مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن13%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265472 / تحميل: 6064
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

للحيلولة دون بلوغ أهدافه التي كان يطمح لإقرارها وتثبيت اُسسها في برهة زمنية قياسية، فكانت لهم ردود فعل مثبّطة نشير إليها.

قد وقفت على الدوافع الروحية الباعثة على مخالفة النبي الأكرم غير أنّها تبلورت في الاُمور التالية:

١ ـ إكالة التهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ ـ الاستنكار والاحتجاج بالاُمور الواهية.

٣ ـ الاقتراحات الباطلة كشروط لقبول الرسالة.

٤ ـ ايقاع الأذىٰ على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه.

وإليك بيان هذه الاُمور واحداً تلو الآخر حسبما يستفاد من آيات القرآن الكريم:

١٤١

الف ـ اكالة التهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله

كان أسلوب تحطيم الشخصيات عن طريق إكالة التّهم إليهم أقدم حربة بيد الجهّال يطعنون بها على المصلحين، وقد إستعملها مشركوا عصر الرسالة في بدء الدعوة ولم تكن الفرص تسنح لهم بقتله واغتياله، فحاولوا إغتيال شخصيّته ليسقطوه عن أعين الناس، فإنّ نجاح المصلح في نشر دعوته يكمن في اتّسامه بالقداسة والطهارة والعقلية الرزينة، فلو افتقد المصلح تلك ـ السمات عن طريق الاتّهام بما يضادها ـ ذهب سعيه أدراج الرياح وأصبحت جهوده سدىٰ، فلأجل ذلك إختارت قريش القيام بشنّ حرب نفسيّة ضروس لا هوادة فيها للحطّ من قيمته وكرامته والحيلولة دون نفوذ كلمته.

ولكنّهم مهما بذلوا من جهود لإنجاح مؤامراتهم لم تتجاوز تهمهم عن الكهانة والسحر والجنون وأشباهها لأنّ النّبي قد كان في الطهارة النفسيّة والأمانة المالية وسائر الصفات الكريمة على حدّ حال دون إلصاق تهم اُخرى به ككونه خائناً سارقاً قاتلاً غير عفيف، وهذا أحد الدلائل البارزة المشرقة على أنّه كان فوق التهم المشينة المزرية، وكانت حياته طيلة أربعين سنة مقرونة بالصلاح والفلاح والأمانة، ولو كانت هناك أرضية صالحة لتوصيف النبيّ بها، لما أمسكوا عنها.

نعم قام العدو باتّهامه باُمور يشكل اثباتها كما يشكل نفيها عن المتهم، وهذه هي الطريقة المألوفة عند بني الشياطين لمس كرامة المصلحين حيث يشنّون عليهم بمثل هذه التّهم لغاية إسقاطهم عن أعين النّاس. يقول سبحانه:( كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إلّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) ( الذاريات / ٥٢ ).

١٤٢

هكذا كانت سيرة الأعداء في طرد المصلحين عن الساحة.

ثمّ إنّ التّهم الّتي حكاها القرآن عن لسان أعداء النبيّ تتلخّص في العناوين التالية:

١ ـ الكهانة: وهي في اللغة عبارة عن اتّصال الإنسان بالجن ليتلقّى منهم أنباء الماضين وأخبار اللّاحقين ومن خلالها يتمكّن من التنبّؤ بالمستقبل، يقول سبحانه مشيراً إلى تلك التّهمة وردّها:( وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ) ( الحاقة / ٤٢ ).

٢ ـ السحر: وهو قوّة نفسانيّة للساحر يقدر معها على إنجاز اُمور خارقة للعادة مموّهة، ومن تلك الاُمور التفريق بين المرء وزوجته والوالد وولده بل بين أفراد العائلة كافّة. قال سبحانه:( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) ( ص / ٤ ).

٣ ـ المسحورية: والمراد منه تأثّره بسحر الآخرين، وأنّ هناك ساحراً أو سحرة سحروا النبيّ وأثّروا فيه. يقول سبحانه حاكياً عن المشركين:( إِن تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلاً مَّسْحُورًا ) ( الفرقان / ٨ ). ثمّ يردّه بقوله سبحانه:( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) ( الفرقان / ٩ ) والمراد من قوله( ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ ) أي وصفوك بالمسحورية، وقد اتّهم بنفس تلك التهمة النبيّ صالح. قال سبحانه حاكياً عن أعدائه:( قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ ) ( الشعراء / ١٥٣ ) وممّا يجدر ذكره أنّ اتّهام النبيّ بالمسحورية ليست تهمة مستقلّة تغاير الجنون جوهراً بل هي نفس التهمة ولكنّها صيغت بلفظ أكثر أدباً، وهذه شيمة الدهاة حيث يمزجون السم بالعسل.

٤ ـ الجنون: ومفهومه غني عن البيان وقد مضى أنّها تهمة شائعة تُلصق بالمصلحين من جانب خصومهم من غير فرق بين النبيّ وغيره، وبين نبيّنا وسائر الأنبياء كما عرفت(١) . قال سبحانه نقلاً عن المشركين:( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( الحجر / ٦ )، قال تعالى:( وَمَا صَاحِبُكُم

__________________

(١) الذاريات / ٥٢.

١٤٣

بِمَجْنُونٍ ) ( التكوير / ٢٢ )، وقال عزّ من قائل:( فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ) ( الطور / ٢٩ ) والمبرّر لهم بوصفه بالجنون ومؤاخذتهم له، وقوفه لوحده في وجه الرأي العام المتمثّل في الشرك. والسذّج من النّاس يصفون من يتبنّىٰ الفكر الذي لا يوافقه عليه الرأي العام وهو يريد تطبيقه في المجتمع، بأَنّه مجنون لا يعرف قدر نفسه ومنزلته وسوف يهدر دمه لا محالة.

ما أسخف هذه التهم إذ كيف يتّهمون من هو أرجحهم عقلاً وأبينهم قولاً منذ ترعرع إلى أن بلغ أشدّه بالجنون والكهانة مضافاً إلى ما في هذا من التناقض والإضطراب، فإنّ الكهنة كانوا من الطبقة العليا بين الناس يرجع إليهم القوم في المشاكل والمعضلات وأين هو من الجنون ؟ فكيف جمعوا بين كونه كاهناً ومجنوناً ؟

ولقد لمسنا ذلك في حياتنا القصيرة في مجتمعنا ورأينا كيف رمي رجال الإصلاح بنظائر هذه التهم وما ذلك إلّا لأنّهم قاموا في وجه المستعمرين والناهبين لثروة أقطار العالم الإسلامي، فما كان نصيبهم جرّاء مقاومتهم تلك، إلّا اتّهامهم بالجنون والتدهور العقلي، والغربة عن الواقع والحياة.

٥ ـ التعلّم من الغير: إنّ أعداء النبيّ من قريش وغيرهم وقفوا على مدى عظمة تعاليمه وسموّها، ولكن الحالة النفسية قد صدّتهم عن تصديق قوله والإذعان برسالته الإلهية وانتسابه إلى الوحي والسماء، فقاموا بتزوير آخر وهو أنّه مُعَلّم، قد تلقّى تعاليمه من غيره. يقول سبحانه:( وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ *ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ) ( الدخان / ١٣ و ١٤ ).

وأمّا من هو المعلّم الذي كان قد علّم النبي وغذّاه بتلك المبادئ والقيم فلم يذكروه، ولكن إقتران هذه التهمة بتهمة الجنون يدلّ على أنّ المعلّم المزعوم هو الجن فهو عن طريق صلته بهم تلقّى رسالته عنهم ـ وبالتالي ـ اُصيب في عقله فصار معلّماً مجنوناً بزعمهم.

وهناك إحتمال آخر وهو أنّه تلقّى مبادئه عن بشر آخر، وقد اُشير إليه في قوله

١٤٤

سبحانه:( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل / ١٠٣ ).

قال ابن عباس: قالت قريش: إنّما يعلّمه بلعام ( وكان قينا بمكّة روميّاً نصرانياً ) وقال الضحّاك: أرادوا به سلمان الفارسي(١) قالوا إنّه يتعلّم القصص منه، وقال مجاهد وقتاده: أرادوا به عبداً لبني الحضرمي روميّاً يقال له يعيش أو عائش صاحب كتاب، أسلم وحسن إسلامه، وقال عبد الله بن مسلم: كان غلامان في الجاهلية نصرانيّان من أهل عين التمر، اسم أحدهما يسار واسم الآخر خير، كانا صيقلين يقرءان كتاباً لهما بلسانهم وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ربّما مرّ بهما واستمع لقراءتهما، فقالوا: إنّما يتعلّم منهما، ثمّ ألزمهم الله تعالى الحجّة وأكذبهم بأن قال: لسان الذي يضيفون إليه التعليم ويميلون إليه القول، أعجميّة لا يفصح ولا يتكلّم بالعربية، فكيف يتعلّم منه من هو في أعلى طبقات البيان ؟ وهذا القرآن بلسان عربي مبين، فإذا كانت العرب تعجز عن الإتيان بمثله وهو بلغتهم فكيف يأتي الأعجمي بمثله(٢) ؟

قال ابن هشام: قالوا: إنّما يعلّمه رجل باليمامة يقال له الرحمان ولن نؤمن به أبداً، فنزل قوله سبحانه:( كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَٰنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ) ( الرعد / ٣٠ )(٣) .

روى ابن هشام: إنّ النضر بن الحارث كان إذا جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مجلساً، فدعا فيه إلى الله تعالى وتلا فيه القرآن، وحذّر فيه قريشاً ما أصاب الاُمم الخالية، خلّفه في مجلسه إذا قام، فحدّثهم عن رستم واسفنديار وملوك فارس ثمّ يقول: والله ما محمّد بأحسن حديثاً منّي وما حديثه إلّا أساطير

__________________

(١) كيف يقول ذلك مع أنّ سلمان أدرك النبي في مهجره، لا في موطنه.

(٢) مجمع البيان: ج ٣ ص ٣٨٦.

(٣) السيرة النبوية لابن هشام: ج ١ ص ٣٣١.

١٤٥

الأوّلين، اكتتبها كما اكتتبتها، فأنزل الله فيه:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً *قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان / ٥ و ٦ ).

ونزل فيه:( وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ *يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( الجاثية / ٧ )(١) .

٦ ـ كذّاب: وما وصفوه به إلّا لأجل أنّه كان يكافح عقيدتهم ويقارع دينهم. قال سبحانه حاكياً عنهم تلك التهمة:( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) ( ص / ٤ ).

فلماذا لا يكون عندهم كذّاباً وقد رفض الآلهة المتعدّدة وجعلها إلهاً واحداً. قال سبحانه حاكياً عنهم:( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ( ص / ٥ ).

٧ ـ مفتر: وإنّما وصفوه به لأنّه ينسب تعاليمه إلى السماء. يقول سبحانه حاكياً عنهم:( قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( النحل / ١٠١ ) ويقول أيضاً:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إلّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ) ( الفرقان / ٤ ). وهذه الآية تعبّر عن أنّهم كانوا يتّهمونه بأنَّ القرآن ليس من صنعه وحده بل هناك قوم أعانوه عليه، فربّما كانوا يفسّرونه بشكل آخر وهو انّ القرآن ليس شيئاً جديداً بل هي أساطير الأوّلين تملىٰ عليه بكرة وأصيلاً، كما قال سبحانه:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) .

وقد أدحض الوحي هذه التهمة وكشف عن زيفها بأمرين:

الأوّل: لو صحّ قولكم إنّ هذا الكتاب من صنع محمّد فنسبه إلى الوحي فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، فإنّه لبشر مثلكم وأنتم بشر مثله. قال سبحانه:

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ١ ص ٣٥٧.

١٤٦

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَٰهَ إلّا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ( هود / ١٣ و ١٤ ).

الثاني: كيف تقولون بأنّه استنسخ هذه الأساطير بإملاء الغير مع أنّه ما تلىٰ كتاباً، ولا خطّ صحيفة، فكيف تتّهمونه بالاستنساخ والاستكتاب ؟ قال سبحانه:( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ *بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إلّا الظَّالِمُونَ ) ( العنكبوت / ٤٨ و ٤٩ ).

٨ ـ مفتر أو مجنون: ـ على ترديد بينهما ـ ربّما كان القوم يتردّدون في توصيف النبي بين كونه عاقلاً مفترياً على الله سبحانه أو مجنوناً معدم العقل والشعور، وهذه شيمة الدهاة في استنقاص فضل الأشخاص حيث يكيلون التهم على مخالفيهم الأقوياء بلسان التردّد وعدم الجزم، لدفع نسبة شناعة التهمة عن أنفسهم كما يحكي عنهم سبحانه:( أَفْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ) ( سبأ / ٨ ).

٩ ـ شاعر: إنّ القوم كانوا اُسود الفصاحة وفرسان البلاغة وقد أدركوا بفطرتهم سموّ القرآن وعلوّ مرتبته في ذلك المجال، ومن جانب كانوا في العداء والحسد على مرتبة صدّتهم عن الاعتراف بكونه كتاباً منزّلاً من السماء، حاولوا أن يفسّروه بالشعر فوصفوه بالشاعر وقالوا:( أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ ) ( الطور / ٣٠ ) وحاصل هذه التهمة أنّه شاعر و « أعذب الشعر أكذبه »، فلنصبر عليه ولنتربّص به صروف الدهر وأحداثه فسيكون حاله حال زهير والنابغة وأضرابهم ممّن انقرضوا وصاروا كأمس الدابر.

وقد ردّ سبحانه على تلك التهمة يأمر نبيّه بقوله:( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُتَرَبِّصِينَ *أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَٰذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ *أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ *فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) ( الطور / ٣١ ـ ٣٤ ).

١٤٧

إنّ الله سبحانه أمر النبي أن يتهدّدهم ويتوعّدهم باُمور:

أ ـ( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُتَرَبِّصِينَ ) : انتظروا وتمهّلوا في ريب المنون فإنّي متربّص معكم منتظر قضاء الله فيّ وفيكم وستعلمون لمن تكون حسن العاقبة والظفر في الدّنيا والآخرة.

ب ـ( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَٰذَا ) ؟ أي هل تأمرهم عقولهم بنشر هذه التّهمة، فإنّ التهم الثلاث لا تجتمع بحسب مدّعاهم في آن واحد، فإنّ المجنون من زال تعقّله وإدراكه، فكيف يقوىٰ على إنشاء الشعر الرصين، وكيف يكون قوله حجّة في الإخبار عن المغيّبات ؟.

وقصارى القول: إنّ هؤلاء المتحاملين كانوا قد فقدوا رشدهم فأخذوا يتخبّطون في تهمهم وكلامهم من دون وعي.

ج ـ( أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) : بل الحقّ، إنّ الذي حملهم على ما يقولون هو عنادهم وعتوّهم عن الحقّ وطغيانهم.

د ـ( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ) أي أنّ عقولهم لم تأمرهم بهذا ولم تدعهم إليه بل حملهم الطغيان على تكذيبك، ولأجل ذلك يقولون: افتعل القرآن من تلقاء نفسه.

ه‍ ـ( بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ ) أي قصارى القول: إنّهم لا يؤمنون ولا يصدّقون بذلك عناداً وحسداً واستكباراً، وإنّما هذه تهم اتّخذوها ذريعة إلى التمويه وستروا بها عداءهم وعنادهم.

و ـ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) أي إن كان شاعراً فلديكم الشعراء الفصحاء، أو كاهناً فلديكم الكهّان الأذكياء، وإن كان قد تقوّله فلديكم الخطباء الّذين يحضرون الخطب ويجيدون إنشاء القول في كلّ فنون الكلام، فليأتوا بمثل هذا القرآن إن كانوا صادقين فيما يزعمون، فإنّ أسباب التحدّي بالقول متوفّرة لديكم كما هي متوّفّرة لديه، بل فيكم من طالت مزاولته للخطب والأشعار وكثرة الممارسة لأساليب النظم والنثر وحفظ أيّام العرب ووقائعها أكثر من محمّد ( صلى الله عليه وآله

١٤٨

وسلم )(١) .

وقال سبحانه ردّاً على هذه الفرية:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) ( يس / ٦٩ ) فأين القرآن من الشعر وأين محمّد من الشعراء ؟.

١٠ ـ أضغاث أحلام : والمراد منه تخاليط أحلام رآها في المنام، ويحكي عنهم سبحانه بقوله:( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَٰذَا إلّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ *قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) ( الأنبياء / ٣ ـ ٥ ).

بيّن سبحانه في هاتين الآيتين اقتسامهم القول في النبيّ، فقال بعضهم أخلاط أحلام قد رآها في النوم، وقال آخرون: بل إختلقه من تلقاء نفسه ونسبه إلى الله، وقال قوم: بل هو شاعر وما أتى به شعر، يخيّل إلى السامع معاني لا حقيقة لها، مضافاً إلى أنّهم استبعدوا أن يكون بشر مثلهم نبيّاً.

وهذا الإضطراب والتردّد في القول دأب المحجوج المغلوب على أمره، لا يتردّد إلّا بين باطل وأبطل ويتذبذب بين فاسد وأفسد منه.

فلو بنىٰ على تحليل القرآن بواحد من هذه الوجوه، فكونه سحراً ـ مع كونه فاسداً ـ أقرب من كونه أضغاث أحلام، فأين هذا النظم البديع من تخاليط الكلام التي لا تضبط ؟ وادّعاء كونها مفتريات أبعد وأبعد، لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد اشتهر بالأمانة والصدق، مضافاً إلى أنّهم أعرف النّاس بالفرق بين النظم والنثر، فكيف يصفونه بالشعر ؟ كما أنّهم يفرّقون بين الغايات التي يصاغ له الشعر والغايات التي يشدها القرآن كيف يتّهمونه بالشعر مع أنّهم يعلمون أنّه لم ينشد شعراً وما اجتمع بالشعراء ولا حام حوله مدىٰ أربعين سنة ؟(٢) .

__________________

(١) تفسير المراغي: ج ٢٥ ص ٣٢.

(٢) تفسير المراغي: ج ١٧ ص ٧.

١٤٩

إنّ المتمعّن في أحوال النبيّ ينتهي من خلال هذه التهم إلى أنّه كان رجلاً صالحاً طاهراً ديّناً عفيفاً نقي الجيب مأموناً على المال والعرض والنفس، لم يدنّس نفسه بفاحشة ولم يتجاوز حقّ أحد قط بل كانت حياته حياة إنسان مثالي، فلأجل ذلك لم يجد الأعداء سبيلاً إلى رميه بهذه التهم، فحاولوا أن يتّهموه باُمور نفسيّة يعسر إثباتها كما يعسر نفيها، وأمّا انّهم كيف اتّهموه بالسحر ؟ فيقول ابن هشام:

« إنّ الوليد بن المغيرة إجتمع إليه نفر من قريش فقال: إنّه قد حضر الموسم، وإنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً، قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأياً نقول به، قال: بل أنتم فقولوا وأسمع، قالوا: نقول كاهن، قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، قالوا فنقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال: والله إنّ لقوله لحلاوة، وإنّ أصله لعذق، وإنّ فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلّا عرف أنّه باطل، وانّ أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرّق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرّقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل النّاس حين قدموا الموسم، لا يمرّ بهم أحد إلّا حذّروه إيّاه، وذكروا لهم أمره. فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة في ذلك من قوله:( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا *وَبَنِينَ شُهُودًا *وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا *ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ *كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا ) أي خصيماً( سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا *إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ *فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ نَظَرَ *ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ *ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ *فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إلّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ *إِنْ هَٰذَا إلّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) ( المدّثّر / ١١ ـ ٢٥ ).

١٥٠

وأنزل الله في النفر الذين كانوا يصنّفون القول في رسول الله وفيما جاء به من الله تعالى:( كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ *الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ *فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( الحجر / ٩٠ ـ ٩٣ )(١) .

* * *

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٢٧٠.

١٥١

ب ـ الاستنكار والاحتجاج بالاُمور الواهية

قد اطّلعت على الظنون والشبهات التي نسجها القوم على منوال التّهم وعرفت إجابة القرآن عنها، فهلمّ معي ندرس إستنكارات القوم الباطلة التي جعلوها سدّاً في وجه الإذعان برسالته، وهاتيك الإحتجاجات وإن كانت قد صدرت من أفواه رجال طعنوا في السن ولكنّها أشبه شيء بمنطق الّذين لا يعون ما يقولونه وإليك سردها واحدة واحدة:

١ ـ لماذا لم ينزل القرآن على رجل مُثْرٍ ؟!

إنّ الوليد بن المغيرة كان رجلاً مثرياً معروفاً في مكّة ومثله عروة بن مسعود الثقفي في الطائف، فكان من حججهم الواهية على النّبي أنّه لماذا لم ينزل ما تدّعيه من القرآن عليهما ونزل عليك ؟ فهما مثريان وأنت معوز فقير، فبما أنّ الرجلين كانا عظيمي قومهما ومن أصحاب الأموال الطائلة في البلدين، فدخلت الشبهة عليهم حتّى اعتقدوا أنّ من كان كذلك فهو أولى بالنبوّة. قال سبحانه حاكياً عنهم:( لَوْلا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ( الزخرف / ٣١ ) فهؤلاء وإن كانوا صادقين في أنّ شأن القرآن أن ينزل على من له مكانة مرموقة يمتاز بها عن الآخرين، ولكنّهم أخطأوا في جعل السموّ والعظمة في الثروة والمال لأنّ نزول الوحي رهن كون المنزول عليه رجلاً تقيّاً طاهر النفس، صامداً في تحمّل أعباء الرسالة الإلهيّة، لا يخاف من مواجهة الملك، ولا يخفى عليك أنّه لا صلة لهذه الشروط بالغنى والفقر، أو الثروة وخلّو اليد، والقرآن يردّ على تلك الفرية بقوله:( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ

١٥٢

بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) ( الزخرف / ٣٢ ) والمعنى أنّهم لا يملكون النبوّة الّتي هي رحمة الله ولطفه الّذي يختصّ به من يشاء من عباده حتّى يمنعوك منها، فيعطوها من شاؤوا، فهم عاجزون عن قسمة ما هو دون النبوّة بمراحل وهو معيشتهم في الحياة الدّنيا فنحن قسّمناها بينهم، فكيف يتدخّلون فيما هو أرفع منزلة منها بما لا يقدّر قدره، ألا وهي النبوّة الّتي هي من شؤون الباري جلّ وعلا ؟

٢ ـ الرسالة الإلهيّة فوق طاقة البشر

كان عرب الجاهليّة يزعمون: انّ الرسالة الإلهيّة فوق قدرة البشر وإنّما هي شؤون الملك، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَٰذَا إلّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ) ( الأنبياء / ٣ ) وقال سبحانه:( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَىٰ إلّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً ) ( الاسراء / ٩٤ ) ويظهر من غير واحد من الآيات أنّ تلك الظاهرة الفكرية كانت تدور في أذهان أقوام نوح وثمود وعاد من قبل، حيث اعترضوا على رسلهم بأنّهم بشر مثلهم، قال سبحانه حاكياً عنهم:( قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إلّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ *قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إلّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) ( إبراهيم / ١٠ و ١١ ) ويلوح من بعض الآيات أنّ بعض اليهود المعاصرين للنبيّ الأكرم كانوا يتذرّعون بهذه الحجّة الواهية كما يحكي عنهم بقوله:( وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ) يقولون ذلك بصلافة ووقاحة في الوقت الذي كانوا يعتقدون بنبوّة موسى وكتابه، وإليه يشير قوله سبحانه:( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ) ( الأنعام / ٩١ ).

والقوم على جهل بسر لزوم كون الرسول بشراً لا ملكاً، ولو كانوا على إحاطة به ومنصفين في الحكم لما احتجّوا بمثل تلك الحجّة الواهية، إذ يترتّب على وجود المماثلة النوعية بين الرسول والمرسل إليه ما لا يترتّب على عدمها وذلك لاُمور:

١٥٣

أوّلاً: المسانخة والمماثلة أساس ترتكز عليه القيادة، فلو عدمت لانتّفت الغاية المنشودة، فإنّ القائد إذا كان مشاكلاً للمقود يكون واقفاً على حدود طاقات المرسل إليهم وغرائزهم وطبائعهم وميولهم، فيبادر إلى معالجة ما يعانونه من تخلّف وجهل وانحطاط كما يقوم بتنمية طاقاتهم واستعداداتهم في مجالي المادة والمعنى، إذ يحسّ منهم ما يحسّ من نفسه، فأين طبيعة الملك من فطرة الإنسان، فالملك مخلوق على نمط خاص لا يحيد عنه فلا يتمكّن من العصيان، وأمّا البشر فقد خلق مخيّراً بين الطاعة والمخالفة إن شاء إمتثل وآمن، وإن شاء إرتدّ وكفر.

وبعبارة ثانية: إنّ الإنسان جبل على غرائز متضادّة سائدة عليه، ففيه الشهوة والغضب وهما من الميول السفلية في كيان ذاته، كما فيه الميول العلوية التي تجرّه إلى الخير والإحسان والتجافي عن الطبيعة والتوجّه إلى ما وراءها، فالإنسان المثالي هو من يقوم بتعديل تلك الفطريّات المتضادّة، وأمّا الملك فقد جبل على سلوك الخير والطاعة، فلا يقدر على الخلاف والعصيان، فهل يدرك هذا الموجود المفارق موقف الإنسان الذي خلق هلوعاً.

وثانياً: إنّ القائد كما يهدي بكلامه ومقاله، يهدي بفعله وعمله، فهو قدوة في مجالي القول والعمل، والدعوة بالفعل أرسخ في القلوب من الدعوة بالقول، وهذا يقتضي وجود السنخيّة بين الرسول والمرسل إليهم حتّى يكون الرسول في الغرائز الباعثة إلى الشرّ والعصيان، مثل المرسل إليهم في ذلك المجال، وبالتالي يكون سلوكه طريق الخير والصلاح حجّة على المرسل إليهم، ولولا السنخيّة لما تمّت الحجّة وبقى مجال للإعتراض.

وإلى بعض ما ذكرنا يمكن أن يشير قوله سبحانه:( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَىٰ إلّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً *قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولاً ) ( الأسراء / ٩٤ و ٩٥ ) أي لو وجد

١٥٤

في الأرض ملائكة يمشون كما يمشي البشر، ويقيمون فيها كما يقيم ويسهل الإجتماع يهم، وتلقّي الشرائع منهم، لنزّلنا عليهم من السماء رسلاً من الملائكة للهداية والإرشاد وتعليم الناس ما يجب عليهم تعلّمه، ولكن طبيعة الملك لا تصلح للإجتماع بالبشر، فلا يسهل عليهم التخاطب والتفاهم معهم، لبعد ما بين الملك وبينهم، ومن ثمّ لم نبعث ملائكة، بل بعثنا خواص البشر، لأنّ الله قدوهبهم نفوساً زكيّة، وأيّدهم بأرواح قدسية، وجعل لهم ناحية ملكية بها يستطيعون أن يتلقّوا من الملائكة، وناحية بشرية بها يبلّغون رسالات ربّهم إلى عباده(١) .

وقد نبّه سبحانه إلى عظيم هذه الحكمة وجليل تلك النعمة بقوله:( لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ( آل عمران / ١٦٤ ) وقوله:( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / ١٢٨ ). وقوله:( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة / ١٥١ ) إلى غير ذلك من الآيات التي وقع التنصيص فيها بكون الرسول من جنس البشر.

٣ ـ نبذ سنّة الآباء:

التشبّث بسيرة الآباء من الاُمور الجبليّة للبشر، خصوصاً فيمن يعيش في واحات الصحراء بعيداً عن الحضارة واسبابها، فقد كان العرب متعصّبين على مسلك آبائهم تعصّباً حال بينهم وبين الإيمان بالرسول بحجّة أنّه يدعوا إلى خلاف سيرة آبائهم، وفي ذلك يقول سبحانه:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللهُ وإلى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ) ( المائدة / ١٠٤ ) وقد عرفت الكلام في ذلك عند البحث عن الدوافع الروحيّة التي منعتهم عن الإيمان إجمالاً.

__________________

(١) تفسير المراغي: ج ١٥ ص ٩٧.

١٥٥

وعلى ضوء ذلك كانوا يتعجّبون من جعل الآلهة المتعدّدة إلهاً واحداً، فقدكان للعرب أصنام منصوبة على سطح الكعبة، كاللّات والعزّى وهبل، ويعكفون على عبادتها، فقال لهم النبي: يا معشر العرب، أدعوكم إلى عبادة الله، وخلع الأنداد والأصنام، وأدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلّا الله، فقالوا: أنَدَع ثلاث مائة وستين إلٰهاً ونعبد إلهاً واحداً، وإليه الإشارة في قوله سبحانه:( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ *أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ( ص / ٤ و ٥ )(١) .

روى المفسّرون أنّ أشراف قريش وهم خمسة وعشرون منهم: الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم، وأبوجهل، واُبي واُميّة ابنا خلف، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والنضر بن الحارث، أتوا أبا طالب، وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فإنّه سفّه أحلامنا وشتم آلهتنا، فدعا أبو طالب رسول الله وقال: يا بن أخي هؤلاء قومك يسألونك، فقال: ماذا يسألونني ؟ قالوا: دعنا وآلهتنا، ندعك والٰهك، فقال: أتعطوني كلمة تملكون بها العرب والعجم ؟ فقال أبو جهل: لله أبوك، نعطيك ذلك عشر أمثالها، فقال: قولوا لا إله إلّا الله، فقاموا وقالوا: أجعل الآلهة إلٰهاً واحداً، وروي أنّ النبي استعبر ثمّ قال: يا عمّ والله لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو اُقتل دونه، فقال له أبو طالب: إمض لأمرك فوالله لا أخذلُك أبداً(٢) .

٤ ـ الدعوة إلى الحياة الاُخروية

كانت عرب الجاهلية خصوصاً المترفين منهم يخافون من سماع أخبار البعث والنشور، وأنّ الإنسان سيبعث بعد موته ويحاسب ويجزى حسب أعماله، وكان

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب: ج ١ ص ٤٩، بحار الأنوار: ج ١٨ ص ١١٥، ولاحظ تاريخ الطبري: ج ٢ ص ٦٦.

(٢) مجمع البيان: ج ٨ ص ٤٦٥.

١٥٦

هذا أحد الدوافع للإعراض عن الدعوة، وقد جاء في الذكر الحكيم ما ذكروه في هذا المجال من الحجج الواهية، وسنوافيك به عند البحث عن المعاد في الذكر الحكيم ونكتفي في هذا المقام ببعض الآيات، فقال سبحانه:( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ( السجدة / ١٠ )، وقال سبحانه:( وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) ( الإسراء / ٩٨ )، وقال سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ( سبأ / ٧ ).

وتعرب الآية الاُولى عن أنّهم كانوا يظنّون أنّ الموت إفناء للإنسان واعدام واضمحلال له، فكيف يمكن إحياؤه ثانياً ؟ والقرآن يجيب عنه بقوله سبحانه:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) ( السجدة / ١١ ). إنّ الوفاء في الآية بمعنى الأخذ، وحاصل الجواب: انّ ملك الموت الذي وكّل بكم يأخذكم فلا تضلّون في الأرض ثمّ إلى ربّكم ترجعون.

وبعبارة ثانية: إنّ الإنسان مركّب من جسم وروح فما يبقى في الأرض هو جسمه وليس حقيقته وواقعيّته، وأمّا حقيقة الإنسان فهي روحه ونفسه وهي محفوظة عندنا يأخذها ملك الموت فما بقي فهو غير حقيقته، وما هو واقعية الإنسان ( الروح )، والنفس فهي محفوظة عند الله غير ضالة في الأرض.

قال العلّامة الطباطبائي: « أمر سبحانه رسوله أن يجيب عن حجّتهم المبنيّة على الاسبتعاد بأنّ حقيقة الموت ليس بطلاناً لكم وضلالاً منكم في الأرض، بل ملك الموت الموكّل بكم يأخذكم تامّين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم بمعنى قطع علاقتها من الأبدان، وأرواحكم تمام حقيقتكم، فأنتم أي ما يعني لفطة « كم » محفوظون لا يضل منكم شيء من الأرض، وإنّما تضلّ الأبدان وتتغيّر من حال إلى حال، وقد كانت في معرض التغيّر من أوّل كينونتها، ثمّ إنّكم محفوظون حتّى ترجعوا إلى ربّكم بالبعث ورجوع الأرواح إلى أجسادها »(١) .

__________________

(١) الميزان: ج ١٦ ص ٢٥٢.

١٥٧

وتعرب الآية الثانية عن أنّ سبب الإنكار هو تخيّل قصور القدرة وعدم إمكان البعث، فكيف يمكن إحياء العظام الرميمة ؟ فردّ عليه سبحانه بقوله:( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) ( الإسراء / ٩٩ ) فليس إحياء العظام الرميمة أكبر وأعظم من خلق السموات والأرض، فالقادر على خلقهما قادر على إحيائهم من جديد(١) .

٥ ـ طلب المشاركة في امتيازات النبوّة

كان المشركون - لأجل قصور معارفهم عن درك مقام النبوّة السامي- يطلبون المشاركة في أمر النبوّة، فكان الوليد بن المغيرة يقول: لو كانت النبوّة حقّاً لكنت أولى بها منك، لأنّي أكبر سنّا واكثر منك مالاً ! وقال أبوجهل: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى صرنا كفرسي رهان. قالوا منّا نبيّ يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً إلّا أن يأتينا وحي كما يأتيه(٢) .

وإلى هذه الحجّة الواهية يشير قوله سبحانه حاكياً عنهم:( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) ( الأنعام / ١٢٤ ).

إنّ كلامهم هذا ينمّ عن حقد دفين وعناد مستبطن فردّ عليهم سبحانه بقوله:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الأنعام / ١٢٤ ). فهو سبحانه أعلم منهم ومن جميع الخلق بمن يصلح لتنفيذ رسالاته، ويعلم من له الأهلية بتحمّل أعباء الرسالة.

٦ ـ المطالبة بمثل ما اُوتي سائر الرسل

كان المشركون المتواجدون في عصر الرسالة بلغ مسامعهم بأنّ الكليم موسى

__________________

(١) قد جمعنا مجموع شبهاتهم الواهية في إمكان المعاد وتحقّقه في الجزء المختص بالمعاد وقد إكتفينا بهذا المقدار هنا روماً للإختصار.

(٢) مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٦٢ ( ط صيدا ).

١٥٨

بعث بمعاجز مثل العصا إذا رمى بها في مجال التحدّي تنقلب ثعباناً، وبإدخال اليد في الجيب إذا أخرجها منه تكون بيضاء للناظرين، فاعترضوا عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه يجب أن تكون حجّة رسالته كحجج الكليم موسىعليه‌السلام وقد حكى ذلك منهم سبحانه بقوله:( فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ ) ( القصص / ٤٨ ).

وفي آية اُخرى:( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( الأنعام / ٣٧ ). وربّما يحتجّ بهذا الإعتراض من في قلبه مرض من المستشرقين، فيجب علينا تناوله بشيء من الدراسة والتحليل لرفع ما فيه من الإيهام والإبهام وذلك من خلال جوابين مستفادين من القرآن الكريم:

أ ـ إنّ هذا الإعتراض كان لمحض إختلاق المعاذير، والشاهد على ذلك أنّ هؤلاء المشركين وصفوا ما اُوتي الكليم بالسحر أيضاً، فقد روى المفسّرون أنّ المشركين بعثوا رهطاً إلى رؤوس اليهود في عيد لهم فسألوهم عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبروهم بنعته وصفته في كتابهم التوراة، فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك:( سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) وإليه يشير قوله سبحانه:( أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ) ( القصص / ٤٨ ).

ويظهر من الآيات الواردة بعد هذه الآية أنّهم رجعوا إلى أهل الكتاب واستفتوهم في أمره وعرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه، فأجابوا عنه بتصديقه والإيمان به، فساء ذلك المشركين واُغلظ عليهم بالقول واعرض الكتابيّون عنهم وقالوا: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين. قال سبحانه:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ *وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ ) ( القصص / ٥٢ ـ ٥٥ )(١) .

__________________

(١) لاحظ التفاسير.

١٥٩

ب ـ إنّ هؤلاء جاهلون بالحكمة في إختلاف المعاجز والآيات التي تنزل على أنبياء الله تعالى ويزعمون أنّه يجب أن تكون معاجز الجميع على حد سواء مع أنّ المصالح تقتضي أن تختلف معاجز الأنبياء ذاتاً وسنخاً حتى تتم الحجّة على المرسل إليهم، وتفصيل القول في ذلك أنّه يجب أن تكون معجزة كل نبي مجانسة للفن الرائج في عصره حتى إذا عرضت على مهرة ذلك الفن وخبرائه، أذعنوا بتفوّقه على قدراتهم وطاقاتهم، والذي جاء به مدّعي النبوّة فوق حدود العلم والفن الذي تمرّسوا فيه، وهذا يقتضي كون المعجزة مسانخة لما برعوا فيه في ذلك العصر إذ لوكان مغايراً ومفارقاً لما تمّت الحجة ولما اُلزموا بها إذ بوسعهم أن يعترضوا ويقولون: لا خبرة بشأن ما اُتيت به، فكيف لنا التحدّي والمناجزة أو التصديق بأنّ ما جئت به معجزة إلهية تفوق قدرة البشر، فاقتضت المصلحة تسانخ المعاجز للفنون الرائجة في عصر كل نبي.

وقد بلغ فن السحر والشعبذة في عصر الكليم موسى الذروة والقمّة كما اكتسب الطب في عصر المسيح أهميّة بالغة، فجاء الكليم موسى بالعصا واليد البيضاء فأبطل سحرهم وأثبت أنّ ما أتى به معجزة تفوق حد السحر وإن كان بينهما مشاكلة في الصورة ولكنّها تباينه بالذات، كما أنّ المسيح بابراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى كان قد أثبت أنّ ما أتى به فوق علمهم وطاقتهم وبراعتهم، وخارج عن الموازين الطبيعية التي كانوا يعتمدونها في الإبراء والمداواة.

فنفس تلك المصلحة تتطلّب أن تكون معجزة النبي الأكرم مشابهة لما برع فيه العرب في العصر الجاهلي لأنّه كان قد راج بينهم إنشاء الخطب البليغة الفصيحة ونظم الشعر والتحدّي بينهم في ذلك، فجاء بكتاب متحدّياً بصريح نصّه:( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٢٣ و ٢٤ ).

وإلى هذا الجواب يشير قوله سبحانه في ذيل الآية التي نبحث عنها:

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

المصلحة وناجماً عن سوء تدبيره، وبالتالي كان ذنباً ومعصية، أو أنّ الآية خرجت لبيان أمر آخر ؟ والصحيح هو الثاني وإليك البيان:

إنّ دراسة الموضوع توقفنا على أنّ إذن رسول الله كان مقروناً بالمصلحة إذ لولاه فلا يخلوا حالهم بين أن يكونوا مطيعين أو عاصين، فلو أطاعوه وساهموا المسلمين لكان ضررهم أكثر من نفعهم لقوله سبحانه:( لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إلّا خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ( التوبة / ٤٧ ).

ولأجل أنّ ضررهم كان أكثر من نفعهم، أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يشاركهم في الجهاد ولو طلبوا منه، قال سبحانه:( فَإِن رَّجَعَكَ اللهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ ) ( التوبة / ٨٣ ).

ولو خالفوا واثّاقلوا إلى الأرض لكان الفساد أعظم، لأنّ المخالفة الواضحة توجب تهبيط عظمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الأعين وربّما تتّخذ خطة عادية للمنافقين في مجالات اُخر.

ولأجل هذا لـمّا استأذنوا أذن لهم وما هذا إلّا دفعاً للفاسد أو الأفسد.

وبعبارة اُخرى: أنّهم كانوا عازمين على عدم الخروج مع المؤمنين لغزو الروم، بل كان لهم في غياب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تخطيط ومؤآمرة أبطله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بتخليف عليّعليه‌السلام مكانه كما هو مذكور في السيرة، قال سبحانه:( وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ) ( التوبة / ٤٦ ).

والآية صريحة في أنّهم كانوا عازمين على ترك الخروج وكان الإستئذان نوع تغطية لقبح عملهم فما كانوا يخرجون إلى الجهاد سواء أذن النبي ( صلى الله عليه وآله

٤٦١

وسلم ) أم لم يأذن، لكنصلى‌الله‌عليه‌وآله بإذنه حفظ مكانته ومنزلته بين المسلمين.

نعم، إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بإذنه فوّت مصلحة اُخرىٰ وهو التعرّف على المؤمن وتمييزه عن المنافق، وتمحيص المطيع عن المتمرّد ولولاه لم يعرف الصديق من العدو عاجلاً.

وليس لحن الآية في مجال تفويت هذه المصلحة لحن العتاب والإعتراض، بل اُسلوبه اُسلوب عطف وحنان، وأشبه بإعتراض الولي الحميم على الصديق الوفي، إذا عامل عدوّه الغاشم بمرونة ولينة، فيقول بلسان الإعتراض: « لماذا أذنت له ولم تقابله بخشونة حتّى تعرف عدوّك من صديقك ومن وفّي لك ممّن خانك. على أنّه وإن فات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معرفة المنافق من هذا الطريق لكنّه لم يفته معرفته من طريق آخر، صرّح به القرآن في غير هذا المورد، فإن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعرف المنافق وغيره من المؤمن من طريقين آخرين.

١ ـ كيفيّة الكلام، ويعبّر عنه القرآن بلحن القول وذلك إنّ الخائن مهما أصرّ على كتمان خيانته، تظهر بوادرها في ثنايا كلامه، قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « ما أضمر أحد شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه » وفي ذلك يقول سبحانه:( وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) ( محمد / ٣٠ ).

٢ ـ التعرّف عليهم بتعليم منه سبحانه، قال:( مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ) ( آل عمران / ١٧٩ ) والدقّة في الآية تفيد بأنّ الله سبحانه يجتبي من رسله من يشاء ويطلعه على الغيب، ويعرف من هذا الطريق الخبيث ويميّزه عن الطيّب.

وعلى ذلك فلم يفت النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله شيء وإن فاتته

٤٦٢

معرفة المنافق من هذا الطريق ولكنّه وقف عليها من الطريقين الآخرين.

وعلى كل تقدير فاستئذان اُولوا الطول منهم لترك الخروج آية النفاق، كما أنّ مساهمتهم آية الإيمان، يقول سبحانه:( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ *رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ *لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ *أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة / ٨٦ ـ ٨٩ ).

نعم استثنىٰ سبحانه ذوي الأعذار وهم الضعفاء، والمرضى والفقراء، فإنّ هذه الأصناف الثلاثة لا حرج عليهم ولا إثم في قعودهم عن الجهاد الواجب، قال سبحانه:( لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى المَرْضَىٰ وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا إلّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ *إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( التوبة / ٩١ ـ ٩٣ ).

الاعتذار بالخوف من نساء الروم

ثمّ إنّ بعضهم اعتذر بأنّه يخشىٰ من نساء بني الأصفر فقال: يا رسول الله: « إئذن لي ولا تفتني فو الله لقد عرف قومي أنّه ما من رجل بأشدّ عجباً بالنساء منّي وإنّي أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر » فأعرض عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: لقد أذنت لك، فنزلت في حقّه هذه الآية:( وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) ( التوبة / ٤٩ ).

٤٦٣

والمراد أنّه انّما خشي الفتنة من نسائهم ولكن ما سقط فيه من الفتنة أكبر لتخلّفه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجزاؤه جهنّم(١) .

ثمّ خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن المدينة وضرب عسكره على ثنية الوداع وخلّف عليّ بن أبي طالب ( رضوان الله عليه ) على أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلّفه إلّا إستثقالاً له وتخفّفاً منه، فلمّا قال ذلك المنافقون أخذ عليّ بن أبي طالب ( رضوان الله عليه ) سلاحه ثمّ خرج حتّى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو نازل بالجرف، فقال: يا نبي الله، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتني لأنّك استثقلتني وتخفّفت منّي، فقال: كذّبوا، ولكنّي خلّفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا عليُّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ إلّا أنّه لا نبي بعدي، فرجع عليٌّ إلى المدينة، ومضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على سفره(٢) .

حديث تخلّف الثلاثة

ثمّ إنّه تخلّف بعضهم لا عن نفاق بل عن توان وهم: كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن اُميّة. فلمّا قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة جاءوا إليه واعتذروا فلم يكلّمهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقدّم إلى المسلمين بأن لا يكلّمهم أحد منهم، فهجرهم الناس حتى الصبيان، وجاءت نساؤهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقلن له: يا رسول الله نعتزلهم ؟ فقال: لا ولكن لا يقربوكنّ، فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال، وكان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام ولا يكلّمونهم، فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس ولا يكلّمنا أحد منهم فهلّا نتهاجر نحن أيضاً، فتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان وبقوا على ذلك خمسين

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ٢ ص ٥١٦.

(٢) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٥٢٠.

٤٦٤

يوماً يتضرّعون إلى الله تعالى، فقبل الله توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية(١) :

( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إلّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبه / ١١٨ ).

والذي يستفاد من هذا القرار الحاسم الذي أصدره النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في شأن اُولئك، أنّ الدواء الناجع لعلاج كل تصدّع يطرأ على الجبهة الإسلامية يتمثّل في فرض الحصار وتضييق الخناق على العدوّ ليستأصل كلّياً قبل استفحال أواره، ، واشتداد شوكته.

وبعبارة اُخرى: نستخلص درساً هامّاً لحياتنا في مستقبلها المصيري من موقف النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا وهو أنّه كلّما شعرت القيادة الإسلامية بخطر يترقّب من أقلّية تسكن داخل البلاد الإسلامية، فإنّه يجب عليها أن تفرض عليها الحصار الإقتصادي وتستنهض عزائم المسلمين للمجابهة الصارمة مع اُولئك ليرتدعوا عن بكرة أبيهم عمّا كانوا عليه من شطط وإيذاء للمسلمين.

نرى في البلاد الإسلامية أقلّيات مذهبية من غير المسلمين وقد بلغوا الذروة في الثروة وجمع المال وامتصّوا دماء المسلمين في عقر دارهم، واستنفدوا قواهم وسخّروهم لصالح منافعهم الخاصّة على غفلة من أمرهم، وما هذه الظاهرة إلّا لأنّ الأكثرية صارت دمية بيد اُولئك لتشتّت المسلمين وإنقسامهم على أمرهم، فلو قام المسلمون بأعمال السياسة التي قام بها النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في العام التاسع من الهجرة وضربوا الحصار على تلك الأقلّية بأن يقطعوا الأواصر الإقتصادية مع هؤلاء، لدحضت مخطّطاتهم ولردّ كيدهم إلى نحورهم.

__________________

(١) ونقله القمّي في تفسيره بصورة مفصّلة، ومن أراد فليرجع إلى ج ٢ ص ٢٧٨ ـ ٢٨٠، لاحظ مجمع البيان: ج ٣ ص ٧٩.

٤٦٥

هذا ما يرجع إلى الأقلّيات المذهبية في داخل البلاد الإسلامية وأمّا القوى الكافرة الخارجة عنها فيجب كبح جماحهم بشكل آخر وهو:

إنّ المسلمين اليوم يملكون زمام الطاقة الحياتية المتمثّلة في النفط والتي تمثّل عصب الحضارة الحديثة، فلو أنّهم امتنعوا عن إعطاء ثروتهم النفطية للقوى الكبرى، لتوقّفت واُصيبت الحياة الصناعية والإقتصادية بشكل رهيب. واضطرّت على أثرها للرضوخ للواقع والإعتراف بحقوق المسلمين المشروعة.

( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) والتفصيل موكول إلى محل آخر.

مسجد ضرار

كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على جناح السفر إلى تبوك إذ وفد جماعة من بني غنم ابن عوف وطلبوا منه أن يأتيهم ويصلّي في مسجدهم الذي بنوه في حيّهم وقالوا: إنّا بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنّا نحب أن تأتينا فتصلّي فيه لنا وتدعوا بالبركة، فقال لهم: إنّي على جناح سفر ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله.

فلمّا انصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك وأراد الصلاة فيه نزلت عليه آية في شأن المسجد وهي:

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إلّا الحُسْنَىٰ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ *أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

٤٦٦

الظَّالِمِينَ *لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إلّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة / ١٠٧ ـ ١٠٩ ).

وفي حقيقة الأمر كان إنشاء هذا البناء لأجل غاية خبيثة وأهداف مستبطنة منها بثّ الفرقة والشقاق بين صفوف المسلمين، ومنها جعل هذا المكان ملجأً لأبي عامر الراهب وهو من أشد محاربي الله ورسوله وكان من قصّته أنّه قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح، فلمّا قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة حسده وحزّب عليه الأحزاب ثمَّ هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف فلمّا أسلم أهل الطائف لحق بالشام وخرج إلى الروم وتنصّر وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة الذي قتل مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في واقعة اُحد وكان جنباً فغسّلته الملائكة.

وسمّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا عامر: « الفاسق »، وقد كان أرسل إلى المنافقين أن استعدّوا وابنوا مسجداً فإنّي أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود واخرج محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة، فكان المنافقون يتوقّعون أن يجيئهم أبو عامر، فبنوا هذا المسجد لتلك الغاية.

فلمّا نزلت الآية أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الأخشم بهدم المسجد وتحريقه، وروي أنّه بعث عمّار بن ياسر ووحشي أن يحرقاه وأمر بأن يتّخذ كناسة يلقىٰ فيها الجيف.

وهذه المؤامرة لم تكن الاُولى في تاريخ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ القوى الكافرة ما برحت تبذل جهودها في البلاد الإسلامية من خلال إنشاء المشاريع الخيرية كالكنائس والمستشفيات وملاجئ الأيتام ومعاهد التربية والتعليم لتأصيل بذور عوامل الإختلاف بين المسلمين، وتضعيف عقائدهم وافسادهم إلى حد تبلغ بهم فيه إلى مسخ شخصيتهم الإسلامية.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدل على أنّ المشاريع الخيرية أفضل وسيلة للنفوذ إلى أوساط المسلمين وتنفيذ مآربهم العدائية المحاكة ضدّهم.

٤٦٧

وفي الواقع أنّ الخطّة التي تنتهجها القوىٰ الكافرة غالباً للقضاء على الإسلام والمسلمين تكمن في إستغلال الصبغة الدينية التي تدين بها الشعوب الإسلامية لضرب الإسلام والإنسانية باسم الإسلام نفسه وتحت شعارات دينية تنبع من أهدافه في ظاهر أمرها.

وقعة تبوك:

فلمّا انتهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبوك أتاه صاحب أيله(١) وأهل جرباء وأذرح فأعطوه الجزية، فكتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لهم كتاباً، فأقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في تبوك بضعة عشر ليلة ولم يجد من العدو فيها أثراً فرجع إلى المدينة قافلاً.

تآمر المنافقين على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

روى المفسّرون أنّ اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند رجوعه من تبوك فأخبر جبرئيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم، وعمّار كان يقود دابّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحذيفة يسوقها، فقال حذيفة اضرب وجوه رواحلهم فضربها حتى نحّاهم، فلمّا نزل قال لحذيفة من عرفت من القوم ؟ قال: لم أعرف منهم أحداً، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه فلان وفلان حتى عدّهم كلّهم، فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم ؟ فقال: أكره أن تقول العرب لـمّا ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم(٢) .

روى الواقدي: لـمّا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض

__________________

(١) مدينة في فلسطين.

(٢) مجمع البيان: ج ٣ ص ٤٦.

٤٦٨

الطريق مكر به اُناس من المنافقين وائتمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق، فلمّا بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، فأخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خبرهم.

فقال للناس: اسلكوا بطن الوادي فإنّه أسهل لكم وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله العقبة وأمر عمّار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها وأمر حذيفة بن اليمان يسوق من خلفه، فبينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يسير في العقبة إذ سمع حسيس القوم قد غشّوه، فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمر حذيفة أن يردّهم، فرجع حذيفة إليهم وقد رأوا غضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فجعل يضرب وجوه رواحلهم بمحجن في يده، وظنّ القوم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد اطّلع على مكرهم فانحطّوا من العقبة مسرعين حتّى خالطوا الناس.

وأقبل حذيفة حتّى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فساق به، فلمّا خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من العقبة نزل الناس فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا حذيفة هل عرفت أحداً من الركب الذين رددتهم ؟ قال: يا رسول الله عرفت راحلة فلان وفلان وكان القوم متلثّمين فلم أبصرهم من أجل ظلمة الليل، فنزلت في حقّهم هذه الآية:

( يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ *وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ) ( التوبة / ٦٤ ـ ٦٥ )(١) .

__________________

(١) المغازي للواقدي: ج ٣ ص ١٠٤٢ ـ ١٠٤٣.

٤٦٩
٤٧٠

(١١)

البراءة من المشركين

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لـمّا فتح مكّة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة، وكانت سنّة العرب في الحج أنّه من دخل مكّة وطاف البيت في ثيابه لم يحلّ له امساكها، وكانوا يتصدّقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف، فكان من وافىٰ مكّة يستعير ثوباً ويطوف فيه ثمّ يردّه، ومن لم يجد عارية ولا كراءً ولم يكن له إلّا ثوب واحد طاف بالبيت عرياناً.

فجاءت امرأة من العرب حسناء جميلة فطلبت ثوباً عارية أو كراءً فلم تجده، فقالوا لها: إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدّقي بها، فقالت: كيف أتصدّق وليس لي غيرها ؟ فطافت بالبيت عريانة، وأشرف لها الناس، فوضعت احدى يديها على قبلها والاُخرى على دبرها، وقالت شعراً:

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

فما بدا منه فلا أحلّه

فلما فرغت من الطواف، خطبها جماعة، فقالت: إنّ لي زوجاً. وكانت سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل نزول سورة البراءة أن لا يقاتل إلّا من قاتله، ولا يحارب إلّا من حاربه وأراده، فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقاتل أحداً قد تنحّىٰ عنه واعتزله حتى نزلت عليه سورة البراءة، وأمره بقتل المشركين من اعتزله ومن لم يعتزله إلّا الذين قد عاهدهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم فتح مكّة إلى مدّة، منهم: صفوان بن اُميّة وسهيل بن عمرو، فقال الله عزّ وجلّ:( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ *فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) ثمّ يقتلون حيثما وجدوا بعد.

٤٧١

هذه أشهر السياحة: عشرين من ذي الحجة ومحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من ربيع الآخر.

فلمّا نزلت الآيات من سورة البراءة دفعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أبي بكر وأمره أن يخرج إلى مكّة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر، فلمّا خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا محمّد لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك.

فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمير المؤمنينعليه‌السلام في طلب أبي بكر، فلحقه بالروحاء وأخذ منه الآيات فرجع أبو بكر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسول الله أنزل الله فيّ شيئاً ؟ فقال: لا إنّ الله أمرني أن لا يؤدّي عني إلّا أنا أو رجل منّي(١) .

هذا مجمل ما روته الشيعة حول حادثة نزول السورة وهو بنفسه جاء في كتب أهل السنّة في مصادر جمّة من حديث وتفسير، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى تفسير الطبري والسيوطي في تفسير الآية، ولكن لإلقاء المزيد من الضوء على تلك الحادثة نبحث عن اُمور:

١ ـ لماذا لم يحجّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه في هذا العام ؟

روى المفسّرون أنّه أقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك فأراد الحج، فقيل له: إنّه يحضر المشركون فيطوفون عراة، فقال: لا أحبّ أن أحجّ حتّى لا يكون ذلك(٢) .

ويؤيّد ذلك قصة المرأة التي طافت بالبيت الحرام عريانة كما عرفت.

__________________

(١) تفسير القمي: ج ١ ص ٢٨١ ـ ٢٨٢.

(٢) تفسير الطبري: ج ١١ ص ٤٤.

٤٧٢

٢ ـ اختلفت الرواية في عدد الآيات التي بعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاًعليه‌السلام بها ليقرأها يوم الحجّ الأكبر على المشركين ويرفع الأمان عنهم.

فقد روى الطبري عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا:

بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر أميراً على الموسم سنة تسع وبعث عليّ بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه بثلاثين أو أربعين آية من سورة براءة فقرأها على الناس يؤجّل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض، فقرأ عليهم براءة يوم عرفة أجّل المشركين عشرين من ذى الحجة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من ربيع الآخر(١) .

وروى السيوطي في الدر المنثور قال: أخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد السند وأبو الشيخ وابن مردويه عن عليٍّرضي‌الله‌عنه قال: لـمّا نزلت عشر آيات من براءة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا أبا بكر ليقرأها على أهل مكّة ثمّ دعاني فقال لي: أدرك أبا بكر فحيث ما لقيته فخذ الكتاب منه(٢) .

روى البحراني في تفسيره عن مصادر وثيقة، روايات تنتهي إلى أبي هريرة وأنس وأبي رافع وزيد بن نفيع وابن عمر وابن عباس ـ واللّفظ للأخير: إنّه لـمّا نزل( بَرَاءَةٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ ) إلى تسع آيات أنفذ النبي أبا بكر إلى مكّة لأدائها، فنزل جبرئيل وقال: إنّه لا يؤدّيها إلّا أنت أو رجل منك، فقال النبي لعليٍّ: إركب ناقتي العضباء والحق أبا بكر وخذ براءة منه(٣) .

والرواية الثانية والثالثة أوفق بمضمون الآيات وما يمس بالقضية لا يتجاوز الآية العاشرة وربّما تزيد قليلاً، مضافاً إلى أنّ الرواية الاُولى فيها من الشذوذ ما لا يخفى، وسيوافيك أنّ عليّاًعليه‌السلام قد قرأ يوم النحر لا يوم عرفة وأنّه رفع الأمان عن

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) الدر المنثور: ج ١٠ ص ١٢٢.

(٣) تفسير البرهان: ج ٢ ص ١٠٥.

٤٧٣

المشركين منذ يوم التلاوة وكان يوم العاشر من ذي الحجة لا العشرين منه.

وإليك الآيات العشر الواردة في شأن تلك القصة نسوقها إليك لتقف عن كثب على مضمونها وما ورد فيها حول تلك الحادثة:

قال عزّ من قائل:( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ *فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ *وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إلّاالَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ *فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ *كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إلّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ *كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ *اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلّا وَلا ذِمَّةً وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ ) ( براءة / ١ ـ ١٠ ).

٣ ـ لماذا عزل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر عن مهمّة التبليغ:

قد تضافرت النصوص على أنّه لـمّا نزلت عشر آيات من أوّل سورة براءة دعا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر ليقرأها على أهل مكّة ثّم دعا عليّاًعليه‌السلام فقال له: أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكّة فاقرأه عليهم، فخرج عليٌّعليه‌السلام من المدينة فلحق أبا بكر في الجحفة وأخذ

٤٧٤

الكتاب منه، ورجع أبو بكر إلى المدينة مستاءً فقال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنزل فيّ شيء ؟ قال: لا، ولكن جبرئيل جاءني فقال: لن يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك(١) .

وهناك صور اُخرى للحديث يقرب بعضها من بعض ويتّحد الكل في إفادة معنى واحد لمضمون القصّة.

قال البغوي في تفسيره: لـمّا كانت سنة تسع وأراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يحج قيل له: إنّه يحضر المشركون فيطوفون عراة، فبعث أبا بكر تلك السنة أميراً على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه أربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم، ثمّ بعث بعده عليّاً ( كرم الله وجهه ) على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذّن بمكّة ومنىٰ وعرفة: أن قد برئت ذمة الله وذمّة رسوله من كلّ مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فرجع أبو بكر فقال: يا رسول الله بأبي أنت واُمّي أنزل في شأني شيء ؟ قال: لا، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلّغ هذا إلّا رجل من أهلي(٢) .

وعند الرجوع إلى طرق وأسانيد هذه القصة في المجامع الحديثية والتفسيرية المهمّة يظهر بجلاء وجود تواتر معنوي أو إجمالي لوقوع القصة أعني استرداد الآيات من أبي بكر وتشريف أمير المؤمنين بتبليغها ونزول الوحي المبيّن بأنه لا يبلّغ عنه إلّا هو أو رجل من أهل بيته وإن اشتملت القصة على بعض الخصوصيّات التي تفرّد بها بعض الطرق والمتون(٣) .

__________________

(١) الدر المنثور: ج ٣، ص ٢٠٩، كنز العمال: ج ١ ص ٢٤٧، تاريخ ابن كثير: ج ٥ ص ٣٨.

(٢) تفسير البغوي: ج ٢ ص ٢٦٧.

(٣) وقد جمع العلاّمة الأميني كافة صور الحديث بطرقه المختلفة المسندة منها والمرسلة في موسوعته الثمينة الغدير ونقله عن ثلاثة وسبعين محدّثاً ومفسّراً ومؤرّخاً لاحظ: ج ٦ ص ٣٣٨ ـ ٣٥٠.

٤٧٥

وإلى تلك الفضيلة يشير شمس الدين المالكي ( ت ٧٨٠ ه‍ ) في قصيدته:

وإنّ عليّاً كان سيف رسوله

وصاحبه السامي لمجد مشيّد

إلى أن قال:

وأرسله عنه الرسول مبلّغاً

وخصّ بهذا الأمر تخصيص مفرد

وقال هل التبليغ عنّي ينبغي

لمن ليس عن بيتي من القوم فاقتد(١)

وحينئذ يأتي الكلام على الوازع الذي دفع الوحي الإلهي إلى عزل أبي بكر وتنصيب عليّعليه‌السلام مكانه فقد ذكرت في المقام وجوه نشير إليها:

١ ـ ما ذكره الآلوسي في روح المعاني بقوله: ليس في شيء من الروايات ما يدلّ على أنّ عليّاًعليه‌السلام هو الخليفة بعد رسول الله دون أبي بكر، وقوله: « لا يبلّغ عنّي غيري أو رجل منّي » سواء كان بوحي أو جار على عادة العرب أن لا يتولّى تقرير العهد ونقضه إلّا رجل من الأقارب لتنقطع الحجّة بالكلّية(٢) .

ويؤاخذ عليه:

أوّلاً: بأنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله برّر عزل أبي بكر بأنّه نزل جبرئيل على « أنّه لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك » ولو كانت لما ذكره القائل مسحة من الحق لكان على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول السنّة الجارية عند العرب هي أن لا ينقض العهد إلّا عاقده أو رجل من أهل بيته، مع إنّا نرى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يذكره أبداً.

وثانياً: إنّ ابن كثير لم يذكر لتلك السنّة العربية مصدراً ولا خبراً عنها في أيّامهم ومغازيهم، ولو صحّت السنّة لكانت سنّة عربيّة جاهليّة فما وزنها في الإسلام ؟ وما

__________________

(١) نفح الطيب: ج ٤ ص ٦٠٣.

(٢) روح المعاني: ج ١٠ ص ٤٥، وقد أخذه عن تفسير ابن كثير: ج ٢، ص ٣٣١.

٤٧٦

هي قيمتها عند النبي ؟ وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله كان ينسخ كل يوم سنّة جاهليّة وينقض كل حين عادة قوميّة، وقد قال يوم فتح مكّة: « ألا إنّ كلّ مأثرة أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج »(١) .

وثالثاً: لو افترضنا أنّ هذه السنّة كانت سنّة عربيّة محمودة فهل كان رسول الله ذاهلاً عنها وناسياً لها حين سلّم الآيات بيد أبي بكر وأرسله وخرج إلى طريق مكّة ؟ فعندما كان في بعض الطريق ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ما نسيه أو ذكّره بعض من كان عنده بما أهمله وذهل عنه من أمر كان الواجب مراعاته، مع أنّ هذه السنّة لو كانت رائجة لما كان للنبي ولمن حوله أن يغفلوا عنها ثم يتذكّروها، فهل الذهول عنها إلّا كذهول المقاتل عن سلاحه والحارس عن حربته ؟

ورابعاً: إنّ عليّاًعليه‌السلام لم يبعث لمجرّد نقض العهد وحده، وإنّما بلّغ أحكاماً لم تكن داخلة في ضمن العهد، فقال: « يا أيّها الناس لا يحجّ بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول الله عهد فهو له إلى مدّته الخ »(٢) .

وبالجملة فلم تكن رسالة الإمام عليّعليه‌السلام مقصورة على مجرّد تلاوة طائفة من سورة براءة بل تعدّت إلى تبليغ أحكام قرآنية اُخرى نزل بها جبرئيل عن الله سبحانه على رسوله حيث أخبر فيها بأنّه « لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك ».

هذا هو التبرير الذي إرتآه ابن كثير وجنح إليه الآلوسي في تفسيره.

وهناك زمزمة اُخرى تفوّه بها صاحب المنار واستحسنها شلتوت في تفسيره حيث قال الأوّل: « إنّ الصدّيق كان مظهراً لصفة الرحمة والجمال وكان عليٌّ أسد الله ومظهر جلاله، ولأجل ذلك فوّض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر، فكان هناك عينين فوّارتين يفور من أحدهما صفة الجمال ومن

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام: ج ٢ ص ٤١٢.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام: ج ٢ ص ٥٤٦.

٤٧٧

الاُخرى صفة الجلال في ذلك المجمع العظيم الذي كان أنموذجاً للحشر ومورداً للمسلم والكافر »(١) .

وصاحب المنار عندما ينقله عن بعض أهل السنّة يعود فينتقده بقوله: « ولا يخفى حسنه لو لم يكن في البين تعليل النبي فإنّه علّل تبليغ عليٍّ، نبذ العهود عنه بكونه من أهل بيته وهو ينافي أن تكون النكتة المذكورة علّة، فهو لا يأبى أن تكون حكمة ».

وصاحب المنار وإن أتى ببعض الحقّ ولكن غفل عن البعض الآخر وهو أنّ أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكونوا منحصرين في عليّ وحده، بل كانوا عدّة كثيرة كعمّه العباس وأبناء أبي طالب كطالب وعقيل وغيرهم، فلماذا ـ يا تري ـ اختار عليّاً وحده من دونهم ؟

والحق أن يقال: إنّ عزل أبا بكر ونصب عليّ مكانه لم يكن إلّا لأمر سياسى ودينى يتلخّص في الأمر التالي:

وهو أنّ نقض وإبرام المواثيق والعهود من الاُمور الحكومية التي يمارسها الحاكم المدني أو الشرعي ولا يحق لغيره التدخّل فيها، فالنبي الأكرم نوّه بعمله هذا إلى أنّ الإنسان اللائق بهذه المهام في حياته ـ وبطريق أولى بعد وفاته ـ هو عليٌّ بلا منازع، الذي هو منه(٢) فهو اللائق والمسؤول بحكم النيابة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله للتصدّي لشؤون الخلافة والحكومة ولا يختصّ شأن عليٍّ بالاُمور السياسية وحده بل هو المبلّغ لأحكام شرعيّة لم يبلّغه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأجل ظروف قاسية فهو الزعيم للاُمّة في الاُمور السياسية والشرعية.

ومن العجب العجاب ما يرى من تساهل الرواة والمؤرّخون في نقل هذه الفضيلة، ونسوق إليك بعض الصور المختلفة لهذه القصّة في كتب الحديث:

__________________

(١) تفسير المنار: ج ١٠ ص ١٩٣، تفسير القرآن المجيد للشيخ محمود شلتوت ص ٦١٥.

(٢) نظير ذلك ما ورد في آية المباهلة حيث قال سبحانه:( تَعَالَوا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وابْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وانْفُسَنَا وانْفُسَكُمْ) ( آل عمران / ٦١ ).

٤٧٨

١ ـ ما يحكى أنّ عليّاً اختصّ بتأدية براءة واُخرى تدلّ على أنّ أبا بكر شاركه فيه، واُخرى تدلّ على أنّ أبا هريرة شاركه في التأدية، ورجال آخرون لم يسمّوا في الروايات.

٢ ـ ما يدل على أنّ الآيات كانت تسع آيات، واُخرى عشراً، واُخرى ستّة عشر، واُخرى ثلاثين، واُخرى ثلاثاً وثلاثين، واُخرى سبعاً وثلاثين، واُخرى أربعين، واُخرى سورة براءة.

٣ ـ ما يدلّ على أنّ أبا بكر ذهب لوجهه أميراً على الحاج، واُخرى على أنّه رجع وأوّله بعضهم كابن كثير أنّه رجع بعد إتمام الحج، وآخرون أنّه رجع ليسأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن سبب عزله، وفي رواية أنس أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث أبا بكر ببراءة ثمّ دعاه فأخذها منه.

٤ ـ ما يدل على أنّ الحجّة وقعت في ذي الحجّة وإنّ يوم الحجّ الأكبر تمام أيّام تلك الحجّة أو يوم عرفة أو يوم النحر أو اليوم التالي ليوم النحر أو غير ذلك، واُخرى أنّ أبا بكر حجّ في تلك السنة في ذي القعدة.

٥ ـ ما يدل على أنّ أشهر السياحة تأخذ من شوال، واُخرى من ذي القعدة واُخرى من عاشر ذي الحجّة، واُخرى من الحادي عشر من ذي الحجّة وغير ذلك.

٦ ـ ما يدل على أنّ الأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم من تلك السنة، واُخرى على أنّها أشهر السياحة تبتدئ من يوم التبليغ أو يوم النزول(١) .

٤ ـ مبدأ أمد الهدنة:

إنّ الله سبحانه ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد رفعا الأمان عن المشركين الناقضين للعهود إلّا أنّه تمّ إمهالهم مدّة أربعة أشهر وحيث قال سبحانه:

__________________

(١) الميزان: ج ٩ ص ١٧٥، ولاحظ تفسير الطبري: ج ٩ ص ٤٢.

٤٧٩

( فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ *وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( براءة / ٢ و ٣ ).

وأمّا مبدأ هذه الهدنة هو يوم الحجّ الأكبر الذي هو يوم الإبلاغ والإنذار.

والأوفق بسماحة الإسلام أن يبتدأ أمدها من حين الإعلان والإنذار لا من حين إنشاء الحكم الذي ربّما يتقدّم على إعلامه.

فإذا فرضنا أنّ يوم الحجّ الأكبر هو يوم النحر العاشر من ذى الحجّة كان آخر الأمد هو العاشر من ربيع الآخر.

وأمّا من جعل مبدأ الإنذار يوم العشرين من ذى القعدة فعليه تنتهي الهدنة بمرور عشرين يوماً من ربيع الأول يتوقف.

وعند ذلك يتوجّه سؤال وهو: أنّه إذا كان نهاية الأمد هو العاشر أو العشرين من ربيع الآخر فكان يجب على المسلمين الصبر حتّى ينتهي ذلك الأمر مع أنّه سبحانه يأمر بقتلهم عند انسلاخ الأشهر الحرم أي في نهاية محرّم الحرام وإطلالة شهر صفر، قال سبحانه:

( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / ٥ ).

والجواب عن ذلك: إنّ المراد من الأشهر الحرم هي الأشهر الأربعة الواردة في الآية المتقدّمة التي حرّم الله سبحانه قتال المشركين فيها وتبتدئ من يوم النحر وتنتهي في يوم العاشر من ربيع الآخر، واللام في الأشهر الحرم للعهد الذكري إشارة إلى الأربعة المذكورة في الآية المتقدّمة، وليس المراد منه الأشهر الحرم المعروفة التي حرّم فيها الحرب في الإسلام وما قبله بل تمتد جذوره إلى عهد الأنبياء السالفين لأنّه

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581