

الأوّل: انّ المراد من « القرى » في قوله تعالى:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ما يعم المدن الواسعة، وقد أطلق لفظ القرية في القرآن على المدينة أيضاً كقوله تعالى:( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) ( يوسف ـ ٨٢ ) والقرية التي اقترح أبناء يعقوب على أبيهم أن يسألها، هي مدينة « مصر » وقد كانت يوم ذاك مدينة كبيرة، ذات أبواب متفرّقة، لقوله سبحانه:( يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ) ( يوسف ـ ٦٧ ).

الثاني: قد استفاضت الروايات من مهبط الوحي والتنزيل على أنّ الله سبحانه دحى الأرض يوم دحاها، من تحت مكة، والمراد من الدحو من تحتها أنّ أرض مكة هي أوّل قطعة من الأرض اخرجت من الماء، بعد ما كانت الأرض بعامة أجزائها مغمورة بالماء، ثمّ برز سائر اجزائها، عن تحت الماء تدريجاً، وبذلك صارت مكة اُمّاً لسائر البلاد، وأصلاً لسائر القرى ومركزاً تكوينياً للأرض.

قال: إذا كان إطلاق اُمّ القرى على مكة بهذه المناسبة، فيصير المراد من « أُمّ القرى »، أي أُمّ البلاد الموجودة في العالم ومركزها التكويني كما يصير المراد من( وَمَنْ حَوْلَهَا ) عامة من يعيش في نواحي الأرض وسائر أقطارها كلّها وإليه ذهب حبر الاُمّة عبد الله بن عباس، وفسّره الإمام الطبرسي بقوله: « من سائر الناس وقرى الأرض كلّها »(١) فتصير الآية من الأدلّة الدالّة على عالمية رسالته.

وفي هذا الجواب مجال للنظر والبحث :

أمّا أوّلاً: فلأنّ أُمّ القرى ليست علماً لمكّة، بل كلّياً اُطلق عليها في هذه الآية بما أنّها إحدى مصاديقه، كيف وقد قال سبحانه مبيّناً لسنّته في الاُمم الماضية جميعاً:( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص ـ ٥٩ ) أي حتى يبعث في أُمّ تلك القرى رسولاً يبلّغ رسالات الله عليهم. وهذه سنّة الله تعالى في ابادة الاُمم الطاغية مطلقاً، غير مختصة بالاُمّة العائشة بمكّة ومن حولها.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ ص ٢٢.

٦٨

وهذا إمام اللغة ابن فارس، يقول في مقاييسه: « أُمّ القرى، مكّة، وكلّ مدينة هي أُمّ ما حولها من القرى ».

قال ابن فندق في تاريخه: إذا تركّزت اُمور منطقة خاصة في محل، يقال له باعتبار القرى والقصبات التابعة له، أُمّ القرى، ثم أتى بأمثلة وقال: فصنعاء أُمّ القرى في اليمن، « وبغداد » أُمّ القرى في العراق، بعد ما كانت « البصرة » يوماً أُمّ القرى ومرو أُمّ القرى في خراسان وهكذا(١) .

فهذا التركيب ( أُمّ القُرى ومن حولها ) ليس من مصطلحات القرآن واختصاصاته بل كان دارجاً في عصر الرسالة وقبله وبعده، وقد نزل القرآن بلسان النبي الذي هو لسان قومه وليس له في هذا التركيب اصطلاح خاص، بل هو والعرف في ذلك سواسية، فلا يصلح أن يحمل على غير ما هو المتفاهم عندهم. فإذا قيل:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) وقامت القرينة على أنّ المراد من أُمّ القرى مكة، فلا يراد منه وممّا عطف عليه إلّا ما يراد في نظائرها، فإذا قيل: هذا إمام البصرة أو سائسها ومن حولها، فلا يراد إلّا نفوذ حكمه في نفس البصرة والمناطق التابعة لها، حكماً وسياسة واقتصاداً، أو غيرها من وشائج الارتباط ودوافع التبعية، لا أنّه إمام الأرض شرقاً وغرباً، وهكذا إذا قيل: بعث نبي الإسلام لينذر مكّة ومن حولها، لا يراد منه إلّا أنّه بعث لينذر من يعيش في مكة والمناطق التابعة لها عرفاً، سياسة وحكماً أو اقتصاداً وتجارة، أو غيرها من القرى القريبة المتاخمة لها، القائمة عند حدودها والمناطق التابعة لها في العلاقات الاجتماعية لا أنّه بعث لينذر أهل العالم كلّه، فإنّ إرادة هذا المعنى من هذا التركيب غير معهود، لو لم يكن مستهجناً.

وأمّا ثانياً: فلأنّ ما ذكره من حديث دحو الأرض إلى آخره، صحيح، غير أنّ إطلاق أُمّ القرى على مكة بهذه المناسبة التكوينية يحتاج إلى دليل، ودون اثباته خرط القتاد، والعرب الجاهليون كانوا يطلقون أُمّ القرى، على مكّة، من غير أن يكون لهم علم

__________________

(١) تاريخ بيهق ج ص ٢٢ بتعريب منّا.

٦٩

ولا عهد بهذه المعارف، وليس إطلاقها عليها من خصائص القرآن، بل هو يتبع في ذلك لما هو الدارج، والحق في الجواب ما أوضحناه.

٤. كلّ نبي مبعوث بلسان قومه

جرت سنّة الله على بعث رسله بلسان قومهم، وهذا هو الأصل لو كان الرسول مبعوثاً إلى خصوص إنقاذ قومه.

أمّا إذا كان مبعوثاً إلى اُمّة أوسع من قومه، وكان كلّ قوم يتكلّمون بلسانهم الخاص فعند ذلك لا حاجة إلى نزول كتابه بجميع الألسنة، لأنّ الترجمة تنوب عن ذلك مع ما في نزوله بلسانين أو أزيد من التطويل، وامكان تطرّق التحريف والتبديل والتنازع والاختلاف. فبقي أن ينزل بلسان واحد. وأولى الألسنة لسان قوم النبي ولغتهم لأنّهم أقرب إليه، ولا معنى لرفض هدايتهم والتوجّه إلى غيرهم.

على أنّ إيمان قومه به، وخضوعهم له، ربّما يثير رغبة الآخرين بالإيمان به كما أنّ إعراض قومه جيمعاً عن دعوته ورغبتهم عنه، تثير روح الشك والترديد في قلوب البعداء عنه، قائلين بأنّه لو كان في دعوته خير لما أعرض عنه قومه.

على أنّ في إرسال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بلسان قومه نكتة اُخرى وهو أنّ قومهصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يملكون نفسيّة خاصة وهو عدم رضوخهم واستجابتهم بسهولة لعادات غيرهم وألسنتهم.

فلو أنزل الله سبحانه كتابه إليهم بغير لسانهم لما آمنوا به كما قال سبحانه:( وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ الأَعْجَمِينَ *فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) ( الشعراء: ١٩٨ ـ ١٩٩ ) فلأجل ذلك بعثه الله سبحانه بلسان قومه حتى يسد باب العذيرة عليهم.

ولأجل هذه المهمة الاجتماعية يجب على الرسول صرف همّته أوّلاً في هداية قومه وانقاذهم حتى يتسنّى له هداية الآخرين، وهذه سنّة متبعة في الاُمور العادية، فضلاً عن المبادئ العامّة.

٧٠

وإلى ذلك تهدف الآية التالية:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( إبراهيم ـ ٤ ) ومفاد الآية أنّه سبحانه لم يجر في بعث رسله مجرى الاعجاز وخرق العادة، ولا فوّض إلى رسله من الهداية والضلال شيئاً، بل أرسلهم بلسانهم العادي الذي يتحاورون به كل يوم مع أقوامهم ليبيّنوا لهم مقاصد الوحي فليس لهم إلّا بيان ما اُمروا به وأمّا الغاية من بعثهم، أعني الاهتداء فهو بيد الله سبحانه، لا يشاركه في ذلك رسول ولا غيره.

وعلى ذلك فليست في الآية دلالة ولا إشعار بلزوم اتحاد لغة الرسول مع لغة من اُرسل إليهم، حتى يلزم منهم اختصاص دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقومه. إذ الآية تصرّح بلزوم موافقة لغة الرسول مع لسان قومه، لا اتّحاد لغته مع لسان كل من اُرسل إليهم، كما هو أساس الشبهة، ومن الممكن المتحقق أن يكون المرسل إليه أوسع من قومه كما هو الحال في ثلّة جليلة من الرسل، فقد دعا إبراهيم عرب الحجاز إلى الحج، والوفود إلى زيارة بيته، وأمر سبحانه كليمه بدعوة فرعون إلى الإيمان به، ودعا نبيّنا اُمّتي اليهود والنصارى إلى الإيمان برسالته، فآمن منهم من آمن. وبقي منهم من بقي.

مغالطة اُخرى حول الآية

نرى بعض من فسّر الآية بأنّ مفادها: « أنّ كلّ رسول من الله يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم »، جاء بمغالطة شوهاء في مفاد الآية، وقال: إذا كان معنى الآية ما ذكر فهو ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا، من لا يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم ليس رسولاً منه سبحانه. فلو فرضنا أنّ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مبعوثاً إلى العالمين كلّهم مع اختلافهم في اللسان، يلزم منه كونه غير مبعوث من الله سبحانه أصلاً.

وعلى الجملة: تنتج عالمية رسالته، وسعة نطاق دينه، كونه غير مرسل من جانبه عزّ وجلّ.

ومنشأ هذه المغالطة ما تخيّله المغالط من مفاد الآية، إذ ليس مفادها ما تصوّره من

٧١

أنّ كلّ رسول يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم حتى يصح ما بني عليه، بل مفاده: أنّ كلّ رسول يوافق لسانه لسان قومه، وفي الوقت نفسه يمكن أن يكون مبعوثاً إلى أزيد من قومه(١) أو إلى قومه فقط.

نعم تنعكس الآية إلى قولنا: من لا يوافق لسانه، لسان قومه ليس رسولاً من الله سبحانه، وهو صحيح، وأمّا نبي الإسلام فالمفروض أنّ لسان كتابه ولغة دعوته موافقة مع لسان قومه.

وعلى أي تقدير فالمراد من القوم هم الذين عاش فيهم الرسول وخالطهم ولا يختص بالذين هو منهم نسباً، والشاهد على ذلك أنّه سبحانه صرّح بمهاجرة لوط من « كلدة » وهم سريانيو اللسان، إلى المؤتفكات وأهلها عبرانيون، وفي الوقت نفسه سمّاهم قومه، وأرسله إليهم، ثم أنجاه وأهله إلّا امرأته(٢) .

__________________

(١) هذا أحد الاحتمالات في اُولي العزم، أعني من اُرسل إلى أزيد من اُمّة، راجع الميزان ج ١٢ ص ١٣ وسوف نحقق معنى هذه الكلمة على ضوء ما ورد في الذكر الحكيم في فصول هذا الكتاب.

(٢) الميزان ج ١٢ ص ١٣.

٧٢

هل كانت

نبوّة نوح والكليم والمسيح

عالمية ؟

قد اتضح من هذا البحث الضافي أنّ رسالة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله رسالة عالمية، فهو مبعوث إلى شرق الأرض وغربها.

غير أنّه اكمالاً للبحث نبحث عن نبوّة ورسالة الأنبياء الثلاثة، فهل كانت نبواتهم ورسالاتهم عالمية أم كانت تقتصر على أقوامهم، أو المناطق التي ظهروا فيها ؟

ونبحث في المقام عما يفيده القرآن في هذا الموضوع مع غض النظر عمّا يوجد في التوراة والانجيل وما يدعيه علما ء اليهود والنصارى لأنّ البحث في المقام قرآني ينظر إلى الموضوع من زاوية خاصة، فيقع الكلام في مقامات :

الأوّل: في عمومية نبوّة نوح وعدمها.

الثاني: في عمومية نبوّة الكليم وعدمها.

الثالث: في عمومية نبوّة المسيح وعدمها.

ويتضح ممّا ذكرنا حال رسالة الخليلعليه‌السلام أيضاً.

وليكن القارئ الكريم على ذكر من نكتة، وهي أنّ ما سنذكره من الآيات ونستدل بها لا يعدو عن كونها اشعارات واستظهارات ولا يمكن أن يستدل بكلّ واحدة منها على المقصود، نعم يمكن اعتبار مجموعها دليلاً مفيداً للاطمئنان.

٧٣

على أنّ تلك الاشعارات إنّما تتم إذا لم يكن هناك دليل صريح على خلافها وإلّا فتكون النسبة بين تلك الاشعارات وما يدل على خلافها من قبيل نسبة الأصل إلى الدليل الاجتهادي الحاكم بالاشتغال.

فيرتفع الأصل بموضوعه عند وجود الدليل الاجتهادي.

هل رسالة نوح كانت مختصّة بقومه ؟

يمكن استظهار الاختصاص من قوله سبحانه:( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ ) ( نوح ـ ١ )، فهو يشعر باختصاص رسالته بقومه(١) .

وأمّا صيرورة رسالته بعد الطوفان عالمية، لانحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك الناس، فإنّما هو لأمر عارض لا يضر بخصوصية رسالته.

أضف إلى ذلك أنّ قدر المسلم هو أنّ الطوفان لم يكن عالمياً بل خاصاً بمنطقة من الأرض التي كان يعيش فيها قومه، ويؤيد ذلك أنّه لا وجه لتعذيب غيرهم واهلاكهم بتكذيب قومه خاصة.

فانّ الظاهر من القرآن هو أنّ التعذيب كان لتكذيب قومه، قال سبحانه:( وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلّا مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) ( هود: ٣٦ ـ ٣٧ ) أضف إلى ذلك أنّ عمومية الرسالة تتطلب وجود امكانيات تمكن الرسول من إيصال نداء رسالته وصوت دعوته إلى جميع أنحاء العالم، وذلك لم يكن متوفراً في عهد نوح، كما سيوافيك بيانه مفصّلاً.

تحقيق وتنقيب :

إنّ العلّامة الطباطبائي ( رضوان الله عليه ) قد طرح مسألة عمومية نبوّة نوح

__________________

(١) لاحظ الآيات ٢٥ ـ ٤٨ من سورة هود، ترى فيها اشعارات كثيرة باختصاص رسالته بقومه.

٧٤

عليه‌السلام في الجزء العاشر من تفسيره القـيّـم « الميزان » فقال :

المعروف عند الشيعة عموم رسالتهعليه‌السلام وأمّا أهل السنّة فمنهم من قال بعموم رسالته مستنداً إلى ظاهر الآيات الناطقة لشمول الطوفان لأهل الأرض كلّهم كقوله سبحانه:( رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) ( نوح ـ ٢٦ )، وقوله تعالى:( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إلّا مَن رَّحِمَ ) ( هود ـ ٤٣ ) وقوله:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) ( الصافات ـ ٧٧ ).

وما ورد في الصحيح من حديث الشفاعة: أنّ نوحاً أوّل رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ولازم ذلك كونه مبعوثاً إليهم كافة.

ومنهم من أنكر ذلك مستنداً إلى ما ورد في الصحيح عن النبي: « وكان كلّ نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ».

وأجابوا عن الآيات بأنّها قابلة للتأويل فمن الجائز أن يكون المراد بالأرض هي التي كان يسكنها نوح وقومه، وهي وطنهم كقول فرعون لموسى وهارون:( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) ( يونس ـ ٧٨ ).

فمعنى الآية الاُولى: لا تذر على هذه الأرض من كافري قومي ديّاراً، وكذا المراد بالثانية: « لا عاصم اليوم لقومي من أمر الله » وكذا المراد بالثالثة: « وجعلنا ذريته هم الباقين » من قومه.

ثمّ انّه ـ قدّس الله سرّه ـ أفاد أنّه لم يستوفوا حقّ الكلام في هذا البحث ثمّ اختار هو عموميّة نبوّته ورسالته بتقديم مقدّمة حاصلها :

أنّ الواجب في عناية الله أن يهدي الانسان إلى سعادة حياته وكمال وجوده على حد ما يهدي سائر الأنواع إليه، ولا يكفي في هدايته ما جهز به الإنسان من العقل البشري، بل لابد من طريق آخر لهدايته وسوقه إلى قمة الكمال وهو تعليم الإنسان شريعة الحق، ومنهج الكمال والسعادة، وهو طريق الوحي، وهو نوع تكليم إلهي يعلم الانسان ما يفوز بالعمل به، والاعتقاد به في حياته الدنيوية والاخروية فطريق النبوّة ممّا لا

٧٥

مناص منه في تربية النوع البشري بالنظر إلى العناية الإلهية.

وإن شئت قلت: الواجب في عناية الله تزويد المجتمع الانساني بشريعة يأخذ بها في حياته الاجتماعية دون أن يخص بها قوماً ويترك الآخرين سدى لا عناية له بهم، ولازمه أن يكون أوّل شريعة نزلت على البشر شريعة عامّة، وقد أخبر الله سبحانه أنّ شريعة نوح هي أوّل شريعة نزلت على المجتمع البشري قال سبحانه:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى ـ ١٣ )، ومقام الامتنان يقتضي بأنّ الشرائع الإلهية المنزلة على البشر عبارة عمّا جاء ذكرها في هذه الآية، وأوّل ما نزلت من الشرائع هي شريعة نوح، ولو لم تكن عامة للبشر، بل كانت خاصة بقومه لكان هناك أمّا نبي آخر، وشريعة اُخرى لغير قوم نوح والحال أنّه لم يذكر في هذه الآية ولا في موضع آخر من كلامه سبحانه.

وأمّا اهمال سائر الناس غير قومه في زمنه وبعده إلى حين(١) .

ملاحظات في كلام العلّامة الطباطبائي

وفيما ذكرهقدس‌سره ملاحظات نلفت نظر القارئ الكريم إليها :

أمّا أوّلاً: فإنّ ما ذكره من أنّه يجب في عناية الله تكميل الأنواع وأنّ الشريعة الإلهية تكمل النوع الانساني، وأنّ التشريع تكميل للتكوين ممّا لا كلام فيه، غير أنّ الكلام هو في قابلية سائر العناصر البشرية الاُخرى المعاصرة لنوح، الساكنة في مناطق اُخرى لتلقي الشريعة وأخذها والعمل بها، فإنّه من المحتمل أن لا تكون تلك العناصر والأفراد لبداوتها وبساطة شعورها وحياتها أهلاً لارسال الشريعة إليهم وعدم بلوغهم بعد إلى حد يستأهلون معه للتعليم الإلهي، فإنّه من البديهي أنّ البلوغ الجسماني وحده لا يكفي في تلقي الشريعة والعمل بها، بل يجب أن يكون معه مقدرة فكرية واستعداد نفسي يؤهّله لاستقبال الشريعة، والدخول في مدرسة الوحي الإلهي. فمثل بعض المجتمعات قبل أن

__________________

(١) الميزان ج ١٠ ص ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٧٦

تصل إلى هذه المرتبة مثل الطفل الناشئ لا يستأهل ولم يصبح صالحاً للدخول في المدرسة وتلقي التربية المدرسية.

وثانياً: فإنّ ما استفادهرحمه‌الله من الآية ب‍ « أنّ شريعة نوح أوّل شريعة نزلت إلى البشر » اشعار كسائر الاشعارات فمن المحتمل أن تكون هناك شريعة اُخرى نزلت قبل نوح ولكن لم تذكر لعدم بلوغها إلى مرتبة الشرائع المذكورة في هذه الآية.

وأمّا ثالثاً: انّ من الممكن أن يكون هناك شريعة في عرض شريعة نوح تختص بقوم آخر لكنّه لم يذكرها القرآن، كيف لا وأنّ القرآن صرّح بأنّه لم يستوعب قصص جميع الأنبياء حيث قال:( مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) ( غافر ـ ٧٨ ) وقال سبحانه:( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) ( النساء ـ ١٦٤ ).

وفي الختام أنّ ما ذكرناه حول دعوة نوح كمثل ما نذكره حول الكليم والمسيح مجرد نظرية منبعثة من التدبّر في آيات الذكر الحكيم فمن المحتمل أن لا تكون صائبة، والعصمة لله سبحانه ولرسوله والأئمّة الهداة.

ثم إنّه دام ظله رتب على مختاره في تعميم رسالة نوح أنّ الطوفان كان عاماً لجميع الأرض حيث قال: تبين الجواب عن السؤال: هل الطوفان كان عاماً لجميع الأرض فإنّ عموم دعوته يقضي بعموم العذاب.

ثمّ أيّده بما جاء في كلامه تعالى أنّه أمر نوحاً أن يحمل من كلّ زوجين اثنين ابقاء على الأنواع الحيوانية فلو كان الطوفان خاصاً بصقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها كالعراق ـ كما قيل ـ لم تكن هناك أية حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين(١) .

وقد تبيّن ممّا ذكرناه من اختصاص دعوة نوح وعدم عموميتها عدم صحة ما اعتمدت عليه النظرية.

__________________

(١) الميزان ج ١٠ ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٧٧

وأمّا ما استشهد به فيمكن أن يكون للحفاظ على الحيوانات في منطقته إذ كان من العسير انتقال الحيوانات التي تعيش في مناطق اُخرى إلى قومه، والله سبحانه هو العالم.

هل كانت نبوّة الكليم عالمية ؟

إنّ تنقيح الموضوع يتوقّف على البحث في مقامين :

الأوّل: في عموم دعوته إلى التوحيد.

الثاني: في عموم شريعته وشمول أحكامه.

ونعني من عموم دعوته في مسألة التوحيد أنّه كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل وغيرهم، في دعوتهم جميعاً إلى توحيده سبحانه وكسر كلّ صنم ووثن.

كما أنّه نعني من عموم شريعته شمول كلّ ما جاء به موسى في التوراة من الفروع والأحكام لبني إسرائيل وغيرهم(١) وعموم دعوته إلى التوحيد لا يلازم عموم شريعته، دون العكس(٢) ولأجل ذلك جعلنا البحث في مقامين، فنقول :

المقام الأوّل: في عموم دعوته في أصل التوحيد ورفض الأوثان والأصنام كلّها.

الظاهر من الآيات الواردة حول دعوة الكليم، أنّه كان مبعوثاً إلى خصوص بني إسرائيل مثل قوله سبحانه :

( وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ) ( البقرة ـ ٩٢ ).

وقوله سبحانه:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ ) ( الصف ـ ٥ ).

__________________

(١) وللفرق بين المقامين يعبّر عن الأوّل بعموم الدعوة والنبوّة وعن الثاني بعموم الشريعة والرسالة فلاحظ.

(٢) لامكان انحصار دعوته بالنسبة إلى قوم في الاُصول ولا يمكن العكس إذ لا تصح الدعوة إلى الفروع منفكة عن الدعوة إلى الاُصول.

٧٨

وهذه الآيات الكثيرة تشعر باختصاص دعوته بقوم موسى وإنّما قلنا « تشعر » لوضوح أنّ ارساله إلى قومه، لا يدل على عدم إرساله إلى غيرهم، فإنّ شعيباً كان مرسلاً من جانبه سبحانه إلى أهل مدين كما يدل عليه قوله تعالى:( وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ) ( الأعراف ـ ٨٥ ).

وفي الوقت نفسه كان مبعوثاً إلى أصحاب الايكة كما يدل عليه قوله سبحانه:( كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ *إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ ) ( الشعراء ١٧٦ ـ ١٧٧ ).

ولأجل ذلك قلنا انّ ما نستدل به لا يعدو عن كونه استظهارات واشعارات إذا توفرت تفيد الاطمئنان ولو كان هناك دليل صريح على عموم دعوته ونبوّته، لسقطت هذه الاستظهارات عن الاعتبار.

موقف دعوة الكليم من القبطيين

يمكن أن يقال: بأنّ دعوة موسى في مسألة التوحيد، كانت تعم بني إسرائيل والقبطيين.

وتستفاد عمومية دعوته إليهم أيضاً من بعض الآيات مثل قوله سبحانه:( حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللهِ إلّا الحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الاعراف ـ ١٠٥ ).

وقوله سبحانه:( قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الأعراف ـ ١٣٤ ).

وقوله سبحانه:( اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ *فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الهُدَىٰ ) ( طه: ٤٣ و ٤٤ ـ ٤٧ ).

وقوله سبحانه:( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ *أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا

٧٩

بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الشعراء: ١٦ ـ ١٧ ).

وقوله سبحانه حكاية عن فرعون:( قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) ( الشعراء ـ ٢٧ ).

وقوله سبحانه:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( الزخرف ـ ٤٦ ).

وقوله سبحانه:( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً *فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً ) ( المزمل ١٥ ـ ١٦ ).

وقوله سبحانه:( وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ) ( الذاريات ـ ٣٨ ).

وهذه الآيات وما يشابهها تفيد أنّ دعوته إلى عبادة الله والانخلاع عن عبادة الأوثان كانت تعم بني إسرائيل والقبطيين ولأجل ذلك ضرب مع رئيسهم فرعون موعداً لا يخلفه هو ولا ذاك، فاتفقا على أن يكون موعدهم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فلما ألقى موسى ما ألقى وتلقف ما صنعوا من الكيد والسحر، القي السحرة ساجدين قائلين بأنّهم آمنوا بربّ موسى وهارون(١) .

هذا كلّه يفيد بوضوح شمول دعوته للقبطيين أيضاً وأنّه كان مأموراً من الله بدعوة فرعون وملائه إلى الايمان بالله سبحانه وترك عبادة البشر والاستعلاء على عباد الله واستضعافهم، ويؤيده أنّه لـمّا أدركه الغرق قال فرعون:( آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إلّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ ) ( يونس ـ ٩٠ ) ولم يك ينفع إيمانه ذلك الوقت ولأجله خاطبه سبحانه بقوله:( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) ( يونس ـ ٩١ ).

ومع ذلك كلّه ففي النفس من شمول دعوته ـ حتى بهذا المعنى للقبطيين، شيء.

أمّا أوّلاً: فلأنّه يحتمل أنّه كان نبيّاً ورسولاً إلى اُمّة بني إسرائيل فقط ليخلصهم

__________________

(١) راجع سورة طه: الآيات ٤٢ ـ ٧٠.

٨٠

وينجيهم من فرعون وأعوانه، غير أنّ انجائهم من أيديهم لـمّا كان متوقفاً على اثبات نبوّته وأنّه مأمور من جانب الله سبحانه، أخذ يحاور فرعون ويرضيه بانجاء بني اسرائيل، ولو كان إنجاؤهم غير موقوف على هذه المحاورات لما تحمّل هذه المشاق ويؤيده أنّه سبحانه بعدما قال :

( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) ( القصص ـ ٤ ) عقبها بقوله:( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) ( القصص ـ ٥ ).

وظاهره يفيد أنّ الغاية من بعث موسى إلى فرعون هو اطلاق سراح المستضعفين من بني إسرائيل في الأرض.

وإن شئت قلت: أنّ محاورته مع فرعون وقيامه ضده وضد ملائه وعرض بيّناته واحتجاجاته عليهم، كانت مقدمة لانقاذ بني إسرائيل وإرجاعهم إلى الأرض المقدسة ولو كان المطلوب حاصلاً بلا مشاجرة ونزاع معهم لما نهض بين يديه محتجاً بآياته وبيّناته ؟

وثانياً: انّه كلّما حاور مع فرعون واحتج عليه بأنّه رسول ربّ العالمين عقب كلامه بقوله: فارسل معي بني إسرائيل حيث قال سبحانه:( قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الأعراف ـ ١٠٥ ) وقال سبحانه:( فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ ) ( طه ـ ٤٧ ).

والظاهر من الآيتين أنّ الهدف الأقصى من بعث موسى هو انقاذ بني إسرائيل غير أنّه لما كان متوقّفاً على المحاورة مع فرعون واثبات أنّه رسول من الله سبحانه كلمه بأنّي رسول ربّك ويقرب ذلك أنّه سبحانه لما آخذ آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات وأوقع عليهم الرجز جعلوا جزاء موسى ـ إذا استجيبت دعوته ـ أنّهم يؤمنون به ويرسلون معه بني إسرائيل كما حكى الله سبحانه عنهم:( قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ

٨١

بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الاعراف ـ ١٣٤ ).

وعلى ذلك فالمراد من إيمانهم بموسى، إيمانهم بأنّه مبعوث من الله سبحانه لهداية بني إسرائيل وانقاذهم من العذاب، لا إيمانهم بأنّه نبي بعث إلى القبطيين وبني إسرائيل جميعاً كما هو المدّعى.

ولقائل أن يقول: إنّه إذا لم يكن مبعوثاً إلى فرعون وملائه فلماذا أمر الله سبحانه موسى وأخاه هارون بقوله:( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ ) ( طه ـ ٤٤ ) وقوله:( اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ *فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ *وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ ) ( النازعات: ١٧ ـ ١٩ ).

وتمكن الاجابة عنه بأنّ الذهاب إليه وتذكيره وتحذيره لأجل أن يعلم فرعون بأنّ موسى مبعوث من جانبه سبحانه لإنقاذ قومه حتى يرسل معه بني اسرائيل، كما يفيده ذيل الآيات:( فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ ) ، لاحظ سورة طه الآيات ٤٣ ـ ٤٧، خصوصاً بالنظر إلى ما فرع على قوله:( إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ) ، قوله:( فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) .

ويؤيد ذلك أيضاً أنّه لـمّا لم ينجح النبي موسى في انقاذ قومه من سلطان فرعون وعساكره، أراد سبحانه أن ينجيهم بأسباب غير عادية كما قال سبحانه:( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَىٰ ) ( طه ـ ٧٧ ).

وقوله:( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ) ( الأعراف ـ ١٣٨ ).

وقوله سبحانه:( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ) ( يونس ـ ٩٠ ).

وقوله سبحانه:( فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ *وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ

٨٢

جُندٌ مُّغْرَقُونَ ) ( الدخان٢٣ ـ ٢٤ ).

وذلك يدلّ على أنّ الغاية من الرسالة هو انقاذ بني إسرائيل فقط لا ارشاد فرعون وملائه.

ثالثاً: انّ قوله سبحانه:( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ (١) رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِ المُعْتَدِينَ *ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَارُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ) ( يونس ٧٤ ـ ٧٥ ).

يفيد أنّ رسالة الأنبياء الذين تتراوح دعوتهم بين نوح وموسى بشهادة قوله:( بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ ( أي نوح )رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ ) كانت مختصة بقومهم حتى إبراهيم كما أنّ دعوة موسى كانت مختصة بقومه لا تعدوهم إلى فرعون أيضاً وملائه وعلى ذلك تصير دعوة كلّ من نوح وإبراهيم وموسى غير عالمية لا تتعدى دعوة موسى بني إسرائيل أو القبطيين.

موقف دعوة الكليم من غير القبطيين

الظاهر أنّه لم تكن دعوته شاملة لغيرهم لو فرضنا شمولها لهم ويشعر بذلك أنّهم لما نجّاهم سبحانه من فرعون وجاوز بهم البحر فرأوا في ذلك الجانب، من ضفة البحر قوماً يعكفون على أصنام فطلب منه قومه أن يجعل لهم الهاً كما لهم آلهة فرد عليهم موسى بأنّكم قوم تجهلون(٢) ولم يتعرض موسى لعبدة الأصنام(٣) لا بالنقد والرد ولا بالمنع ولم يكن خضوعهم للأصنام أقل ضرراً من عبادة قوم فرعون له وإنّما تعرض لعمل فرعون دون عمل هذه الجماعة لأجل أنّ انقاذ بني إسرائيل من مخالب فرعون وقومه كان متوقفاً على المحاورة معه والاحتجاج عليه بأنّه رسول ربّ العالمين، دون المقام، فانّ العاكفين

__________________

(١) والضمير في قوله « من بعده » يرجع إلى نوح.

(٢) راجع الآية ١٣٨ من سورة الأعراف.

(٣) بحكم سكوت القرآن عن ذلك وإن كان السكوت لا يكون دليلاً على عدم التعرض لكنه مشعر بذلك.

٨٣

على الأصنام في ضفة البحر لم يكونوا مزاحمين لموسى وقومه ولذلك تركهم وشأنهم، ولم ينكر عليهم بحكم سكوت القرآن وعدم اظهار أي ردة فعل بالنسبة إليهم. وهذا يؤيد ما استظهرناه من عدم عمومية دعوته للقبطيين أيضاً.

نعم ما نذكره من السكوت اشعار بالمدّعى لا أنّه دليل قطعي.

ويؤيد خصوصية الدعوة أنّه لم يعهد منه بعد انجاء قومه من فرعون، أنّه دعا أقواماً آخرين، بل لما عبر موسى بهم البحر وهلك فرعون، أمرهم الله بدخول الأرض المقدسة، فلمّا نزلوا على نهر الأردن خافوا من الدخول فيها كما حكى الله سبحانه عن موسى قائلاً:( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ *قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ) ( المائدة: ٢١ ـ ٢٢ ).

فأوحى الله إليه أنّهم يتيهون في الأرض أربعين سنة فبقوا في التيه أربعين سنة وكان ينزل عليهم المن والسلوى ومات النقباء غير يوشع بن نون ومات أكثرهم ونشأ ذراريهم وتوفّي موسى وهارون في التيه، توفّي هارون قبل موسى بسنة وقد فتحها يوشع بعد موت موسى، وقيل فتحها موسى وكان يوشع في مقدمته(١) .

ولم يرد في القرآن شيء يستشم منه أنّه دعا الاُمم الاُخرى طول حياته في التيه، بل كان يعاشر قومه فقط ويرشدهم حسب استعدادهم وامكاناتهم.

أضف إلى ذلك فقدان الامكانيات وضعف المواصلات في تلكم الأيام، فتشريع نبوّة عامة تشمل العالم أجمع مع فقدان الامكانيات اللازمة وقلّة الترابط بين الاُمم أمر غير مفيد.

مضافاً إلى أنّ تشريع النبوّة على صعيد عالمي فرع التهيّؤ في روح المجتمع الانساني لقبولها، فانّ الناس كانوا عصابات وأقواماً متنافرة يتعصّب كل منهم تجاه الآخر

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص ١٧٩.

٨٤

ولا ينزل واحد منهم على حكم الآخر ولا لنبي من قوم آخر، فالطريق الأصلح لهذا هو بعث الأنبياء في داخل الاُمم كما قال سبحانه:( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ( النحل ـ ٣٦ )(١) .

أضف إلى ذلك أنّ الاُمم اليهودية يخصون نبوّة موسى بأنفسهم ولذا لا ترى منهم التبليغ والتبشير في مجتمعات العالم(٢) .

ومع هذه الوجوه كيف يمكن القول بعمومية دعوته وعالميتها في عصره إلى أن يبعث الله نبياً مثله.

وترشدك إلى ما ذكرناه، قصة موسى مع من آتاه الله الرحمة وعلّمه من لدنه علماً وقال سبحانه:( فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا *قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) ( الكهف ٦٥ ـ ٦٦ )(٣) .

ووصفه بما ورد في الآية من الأوصاف يدل على كونه ولياً من أوليائه بل نبياً مثله ـ ومع ذلك ـ كيف تكون نبوّة موسى عالمية مع عدم شمول نبوّتها لمصاحبه ولا لاُمّته إذا فرضنا للمصاحب اُمّة وليس من البعيد أن يكون ذلك المصاحب العائش في زمن موسى مثل لوط المعاصر لإبراهيم وكلّ مبعوث إلى اُمّة دون اُمّة، وتعاصر النبيين يكشف عن ضيق نطاق نبوّتهم وعدم شمول احدى النبوّتين، بما تشمله الاُخرى.

قال سبحانه:( ولـمّاجَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَٰذِهِ

__________________

(١) نعم ذابت هذه التعصّبات القومية في المجتمع الانساني إلى حد استعد مزاج الانسانية لبعث نبي عالمي وكمل استعدادهم لقبول النداء العالمي ولأجل ذلك لم يمض ربع قرن إلّا وقد ضرب الإسلام بجرانه في شرق الأرض وغربها.

(٢) وإن كان قول اليهود وفعلهم ليسا بحجة فإنّهم خصّوا الله سبحانه بأنّه اله شعبهم فما ظنّك بهم في رسالة موسىعليه‌السلام .

(٣) واحتمال أنّه كان من اُمّة موسى ولكن الله جعل عنده علماً خاصاً لم يؤته موسى فصار موسى مأموراً بالتعلّم منه، رجم بالغيب وموجب لزيادة الفرع على الأصل واعلمية بعض الاُمّة من نبيّها مع أنّ سياق الآيات لا يناسب ذلك الاحتمال.

٨٥

الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ *قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إلّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) ( العنكبوت ٣١ ـ ٣٢ ).

المقام الثاني في عموم شريعته(١) :

هل كانت الشريعة التي أتى بها موسى في الألواح التي يصفها الله سبحانه بقوله:( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) ( الأعراف ـ ١٤٥ ).

مختصة بقومه أم تعم غيرهم ؟ ظاهر بعض الآيات، يفيد كون كتابه حجة على الناس كلهم حيث وصفه بكونه، هدى ونوراً للناس وقال:( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدىً لِّلنَّاسِ ) ( الأنعام ـ ٩١ ).

وقوله سبحانه:( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ ) ( الأنبياء ـ ٤٨ ).

فإذن هو ضياء وذكر للمتقين سواء أكانوا من بني إسرائيل أم غيرهم وقوله سبحانه:( قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الاحقاف ـ ٣٠ ).

فإنّ وزان الآية، وزان قوله سبحانه:( فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا *يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ) ( الجن ١ ـ ٢ ).

فإنّ وصف الجن للقرآن بأنّه نزل من بعد كتاب موسى مع كون القرآن ومن جاء به مبعوثين إلى الانس والجن، يشعر بكون كتاب موسى مثله أيضاً نزلا إلى كلّ من الفريقين، فكيف تجتمع خصوصية رسالته مع كون كتابه دليلاً وحجة على الكلّ ؟

__________________

(١) البحث عن عموم شريعته، فرع ثبوت سعة دعوته في مسألة عبادة الله وخلع عبادة الأوثان وقد عرفت عدم ثبوتها، فالبحث عن عموم شريعته مبني على ثبوت عموم دعوته في جانب الاُصول.

٨٦

ويمكن الاجابة عن الاستدلال بهذه الآيات أوّلاً: بأنّ كون الكتاب نوراً وهدى للناس، لا يفيد تعميم شريعة موسى وأحكامه لغير بني اسرائيل، إذ من الممكن أن يستفيد الغير مما ورد في ذلك الكتاب من عظات وحكم وإن لم يكن تابعاً لأحكام ذلك الكتاب. فنحن المسلمون، نستفيد في هذا اليوم مما في التوراة والانجيل من المواعظ ولسنا تابعين لشريعة من انزلا إليه.

فبذلك يظهر الجواب عن الاستدلال بقوله سبحانه:( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ ) ( الأنبياء ـ ٤٨ ).

وثانياً: إنّ الظاهر من بعض الآيات اختصاص كتاب موسى بقومه مثل قوله تعالى:( وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الإسراء ـ ٢ ) وقوله سبحانه:( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ) ( غافر ـ ٥٣ ).

فلو كان كتابه حجة على الناس كلّهم لورثه الناس كلّهم دون بني إسرائيل وحدهم(١) .

وقوله:( مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ) ( المائدة ـ ٣٢ ).

وقد كتبه سبحانه عليهم في التوراة.

وقوله:( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) ( الجاثية ـ ١٦ ).

وإن أردت أن تتوسع في البحث فلاحظ الآيات التالية فانّها تخص بني إسرائيل

__________________

(١) نعم يمكن أن يقال: انّ تخصيص بني إسرائيل بأنّهم الوارثون لكتاب موسى لأجل أنّ بني إسرائيل وأنبياءهم، هم القائمون بأمر الكتاب وحفظه دون سائر الناس، فلأجل ذلك خصهم بالميراث، وإن كانت الشريعة عامة.

وهذا نظير قوله تعالى: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) ( فاطر ـ ٣٢ ) فورّث الكتاب العباد المصطفون وإن كانت الشريعة عامة، على أنّه يحتمل أن يكون المراد بالكتاب، هو الوعد الذي وعده الله لإبراهيم وموسى بأن يدخلهم الأرض التي كتبها الله لهم.

٨٧

بأنّهم هم الذين اُوتوا الكتاب، فإنّ كونهم ممّن اُوتوا الكتاب وإن كان لا يعارض كون غيرهم كذلك، إلّا أنّ تكرار توصيفهم بأنّهم، هم الذين اُوتوا الكتاب يوجب ظهورها في نفيه عن غيرهم(١) مثل: قوله سبحانه:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) ( البقرة ـ ١٢١ ).

وقوله سبحانه:( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) ( البقرة ـ ١٤٤ ).

وقوله سبحانه:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ ) ( الأنعام ـ ٢٠ ).

وقوله سبحانه:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ) ( القصص ـ ٥٢ ).

وقوله سبحانه:( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالحَقِّ ) ( الأنعام ـ ١١٤ ).

وقوله سبحانه:( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ) ( الرعد ـ ٣٦ ).

وقوله سبحانه:( فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) ( العنكبوت ـ ٤٧ ).

وقوله سبحانه حكاية عن المشركين بأنّه نزل الكتاب على الطائفتين المسيحية واليهودية ولم ينزل علينا:( أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ) ( الأنعام ١٥٦ ـ ١٥٧ ).

فبهذه الآيات وما تقدمها يمكن تفسير ما تقدمها من الآيات المفيدة المشعرة بكون التوراة نازلة إلى الناس كلّهم بحمل ما دلّ على سعة التشريع، على الاستغراق

__________________

(١) اللّهمّ إلّا أن يحمل التأكيد بأنّهم هم الذين اُوتوا الكتاب على كون الكتاب نزل على بني إسرائيل وليس معناه أنّه لا يجوز لغيرهم العمل به.

٨٨

العرفي، دون العقلي، فيراد من قوله سبحانه: نوراً وهدى للناس، أو ضياء وذكراً للمتقين، الكتلة المتماسكة من بني اسرائيل.

نعم، يمكن أن يقال بعكس ذلك، فيقال: انّ تخصيص بني إسرائيل بالذكر لأجل أنّ التوراة كانت هدى لبني إسرائيل قبل أن تكون لغيرهم بشهادة بعث موسى فيهم وتولّده ونشوئه بينهم ولأجل ذلك خص الله ذلك القوم بالذكر وقال:( وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الإسراء ـ ٢ ).

ولـمّا مات وترك بينهم ذلك الكتاب الكريم، كانت تلك الطائفة أولى بميراث نبيّهم ولأجل ذلك قال:( وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ) ( غافر ـ ٥٣ ).

ولكن يؤيد الحمل الأول، أعني كون الاستغراق عرفياً لا عقلياً، قوله سبحانه:( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ ) ( المائدة ـ ٤٥ ) وقد كتب الله لهم هذا الحكم في التوراة وتقييد الكتابة بلفظ ( عليهم ) يؤيد كون الكتاب نازلاً لهدايتهم خاصة.

ويؤيد الحمل الثاني قوله سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) ( المائدة ـ ٤٤ ).

فظاهر الآية أنّ التوراة كانت محكمة بعد موسى عبر القرون يحكم بها النبيون فالآية تفيد سعة نطاق كتابه وشريعته.

ومع ذلك كلّه فالامعان في الآية لا يفيد إلّا كون الكتاب حجة لبني إسرائيل ومحكماً عليهم والأنبياء الذين كانوا يحكمون به كانوا من بني إسرائيل لا من غيرهم ولقد بعثوا لهدايتهم وذلك لأنّ الله يقول:( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) ( لا لغيرهم ) الذي هو المطلوب.

هذا ما بلغ إليه فهمنا القاصر من التدبّر في آيات الذكر الحكيم ولما كانت في المقام أسئلة حول المختار عقدنا لها الفصل التالي.

٨٩

أسئلة وأجوبة

السؤال الأوّل :

ربّما يستدل على كون دعوة نوح والخليل والكليم والمسيح عالمية بقوله سبحانه:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى ـ ١٣ ) ويستند في كيفية الاستدلال إلى ما أفاده العلّامة الطباطبائي حيث قال :

يستفاد من الآية اُمور :

أحدها: إنّ السياق بما أنّه يفيد الامتنان وخاصة بالنظر إلى ذيل الآية، والآية التالية يعطي أنّ الشريعة المحمدية جامعة للشرائع الماضية ولا ينافيه قوله تعالى:( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) ( المائدة ـ ٤٨ ) لأنّ كون الشريعة شريعة خاصة لا ينافي جامعيتها.

الثاني: إنّ الشرائع الإلهية المنتسبة إلى الوحي إنّما هي شريعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لو كان هناك غيرها لذكر قضاء لحقّ الجامعية المذكورة.

ولازم ذلك أوّلاً: أنْ لا شريعة قبل نوحعليه‌السلام بمعنى القوانين الحاكمة في المجتمع الانساني الرافعة للاختلافات الاجتماعية، وقد تقدّم نبذة من الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ ) ( البقرة ـ ٢١٣ ).

وثانياً: أنّ الأنبياء المبعوثين بعد نوح كانوا على شريعته إلى بعثة إبراهيم وبعدها على شريعة إبراهيم إلى بعثة موسى وهكذا.

٩٠

الثالث: إنّ الأنبياء أصحاب الشرائع واُولي العزم هم هؤلاء الخمسة المذكورين في الآية إذ لو كان معهم غيرهم لذكر فهؤلاء سادة الأنبياء ويدل على تقدمهم أيضاً قوله:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) ( الأحزاب ـ ٧ )(١) .

الجواب :

إنّ ما ذكره ( رضوان الله عليه ) وإن كان صحيحاً لكنّه لا يدل على عمومية نبوّة هؤلاء الأربعة ومنشأ الاشتباه ( في الاستدلال بالآية وأضرابها على عمومية الدعوة ) هو الخلط بين عمومية دعوتهم وتداول شريعتهم بعدهم، فقد جرت سنّة الله على بعث أنبياء غير صاحبي شريعة في المناطق التي بعث فيها نفس أصحاب الشرائع وهؤلاء المبعوثون كانوا يحملون النبوّة والوحي، ويتشرّفون بالبيّنات والمعجزات من دون أن تكون لهم شريعة مستقلة، بل كانوا تابعين لإحدى الشرائع الأربع المتقدمة أو المتعاصرة وناشرين لها، وكانت نبوّتهم مختصة بقومهم ومنطقتهم غير أنّ ظهور كل واحد منهم من منطقة من المناطق، كان دليلاً على انتهاء نبوّة النبي صاحب الشريعة عند بعث النبي اللاحق، بل كان دليلاً على عدم سعتها من بدء الأمر، كما إذا كان النبي المروّج معاصراً للنبي صاحب الشريعة مثل لوط بالنسبة لإبراهيمعليه‌السلام .

وهذا، هو القرآن يحكي عن أنبياء مروّجين معاصرين لصاحب الشريعة أو تالين له، آخذين بشريعته.

فقد بعث الله هوداً إلى عاد بشريعة مثل شريعة نوح التي كانت بسيطة غاية البساطة، كما بعث صالحاً إلى ثمود، بمثل ما بعث به هوداً.

وقد بعث الله لوطاً إلى قومه، دون أن تكون له شريعة بل كان يتبع شريعة إبراهيم وكانا يعيشان في عصر واحد، كما بعث شعيباً إلى أصحاب مدين والأيكة، فأهلك

__________________

(١) الميزان: ج ١٨ ص ٢٨.

٩١

مدين بصيحة جبرئيل، والايكة بعذاب يوم الظلّة ولم تكن له شريعة مستقلة، بل كان يتّبع شريعة الخليل ويروّجها وينشرها.

وقد بعث الله يونس إلى مائة ألف أو يزيدون وكان يعمل بشريعة موسى، وهكذا حكم سائر الأنبياء المبعوثين في الآونة بعد الآونة، في ثنايا أزمنة أصحاب الشرائع.

فهؤلاء الأنبياء المروّجون لم يكونوا من علماء الاُمّة حتّى يكونوا مشمولين لدعوة أصحاب الشرائع، بل كانوا ذوي دعوة وارشاد، ووحي واعجاز، خارجين عن دعوة من تقدمهم، داعين إلى أنفسهم ونبوّتهم وإن كانوا آخذين بشريعته وكانت الاُمّة التي بعث هؤلاء إليهم مكلّفة بتلبية نداء هذا النبي الجديد، والاقتداء بهداه والاتباع لقوله وفعله وهذا دليل على انقطاع نبوّة النبي السالف ورسالته أو عدم سعته من أوّل الأمر كما إذا كانا متعاصرين مثل لوط وإبراهيم.

نعم، لم تكن هذه الجماعة كنفس أصحاب الشرائع أيضاً، أنبياء عالميين بعثوا لهداية من في الشرق والغرب، بل كانوا أنبياء محليين(١) مبعوثين إلى أقوامهم ومناطقهم المستعدة للبعث كنفس أصحاب الشرائع.

فثبت بذلك أنّ نبوّة مثل موسى كانت محدودة بأمرين :

الأوّل: انّ نبوّته كانت اقليمية لا عالمية.

الثاني: انّ نبوّته كانت منقطعة، ببعث نبي بعده، وإن لم يكن صاحب شريعة، بل مروّجاً وتابعاً لشريعته، وبقاء الشريعة، غير عمومية النبوّة.

نعم، النبوّة بمعنى الصفات الحاصلة للنبي مثل علمه، لا ترتفع بموته، لبقاء روحه المقدسة ونفسه الكريمة، والنبوّة بهذا المعنى لا ترتفع إلى الأبد، بل المراد ما تستتبعه هذه الصفات من كونه قائداً رسمياً من جانب الله سبحانه، يجب على الناس الانتماء والانتساب إليه، بحيث يعد الانسان من تابعيه واقعاً، وهذا المعنى أمر قابل

__________________

(١) سيوافيك توضيحه عند الاجابة عن السؤال الثاني.

٩٢

للارتفاع بعد ظهور النبي اللاحق وإن كانت الشريعة باقية.

على أنّ الظاهر من بعض الآيات، تخصيص كلّ نبي لاحق وإن كان تابعاً لشريعة من قبله، بشيء من الحكم، لم يكن موجوداً في شريعة من قبله، فلم يكن وزانهم وزان العلماء بحيث لا يزيدون ولا ينقصون، بل كان لهم بعض الخصائص من الأحكام والتعاليم، كما يفيده قوله سبحانه :

( قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران ـ ٨٤ ).

فظهور الآية في استقلالهم بالنبوّة واختصاص كلّ واحد بشيء من الوحي، ممّا لا ينكر ؟

نعم كون شريعة نوح محدودة ببعث إبراهيم أو كون شريعة الأخير محدودة ببعث موسى: لا ينافي كون الاُمّة المحمدية مأمورة باتباع ملّة إبراهيم لا لأجل بقاء نبوّته أو شريعته بل لأجل وحدة الشريعتين في الجوهر والاُصول التي أهمّها التوحيد ورفض الأوثان والأصنام، قال سبحانه:( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران ـ ٦٨ ).

وقوله:( فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران ـ ٩٥ ).

إلى غير ذلك ممّا ورد من الأمر بالاتباع لملّة إبراهيم، وهذا لا يدل على بقاء الشريعة، بل لما كان إبراهيم، هو البطل الوحيد في كسر شوكة الأصنام وتحطيم انوف المشركين وعبدة الأوثان وقد بعث النبي الأعظم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفس ما بعث به إبراهيم، أمر سبحانه بالاتباع لملّته وطريقته قال:( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ) ( الحج ـ ٧٨ ).

ولأجل هذه الملاحظة، يقول يوسف لصاحبيه في السجن:( وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) ( يوسف ـ ٣٨ ).

٩٣

وما هذا إلّا بقاء جوهر الدين في الشرائع السماوية كلّها فالاُمّة المسلمة كانت خليلية إلى أن صارت موسوية، فعيسوية فمحمدية على المعنى الذي عرفته.

السؤال الثاني :

لو كانت نبوّة موسى والمسيح اقليمية فماذا يعني الحديث التالي، وإلى ماذا يشير :

« إنّما سمّي اُولوا العزم، لأنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع وذلك أنّ كل نبي كان بعد نوح، كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه، إلى زمن إبراهيم الخليل وكلّ نبي كان في أيام إبراهيم الخليل وبعده، كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن موسىعليها‌السلام وكلّ نبي كان في زمن موسى وبعده، كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن عيسىعليها‌السلام وكلّ نبي كان في أيام عيسى وبعده، كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعاً لكتابه إلى زمن نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهؤلاء الخمسة اُولوا العزم وهم أفضل الأنبياء والرسل وشريعة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لا تنسخ إلى يوم القيامة ولا نبي بعده »(١) .

الجواب المستفاد من الحديث أمران :

الأوّل: الحديث يدلّ بصراحة على وجود أنبياء في زمن هؤلاء الأربعة وهذا أقوى شاهد على عدم كون نبوّتهم عالمية، إذ لا وجه لبعث نبيين إلى اُمّة واحدة ولم يثبت الاشتراك في النبوّة إلّا في موسى لقوله سبحانه:( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) ( طه ـ ٣٢ ).

وقوله سبحانه:( فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ) ( القصص ـ ٣٤ ).

الثاني: إنّ الأنبياء المبعوثين في زمنهم أو بعدهم، كانوا متمسكين بشرائع هؤلاء الأربعة وكانت شريعتهم متداولة بينهم.

والثابت تداول شريعتهم في المناطق التي بعث فيها هؤلاء ولعلّ تداول شريعتهم بين الاُمم السالفة، من دون تبديل، صار سبباً لتوهّم كون نبوّتهم عالمية لا اقليمية. ولكنّه لم يثبت تداول شريعتهم بين اُمم الأرض جميعاً وإنّما القدر المتيقّن تداولها في

__________________

(١) بحار الأنوار: ج ١٥ ص ١٤٥، ورواه الكافي في باب الشرائع ج ٢ ص ١٧ بأدنى اختلاف.

٩٤

الشرق الأوسط وما ضاهاه لا أقطار الأرض جميعاً، نعم دلّت الآيات القرآنية على أنّه لم تخل أرض معمورة من نبي أو نذير قال سبحانه:( وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إلّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) ( فاطر ـ ٢٤ ).

وقال سبحانه:( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ( النحل ـ ٣٦ ).

وقال سبحانه:( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) ( الرعد ـ ٧ ).

وهذه الآيات وما يشابهها تدل على شمول فيض النبوّة لأقطار الأرض واُممها وأنّه لم تخل اُمّة من تلك النعمة الإلهية ويؤيد ذلك ما عن أمير المؤمنين: اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، أمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته(١) .

وعند ذلك يتوجّه السؤال التالي :

السؤال الثالث :

لو كانت نبوّة هؤلاء الأربعة اقليمية وشريعتهم متداولة في الشرق الأوسط، فمن الذي بعثه الله إلى هؤلاء الاُمم المبعثرة في أقطار الأرض وأرجائها ومن هم حجج الله وبيّناته بين ظهرانيهم ؟

الجواب: إنّ القرآن لم يقصص قصص الأنبياء عامة ولم يأت بأسمائهم جميعاً والمذكور منهم لا يتجاوز عن ستة وعشرين نفراً، قال سبحانه:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) ( غافر ـ ٧٨ ).

وقال سبحانه:( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) ( النساء ـ ١٦٤ ).

__________________

(١) نهج البلاغة قسم الحكم الرقم ١٤٧.

٩٥

ولم تحصل لنا الإحاطة بكل من بعثه الله إلى الاُمم، وقيّضهم لهداية الناس.

وقد روى الفريقان عن النبي أنّ عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً وقد جاء في التواريخ والأدعية قسم كبير من أسماء الأنبياء لا نعرف عن أحوالهم إلّا شيئاً يسيراً فلعلّه كانت هناك جماعة كبيرة وعظيمة من الأنبياء مبعوثين إلى هداية الناس ودعوتهم إلى الله من دون أن نسمع لهم ذكراً أو نعرف لهم حالاً وقد سأل السائل صادق الاُمّة وإمامها وقال: فاخبرني عن المجوس أفبعث الله إليهم نبياً فانّي أجد لهم كتباً محكمة ومواعظ بليغة وأمثالاً شافية يقرّون بالثواب والعقاب ولهم شرائع يعملون بها ؟

قالعليها‌السلام : ما من اُمّة إلّا خلا فيها نذير وقد بعث إليهم نبياً بكتاب من عند الله فأنكروه ومجدوا كتابه(١) .

فلو كانت نبوّة المجوس بعد موسى وقبل المسيح لما أمكن أن تكون نبوّة موسى عالمية.

__________________

(١) الاحتجاج: ج ٢ ص ٩١.

٩٦

هل كانت

نبوّة المسيح عالمية ؟

بعد أن أسفر وجه الحقيقة من ثنايا البحث وظهر أنّ الحق هو أنّ نبوّة موسى كانت لقوم خاص، وإن كانت شريعته متداولة بين المبعوثين من بعده من الذين بعثوا في الأقوام التي بعث فيها نفس الكليم فلنشرع في تحقيق حال نبوّة المسيح سعة وضيقاً فنقول :

ظاهر بعض الآيات يفيد أنّ رسالته كانت لقوم خاص أيضاً وأنّه كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل خاصة قال سبحانه:( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) ( الصف ـ ٦ ).

وقال سبحانه:( ولـمّاضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) ( الزخرف ـ ٥٧ )( إِنْ هُوَ إلّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الزخرف ـ ٥٩ )( ولـمّاجَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ) ( الزخرف ـ ٦٣ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ ) ( المائدة ـ ٤٤ )( وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ) ( المائدة ـ ٤٦ ).

٩٧

فانّ تقفية النبيين الذين كانت نبوّتهم لقوم خاص قطعاً بعيسى بن مريم وكونه مصدقاً للتوارة المختصة ببني إسرائيل تشعر بكون نبوّته مثلهم أيضاً، وقال سبحانه:( وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) ( المائدة ـ ٧٢ ).

وقال سبحانه:( وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) ( آل عمران ـ ٤٩ ).

وقال سبحانه:( لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ) ( المائدة ـ ٧٠ )( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) ( المائدة ـ ٧٢ ).

ولا يخفى على القارئ ما فيها من الدلالة على كونه مبعوثاً إلى بني إسرائيل حيث جعل محور الكلام في الآيتين، المرسلين إلى بني إسرائيل وقال:( وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً ) ثم حكم بكفر من قال بأنّ الله هو المسيح بن مريم مشعراً بذلك بأنّ المسيح كان من المبعوثين إليهم وهم الذين ألبسوه لباس الالوهية وجعلوه إلهاً.

أضف إلى ذلك أنّ المسيح جعل محور الخطاب قوم بني إسرائيل وقال:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) ( المائدة ـ ٧٢ ).

نعم ظاهر بعض الآيات يفيد عمومية نبوّته ودعوته كما في قوله تعالى:( وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ *مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ) ( آل عمران ـ ٣ ـ ٤ ) ويعالج الاختلاف بما عالجنا به ما ورد في حق الكليم والتوراة، بأنّ الاستغراق في قوله:( لِلنَّاسِ ) عرفي لا عقلي ويراد من قومه: الكثيرون.

وقال العلّامة في شرح التجريد: ذهب قوم من النصارى إلى أنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله مبعوث إلى العرب خاصة(١) .

__________________

(١) كشف المراد: ص ٢٨٣ ط قم.

٩٨

فهذا إقرار منهم على عدم عمومية رسالة المسيح.

وقال الطبرسي(١) في تفسير قوله تعالى:( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم ) .

أي اذكر إذ قال عيسى بن مريم لقومه الذين بعث إليهم.

وقال العلّامة في تهذيبه عند البحث عن تعبّد النبي، قبل بعثته بدينه لا بدين من قبله من الرسل: الأقرب انّهعليه‌السلام قبل النبوّة لم يكن متعبّداً بشرع أحد وإلّا لاشتهر ولافتخر به أربابها ونمنع عموم دعوة من سبقهعليه‌السلام (٢) .

وقد عدّ العلّامة ذلك من خصائص بعثته إلى الناس كافة(٣) .

وها هنا سؤال: وهو أنّه إن كانت نبوّة المسيح مختصة ببني إسرائيل فلماذا جعل النبي نصارى العرب من أهل الذمة مثل يهود العرب وعامل النصارى واليهود معاملة واحدة مع أنّه ثبت أنّ الكليم كان مبعوثاً إلى خصوص بني إسرائيل ؟ والاجابة عن هذا السؤال سهلة: لأنّ من المحتمل جداً أنّ الرسول كان مأموراً بالحكم على كل متمسّك بالكتاب السماوي احتراماً للعنوان، لا لكون الكتاب نازلاً فيه كما هو الحال في اتباع المجوس، فعامل الرسول مع المتمسّكين بدين « زرادشت » معاملة المتمسّك بدين المجوس مع أنّ أهل الكتاب هو الثاني دون الأوّل.

ويؤيد كون رسالة المسيحعليه‌السلام لقوم خاص اُمور :

١. إنّ أجداد النبي واُسرة البيت الهاشمي وجميع الأحناف في الجزيرة العربية، كانوا على دين إبراهيم ولم ينقل أحد من أهل السير تهوّدهم أو تنصّرهم.

قال الزرقاني: إنّ العرب من عهد إبراهيم كانوا على دينه ولم يكفر أحد منهم إلى

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٥ ص ٢٧٩ طبع صيدا.

(٢) تهذيب الاُصول إلى علم الاُصول: ص ٥٦ الطبع الحجري.

(٣) التذكرة: ج ٢ اوائل كتاب النكاح والمطبوع منها غير مرقم.

٩٩

أن جاء عمرو بن لحي فهو أوّل من عبد الأصنام وغيّر دين إبراهيم وكان قريباً من كنانة جد النبي(١) .

٢. يظهر مما أنشأه عبد المطّلب في قصة أصحاب الفيل أنّه وقومه كانوا متحرّزين من النصارى على وجه الاطلاق حيث أنّه بعد ما رجع من عند « قائد الجيش » « إبرهة » آيساً من إنصرافه عن هدم الكعبة، أخذ بحلقة الباب قائلاً :

لا يغلبنّ صليبهم ومحا

لهم عدواً محالك(٢)

٣. ما رواه الحافظ البخاري: عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « اُعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد قبلي واُعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة »(٣) وفي بعض ألفاظ الحديث: « وكان كلّ نبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى كل أحمر وأسود ».

وقال الشيخ منصور علي ناصف في كتابه القيّم « التاج الجامع للاُصول » روي عن جابر عن النبي قال: « اُعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد من قبل، نصرت بالرعب مسيرت شهر وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً واُعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة »، رواه الخمسة إلّا أبا داود(٤) .

٤. روى الكليني عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : انّ الله تبارك وتعالى أعطى محمداً شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجعلت له الأرض مسجداً وطهوراً وأرسله كافة إلى الأبيض والأسود والجن والإنس(٥) .

فقد ظهر من هذا البحث الحديثي، أنّه لم تكن نبوّة الكليم والمسيح فضلاً عمّن كان قبلهم من إبراهيم ونوح تعم العالم كلّه، بل كانت دعوتهم اقليمية أو لقوم خاص

__________________

(١) سيرة ابن هشام: ج ١ ص ٧٩.

(٢) بحار الأنوار: ج ١٥ ص ١٤٥ نقلاً عن مناقب آل أبي طالب.

(٣) صحيح البخاري في مختلف كتبه، التيمم الباب الأوّل، الغسل الباب ٣٦ الصلاة الباب ٥٤.

(٤) يعنى رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجة راجع ج ١ ص ٣٠.

(٥) الكافي: ج ٢ باب الشرائع ص ١٧ طبعة دار الكتب الإسلامية.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543