مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407
المشاهدات: 99931
تحميل: 6274


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 99931 / تحميل: 6274
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 4

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-221-8
العربية

التعميم في جانب النبي، وما يأتي في خامس الوجوه من تخصيص النبوة بالرؤية في المنام.

٢. « النبي » هو الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول هو الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين(١) .

وهذا كما ترى يوافق الفرق المذكور في جانب النبي ويخالفه في ناحية الرسول، إذ لا يخص الرسول بمن يتحمل الرسالة بواسطة الملك بل يعمم إلى محتملها بسبب الإيحاء في المنام.

٣. « الرسول » من يأتيه الملك بالوحي عياناً ويشافهه، و « النبي » يقال لمن يوحى إليه في المنام(٢) .

وهذا يوافق الفرق المذكور في جانب الرسول ويخالفه في ناحية النبي حيث يخصصه بالرؤية في المنام وهو جعل النبي أعم منها، وإن كان قيده بعدم توسيط الملك.

٤. « الرسول » الذي تنزل عليه الملائكة بالوحي، والنبي الذي يوحى إليه في منامه، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً(٣) .

ولولا إنّه قد رتب على كلامه ما رتب، لكان ظاهره في بدء الأمر موافقاً لما تقدمه غير انّه لـمّا جعل النسبة بينهما أعم وأخص مطلقاً، وفرض أنّ النبي أعم من الرسول، فقد خالف الكلام المذكور قبله في جانب النبي وإن كان يوافقه من جانب آخر.

__________________

(١) مجمع البحرين: مادة « النبأ ».

(٢) فروق اللغة: ١٠٦.

(٣) مجمع البيان: ٧ / ٩١.

٣٦١

وكيف كان فقد استدل على كون النبوة والرسالة مرتبتين مختلفتين، وإنّ الرسول خصوص من ينزل عليه الملك، بقوله سبحانه :

( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَىٰ إِلا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً *قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ (١) لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ) (٢) .

ومحصل مضمون الآيتين: انّ الذي يمنع الناس عن أن يؤمنوا برسالتك أنّهم يحيلون رسالة البشر من جانب الله ( حيث قالوا:( أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً ) ) وقد أخطأوا في ذلك، فإنّ مقتضى الطبيعة الإنسانية والأرضية وعناية الله بهداية عباده، أن ينزل إلى بعضهم من أبناء جلدتهم ملكاً، من السماء رسولاً لإرشادهم، حتى أنّ الملائكة، لو كانوا كالإنسان من حيث العيش على سطح هذه الأرض، لنزّل الله إلى بعضهم ملكاً من السماء رسولاً حاملاً لوحيه، وهذا يعطي أنّ الرسول إنسان ينزل عليه ملك من السماء بدين الله ثم هو يبلغه إلى الناس بأمر الله(٣) .

قال في الكشاف في تفسير قوله:( لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ) يعلمهم الخير ويهديهم الرشاد، فأمّا الإنس فما هم بهذه المثابة إنّما يرسل الملك إلى مختار منهم للنبوة، فيقوم ذلك المختار بدعوتهم وإرشادهم(٤) .

إلى غير ذلك من الكلمات حول الآية، وهي تفيد أنّ رسالة أي فرد من البشر أو الملائكة القاطنين في الأرض إلى أمثالهم، لا تستقيم إلّا بنزول ملك من السماء يحمل رسالة الله إلى فرد مختار في الأرض يتحملها إلى أعداله وأمثاله.

__________________

(١) أي يمشون على أقدامهم كما يمشي الإنس ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويتعلّموا ما يلزمهم علمه.

(٢) الإسراء: ٩٤ ـ ٩٥.

(٣) الميزان: ١٣ / ٢٢١.

(٤) الكشاف: ٢ / ٢٤٦.

٣٦٢

ويشعر بذلك ما قاله موسىعليه‌السلام عندما خاطبه سبحانه بقوله:( أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ( رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ *وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ ) (١) أي أرسل إليه جبرئيل واجعله رسولاً مثلي واشدد عضدي به وقد أُجيبت دعوته حيث جعل سبحانه أخاه رسولاً مثله بقرينة قوله سبحانه:( فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (٢) وقوله سبحانه:( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ ) (٣) ، وهذا الوجه يؤيّده بعض الأحاديث المرويّة بطرق صحيحة سوف نشير إليها ونترجم رجال أسنادها حسب اقتضاء المقام.

هذا غاية ما يمكن أن يوجه هذا القول، غير أنّ في دلالة الآيتين على كون حقيقة الرسالة متقومة بنزول الملك على الرسول خفاء واضح.

فلأنّها سيقت لرد مزاعم بعض المشركين من امتناع أن يكون البشر رسولاً مبعوثاً من الله إلى الناس، وانّه لابد أن يكون الرسول ملكاً لا بشراً، بأنّ التماثل بين المرسل والمرسل إليهم أوفق في الغرض الذي لأجله بُعث الرسول، لأنّ بين المتماثلين من التجاذب والتلاحم ما ليس في غيره، ولأجل ذلك جرت حكمة الله على جعل الرسل بشراً ولو استقرت الملائكة في الأرض لجعل رسلهم من جنسهم أيضاً ملائكة، وليست الآية بصدد تحديد مفهوم الرسالة وإنّها متقومة بنزول الملك إلى الرسول.

أضف إلى ذلك أنّ دلالة قوله:( لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ) على ما يرتئيه القائل مبنية على أن يكون الملك النازل من السماء، رسولاً إلى الرسول

__________________

(١) الشعراء: ١٢ ـ ١٣.

(٢) طه: ٤٧.

(٣) الشعراء: ١٦.

٣٦٣

المختار منهم لا رسولاً إليهم جميعاً، وعند ذاك يصح ما يراه القائل من كون رسالة الرسول حتى رسالة الملك بين الملائكة، تتوقف على نزول ملك من السماء إليه، ينبئه بأخبار السماء، مع أنّ ظاهر الآية خلافه وانّ الملك النازل هو بنفسه نبي الملائكة ورسولهم لا أنّه ينزل هذا الملك على ملك آخر ليكون هو الآخر رسولاً.

وأمّا الآية الثانية فلها إشعار بهذا القول، ولا يبلغ حد الدلالة، لأنّ طلب موسى من الله سبحانه أن يرسل جبرئيل إلى أخيه ليخلع عليه الرسالة، لا يدل على تحديد مفهوم الرسالة بنزول الملك فقط بل هو أحد طرقها لا طريقها المنحصر.

الفرق الخامس

النبي من يوحى إليه في المنام(١) فيطلع على بعض الملاحم والمغيبات، ولكن الرسول يشاهد الملك ويعاينه ويكلّمه ويراه.

والموافقة مع هذا القول مشكلة.

فإن أُريد أنّ النبي عبارة عمن يوحى إليه في المنام، وان حيثية النبوة قائمة بالإيحاء إلى النبي بالمنام فقط، كما انّ الرسالة متقومة بمعاينة الملك ومشاهدته، فيرده أنّ النبي صفة مشبهة بمعنى المطلع على الغيب على زنة اللازم أو المخبر عن الغيب ( إذا كان بمعنى الفاعل كما هو ظاهر بعض المعاجم ) من أي طريق اتفق، سواء أكان بالإيحاء إليه في النوم، أو بإلقاء في قلبه وروعه، أو بسماع الكلام من جبل أو شجرة أو بمعاينة الملك ومخاطبته، فلا دليل على اختصاصه بالاطلاع على الغيب بالإيحاء إليه في المنام.

__________________

(١) أوعز إليه في مجمع البحرين في مادة « النبأ »، ونقله قولاً في مجمع البيان: ٧ / ٩١، والرازي في مفاتيحه: ٦ / ٣٤٤، واختاره صاحب الميزان في مواضع من كتابه: راجع ١ / ٢٨٠، و ١٣ / ٢٢١ ـ ٢٢٢، و ١٤ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠، وما نقلناه من الكلمات في ذيل الفرق الرابع الماضي ربما يمكن أن يشير بعضها إلى هذا الوجه.

٣٦٤

وقد خاطب الله سبحانه نبيه الكريم في كتابه المجيد بقوله:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ) في مواضع كثيرة، أو أطلق عليه النبي، فهل ترى من نفسك أن تقول: إنّ ذلك الإطلاق إنّما هو بملاك الإيحاء إليه في المنام، مع أنّ الإيحاء إليه إنّما كان بنزول الملك ـ دائماً أو غالباً ـ كما هو ظهور قوله سبحانه:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) (١) .

نعم اتفق الإيحاء إليه في المنام قليلاً، كما يعرب عنه قوله سبحانه:( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ ) (٢) وقوله سبحانه:( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَاناً كَبِيراً ) (٣) .

على أنّه يمكن أن يقال: إنّ تلك الرؤيا وما تقدم عليها وإن كان اطلاعاً منه على الغيب ولكنه لم يكون وحياً مصطلحاً، وليس مطلق الكشف ومجرد الشهود والرؤيا الصادقة، وحياً مصطلحاً.

وإن أراد أنّ النبي مطلق من يصل إليه الخبر من جانب الله ويطلع على الغيب بواحد من الطرق التي ألمحنا إليها، وإليها يشير قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (٤) وانّ الإيحاء في المنام أحد هذه الطرق، فهو حق في جانب النبي وتعاضده اللغة وموارد الاستعمال، فالنبي مطلق المطّلع على الغيب

__________________

(١) الشعراء: ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٢) الفتح: ٢٧.

(٣) الإسراء: ٦٠.

(٤) الشورى: ٥١.

٣٦٥

أو المخبر عنه سواء أكان اطلاعه عليه بالإيحاء إليه في المنام أو غيره.

وأمّا تخصيصه الرسول بمعاينة الملك، فقد استدل عليه ببعض الآيات وأيّدته بعض الروايات الآتية وقد تقدم بيانه.

وقد تمسكت الطائفة الضالة « البهائية » بهذا القول وادّعت بأنّ النبي هو خصوص من يوحى إليه في الرؤيا فقط، وانّ المختوم إنّما هو النبوة بهذا المعنى، لا الرسالة بمعنى مشاهدة الملك ومعاينته قبلاً، فختم النبوة لا يلازم ختم الرسالة.

وقد وافاك إنّ هذا قول مجرد عن البرهنة، وفارغ عن أي شاهد، بل هو عبارة عن منصب معنوي يستدعي الاطلاع على الغيب بإحدى الطرق التي ألمحنا إليها، فختم هذا الباب وسده يستلزم ختم الرسالة لما سنوضح من أنّ النبوة أساس الرسالة وإنّ ختم النبوة يلازم ختم الرسالة، فانتظر.

الفرق السادس

إنّ النبي والرسول كليهما مبعوثان إلى الناس، غير أنّ النبي بعث لينبئ الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيراً بما عند الله، والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على أصل نبأ النبوة كما يشعر به أمثال قوله تعالى:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) (١) وقوله تعالى:( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً ) (٢) وعلى هذا فالنبي هو الذي يبين للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أُصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية الله، من هداية الناس إلى سعادتهم، هلاكاً أو عذاباً أو نحو ذلك قال تعالى:( لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (٣) ، وعلى هذا يصير الرسول أخص من النبي كما هو صريح

__________________

(١) يونس: ٤٧.

(٢) الإسراء: ١٥.

(٣) النساء: ١٦٥.

٣٦٦

قول القائل: « والرسول هو الرسول الحامل لرسالة خاصة »(١) .

وهذا الفرق لا يخلو من خفاء أيضاً فإنّ جعل الرسول من له رسالة خاصة تستتبع مخالفة العذاب لم يدل عليه دليل وما استدل به من قوله سبحانه:( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً ) لا يدل على أنّ ما رآه داخل في حقيقة الرسالة، وإنّها محددة به، والدليل على ذلك إنّه لو قال مكانه: « حتى نبعث نبياً » لكان صحيحاً أيضاً، لتمامية الحجة، ببعث النبي والرسول كليهما، كما في قوله سبحانه:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) (٢) فلولا إتمام الحجة ببعث النبي لما صح توصيفهم بعد البعث، بكونهم مبشرين ومنذرين.

وعلى أي حال فقد اضطرب رأيه في إبداء الفرق بين اللفظين فاختار في المقام ما نقلناه عنه، وقال في موضع آخر انّ النبي هو الذي يرى في المنام ما يوحى به إليه، والرسول هو الذي يشاهد الملك فيكلّمه(٣) .

وقد دفعه إلى اختيار ثاني النظرين وروده في الروايات ويظهر منه في موضع ثالث(٤) ما هو المختار عندنا، وسوف يوافيك بيانه.

__________________

(١) الميزان: ٢ / ١٤٥ و ٣ / ٢١٦ حيث قال: إنّ النبوة هي منصب البعث والتبليغ، والرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم والقضاء بالحق بين الناس، أمّا بالبقاء والنعمة أو بالهلاك، وسيوافيك امكان إرجاع كلامه هذا إلى ما هو المعتمد عندنا، أعني: سابع الوجوه، مع تصريحه به في: ١٦ / ٣٤٥ من ميزانه.

(٢) البقرة: ٢١٣.

(٣) الميزان: ١٣ / ٢٢١ و ١٤ / ٤٢٩.

(٤) الميزان: ١ / ٢٧٤ حيث قال: النبوة معناها تحمل النبأ من جانب الله والرسالة معناها تحمل التبليغ والمطاعية والإطاعة، ونظيره ما أفاده في ١٦ / ٣٤٥ فقد عدّ التبليغ من شؤون الرسالة، مع أنّه عدّه في الجزء الثالث ص ٢١٦ من شؤون النبوة، والعصمة لله سبحانه ولمن اصطفاه من عباده.

٣٦٧

ما هو المختار عندنا ؟

وقبل الدخول في البحث نقدم أُموراً، تلقي الضوء على الحقيقة وتكشف الشك عن محيا الواقع.

الأوّل: النبأ في العرف العربي(١) الخبر الخطير الذي يستدعي الاهتمام به بالنظر إلى غاياته وآثاره فهو أخص من مطلق الخبر، وبه يسمّى النبي نبياً، لأنّه منبئ بما هو خطير من إنذار أو تبشير، والتنبّؤ إخبار بالغيب، لأنّه أظهر أفراد الخبر الخطير وأعظم مصاديق لنبأ العظيم(٢) .

النبي في اللغة مأخوذ من مادة « النبأ » بمعنى الخبر المهم العظيم الشأن أو بمعنى الارتفاع وعلو الشأن، والأوّل أظهر، وأكثر العرب لا تهمزه، بل نقل أنّه لم يهمزه إلّا أهل مكة، وقد أنكر النبي على رجل قال له: « يا نبيء الله »(٣) حيث روي أنّ رجلاً قال له: يا نبيء الله، فقال: « لا تنبر(٤) اسمي، إنّما أنا نبي الله ».

النبي « فعيل » بمعنى فاعل للمبالغة من النبأ: الخبر، لأنّه ينبئ عن الله، أي يخبر عنه، ويجوز فيه تحقيق الهمزة وتخفيفها، يقال: نَبَأ ونَبَّأ وأنبأ، قال سيبويه: ليس أحد من العرب إلّا ويقول: تنبّأ مسيلمة بالهمزة غير انّهم تركوا الهمزة في النبي، كما تركوه في الذرية والبرية والخابية إلّا أهل مكة فإنّهم يهمزون هذه الأحرف الثلاثة ولا يهمزون غيرها ويخالفون العرب في ذلك كله(٥) .

قال الجوهري: يقال نبأت على القوم إذا طلعت عليهم، ونبأت من أرض

__________________

(١) ننقل في المقام نصوص أهل اللغة والعلم في تفسير النبي والرسول.

(٢) المعجزة الخالدة: ٧١.

(٣) المنار: ٩ / ٢٢٥، ورواه الصدوق في معاني الأخبار: ١١٣.

(٤) أي لا تهمز اسمي، النبر همز الحروف.

(٥) النهاية لابن الأثير: ٥ / ٣، مادة « نبأ ».

٣٦٨

إلى أرض، إذا خرجت من هذه إلى هذه، وهذا المعنى أراده الأعرابي بقوله « يا نبيء الله » لأنّه خرج من مكّة إلى المدينة فأنكر عليه الهمزة، لأنّه ليس من لغة قريش، وقيل إنّ النبي مشتق من النبأة وهي الشيء المرتفع(١) .

حكى الصدوق في معانيه عن أبي بشر اللغوي أنّه سمع منه في مدينة « السلام » أنّ « النبوّة » مأخوذة من « النبوّة » وهو ما ارتفع من الأرض، فمعنى النبوّة: الرفعة، ومعنى النبي: الرفيع(٢) .

قال ابن فارس: إنّ النبي من النبوة وهو الارتفاع كأنّه مفضل على سائر الناس برفع منزلته، ويقولون: النبي، الطريق « النبأ » الخبر، والمعنى المخبر ومن يهمز النبي فلأنّه أنبأ عن الله سبحانه(٣) .

وقال في المعجم الوسيط(٤) النبوة سفارة بين الله عز وجل وبين ذوي العقول لإزاحة عللها، النبي المخبر عن الله وتبدل الهمزة وتدغم فيقال: النبي.

هذه نصوص أئمّة اللغة والتفسير، ولو أردنا الاستيعاب لخرجنا عما هو المقصود وكلها تهدف إلى أنّ لفظ ( النبي ) لو كان مشتقاً من « نبو » ( الناقص الواوي ) بمعنى ارتفع، فهو بمعنى المرتفع منزلة، وإن كان من النبأ بالهمزة، فهو المخبر عن الله وعلى أي تقدير، فلا ترى في كلام واحد من أصحاب المعاجم دخول أحد هذه الفروق المذكورة في صلب معناه وجوهره حسب الوضع الأوّلي، فلو دل على شيء منها فإنّما هو لعلّة أُخرى كما نشير إليه في آخر البحث.

وأمّا الرسول فقد قال الراغب في مفرداته: « أصل الرسل هو الانبعاث على

__________________

(١) راجع الصحاح مادة « النبأ ».

(٢) معاني الأخبار: ٣٩.

(٣) المقاييس: مادة « النبأ ».

(٤) أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

٣٦٩

التؤدة ( التأنّي ) يقال ناقة مرسلة، سهلة المسير، وإبل مراسيل منبعثة انبعاثاً سهلاً، ومنه « الرسول » المنبعث، وتصور منه تارة الرفق فقيل على رسلك، إذا أمرته بالرفق، وتارة الانبعاث، فاشتق منه الرسول.

وقال العسكري في فروقه: أرسلت زيداً إلى عمرو، ويقتضي أنّك حملته رسالة إليه أو خبراً أو ما أشبه ذلك إلى أن قال: والنبوة يغلب عليها الإضافة إلى النبي فيقال نبوة النبي، لأنّه يستحق منها الصفة التي هي على طريقة الفاعل والرسالة تضاف إلى الله لأنّه المرسل بها، ولهذا قال برسالتي ولم يقل بنبوتي، والرسالة جملة من البيان يحملها القائم بها ليؤدّيها إلى غيره، والنبوة تكليف القيام بالرسالة فيجوز إبلاغ الرسالات، ولا يجوز إبلاغ النبوات(١) .

وكلا النصين من الراغب والعسكري، يهدفان إلى أمر واحد، وهو أنّ الرسالة نحو سفارة من الغير، لتنفيذ ما تحمله الشخص من جانب مرسله، وانّ ما نقل من الفروق من أعلام التفسير وغيره خارج عن جوهرها وصلب معناها، فإن دلّ عليها فإنّما هو لأمر آخر، كما سيوافيك بيانه.

الثاني: المفهوم من التدبر في الآيات وما في كلمات أعلام اللغة: انّ النبي هو الإنسان الموحى إليه من الله بإحدى الطرق المعروفة، وأمّا الرسول فهو الإنسان(٢) ( أو الأعم ) القائم بالسفارة من جانب شخص سواء أكان هو الله أو غيره بإبلاغ قول أو تنفيذ عمل.

وإن شئت قلت: إنّ النبوة منصب معنوي وارتقاء للنفس الإنسانية ،

__________________

(١) الفروق اللغوية: ٢٢٢، الباب الرابع والعشرون.

(٢) وما أشبه حال اللفظين: النبي والرسول بلفظي « المجتهد » و « المبلغ ».

(٣) سيوافيك بيان انّه لا يشترط في صدق الرسول كونه مبعوثاً من جانبه سبحانه، بل يعم ما لو كان مبعوثاً من شخص عادي، فانتظر.

٣٧٠

تستدعي إمكان الاطّلاع على الغيب بإحدى الطرق المألوفة، والرسالة سفارة للمرسَل ( بالفتح ) من جانب المرسِل ( بالكسر ) لتنفيذ ما تحمله منه في الخارج، أو ابلاغه إلى المرسل إليهم.

وإن شئت قلت: النبوة تحمّل الأنباء والأخبار عن الله، والرسالة تحمّل التبشير والإنذار والتبليغ من جانب أي شخص كان سواء أكان هو الله أم غيره(١) .

وتصديق ذلك يتوقف على إمعان النظر فيما نقلناه عن الأعلام في تفسير مادتي النبوة والرسالة اللتين اشتق منهما لفظا النبي والرسول.

توضيح ذلك: أنّ النبي باعتبار اشتقاقه من النبأ بمعنى الخبر(٢) كما عليه جمهور اللغويين عبارة عمّن قام به المبدأ وهو « النبأ » فلا مناص في حالة إطلاق النبي على شخص، عن اتصافه بمبدئه وقيامه به بنحو من أنحاء القيام فهو ـ بما أنّه واجد لهذا المبدأ أي الاطلاع على النبأ أو الأنباء عنه ـ نبي.

ففي أي مورد أُطلقت كلمة النبي في كلامه سبحانه أو جاءت في السنّة واللغة فلا يراد منها إلّا من خصص بهذه المكانة، أي مكانة تحمل النبأ وشرف الاتصال بالله والعلم بما عنده والإيحاء إليه بإحدى الطرق المذكورة في القرآن الكريم، أعني: سورة الشورى الآية ٥١.

ولأجل ذلك نراه سبحانه يقرن لفظ الوحي بلفظ النبيين ويقول:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ) (٣) .

__________________

(١) مثل قوله:( فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ ) ( يوسف: ٥٠ ).

(٢) نعم لا كل خبر أو كل نبأ، بل النبأ من الله ولو كان في اللغة موضوعاً للمعنى المطلق، لكن المصطلح استقر على استعماله في النبأ من الله.

(٣) النساء: ١٦٣.

٣٧١

وأمّا قوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) (١) فانتخاب الرسول دون النبي هو المناسب للوحي إنّما هو لأجل قوله( أَرْسَلْنَا ) الذي يناسب الرسول كما سيوافيك بيانه، والآية تهدف إلى أنّ الرسالات كلها كانت قائمة على أساس التوحيد ونفي عبادة غيره تعالى.

والمراد من الرسول في قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ) (٢) هو أمين الوحي(٣) ، يعني أنّ الرسول ( الروح الأمين ) يوحي إلى ذلك البشر الذي أراد الله أن يكلّمه، بإذنه سبحانه فالرسول في الآية موح لا موحى إليه كما لا يخفى.

وإلى ذلك يشير العلّامة اللغوي العسكري حيث يقول في فروقه: « والإنباء عن الشيء قد يكون من غير تحمل النبأ » فيريد أنّ النبوة متقومة بتحمل الخبر ولا يشترط في صدقها كون النبي مأموراً بإبلاغه إلى الغير(٤) بخلاف الرسالة فإنّها متقومة بتلك الحيثية.

وأمّا الرسالة: فحقيقتها عبارة عن القيام، بإنفاذ عمل أو إبلاغ كلام من جانب الغير سواء أكان هو الله سبحانه أم غيره(٥) وتحمّل التبشير والإنذار كما نقلناه عن الراغب والعسكري.

ويدل على ذلك أنّ الله سبحانه إذا أراد من نبيه تبليغ كلام عنه أو تحقيق عمل في الخارج يخاطبه كثيراً بقوله:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ) لا بلفظ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ )

__________________

(١) الأنبياء: ٢٥.

(٢) الشورى: ٥١.

(٣) وإلاّ لكان الأنسب مع قوله:( فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ) لفظ « النبي » لا « الرسول » كما لا يخفى.

(٤) نعم دلّت ظواهر الآيات على أنّ كل نبي كان مبعوثاً إلى الناس كما مضى.

(٥) سيوافيك دليل عمومية الرسالة من جانب المرسل ( بالكسر ) كما سيوافيك دليل عموميتها من جانب نفس المرسل ( بالفتح ).

٣٧٢

كقوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ) (١) وقوله سبحانه:( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ) (٢) وهذا صريح في أنّ منصب الرسالة هو منصب التبليغ وتنفيذ أمر المرسل لا منصب نزول الوحي والإنباء عن الله مباشرة.

وأوضح منه، أنّه سبحانه إذا أراد أن يحدّد وظيفة سفرائه ويبيّن لهم أنّهم بعثوا للتبليغ والإبلاغ لا الإكراه والإلزام، يقول:( فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا البَلاغُ المُبِينُ ) (٣) ، وقوله سبحانه:( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا البَلاغُ المُبِينُ ) (٤) سبحانه:( فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا البَلاغُ المُبِينُ ) (٥) وقوله سبحانه:( إِلا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ) (٦) .

والنتيجة: إنّه إذا تعلّق غرضه سبحانه بالبلاغ بأشكاله المختلفة، يقرنه بالرسالة دون النبوة ويقول سبحانه:( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ ) (٧) ، ويقول سبحانه:( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ ) (٨) ويقول أيضاً:( إِنَّمَا العِلْمُ عِندَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُم مَا أُرْسِلْتُ بِهِ ) (٩) ، إلى غير ذلك من الآيات.

__________________

(١) المائدة: ٦٧.

(٢) مريم: ١٩.

(٣) النحل: ٣٥.

(٤) العنكبوت: ١٨.

(٥) التغابن: ١٢.

(٦) الجن: ٢٣.

(٧) الأحزاب: ٣٩.

(٨) الأعراف: ٦٢.

(٩) الأحقاف: ٢٣.

٣٧٣

ولذلك ترى المسيحعليه‌السلام لـمّا ادّعى السفارة من الله وانّه جاء من عند الله لبيان أحكامه ورسالاته خاطب قومه بقوله:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) (١) ولم يقل « إني نبي الله ».

من كل ذلك يمكننا أن نستنتج أنّ الرسالة سفارة من المرسل لبيان ما تحمّله ( أي فرد كان ) ونشره بين الناس، وانّ الحيثية المقومة للرسالة، أمر يستدعي التبليغ والتنفيذ، وأمّا النبوة فإنّما هي منصب يستدعي الاتصال بالله سبحانه والعلم بما عنده من معارف وأحكام، ولا صلة بين الحيثيتين، سوى انّ النبوة أساس الرسالة(٢) فلا تستقيم رسالة الإنسان من الله إلّا بارتقائه إلى مقام النبوة واتصاله بالمبدأ الأعلى، فكانت الرسالة من آثار النبوة.

ولكن هذا الأمر لا يجعل اللفظين مترادفين ومشيرين إلى معنى واحد بل كل منهما موضوع لمعنى خاص لا يختلط أحدهما بالآخر.

الثالث: انّ النبي لم يستعمل في القرآن والحديث إلّا في الإنسان الموحى إليه من الله وبما انّ الجهة المقومة للنبوة عبارة عن كونه مطّلعاً على الغيب أو منبئاً عنه، فإنّه يصير النبي عندئذ عبارة عن الإنسان الموحى إليه من جانب الله، المطلع على الغيب، أو المنبئ عنه، فاعتبر فيه قيدان :

١. كونه إنساناً.

٢. كونه موحى إليه من جانب الله سبحانه ومتحمّلاً النبأ منه عزّ وجل.

وأمّا الرسول فلمّا كانت الجهة المقوّمة لرسالته، تحمل إنفاذ عمل أو بيان قول من جانب المرسل في إطار التبشير والإنذار أو ما يشبهه فلا يلزم أن يكون إنساناً بل يمكن أن يكون ملكاً أو جنّاً كما لا يلزم أن يكون مبعوثاً من جانب الله

__________________

(١) الصف: ٦.

(٢) المراد: الرسالة من جانب الله فلا ينافي ما سيوافيك من التوسع في الرسالة.

٣٧٤

سبحانه بل أعم منه، ومن هنا تجد القرآن يتوسع في استعمال كلمة « الرسول » من ناحيتين :

الأولى: التوسع من ناحية المرسل ـ بالفتح ـ حيث أطلقه على الملك المكلّف من قبله تعالى، بإنفاذ عمل كقوله سبحانه:( قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ ) (١) وقوله سبحانه:( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ) (٢) ، وقوله سبحانه:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) (٣) ، وهذا بخلاف النبي فإنّه لا يطلق إلّا على البشر.

الثانية: التوسع من جانب المرسل ـ بالكسر ـ فلا يخصه بالمرسل من ناحيته سبحانه بل يطلقه على مطلق المبعوث من جانب الغير كقوله سبحانه:( وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ ) (٤) ولا نفهم من( الرَّسُولُ ) في الآية إلّا نفس المعنى الذي نفهمه من قوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ) (٥) وهذا التوسع(٦) في لفظ الرسول في ناحيتي المرسل ( بالكسر ) والمرسل من خصائص الرسالة ولا يوجد شيء منه في النبي، فلا يطلقه القرآن إلّا على البشر ـ دون الملك ـ وعلى الذي يوحى إليه من ناحيته سبحانه دون غيره.

__________________

(١) هود: ٨١.

(٢) الحج: ٧٥.

(٣) الأنعام: ٦١.

(٤) يوسف: ٥٠.

(٥) المائدة: ٦٧.

(٦) بل يجري نظير هذا التوسع في لفظ المرسل، لقوله سبحانه:( إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُرْسَلُونَ ) ( يس: ١٤ )، فقد اتفقت كلمة أكثر المفسّرين على أنّ المراد منه في الآية الفرقة المبعوثة من جانب المسيح إلى ابلاغ دينه وقوله سبحانه:( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ ) ( النمل: ٣٥ ).

٣٧٥

نتائج البحث

يستنتج ممّا ذكرناه أُمور :

الأوّل

إنّ النبوة متقوّمة بالاتصال بالله والإنباء عنه ونزول الوحي إلى من يسند إليه منصبها بإحدى الطرق، وأمّا الرسالة فهي متقوّمة بتحمّل الرسول إبلاغ كلام من المرسل إلى المرسل إليه، مثل قوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ) (١) أو تنفيذ أمر في الخارج كما في قوله سبحانه:( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ) (٢) .

وعلى هذا فكل ما ذكروه في الفروق بين النبي والرسول سواء أصحت أم لا ممّا لا يدل عليه اللفظان بما لهما من المعنى اللغوي ولا هي داخلة في صلب معناهما ولا يدلاّن عليها بإحدى الدلالات الثلاث(٣) .

فالنبي هو الإنسان المتصل بالله سبحانه بسبب الإيحاء إليه، بطرقه المعهودة(٤) والرسول الشخص المرسل من جانب المرسل أي فرد كان لتبليغ أمر أو إنفاذ عمل، فليس في مفهوم الرسول المصطلح، انّه يوحى إليه، وانّه منبئ عن الله.

وإن شئت قلت: النبي: للإنسان المنبئ عن الله سبحانه، أو المطّلع على

__________________

(١) المائدة: ٦٧.

(٢) مريم: ١٩.

(٣) دلالة اللفظ على تمام معناه، دلالة مطابقية، وعلى جزئه تضمنية، وعلى لازم معناه التزامية.

(٤) وهذا هو المفهوم من مرادفه في اللغة الفارسية « پيامبر » أو « پيغمبر ».

٣٧٦

الخبر منه سبحانه، غير مقيد بشيء من هذه الفروق، كما أنّ الرسول هو الشخص المرسل من جانب أي شخص كان لتنفيذ أمر، وإبلاغ رسالة، غير محددة بشيء منها، ولأجل ذلك فإن انفرد لفظ النبي بالذكر، ولم يجمع مع لفظ الرسول لا يتبادر منه إلى الذهن إلّا المنبئ عن الله والمطّلع على الغيب فقط.

ومثله لفظ الرسول، إذا لم ينضم إليه لفظ النبي، فلا يتبادر منه إلى أذهاننا إلّا القائم بإبلاغ رسالة أو تنفيذ أمر فقط، من دون أن يتوجه الذهن إلى أحد هذه الفروق كما لا يتوجه إلى كونه مرسلاً من جانب الله، وعلى هذا فاللفظان مختلفان معنى وأمّا النسبة، فحيث إنّ القرآن يتوسع في استعمال الرسول، فيطلقه على الإنسان والملك، بخلاف النبي فلا يستعمله إلّا في الإنسان، بل يتوسع في استعمال الرسول من جانب المرسل ( بالكسر ) فيطلقه على المبعوث لا من جانبه سبحانه، مثل قوله سبحانه:( فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ ) (١) بخلاف النبي فيختص بالإنسان الموحى إليه من ناحيته سبحانه، فتكون النسبة هي الأعم والأخص مطلقاً، فليس كل رسول نبياً، لما عرفت من التوسع، وأمّا كون كل نبي رسولاً فلو قلنا بأنّ كل نبي مبعوث إلى تنفيذ رسالة ما يصح ما ذكر من النسبة: فكل نبي رسول، وليس كل رسول نبياً لما عرفت من التوسع في الجانبين.

وأمّا إذا سلمنا كون بعض النبيّين غير مبعوث إلى تنفيذ رسالة، فتنقلب النسبة إلى العموم والخصوص من وجه، فبعض النبيّين ليس برسول، كما أنّ بعض الرسل كالمبعوث من جانب غيره سبحانه ليس بنبي، وقد يجتمعان كما في نبينا وغيره من أُولو العزم وغيرهم.

ثمّ إنّي وقفت بعد ما حرّرت ذلك على كلمات تصرح ببعض ما ذكرناه :

__________________

(١) يوسف: ٥٠.

٣٧٧

١. النبوة تحمّل النبأ من جانب الله والرسالة معناها تحمل التبليغ(١) .

٢. للرسول شرف الوساطة بين الله تعالى وعباده، وللنبي شرف العلم بالله وبما عنده(٢) .

٣. الرسول هو الذي يحمل رسالة من الله إلى الناس، والنبي هو الذي يحمل نبأ الغيب الذي هو الدين وحقائقه(٣) .

٤. الأقرب انّه لا فرق بينهما من حيث إنّ كلاً منهما ينبئه الله بما يريد، فإذا أنبأه وأمره بالتبليغ أُطلقت عليه كلمة النبي، لأنّ الله تعالى أنبأه، وكلمة الرسول لأنّه تعالى أمره بالتبليغ(٤) .

٥. الرسول والنبي واحد، والاختلاف إنما هو بالنظر والاعتبار من حيث إنّه يحمل رسالة الله، يقال له رسول، ومن حيث إنّه ينبئ بها الذين أُرسل إليهم يقال نبي(٥) .

والحاصل: انّ ما ذكر من الفروق سواء أصح أم لا فكلّه في مرتبة متأخرة عن حقيقة الرسالة والنبوة غير مأخوذ في صلب معناهما وإنّما يصار إليها لقرائن أُخر.

ويظهر ممّا ذكرناه ضعف ما نقلناه عن بعض الأجلّة: « انّ ما كان من العلوم والحقائق يفاض على الإنسان بواسطة الملك بحيث يشاهده ويكلّمه مشافهة

__________________

(١) الميزان: ١ / ٢٨٤.

(٢) الميزان: ٢ / ١٤٥.

(٣) المصدر نفسه: ١٦ / ٣٤٥، المراد تحديد الرسول المصطلح، وإلاّ فليس في معناه كونه مبعوثاً من جانبه سبحانه وبذلك يظهر حال أكثر الكلمات.

(٤) الكاشف: ٥ / ٣٤٠.

(٥) المصدر نفسه: ٧ / ٩١.

٣٧٨

ويقرأ عليه كلام ربّه أو يلقي في روعه يسمّى رسالة، والإنسان الحامل رسولاً، وأمّا ما يفاض إليه بغير الطريق المذكور يسمى نبوة والإنسان العالم بهذا الطريق نبياً ».

فانّه ينقض عليه: بأنّ كل ما ذكره، وإن كان مؤيداً ببعض المأثورات لكنّه خارج عن حقيقة معنى النبوة والرسالة حسب الوضع اللغوي، ولم يثبت انّ للقرآن اصطلاحاً خاصاً أو حقيقة شرعية في إطلاق اللفظين واستعمالهما، والظاهر أنّ القرآن جرى في إطلاقه واستعماله مجرى المألوف بين أهل اللسان، ولم يجئ في المقام باصطلاح خاص.

وعلى ذلك فكل ما ذكروه من الفروق، من أنّ الرسول هو من نزل عليه كتاب أو أتى بشريعة جديدة، أو خصوص من كان مأموراً بالتبليغ من الله، أو من يتلقى الوحي عن رسل السماء والملائكة، وانّ النبي على خلافه، فلا يشترط فيه نزول الكتاب أو مجيئه بشريعة جديدة، أو كونه مأموراً بالتبليغ من الله أو غير ذلك، كلّها على فرض صحتها، خارجة عن صلب معناهما، إذ لا يدل اللفظان على واحد منها أصلاً.

وبذلك يظهر أنّ الرسول وان كان يجب إطاعته فيما يأمر وينهي، لقوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) (١) أو أنّه وإن كان يتم الحجة على عباده سبحانه، بحيث تستتبع مخالفته هلاكاً وعذاباً، لقوله سبحانه:( لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (٢) غير انّ ذلك لا يستلزم دخول لزوم الإطاعة وإتمام الحجة في صلب معنى الرسول، فإنّ وزان قوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) وزان قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ

__________________

(١) النساء: ٦٤.

(٢) النساء: ١٦٥.

٣٧٩

بِآيَةٍ إلّا بِإِذْنِ اللهِ ) (١) ، بل كلاهما من لوازم الرسالة الإلهية التي تحملها الرسل، فإنّ الهدف الأسمى من إرسال الرسل، قطع العذر على الناس، وإتمام الحجة عليهم، وعند ذاك يجب على الناس إطاعتهم فيما يأمرون وينهون من جانبه سبحانه.

ولعل إلى ذلك يشير سيدنا الأستاذ بقوله: « إنّ النبي والرسول كلاهما مرسلان إلى الناس، غير انّ النبي بعث لينبئ الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيراً بما عند الله، والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على أصل نبأ النبوة، كما يشعر به أمثال قوله تعالى:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) (٢) وقوله تعالى:( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً ) (٣) .

وعلى هذا فالنبي هو الذي يبيّن للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أُصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية الله من هداية الناس إلى سعادتهم، والرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على إتمام حجّة يستتبع مخالفته هلاكاً أو عذاباً أو نحو ذلك قال تعالى:( لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (٤) ، ولا يظهر من كلامه تعالى في الفرق بينهما أزيد مما يفيده لفظهما بحسب المفهوم، ولازمه هو الذي أشرنا إليه من أنّ للرسول شرف الوساطة بين الله تعالى وبين عباده، وللنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شرف العلم بالله وبما عنده »(٥) .

__________________

(١) الرعد: ٣٨.

(٢) يونس: ٤٧.

(٣) الإسراء: ١٥.

(٤) النساء: ١٦٤.

(٥) الميزان: ٢ / ١٤٣ وقد عرضنا آراءه المختلفة في ما سبق.

٣٨٠