مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265610 / تحميل: 6065
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

للحيلولة دون بلوغ أهدافه التي كان يطمح لإقرارها وتثبيت اُسسها في برهة زمنية قياسية، فكانت لهم ردود فعل مثبّطة نشير إليها.

قد وقفت على الدوافع الروحية الباعثة على مخالفة النبي الأكرم غير أنّها تبلورت في الاُمور التالية:

١ ـ إكالة التهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ ـ الاستنكار والاحتجاج بالاُمور الواهية.

٣ ـ الاقتراحات الباطلة كشروط لقبول الرسالة.

٤ ـ ايقاع الأذىٰ على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه.

وإليك بيان هذه الاُمور واحداً تلو الآخر حسبما يستفاد من آيات القرآن الكريم:

١٤١

الف ـ اكالة التهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله

كان أسلوب تحطيم الشخصيات عن طريق إكالة التّهم إليهم أقدم حربة بيد الجهّال يطعنون بها على المصلحين، وقد إستعملها مشركوا عصر الرسالة في بدء الدعوة ولم تكن الفرص تسنح لهم بقتله واغتياله، فحاولوا إغتيال شخصيّته ليسقطوه عن أعين الناس، فإنّ نجاح المصلح في نشر دعوته يكمن في اتّسامه بالقداسة والطهارة والعقلية الرزينة، فلو افتقد المصلح تلك ـ السمات عن طريق الاتّهام بما يضادها ـ ذهب سعيه أدراج الرياح وأصبحت جهوده سدىٰ، فلأجل ذلك إختارت قريش القيام بشنّ حرب نفسيّة ضروس لا هوادة فيها للحطّ من قيمته وكرامته والحيلولة دون نفوذ كلمته.

ولكنّهم مهما بذلوا من جهود لإنجاح مؤامراتهم لم تتجاوز تهمهم عن الكهانة والسحر والجنون وأشباهها لأنّ النّبي قد كان في الطهارة النفسيّة والأمانة المالية وسائر الصفات الكريمة على حدّ حال دون إلصاق تهم اُخرى به ككونه خائناً سارقاً قاتلاً غير عفيف، وهذا أحد الدلائل البارزة المشرقة على أنّه كان فوق التهم المشينة المزرية، وكانت حياته طيلة أربعين سنة مقرونة بالصلاح والفلاح والأمانة، ولو كانت هناك أرضية صالحة لتوصيف النبيّ بها، لما أمسكوا عنها.

نعم قام العدو باتّهامه باُمور يشكل اثباتها كما يشكل نفيها عن المتهم، وهذه هي الطريقة المألوفة عند بني الشياطين لمس كرامة المصلحين حيث يشنّون عليهم بمثل هذه التّهم لغاية إسقاطهم عن أعين النّاس. يقول سبحانه:( كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إلّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) ( الذاريات / ٥٢ ).

١٤٢

هكذا كانت سيرة الأعداء في طرد المصلحين عن الساحة.

ثمّ إنّ التّهم الّتي حكاها القرآن عن لسان أعداء النبيّ تتلخّص في العناوين التالية:

١ ـ الكهانة: وهي في اللغة عبارة عن اتّصال الإنسان بالجن ليتلقّى منهم أنباء الماضين وأخبار اللّاحقين ومن خلالها يتمكّن من التنبّؤ بالمستقبل، يقول سبحانه مشيراً إلى تلك التّهمة وردّها:( وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ) ( الحاقة / ٤٢ ).

٢ ـ السحر: وهو قوّة نفسانيّة للساحر يقدر معها على إنجاز اُمور خارقة للعادة مموّهة، ومن تلك الاُمور التفريق بين المرء وزوجته والوالد وولده بل بين أفراد العائلة كافّة. قال سبحانه:( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) ( ص / ٤ ).

٣ ـ المسحورية: والمراد منه تأثّره بسحر الآخرين، وأنّ هناك ساحراً أو سحرة سحروا النبيّ وأثّروا فيه. يقول سبحانه حاكياً عن المشركين:( إِن تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلاً مَّسْحُورًا ) ( الفرقان / ٨ ). ثمّ يردّه بقوله سبحانه:( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) ( الفرقان / ٩ ) والمراد من قوله( ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ ) أي وصفوك بالمسحورية، وقد اتّهم بنفس تلك التهمة النبيّ صالح. قال سبحانه حاكياً عن أعدائه:( قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ ) ( الشعراء / ١٥٣ ) وممّا يجدر ذكره أنّ اتّهام النبيّ بالمسحورية ليست تهمة مستقلّة تغاير الجنون جوهراً بل هي نفس التهمة ولكنّها صيغت بلفظ أكثر أدباً، وهذه شيمة الدهاة حيث يمزجون السم بالعسل.

٤ ـ الجنون: ومفهومه غني عن البيان وقد مضى أنّها تهمة شائعة تُلصق بالمصلحين من جانب خصومهم من غير فرق بين النبيّ وغيره، وبين نبيّنا وسائر الأنبياء كما عرفت(١) . قال سبحانه نقلاً عن المشركين:( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( الحجر / ٦ )، قال تعالى:( وَمَا صَاحِبُكُم

__________________

(١) الذاريات / ٥٢.

١٤٣

بِمَجْنُونٍ ) ( التكوير / ٢٢ )، وقال عزّ من قائل:( فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ) ( الطور / ٢٩ ) والمبرّر لهم بوصفه بالجنون ومؤاخذتهم له، وقوفه لوحده في وجه الرأي العام المتمثّل في الشرك. والسذّج من النّاس يصفون من يتبنّىٰ الفكر الذي لا يوافقه عليه الرأي العام وهو يريد تطبيقه في المجتمع، بأَنّه مجنون لا يعرف قدر نفسه ومنزلته وسوف يهدر دمه لا محالة.

ما أسخف هذه التهم إذ كيف يتّهمون من هو أرجحهم عقلاً وأبينهم قولاً منذ ترعرع إلى أن بلغ أشدّه بالجنون والكهانة مضافاً إلى ما في هذا من التناقض والإضطراب، فإنّ الكهنة كانوا من الطبقة العليا بين الناس يرجع إليهم القوم في المشاكل والمعضلات وأين هو من الجنون ؟ فكيف جمعوا بين كونه كاهناً ومجنوناً ؟

ولقد لمسنا ذلك في حياتنا القصيرة في مجتمعنا ورأينا كيف رمي رجال الإصلاح بنظائر هذه التهم وما ذلك إلّا لأنّهم قاموا في وجه المستعمرين والناهبين لثروة أقطار العالم الإسلامي، فما كان نصيبهم جرّاء مقاومتهم تلك، إلّا اتّهامهم بالجنون والتدهور العقلي، والغربة عن الواقع والحياة.

٥ ـ التعلّم من الغير: إنّ أعداء النبيّ من قريش وغيرهم وقفوا على مدى عظمة تعاليمه وسموّها، ولكن الحالة النفسية قد صدّتهم عن تصديق قوله والإذعان برسالته الإلهية وانتسابه إلى الوحي والسماء، فقاموا بتزوير آخر وهو أنّه مُعَلّم، قد تلقّى تعاليمه من غيره. يقول سبحانه:( وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ *ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ) ( الدخان / ١٣ و ١٤ ).

وأمّا من هو المعلّم الذي كان قد علّم النبي وغذّاه بتلك المبادئ والقيم فلم يذكروه، ولكن إقتران هذه التهمة بتهمة الجنون يدلّ على أنّ المعلّم المزعوم هو الجن فهو عن طريق صلته بهم تلقّى رسالته عنهم ـ وبالتالي ـ اُصيب في عقله فصار معلّماً مجنوناً بزعمهم.

وهناك إحتمال آخر وهو أنّه تلقّى مبادئه عن بشر آخر، وقد اُشير إليه في قوله

١٤٤

سبحانه:( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل / ١٠٣ ).

قال ابن عباس: قالت قريش: إنّما يعلّمه بلعام ( وكان قينا بمكّة روميّاً نصرانياً ) وقال الضحّاك: أرادوا به سلمان الفارسي(١) قالوا إنّه يتعلّم القصص منه، وقال مجاهد وقتاده: أرادوا به عبداً لبني الحضرمي روميّاً يقال له يعيش أو عائش صاحب كتاب، أسلم وحسن إسلامه، وقال عبد الله بن مسلم: كان غلامان في الجاهلية نصرانيّان من أهل عين التمر، اسم أحدهما يسار واسم الآخر خير، كانا صيقلين يقرءان كتاباً لهما بلسانهم وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ربّما مرّ بهما واستمع لقراءتهما، فقالوا: إنّما يتعلّم منهما، ثمّ ألزمهم الله تعالى الحجّة وأكذبهم بأن قال: لسان الذي يضيفون إليه التعليم ويميلون إليه القول، أعجميّة لا يفصح ولا يتكلّم بالعربية، فكيف يتعلّم منه من هو في أعلى طبقات البيان ؟ وهذا القرآن بلسان عربي مبين، فإذا كانت العرب تعجز عن الإتيان بمثله وهو بلغتهم فكيف يأتي الأعجمي بمثله(٢) ؟

قال ابن هشام: قالوا: إنّما يعلّمه رجل باليمامة يقال له الرحمان ولن نؤمن به أبداً، فنزل قوله سبحانه:( كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَٰنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ) ( الرعد / ٣٠ )(٣) .

روى ابن هشام: إنّ النضر بن الحارث كان إذا جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مجلساً، فدعا فيه إلى الله تعالى وتلا فيه القرآن، وحذّر فيه قريشاً ما أصاب الاُمم الخالية، خلّفه في مجلسه إذا قام، فحدّثهم عن رستم واسفنديار وملوك فارس ثمّ يقول: والله ما محمّد بأحسن حديثاً منّي وما حديثه إلّا أساطير

__________________

(١) كيف يقول ذلك مع أنّ سلمان أدرك النبي في مهجره، لا في موطنه.

(٢) مجمع البيان: ج ٣ ص ٣٨٦.

(٣) السيرة النبوية لابن هشام: ج ١ ص ٣٣١.

١٤٥

الأوّلين، اكتتبها كما اكتتبتها، فأنزل الله فيه:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً *قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان / ٥ و ٦ ).

ونزل فيه:( وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ *يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( الجاثية / ٧ )(١) .

٦ ـ كذّاب: وما وصفوه به إلّا لأجل أنّه كان يكافح عقيدتهم ويقارع دينهم. قال سبحانه حاكياً عنهم تلك التهمة:( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) ( ص / ٤ ).

فلماذا لا يكون عندهم كذّاباً وقد رفض الآلهة المتعدّدة وجعلها إلهاً واحداً. قال سبحانه حاكياً عنهم:( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ( ص / ٥ ).

٧ ـ مفتر: وإنّما وصفوه به لأنّه ينسب تعاليمه إلى السماء. يقول سبحانه حاكياً عنهم:( قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( النحل / ١٠١ ) ويقول أيضاً:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إلّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ) ( الفرقان / ٤ ). وهذه الآية تعبّر عن أنّهم كانوا يتّهمونه بأنَّ القرآن ليس من صنعه وحده بل هناك قوم أعانوه عليه، فربّما كانوا يفسّرونه بشكل آخر وهو انّ القرآن ليس شيئاً جديداً بل هي أساطير الأوّلين تملىٰ عليه بكرة وأصيلاً، كما قال سبحانه:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) .

وقد أدحض الوحي هذه التهمة وكشف عن زيفها بأمرين:

الأوّل: لو صحّ قولكم إنّ هذا الكتاب من صنع محمّد فنسبه إلى الوحي فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، فإنّه لبشر مثلكم وأنتم بشر مثله. قال سبحانه:

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ١ ص ٣٥٧.

١٤٦

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَٰهَ إلّا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ( هود / ١٣ و ١٤ ).

الثاني: كيف تقولون بأنّه استنسخ هذه الأساطير بإملاء الغير مع أنّه ما تلىٰ كتاباً، ولا خطّ صحيفة، فكيف تتّهمونه بالاستنساخ والاستكتاب ؟ قال سبحانه:( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ *بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إلّا الظَّالِمُونَ ) ( العنكبوت / ٤٨ و ٤٩ ).

٨ ـ مفتر أو مجنون: ـ على ترديد بينهما ـ ربّما كان القوم يتردّدون في توصيف النبي بين كونه عاقلاً مفترياً على الله سبحانه أو مجنوناً معدم العقل والشعور، وهذه شيمة الدهاة في استنقاص فضل الأشخاص حيث يكيلون التهم على مخالفيهم الأقوياء بلسان التردّد وعدم الجزم، لدفع نسبة شناعة التهمة عن أنفسهم كما يحكي عنهم سبحانه:( أَفْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ) ( سبأ / ٨ ).

٩ ـ شاعر: إنّ القوم كانوا اُسود الفصاحة وفرسان البلاغة وقد أدركوا بفطرتهم سموّ القرآن وعلوّ مرتبته في ذلك المجال، ومن جانب كانوا في العداء والحسد على مرتبة صدّتهم عن الاعتراف بكونه كتاباً منزّلاً من السماء، حاولوا أن يفسّروه بالشعر فوصفوه بالشاعر وقالوا:( أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ ) ( الطور / ٣٠ ) وحاصل هذه التهمة أنّه شاعر و « أعذب الشعر أكذبه »، فلنصبر عليه ولنتربّص به صروف الدهر وأحداثه فسيكون حاله حال زهير والنابغة وأضرابهم ممّن انقرضوا وصاروا كأمس الدابر.

وقد ردّ سبحانه على تلك التهمة يأمر نبيّه بقوله:( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُتَرَبِّصِينَ *أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَٰذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ *أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ *فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) ( الطور / ٣١ ـ ٣٤ ).

١٤٧

إنّ الله سبحانه أمر النبي أن يتهدّدهم ويتوعّدهم باُمور:

أ ـ( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُتَرَبِّصِينَ ) : انتظروا وتمهّلوا في ريب المنون فإنّي متربّص معكم منتظر قضاء الله فيّ وفيكم وستعلمون لمن تكون حسن العاقبة والظفر في الدّنيا والآخرة.

ب ـ( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَٰذَا ) ؟ أي هل تأمرهم عقولهم بنشر هذه التّهمة، فإنّ التهم الثلاث لا تجتمع بحسب مدّعاهم في آن واحد، فإنّ المجنون من زال تعقّله وإدراكه، فكيف يقوىٰ على إنشاء الشعر الرصين، وكيف يكون قوله حجّة في الإخبار عن المغيّبات ؟.

وقصارى القول: إنّ هؤلاء المتحاملين كانوا قد فقدوا رشدهم فأخذوا يتخبّطون في تهمهم وكلامهم من دون وعي.

ج ـ( أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) : بل الحقّ، إنّ الذي حملهم على ما يقولون هو عنادهم وعتوّهم عن الحقّ وطغيانهم.

د ـ( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ) أي أنّ عقولهم لم تأمرهم بهذا ولم تدعهم إليه بل حملهم الطغيان على تكذيبك، ولأجل ذلك يقولون: افتعل القرآن من تلقاء نفسه.

ه‍ ـ( بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ ) أي قصارى القول: إنّهم لا يؤمنون ولا يصدّقون بذلك عناداً وحسداً واستكباراً، وإنّما هذه تهم اتّخذوها ذريعة إلى التمويه وستروا بها عداءهم وعنادهم.

و ـ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) أي إن كان شاعراً فلديكم الشعراء الفصحاء، أو كاهناً فلديكم الكهّان الأذكياء، وإن كان قد تقوّله فلديكم الخطباء الّذين يحضرون الخطب ويجيدون إنشاء القول في كلّ فنون الكلام، فليأتوا بمثل هذا القرآن إن كانوا صادقين فيما يزعمون، فإنّ أسباب التحدّي بالقول متوفّرة لديكم كما هي متوّفّرة لديه، بل فيكم من طالت مزاولته للخطب والأشعار وكثرة الممارسة لأساليب النظم والنثر وحفظ أيّام العرب ووقائعها أكثر من محمّد ( صلى الله عليه وآله

١٤٨

وسلم )(١) .

وقال سبحانه ردّاً على هذه الفرية:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) ( يس / ٦٩ ) فأين القرآن من الشعر وأين محمّد من الشعراء ؟.

١٠ ـ أضغاث أحلام : والمراد منه تخاليط أحلام رآها في المنام، ويحكي عنهم سبحانه بقوله:( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَٰذَا إلّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ *قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) ( الأنبياء / ٣ ـ ٥ ).

بيّن سبحانه في هاتين الآيتين اقتسامهم القول في النبيّ، فقال بعضهم أخلاط أحلام قد رآها في النوم، وقال آخرون: بل إختلقه من تلقاء نفسه ونسبه إلى الله، وقال قوم: بل هو شاعر وما أتى به شعر، يخيّل إلى السامع معاني لا حقيقة لها، مضافاً إلى أنّهم استبعدوا أن يكون بشر مثلهم نبيّاً.

وهذا الإضطراب والتردّد في القول دأب المحجوج المغلوب على أمره، لا يتردّد إلّا بين باطل وأبطل ويتذبذب بين فاسد وأفسد منه.

فلو بنىٰ على تحليل القرآن بواحد من هذه الوجوه، فكونه سحراً ـ مع كونه فاسداً ـ أقرب من كونه أضغاث أحلام، فأين هذا النظم البديع من تخاليط الكلام التي لا تضبط ؟ وادّعاء كونها مفتريات أبعد وأبعد، لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد اشتهر بالأمانة والصدق، مضافاً إلى أنّهم أعرف النّاس بالفرق بين النظم والنثر، فكيف يصفونه بالشعر ؟ كما أنّهم يفرّقون بين الغايات التي يصاغ له الشعر والغايات التي يشدها القرآن كيف يتّهمونه بالشعر مع أنّهم يعلمون أنّه لم ينشد شعراً وما اجتمع بالشعراء ولا حام حوله مدىٰ أربعين سنة ؟(٢) .

__________________

(١) تفسير المراغي: ج ٢٥ ص ٣٢.

(٢) تفسير المراغي: ج ١٧ ص ٧.

١٤٩

إنّ المتمعّن في أحوال النبيّ ينتهي من خلال هذه التهم إلى أنّه كان رجلاً صالحاً طاهراً ديّناً عفيفاً نقي الجيب مأموناً على المال والعرض والنفس، لم يدنّس نفسه بفاحشة ولم يتجاوز حقّ أحد قط بل كانت حياته حياة إنسان مثالي، فلأجل ذلك لم يجد الأعداء سبيلاً إلى رميه بهذه التهم، فحاولوا أن يتّهموه باُمور نفسيّة يعسر إثباتها كما يعسر نفيها، وأمّا انّهم كيف اتّهموه بالسحر ؟ فيقول ابن هشام:

« إنّ الوليد بن المغيرة إجتمع إليه نفر من قريش فقال: إنّه قد حضر الموسم، وإنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً، قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأياً نقول به، قال: بل أنتم فقولوا وأسمع، قالوا: نقول كاهن، قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، قالوا فنقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال: والله إنّ لقوله لحلاوة، وإنّ أصله لعذق، وإنّ فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلّا عرف أنّه باطل، وانّ أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرّق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرّقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل النّاس حين قدموا الموسم، لا يمرّ بهم أحد إلّا حذّروه إيّاه، وذكروا لهم أمره. فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة في ذلك من قوله:( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا *وَبَنِينَ شُهُودًا *وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا *ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ *كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا ) أي خصيماً( سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا *إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ *فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ نَظَرَ *ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ *ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ *فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إلّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ *إِنْ هَٰذَا إلّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) ( المدّثّر / ١١ ـ ٢٥ ).

١٥٠

وأنزل الله في النفر الذين كانوا يصنّفون القول في رسول الله وفيما جاء به من الله تعالى:( كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ *الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ *فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( الحجر / ٩٠ ـ ٩٣ )(١) .

* * *

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٢٧٠.

١٥١

ب ـ الاستنكار والاحتجاج بالاُمور الواهية

قد اطّلعت على الظنون والشبهات التي نسجها القوم على منوال التّهم وعرفت إجابة القرآن عنها، فهلمّ معي ندرس إستنكارات القوم الباطلة التي جعلوها سدّاً في وجه الإذعان برسالته، وهاتيك الإحتجاجات وإن كانت قد صدرت من أفواه رجال طعنوا في السن ولكنّها أشبه شيء بمنطق الّذين لا يعون ما يقولونه وإليك سردها واحدة واحدة:

١ ـ لماذا لم ينزل القرآن على رجل مُثْرٍ ؟!

إنّ الوليد بن المغيرة كان رجلاً مثرياً معروفاً في مكّة ومثله عروة بن مسعود الثقفي في الطائف، فكان من حججهم الواهية على النّبي أنّه لماذا لم ينزل ما تدّعيه من القرآن عليهما ونزل عليك ؟ فهما مثريان وأنت معوز فقير، فبما أنّ الرجلين كانا عظيمي قومهما ومن أصحاب الأموال الطائلة في البلدين، فدخلت الشبهة عليهم حتّى اعتقدوا أنّ من كان كذلك فهو أولى بالنبوّة. قال سبحانه حاكياً عنهم:( لَوْلا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ( الزخرف / ٣١ ) فهؤلاء وإن كانوا صادقين في أنّ شأن القرآن أن ينزل على من له مكانة مرموقة يمتاز بها عن الآخرين، ولكنّهم أخطأوا في جعل السموّ والعظمة في الثروة والمال لأنّ نزول الوحي رهن كون المنزول عليه رجلاً تقيّاً طاهر النفس، صامداً في تحمّل أعباء الرسالة الإلهيّة، لا يخاف من مواجهة الملك، ولا يخفى عليك أنّه لا صلة لهذه الشروط بالغنى والفقر، أو الثروة وخلّو اليد، والقرآن يردّ على تلك الفرية بقوله:( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ

١٥٢

بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) ( الزخرف / ٣٢ ) والمعنى أنّهم لا يملكون النبوّة الّتي هي رحمة الله ولطفه الّذي يختصّ به من يشاء من عباده حتّى يمنعوك منها، فيعطوها من شاؤوا، فهم عاجزون عن قسمة ما هو دون النبوّة بمراحل وهو معيشتهم في الحياة الدّنيا فنحن قسّمناها بينهم، فكيف يتدخّلون فيما هو أرفع منزلة منها بما لا يقدّر قدره، ألا وهي النبوّة الّتي هي من شؤون الباري جلّ وعلا ؟

٢ ـ الرسالة الإلهيّة فوق طاقة البشر

كان عرب الجاهليّة يزعمون: انّ الرسالة الإلهيّة فوق قدرة البشر وإنّما هي شؤون الملك، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَٰذَا إلّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ) ( الأنبياء / ٣ ) وقال سبحانه:( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَىٰ إلّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً ) ( الاسراء / ٩٤ ) ويظهر من غير واحد من الآيات أنّ تلك الظاهرة الفكرية كانت تدور في أذهان أقوام نوح وثمود وعاد من قبل، حيث اعترضوا على رسلهم بأنّهم بشر مثلهم، قال سبحانه حاكياً عنهم:( قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إلّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ *قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إلّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) ( إبراهيم / ١٠ و ١١ ) ويلوح من بعض الآيات أنّ بعض اليهود المعاصرين للنبيّ الأكرم كانوا يتذرّعون بهذه الحجّة الواهية كما يحكي عنهم بقوله:( وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ) يقولون ذلك بصلافة ووقاحة في الوقت الذي كانوا يعتقدون بنبوّة موسى وكتابه، وإليه يشير قوله سبحانه:( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ) ( الأنعام / ٩١ ).

والقوم على جهل بسر لزوم كون الرسول بشراً لا ملكاً، ولو كانوا على إحاطة به ومنصفين في الحكم لما احتجّوا بمثل تلك الحجّة الواهية، إذ يترتّب على وجود المماثلة النوعية بين الرسول والمرسل إليه ما لا يترتّب على عدمها وذلك لاُمور:

١٥٣

أوّلاً: المسانخة والمماثلة أساس ترتكز عليه القيادة، فلو عدمت لانتّفت الغاية المنشودة، فإنّ القائد إذا كان مشاكلاً للمقود يكون واقفاً على حدود طاقات المرسل إليهم وغرائزهم وطبائعهم وميولهم، فيبادر إلى معالجة ما يعانونه من تخلّف وجهل وانحطاط كما يقوم بتنمية طاقاتهم واستعداداتهم في مجالي المادة والمعنى، إذ يحسّ منهم ما يحسّ من نفسه، فأين طبيعة الملك من فطرة الإنسان، فالملك مخلوق على نمط خاص لا يحيد عنه فلا يتمكّن من العصيان، وأمّا البشر فقد خلق مخيّراً بين الطاعة والمخالفة إن شاء إمتثل وآمن، وإن شاء إرتدّ وكفر.

وبعبارة ثانية: إنّ الإنسان جبل على غرائز متضادّة سائدة عليه، ففيه الشهوة والغضب وهما من الميول السفلية في كيان ذاته، كما فيه الميول العلوية التي تجرّه إلى الخير والإحسان والتجافي عن الطبيعة والتوجّه إلى ما وراءها، فالإنسان المثالي هو من يقوم بتعديل تلك الفطريّات المتضادّة، وأمّا الملك فقد جبل على سلوك الخير والطاعة، فلا يقدر على الخلاف والعصيان، فهل يدرك هذا الموجود المفارق موقف الإنسان الذي خلق هلوعاً.

وثانياً: إنّ القائد كما يهدي بكلامه ومقاله، يهدي بفعله وعمله، فهو قدوة في مجالي القول والعمل، والدعوة بالفعل أرسخ في القلوب من الدعوة بالقول، وهذا يقتضي وجود السنخيّة بين الرسول والمرسل إليهم حتّى يكون الرسول في الغرائز الباعثة إلى الشرّ والعصيان، مثل المرسل إليهم في ذلك المجال، وبالتالي يكون سلوكه طريق الخير والصلاح حجّة على المرسل إليهم، ولولا السنخيّة لما تمّت الحجّة وبقى مجال للإعتراض.

وإلى بعض ما ذكرنا يمكن أن يشير قوله سبحانه:( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَىٰ إلّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً *قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولاً ) ( الأسراء / ٩٤ و ٩٥ ) أي لو وجد

١٥٤

في الأرض ملائكة يمشون كما يمشي البشر، ويقيمون فيها كما يقيم ويسهل الإجتماع يهم، وتلقّي الشرائع منهم، لنزّلنا عليهم من السماء رسلاً من الملائكة للهداية والإرشاد وتعليم الناس ما يجب عليهم تعلّمه، ولكن طبيعة الملك لا تصلح للإجتماع بالبشر، فلا يسهل عليهم التخاطب والتفاهم معهم، لبعد ما بين الملك وبينهم، ومن ثمّ لم نبعث ملائكة، بل بعثنا خواص البشر، لأنّ الله قدوهبهم نفوساً زكيّة، وأيّدهم بأرواح قدسية، وجعل لهم ناحية ملكية بها يستطيعون أن يتلقّوا من الملائكة، وناحية بشرية بها يبلّغون رسالات ربّهم إلى عباده(١) .

وقد نبّه سبحانه إلى عظيم هذه الحكمة وجليل تلك النعمة بقوله:( لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ( آل عمران / ١٦٤ ) وقوله:( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / ١٢٨ ). وقوله:( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة / ١٥١ ) إلى غير ذلك من الآيات التي وقع التنصيص فيها بكون الرسول من جنس البشر.

٣ ـ نبذ سنّة الآباء:

التشبّث بسيرة الآباء من الاُمور الجبليّة للبشر، خصوصاً فيمن يعيش في واحات الصحراء بعيداً عن الحضارة واسبابها، فقد كان العرب متعصّبين على مسلك آبائهم تعصّباً حال بينهم وبين الإيمان بالرسول بحجّة أنّه يدعوا إلى خلاف سيرة آبائهم، وفي ذلك يقول سبحانه:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللهُ وإلى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ) ( المائدة / ١٠٤ ) وقد عرفت الكلام في ذلك عند البحث عن الدوافع الروحيّة التي منعتهم عن الإيمان إجمالاً.

__________________

(١) تفسير المراغي: ج ١٥ ص ٩٧.

١٥٥

وعلى ضوء ذلك كانوا يتعجّبون من جعل الآلهة المتعدّدة إلهاً واحداً، فقدكان للعرب أصنام منصوبة على سطح الكعبة، كاللّات والعزّى وهبل، ويعكفون على عبادتها، فقال لهم النبي: يا معشر العرب، أدعوكم إلى عبادة الله، وخلع الأنداد والأصنام، وأدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلّا الله، فقالوا: أنَدَع ثلاث مائة وستين إلٰهاً ونعبد إلهاً واحداً، وإليه الإشارة في قوله سبحانه:( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ *أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ( ص / ٤ و ٥ )(١) .

روى المفسّرون أنّ أشراف قريش وهم خمسة وعشرون منهم: الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم، وأبوجهل، واُبي واُميّة ابنا خلف، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والنضر بن الحارث، أتوا أبا طالب، وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فإنّه سفّه أحلامنا وشتم آلهتنا، فدعا أبو طالب رسول الله وقال: يا بن أخي هؤلاء قومك يسألونك، فقال: ماذا يسألونني ؟ قالوا: دعنا وآلهتنا، ندعك والٰهك، فقال: أتعطوني كلمة تملكون بها العرب والعجم ؟ فقال أبو جهل: لله أبوك، نعطيك ذلك عشر أمثالها، فقال: قولوا لا إله إلّا الله، فقاموا وقالوا: أجعل الآلهة إلٰهاً واحداً، وروي أنّ النبي استعبر ثمّ قال: يا عمّ والله لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو اُقتل دونه، فقال له أبو طالب: إمض لأمرك فوالله لا أخذلُك أبداً(٢) .

٤ ـ الدعوة إلى الحياة الاُخروية

كانت عرب الجاهلية خصوصاً المترفين منهم يخافون من سماع أخبار البعث والنشور، وأنّ الإنسان سيبعث بعد موته ويحاسب ويجزى حسب أعماله، وكان

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب: ج ١ ص ٤٩، بحار الأنوار: ج ١٨ ص ١١٥، ولاحظ تاريخ الطبري: ج ٢ ص ٦٦.

(٢) مجمع البيان: ج ٨ ص ٤٦٥.

١٥٦

هذا أحد الدوافع للإعراض عن الدعوة، وقد جاء في الذكر الحكيم ما ذكروه في هذا المجال من الحجج الواهية، وسنوافيك به عند البحث عن المعاد في الذكر الحكيم ونكتفي في هذا المقام ببعض الآيات، فقال سبحانه:( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ( السجدة / ١٠ )، وقال سبحانه:( وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) ( الإسراء / ٩٨ )، وقال سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ( سبأ / ٧ ).

وتعرب الآية الاُولى عن أنّهم كانوا يظنّون أنّ الموت إفناء للإنسان واعدام واضمحلال له، فكيف يمكن إحياؤه ثانياً ؟ والقرآن يجيب عنه بقوله سبحانه:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) ( السجدة / ١١ ). إنّ الوفاء في الآية بمعنى الأخذ، وحاصل الجواب: انّ ملك الموت الذي وكّل بكم يأخذكم فلا تضلّون في الأرض ثمّ إلى ربّكم ترجعون.

وبعبارة ثانية: إنّ الإنسان مركّب من جسم وروح فما يبقى في الأرض هو جسمه وليس حقيقته وواقعيّته، وأمّا حقيقة الإنسان فهي روحه ونفسه وهي محفوظة عندنا يأخذها ملك الموت فما بقي فهو غير حقيقته، وما هو واقعية الإنسان ( الروح )، والنفس فهي محفوظة عند الله غير ضالة في الأرض.

قال العلّامة الطباطبائي: « أمر سبحانه رسوله أن يجيب عن حجّتهم المبنيّة على الاسبتعاد بأنّ حقيقة الموت ليس بطلاناً لكم وضلالاً منكم في الأرض، بل ملك الموت الموكّل بكم يأخذكم تامّين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم بمعنى قطع علاقتها من الأبدان، وأرواحكم تمام حقيقتكم، فأنتم أي ما يعني لفطة « كم » محفوظون لا يضل منكم شيء من الأرض، وإنّما تضلّ الأبدان وتتغيّر من حال إلى حال، وقد كانت في معرض التغيّر من أوّل كينونتها، ثمّ إنّكم محفوظون حتّى ترجعوا إلى ربّكم بالبعث ورجوع الأرواح إلى أجسادها »(١) .

__________________

(١) الميزان: ج ١٦ ص ٢٥٢.

١٥٧

وتعرب الآية الثانية عن أنّ سبب الإنكار هو تخيّل قصور القدرة وعدم إمكان البعث، فكيف يمكن إحياء العظام الرميمة ؟ فردّ عليه سبحانه بقوله:( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) ( الإسراء / ٩٩ ) فليس إحياء العظام الرميمة أكبر وأعظم من خلق السموات والأرض، فالقادر على خلقهما قادر على إحيائهم من جديد(١) .

٥ ـ طلب المشاركة في امتيازات النبوّة

كان المشركون - لأجل قصور معارفهم عن درك مقام النبوّة السامي- يطلبون المشاركة في أمر النبوّة، فكان الوليد بن المغيرة يقول: لو كانت النبوّة حقّاً لكنت أولى بها منك، لأنّي أكبر سنّا واكثر منك مالاً ! وقال أبوجهل: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى صرنا كفرسي رهان. قالوا منّا نبيّ يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً إلّا أن يأتينا وحي كما يأتيه(٢) .

وإلى هذه الحجّة الواهية يشير قوله سبحانه حاكياً عنهم:( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) ( الأنعام / ١٢٤ ).

إنّ كلامهم هذا ينمّ عن حقد دفين وعناد مستبطن فردّ عليهم سبحانه بقوله:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الأنعام / ١٢٤ ). فهو سبحانه أعلم منهم ومن جميع الخلق بمن يصلح لتنفيذ رسالاته، ويعلم من له الأهلية بتحمّل أعباء الرسالة.

٦ ـ المطالبة بمثل ما اُوتي سائر الرسل

كان المشركون المتواجدون في عصر الرسالة بلغ مسامعهم بأنّ الكليم موسى

__________________

(١) قد جمعنا مجموع شبهاتهم الواهية في إمكان المعاد وتحقّقه في الجزء المختص بالمعاد وقد إكتفينا بهذا المقدار هنا روماً للإختصار.

(٢) مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٦٢ ( ط صيدا ).

١٥٨

بعث بمعاجز مثل العصا إذا رمى بها في مجال التحدّي تنقلب ثعباناً، وبإدخال اليد في الجيب إذا أخرجها منه تكون بيضاء للناظرين، فاعترضوا عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه يجب أن تكون حجّة رسالته كحجج الكليم موسىعليه‌السلام وقد حكى ذلك منهم سبحانه بقوله:( فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ ) ( القصص / ٤٨ ).

وفي آية اُخرى:( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( الأنعام / ٣٧ ). وربّما يحتجّ بهذا الإعتراض من في قلبه مرض من المستشرقين، فيجب علينا تناوله بشيء من الدراسة والتحليل لرفع ما فيه من الإيهام والإبهام وذلك من خلال جوابين مستفادين من القرآن الكريم:

أ ـ إنّ هذا الإعتراض كان لمحض إختلاق المعاذير، والشاهد على ذلك أنّ هؤلاء المشركين وصفوا ما اُوتي الكليم بالسحر أيضاً، فقد روى المفسّرون أنّ المشركين بعثوا رهطاً إلى رؤوس اليهود في عيد لهم فسألوهم عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبروهم بنعته وصفته في كتابهم التوراة، فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك:( سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) وإليه يشير قوله سبحانه:( أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ) ( القصص / ٤٨ ).

ويظهر من الآيات الواردة بعد هذه الآية أنّهم رجعوا إلى أهل الكتاب واستفتوهم في أمره وعرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه، فأجابوا عنه بتصديقه والإيمان به، فساء ذلك المشركين واُغلظ عليهم بالقول واعرض الكتابيّون عنهم وقالوا: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين. قال سبحانه:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ *وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ ) ( القصص / ٥٢ ـ ٥٥ )(١) .

__________________

(١) لاحظ التفاسير.

١٥٩

ب ـ إنّ هؤلاء جاهلون بالحكمة في إختلاف المعاجز والآيات التي تنزل على أنبياء الله تعالى ويزعمون أنّه يجب أن تكون معاجز الجميع على حد سواء مع أنّ المصالح تقتضي أن تختلف معاجز الأنبياء ذاتاً وسنخاً حتى تتم الحجّة على المرسل إليهم، وتفصيل القول في ذلك أنّه يجب أن تكون معجزة كل نبي مجانسة للفن الرائج في عصره حتى إذا عرضت على مهرة ذلك الفن وخبرائه، أذعنوا بتفوّقه على قدراتهم وطاقاتهم، والذي جاء به مدّعي النبوّة فوق حدود العلم والفن الذي تمرّسوا فيه، وهذا يقتضي كون المعجزة مسانخة لما برعوا فيه في ذلك العصر إذ لوكان مغايراً ومفارقاً لما تمّت الحجة ولما اُلزموا بها إذ بوسعهم أن يعترضوا ويقولون: لا خبرة بشأن ما اُتيت به، فكيف لنا التحدّي والمناجزة أو التصديق بأنّ ما جئت به معجزة إلهية تفوق قدرة البشر، فاقتضت المصلحة تسانخ المعاجز للفنون الرائجة في عصر كل نبي.

وقد بلغ فن السحر والشعبذة في عصر الكليم موسى الذروة والقمّة كما اكتسب الطب في عصر المسيح أهميّة بالغة، فجاء الكليم موسى بالعصا واليد البيضاء فأبطل سحرهم وأثبت أنّ ما أتى به معجزة تفوق حد السحر وإن كان بينهما مشاكلة في الصورة ولكنّها تباينه بالذات، كما أنّ المسيح بابراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى كان قد أثبت أنّ ما أتى به فوق علمهم وطاقتهم وبراعتهم، وخارج عن الموازين الطبيعية التي كانوا يعتمدونها في الإبراء والمداواة.

فنفس تلك المصلحة تتطلّب أن تكون معجزة النبي الأكرم مشابهة لما برع فيه العرب في العصر الجاهلي لأنّه كان قد راج بينهم إنشاء الخطب البليغة الفصيحة ونظم الشعر والتحدّي بينهم في ذلك، فجاء بكتاب متحدّياً بصريح نصّه:( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٢٣ و ٢٤ ).

وإلى هذا الجواب يشير قوله سبحانه في ذيل الآية التي نبحث عنها:

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

ليكون بمنجاة من شرور الأمويّين.

كلمة الإمام الحسن :

وبادر ريحانة رسول الله 6 الإمام الحسن 7 فصافح عمّه أبا ذرّ وألقى عليه هذه الكلمات :

« يا عمّاه ، لو لا أنّه ينبغي للمودّع أن يسكت ، وللمشيّع أن ينصرف لقصر الكلام وإن طال الأسف ، وقد أتى القوم إليك ما ترى ، فضع عنك الدّنيا بتذكّر فراغها ، وشدّة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها ، واصبر حتّى تلقى نبيّك وهو عنك راض ».

وألمّت هذه الكلمات بما يحمل الإمام الحسن من أسى بالغ على ما حلّ بعمّه أبي ذرّ من الخطوب التي كانت من أجل إحقاق الحقّ ورفع كلمة الإسلام.

كلمة الإمام الحسين :

و ألقى الإمام الحسين 7 نظرة الوداع على أبي ذرّ وخاطبه بهذه الكلمات :

« يا عمّاه ، إنّ الله تبارك وتعالى قادر أن يغيّر ما قد ترى ، إنّ الله كلّ يوم هو في شأن ، وقد منعك القوم دنياهم ، ومنعتهم دينك ، فما أغناك عمّا منعوك ، وأحوجهم إلى ما منعتهم ، فاسأل الله الصّبر ، واستعذ به من الجشع والجزع ، فإنّ الصّبر من الدّين والكرم ، وإنّ الجشع لا يقدّم رزقا ، والجزع لا يؤخّر أجلا ».

وألقت هذه الكلمات الأضواء على ثورة أبي ذرّ التي كانت من أجل الصالح العامّ ، وحكت خوف الأمويّين منه ، فقد خافوه على مناصبهم ، وخافوه على الأموال التي اختلسوها من المسلمين.

كلمة عمّار :

وتقدّم الصحابي العظيم الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر وعيناه تفيض من الدموع ، فخاطب صاحبه وخليله أبا ذرّ بهذه الكلمات :

٢٦١

« لا آنس الله من أوحشك ، ولا آمن من أخافك ، أما والله! لو أردت دنياهم لآمنوك ، ولو رضيت أعمالهم لأحبّوك وما منع الناس أن يقولوا بقولك إلاّ الرضا بالدنيا والجزع من الموت ، ومالوا إلى سلطان جماعتهم عليه ، والملك لمن غلب فوهبوا لهم دينهم ، ومنحهم القوم دنياهم فخسروا الدنيا والآخرة ألا ذلك هو الخسران المبين ».

كلمة أبي ذرّ :

وقابل أبو ذرّ الاسرة النبوية وعيناه تفيضان دموعا ، وخاطبهم بهذه الكلمات قائلا :

« رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة! إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله 6 ، ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم ، إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز ، كما ثقلت على معاوية بالشام ، وكره أن اجاور أخاه وابن خاله بالمصرين ـ الكوفة والبصرة ـ فأفسد الناس عليهما ، فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله ، والله! ما اريد إلاّ الله صاحبا وما أخشى مع الله وحشة ».

وتحرّكت راحلة أبي ذرّ تطوي البيداء حتى انتهت إلى الربذة ليموت فيها جوعا وفي يد عثمان ذهب المسلمين يصرفه على بني أميّة وآل أبي معيط ، ويحرمه على أبي ذرّ المصلح العظيم ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

غضب عثمان على الإمام :

ولمّا قفل الإمام 7 راجعا من توديع أبي ذرّ استقبلته جماعة من الناس فأخبروه بغضب عثمان لأنّه خالف أوامره التي حرّم فيها توديع أبي ذرّ ، فأجابهم الإمام : « غضب الخيل على اللّجم » (1) ، وبادر عثمان فصاح بالإمام :

__________________

(1) يضرب مثلا لمن يغضب غضبا لا ينتفع به.

٢٦٢

ما حملك على ردّ رسولي؟ ..

« أمّا مروان فإنّه استقبلني يردّني فرددته عن ردّي ، وأمّا أمرك فلم أردّه ».

أولم يبلغك أنّي قد نهيت الناس عن تشييع أبي ذرّ؟

« أو كلّ ما أمرتنا به من شيء يرى طاعة الله والحقّ في خلافه اتّبعنا فيه أمرك؟!! ».

أقد مروان ..

« وما أقيده؟ ».

ضربت بين اذني راحلته ..

« أمّا راحلتي فهي تلك ، فإن أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فليفعل ، وأمّا أنا فو الله! لئن شتمني لأشتمنّك أنت بمثلها ، لا أكذب فيه ولا أقول إلاّ حقّا ».

ولم لا يشتمنّك إذ شتمته ، فو الله! ما أنت عندي بأفضل منه ..

وتألّم الإمام من عثمان الذي ساوى بينه وبين الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم ، ونسي جهاد الإمام ومنزلته من النبيّ وأنّه منه بمنزلة هارون من موسى ، وردّ الإمام على عثمان بأعنف القول قائلا له :

« إليّ تقول هذا القول ، وبمروان تعدلني؟ فأنا والله! أفضل منك ، وأبي أفضل من أبيك ، وأمّي أفضل من امّك ، وهذه نبلي قد نثلتها » (1) .

وسكت عثمان ولم يطق جوابا ، وتركه الإمام يموج في تيارات من الغضب ، قد ورم أنفه وانتفخت أوداجه.

3 ـ عبد الله بن مسعود :

وعبد الله بن مسعود القارئ من ألمع الصحابة ومن خيارهم ، وهو من الناقمين

__________________

(1) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 375 ـ 377.

٢٦٣

على عثمان لمّا استقرض الوليد من بيت المال فطالبه ابن مسعود بردّ ما استقرضه ، فأبى الوليد وكتب إلى عثمان يخبره بذلك ، فغضب عثمان وكتب إلى ابن مسعود إنّما أنت خازن لنا ، وغاظ ذلك ابن مسعود وألقى المفاتيح وقفل راجعا إلى يثرب ، فلمّا انتهى إليها وجد عثمان على المنبر يخطب ، فلمّا رأى ابن مسعود قال يخاطب الحاضرين :

قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقيء ويسلح ..

وردّ عليه ابن مسعود قائلا :

لست كذلك ، ولكنّي صاحب رسول الله 6 يوم بدر ويوم بيعة الرضوان ..

واندفعت عائشة منكرة على عثمان قائلة له :

أي عثمان ، أتقول هذا لصاحب رسول الله؟ ..

وأمر عثمان جلاوزته بإخراج ابن مسعود من الجامع إخراجا عنيفا ، وانبرى إليه أبو عبد الله بن زمعة فضرب به الأرض ، وقيل بل احتمله ( يحموم ) غلام عثمان فاحتمله ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الأرض فانكسر ضلعه ، و ثار الإمام 7 فخاطب عثمان بعنف قائلا :

« يا عثمان ، أتفعل هذا بصاحب رسول الله بقول الوليد بن عقبة؟ ».

فقال عثمان :

ما بقول الوليد فعلت هذا ، ولكنّي وجّهت زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة ، فقال له ابن مسعود : إن دم عثمان حلال ..

وأنكر عليه الإمام أن يأخذ بقول زبيد قائلا :

« أحلت عن زبيد على غير ثقة » (1) .

__________________

(1) أنساب الأشراف 5 : 36.

٢٦٤

وحمل الإمام ابن مسعود إلى منزله ، وقام برعايته حتى أبل من مرضه ، وقاطعه عثمان وهجره ، وفرض عليه الاقامة الجبرية في يثرب ، وقطع عنه عطاءه ..

ومرض ابن مسعود مرضه الّذي توفّي فيه فدخل عليه عثمان عائدا فقال له :

ما تشتكي؟

ذنوبي؟

ما تشتهي؟

رحمة ربّي.

أدعو لك طبيبا؟

الطبيب أمرضني.

آمر لك بعطائك؟

منعتني عنه وأنا محتاج إليه ، وتعطينيه وأنا مستغني عنه! يكون لولدك.

رزقهم على الله! استغفر لي يا أبا عبد الرحمن.

اسأل الله أن يأخذ لي منك بحقّي (1) .

وانصرف عثمان ولم يفز برضا ابن مسعود ولمّا ثقل حاله أوصى أن لا يصلّي عليه عثمان ، وأن يصلّي عليه صاحبه وخليله عمّار بن ياسر ولمّا توفّي قامت الصفوة من صحابة النبيّ 6 بتجهيزه ودفنه ، ولم يعلموا عثمان بذلك ، فلمّا علم غضب ، وقال : سبقتموني؟ فردّ عليه عمّار :

إنّه أوصى أن لا تصلّي عليه ..

__________________

(1) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 253 ـ 254.

٢٦٥

وقال ابن الزبير :

لأعرفنك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زوّدتني زادي (1)

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض المعارضين لعثمان والناقمين عليه وكان من أهمّ ما نقموا عليه من أعماله ما يلي :

1 ـ استبداده بأموال الدولة وإنفاقها على اسرته وذويه في حين أنّ المجاعة والحرمان قد عمّتا البلاد.

2 ـ منحه المناصب العالية في الدولة لبني أميّة وآل أبي معيط.

3 ـ تنكيله بخيار الصحابة الذين طالبوه بالعدل والكفّ عن سياسته الملتوية ، ولم يستجب لهم وإنّما نكّل بهم أفظع التنكيل وأقساه ، كما ذكرنا ذلك.

الثورة على عثمان :

وكان من الطبيعي أن تندلع الثورة على عثمان بعد ما اقترفه من الأحداث الجسام ، ولم تكن عفوية ، وإنّما كانت نتيجة للنضج الاجتماعي وكانت إصلاحية إلى حدّ كبير ـ كما يقول العلاّمة العلائلي ـ :

لقد شاع التنافر في جميع الأوساط وأخذت الأندية والمجالس تتحدّث عن مظالم عثمان ، وسوء سياسته (2) .

مذكرة المهاجرين لأهل مصر :

ورفع المهاجرون وخيار الصحابة مذكّرة لأهل مصر يستنجدون بهم للقيام بتغيير نظام الحكم القائم ، وهذا نصّ مذكّرتهم :

__________________

(1) مستدرك الحاكم 7 : 163. البداية والنهاية 3 : 13.

(2) الإمام الحسين 7 : 66.

٢٦٦

من المهاجرين الأوّلين وبقيّة الشورى إلى من بمصر من الصحابة والتابعين.

أمّا بعد ، أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله 6 قبل أن يسلبها أهلها ، فإنّ كتاب الله قد بدّل ، وسنّة رسوله قد غيّرت ، وأحكام الخليفتين قد بدّلت ، فننشد الله من قرأ كتابنا من بقيّة أصحاب رسول الله 6 والتابعين بإحسان إلاّ أقبل إلينا ، وأخذ الحقّ لنا وأعطاناه ، فاقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وأقيموا الحقّ على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيّكم ، وفارقكم عليه الخلفاء ، غلبنا على حقّنا ، واستولى على فيئنا ، وحيل بيننا وبين أمرنا ، وكانت الخلافة بعد نبيّنا خلافة نبوة ورحمة ، وهي اليوم ملك عضوض ، من غلب على شيء أكله (1) .

وحفلت هذه المذكرة بالأخطاء التي ارتكبها عثمان وهي :

1 ـ تبديل كتاب الله وإلغاء أحكامه ونبذ نصوصه.

2 ـ تغيير سنّة الرسول.

3 ـ تبديل أحكام الخليفتين.

4 ـ استئثار السلطة بالفيء.

5 ـ صرف الخلافة الإسلامية عن مفاهيمها الخيرة إلى ملك عضوض (2) .

وتحفّز المصلحون حينما انتهت إليهم هذه المذكّرة إلى إرسال وفد للاطّلاع على أوضاع الخليفة والتعرف عليها.

مذكرة أخرى لأهل الثغور :

وأرسل صحابة الرسول 6 مذكّرة أخرى لأهل الثغور جاء فيها :

إنّكم إنّما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزّ وجلّ تطلبون دين محمّد 6 ،

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 : 35.

(2) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 378 ـ 380.

٢٦٧

فإنّ دين محمّد قد أفسده خليفتكم فأقيموه (1) .

كما أوفدت الجبهة المعارضة مذكّرة أخرى لأهل الأمصار ، وقد أشاعت النقمة والسخط على حكومة عثمان.

وفود الأمصار :

واستجابت الأمصار الإسلامية لنداء الصحابة ، فأرسلت وفودها إلى المدينة للاطّلاع على حال عثمان ، أمّا الوفود فهي :

1 ـ الوفد المصري :

وأرسلت مصر وفدا كبيرا قدّر بأربعمائة شخص ، وقيل بأكثر ، بقيادة المؤمن محمّد بن أبي بكر وعبد الرحمن بن عديس البلوي.

2 ـ الوفد الكوفي :

وأرسلت الكوفة وفدا بقيادة الزعيم الكبير مالك الأشتر ، وزيد بن صوحان العبدي ، وزياد بن النضر الحارثي ، وعبد الله بن الأصمّ العامري ، وعمرو بن الأهثم.

3 ـ الوفد البصري :

وأوفدت البصرة مائة رجل بقيادة حكيم بن جبلة ، ثمّ أوفدت خمسين رجلا وفيهم ذريح بن عباد العبدي وبشر بن شريح القيسي وغيرهم من الوجوه والأعيان (2) .

واستقبلت الصحابة الوفود بمزيد من الحفاوة والتكريم وحرّضتها على استقالة عثمان والاطاحة بحكومته.

__________________

(1) تاريخ الطبري 5 : 115. الكامل في التاريخ 5 : 70.

(2) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 381 ـ 382.

٢٦٨

مذكّرة المصريّين لعثمان :

ورفع الوفد المصري مذكّرة لعثمان يدعوه فيها إلى الاستقامة في سلوكه والتوازن في سياسته ، وهذا نصّها :

أمّا بعد ، فاعلم أنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ، فالله الله ، ثمّ الله الله ، فإنّك على دنيا زائلة فاستقم معها ، ولا تنس نصيبك من الآخرة ، فلا تسوّغ لك الدنيا ، وأعلم أنّا لله ، ولله نغضب ، وفي الله نرضى ، وأنّا لا نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة أو ضلالة مجلحة مبلجة (1) ، فهذه مقالتنا لك ، وقضيتنا إليك ، والله عذيرنا منك والسلام » (2) .

وحوت هذه المذكّرة الدعوة إلى الاصلاح والاستقامة ، وقد قرأها عثمان بإمعان ، وحوله المصريّون قد أحاطوا به ، فبادر المغيرة بن شعبة فطلب منه أن يتكلّم مع المصريّين ، فأذن له ، ولمّا أراد أن يفتح معهم صاحوا جميعا :

يا أعور وراءك.

يا فاجر وراءك.

يا فاسق وراءك.

ورجع المغيرة خائبا لم تفلح وساطته ، ودعا عثمان عمرو بن العاص وطلب منه أن يكلّم القوم ، فبادر تجاههم وسلّم عليهم ، فلم يردّ أحد منهم 7 لعلمهم بفسقه وصاحوا به :

ارجع يا عدوّ الله ..

ارجع يا ابن النابغة ، لست عندنا بأمين ولا مأمون ..

__________________

(1) مجلحة : هي الإقدام على الشيء. مبلجة : واضحة بيّنة.

(2) تاريخ الطبري 5 : 111. أنساب الأشراف 5 : 64 ـ 65.

٢٦٩

ورجع ابن العاص خائبا في وفادته ، فقد قوبل بمزيد من الاستهانة.

استجارته بالإمام :

وسدّت على عثمان جميع الوسائل ، فلم ير هناك طريقا مفتوحا ليتخلّص به ممّا هو فيه من المحنة ، ورأى أنّه لا ملجأ له إلاّ الإمام أمير المؤمنين 7 ، فاستغاث به ، فأجابه الإمام بعد أن شرط عليه أن يدعو القوم ويلتزم لهم بالسير على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فأجابه إلى ذلك ، وانطلق الإمام صوب الثوّار وهو يحمل لهم الضمان والالتزام بجميع ما طلبوه ، فلمّا رأوا الإمام قالوا له :

وراءك؟

فأجابهم الإمام بالالتزام الكامل بجميع مطالبهم قائلا :

« تعطون كتاب الله ، وتعتبون من كلّ ما سخطتم عليه ».

أتضمن ذلك؟ ..

« نعم ».

رضينا.

وأقبل وجوه الوفد وأشرافهم مع الإمام فدخلوا على عثمان وعاتبوه على سياسته ، وطلبوا منه أن يغيّر سلوكه ويسير بين المسلمين بسياسة قوامها العدل الخالص والحقّ المحض ، فأجابهم إلى ذلك.

كتاب عثمان :

وكتب عثمان إلى الوفود التي أحاطت به هذا الكتاب والتزم بتنفيذ ما فيه ، وهذا نصّه : هذا كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين ، إنّ لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنّة نبيّه ، يعطى المحروم ، ويؤمن الخائف ، ويردّ المنفي ، ولا يجمر في البعوث ، ويوفّر الفيء ، وعليّ بن أبي طالب

٢٧٠

ضمين للمؤمنين ، وعلى عثمان الوفاء بما في هذا الكتاب.

وشهد فيه كلّ من الزبير بن العوّام ، وطلحة بن عبيد الله ، وعبد الله بن عمر ، وزيد بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، وأبو أيّوب خالد بن زيد ، وكان توقيعه والشهادة عليه سنة ( 35 ه‍ ) (1) .

واستلم الثوّار الكتاب ، وانصرفوا إلى جماعتهم ، وطلب الإمام من عثمان أن يخرج إلى الناس ويعلن لهم تنفيذ ما أرادوا ، ففعل عثمان ذلك ، وقد أعطاهم عهد الله وميثاقه أن يسير فيهم بكتاب الله وسنّة نبيّه ، ويوفّر لهم الفيء ولا يؤثر به أحدا من بني أميّة ، وقفل المصريون راجعين إلى بلادهم.

نقضه للعهد :

ومن المؤسف أنّ عثمان نقض ما قطعه على نفسه ولم يف للمسلمين بما عاهدهم عليه ، أمّا سبب ذلك فتعزوه مصادر التاريخ إلى مروان الذي كان وزيرا ومستشارا له ، فقد لامه على ما أعطاه للمصريّين من العهد وطلب منه نقض ذلك ، فامتنع من إجابته إلاّ أنّه أصر عليه ، فاستجاب له ، فخرج إلى الناس واعتلى المنبر وقال : أمّا بعد ، إنّ هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر ، فلمّا تيقّنوا أنّه باطل ما بلغهم رجعوا إلى بلادهم وقطع عليه ابن العاص كلامه وقال له :

اتّق الله يا عثمان! فإنّك قد ركبت نهابير (2) وركبناها معك ، فتب إلى الله نتب معك.

فصاح به عثمان :

وإنّك هناك يا ابن النابغة! قملت والله! جبّتك منذ تركتك من العمل ..

__________________

(1) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 383 ـ 384.

(2) النهابير : المهالك.

٢٧١

وارتفعت أصوات الانكار من جميع جنبات المسجد وهي ذات لهجة واحدة :

اتّق الله يا عثمان! اتّق الله يا عثمان! (1) .

وانهار أمام هذا الحشد الهائل من الانكار ولم يدر ما يقول ، ولم يجد بدّا من إعلان التوبة مرّة ثانية ، فتاب وندم على ما فرّط في أمر نفسه.

استنجاده بمعاوية :

وأحاط الثوّار بعثمان لأنّه لم يقلع عن سياسته ، ولا يغيّر ولا يبدّل أي شيء منها ، وطالبوه بالاستقالة من منصبه فأبى ، ورأى أنّ خير وسيلة له أن يستنجد بابن عمّه معاوية ليبعث له قوّة عسكرية من أهل الشام تحميه من الثوّار ، فكتب إليه :

أمّا بعد ، فإنّ أهل المدينة قد كفروا ، وخلعوا الطاعة ونكثوا البيعة ، فابعث إليّ من قبلك مقاتلة أهل الشام على صعب وذلول (2) .

وحمل الكتاب مسوّر بن مخرمة ، وأخذ يجدّ في السير حتى انتهى إلى معاوية ، فناوله الكتاب وقال له :

يا معاوية ، انّ عثمان مقتول ، فانظر فيما كتب به إليك.

وسخر منه معاوية وأجابه :

يا مسوّر ، إنّي مصرّح أنّ عثمان بدأ فعمل بما يحب الله ورسوله ويرضاه ، ثمّ غيّر فغيّر الله عليه ، أفيتهيّأ لي أن أردّ ما غيّر الله عزّ وجلّ (3) ؟

__________________

(1) تاريخ الطبري 5 : 110. أنساب الأشراف 5 : 74.

(2) الكامل في التاريخ 5 : 67. تاريخ اليعقوبي 2 : 150.

(3) فتوح البلدان 2 : 218.

٢٧٢

ولم يبد معاوية أي اهتمام بشأن عثمان ، وكان يترقّب قتله ليتّخذ من دمه ورقة رابحة يطلب بها المطالبة بدمه.

وقد تنكّر معاوية لعثمان ، ولم يستجب له في وقت محنته.

يقول الدكتور محمّد طاهر دروش :

وإذا كان هناك وزر في قتل عثمان فوزره على معاوية ودمه في عنقه ، ومسئوليّته عن ذلك لا تدفع ، فهو أولى الناس به ، وأعظم الرجال شأنا في دولته ، وقد دعاه فيمن دعا ، يستشيره في هذا الأمر ، وهو داهية الدهاة ، فما نهض إليه برأيه ، ولا دافع عنه بجنده ، وكأنّه قد استطال ـ كما استطال غيره ـ حياته ، فترك الأيام ترسم بيدها مصيره ، وتحدّد نهايته ، فإذا جاز لأحد أن يظنّ بعلي أو بطلحة والزبير تقصيرا في حقّ عثمان فمعاوية هو المقصّر ، وإذا جاز أن يلام أحد غير عثمان فيما جرى فمعاوية هو الملوم (1) .

وكتب عثمان رسائل أخرى إلى أهل الأمصار يستنجد بهم ويطلب منهم المعونة لرفع الحصار عنه ، إلاّ أنّه لم يستجب أي أحد منهم لعلمهم بالأحداث الجسام التي اقترفها ..

الحصار على عثمان :

وفرض الثوّار الحصار على عثمان ، وأحاطوا بداره وهم يهتفون بسقوطه ، ويطالبونه بالاستقالة من منصبه ، وفي أثناء تلك المحنة الحازية التي أحاطت بعثمان انبرى مروان إلى الثوّار فأشعل نار الثورة في نفوسهم ودفعهم إلى الاطاحة بحكم عثمان قائلا لهم :

ما شأنكم؟ كأنّكم قد جئتم لنهب ، شاهت الوجوه تريدون أن تنزعوا ملكنا

__________________

(1) الخطابة في صدر الإسلام 2 : 23.

٢٧٣

من أيدينا أخرجوا عنّا ..

وكانت هذه الكلمات الطائشة قد أشعلت فتيل الحرب على عثمان ، ونقلت إلى الإمام أمير المؤمنين 7 ، فخفّ مسرعا إلى عثمان وقال له :

« أما رضيت من مروان ، ولا رضي منك إلاّ بتحرّفك عن دينك وعن عقلك ، مثل جمل الظّعينة يقاد حيث يشاء ربّه ، والله! ما مروان بذي رأي في دينه ولا في نفسه ، وأيم الله لأراه يوردك ولا يصدرك ، وما أنا عائذ بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أذهبت شرفك ، وغلبت على أمرك ».

وتركه الإمام وانصرف عنه ، والثوّار قد أحاطوا به ، والتفتت نائلة زوج عثمان إلى مروان وبني أميّة فقالت لهم :

أنتم والله! قاتلوه وميتّموا أطفاله ..

والتفتت إلى زوجها تحذّره من مروان قائلة له :

إنّك متى أطعت مروان قتلك ..

لقد كان مروان من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى قتل عثمان ، فقد أطاعه عثمان إطاعة عمياء ، وهو يدفع به إلى مهالك من دون أن يحسّ عثمان بذلك.

يوم الدار :

واندلعت نيران الثورة فقد نفد صبر الثوّار ، فلم يستقل عثمان من منصبه ، وقد أحاطوا بداره ، وقد شهروا سيوفهم ، فخرج إليهم مروان مدافعا عنه ، فبرز إليه عروة بن شيم الليثي فضربه على قفاه بالسيف فخر لوجهه صريعا ، وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي ، فأراد أن يقطع رأسه فعذلته فاطمة الثقيفة وقالت له :

إن كنت تريد قتله ، فقد قتلته ، فما تصنع بلحمه أن تبضعه ، فاستحى منها وتركه.

٢٧٤

وتسلّق الثوّار عليه الدار ، ولم يكن عنده أحد يدافع عنه ، فقد ورمت منه القلوب ، ومجّته النفوس ، ورماه الناس بالحجار ونادوه :

لسنا نرميك ، بل الله يرميك ..

واحتفّ به بعض الأمويّين يدافعون عنه وقد نشب بينهم وبين الثوّار قتال عنيف ، وقد فرّ وانهزم خالد بن عقبة بن أبي معيط من ساحة القتال ، وإليه يشير عبد الرحمن بن سيحان بقوله :

يلومونني في الدار إن غبت عنهم

وقد فرّ عنهم خالد وهو دارع

وقتل من أصحاب عثمان زياد بن نعيم الفهري ، والمغيرة بن الأخنس ، ونيار بن عبد الله الأسلمي وجماعة.

مصرع عثمان :

وانهزم بنو أميّة وآل أبي معيط وتركوا عثمان وحده ، فأجهز عليه جماعة من المسلمين في مقدّمتهم محمّد بن أبي بكر ، فقد قبض على لحيته وقال له :

أخزاك الله يا نعثل (1) .

فردّ عليه عثمان :

لست بنعثل ، ولكنّي عبد الله وأمير المؤمنين.

فقال له محمّد بعنف :

ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان ، وأخذ يعدّد بني أميّة ..

__________________

(1) نعثل : هو طويل اللحية ، وقيل : هو رجل من أهل الكتاب كان طويل اللحية ، وكان يشبه عثمان ، ولذلك سمّي به ، جاء ذلك في حاشية لطائف المعارف : 35.

٢٧٥

وتضرّع عثمان إلى محمّد قائلا له :

يا ابن أخي ، دع عنك لحيتي ، فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه ..

فأجابه محمّد بعنف :

ما أريد بك أشدّ من قبضي على لحيتك ..

وطعن محمّد جبينه بمشقص كان في يده ، ورفع كنانة بن بشر مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل اذنه حتى دخلت في حلقه ، ثمّ علاه بالسيف ، ووثب عليه عمرو بن الحمق الخزاعي ، فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات ، وكسر عمير بن ضابئ ضلعين من أضلاعه ، وحاولوا حزّ رأسه ، فألقت زوجتاه نائلة وابنة شبيبة بن ربيعة بأنفسهما عليه ، فأمر ابن عديس بتركه لهما (1) .

وألقيت جثّة عثمان ملطّخة بدمه على الأرض لم يفزع إليه أحد من الأمويّين وآل أبي معيط لمواراته في مقرّه الأخير ، وقد بالغ الثوّار في إهانته ، فقد ألقوا جثمانه على المزيلة ثلاثة أيام (2) مبالغة في توهينه وتحقيره ، وكلّم بعض خواصه الإمام 7 أن يتوسّط إلى الثوّار فيواروه ، فكلّمهم الإمام فأذنوا له في دفنه ، ووصف جولد تسهير كيفيّة دفنه بقوله :

وبسط جثمانه دون أن يغسّل على باب ، فكان رأسه يقرع قرعا ، يقابل بخطوات سريعة من حامليه ، وهم يسرعون في ظلام الليل ، والأحجار ترشفه ، واللعنات تتبعه ، ودفنوه في حش كوكب (3) ، ولم يسمح الأنصار بمواراته في مقابر المسلمين (4) ، وأمّا غلاماه اللذان قتلا معه فقد سحبوهما وألقوهما على التلّة

__________________

(1) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 390.

(2) تمام المتون ـ الصفدي : 79.

(3) حش كوكب : اسم بستان لليهود كانوا يدفنون موتاهم فيه.

(4) العقيدة والشريعة في الإسلام : 45.

٢٧٦

فأكلتهما الكلاب (1) .

وبذلك فقد انتهت حياة عثمان بهذه الصورة المروّعة ، وقد امتحن بها المسلمون كأشدّ وأقسى ما يكون الامتحان ، وأخلدت لهم الفتن والمصاعب ، وألقتهم في شرّ عظيم ، فقد ربح الأمويّون بقتله ، فقد طالبوا بدمه ، كما تذرّعت بالمطالبة بدمه القوى النفعية أمثال : طلحة والزبير وعائشة ، فقد رفعوه شعارا لهم ، وهم الذين أجهزوا عليه.

وعلى أي حال ، فقد مني العالم الإسلامي بحكومة عثمان وبمصرعه بمصاعب وفتن ، وقد تحدّثنا عنها في كتابنا ( حياة الإمام الحسين 7 ) فلا نرى حاجة لإعادتها ، وقد اقتبسنا معظم هذه الفصول منه ، وذلك لأنّها ترتبط ببحثنا ارتباطا موضوعيا لا غنى عنها ، فإنّها وإن ذكرت في كتاب ( حياة الإمام الحسن 7 ) وكتاب ( الإمام الحسين 7 ) فهي على سبيل الاستطراد لأنّها تمثّل الحياة الاجتماعية والسياسية في عصر الإمامين 8 ، أمّا ذكرها هنا فإنّها من صميم الموضوع.

__________________

(1) تاريخ الطبري 3 : 241. البداية والنهاية 7 : 214.

٢٧٧

٢٧٨

المحتويات

مع النبيّ 9

في جهاده وغزواته 9

واقعة بدر : 12

استنجاد أبي سفيان بقريش : 12

رؤيا عاتكة : 12

نصيحة عتبة بن ربيعة : 13

سقاية الإمام للجيش : 14

دعاء النبيّ للأنصار : 15

دعاء النبيّ على قريش : 15

النبي مع أصحابه : 15

المعركة : 16

بسالة الإمام : 16

أسماء من قتلهم الإمام : 17

وقوف النبيّ على قتلى بدر : 19

الأسرى من قريش : 20

حزن القرشيّين على قتلاهم : 20

انتصار الإسلام : 21

واقعة أحد : 22

الحرب : 23

هزيمة المسلمين : 24

مصرع الشهيد حمزة : 25

٢٧٩

مصرع الشهيد مصعب : 26

حماية الإمام للنبيّ : 26

تشفّي هند : 27

تشفّي أبي سفيان : 28

حزن النبيّ : 28

ملاحقة النبيّ للقرشيّين : 30

سرور القرشيّين : 30

واقعة الخندق : 30

دور اليهود في المعركة : 31

النبيّ مع نعيم : 32

حفر الخندق : 33

مبارزة الإمام لعمرو : 34

فتح خيبر : 38

مبارزة الإمام لمرحب : 40

غزوة بني قريظة : 41

نصيحة كعب لبني قريظة : 42

نزولهم على حكم الرسول : 43

تحكيم سعد : 43

غزوة بني النضير : 44

غزوة وادي القرى : 45

الإمام وفتح اليمن : 45

دعاء الإمام : 45

إسلام همدان : 46

فتح مكّة : 47

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581