مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407
المشاهدات: 99886
تحميل: 6274


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 99886 / تحميل: 6274
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 4

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-221-8
العربية

أنّ الإنسان التائب محكوم بحكم آخر، والاختلاف في الحكم لأجل الاختلاف في الموضوع، والتبدّل في ناحية المعلوم دون العلم وإلاّ فالحاكم العادل قد علم وحكم من الأزل بحكمين مختلفين على موضوعين متفاوتين، قال عز من قائل:( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١) فقد حكم على الإنسان المشرك بالقتل وعلى الإنسان الذي تاب من شركه بالتخلية لسبيله وإطلاق سراحه وعدم التعرض له، ولا يعد الثاني ناقضاً للحكم الأوّل.

والمثال لا ينحصر بما ذكرناه بل هناك مئات الأمثلة وآلاف الشواهد من هذا القبيل، ولا يعد أي عاقل، الحكم الثاني، ناقضاً للحكم الأوّل.

ولنأت بمثال ثالث تتميماً للوضوح: لا شك انّ لله سبحانه أوامر جدية، وأُخرى امتحانية ولكل غايته وهدفه الخاص، والهدف في الأوامر الجدية هو إحراز المكلف ما يترتب على الموضوع من المصالح كإقامة الصلاة لأجل كونها ناهيةً عن الفحشاء والمنكر، لقوله:( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ ) (٢) وأمّا الأوامر الامتحانية فليس الهدف منها إلّا جعل العبد في بوتقة الامتحان حتى يتفتح كل ما يملك من الكمال بصورة القوة والاستعداد ويدخل إلى مرحلة الفعلية، التي هي الكمال لما هو أمر بالقوة، وهذا كجعل تراب الحديد حديداً خالصاً من خلال التذويب في المصانع الخاصة فتكون المصائب والمتاعب التي يمر بها العبد في طريق امتثاله للأوامر الامتحانية بمثابة الحرارة المتوجهة إلى التراب المعدني في إبراز كمالاته، وإخراج جوهره.

__________________

(١) التوبة: ٥.

(٢) العنكبوت: ٤٥.

٢٦١

فإبراهيم الخليل كان يملك كمالاً بالقوة وهو ترك ما سوى الله في طريق أمره سبحانه، ولكن هذا الكمال كان مكنوناً في ذاته، مركوزاً في وجوده فأراد الله سبحانه إظهار ذلك الكمال وإبرازه من مكمن وجوده إلى ساحة الفعلية والتحقّق، فأمره سبحانه بذبح الولد وهو قد أخذ بيد ولده وصار به إلى المذبح، فأراد ذبحه امتثالاً لأمره سبحانه، فأظهر بذلك أنّه يؤثر طاعته سبحانه على كل ما يملك من العواطف القلبية لولده العزيز، فعند ذاك تفتح ذاك الكمال وصار إلى مرحلة الظهور، وتحققت الغاية من أمره تعالى، وجاء أمره سبحانه مخاطباً إيّاه( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ *إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ *وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) (١) .

فهناك حكمان على موضوعين مختلفين فالخليل المالك للكمال بالقوة مخاطب بذبح الولد، والخليل الواصل إلى هذه الذروة من الكمال، مخاطب بحكم آخر، وهو التفدية عنه بذبح عظيم، ولا يعد كل ناقضاً للآخر بل الاختلاف في الحكم أثر الاختلاف في الموضوع.

وعلى هذا الأساس تبيّن انّ اختلاف الحكم بالشفاعة في مورد العاصي من قبيل اختلاف الحكم حسب اختلاف الموضوع.

وتوضيح ذلك: انّ العاصي بما هو عاص وبما انّه مجرّد عن انضمام الشفاعة إليه، محكوم بالعقاب، ولكنّه بانضمام الشفاعة إليه، محكوم بحكم آخر، واختلاف الحكمين أثر اختلاف الموضوعين بالإطلاق والتقييد.

وإن شئت قلت: إنّ العاصي مجرداً عما يمر عليه في البرزخ من العذاب وما يستتبع ذلك العذاب من الصفاء في روحه، ومجرداً عن دعاء الشفيع في حقه ،

__________________

(١) الصافات: ١٠٥ ـ ١٠٧.

٢٦٢

محكوم بالحكم الأوّل، ولكنه منضماً إلى هذه الضمائم الثلاث محكوم بالمغفرة، فإذا أردت أن تمثل لتبيين حقيقة الشفاعة فعليك انّ تقول: إنّ نسبة الحكم الثاني إلى الحكم الأوّل ليس كنسبة الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف بالنسبة إلى حكم المحكمة الابتدائية الذي يعد الثاني ناقضاً للحكم الأوّل، بل هو من قبيل الحكم الصادر في حق المجرم إذا جلب رضا المشتكي بالنسبة إلى الحكم الصادر في حقه قبل جلب رضاه، فالاختلاف والتفاوت في الحكم لأجل الاختلاف في الموضوع.

وعلى ذلك فلابد أن يقال انّ الشفاعة لا توجب اختلافاً في علمه وتغييراً في إرادته، كما لا توجب أن يكون أحد الحكمين مطابقاً للعدل والآخر مطابقاً للجور، بل الحكمان صادران عن مصدر العدل على وفقه.

الإشكال الرابع

ما أشار إليه الشيخ محمد عبده أيضاً حسب ما نقله عنه تلميذه السيد محمد رشيد رضا: ليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة، ولكن ورد الحديث بإثباتها(١) .

هذا ويمكن تقرير الإشكال بوجه آخر فنقول: لقد نفيت الشفاعة في بعض الآيات على وجه الإطلاق قال سبحانه:( أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ ) (٢) كما نفى في بعض الآيات نفع شفاعة الشافعين كقوله( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (٣) ، وقد علّقت في بعض الآيات على إذنه سبحانه وارتضائه قال سبحانه:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا

__________________

(١) تفسير المنار: ٧ / ٢٧٠.

(٢) البقرة: ٢٥٤.

(٣) المدثر: ٤٨.

٢٦٣

بِإِذْنِهِ ) (١) وقال سبحانه:( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) (٢) غير انّ الاستثناء لا يدل على وقوع المستثنى إذ له نظائر في القرآن الكريم. قال سبحانه:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ *إِلا مَا شَاءَ اللهُ ) (٣) إذ من المحقق انّ النبي لا ينسى القرآن، ولم ينسه. ومثله قوله سبحانه:( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (٤) .

ومن المعلوم انّ الاستثناء الوارد في الآية الأخيرة غير محقّق أبداً فانّهم مخلدون فيها. نعم يدل الاستثناء على الإمكان، أي إمكان اخراجهم من الجنة، معلناً بأنّ دخولهم الجنة لا يلازم نفي القدرة الإلهية على إمكان إخراجهم منها، وانّه ليس الأمر خارجاً عن قدرته، فله أن يخرجهم منها كما له أن يبقيهم فيها، فلا مانع من أن تكون الآيات الواردة في الشفاعة، خصوصاً ما اشتمل منها على الاستثناء من هذا القبيل، معلناً بإمكان الشفاعة لا وقوعها.

الجواب

قد أشبعنا البحث حول الآيات الواردة في الشفاعة فيما مضى، وبيّنا أصنافها، وقلنا إنّ الآيات النافية للشفاعة من الأساس، راجعة إلى أيّ قسم منها، فلأجل ذلك لا نعيد الكلام فيها. وإنّما المهم توضيح ما ورد من الاستثناء في الآيات المتقدمة فنقول :

إنّ البحث عن إمكان الشفاعة وامتناعها يشبه الأبحاث الفلسفية الدارجة فيها ولا يناسب حمل الآيات عليها، والتقول بأنّ الآيات ناظرة إلى إمكانها لا

__________________

(١) البقرة: ٢٥٥.

(٢) الأنبياء: ٢٨.

(٣) الأعلى: ٦ ـ ٧.

(٤) هود: ١٠٨.

٢٦٤

وقوعها أشبه شيء بالأبحاث الجدلية.

إنّ البحث عن الإمكان والامتناع يناسب المسائل الفلسفية البحتة، والكلامية الخالصة كما في البحث عن إمكان تعدّد الواجب وامتناعه وما شابه تلك المسألة، فنرى أنّه سبحانه يبحث عن الإمكان والوقوع في قوله:( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا ) (١) وقال سبحانه:( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (٢) .

وأمّا المسائل التربوية أو الاجتماعية التي تدور مدار التربية والتوعية الاجتماعية والفردية، فالبحث عن الإمكان والوقوع فيها ساقط وغير مناسب للأهداف القرآنية ولا يتوجه النظر إلّا إلى قسم واحد، وهو وقوع ما وعد به سبحانه في كتابه من الاستثناء كما في نظائره:( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً ) (٣) وقال سبحانه:( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ ) (٤) وما شابه هاتين الآيتين.

وعلى ذلك فلا يتبادر من تلك الآيات إلّا وقوع الإذن والارتضاء من الله سبحانه والحمل على الإمكان فيما ورد في قوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ *إِلا مَا شَاءَ اللهُ ) لأجل قرينة خاصة وهي الدلائل المتضافرة على عصمة النبي، وهذه القرينة تصدّنا عن حمل الآية على وقوع الاستثناء وتحقّقه.

ومثل تلك القرينة موجودة في الآية الأخرى الدالة على خلود المؤمنين في الجنة، أعني قوله:( مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) فإنّ الحمل على

__________________

(١) الأنبياء: ٢٢.

(٢) المؤمنون: ٩١.

(٣) آل عمران: ١٤٥.

(٤) يونس: ١٠٠.

٢٦٥

الإمكان أي إمكان عدم الخلود، لأجل قرينة قطعية دلت على تحقّق الخلود، لأهل النعيم في الآخرة، وهذا العلم يصدّنا عن حمل الاستثناء على وقوعه.

هذا كلّه مع غض النظر عمّا في نفس الآيات من القرائن الدالة على وقوع الاستثناء، وإليك تلك القرائن :

الأولى: قال سبحانه:( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) (١) فإنّ التعبير عن رضاه بالفعل الماضي يدل على تحقّق ذلك الرضا، في حق المشفوع له، ورضاه سبحانه لا ينفك عن إذنه للشفعاء، لأنّ إعلان الرضا بالنسبة إلى المشفوع له بلا صدور إذن منه سبحانه للشفيع يعد أمراً لغواً، وحمل قوله:( إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) على وجود الرضا منه سبحانه دون إبلاغه للشفعاء أشبه شيء بالهزل.

الثانية: انّه سبحانه يخبر بخبر قطعي عن شفاعة من شهد بالحق ممن كانوا تسبغ عليهم صفة الإلوهية كالمسيح والملائكة، قال سبحانه:( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٢) والاستثناء يدل على تملك من شهد بالحق لأمر الشفاعة بإذن منه سبحانه وتملّكه هذا يكشف عن تحقّق المراتب المتقدمة عليه من إذنه سبحانه له وارتضائه لمن يستحقها.

اللّهم إلّا أن يدّعي المعترض في ذلك الاستثناء ما ادّعاه في الآيات المشتملة على الإذن والارتضاء في آيات الشفاعة ويحمل مالكية من شهد بالحق للشفاعة على الإمكان دون الوقوع، وهو كما ترى.

ونظير الآية السابقة قوله سبحانه:( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) (٣) والاستثناء ظاهر في تملّك من اتخذ عند الرحمن عهداً أمر

__________________

(١) الأنبياء: ٢٨.

(٢) الزخرف: ٨٦.

(٣) مريم: ٨٧.

٢٦٦

الشفاعة، وتمليكه سبحانه إيّاها لهم لا ينفك عن إذنه وارتضائه.

وإن شئت قلت: إنّ تمليك الشفاعة من جانب الله لفريق خاص دال بالملازمة العرفية على أنّ هذا التمليك لأجل الاستفادة منه وتنفيذه في مواضع خاصة وحمله على مجرد التمليك من دون أن يقترن بالإذن أبداً تفسير للآية بغير الوجه المعقول، إذ أيّة فائدة لهذا التمليك الذي لا يتلوه الإذن أبداً، فإنّ هذا أشبه شيء بتمليك الشيء للإنسان والمنع عن الاستفادة منه بوجه من الوجوه.

وما ربما يقال من أنّه سبحانه علّق الشفاعة في بعض الآيات على أمر محال، وهو اتخاذ العهد عند الرحمن، قال سبحانه:( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) (١) مع أنّ بعض الآيات دالة على أنّه لم يتخذ أحد عند الله عهداً قال سبحانه:( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً ) (٢) ، وقال:( أَطَّلَعَ الغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) (٣) .

ولكن الاعتراض هذا ساقط جداً، لأنّ سياق تلك الآيات كاشف عن أنّ الهدف هو نفي اتخاذ العهد في حق جماعة خاصة.

أمّا الآية الأولى فلأنّها وردت لنفي دعوى اليهود الوارد في قولهم:( وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) فردّ عليهم سبحانه بقوله:( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ ) .

وأمّا الآية الثانية، فلأنّها واردة أيضاً في مورد خاص، وهو الذي يحكي عنه سبحانه بقوله:( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ) فردّ عليه سبحانه بقوله:( أَطَّلَعَ الغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) .

__________________

(١) مريم: ٨٧.

(٢) البقرة: ٨٠.

(٣) مريم: ٧٨.

٢٦٧

ومع هذا السياق البارز في الآيتين هل يصح أن يقال انّه لا عهد بين الله سبحانه وبين أحد من عباده مطلقاً مع أنّه يصرّح بوجود مثل هذا العهد إذ يقول:( وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ) (١) وقال سبحانه:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات.

الإشكال الخامس

ما ورد في إثبات الشفاعة من الآيات المتشابهات، وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم، وانّها مزية يختص الله بها من يشاء يوم القيامة، عبر عنها بهذا المعنى « الشفاعة » ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه الله جل جلاله عن المعنى المعروف من معنى الشفاعة في لسان التخاطب العرفي(٣) .

الجواب

إنّ القرآن كتاب سماوي أُنزل لغرض التعليم والتربية، والهداية والتزكية، وقد نبّه على ذلك سبحانه في آيات كثيرة لا مجال لإيرادها هنا، قال سبحانه:( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ ) (٤) فلو جعلنا الآيات الواردة حول الشفاعة التي تقارب ثلاثين آية من المتشابهات يلزم أن تعد أكثر الآيات الواردة في الكتاب العزيز من الآيات المتشابهة ولازم ذلك جعل الكتاب العزيز غير مفهوم للناس الذين أُنزل ذلك الكتاب لهدايتهم وتربيتهم.

__________________

(١) البقرة: ١٢٥.

(٢) طه: ١١٥.

(٣) تفسير المنار: ١ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٤) القمر: ١٧.

٢٦٨

وكون الآية محتاجة إلى التفسير لا يكون دليلاً على كونها من الآيات المتشابهة، فإنّ كثيراً من الآيات لابتعادنا عن عصر نزولها تحتاج إلى التفسير، وكم من آية وآيات كتبت حولها رسالة أو رسائل، ومع ذلك لم تعد واحدة منها من الآيات المتشابهة.

إنّ المراد من الآيات المتشابهة ما أحاط بها الإبهام حول المراد منها فاشتبه المقصود الواقعي بغيره وهذا الميزان لا ينطبق إلّا على قليل من الآيات.

ثم إنّ كون الآية من الآيات المتشابهة لا يستلزم ترك البحث فيها وعدم الاستفادة منها، بل الآيات المتشابهة تفسر بالآيات المحكمة بحكم أنّها أُمّ الكتاب وأصل للمتشابهات قال سبحانه:( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (١) فإنّ قوله سبحانه في شأن الآيات المحكمة بأنّها أُمّ الكتاب يعرب عن كونها هي الأصل وإنّ المتشابهة هي الفرع، ورد المتشابه إلى المحكم كرد الفرع إلى الأصل.

وقد عرفت في صدر البحث مجموع الآيات الواردة حول الشفاعة وانّه ليست هناك آية أحاط بها الإبهام وامتنعت على الفهم، وعلى فرض وجودها لم توجد آية لا يمكن رفع إبهامها بأُختها، أو بالأحاديث الواردة حولها(٢) .

__________________

(١) آل عمران: ٧.

(٢) ما ذكره « من أنّ مذهب السلف في المتشابهات يقضي بالتفويض والتسليم » مبني على ما اختاره في تفسير الآيات المتشابهة من أنّها عبارة عن المفاهيم الواردة في القرآن، التي لا يمكن أن يقف على حقيقتها إلّا الله سبحانه كحقيقة ذاته وصفاته وأفعاله من الجنّة ونعيمها والجحيم ونارها إلى غير ذلك.

غير انّ تفسير الآيات المتشابهة بهذا المعنى مردود أساساً، وقد أوضحنا الكلام في حقيقة الآيات المتشابهة في محلها وقلنا: إنّها ليست إلّا عبارة عن الآيات التي يشتبه فيها المراد بغير المراد والحق بالباطل ويزاح الستر عن وجه الحق، بالآيات المحكمة، ولأجل ذلك يصف القرآن الكريم، الآيات المحكمة بأنّها « أُم الكتاب » وأُسسه.

٢٦٩

وأغلب الظن انّ الباعث على وصف هذه الآيات الواضحة الدلالة والمراد بكونها من المتشابه هو تأثر الأستاذ صاحب المنار وتلميذه بالموجة الوهابية، فهو الأمر الذي دفعهما إلى حمل هذه الآيات محمل المتشابه، والإعراض عن الأخذ بمدلولاتها الظاهرة الصريحة.

ولعل جعل صاحب المنار آيات الشفاعة من الآيات المتشابهة ورميها بهذا الوصف لأجل الإشكال الذي سوف نذكره، وهو تخيل انّ الشفاعة التي جاء بها القرآن نوع من الوساطة المتعارفة في الحياة المادية بين الناس، وسنطرح هذا الإشكال ودفعه من الأساس.

الإشكال السادس

ربّما يتخيل بأنّ الشفاعة نوع من الوساطة المتعارفة بين الناس، ويجب تنزيه المقام الإلهي من هذا النوع من الوساطة، وتوضيحه: انّ الخارج على القانون في الحياة الاجتماعية إذا حكم عليه بضرب من العقوبة المالية أو البدنية يبعث من له مكانة عند الحاكم حتى يقوم بالوساطة عنده ويبعثه على العفو والإغماض عن معاقبته، فتصبح النتيجة أن يجري القانون على من يفقد مثل هذه الوساطة ولا يجري على من يجدها، وهذا من الظلم الفظيع السائد في الأنظمة البشرية، ويجب تنزيه الشريعة الإسلامية المقدسة عن قبول هذا النوع من الوساطة.

الجواب

إنّ الأساس لهذا الإشكال هو قياس الشفاعة الواردة في الكتاب العزيز على الشفاعة الدارجة في الحياة الاجتماعية للبشر.

ولو كان معنى الشفاعة هذا فقد رفضه القرآن أشد الرفض، إذ هذا النوع

٢٧٠

من الشفاعة كان من معتقدات عرب الجاهلية حيث كانوا يعبدون الأصنام لهذه الغاية، قال سبحانه واصفاً حالهم:( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ ) (١) فالعربي الجاهلي كان يتخيل انّ مكانة الآلهة الباطلة تكون سبباً لصرف إرادته سبحانه عن معاقبة المجرمين والعصاة، أو تكون سبباً لجلب عنايته بهم، فردّ الله سبحانه على تلك المزعمة بقوله:( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (٢) .

وقال في آية أُخرى واصفاً حالهم أيضاً:( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَىٰ ) (٣) ثم رد عليهم بقوله:( إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) (٤) .

وعلى ذلك فالشفاعة بهذا المعنى وهو غلبة إرادة الشفيع على إرادة المشفوع عنده، بصرف إرادته عن عقوبتهم أو جلب إرادته لرفع منزلتهم مرفوضة في منطق القرآن، فانّه سبحانه هو الحق المطلق لا يؤثر فيه شيء ولا يتأثر عن شيء ولا يجعل القانون لعبة الشفيع حتى يجري في حق بعض دون بعض، وانّما الشفاعة التي دعا إليها القرآن شيء آخر، وهو إيصال الفيض الإلهي، أعني: المغفرة والعفو الى عباده المستحقين عن طريق أوليائه وأصفيائه، وذلك لأنّ مشيئته الحكيمة جرت على إيجاد المسبّبات عن طريق أسبابها، وإحداث الأشياء عن طرقها، فكما أنّ لكل ظاهرة مادية سبباً مادياً توجد بهذا السبب وتصل إلى الناس عن هذا الطريق، فهكذا الفيوض الإلهية تصل إلى عباد الله عن الطرق الخاصة المعينة، وهذا كهداية

__________________

(١) يونس: ١٨.

(٢) يونس: ١٨.

(٣) الزمر: ٣.

(٤) الزمر: ٣.

٢٧١

الناس عن طريق الأنبياء والرسل، فالهادي هو الله سبحانه لكن عن طريق أنبيائه ورسله، وقضت مشيئته الحكيمة بهذا، قال سبحانه:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) (١) ترى أنّه سبحانه يجري فعله أي الحكم بالحق عن طريق بعث النبيين كيف والقرآن المجيد يصدق هذا النظام السائد في الأمور المعنوية والمادية قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ ) (٢) .

فإنّ المراد من الوسيلة ما يتوسل به إلى الشيء والآية تدعو إلى الإتيان بالقربات والقيام بالوظائف التي يتوسل بها الإنسان إلى مرضاته ورضوانه.

وإذا كانت هذه الآية تدعو إلى ابتغاء الوسيلة بشكل عام من دون أن تعيّن شخص الوسيلة، فقد قامت الآيات الأخر بتعيين الوسائل التي تتحصّل معها مغفرته ورضوانه، ويكتسب بها عفوه وغفرانه، قال سبحانه:( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (٣) ترى أنّه سبحانه يأمر نبيه بأن يصلّي عليهم حتى تنزل عليهم السكينة التي هي فعله سبحانه ولطفه، فالسكينة تصل إليهم عن طريق سببه وهو دعاء النبي، وقال سبحانه:( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيماً ) (٤) ترى أنّ الآية تدعو المجرمين والعصاة إلى ابتغاء الوسيلة للوصول إلى غفرانه وهو دعاء النبي واستغفاره في حقهم، وليست هذه سنّة مخصوصة بالأمّة الإسلامية، بل جرت عليها مشيئته في الأمم السابقة حيث نرى أنّ أبناء يعقوب عندما شعروا بالإثم

__________________

(١) البقرة: ٢١٣.

(٢) المائدة: ٣٥.

(٣) التوبة: ١٠٣.

(٤) النساء: ١٤.

٢٧٢

راحوا يطلبون من أبيهم استغفاره في حقّهم فلمّا سمع هو دعوتهم، وعدهم بالانجاز قال سبحانه:( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ *قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (١) .

وهذه الآيات ونظائرها ترشد الباحث على أنّ للأمور المعنوية وتحقّقها نظاماً على غرار النظام السائد في الأمور المادية. ولأجل ذلك لا يصح للقارئ الكريم أن يتعجب من وصول فيضه ومغفرته سبحانه يوم القيامة إلى عباده المستحقين لها عن طريق الشفعاء، وأوليائه المخلصين.

أضف إلى ذلك أنّ في استجابة دعوة الأولياء ( الذين لا يدعون ولا يطلبون شيئاً مخالفاً للعدالة الإلهية، ومشيئته الحكيمة ) نوع تكريم وتبجيل لهم ولمقامهم، ونوع إشادة بهم، وإظهار لفضلهم.

نعم هؤلاء الكرام البررة لا يطلبون فيضه وغفرانه إلّا لمن استحقها، وهو من لم يقطع صلته الإيمانية بالله وعلاقته الروحية مع أوليائه، وشفعائه. وإذا أردت أن تقف على الفرق الكبير والواضح بين الشفاعتين ( الشفاعة السائدة في الجماعات المادية والشفاعة القرآنية ) فاستمع لما نتلوه عليك من الفروق الموجودة في الشفاعتين :

الفروق الموجودة في الشفاعتين

أوّلاً: أنّ زمام الشفاعة التي نطق بها القرآن بيد الله سبحانه، فهو الذي يبعث الشفيع ـ لما فيه من الكمال والمعنوية ـ حتى يشفع في حق المجرم الذي له صلاحية المغفرة، فتصبح النتيجة أنّ رحمته الواسعة ومغفرته العميمة تصل من طريق الشفيع إلى عباده، فعلى ذلك فالأمور كلها بيده، وناشئة منه، وراجعة إليه ،

__________________

(١) يوسف: ٩٧ ـ ٩٨.

٢٧٣

وهذا على خلاف النظام السائد في الوساطات المادية المتعارفة إذ المجرم فيها هو الذي يبعث الشفيع ليشفع عند الحاكم بحيث لولاه لما تقدم الشفيع بالشفاعة والوساطة عند الحاكم، فالأمر هنا يبدأ من المجرم ويصل إلى الشفيع وينتهي إلى الحاكم على عكس النظام السائد في الشفاعة الأخروية.

فلو انّ القرآن يحث المسلمين على الحضور عند النبي ومطالبته بأن يستغفر لهم فليس ذلك إلّا بأمر منه سبحانه وحث منه على هذا الطلب، فلولا أمره وحثّه سبحانه لما قمنا بذلك، ولو أنّا قمنا به لما كان له أثر بلا أمر منه سبحانه. وعلى ذلك فلا يصح لقائل أن يستدل بالآية على أنّ الشفاعة القرآنية على غرار الشفاعة الدنيوية حيث إنّ المجرم يطلب من النبي، وينتهي الأمر إلى الله سبحانه، فإنّ القائل ذهل عن أنّ كل هذه الأمور تتحقق بأمره وإذنه، وإرشاده وطلبه بحيث لولاه لما كان هناك بعث، وعلى فرض البعث لما كانت أيّة فائدة.

ثانياً: أنّ الشفيع في الشفاعة الصحيحة يتأثر بالمقام الربوبي ويخضع له حيث يأمره المولى الحكيم بالشفاعة والدعاء في حق المجرمين المستحقين له ولكن الأمر في الشفاعة الدنيوية على العكس إذ الحاكم يتأثر، هناك بشفاعة الشفيع كما انّه نفسه يتأثر من تقدم الشفيع إليه وتكلّمه معه.

ثالثاً: أنّ ماهية الشفاعة الدنيوية وواقعيتها ليست إلّا نوع تفرقة في تطبيق القانون حيث إنّ نفوذ الشفيع ومكانته عند الحاكم، يوجبان مغلوبية إرادته وغالبية إرادة الشفيع، فتصبح النتيجة أن يجري القانون في حق الضعيف الذي لا يجد شفيعاً دون القوي الذي يجد شفيعاً، وهذا بخلاف الشفاعة الصحيحة فإنّها لا تحمل إرادة الشفيع على مشيئة الله ولا تخضع سنته الحكيمة لإرادة أحد وطلبه، ولا يوجب التفرقة في التطبيق بل غاية الشفاعة هو جريان مغفرته وفيضه عن طريق أوليائه إلى عباده، فلو حرم البعض من الشفاعة، فليس ذلك لأجل نفاد

٢٧٤

رحمته، بل لأجل عدم لياقته لها، فلو أنّ الله سبحانه يقول في حق المشرك:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ) (١) فليس ذلك إلّا لأنّ قلب المشرك كالوعاء المسدود لا يتسرب إليه شيء حتى لو غمس في سبعة أبحر لما تسرب إليه الماء، أو هو كالأرض المالحة التي لا ينبت فيها شيء ولو أنّ القرآن يصر على أنّ الشفاعة لا تتحقق إلّا بإذنه سبحانه للشفيع وارتضائه للمشفوع له، فليس ذلك إلّا لأجل أنّ المرضي هو اللائق دون غيره، فلو حرم المشرك من شفاعة الأنبياء أو حرم بعض العصاة منها فليس ذلك إلّا لعدم لياقتهم لهذا الفيض.

الإشكال السابع

إنّ المراد من الشفاعة هو الشفاعة القيادية وانّ الأنبياء والأولياء يوصلون عباد الله إلى الفوز والسعادة عن طريق الوحي وتبليغ الرسالة، فإطلاق الشفاعة على هذا الأمر لأجل أنّ انضمامهم إلى الوحي الإلهي يمهد الطريق إلى السعادة والنجاة. وهذا الإشكال مما أثاره المفسر المعاصر الشيخ الطنطاوي في تفسيره وقام بتفسير الشفاعة بذلك، وإليك نص كلامه: « وفي الحديث يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء، فهذا يفيد أنّ الشفاعة تابعة للاقتداء، فالأنبياء علّموا العلماء، والعلماء علّموا الناس، وأفضل الناس بعد الأنبياء، العلماء، فالشهداء، فمن لم يعمل بما أنزل الله وتجافى عن الحق فقد عطل ما وهب له من بذر الشفاعة ولم يسقه ولم يربه ولم ينمه بالعمل، فيحرم ثمرته مع أنّه ساوى جميع المسلمين في حصول البذر عنده وخالفهم في قعوده عن استثماره »(٢) .

__________________

(١) النساء: ٤٨ و ١١٦.

(٢) الجواهر في تفسير القرآن الكريم: ١ / ٦٥، وقد مضى بعض عباراته عند نقل كلمات العلماء.

٢٧٥

الجواب

نحن في غنى عن الإجابة على هذا الإشكال لما رددنا على هذا في الأبحاث السابقة حيث قد أشبعنا الكلام عند البحث عن التفسيرات الثلاثة للشفاعة، ونظير هذا الإشكال ما ربما تفسر الشفاعة بالعمل بالواجبات والتجنب عن المحرمات فتفسر آيات الشفاعة بهذه الشفاعة العملية.

ونزيد بياناً هنا على ضعف هذا الإشكال انّه لو كان المراد هو المغفرة في ضوء الطاعة العملية فلماذا وعد الله سبحانه في الآية التالية بأنّه لا يغفر الشرك ويغفر ما دون ذلك ؟ قال سبحانه:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (١) فلو كان المراد هو المغفرة في ضوء الإيمان والعمل لما صح استثناء الشرك في الآية الكريمة، لأنّ الشرك يغفر في هذا الإطار أيضاً، وبذلك يعلم أنّ لله سبحانه مغفرة ورحمة خارجة عن إطار العمل وانّ رحمته الواسعة كما تصل إليهم من طريق العمل بالأحكام، تصل إليهم عن طريق آخر وهو كون العبد قابلاً للمغفرة والرحمة حافظاً لعلاقاته مع الله ومع الشفعاء وان كان قاصراً في العمل.

الإشكال الثامن

إنّ الاعتقاد بشفاعة الشفعاء يستلزم أن يكون الشفيع أشد رأفة بالعباد من الله سبحانه، لأنّ المفروض أنّه لولا دعاء الشفيع وشفاعته لا ترفع العقوبة من المجرم والعاصي.

وإن شئت قرر هذا الإشكال بوجه آخر: انّ الاعتقاد بوصول مغفرته سبحانه

__________________

(١) النساء: ٤٨.

٢٧٦

عن طريق الشفعاء يستلزم محدودية فيضه ورحمته بحيث يكون دعاء الشفيع وسيلة لتوسعتها وانبساطها.

الجواب

إنّ الإشكال بكلا التقريرين ساقط من الأساس، فإنّ الإشكال مبني على تفسير الشفاعة بالواسطة المتعارفة في الحياة البشرية، وأمّا على ما ذكرنا من معنى الشفاعة في القرآن من أنّه عبارة عن وصول رحمته وغفرانه إلى عباده من طريق أوليائه فلا وجه له لما قررنا من الفوارق الثلاثة بين الشفاعة القرآنية والشفاعة بمعنى الوساطة العرفية، وقلنا: إنّ واقع الشفاعة القرآنية هو انّه سبحانه يبعث الشفيع على الدعاء والشفاعة وهو الذي يأذن له ويرتضي من يشاء من عباده وليس للشفيع هنا أيّ دخالة، أفبعد ذلك يصح للقائل أن يقول إنّ معنى الشفاعة هو كون الشفيع أشد رأفة بالعباد من الله سبحانه ؟!

وأمّا التقرير الثاني فهو غفلة عمّا جرت عليه مشيئته سبحانه، فإنّه جرت السنة الإلهية على إيصال المسببات عن طريق أسبابها، فقد جعل لكل شيء سبباً من دون أن يقوم هو سبحانه بنفسه مكان الأسباب والعلل، ولو صح ما زعمه المستشكل لزم أن يكون الاعتقاد بتأثير الأسباب الطبيعية في مسبباتها تحديداً لقدرته ورحمته إذ لولا هذه الأسباب، لما وصلت فيوضاته المادية إلى الإنسان.

الإشكال التاسع

انّ الاعتقاد بالشفاعة وتأثير دعاء الشفيع وطلبه في رفع العقوبة، أو في ارتفاع الدرجة، يتناقض مع الأصل الذي أسّسه القرآن الكريم حيث جعل مصير كل أحد قيد عمله ورهن سعيه، قال سبحانه:( وَأَن لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا

٢٧٧

سَعَىٰ ) (١) ، وقال سبحانه:( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ) (٢) وقال تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) (٣) ، فهذه الآيات تجعل الجزاء قيد العمل والسعي وانّه هو نتيجة ذلك، فكيف يجتمع هذا مع الشفاعة التي ليست لها واقعية كواقعية السعي والعمل بل هو موجب لفوز الإنسان ونجاته بسبب دعاء الغير ووجاهته ومكانته من دون سعي صادر من المشفوع له.

الجواب

إنّ الجواب على هذا الإشكال يكون بوجهين :

الأوّل: بالنقض، فإنّ القرآن يصرّح بأنّ دعاء الغير سبب لمغفرة الذنوب، قال سبحانه في حق حملة العرش:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ) (٤) وقال سبحانه:( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ) (٥) فلو كان ما ذكره المستشكل صحيحاً فكيف يكون دعاء حملة العرش موجباً للمغفرة ؟! ومثله الآية الثانية فبملاحظة هاتين الآيتين وما ورد من الحث والتأكيد على دعاء المؤمن في الفرائض والنوافل، وفي الجلوات والخلوات، يتضح أنّ لآيات السعي مفاداً غير ما استنبطه المستدل منها، وسوف يوافيك هذا المعنى في الجواب التالي.

__________________

(١) النجم: ٣٩.

(٢) يونس: ٥٢.

(٣) آل عمران: ٣٠.

(٤) غافر: ٧.

(٥) الحشر: ١٠.

٢٧٨

الثاني: بالحل، فإنّ الشفاعة في الحقيقة فرع للسعي الذي قام به المشفوع له وتعد من آثاره وتوابعه إذ لولا عمله وسعيه وجده واجتهاده في الإيمان بالله سبحانه وإقامة الفرائض والاجتناب عن المحرمات في الجملة، لما نالته شفاعة الأولياء، فالسعي الذي قام به طيلة حياته على وجه حفظ به علاقاته مع الله سبحانه ومع أوليائه، هو المصحح للشفاعة والموجب لمغفرته بدعاء الشفيع.

ولأجل ذلك حثّت الأحاديث على تحديد شفاعة الأولياء وانّه لا تنال عدة من العصاة، كتارك الصلاة وعاق الوالدين وغير ذلك.

الإشكال العاشر

إنّ طلب الشفاعة من الأولياء والأنبياء شرك بالله سبحانه، أو أمر محرم.

الجواب

قد أشبعنا الكلام في معنى الشفاعة وحدودها وشرائطها وبقي هنا بحث، وهو انّه هل يجوز طلب الشفاعة من الشفعاء الحقيقيين أو لا ؟ ذهب ابن تيمية وخريج مدرسته محمد بن عبد الوهاب إلى أنّه لا يجوز طلبها من غيره سبحانه، لأنّ طلبها من غيره عبادة له، أو لا أقل من أنّه أمر محرم، واختار جمهرة المسلمين جوازه من غير فرق بين أن يكون الشفيع حياً أو ميتاً.

وهذا الإشكال وان لم يكن مربوطاً بأصل الشفاعة لكنه يمت إليها بنحو من الارتباط، فأردنا أن نبحث عنه في عداد الإشكالات فنقول: اتفق المسلمون على أصل الشفاعة وانّ هناك عباداً مخلصين وأصفياء كراماً يشفعون يوم القيامة بل يشفعون في هذه الدنيا والبرزخ ويوم القيامة وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين، إلّا من شذ وندر ممن فسر الشفاعة بغير معناها الصحيح، إلّا انّ الكلام في أنّه هل

٢٧٩

يجوز طلب الشفاعة من المأذون له من الأنبياء والأولياء بعد الاتفاق على تحريم ذلك الطلب من غير المأذون، أو لا يجوز ؟

قال ابن تيمية ومن لف لفه من أنّه لا يجوز للمؤمن إلّا أن يقول: أللّهمّ شفّع نبينا محمداً فينا يوم القيامة، أو أللّهمّ شفّع فينا عبادك الصالحين أو ملائكتك أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم، فلا يقال: يا رسول الله أو يا ولي الله أسألك الشفاعة أو غيرها مما لا يقدر عليه إلّا الله، فإذا طلبت ذلك في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك(١) .

ولأجل هذا يجب الغور في هذه المسألة حتى يتضح الحق لمبتغيه بأجلى مظاهره.

ما يدل على جواز طلب الشفاعة

يمكن الاستدلال على جواز هذا الطلب بوجوه كثيرة نشير إلى بعضها :

الأوّل: انّ حقيقة الشفاعة ليست إلّا دعاء النبي والولي في حق المذنب، وإذا كانت هذه حقيقته في جميع المواقف أو في بعضها فلا مانع من طلبها من الصالحين، لأنّ غاية هذا الطلب هو طلب الدعاء، فلو قال القائل: « يا وجيهاً عند الله اشفع لنا عند الله » يكون معناه: ادع لنا عند ربك، فهل يرتاب في جواز ذلك مسلم ؟

ولست أراك تشك في أنّ طلب الدعاء هو نفس الاستشفاع، وانّ حقيقة الشفاعة هي الدعاء، ولأجل ذلك نرى انّ العلّامة نظام الدين النيسابوري، صاحب التفسير الكبير ينقل في تفسير قوله سبحانه:( مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً

__________________

(١) الهدية السنية: ٤٢.

٢٨٠