مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407
المشاهدات: 100070
تحميل: 6286


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 100070 / تحميل: 6286
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 4

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-221-8
العربية

أحب النبي المصطفى وابن عمه

علياً وسبطيه وفاطمة الزهرا

همو أهل بيت أذهب الرجس عنهمو

وأطلعهم أفق الهدى أنجماً زهرا

موالاتهم فرض على كل مسلم

وحبهمو سني الذخائر للأخرى

٦. وقال النبهاني:

آل طه يا آل خير نبي

جدكم خيرة وأنتم خيار

أذهب الله عنكم الرجس أه‍

‍ل البيت قدماً وأنتم الأطهار

لم يسل جدكم على الدين أجراً

غير ود القربى ونعم الاجار(١)

هذه نماذج ممّا قيل شعراً في مفاد الآية، وهي تكشف بكل وضوح وجلاء عن أنّ الآية لم تقصد منذ أن نزلت إلّا تكريس محبة ذوي القربى.

ولا شك أنّ الأشعار استوحت محتواها من اللغة وما فهمه المحدّثون، والعلماء الأوائل.

فالأبيات الماضية أمّا كانت من إنشاء العلماء أنفسهم، أو لقيت تأييدهم إلى درجة أنّهم نمَّقوا بها كتبهم في تفسير الآية، وهذا إن دلَّ على شيء فانّما يدلُّ على أنّ الآية لا تحتمل إلّا ما أسفرت عنه كتب الحديث والتفسير والتاريخ.

فهذه هي اللغة كما رأيناها، وهؤلاء هم الأدباء وأبياتهم كما قرأناها كلّها تتفق على أنّ الله سبحانه لم يطلب أجراً لرسالة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا محبَّة ذوي القربى.

وأمّا أنّه كيف يصلح أن تكون المودة في القربى أجراً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فسوف نعود إليه عند البحث عن المقام الثاني، فارتقب.

__________________

(١) لاحظ: الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء: ٢٢٩.

٤١

أسئلة وأجوبتها

ثمّ إنّ هاهنا أسئلة حول مفاد الآية طرحها بعض من لا إلمام له بتفسير كلام الله وتوضيح سنة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونحن نوردها هنا مع الإجابة عليها :

السؤال الأوّل :

لو أراد الله سبحانه من الآية مودّة القربى لقال: إلّا مودّة أقربائه، أو المودّة للقربى.

الجواب: انّ السائل توهم أنّ « القربى » جمع « القريب » أو « الأقرب » فقال لو أراد مودة أقربائه لقال كذا وكذا، ولكنّه غفل عن أنّ القربى مصدر كزلفى وبشرى كما قال الزمخشري في كشّافه، ولأجل ذلك لم يستعمل في القرآن إلّا مع المضاف كقوله « ذي القربى » و « ذوي القربى » و « أُولي القربى » مشيراً إلى صاحب القرابة الرحمية، وأمّا في مورد الآية فقد استعمل بلفظة « في القربى » بحذف المضاف من الأهل وغيره.

قال الزمخشري في كشافه: فإن قلت فهلا قيل إلّا مودة القربى، أو إلّا المودة للقربى، وما معنى قوله:( إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) ، قلت: جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها كقولك: « لي في آل فلان مودة، ولي فيهم هوى وحب شديد » تريد أحبهم وهم مكان حبي، ومحله، وليست « في » بصلة للمودة كاللام إذا قلت « إلّا المودة للقربى »، إنّما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك، المال في الكيس، وتقديره إلّا المودة ثابتة في القربى، ومتمكنة فيه « والقربى » مصدر بمعنى القرابة كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة والمراد « في أهل القربى »(١) .

__________________

(١) الكشّاف: ٣ / ٨١، ط مصر عام ١٣٦٧.

٤٢

قال النبهاني في الشرف المؤبد: القربى مصدر بمعنى القرابة وهو على تقدير مضاف أي ذوي القربى يعني الأقرباء قال: وعبر ب‍ « في » ولم يعبر ب‍ « اللام »، لأنّ الظرفية أبلغ وآكد للمودة(١) .

السؤال الثاني :

إنّ تفسير الآية بمودة أهل البيت وعترة النبي غفلة عن نقطة هامة، وهي: أنّ الآية وردت في سورة الشورى وهي سورة مكية ولم يكن يومذاك الحسنان، بل ربما لم تكن فاطمة أيضاً، فكيف تفسّر الآية بعترة النبي، وتخصص العترة بجماعة خاصة، أعني: علياً وفاطمة والحسن والحسين، مع أنّ أكثرهم لم يكونوا موجودين زمن نزول الآية ؟

وهذا السؤال يرجع إلى ابن تيمية في « منهاجه ص ٢٥٠ »، حيث قال: إنّ سورة الشورى مكية بلا ريب نزلت قبل أنْ يتزوج علي بفاطمة وقبل أنْ يولد له الحسن والحسين.

الجواب: انّ هناك طريقين لمعرفة الآيات المكية وتمييزها عن المدنية.

الطريق الأوّل: هو ملاحظة نفس مفاد الآية فهو الذي يكشف عن موضع نزول الآية أو السورة، إذ الآيات التي تدور حول التوحيد والمعارف العقلية، وانتقاد الوثنية ورفض الأوثان، والدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وبيان ما جرى في القرون الغابرة على الأمم السالفة، وما يشابه هذه الموضوعات هي مكية في الأغلب على أساس أنَّ القضايا الوحيدة التي كانت تطرح في المحيط المكي كانت تدور حول هذه المسائل وأمثالها، فإنّ محيط مكة في فجر الدعوة الإسلامية ما كان يتحمل أكثر من طرح هذه القضايا.

__________________

(١) الشرف المؤبد نقله عنه العلّامة شرف الدين في الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء: ٣٢.

٤٣

أمّا الآيات التي تدور حول شؤون النظام الإسلامي والجهاد ومحاجة اليهود والنصارى والأحكام الشرعية والنظم الاجتماعية فهي مدنية غالباً.

ولقد تمكّن العلماء مؤخراً أن يحصلوا بمعونة هذا المعيار الدقيق، على نتائج باهرة في مجال فهم النصوص القرآنية.

فإذا كان هذا هو الملاك في تشخيص مكية الآيات عن مدنيتها، فهذا يقودنا ـ بيسر ـ إلى اعتبار كون الآية المبحوثة هنا مدنيّة لا مكّية، لأنّها تناسب ظروف المدينة، ولا تناسب ظروف مكة، إذ ليس من المعقول أن يتحدّث النبي بمثل هذا الطلب في مكّة حيث لم يكن قد آمن به بعد إلّا نفر يسير لا يتجاوز عددهم عدد الأصابع أو يزيد عن ذلك بقليل، حيث كان يواجه أغلبية معادية، مبالغة في عدائها، متعنتة في خصومتها، وأمّا النفر اليسير، أعني: الجماعة القليلة المؤمنة، فما كان يناسب طلب شيء منهم حتى المودَّة وهم على ذلك الضعف والمحنة الشديدة والتشرّد والمعاناة.

لندع الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ولنأخذ أيَّ رجل بليغ آخر يعرف متى يتكلم وماذا يقول، ترى هل من الصحيح أن يقول لجماعة لم تؤمن به بعد أو لجماعة قليلة مؤمنة كانوا يعذبون بألوان التعذيب:( لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) سواء أفسرت الآية بعترة الرسول وأهل بيته، أو غيرها من المعاني التي أبدعها بعضهم في تفسير الآية ؟

أجل انّ مثل هذا الطلب إنّما يصح أن يوجهه إلى الذين صدّقوه وآمنوا به وقبلوا دعوته وكانوا قد وصلوا إلى بعض الأهداف والنجاحات واستقرّت أُمورهم وصفا لهم الجو والحال.

وخلاصة القول: إنّ سؤال الأجر من جانب النبي وهو في إبّان الدعوة ليس أمراً بليغاً حيث لم يستتب له الأمر بعد، ولم يحصل هناك هدوء ولا سكون له ولمن

٤٤

آمن به واتبعه، وإنّما هو مناسب لظرف آخر مثل أواخر عهد الرسالة.

الطريق الثاني: لتمييز مكيّة الآيات عن مدنيتها هو الرجوع إلى النصوص الواردة في هذا المورد عن العلماء وكبار المفسرين، فإذا كان هو الميزان لمعرفة الآيات المكية من المدنية فإنّنا نجد المفسّرين ـ وبالأخص أُولئك الذين ألّفوا كتباً حول مواضع نزول الآيات والسور ـ يقولون: إنّ سورة الشورى مكيّة إلّا أربع آيات أُولاها قوله تعالى:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) فهذا إبراهيم بن عمر البقاعي الذي ألّف كتاباً في هذا المضمار وأسماه « نظم الدرر وتناسق الآيات والسور » يقول في كتابه هذا: سورة الشورى مكية إلّا الآيات ٢٣، ٢٤، ٢٥ و ٢٧(١) .

والواقع أنّه لم يكن البقاعي وحده هو القائل بمدنية هذه الآية، وإنّما قال به عدّة من المفسّرين منهم: نظام الدين النيسابوري، صاحب التفسير الكبير يقول في ابتداء تفسيره لسورة الشورى: سورة الشورى مكية إلّا أربع آيات ومنها آية المودّة في القربى نزلت في المدينة(٢) .

ويقول الخازن في تفسيره: سورة الشورى مكية، ونقل عن ابن عباس أنّ أربع آيات منها نزلت في المدينة أولاها:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) ( ثم يضيف قائلاً ): وليست هذه الآيات الأربع مدنية فحسب بل هناك آيات أُخرى نزلت بالمدينة أيضاً، فقد ذهب فريق إلى أنّ الآيات من ٣٩ إلى ٤٤ أيضاً مدنية(٣) .

__________________

(١) راجع تاريخ القرآن للزنجاني: ٥٨. والبقاعي هذا هو برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الشافعي، ولد عام ٨٠٩ ه‍، وتوفّي في دمشق عام ٨٨٥ ه‍. قال في كشف الظنون: ٢ / ٦٠٥: وهو كتاب لم يسبقه إليه أحد جمع فيه من أسرار القرآن ما تتحير فيه العقول.

(٢) تفسير النيسابوري: ٣ / ٣١٢.

(٣) تفسير الخازن: ٤ / ٩٤.

٤٥

ثم إنّ بإمكان القارئ أن يراجع المصاحف التي طبعت تحت إشراف لجان أزهرية ومحققين منهم ليجد فيها هذه العبارة فوق سورة الشورى: سورة الشورى مكّية إلّا الآيات ٢٣، ٢٤، ٢٥ و ٢٧ فمدنية.

وليعلم القارئ أنّ ترتيب الكتاب العزيز في الجمع ليس على حسب ترتيبه في النزول إجماعاً وباتفاق جميع العلماء، ومن ثَمّ كانت أغلب السور المكية لا تخلو من آيات مدنية، وكذلك أكثر السور المدنية لا تخلو من آيات مكية، بحكم أئمّة السلف والخلف من الفريقين ووصف السورة بكونها مكية أو مدنية تابع لأغلب آياتها لا جميعها(١) .

ولكي يكون هذا الكلام مقروناً بالدليل ومدعماً بالبرهان نأتي بنماذج من هذا :

١. سورة العنكبوت مكية إلّا من أوّلها عشر آيات فهي مدنية(٢) .

٢. سورة الكهف مكية إلّا من أوّلها سبع آيات فهي مدنية، وقوله( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ) الآية(٣) .

٣. سورة هود مكية إلّا قوله:( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ ) وقوله:( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ ) (٤) .

٤. سورة مريم مكية إلّا آية السجدة وقوله:( وَإِن مِنكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) (٥) .

٥. سورة الرعد فانّها مكية إلّا قوله:( وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وبعض آيها

__________________

(١) الكلمة الغرّاء: ٢٢٧.

(٢) راجع تفسير الطبري: ٢٠ / ٨٦، وتفسير القرطبي: ١٣ / ٣٢٣، والسراج المنير: ٣ / ١٦.

(٣) تفسير القرطبي: ١٠ / ٣٤٦، والإتقان: ١ / ١٦.

(٤) تفسير القرطبي: ٩ / ١، والسراج المنير: ٢ / ٤٠.

(٥) إتقان السيوطي: ١ / ١٦.

٤٦

الآخر، أو بالعكس(١) .

٦. سورة إبراهيم مكية إلّا قوله:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ ) الآيتين(٢) .

٧. سورة الإسراء مكية إلّا قوله:( وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ ) إلى قوله:( وَاجْعَل لِي مِن لَدُنكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ) (٣) .

٨. سورة الحج مكية إلّا قوله:( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ) (٤) .

٩. سورة النمل مكية إلّا قوله:( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ) (٥) .

١٠. سورة القصص مكية إلّا قوله:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِن قَبْلِهِ ) (٦) .

١١. سورة القمر مكية إلّا قوله:( سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) (٧) .

١٢. سورة يونس مكية إلّا قوله:( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ ) الآيتين(٨) .

وغيرها مما نص به أئمّة التفسير، وما ذكرناه نماذج ممّا ذكروه.

فكما أنّ كون السورة مكيّة لا يستلزم كون جميع آياتها كذلك فكذلك كون السورة مدنية لا يستلزم كون جميعها كذلك، كما يجده المتتبع في طيات التفاسير.

__________________

(١) تفسير القرطبي: ٩ / ٢٧٨، ومفاتيح الغيب: ٥ / ٢٥٨.

(٢) تفسير القرطبي: ٩ / ٣٣٨، والسراج المنير: ٢ / ١٥٩.

(٣) تفسير القرطبي: ١٠ / ٢٠٣، وتفسير الرازي: ٥ / ٥٤٠، والسراج المنير: ٢ / ٢٦١.

(٤) تفسير القرطبي: ١٢ / ١، وتفسير الرازي: ٦ / ٢٠٦، والسراج المنير: ٢ / ٥١١.

(٥) تفسير القرطبي: ٥ / ٦٥، والسراج المنير: ٢ / ٢٠٥.

(٦) تفسير القرطبي: ١٣ / ٢٤٥، وتفسيرالرازي: ٦ / ٥٨٥.

(٧) السراج المنير: ٤ / ١٣٦.

(٨) تفسير الرازي: ٤ / ٧٧٤، والإتقان: ١ / ١٥، والسراج المنير: ٣ / ٢.

٤٧

كما أنّ بعض الآيات نزلت مرتين، نصّ بذلك العلماء، وعللوه بكونها عظة وتذكيراً، أو لاقتضاء علل متعددة ذلك(١) .

وإن شئت التفصيل فلاحظ أوائل السور من التفاسير تجد انّ المفسّرين حيث يحكمون بأنّ السورة مكية أو مدنية يستثنون في أغلب السور آيات خاصة، فلاحظ التفاسير في تفسير السور: المائدة، الأعراف، الرعد، الإسراء، الكهف، مريم، الحج، الشعراء، القصص، الروم، لقمان، سبأ، الزمر، الزخرف، الدخان، الرحمن.

فإنّ نظرة فاحصة في هذه السور والتفاسير حولها توقف الإنسان على أنّ كون السور مكية أو مدنية بمعنى أنَّ أغلب آياتها لا جميعها كذلك.

* * *

ولو فرضنا كون الآية مكية لكنه لا يستلزم كون المودة مقصورة على الموجودين من أقربائه بل يكون حكماً إسلامياً شاملاً لمن يتولَّد بعد نزول الآية من أقربائه نظير قوله:( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) فانّها شاملة لأولاد المخاطبين المتولدين بعد نزول الآية.

ثم إنّ تفسير النبيّ الآية بعلي وفاطمة وابنيهما يمكن أنْ يكون متأخراً عن نزول الآية لرفع الستار عن وجه الآية، فيكون من الإخبارات النبوية بالمغيبات.

ثمّ إنّ فرض مودتهما على الأمّة قبل ولادتهما لأجل كرامتهما عليه وقرب

__________________

(١) الإتقان: ١ / ٦٠، تاريخ الخميس: ١ / ١١ ومنها سورة الفاتحة، ولأجل تكرار نزولها سميت المثاني. وقد أخذنا هذه النصوص في مورد تلك الآيات عن الغدير: ١ / ٢٣٣، ٢٣٤ شكر الله مساعيه.

٤٨

منزلتهما منه، كما بشر الله آدم ونوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى بالنبي الخاتم، وعرّفهم جلالة قدره وعظم شأنه.

وعلى كل تقدير سواء أكان تفسير الآية بعلي وفاطمة وابنيهما مقارناً مع نزول الآية أم بعده، فقد روى المحدّثون عن ابن عباس أنّه لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ؟ فقال: « علي وفاطمة وابناهما »(١) .

وخلاصة القول: إنّ ما يعيّن مكيّة الآيات ومدنيتها هي الأحاديث الإسلامية، فالأحاديث التي تقول بأنّ سورة الشورى مكية هي التي تقول بأنّ آية( قُل لا أَسْأَلُكُمْ ) بل بضع آيات وردت فيها، نزلت في المدينة، ومخالفة هذه الأحاديث ليس سوى نوع اجتهاد في مقابل النص بل النصوص.

وعلى تسليم كونها مكية برمتها لا يضير عدم وجود بعض أفرادها حين النزول في مكة إذ أنّ من الجائز أن يشرِّع مقنن قانوناً يحترم طائفة من الناس يوجد بعض أفرادها حين التشريع، وهذا هو الاسلوب الذي يتبعه القرآن في كثير من تشريعاته حيث يقول:( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَىٰ ) (٢) . فلفظ الغنيمة يشمل كل ما تغلب عليه المسلمون في الأجيال كلها، كما أنّ لفظ( وَلِذِي القُرْبَىٰ ) يشمل أقرباء النبي سواء أكانوا موجودين زمن نزول الآية أم لا.

__________________

(١) الذخائر: ٢٥، والكشّاف: ٢ / ٣٣٩، مطالب السؤول: ٨، مفاتيح الغيب: ٧ / ٦٦٥، مجمع الزوائد: ٩ / ١٦٨، الفصول المهمة: ١٢، الكفاية للكنجي: ٣١، شرح المواهب: ٧ / ٣ و ٢١، والصواعق: ١٠١ و ١٣٥ عند البحث في المقام السادس، نور الأبصار: ١١٢، الاسعاف: ١٠٥ وستوافيك نصوصهم.

(٢) الأنفال: ٤١.

٤٩

والعجب تسمية ذلك في كلام بعضهم ( أي إدراج الآية المدنية في السورة المكية أو بالعكس ) تحريفاً باطلاً فإنّ هذا تصور باطل عن معنى التحريف الذي هو بمعنى الزيادة والنقيصة في القرآن وإلاّ يلزم أن نعتبر كلَّ المفسّرين والمحدّثين من القائلين بالتحريف لأنَّهم كثيراً ما يعتبرون الآية مدنية في ضمن السورة المكية وبالعكس.

على أنّ التحقيق هو أنَّ القرآن جمع في عصر الرسول بهذا الشكل الحاضر فبأمره رتبت سوره ونظمت آياته، ووضعت كل آية في موضعها، فإذا كان ذلك بأمر الرسول فهل يصح أن نعتبره تحريفاً ؟

روى المفسّرون عن ابن عباس والسدّي: أنّ قوله تعالى:( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (١) آخر آية نزلت من الفرقان على رسول الله وانّ جبرئيل قال له ضعها على رأس الثمانين والمائتين من البقرة، وهذا القول كأنّما إجماعي، وانّما الاختلاف في مدة حياة الرسول بعد نزولها.

السؤال الثالث

إنّ المحبة حالة قلبية غير اختيارية فلا يمكن الأمر بها بأن تقع تحت دائرة الطلب، لأنّه لو كانت هناك موجبات الود وجدت المحبة قهراً وإن لم يوص بها، وإن لم تكن فلا توجد وان كانت هناك توصية بذلك.

الجواب: عزب عن المستشكل أنّه لو كانت المودة أمراً غير اختياري موجباً لعدم صحة الأمر بها، لزم عدم صحة النهي عنها أيضاً فإنّ الموضوع غير

__________________

(١) البقرة: ٢٨١.

(٢) الكشاف: ١ / ٣٠٣، مجمع البيان: ١ / ٣٩٤، الإتقان: ١ / ٧٧.

٥٠

الاختياري لا يقع تحت دائرة الطلب مطلقاً، لا تحت دائرة الأمر ولا تحت دائرة النهي، بينما نرى القرآن ينهى عن مودة الكفّار وأعداء الله ويقول وهو يصف المؤمنين:( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ) (١) .

كما يقول سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ ) (٢) .

والآية الأولى وإن كانت تخبر في الظاهر عن أحوال المؤمنين إلّا أنّ المقصود منها هو الحث على الاجتناب عن مودتهم ومحبتهم.

إذا كانت المودة ـ لأجل كونها أمراً خارجاً عن الاختيار ـ لا يتعلق بها الأمر لماذا نجد الرسول العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله يدفع المسلمين إلى التوادد والتحابب ممثلاً لذلك بمثل جميل ورائع حيث يقول :

« مثل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى »(٣) .

وهذا الحديث ونظائره كثيرة في الأحاديث الإسلامية، وكلّها تعطي أنّ المودة موضوع قابل للطلب، كما أنّ المحدثين عقدوا في موسوعاتهم الحديثية أبواباً من قبيل باب « الحب في الله » وباب « البغض في الله » وأدخلوا في هذه الأبواب مجموعات كبيرة من الأحاديث التي تبدو منها بجلاء الدعوة إلى التوادد والتحابب بين الأمّة الإسلامية ونبذ الكفار وعدم موالاتهم.

__________________

(١) المجادلة: ٢٢.

(٢) الممتحنة: ١.

(٣) مسند أحمد: ٤ / ٧، والتاج: ٥ / ١٧، نقلاً عن صحيحي البخاري ومسلم.

٥١

ومن هنا يبدو أنّ البغض والحب ليسا كما يتوهم أمرين غير اختياريين وغير خاضعين للإرادة الانسانية، بل هما حالتان اختياريتان تتحققان بالتدبر واعمال النظر في مقدماتهما.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : « من أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله »(١) . أي تحب المؤمن لإيمانه بالله، وتبغض الكافر لكفره بالله.

ويقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في عهده إلى مالك الأشتر النخعي: « واشعر قلبك الرحمة والمحبة لهم واللطف بهم »(٢) .

ولو أُتيح لك أن تطّلع بالتفصيل على النصوص الواردة في مجال الحب والبغض، لرأيت كيف أنّ الرسول والأئمّة: أوصوا بمحبة جماعة معينة، ونهوا عن مودة آخرين، فها هو الرسول يقول: « عنوان صحيفة المؤمن حب علي بن أبي طالبعليه‌السلام »(٣) . والهدف النهائي من هذه الكلمة هو الدعوة إلى موالاة علي وعقد القلب على محبته.

ويقول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً: « من سرَّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن غرسها ربي، فليوال علياً من بعدي، وليوال وليّه، وليقتد بالأئمّة من بعدي، فانّهم عترتي خلقوا من طينتي، ورزقوا فهماً وعلماً »(٤) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ علي أيضاً: « ومن أحبني فليحبه، ومن أحبني وأحب هذين وأباهما وأُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة »(٥) .

__________________

(١) سفينة البحار: ١ / ١٢.

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب برقم ٥٣.

(٣) تاريخ بغداد: ٤ / ٤١٠.

(٤) حلية الأولياء: ١ / ٨٦.

(٥) مسند أحمد: ٥ / ٣٦٦، وصحيح مسلم كتاب الفتن: ١١٩، وصحيح الترمذي كتاب المناقب: ٢٠.

٥٢

ولا شك أنّ هدف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس إلّا دفع الناس إلى محبتهم وموالاتهم.

أضف إلى ذلك أنّ دعوة النبي إلى حب وموادّة جماعة خاصة، يكون سبباً قوياً لغرس بذور المحبة لتلك الجماعة في قلوب الناس، وسرعان ما تنمو تلك البذور وتتحول إلى حب عميق لتلك الجماعة، فعندما يأخذ الرسول بيد علي ويقول: « من أحبني فليحبه »، تكون تلك العبارة حافزاً لمشاعر القوم تجاه مكانة علي، وسبباً لنمو بذور المحبة في أفئدتهم، كيف لا، وهذه الكلمات من رسول الله هي التي صنعت جماعة أحبت علياً وآله غاية الحب.

نعم لو أوصى بمحبة من لا يتوفر فيه ملاك المحبة، إمّا لوجود نقاط ضعف في خلقه أو عمله لما نفعت التوصية، على أنّ هناك قد يوجد من يتوفر فيه ملاكالمحبة دون أن يعلم أكثر الناس به، فدعوة الناس إلى محبتهم وولائهم تكون سبباً إلى التفتيش في موجبات هذه الدعوة، وفي نهاية المطاف يكون هذا الأمر سبباً إلى التفات الناس إلى سجاياهم وأخلاقهم التي تخلق المحبة في قلوب الناس.

وبذلك يتضح أنّ دفع الناس إلى التعرف على عظمة الشخص يحصل بأحد أمرين :

الأوّل: رفع الستر عن سجاياه الأخلاقية وملكاته الفاضلة ببيان فضائله، وهو عمل يوجه الناس إلى القائد بصورة مباشرة.

الثاني: الأمر بحبه وموالاته، ويكون سبباً لإقبال الناس عليه، والتعرّف بالتدريج على مؤهلاته وصفاته وسجاياه.

وعلى هذا الأساس يعتبر الأمر بمودتهم منطلقاً للتعرف وأساساً للاتّباع.

٥٣

السؤال الرابع

كيف يأمر الرسول بمودة أقربائه مع أنّا نجد في صفوفهم من عادى الله ورسوله، وانّه سبحانه نهى عن مودة من يعاديه أو يعادي رسوله ؟

الجواب: لا شك أنّ القرآن الكريم نهى عن موالاة الكفار سواء أكانوا من أقرباء الرسول أم لا، قال سبحانه :

( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ ) (١) .

وقال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) .

وقال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ ) (٣) .

فبملاحظة هذه الآيات والآيات التي نزلت في مكة وطلبت من المؤمنين أن يجانبوا آباءهم وأُمهاتهم المشركين، يقضي العقل بأنّ الرسول إنّما طلب موالاة من يرتبط به بوشيجة القربى إذا كان موصوفاً بالإيمان والتقى، وليس من المعقول ممن ينهى عن موالاة الكفار والمشركين، أن يطلب موالاة أقربائه على الإطلاق حتى المشركين.

__________________

(١) التوبة: ١١٣.

(٢) التوبة: ٢٣.

(٣) الممتحنة: ١.

٥٤

وقصارى الكلام هو أن نخصّص إطلاق الآية بما دلَّ على المجانبة من الكفار والمشركين، وإن كانوا من أُولي القربى.

وهذا الإشكال ضئيل غاية الضآلة، فكأن صاحبه جهل أو تجاهل أنَّ القرآن يصدّق بعضه بعضاً، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، فالقرآن هو الذي يقول في حق ولد نوح:( إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) (١) . فعندئذ لا يتبادر من الآية سوى محبة المؤمنين والمخلصين من أقرباء النبي دون الكفار والمشركين.

على أنّ الآية كما أسلفناه نزلت في المدينة ولم يكن يومذاك حول النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله غير ذوي القربى المؤمنين، وقد أجاب دعوته كل من بقي من بني هاشم ممن لم يؤمن به قبل، فإذا كان نزول الآية في عام الفتح وبعده فلم يكن في أرض المدينة ومكة من أقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كافر أو منافق.

وبذلك يعلم أنّ ما ذكره روزبهان(٢) من أنّ ظاهر الآية شامل لجميع أقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ضعيف جداً، وعلى فرض الصحة فالحديث الصحيح خصّصها بعدّة خاصّة كما ذكرنا صورة الحديث فيما مر.

وأظن أنّ هذا الإشكال لم يكن يحتاج إلى هذا التفصيل لظهور بطلانه.

__________________

(١) هود: ٤٦.

(٢) إحقاق الحق: ٣ / ٢٠.

٥٥

المقام الثاني

التأليف بين هذه الآية والآيات الأُخر

إنّ الآيات القرآنيّة تشهد على أنّه كان شعار الأنبياء في طريق دعوتهم وتجاه أُممهم هو رفض الأجر، وعدم طلبه من الأمّة وكلّهم يقولون:( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ ) (١) .

فالقرآن يحدّثنا في سورة الشعراء عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب بأنّ شعارهم الوحيد طوال فتراتهم الرسالية كان هو قولهم:( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَىٰ رَبِّ العَالَمِينَ ) (٢) .

كما يرد في سورتي هود ويونس(٣) هذا المضمون عن نوح وهود أيضاً وإنّ من علائم النبوّة أنّ أصحابها لا يطلبون أجراً على رسالتهم.

ولأجل ذلك لما لاحظ المبعوث الثالث إعراض أهالي إنطاكية عن رسل المسيح، التفت إلى أهاليها وقال:( اتَّبِعُوا مَن لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُهْتَدُونَ ) (٤) .

__________________

(١) لاحظ الشعراء، الآيات: ١٠٩، ١٢٧، ١٤٥، ١٦٤، ١٨٠.

(٢) الشعراء: ١٠٩.

(٣) يونس: ٢٧، هود: ٢٩ و ٥١.

(٤) يس: ٢١.

٥٦

ومع ذلك كيف يصح أن يقال أنّ الرسول بدَّل هذا الشعار الذي ظل يتمسّك به كل الرسل على طول التاريخ، وجعل مودة أقربائه أجراً على رسالته، أضف إلى ذلك أنّ الرسول الأعظم نفسه يصرح بأمر من الله بأنّه لا يسأل أجراً ويقول:( لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ) (١) .

الجواب: انّ الأجر في اللغة هو العوض الذي يتلقّاه المرء لقاء عمل يؤدّيه، وهو بمفهومه يشمل كل الأجور الدنيوية والأخروية، بيد أنّ المقصود بالأجر المنفي في هذه الآيات، بقرينة توجيه الخطاب إلى البشر، هو الأجر الدنيوي الذي كان بإمكان البشر تقديمه إلى الرسل، ولا شكّ أنّ الرسول لم يطلب من أحد مثل هذه الأجور الدنيوية كما لم يطلب أيضاً إخوانه من الرسل ذلك من قبل.

ولفظ الأجر في الآية وإن كان يشمل الأجور الدنيوية كلَّها حتى التكريم والتبجيل لنفسه وقومه وأقربائه، وعند ذاك تكون المودَّة داخلة في المستثنى منه قطعاً.

غير انّ المطلوب في الآية ليس نفس المودة والولاء لأقربائه بما هي هي حتى يعود أجراً دنيوياً مطلوباً ويصير طلبها من الأمة مصادماً للآيات الحاكية عن رفض الأنبياء للأجر بتاتاً بل المودَّة في القربى وسيلة لاتصال الأمّة بعترة النبي، ويكون نفس ذلك الاتصال ذريعة لتكامل الأمّة في المراحل الفكرية والعملية، فعندئذ تنتفع الأمّة الإسلامية بها قبل أن تنتفع به العترة، فحينئذ لا تكون المودّة في القربى أجراً حقيقياً وان أُخرجت بصورة الأجر.

هذا هو مجمل الجواب، وأمّا التفصيل فيبين في ضمن أمرين :

الأوّل: انّ الأجر وإن كان يطلق على الأجر الدنيوي والأخروي، ولكن

__________________

(١) الأنعام: ٩٠.

٥٧

المقصود من الأجر المنفي في هذه الآيات هو الأجر الدنيوي بقرينة توجيه الخطاب إلى الناس.

أضف إليه أنّه ليس من المعقول أن يطلب الرسول من الناس أجراً أُخروياً، إذ ليس في وسع الناس أن يقدّموا مثل هذا الأجر إلى الرسول، هذا وإنّ القرآن يحدّثنا بأنّ الرسول كان يعلن للناس بأنّه لا يريد من أحد أجراً، وقد أمره سبحانه أن يقول :

( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ) (١) .

وقوله سبحانه :

( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ ) (٢) .

فمع مثل هذه التصريحات التي تمَّت في بدء الرسالة، لا يمكن للنبي أن يطلب من الناس شيئاً يعتبره الناس أجراً على عمله، كيف ؟ والنبي الأعظم كالأنبياء السابقين من نخبة المجتمع وصفوة البشرية، والإخلاص منطلقهم الوحيد في عملهم ودعوتهم، وكان شعارهم كل شيء لأجل الله.

قال شيخنا المفيد: إنّ أجر النبيّ هو الثواب الدائم، وهو مستحق على الله في عدله وجوده وكرمه، وليس المستحق على الأعمال، يتعلق بالعباد لأنّ العمل يجب أن يكون لله تعالى خالصاً، وما كان لله فالأجر فيه على الله تعالى دون غيره(٣) .

الثاني: هل الاستثناء في الآية استثناء منقطع أو استثناء متصل ؟

فقد نقل روزبهان عن بعضهم أنَّ الاستثناء منقطع والمعنى: لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً « لكن المودة في القربى حاصل بيني وبينكم » فلهذا أسعى

__________________

(١) الأنعام: ٩٠.

(٢) ص: ٨٦.

(٣) شرح عقائد الصدوق: ٦٨.

٥٨

وأجتهد في هدايتكم وتبليغ الرسالة إليكم(١) .

وقال بعضهم: الاستثناء متصل والمعنى: لا أسألكم عليه أجراً من الأجور إلّا مودّتكم في قرابتي، وأيّد ذلك القول بأنّ الاستثناء المنقطع مجاز واقع على خلاف الأصل، وانّه لا يحمل على المنقطع إلّا لتعذر المتصل، ولأجل ذلك لا يحمل العلماء الاستثناء على المنقطع إلّا عند تعذر المتصل، حتى عدلوا للحمل على المتصل، عن الظاهر في قوله: له عندي مائة درهم إلّا ثوباً، وله علي إبل إلّا شاة، وقالوا: معناه إلّا قيمة ثوب أو قيمة شاة، فيرتكبون الإضمار وهو خلاف الظاهر ليصير الاستثناء متصلاً.

وممّن ذهب إلى أنّ الاستثناء منقطع الشيخ المفيد، فقال: إن قال قائل ما معنى قوله تعالى:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) أوليس هذا يفيد أن قد سألهم النبي مودة القربى أجراً على الأداء ؟ قيل له ليس الأمر على ما ظننت لما قدمنا من حجة العقل والقرآن، والاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة لكنه استثناء منقطع، ومعناه: قل لا أسألكم عليه أجراً لكني ألزمكم المودة في القربى، وأسألكموها، فيكون قوله لا أسألكم عليه أجراً كلاماً تاماً قد استوفى معناه، ويكون قوله إلّا المودّة في القربى كلاماً مبتدأً، فائدته لكن المودّة للقربى سألتكموها، وهذا كقوله:( فَسَجَدَ المَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ *إِلا إِبْلِيسَ ) (٢) والمعنى فيه لكن إبليس وليس باستثناء من جملة وكقوله:( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلا رَبَّ العَالَمِينَ ) (٣) معناه لكن ربّ العالمين ليس بعدو لي، قال الشاعر :

وبلدة ليس بها أنيس

إلاّ اليعافير وإلاّ العيس

__________________

(١) إحقاق الحق: ٣ / ٢٠. وسوف نرجع إلى نقد هذا الفكر الذي زعمه روزبهان تفسيراً للآية. وممن اختار كون الاستثناء منقطعاً الرازي في تفسيره: ٧ / ٣٩٠، وقال تم الكلام عند قول: ( عليه أجراً ) ثم قال: ( إلّا المودة في القربى ): أي لكن اذكركم قرابتي منكم. فلاحظ.

(٢) الحجر: ٣٠ ـ ٣١.

(٣) الشعراء: ٧٧.

٥٩

وكأنّ المعنى في قوله: « وبلدة ليس بها أنيس » على تمام الكلام، واستيفاء معناه، وقوله: « إلّا اليعافير » كلام مبتدأ معناه لكن اليعافير والعيس فيها، وهذا بيّن لا يخفى فيه الكلام على أحد، ممن عرف طرفاً من اللسان، والأمر فيه عند أهل اللغة أشهر من أن يحتاج معه إلى استشهاده(١) .

والحق في المقام أن يقال: إنّ تقسيم الاستثناء إلى المتصل والمنقطع ليس على ما اشتهر، من أنّ المستثنى المنقطع غير داخل في المستثنى منه لا موضوعاً ولا حكماً، لا حقيقة ولا ادّعاء، إذ لو لم يكن المستثنى داخلاً بنحو من الأنحاء في المستثنى منه كان استثناؤه عنه لغواً غير صالح لأن يذكر في كلام العقلاء، فالمستثنى حتى المنقطع داخل في المستثنى منه دخولاً ادّعائياً لا حقيقياً، إذ ليس الاستثناء إلّا إخراج ما لولاه لدخل، ومعلوم انّ الإخراج فرع الدخول بالضرورة غاية الأمر انّ المستثنى منه بمفهومه اللغوي شامل للمستثنى كما في قولنا جاءني القوم إلّا زيد، بخلاف الاستثناء المنقطع، فالمستثنى منه وإن كان غير شامل للمستثنى بمفهومه اللغوي، لكن المخاطب ربّما يتوهم شمول الحكم المذكور للمستثنى منه، للمستثنى أيضاً، فيعود المتكلم إلى استدراك ذلك الوهم بعدم شموله للمستثنى، مثلاً إذا قلنا: جاء زيد إلّا خادمه، وجاء القوم إلّا مراكبهم، فالاستثناء لأجل دفع توهم، وهو انّ مجيء زيد والقوم كان مع خادمه ومراكبهم ولولا هذا التوهم لما صح الاستثناء، ولأجل ذلك قلنا بأنّ المستثنى في الاستثناء المنقطع داخل في المستثنى منه ادّعاء لا حقيقة، ولولا توهم الدخول لا يصح الاستثناء، فلا يصح أن يقال جاءني القوم إلّا الغراب أو إلّا الشجر، إذ ليس مجيئ الغراب والشجر معرضاً للتوهم.

وبذلك يظهر أنّ مصحح الاستثناء هو دخول المستثنى في المستثنى منه

__________________

(١) شرح عقائد الصدوق: ٦٨.

٦٠