مفاهيم القرآن الجزء ٥

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-6243-75-4
الصفحات: 539

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

ISBN: 964-6243-75-4
الصفحات: 539
المشاهدات: 183231
تحميل: 4743


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 539 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 183231 / تحميل: 4743
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 5

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-6243-75-4
العربية

قول عبدتها، فردَّ الله سبحانه على تلك المزاعم بقوله:( فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (١) . وعلى ما ذكرنا يحتمل أن يكون المراد من الشرك هو الشرك في التدبير، ومثل هذا لا يليق أن ينسب إلى من هو دون الأنبياء والأولياء، فكيف يمكن أن يوصف به صفي الله آدمعليه‌السلام ؟!

وأقصى ما يمكن أن يقال هو أنّ المراد من النفس الواحدة وزوجها في صدر الآية هو آدم وحواء الشخصيّان، ولكنه سبحانه عندما انتهى إلى قوله:( لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ) التفت من شخصهما إلى مطلق الذكور والأُناث من أولادهما أو إلى خصوص المشركين من نسلهما، فيكون تقدير الكلام( فَلَمَّا تَغَشَّاهَا ) أي تغشى الزوج الزوجة من نسلهما( حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ ) إلى آخر الآية.

وهذا ما يسمّى في علم المعاني بالالتفات، وله نظائر في القرآن الكريم قال تعالى:( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) (٢) . ترى أنّه سبحانه خاطب الجماعة بالتسيير ثمّ خصّ راكب البحر بأمر آخر ومثله الآية، ترى أنّه سبحانه أخبر عن عامّة أمر البشر بأنّهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها وهما آدم وحواء، ثم ساق الكلام إلى مطلق ذرية آدم من البشر.

وهذا الوجه نقله المرتضى في « تنزيه الأنبياء » عن أبي مسلم محمد بن بحر الاصفهاني(٣) .

وتوجد وجوه أُخر في تفسير الآية غير تامة(٤) . وفيما ذكرنا غنى وكفاية.

__________________

(١) مفاتيح الغيب: ٤ / ٣٤٣.

(٢) يونس: ٢٢.

(٣) تنزيه الأنبياء: ١٦.

(٤) لاحظ مفاتيح الغيب: ٤ / ٣٤١ ـ ٣٤٣ ; مجمع البيان: ٤ / ٥٠٨ ـ ٥١٠ ; أمالي المرتضى: ١٣٧ ـ ١٤٣.

١٤١

٢

عصمة شيخ الأنبياء نوحعليه‌السلام والمطالبة

بنجاة ابنه العاصي

قد استدل المخطّئة لعصمة الأنبياء على عدم عصمة نوحعليه‌السلام بما ورد في سورة هود من الآية ٤٥ إلى ٤٧، وإليك الآيات :

( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ *قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ *قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ ) .

وقد استدل بهذه الآيات بوجوه :

١. إنّ ظاهر قوله تعالى:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) تكذيب لقول نوح( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) ، وإذا كان النبي لا يجوز عليه الكذب، فما الوجه في ذلك ؟

٢. قوله:( فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) ، فإنّ ظاهره صدور سؤال منه غير لائق بساحة الأنبياء، ولأجل ذلك خوطب بالعتاب ونهي عن التكرار.

١٤٢

٣. قوله:( وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ ) فإنّ طلب الغفران آية الذنب، وهو لا يجتمع مع العصمة.

وإليك الجواب عن الوجوه الثلاثة :

الوجه الأوّل: كيف يجتمع قول نوحعليه‌السلام :( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) مع قوله سبحانه:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) ؟

فتوضيح دفعه: أنّه سبحانه قد وعد نوحاً بإنجاء أهله إلّا مَنْ سبق عليه القول وقال:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إلّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلّا قَلِيلٌ ) (١) ، وهذا الكلام يعرب عن أنّه سبحانه وعد بكلامه شيخ الأنبياء بأنّه ينجّي أهله، هذا من جانب، ومن جانب آخر يجب أن نقف على حالة ابن نوح وأنّه إمّا أن يكون متظاهراً بالكفر وكان أبوه واقفاً على ذلك، وإمّا أن يكون متظاهراً بالإيمان مبطناً للكفر، وكان أبوه يتصوّر أنّه من المؤمنين به.

فعلى الفرض الأوّل: يجب أن يقال: إنّ نوحاً قد فهم من قوله سبحانه:( وَأَهْلَكَ إلّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) في سورتي هود الآية ٤٠ والمؤمنون الآية ٢٧(٢) انّه قد تعلّقت مشيئته بإنجاء جميع أهله الذين ينتمون إليه بالوشيجة النسبية والسببية، سواء أكانوا مؤمنين أم كافرين غير امرأته التي كانت كامرأة لوط تخونه ليلاً ونهاراً، وعندئذ يكون المراد من قوله:( إلّامَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ) هو

__________________

(١) هود: ٤٠.

(٢) قال سبحانه في سورة هود:( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إلّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) .

وقال سبحانه في سورة المؤمنون: ( فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إلّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) .

١٤٣

زوجته فقط، ولما رأى نوح أنّ الولد أدركه الغرق تخالج في قلبه أنّه كيف يجتمع وعده سبحانه بإنجاء جميع الأهل مع هلاك ولده ؟ وعند ذلك اعتراه الحزن ورفع صوته بالدعاء منادياً:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) من دون أن يسأل منه شيئاً بل أظهر ما اختلج في قلبه من الصراع والتضاد بين الأمرين: الإيمان بصدق وعده، كما يفصح عنه قوله:( وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ ) وغرق ولده وهلاكه.

وعلى هذا الفرض لم يكذب نوحعليه‌السلام حتّى بكلمة واحدة، بل لما فهم من قوله( وَأَهْلَكَ ) نجاة مطلق المنتمين إليه بالوشيجة الرحمية أو السببية، أبرز ما فهم وقال:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) ، فلا يعد الإنسان كاذباً عند نفسه إذا أبرز ما اعتقده وأفرغه في قالب القول وان كان المضمون خلاف الواقع في حد نفسه، وحينئذ أجابه سبحانه بأنّ الموعود بإنجائهم هم الصالحون من أهلك لا مطلق المنتمين إليك بالوشائج الرحمية أو السببية.

وبعبارة أُخرى: إنّ ولدك وإن كان من أهلك حسب الوشيجة الرحمية، لكنّه ليس من الأهل الذين وعدت بنجاتهم وخلاصهم.

وبعبارة ثالثة:( إِنَّ ابْنَكَ ) داخل في المستثنى، أعني قوله:( إلّامَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ) كما أنّ زوجتك داخلة فيه أيضاً.

وهذا الجواب على صحة الفرض تام لا غبار عليه، لكن أصل الفرض وهو كون ابن نوح متظاهراً بالكفر وكان الأب واقفاً عليه غير تام لما فيه :

أوّلاً: إنّ من البعيد عن ساحة نوحعليه‌السلام أن يطلب من الله سبحانه أن لا يذر على الأرض من الكافرين ديّاراً، كما يعرب عنه قوله سبحانه حاكياً عنهعليه‌السلام :( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً *إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إلّا فَاجِراً كَفَّاراً ) ، ويتبادر(١) إلى ذهنه من قوله سبحانه :

__________________

(١) نوح: ٢٦ ـ ٢٧.

١٤٤

( وَأَهْلَكَ ) مطلق المنتمين إليه مؤمناً كان أم كافراً. بل يعد دعاؤه هذا قرينة على أنّ الناجين من أهله هم المؤمنون فقط لا الكافرون، وأنّ المراد من( مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) مطلق الكافرين سواء كانوا منتمين إليه أو لا.

ثانياً: انّه لا دليل على أنّه فهم من قوله:( إلّامَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ) خصوص زوجته، بل الظاهر أنّه فهم أنّ المراد من المستثنى كل من عاند الله وحاد رسوله من غير فرق في ذلك بين الزوجة وغيرها.

وثالثاً: انّه سبحانه بعدما أمر نوحاًعليه‌السلام بصنع الفلك أوحى إليه بقوله:( وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) (١) ، والظاهر من قوله:( الَّذِينَ ظَلَمُوا ) مطلق المشركين حميماً كان أو غريباً، فإذا قال بعد ذلك:( وَأَهْلَكَ إلّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) يكون إطلاق الجملة الأُولى قرينة على أنّ المراد من الأهل هو خصوص المؤمن لا الظالم منهم، إذ الظالم منهم داخل في قوله:( وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ) .

وإن شئت قلت: إنّ صراحة الجملة الأُولى قرينة على أنّ المراد من قوله:( إلّامَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) مطلق الظالم والكافر زوجة كانت أم غيرها، رحماً كان أم غيره، وهذه الصراحة قرينة على أنّ المراد من( أَهْلَكَ ) هو خصوص المؤمن لا الأعم منه.

وبالجملة: فلو صحت النظرية صح الجواب، لكنها باطلة لأجل الأُمور الثلاثة التي ألمعنا إليها.

وأمّا الفرض الثاني، فالظاهر أنّه الحق، وحاصله: أنّ الابن كان متظاهراً بالإيمان مبطناً للكفر، ويدل على ذلك قول نوح لابنه عندما امتنع أن يواكب أباه

__________________

(١) هود: ٣٧.

١٤٥

في ركوبه السفينة:( يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ) (١) ، أي لا تكن معهم حتى تشاركهم في البلاء، ولو كان عارفاً بكفره لكان عليه أن يقول: « ولا تكن من الكافرين » وبما انّه كان معتقداً بإيمان ولده كان مذعناً بدخوله في قوله:( وَأَهْلَكَ ) ولما أدركه الغرق أدركته الحيرة في أنّه كيف غرق مع أنّ وعده سبحانه حق لا يشوبه ريب، وعندئذ أظهر ما في قلبه وقال:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) ، وأجابه سبحانه بأنّه ما أدركه الغرق إلّا لأجل كفره، فهو كان داخلاً في قوله:( وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) (٢) أوّلاً، وثانياً في المستثنى أي قوله:( إلّامَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) لا المستثنى منه أي( أَهْلَكَ ) .

وعندئذ يقع السؤال والجواب في موقعهما ولا يكون نوحعليه‌السلام في حكمه كاذباً، لأنّه كان يتصور أنّ ولده مؤمن فنبّهه سبحانه على أنّه كافر، فأين الكذب في هذين الحكمين ؟ وفي قوله سبحانه:( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) إعلام بأنّ قرابة الدين غامرة لقرابة النسب، وانّ نسيبك في دينك ومعتقدك من الأباعد وان كان حبشياً وكنت قرشياً، لصيقك وخصيصك، ومن لم يكن على دينك وان كان أمس أقاربك رحماً فهو بعيد عنك إيماناً وعقيدة وروحاً.

ثمّ إنّ الإخبار عن ابن نوح بأنّه عمل غير صالح مكان كونه عاملاً غير صالح، لأجل المبالغة في ذمه مثل قوله « فإنما هي إقبال وإدبار »(٣) .

وهاهنا نكتة يجب التنبيه عليها، وهي أنّ العنصر المقوّم لصدق عنوان الأهل عند أصحاب اللغة والعرف هو انتساب الإنسان إلى شخص بوشيجة من

__________________

(١) هود: ٤٢.

(٢) هود: ٣٧.

(٣) الكشّاف: ٢ / ١٠١.

١٤٦

الوشائج النسبية أو السببية، وان لم يكن بينهما تشابه ووحدة من حيث المسلك والمنهج.

غير أنّ التشريع الإلهي أدخل فيه عنصراً آخر وراء الوشيجة المادية وهو صلة الشخص بالإنسان من جهة الإيمان، ووحدة المسلك، إلى حد لو فقد هذا العنصر لما صدق عليه ذلك العنوان، بل صار ذلك العنصر إلى حد ربّما يكتفي به في صدق الأهل على الأفراد سواء أكانت فيه وشيجة نسبية أم لا، ولأجل ذلك نجد أنّه سبحانه يكتفي بلفظ الأهل في التعبير عن كل المؤمنين، فيقول في قصة « لوط »:( فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إلّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (١) ، وقال أيضاً:( إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إلّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (٢) ، وقال أيضاً:( وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المُرْسَلِينَ *إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إلّاعَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ ) (٣) ، ترى أنّه سبحانه اكتفى بلفظ الأهل من دون أن يعطف عليه لفظ « المؤمنين » أو « من آمن به » مع عدم اختصاص النجاة بخصوص أهله وعمومها للمؤمنين، معرباً عن أنّ الإيمان يجعل البعيد أهلاً، والكفر يجعل القريب بعيداً.

ولأجل ذلك اكتفى في قصة نوح بلفظ الأهل فقال:( وَنُوحاً إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) (٤) ، وقال أيضاً:( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المُجِيبُونَ *وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) (٥) ، ومن المعلوم عدم اختصاص النجاة بخصوص الأهل بشهادة قوله:( وَأَهْلَكَ إلّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ

__________________

(١) الأعراف: ٨٣.

(٢) العنكبوت: ٣٣.

(٣) الصافّات: ١٣٣ ـ ١٣٥.

(٤) الأنبياء: ٧٦.

(٥) الصافّات: ٧٥ ـ ٧٦.

١٤٧

الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ) (١) .

وبذلك يظهر سرّ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « سلمان منّا أهل البيت » فعد غير العرب من أهل بيته، وما هذا إلّا لأنّ التشابه الروحي أوثق صلة وأحكم عرى، كما أنّ التباين الروحي خير أداة لقطع العرى وهدم الوشيجة المادية.

ولأجل ذلك قال الإمام الطاهر عليّ بن موسى الرضاعليهما‌السلام في حق ابن نوح: « لقد كان ابنه ولكن لـمّا عصى الله عزّ وجلّ نفاه عن أبيه، وكذا من كان منّا لم يطع الله عزّ وجلّ فليس منّا، وأنت إذا أطعت الله فأنت منّا أهل البيت »(٢) .

نعم لا نقول إنّ ما ذكرناه هو المصطلح الوحيد في القرآن، بل له مصطلح آخر يتطابق مع اصطلاح أهل اللغة والعرف، وهو الاكتفاء بالوشيجة المادية، ونرى كلا المصطلحين واردين في سورة هود قال سبحانه:( وَأَهْلَكَ إلّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ) ، فأطلق لفظ الأهل على مطلق المنتمي إلى شيخ الأنبياء، كافراً كان أم مؤمناً، ثم أخرج الكافر من الحكم ( احمل ) لا من الموضوع وهو ( الأهل ) وقال:( إلّامَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) .

وفي الوقت نفسه يجيب نداء نوحعليه‌السلام بعد قوله:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) بقوله:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) .

الوجه الثاني: لا دلالة لقوله:( فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) على صدور سؤال غير لائق بساحة الأنبياء :

قد عرفت ما في الوجه الأوّل من نسبة الكذب إلى شيخ الأنبياء نوحعليه‌السلام في قوله:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) ، فهلمّ معي ندرس الوجه الثاني، وهو أنّ قوله

__________________

(١) هود: ٤٠.

(٢) البحار: ٤٩ / ٢١٩ ضمن ح ٣.

١٤٨

سبحانه:( فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) يعرب عن وجود سؤال غير لائق بساحة الأنبياء، فلأجل ذلك خوطب ونهي عن التكرار.

فنقول: إنّ الله عزّ وجلّ قد وعده بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم، وهذا الاستثناء كان دليلاً على أنّ في جملة « أهله » من هو مستوجب للعذاب، وأنّهم كلّهم ليسوا بناجين، وعندئذ كان على نوح أن لا تخالجه شبهة حين أشرف ولده على الغرق في أنّه من المستثنين، وليس داخلاً في المستثنى منهم، فعوتب على أنّه اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه عليه(١) .

وعلى هذا يكون المراد من قوله:( فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) النهي عن السؤال الذي لا يليق أن يطرح ويسأل إذا كان الجواب معلوماً بالقرائن والتفكر في أطراف القضية، وإلاّ فالسؤال انّما يتعلّق بما لا يعلم لا بما يعلم. هذا ما أجاب به صاحب الكشاف.

وهناك جواب أوضح ولعلّه أليق بساحة الأنبياء، وهو: أنّه لـمّا وعد نوحاً بنجاة الأهل بقوله:( إلّامَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ) ولم يكن نوح مطّلعاً على باطن ابنه، بل كان معتقداً بظاهر الحال أنّه مؤمن، بقي متمسّكاً بصيغة العموم للأهلية ولم يعارضه يقين ولا شك بالنسبة إلى إيمان ابنه، فلذلك( نَادَىٰ رَبَّهُ ) .

وأمّا قوله:( إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) فليس راجعاً إلى كلامه وندائه، بل كان نداؤه ربّه في هذا الظرف واقعاً موقع القبول، وكان السؤال صحيحاً ورصيناً، بل هو راجع إلى وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه الله باطن أمره، وأنّه إن سأل في المستقبل كان من الجاهلين، والغرض من ذلك تقديم

__________________

(١) الكشّاف: ٢ / ١٠١.

١٤٩

ما يبقيهعليه‌السلام على سمة العصمة، والموعظة لا تستدعي وقوع الذنب وصدوره بل ربّما يكون الهدف التحفّظ على أن لا يصدر الذنب منه في المستقبل، ولذلك امتثلعليه‌السلام نهي ربِّه وقال:( أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) (١) .

جواب ثالث للوجه الثاني

هذا وللعلاّمة الطباطبائي جواب ثالث أمتن من الجوابين السابقين حيث قال: إنّ قول نوح:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ ) في مظنة أن يسوقه إلى سؤال نجاة ابنه، وهو لا يعلم أنّه ليس من أهله، فشملته العناية الإلهية وحال التسديد الغيبي بينه وبين السؤال فأدركه النهي بقوله:( فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) بتفريع النهي على ما تقدّم، مخبراً نوحاً بأنّ ابنك ليس من أهلك، لكونه عملاً غير صالح، فلا سبيل لك إلى العلم به، فإيّاك أن تبادر إلى سؤال نجاته، لأنّه سؤال ما ليس لك به علم، والنهي عن السؤال بغير علم لا يستلزم تحقق السؤال منه لا مستقلاً ولا ضمناً، والنهي عن الشيء لا يستلزم الارتكاب قبلاً، وانّما يتوقف على أن يكون الفعل اختيارياً ومورداً لابتلاء المكلّف، فإنّ من العصمة والتسديد أن يراقبهم الله سبحانه في أعمالهم، وكلّما اقتربوا مما من شأنّه أن يزل فيه الإنسان نبههم الله لوجه الصواب، ودعاهم إلى السداد والتزام طريق العبودية، قال تعالى:( وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً *إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) (٢) .

وممّا يدل على أنّ النهي في قوله( فَلا تَسْأَلْنِ ) نهي عمّا لم يقع بعد، قول

__________________

(١) الانتصاف فيما تضمنه الكشّاف من الاعتزال للإمام ناصر الدين الاسكندري المالكي: ٢ / ١٠١ على هامش الكشّاف.

(٢) الإسراء: ٧٤ ـ ٧٥.

١٥٠

نوحعليه‌السلام بعد استماع خطابه سبحانه:( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) .

ولو كان سأل شيئاً من قبل لكان عليه أن يقول: أعوذ بك ممّا سألت أو ما يشابه ذلك، وممّا يوضح أنّ نوحاً لم يسأل شيئاً من ربّه قوله سبحانه:( إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) تعليلاً لنهيه( فَلا تَسْأَلْنِ ) ، فلو كان نوحعليه‌السلام سأل شيئاً من قبل لكان من الجاهلين، لأنّه سأل ما ليس له به علم.

وأيضاً لو كان المراد من النهي عن السؤال أن لا يتكرر منه ذلك بعد ما وقع منه مرّة لكان الأنسب أن يصرّح بالنهي عن العود إلى مثله دون النهي عن أصله، كما ورد نظيره في القرآن الكريم:( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً ) (١) .(٢)

إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الثاني، واتضح أنّه لم يسبق منهعليه‌السلام سؤال غير لائق بساحته، بقي الكلام في السؤال الثالث.

الوجه الثالث: تفسير قوله تعالى:( وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي ) .

وحاصله: أنّ طلب الغفران في قوله:( وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ ) لا يجتمع مع العصمة.

أقول: إنّ هذا كلام، صورته التوبة وحقيقته الشكر على ما أنعم الله عليه من التعليم والتأديب، أمّا أنّ صورته صورة التوبة، فإنّ في ذلك رجوعاً إلى الله تعالى بالاستعاذة، ولازمها طلب مغفرة الله ورحمته، أي ستره على الإنسان ما فيه زلته ،

__________________

(١) النور: ١٥ ـ ١٧.

(٢) الميزان: ١٠ / ٢٤٥.

١٥١

وشمول عنايته لحاله، والمغفرة بمعنى طلب الستر أعم من طلبه على المعصية المعروفة عند المتشرعة، وكل ستر إلهي يسعد الإنسان ويجمع شمله.

وأمّا كون حقيقته الشكر، فإنّ العناية الإلهية التي حالت بينه وبين السؤال الذي كان يوجب دخوله في زمرة الجاهلين، كانت ستراً إلهياً على زلة في طريقه، ورحمة ونعمة أنعم الله سبحانه بها عليه فقوله:( وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ ) بمعنى أنّه إن لم تعذني من الزلاّت، لخسرت، فهو ثناء وشكر لصنعه الجميل(١) .

وتظهر حقيقة ذلك الكلام ممّا قدمناه في قصة آدم من أنّ كثيراً من المباحات تعد ذنباً نسبياً بالنسبة إلى طبقة خاصة من الأولياء والأنبياء، فعند صدور مثل ذلك يجب عليهم ـ تكميلاً لعصمتهم ـ طلب الغفران والرحمة، حتى لا يكونوا من الخاسرين، وليس الخسران منحصراً في الإتيان بالمعصية، بل ربّ فعل سائغ يعد صدوره من الطبقة العليا خسراناً وخيبة، كما أوضحناه في قصة آدم.

نعم لم يصدر من شيخ الأنبياء في ذلك المقام فعل غير أنّه وقع في مظنة صدور ذلك الفعل، وهو السؤال عمّا لا يعلم، فلأجل ذلك صح له أن يطلب الستر على تلك الحالة بالعناية الإلهية الحائلة بينه وبين صدوره.

إلى هنا تبيّن مفاد الآيات وأنّه ليس فيها إشعار بصدور الذنب بل حتى ما يوجب العتاب واللوم.

ثمّ إنّ لبعض المفسّرين من العدلية أجوبة أُخرى للأسئلة المطروحة، فمن أراد الوقوف عليها، فليرجع إلى مظانها(٢) .

__________________

(١) الميزان: ١٠ / ٢٣٨.

(٢) لاحظ تنزيه الأنبياء: ١٨ ـ ١٩ ; مجمع البيان: ٣ / ١٦٧ ; بحار الأنوار: ١١ / ٢١٣ ـ ٣١٤ إلى غير ذلك.

١٥٢

٣

عصمة إبراهيم الخليلعليه‌السلام والمسائل الثلاث(١)

إنّ الله سبحانه أثنى على إبراهيمعليه‌السلام بطل التوحيد بأجمل الثناء، وحمد محنته في سبيله سبحانه أبلغ الحمد، وكرر ذكره باسمه في نيّف وستين موضعاً من كتابه، وذكر من مواهبه ونعمه عليه شيئاً كثيراً وقال:( وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) (٢) . وقد حفظ الله سبحانه حياته الكريمة وشخصيته الدينية لما سمّى هذا الدين القويم بالإسلام ونسب التسمية به إليه قال تعالى:( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ) (٣) . وقال سبحانه:( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) (٤) .

ومع هذا الثناء المتضافر منه سبحانه على إبراهيمعليه‌السلام نرى أنّ بعض المخطّئة للأنبياء يريد أن ينسب إليه ما لا يليق بشأنه مستدلاً بآيات نأتي بها واحدة بعد واحدة ونبيّن حالها.

__________________

(١) أ. قوله للنجم:( هَٰذَا رَبِّي ) . ب. قوله:( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) . ج. قوله لقومه:( إِنِّي سَقِيمٌ ) .

(٢) البقرة: ١٣٠.

(٣) الحج: ٧٨.

(٤) الأنعام: ١٦١.

١٥٣

الآية الأُولى

( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ *فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَباً قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ *فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ *فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) (١) .

قالت المخطّئة: إنّ قوله:( هَٰذَا رَبِّي ) في المواضع الثلاثة ظاهر في أنّهعليه‌السلام كان يعتقد في وقت من الأوقات بربوبية هذه الأجرام السماوية، وهذا ممّا لا يجوز على الأنبياء عند العدلية، وإن زعمت العدلية أنّهعليه‌السلام تكلّم بها ظاهراً غير معتقد باطناً، فهذا أيضاً غير جائز على الأنبياء، لأنّه يقول شيئاً غير معتقد به، وهو أمر قبيح سواء سمّي بالكذب أم لا.

والجواب: انّ الاستدلال ضعيف، لأنّ الحال لا تخلو من إحدى صورتين :

الأُولى: انّ إبراهيم كان في مقام التحرّي والتعرّف على الربّ المدبّر للعالم، ولم يكن آنذاك واقفاً على الحقيقة، لأنّه ـ كما قيل ـ كان صبياً لم يبلغ الحلم، وصار بصدد التحقيق والتحري، فعندئذ طرح عدّة احتمالات واحداً بعد واحد، ثم شرع في إبطال كل واحد منها، إلى أن وصل إلى الرب الواقعي والمدبّر الحقيقي.

وهذا نظير ما يفعله الباحثون عن أسباب الظواهر وعللها، فتراهم يطرحون على طاولة التحقيق سلسلة من الفرضيات والاحتمالات، ثمّ يعمدون إلى التحقيق عن حال كل واحد منها إلى أن يصلوا إلى العلة الواقعية، وعلى هذا يكون معنى

__________________

(١) الأنعام: ٧٥ ـ ٧٨.

١٥٤

قوله:( هَٰذَا رَبِّي ) مجرّد فرض لا إذعان قطعي، وليس مثُل هذا غيرَ لائق بشأن الأنبياء.

وفي هذا الصدد يقول السيد المرتضى ـ جواباً عن السؤال ـ: إنّه لم يقل ذلك مخبراً، وانّما قال فارضاً ومقدّراً على سبيل الفكر والتأمّل.

ألا ترى أنّه قد يحسن من أحدنا إذا كان ناظراً في شيء وممتثلاً بين كونه على إحدى صفتيه أن يفرضه على إحداهما لينظر فيما يؤدي ذلك الفرض إليه من صحة أو فساد، ولا يكون بذلك مخبراً عن الحقيقة، ولهذا يصح من أحدنا إذا نظر في حدوث الأجسام وقدمها أنْ يفرض كونها قديمة ليتبين ما يؤدي إليه ذلك الفرض من الفساد(١) .

وقد روي هذا المعنى عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث سئل عن قول إبراهيم:( هَٰذَا رَبِّي ) أأشرك في قوله:( هَٰذَا رَبِّي ) ؟ فقالعليه‌السلام : « لا، بل من قال هذا، اليوم فهو مشرك، ولم يكن من إبراهيم شرك، وانّما كان في طلب ربّه وهو من غيره شرك »(٢) .

وفي رواية أُخرى عن أحدهما ( الباقر والصادقعليهما‌السلام ): « انّما كان طالباً لربّه ولم يبلغ كفراً، وانّه من فكّر من الناس في مثل ذلك فإنّه بمنزلته »(٣) .

غير أنّ هذا الفرض ربّما لا يكون مرضياً عند بعض العدلية، لأنّ الأنبياء منذ أن فطموا من الرضاع إلى أن ادرجوا في أكفانهم، كانوا عارفين بتوحيده سبحانه ذاتاً وفعلاً، خالقاً وربّاً، ولو كان هناك إراءة من الله لخليله كما في قوله:( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ ) كانت لزيادة المعرفة وليكون من الموقنين.

__________________

(١) تنزيه الأنبياء: ٢٢.

(٢) و (٣) نور الثقلين: ١ / ٦١٠ ـ ٦١١، الحديث ١٤٩ و ١٥٠ و ١٥١.

١٥٥

الثانية: انّه كان معترفاً بربوبيته نافياً ربوبية غيره، ولكنّه حيث كان بصدد هداية قومه وفكّهم من عبادة الأجرام، جاراهم في منطقهم لكي لا يصدم مشاعرهم ويثير عنادهم ولجاجهم، فتدرج في إبطال ربوبية معبوداتهم الواحد تلو الآخر، بما يطرأ عليها من الأُفول والغيبة والتحوّل والحركة مما لا يليق بالربّ المدبّر، ومثل هذا جائز للمعلم الذي يريد هداية جماعة معاندة في عقيدتهم، منحرفة عن جادة الصواب، وهذه إحدى طرق الهداية والتربية، فأين التكلّم بكلمة الشرك عن جد ؟!

وإلى ذلك الجواب أشار السيد المرتضى في كلامه بأنّ إبراهيمعليه‌السلام لم يقل ما تضمّنته الآيات على طريق الشك، ولا في زمان مهلة النظر والفكر، بل كان في تلك الحال موقناً عالماً بأنّ ربَّه تعالى لا يجوز أن يكون بصفة شيء من الكواكب، وانّما قال ذلك على أحد وجهين :

الأوّل: انّه ربّي عندكم، وعلى مذاهبكم، كما يقول أحدنا على سبيل الإنكار للمشتبه هذا ربّه جسم يتحرك ويسكن.

الثاني: انّه قال ذلك مستفهماً وأسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنها(١) .

والوجه الأوّل من الشقين في هذا الجواب هو الواضح.

الآية الثانية

قوله سبحانه:( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ وَتَاللهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ *فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ *قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا

__________________

(١) تنزيه الأنبياء: ٢٣.

١٥٦

فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ *فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ *ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلاءِ يَنطِقُونَ *قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ *أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (١) .

فزعمت المخطّئة أنّ قولهعليه‌السلام ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) كذب لا شك فيه، لأنّه هو الذي كسر الأصنام وجعلها جذاذاً إلّا كبيرها، فكيف نسب التكسير إلى كبيرها ؟

ولا يخفى أنّ الشبهة واهية جداً، مثل الشبهة السابقة، لأنّ الكذب في الكلام إنّما يتحقق إذا لم يكن هناك قرينة على أنّه لم يرد ما ذكره، بالإرادة الجدية، وانّما ذكره لغاية أُخرى، ومع تلك القرينة لا يُعد الكلام كذباً، والقرينة في الكلام أمران :

الأوّل: قولهعليه‌السلام عند مغادرة قومه البلد ومخاطبتهم بقوله:( وَتَاللهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) (٢) ، ولا يصح حمل ذلك على أنّه قاله في قلبه وفكرته، لا بصورة المشافهة والمصارحة، وذلك لأنّ إبراهيم كان مشهوراً بعدائه وكرهه للأصنام، حتى أنّهم بعد ما رجعوا إلى بلدهم ووجدوا الأصنام جذاذاً، أساءوا الظن به، واتهموه بالعدوان على أصنامهم وتخريبها و( قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ) (٣) .

الثاني: إنّ من المسلّم بين إبراهيم وعبدة الأصنام أنّ آلهتهم صغيرها وكبيرها

__________________

(١) الأنبياء: ٥١ ـ ٦٧.

(٢) الأنبياء: ٥٧.

(٣) الأنبياء: ٦٠.

١٥٧

لا تقدر على الحركة والفعل، فمع تلك القرينة والتسليم الواضح بينه وبينهم، بل وبين جميع العقلاء، إذا أجاب إبراهيم بهذا الكلام يعلم منه أنّه لم يتكلم به لغاية الجد، بل لغاية أُخرى حتى ينتبه القوم إلى خطئهم في العقيدة.

ويزيد توضيحاً ما ورد في القصص: إنّ إبراهيم بعد أنْ حطّم الأصنام الصغيرة جعل الفأس على عنق كبيرها، حتى تكون نسبة التحطيم إلى الكبير مقرونة بالقرينة وهي: أنّ آلة الجرم تشهد على كون الكبير هو المجرم دون إبراهيم، ومن المعلوم أنّ هذا العمل والشهادة المزعومة، أشبه شيء في مقام العمل باستهزائه بالقوم وسخريته مما يعتقدون.

فعلى تلك القرائن قد تكلّم إبراهيم بهذه الكلمة لا عن غاية الجد، بل لغاية أُخرى كما يبيّنها القرآن، فإذا انتفى الجد بشهادة القرائن القاطعة ينتفي الكذب.

وأمّا الغاية من هذا الكلام فهو أنّه طرح كلامه بصورة الجد وإن لم يكن عن جد حقيقي، وطلب منهم أن يسألوا الأصنام بأنفسهم، وأنّه مَن فعل هذا بهم ؟ لغاية أخذ الاعتراف منهم بما أقرّوا به في الآية، أعني قولهم:( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلاءِ يَنطِقُونَ ) حتى يتسنّى للخليلعليه‌السلام كبتهم وتوبيخهم ـ بأنّه إذا كان هؤلاء على ما يصفون ـ بقولهعليه‌السلام :( أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ *أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (١) ، وفي موضع آخر يقول:( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ *وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (٢) ، فتبين من ذلك أنّ قوله:( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) لم يكن كلاماً عن جد وجزم وعزم حتى يوصف بالكذب، بل

__________________

(١) الأنبياء: ٦٦ ـ ٦٧.

(٢) الصافات: ٩٥ ـ ٩٦.

١٥٨

كان كلاماً أُلقي على صورة الجد ليكون ذريعة لإبطال عبادتهم وشركهم، وكانت القرائن تشهد على أنّه ليس كلاماً جديّاً ولو كان هذا الكلام صادراً من عاقل غير النبيعليه‌السلام لأجزنا لأنفسنا أن نقول: إنّ الغاية، الاستهزاء والتهكّم بعبدة الأصنام والأوثان حتى يتنبهوا بذلك الوجه إلى بطلان عقيدتهم.

ولما كان هذا النمط من الحوار والاحتجاج الذي سلكه إبراهيم في غاية القوّة والمتانة، لم يجد القوم جواباً له إلّا الحكم عليه بالتعذيب والإحراق شأن كل مجادل ومعاند إذا أفحم، كما يقول سبحانه:( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الجَحِيمِ *فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ ) (١) ، وفي آية أُخرى:( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) (٢) ، هذا هو الحق الصراح لمن طالع القصة في القرآن الكريم، ومن أمعن النظر فيها يجد أنّ الجواب هو ما ذكرنا.

جواب آخر عن السؤال

وربّما يجاب بأنّه لم يكذب وانّما نسب الفعل إلى كبيرهم مشروطاً لا منجزاً، وانّما يلزم الكذب لو نسبه على وجه التنجيز حيث قال:( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) فكأنّه قال: فعل كبيرهم هذا العمل إن كانت الأصنام المكسورة ناطقة، وبما أنّ المشروط ينتفي بانتفاء شرطه، وكان الشرط ـ أعني نطقها ـ منتفياً كان المشروط ـ أي كون الكبير قائماً بهذا الفعل ـ منتفياً أيضاً.

وهذا الجواب لا ينطبق على ظاهر الآية، لأنّها تشتمل على فعلين :

أحدهما قريب من الشرط، والآخر بعيد عنه، ومقتضى القاعدة رجوع

__________________

(١) الصافات: ٩٧ ـ ٩٨.

(٢) الأنبياء: ٦٨.

١٥٩

الشرط إلى القريب من الفعلين لا إلى البعيد، والرجوع إلى كلا الفعلين خلاف الظاهر أيضاً، وإليك توضيحه :

١. بل فعله كبيرهم: الفعل البعيد من الشرط.

٢. فاسألوهم: الفعل القريب من الشرط.

٣. إن كانوا ينطقون: هذا هو الشرط.

فرجوعه إلى الأوّل وحده، أو كليهما، خلاف الظاهر، والمتعين رجوعه إلى الثاني، فصار الحكم بأنّه فعله كبيرهم منجزاً لا مشروطاً.

الآية الثالثة

استدلت المخطّئة لعصمة إبراهيم بالآية الثالثة، أعني قوله سبحانه:( وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ *إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ *إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ *أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ *فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ *فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ *فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ *فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ *فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) (١) .

فاستدلوا بقوله:( إِنِّي سَقِيمٌ ) قائلين بأنّه لم يكن سقيماً، وانّما ذكر ذلك عذراً لترك مصاحبتهم في الخروج عن البلد.

أضف إلى ذلك انّ قوله:( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ) يشبه ما يفعله المنجمون حيث يستكشفون من الأوضاع الفلكية، الأحداث الأرضية.

والجواب: انّ الإشكال مبني على أنّهعليه‌السلام قال:( إِنِّي سَقِيمٌ ) ولم يكن سقيماً، ولم يدل على ذلك دليل إذ من الممكن أنّه كان سقيماً في ذلك الوقت، وأمّا

__________________

(١) الصافات: ٨٣ ـ ٩١.

١٦٠