مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407
المشاهدات: 100075
تحميل: 6287


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 100075 / تحميل: 6287
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 4

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-221-8
العربية

٨. انّ الإيمان إنّما يعد كمالاً إذا دفع إليه الإنسان باختياره وإذا كانت الآية المطلوبة أو المتمنّاة سبباً لإيمانهم الإلجائي فلا يجب، بل لا يحسن في منطق العقل القيام بها.

٩. إنّما يصح للنبي أن يقوم بمقترح قومه إذا لم يتعلّق طلبهم بما يكون على خلاف السنّة الحكيمة الجارية في الكون والحياة.

١٠. إنّما يصح أيضاً القيام إذا كان بين المطلوب والرسالة رابطة منطقية بحيث يصح الاستدلال بأحدهما على الآخر، فلو كانت الرابطة مفقودة فلا تصح في منطق العقل إجابة الاقتراح.

وأنت إذا استعرضت الآيات التي استدل بها الكتّاب المسيحيّون والمستشرقون على أنّه لم يكن للنبي الخاتم معجزة غير القرآن تقف وقوف مستشف للحقيقة على أنّ عدم قيامه بالمعجزات والآيات التي كانوا يطلبونها منه كان لأجل إحدى هذه العلل أو ما يضاهيها، وإليك استعراض هذه الآيات واحدة بعد أُخرى حتى تتجلّى الحقيقة بأجلى مظاهرها.

استعراض الآيات التي استدل بها القساوسة

الآية الأولى

قال سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (١) .

__________________

(١) البقرة: ١١٨.

١٢١

الظاهر أنّ القائلين هم مشركو العرب، بقرينة قوله:( الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) مشيراً إلى أنّهم ليسوا من أهل الكتاب، واستقربه الطبرسي في مجمعه(١) .

وهذه الآية تدلّ على أنّهم طلبوا من النبي أمرين :

أ. لولا يكلّمهم الله سبحانه.

ب. لماذا لا تأتي الآية إليهم أنفسهم ؟

وكلا السؤالين ساقطان في منطق العقل، بملاحظة الشرائط المصححة لطلب الإعجاز التي مرّت.

أمّا السؤال الأوّل: فإن كان مرادهم هلا يكلّمنا الله معاينة، فهو محال، لأنّه يستلزم جسمانيته سبحانه.

وإن كان مرادهم تكليمهم مخبراً بأنّ مدّعي النبوة نبي، ولكن لا بالمعاينة، بل بإحدى الطرق المألوفة من إسماعهم، فهو وإن كان أمراً ممكناً لكنه لا يفيدهم الإذعان، إذ من الممكن اتهام ذلك الإسماع بالسحر كما قالوا ذلك في غير هذا المورد.

وأوضح في البطلان لو كان مرادهم لولا يكلمنا الله مثلما كلّم موسى وغيره من الأنبياء، فإنّ هذا يستلزم نزول الوحي عليهم، وهو يتوقف على توفر شرائط معينة، وهي غير موجودة إلّا في أفراد قلائل.

ولا يقل عنه في البطلان لو كان مرادهم سماع الوحي النازل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ السماع متوقف ـ كذلك ـ على توفر الشرائط غير الموجودة في المشركين. وعلى فرض الإسماع لا يفيدهم الإذعان لإمكان اتّهامه بالسحر أيضاً.

وهذه الوجوه الأربعة محتملات لقولهم( لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ ) وهي كما ترى غير

__________________

(١) ج ١ / ١٩٥.

١٢٢

مستحقة للإجابة بل جديرة بالاعراض.

أضف إلى ذلك أنّ المحتمل الثالث ـ وهو تكليم الله إياهم كتكليمه سائر الأنبياء ـ يستلزم لغوية بعث الأنبياء الذي جرت عليه سنّة الله من لدن نزول آدم إلى الأرض.

وقد نقل هذا السؤال في مورد آخر، حيث حكاه سبحانه بقوله:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) (١) . وكأنّ كل واحد من أفراد المشركين يتوقع أنّ تنزل عليه صحائف فيها تكاليفه، وهي تؤيد أنّ مرادهم من تكليمه إيّاهم هو المحتمل الثالث. هذا كلّه حول السؤال الأوّل.

وأمّا السؤال الثاني: أعني قوله:( أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ) فهو يشير إلى أنّهم طلبوا من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ظهور المعاجز على أيديهم، وهذا السؤال سخيف جداً، إذ ظهور المعاجز على أيديهم يتوقف على توفر شرائط غير موجودة في المشركين ولا في غيرهم إلّا في أفراد قلائل، أعني: الأنبياء والمرسلين.

ويحتمل أن يكون المراد: أن يأتي النبي بآية موافقة لطلبهم. ويشير إليه قوله في ذيل الآية( كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ ) (٢) . حيث اقترح اليهود الآيات على موسى، والنصارى على المسيح.

ولكن عدم إجابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لاقتراحهم، لأنّه كان فيما أتى به من الحجج والمعاجز الباهرة كفاية لمن كان بصدد تحصيل اليقين ولمن ترك التعنّت والعناد.

وإلى هذا الجواب أشار سبحانه في ذيل الآية( قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٣) .

__________________

(١) المدثر: ٥٢.

(٢) و (٣) البقرة: ١١٨.

١٢٣

على أنّه من المحتمل أيضاً أن تكون الآيات المطلوبة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الأمور المستحيلة، ويقرب من ذلك قوله سبحانه في نفس الآية:( كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) ومن المعلوم أنّ اليهود طلبوا من موسى رؤية الله جهرة.

وقوله سبحانه:( تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) يشير إلى أنّ سؤالهم كان أشبه بسؤال من تقدّمهم في الكفر والقسوة والتعنت والعناد، ولذلك قال سبحانه في موضع آخر:( كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِن رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ *أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ *فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ) (١) .

والحاصل: أنّ ذيل الآية يشير إلى أنّ الواجب على الله في هداية الناس هو بعث الأنبياء وتزويدهم بالدلائل والمعاجز التي تثبت بوضوح صلتهم بالله وصدق مقالتهم، وأمّا إجراء المعاجز المطلوبة منهم على أيديهم فليس بواجب في منطق العقل إذ لمن يريد تحصيل اليقين كفاية فيما أتوا به من المعاجز.

الآية الثانية

قال سبحانه:( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَاناً مُبِيناً ) (٢) .

إنّ الآية تدلّ على أنّ أهل الكتاب سألوا النبي أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، وهذا السؤال يحتمل وجوهاً نأتي بجميعها، وسوف يرى القارئ انّ الوجوه

__________________

(١) الذاريات: ٥٢ ـ ٥٤.

(٢) النساء: ١٥٣.

١٢٤

المحتملة كلّها غير جامعة للشرائط المصححة لقيام النبي بإجابة طلبهم، وإليك هذه الاحتمالات :

١. أن يعرج النبي إلى السماء ويرجع مع كتاب اليهم وقد سأل المشركون نظير ذلك حيث حكى الله سبحانه عنهم في سورة الإسراء إذ قال:( أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ) (١) وكيفية السؤال هذه، تدلّ على أنّهم لم يكونوا بصدد كشف الحقيقة، لأنّ في واحد من الأمرين ( العروج إلى السماء وحده، أو نزول الكتاب إلى النبي مع عدم عروجه ) كفاية، فطلب الأمرين معاً يكشف عن أنّهم لم يتخذوا لأنفسهم موقف المتحري للحقيقة، بل كانوا يتبعون في سؤالهم هوسهم، وهواهم.

٢. أن ينزل النبي عليهم أنفسهم كتاباً من السماء مكتوباً كما كانت التوراة مكتوبة من عند الله في الألواح حتى يروا نزول الكتاب من السماء بأُمّ أعينهم.

ولكن هذا الاحتمال أيضاً ينبئ عن أنّهم اتخذوا لأنفسهم موضع اللجاج والعناد كما ينبئ عن ذلك تشبيه هذا السؤال بسؤال بني إسرائيل من نبيهم موسى حيث قال:( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ) وعندئذ لا يجب في منطق العقل الإجابة على هذا السؤال، لأنّ موقف السائل لو كان موقف المستشف للحقيقة لاكتفى بما زوّد به النبي من المعاجز، ولما شبّه الله سبحانه سؤالهم بسؤال بني إسرائيل من نبيهم، علم منه أنّهم لم يكونوا في موقف المتحرّي للحقيقة.

أضف إلى ذلك أنّه لو قام النبي بهذا الإعجاز كان من المحتمل جداً أن لا يؤمن به أهل الكتاب أيضاً، وعندئذ يسقط القيام بالإعجاز لما قلنا أنّه إنّما يجب القيام بالمعاجز المقترحة إذا كان هناك مظنة إيمان السائل.

__________________

(١) الإسراء: ٩٣.

١٢٥

ويدل على ما ذكرنا من الاحتمال أنّه سبحانه يقول:( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) (١) .

وليس لقائل أن يقول: إنّ هذه الآية واردة في حق المشركين ولم يعلم وحدة تفكيرهم مع أهل الكتاب، وذلك لأنّ المراد من أهل الكتاب في الآية هم اليهود القاطنون في المدينة وما حولها، وهم كانوا أشد الناس عناداً ولجاجاً في حق النبي بدليل أنّ أكثر المشركين اعتنقوا الإسلام واختاروه دونهم إذ بقوا على شريعتهم، ولم يؤمن إلّا قليل منهم.

ثم إنّ في الإجابة على هذا الاقتراح ضرباً من الإهانة للقرآن والاستهانة به، فإنّ طلب نزول الكتاب عليهم من السماء، ينبئ عن أنّ القرآن النازل على قلب النبي لم يكن كافياً في إثبات نبوّته، وتصديق رسالته وانّما يجب التصديق إذا رئي نزول القرآن بأُمّ الأعين.

على أنّ كيفية السؤال تنبئ عن الاعتقاد الفاسد، وهو أنّ الله تعالى جسم واقع في السماء، ولأجل ذلك اقترحوا على النبي أن ينزل الله سبحانه كتاباً من السماء يرون نزوله برأي العين.

ولنفترض قيام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بإجابة هذا السؤال، أو ليست تلك الإجابة توجب أن يطمع الآخرون في هذا الأمر ويطلبوا من النبي أن يفعل لهم ما فعل لغيرهم، المرة بعد المرّة، والكرّة بعد الأخرى، مع كثرة القبائل وتعدّد البطون، وعندئذ تصبح النبوّة العوبة بأيدي الجهّال، ويصبح مثله كمثل المرتاضين والسحرة الذين غدوا أداة طيّعة لترفيه الناس.

هذه الوجوه ترد على هذا المحتمل من السؤال، غير أنّ هاهنا إشكالاً آخر، وهو أنّه لو قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الوجه من السؤال وهو أن ينزل عليهم كتاباً من

__________________

(١) الأنعام: ٧.

١٢٦

ا لسماء مكتوباً كما كانت التوراة مكتوبة من عند الله في الألواح ـ إذ على هذا الوجه ـ لفاتت المصالح المترتبة على نزول القرآن تدريجياً، فإن لنزول القرآن نجوماً عللاً وغايات أُشير إليها في الكتاب العزيز، كما أُشير إلى اعتراض المشركين بأنّه لماذا لا ينزل عليه القرآن جملة واحدة، قال سبحانه،( وَقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً *وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ) (١) . إذ في نزول القرآن نجوماً أسرار قد أُشير في الآية إلى واحد منها وهو تثبيت فؤاد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنزول القرآن مكتوباً مرّة واحدة يوجب فوات فوائد موجودة في النزول التدريجي، وإليك بعض هذه الأسرار والفوائد :

أ. تثبيت فؤاد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتحمل مسؤولية ضخمة جداً، وكان يواجه في هذا السبيل صعوبات ومشقات، كان لا بد له من إمداد غيبي غير منقطع، ونجدة إلهية متصلة، ولهذا كان نزول الوحي تدريجياً موجباً لتسلية النبي وتقوية روحه وعزيمته، وإلى هذا أشارت الآية:( كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) (٢) .

ب. تسهيل عملية التعليم

إنّ صعوبة مهمة التعليم كانت تقتضي أن يتنزّل القرآن شيئاً فشيئاً ليسهل تعليمه للناس، وإلقاؤه إليهم، كيف لا ؟! والنبي طبيب يعالج النفوس ويداوي الأرواح، وذلك يقتضي التدرّج في العلاج.

__________________

(١) الفرقان: ٣٢ ـ ٣٣.

(٢) الفرقان: ٣٢.

١٢٧

وإن شئت قلت: إنّ أفضل الطرق للتعليم والتربية هو أن يتعانق ويتصافق الفكر والعمل ويتزامن التعليم والتطبيق وأن يردف المربي ما يلقيه بالعمل، وهذا لا يتحقق إلّا بنزول القرآن تدريجياً وحسب الحوائج والأسئلة، ويفوت ذلك في نزوله مكتوباً جملة واحدة.

ج. التدليل على صدق الرسالة

إنّ التدرّج في التنزيل أحد الأدلة الساطعة على صدق القرآن في انتسابه إلى الله، وأنّه وحي سماوي لا تأليف بشري، إذ أنّ نزول الآيات في مواسم وظروف متفاوتة مع حفظ النمط الخاص به ـ رغم ما يواجه به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته الرسالية من شدة ورخاء، وهدوء واضطراب، وسلم وحرب ـ خير دليل على أنّ هذا الكلام ليس إلّا وحياً يوحى إليه من إله قادر حكيم محيط خالق عالم، فيكون ذلك أظهر برهان لعظمة القرآن، وأقوى دليل على إعجازه، فهل في وسع النبي أو في وسع المنطق أن يرفض تلك المزايا ويصغي إلى مقترحات أهل الكتاب بإنزال الكتاب مكتوباً جملة واحدة على غرار التوراة والإنجيل ؟!

٣. وربّما يفسر قولهم:( حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ) بأنّهم سألوا النبي أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتاباً يأمرهم الله تعالى فيه بتصديقه واتّباعه(١) .

ونقله في الكشاف بقوله: ان ينزل كتاباً إلى فلان وكتاباً إلى فلان بأنّك رسول الله(٢) .

ومن المعلوم انّ هذا السؤال يكشف عن تعنّتهم وعنادهم، ولو قام به النبي ولبّى طلبهم، لطمع الآخرون في ذلك وصارت النبوة إلعوبة بأيدي الناس.

__________________

(١) مجمع البيان: ٢ / ١٣٣.

(٢) الكشاف: ١ / ٤٣٤.

١٢٨

الآية الثالثة

قال سبحانه:( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

وهذه الآية ممّا تمسك بها الملاحدة على المسلمين، فقالوا: تدلّ على أنّ الله تعالى لم ينزل على محمد آية، إذ لو نزلها لذكرها عند سؤال المشركين إيّاها(٢) .

وقد صاغ رجال التبشير هذا الإشكال في قالب خاص، وقالوا: إنّ الآية تدلّ على أنّه كلّما سئل محمد عن المعاجز أعرض عن السؤال وقال: إنّ الله قادر على الإنزال كما ورد في هذه الآية، ومعلوم أنّ هذا الجواب لا يكفي السائل، لأنّ قدرته سبحانه على الإتيان غير منكرة، وانّما السؤال هو طلب خروج هذا الإمكان إلى مرحلة الفعلية، فالجواب الوارد في الآية لا يدفع الاعتراض.

أقول: تحقيق مفاد الآية يتوقف على البحث حول أمرين :

الأوّل: لماذا لم يجب النبي دعوتهم، ولم يقم بالإتيان بمطلوبهم ؟

الثاني: كيف يرتبط الجواب الوارد في الآية، أعني قوله:( قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً ) بكلامهم أعني:( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ) ؟

فنقول: أمّا الأمر الأوّل انّ الآيات المتقدمة على هذه الآية تدل بوضوح على أنّ الطالبين لم يكونوا بصدد الإيمان وطلب الحقيقة، فلاحظ قوله سبحانه قبل هذه الآية إذ يقول:( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَىٰ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ *إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ

__________________

(١) الأنعام: ٣٧.

(٢) مجمع البيان: ٢ / ٢٩٦.

١٢٩

يُرْجَعُونَ ) (١) .

وهاتان الآيتان الواردتان قبل هذه الآية تكشفان عن أنّه ما كان يرجى إيمان المعترضين وإذعانهم، ولأجل ذلك يخاطب سبحانه نبيه: بأنّك إن قدرت وتهيأ لك أن تتخذ طريقاً إلى جوف الأرض أو سلّماً في السماء فتأتيهم بآية، فافعل ذلك لكنهم لا يؤمنون لك(٢) .

ثم يضيف سبحانه ويشبههم بالموتى ويقول:( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللهُ ) مريداً أنّ هؤلاء لا يصغون إليك فهم بمنزلة الموتى، فكل إنسان عاقل، آيس من أن يسمع الموتى، كلامه فهؤلاء بمنزلتهم لا يستجيبون لك، ومعنى الآية: انّما يستجيب المؤمن السامع للحق فأمّا الكافر فهو بمنزلة الميت، فلا يجيب إلى أن يبعثه الله تعالى يوم القيامة ليلجئه إلى الإيمان.

أضف إلى ذلك أنّه يحتمل أن يكون مقترحهم أحد أمرين :

الأوّل: أن يكون مقترحهم نزول الملك عليهم، كما يحكي عنهم سبحانه في تلك السورة ويقول:( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ *وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ ) (٣) .

إنّ نزول الملك يمكن أن يتم بإحدى صورتين :

١. نزول الملك بصورته الواقعية، ومن المعلوم انّ رؤية الملك بهذا الشكل متوقفة على توفر شرائط في الناظر، وهم كانوا فاقدين لها، ومن الممكن جداً أن تستلزم تلك الرؤية القضاء عليهم بالموت كما قال سبحانه:( وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ ) .

__________________

(١) الأنعام: ٣٥ ـ ٣٦.

(٢) هذا جواب الجملة الشرطية الواردة في الآية، حذف لمعلوميته.

(٣) الأنعام: ٨ ـ ٩.

١٣٠

قال العلّامة الطباطبائي: إنّ نفوس المتوغلين في عالم المادة لا تطيق مشاهدة الملائكة لو نزلوا عليهم واختلطوا بهم لكون ظرفهم غير ظرف الملائكة، فلو وقع الناس في ظرفهم لم يكن ذلك إلّا انتقالاً منهم من حضيض المادة إلى ذروة ما وراءها وهو الموت كما قال تعالى:( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً *يَوْمَ يَرَوْنَ المَلَائِكَةَ لا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) (١) .(٢)

ولأجل ذلك قال في مورد الآية:( وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ) .

٢. نزول الملك بصورة الإنسان، وحينئذ لا يفيد ذلك إذعاناً بأنّ هذا ملك مجسد في صورة إنسان، بل زعموا أنّه إنسان داع إلى الله أو مصدق لنبيّه، شاهد على نبوته، وإلى ذلك يشير سبحانه:( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ ) .

الثاني: يحتمل أن يكون مقترحهم هو الذي حكى الله عنه في سورة الفرقان بقوله:( لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً *أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُوراً ) (٣) وحكاه عنهم أيضاً في سورة الزخرف حيث قال:( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَٰذَا القُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (٤) .

ومن المعلوم أنّ كون الرجل ذا ثروة طائلة لا يكون آية لصحة دعوته، وإلاّ لكان كل ثري نبياً.

__________________

(١) الفرقان: ٢٢.

(٢) الميزان: ٧ / ١٦.

(٣) الفرقان: ٨.

(٤) الزخرف: ٣١.

١٣١

وبهذه الملاحظات يذعن القارئ بأنّه لم يكن المقام مظنة القيام بطلب المدعو لما عرفت من الشرائط المصحّحة لإجابة النبي.

إلى هنا تبيّن أنّ عدم قيام النبي بالإجابة لمقترحهم لأجل ما عرفت في بعض المقدمات من أنّ شرط القيام بالطلب هو كون الطالب بصدد تحصيل الإيمان وكشف الحقيقة لا التعنت والعناد، وهؤلاء بحكم هاتين الآيتين لم يتخذوا موقفاً سوى العناد واللجاج.

وأمّا الجواب عن السؤال الثاني: الذي ركن إليه المستشرقون وقالوا: بأنّ الجواب الوارد في الآية لا يرتبط بالسؤال، لأنّ السؤال عن الوقوع، والجواب بالإمكان.

فنقول: إنّ هذا الاعتراض ينشأ من عدم الاطلاع على عقائد العرب الجاهليين في باب التوحيد، فإنّ طائفة من المشركين وإن كانوا يوحّدون الله تعالى في ذاته ويقولون: إنّه واحد، كما يوحّدونه في الخالقية ويعتقدون بأنّه لا خالق سواه، ولكن كانوا مشركين في مسألة التدبير والربوبية التي هي إحدى شعب التوحيد.

وحاصل عقيدتهم أنّ الله سبحانه ترك أمر التدبير إلى آلهة صغيرة فهم الذين يقومون بتدبير الكون وتصريف الأمور، وانّه سبحانه تخلّى عن مسند القدرة وتدبير العالم بكافة شؤونه وفوّض الأمر إليهم، ولأجل ذلك كانوا يعبدونها زاعمين بأنّهم يدبرون العالم وينزلون المطر، إلى غير ذلك من مظاهر التدبير.

هذا من جانب، ومن جانب آخر اعتقدوا بأنّ النبي إذا رفض عبودية هؤلاء الآلهة ورفض عبادتها، فحينئذ لا يوجد ـ حسب اعتقادهم ـ من يجري الإعجاز على يده، فإنّ الله سبحانه منعزل عن تدبير الكون، وأمّا هولاء الآلهة فقد نفاهم محمد وصار مغضوباً عندهم، فصارت نتيجة ذلك أنّ الله تعالى حسب انعزاله عن

١٣٢

التدبير غير قادر على إنزال الآية المعجزة، فعند ذلك أجاب القرآن رداً على زعمهم:( قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

ولذلك حقر السائلون إلٰه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله بقولهم:( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ) ولم يقولوا من ربّنا، أو من الله، فهذا الازدراء أكبر دليل على أنّهم كانوا يعتقدون أنّ الإله الذي يدعو إليه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله مسلوب القدرة عندهم، فعندئذ صح أن يجاب بجملة:( قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

ومن الممكن أن يكون المشركون متأثرين بعقيدة اليهود الذين قالوا:( يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) (١) وانّه سبحانه غير قادر على تغيير الكون وخرق العادة، ولأجل ذلك يجيب سبحانه أنّ الله قادر على أن ينزل آية.

ثمّ إنّ لصاحب المنار كلاماً في تفسير الآية يشير إلى بعض ما ذكرناه، فلاحظ(٢) .

الآية الرابعة

قال سبحانه:( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَىٰ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ ) (٣) .

استدل بعض الكتاب المسيحيين بهذه الآية على أمرين :

الأوّل: انّه سبحانه يعاتب بهذه الآية نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله مع أنّ مكانته عند المسلمين فوق العتاب.

__________________

(١) المائدة: ٦٤.

(٢) تفسير المنار: ٨ / ٣٨٧.

(٣) الأنعام: ٣٥.

١٣٣

الثاني: أنّ الآية تشهد على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان حزيناً لعدم إعطائه أيّة معجزة له موجبة لإيمان قومه. وهذا يضاد ما عليه المسلمون من أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان صاحب معجزات وكرامات غير القرآن.

ولكنّ الاستنتاجين باطلان جداً، وقد نبعا من عناد الكاتب للنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وبغضه له، وليست في الآية أيّة دلالة عليهما.

أمّا الأمر الأوّل: فلأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يهتم بإيمان قومه وهدايتهم، وتدلّ على ذلك آيات في الكتاب العزيز :

١.( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (١) .

٢.( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (٢) .

٣.( إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ ) (٣) .

وهذه الآيات تكشف عن حرص النبي على هداية قومه، ولكن القوم كانوا في منأى عن قبول دعوته، بسبب عنادهم ولجاجهم.

فالآية بصدد تهدئة خاطرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ إصراره على هدايتهم غير مجد لأنّهم موتى والموتى لا يسمعون شيئاً، ولأجل ذلك قال سبحانه بعد هذه الآية:( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) (٤) . فانّهم بمنزلة الموتى لا شعور لهم ولا سمع حتى يتأثروا بالدعوة الإلهية ويسمعوا نداء النبي لهم ،

__________________

(١) التوبة: ١٢٨.

(٢) يوسف: ١٠٣.

(٣) النحل: ٣٧.

(٤) الأنعام: ٣٦.

١٣٤

فهذه الهياكل من الناس صنفان :

صنف منهم: أحياء يسمعون، وهؤلاء يستجيبون لدعوة الهداة المخلصين.

وصنف منهم: أموات لا يسمعون وإن كانوا ظاهراً بصورة الأحياء. وهؤلاء لا يسمعون إلّا أن يبعثهم الله، فيسمعون ما لم يستطيعوا سمعه في الدنيا كما حكاه الله عنهم:( وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) .(١) وقال سبحانه:( لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ ) (٢) وقال سبحانه:( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَىٰ وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ *وَمَا أَنتَ بِهَادِي العُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُسْلِمُونَ ) (٣) . والآية تدل على أنّ الكفّار والمشركين سيفهمهم الله الحق ويسمعهم دعوته في الآخرة كما أفهم المؤمنين وأسمعهم في الدنيا، فالإنسان ـ مؤمناً كان أو كافراً ـ لا مناص له عن فهم الحق عاجلاً أو آجلاً(٤) .

فأي كلمة أو جملة تدلّ على عتاب النبي وزجره، فإنّما هي تهدئة من الله سبحانه لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله وانّه قام بوظيفته الرسالية أحسن قيام، والتقصير إنّما هو من قومه المعاندين.

وأمّا الثاني: أي دلالة الآية على عدم إعطاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أيّة معجزة، فهو غفلة عن معنى الآية، لما عرفت من أنّ الآية تمثل مدى اهتمام النبي بهداية قومه وتبين مقدار حرصه على إسلامهم، وتهالكه في إسعادهم، وانّه قد بلغ في ذلك الحرص

__________________

(١) السجدة: ١٢.

(٢) ق: ٢٢.

(٣) النمل: ٨٠ ـ ٨١.

(٤) الميزان: ٧ / ٦٦.

١٣٥

مبلغاً لو استطاع أن يستخرج لهم من بطون الأرض أو من فوق السماء آية لفعل وأتى بها حتى يؤمنوا، وعلى ذلك فالآية التي يتمنّاها النبي هي الآية التي تكون ملجئة لهم إلى الإيمان وتجرّهم إلى الإذعان من غير اختيار، فمعنى الآية أيّها النبي قد بلغت في اهتمامك بهداية الناس مبلغاً ان قدرت وتهيأ لك أن تتخذ نفقاً في الأرض أو مصعداً في السماء فتأتيهم بآية وحجة تلجئهم إلى الإيمان وتجمعهم على ترك الكفر « لفعلت » أو « فافعل ذلك » ولو شاء الله « لجمعهم على الهدى » بالإلجاء وأعطاك تلك المعجزة الملجئة إلى الإيمان، ولكن لم يفعل ذلك لأنّه ينافي الغاية المتوخاة من التكليف ويسقط استحقاق الثواب.

وإن شئت قلت: إنّ الآية تهدف إلى أنّه لا ينبغي للنبي أن يكبر ويشق عليه إعراضهم فانّ الدار دار الاختبار، والدعوة إلى الحق وقبولها جاريان مجرى الاختيار، وانّ النبي لا يقدر على الحصول على الآية الملجئة إلى الإيمان، لأنّه سبحانه لم يرد من الناس الايمان إلّا عن اختيار منهم، فلم يعط للنبي آية تجبر الناس على الإيمان والطاعة، ولو شاء الله لآمن الناس ـ على طريق الإلجاء ـ جميعاً، والتحق هؤلاء الكافرون بالمؤمنين ولكن تلك المشيئة غير واقعة، لأنّها على خلاف السنّة الحكيمة التي عليها أفعاله سبحانه.

وبذلك يتبين انّ الآية إنّما تنفي المعجزة الملجئة إلى الإيمان بقرينة قوله:( وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَىٰ ) لا المعجزة التي يكون الأفراد اتجاهها مختارين في الإيمان والكفر.

وبذلك يتبين مفاد كثير من الآيات الواردة حول الهداية والضلالة، وربّما يتوهم منها الغافل الجبر في أمر الهداية، قال سبحانه:( وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (١) .

__________________

(١) السجدة: ١٣.

١٣٦

وهذه الآية نظير قوله سبحانه:( فَالحَقُّ وَالحَقَّ أَقُولُ *لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) (١) .

وهذه الآيات ونظائرها تفيد أنّ مشيئته سبحانه لم تتعلّق بهداية الناس أجمعين، ولو تعلّقت لآمن كلّهم، ولكن المشيئة المنفية في أمر الهداية هي المشيئة التكوينية التي لا تنفك عن المراد، وتوجب إيمان الناس من غير اختيار. غير أنّه لما كان هذا الإيمان والإذعان لا قيمة له في عالم المعرفة لم تتعلّق مشيئته تعالى بهذا النحو من الهداية الجبرية، بل ترك الناس أحراراً قال سبحانه:( إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ) (٢) . وقال سبحانه:( إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ *لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ) (٣) .

فقد خرجنا إلى هنا بهذه النتائج :

١. انّ المعجزة المنتفية هي المعجزة الملجئة لا المعجزة على الإطلاق.

٢. انّ مشيئته التشريعية قد تعلّقت بهداية الناس جميعاً، ولأجل ذلك بعث الأنبياء وجهّزهم بالدلائل والبراهين الكافية.

٣. لم تتعلّق مشيئته التكوينية بهدايتهم، لأنّ الإيمان عقيب هذه الإرادة إيمان قسري لا قيمة له.

نعم إنّ هاهنا سؤالاً صحيحاً ربّما يختلج في بعض الأذهان، وهو أنّ الآيات الواردة حول اختيار الإنسان وإرادته تصرح بأنّ مشيئة الإنسان متوقفة على مشيئته سبحانه فليس لبشرٍ أن يختار أمراً أو يتبع سبباً خارجاً عن إطار إرادته سبحانه ومشيئته، فالموجود الممكن بما أنّه ممكن ليس له أن يفعل أو يترك شيئاً خارجاً عن

__________________

(١) ص: ٨٤ ـ ٨٥.

(٢) الإنسان: ٢٩.

(٣) التكوير: ٢٧ ـ ٢٨.

١٣٧

إطار إرادته سبحانه، وبذلك يصرّح سبحانه ويقول:( وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ ) (١) ويقول:( وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (٢) .

وعند ذلك يطرح هذا السؤال وهو: انّ اختيار من يختار الهداية على الضلال، أو العكس، تابع لمشيئته سبحانه فيعود الجبر والاضطرار، فكيف الجواب ؟

غير انّ الإجابة على هذا السؤال واضحة لمن له إلمام بالآيات الواردة حول مشيئته سبحانه في القرآن الكريم، فانّ تعلق مشيئته بهداية إنسان أو ضلالته ليس تعلقاً اعتباطياً، بل مشيئته تكون في ضوء ما يميل إليه الإنسان في قرار نفسه فلو كان منيباً إلى ربّه وجاعلاً نفسه في معرض هدايته ومسير رحمته تتعلق مشيئته سبحانه بهدايته، قال سبحانه:( وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ) ، أي من انعطف ورجع إليه سبحانه.

كما أنّ من أخلد نفسه إلى الأرض وامتنع من التخلص من آثار المادة فلا محالة تتعلق مشيئته بضلاله، قال سبحانه:( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ) (٣) .

وقال سبحانه:( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) (٤) وقال:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الفَاسِقِينَ ) (٥) . وقال سبحانه:( فَبِمَا نَقْضِهِم مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ) (٦) .

__________________

(١) الإنسان: ٣٠.

(٢) التكوير: ٢٩.

(٣) الأعراف: ١٧٥.

(٤) الصف: ٥.

(٥) البقرة: ٢٦.

(٦) المائدة: ١٣.

١٣٨

كل هذه الآيات تصرّح بوضوح بأنَّ مشيئته المتعلّقة بهداية الناس أو ضلالتهم إنّما تكون في ضوء ما يميل إليه العبد، ويحصل العشق به في قرارة نفسه، ولا يهدي الله سبحانه إلّا من تعرّض لرحمته واستعد لهدايته، قال سبحانه:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ ) (١) .

الآية الخامسة

قوله سبحانه:( اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ لا إِلَٰهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ *وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ *وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ *وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ *وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) (٢) .

وقد استدل بعض المعاندين بالآية الرابعة من هذه الآيات على أنَّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن مزوداً بأيّة معجزة قائلاً: بأنّه لو كان مزوّداً بها لما أجابهم القرآن بقوله:( قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللهِ ) بل يأمر نبيّه بالإتيان بها ويصرّح القرآن بها.

هذا اعتراض الكاتب ويعلم قيمته إذا قمنا بتفسير ما تهدف إليه هذه الآيات من المطالب فنقول :

__________________

(١) العنكبوت: ٦٩.

(٢) الأنعام: ١٠٦ ـ ١١١.

١٣٩

إنّه سبحانه قد أتى في مقام الرد على حلفهم بأنّهم ليؤمنن إذا جيئ بالآيات بأُمور خمسة، وإليك شرحها :

١.( قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللهِ ) وهذه الجملة تهدف إلى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس مفوضاً إليه أمر الإعجاز فيقوم به في أيّ وقت شاء، بل هو يتبع إرادته سبحانه وإذنه، وقد جاء مفاد الجملة في غير موضع من القرآن قال سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ ) (١) .

ومعلوم أنّ إذنه سبحانه موقوف على توفر شرائط في خرق العادة والإتيان بالمعاجز أهمها وجود استعداد للهداية في المقترحين والطالبين. وسيوافيك فقدان هذا الشرط في المقام.

٢.( وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ) وهذه الجملة تهدف إلى أنّه ما يدريكم أنّ الآية التي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بها، وبما أنّ المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم فيتمنون مجيئ الآية، فقال الله عزّ وجلّ رداً على تمنّيهم: بأنّهم ما يدريكم أنَّهم لا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أوَّل مرَّةٍ.

وما ذكره الكاتب من أنّ الإعجاز خرق للعادة والناس ينظرون إلى خارقها بنظر الإعجاز فيقتفون أثره عندما جاء فكيف يقول سبحانه:( إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ) جهل منه بتاريخ الأمم، أو تجاهل به، لقد كانت دعوة الأنبياء في كل العصور مزوّدة بالآيات والبيّنات، ومع ذلك لم يؤمن بهم إلّا قليل من الناس.

وهذا صالح نبي ثمود إذ دعا قومه إلى ترك عبادة الأوثان والأصنام وأتى لهم بآية باهرة، وقال لهم:( وَيَا قَوْمِ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ *فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ

__________________

(١) الرعد: ٣٨.

١٤٠