مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265516 / تحميل: 6065
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

هم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، فبهم يتقرّب ويتوسل إلى اللَّه عزّ وجلّ، وبمودّتهم وولايتهم تقبل الطاعات، ومحبّتهم ركن ركين في الدين لا يعرض عنه إلّا كافر أو مشرك، ومن هنا جعل النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عدل الرسالة وأجرها المودّةَ في القربى كما في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) .

ومن ذلك كلّه يتضح أن من تمام الحجّ وسائر العبادات لقاء الإمام وإظهار المودّة والنصرة والتولّي له، وإلّا فلا حجّ ولا طواف ولا صلاة مقبولة عند اللَّه تعالى، فالتوحيد في العبادة هو الإقرار بولاية أهل البيت عليهم‌السلام .

ومن هنا أيضاً يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام : (تمام الحجّ لقاء الإمام) (2) .

وكذا قول الإمام الصادق عليه‌السلام : (ابدؤوا بمكّة واختموا بنا) (3) .

وقول الإمام الباقر عليه‌السلام : (إنما أمروا أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (4) .

وكذا قال عندما رأى الناس يحجّون بمكّة: (فعال كفعال الجاهلية، أمَا واللَّه ما أمروا بهذا، وما أمروا إلّا أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمرّوا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (5) .

____________________

(1) الشورى: 23.

(2) الكليني، الكافي، ج4، ص549.

(3) المصدر، ص550.

(4) المصدر، ص549.

(5) المصدر، ج1، ص392.

١٠١

6 - الولاية من شرائط المغفرة:

قال تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (1) ، فلا تحصل المغفرة ولا التوبة ولا الإيمان ولا يقبل العمل الصالح إلّا بشرط الهداية، والمراد من الهداية في هذه الآية المباركة مقام الإمامة؛ لأنها تعني الإيصال إلى المطلوب، وهي مرحلة بعد مقام النبوّة الذي هو إراءة الطريق فقط. فإن مجرّد إراءة الطريق شأن النبيّ والرسول، قال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (2) .

وأمَّا مقام الإمامة، فنجد أن القرآن الكريم كلّما تعرّض إليه تعرض معه لذكر الهداية بياناً وتفسيراً، قال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (3) ، وقال أيضاً عزّ وجلّ: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (4) ، فوصف اللَّه عزّ وجلّ الإمامة بالهداية وصف بيان وتعريف وتفسير، هذا في إمامة الحقّ.

كذلك في إمامة الباطل والكفر، فإن فرعون الذي هو من أئمة الكفر قال تعالى في حقّه: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (5) ، فإمامة الكفر أيضاً فيها هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود من الكمال الإنساني؛ ولذا

____________________

(1) طه: 82.

(2) إبراهيم: 4.

(3) الأنبياء: 72 - 73.

(4) السجدة: 24.

(5) القصص: 41.

١٠٢

قال تعالى: ( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ) (1) ، فإمامة الحقّ هي الهداية والإيصال إلى المطلوب وولاية على الناس في أعمالهم بأمر ملكوتي من اللَّه عزّ وجلّ كما يستفاد من قوله تعالى: ( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، وإمامة الباطل أيضاً هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود.

والحاصل: أن مقام الهداية الإلهية الحقّة - بقول مطلق - يساوق مقام الإمامة والخلافة الربّانية؛ وهذا يعني أن هناك مقاماً ثالثاً غير الشهادة الأولى والشهادة الثانية لابدّ أن يعتقد به المسلم لكي يكون مهتدياً مؤمناً، فقوله تعالى: ( آمَنَ ) إشارة إلى الشهادة الأولى والثانية، وقوله: ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) إشارة إلى الإيمان والعمل بالشريعة الذي هو مقام النبوّة، وقوله: ( ثُمَّ اهْتَدَى ) إشارة إلى ذلك المقام الثالث والشهادة الثالثة؛ وهي الولاية والإمامة.

سورة الحمد وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام :

وإذا لم يعتقد بها الشخص ولم يجعلها واسطة بينه وبين ربّه لا يتحقّق منه الإيمان ولا العمل الصالح، فولاية وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام واسطة ووسيلة يتوسَّل بها العبد إلى اللَّه عزّ وجلّ لقبول عقيدته وعبادته، وهذا ما صرّحت به سورة الحمد، التي يقرؤها المسلم في اليوم والليلة عشر مرّات على أقل تقدير.

فإن سورة الحمد تعرّضت للشهادة الأولى والشهادة الثانية والشهادة الثالثة،

____________________

(1) طه: 79.

١٠٣

فقوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) (1) إشارة إلى الشهادة الأولى، وهي كلمة (لا إله إلّا اللَّه)، وقوله تعالى: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (2) إشارة إلى أصل المعاد، الذي هو من أصول الدين، وقوله تعالى: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (3) إشارة إلى مقام التشريع والنبوّة؛ لأن العبادة لا تتحقّق إلّا بالسير على خطى النبوّة والرسالة، وقوله تعالى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) (4) إشارة إلى مقام الإمامة في الأمة، فهناك مجموعة في الأمة الإسلامية ندعو اللَّه عزّ وجلّ في اليوم والليلة أن يهدينا صراطهم المستقيم، المنزّه عن الغضب في العمل وعن الضلال في العلم؛ أي صراط المعصومين علماً وعملاً، وهؤلاء الهداة الهادون إلى الصراط المستقيم وصفهم اللَّه تعالى بثلاثة نعوت:

الأول: أنهم منْعَم عليهم بنعمة خاصّة دون بقية الأمة وسائر البشر، نظير ما أنعم اللَّه على النبيِّين.

الثاني: أنهم لا يغضب اللَّه عليهم قطّ، وإلّا لَمَا كانت لهم صلاحية الهداية لجميع الأمة.

الثالث: أنهم لا يضلّون قط، وإلّا لم يكونوا هداة هادين لكل الأمة.

ولم يحدّثنا القرآن عن ثلّة عن هذه الأمة قد خصصوا بنعمة وحظوة وحبوة

____________________

(1) الحمد: 2 - 3.

(2) الحمد: 4.

(3) الحمد: 5.

(4) الحمد: 6 - 7.

١٠٤

إلهية خاصة دون بقية الأمة إلّا أهل البيت عليهم‌السلام كما في ولاية الفي‏ء في قوله تعالى: ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (1) ، وكما في ولاية الخمس في قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (2) ، وكذا التطهير في قوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (3) ، والمودّة والولاية في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (4) وقوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (5) ، وعلم الكتاب في قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (6) وغيرها من الآيات المخصِّصة

لهم عليهم‌السلام بمقامات دون سائر الأمة إلى يوم القيامة، فلا توجد مجموعة في الأمة الإسلامية معصومة عن الغضب والضلال سوى أهل البيت عليهم‌السلام ، الذين أنعم اللَّه عزّ وجلّ عليهم بالطهارة من الرجس والغواية في العلم والعمل كما قال تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (7) .

ويتحصّل من ذلك: أن سورة الحمد اشتملت على أصول الدين من التوحيد والمعاد والنبوّة والإمامة، وقارئ الحمد يطلب من اللَّه تعالى الهداية إلى الصراط

____________________

(1) سورة الحشر: 7.

(2) سورة الأنفال: 41.

(3) سورة الأحزاب: 33.

(4) سورة الشورى: 23.

(5) سورة المائدة: 55.

(6) سورة الواقعة: 77 - 79.

(7) الأحزاب: 33.

١٠٥

المستقيم، وأن يجعل له هداة وأئمة يهتدي بهم، وهذا يعني أن ضمّ الشهادة الثالثة بالإمامة إلى الشهادة الثانية بالرسالة والنبوّة للنبيّ

الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يوجب الخروج عن الشرك وقبول الإيمان والعبادة.

ومن ذلك كلّه يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام لسدير وهو مستقبل البيت: (يا سدير، إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، وهو قول اللَّه: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (1) - ثم أومأ إلى صدره - إلى ولايتنا) (2) .

إذن تمام الحجّ وسائر العبادات بالهداية إلى ولاية أهل البيت عليهم‌السلام والتوسّل والتوجّه بهم إلى اللَّه عزّ وجل.

7 - الوفود على ولي اللَّه من شرائط الحجّ:

قال تعالى: ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود × وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (3) .

فهذه الآية المباركة تنصّ على أن اللَّه عزّ وجلّ جعل مكان البيت مبوّءاً وسكناً لإبراهيم عليه‌السلام ، وأن إبراهيم عليه‌السلام هو المتكلّم الأوّل والناطق الرسمي عن اللَّه تعالى في الندبة إلى الحجّ، فهو يأمر الناس بحجّ بيت اللَّه الحرام كما نصّت على ذلك روايات الفريقين.

____________________

(1) طه: 82.

(2) أصول الكافي، ج 1، ص 393.

(3) الحج: 26 - 27.

١٠٦

ثم إن التعبير الآخر في الآية المباركة بعد الأذان في الناس بالحجّ ( يَأْتُوكَ رِجَالاً ) ، فالمجي‏ء ليس إلى البيت ولا إلى اللَّه عزّ وجلّ مباشرة، بل المجي‏ء أوّلاً إلى إبراهيم عليه‌السلام .

فالإتيان إلى الحجّ تلبية وإجابة للنداء الإلهي إنما يتمّ بالوفادة على وليّ اللَّه، ويكون الحجّ الذي هو القصد إلى اللَّه عزّ وجلّ بواسطة الإتيان إلى إبراهيم عليه‌السلام ، الذي هو وجيه عند اللَّه تعالى يتوجّه إليه ويُقصد لإقامة الصلاة والطواف وسائر مناسك الحجّ العبادية، فلابدّ من الوفود على إبراهيم عليه‌السلام ومحبّته وهويّ الأفئدة إليه.

وهذه الآية المباركة تتوافق في المضمون مع ما تقدّم من قوله تعالى: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (1) ، فإبراهيم عليه‌السلام وذرّيته أسكنهم اللَّه عزّ وجلّ البيت الحرام وبوّأهم فيه لإقامة الصلاة وتشييد الدين وتطهير البيت للطائفين والقائمين والرّكع السجود، والإيذان في الناس بالحجّ، ولكن لا قيمة للحجّ ولا مقبولية عند اللَّه عزّ وجلّ إلّا بالمجي‏ء إلى إبراهيم عليه‌السلام وذريّته من ولد إسماعيل عليه‌السلام ، وهويّ القلوب والأفئدة إليهم ومحبّتهم ومودّتهم وتولّيهم وإبراز الطاعة لهم وجعلهم واسطة في القصد إلى اللَّه تعالى.

فتبويء اللَّه عزّ وجلّ لإبراهيم البيت، وإسكان إبراهيم ذريَّته فيه من أجل الوفود عليهم ومودّتهم، هو الذي جعل من البيت الحرام مكاناً ومقصداً لإقامة العبادة فيه، والأحجار بما هي أحجار لولا ذلك تكون وثناً يعبد من دون اللَّه

____________________

(1) إبراهيم: 37.

١٠٧

عزّ وجلّ كما كان الحجّ في الجاهلية. ولذا ورد أن من المستحبّات عند الدخول إلى البيت الحرام إلقاء التحيّة والسلام على سيّد الأنبياء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم السلام على النبيّ إبراهيم عليه‌السلام (1) .

فعن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (فإذا انتهيت إلى باب المسجد فقم وقل: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، بسم اللَّه وباللَّه ومن اللَّه وما شاء اللَّه، والسلام على أنبياء اللَّه ورسله والسلام على رسول اللَّه، والسلام على إبراهيم والحمد للَّه رب العالمين) (2) .

فالمجي‏ء إلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم إلى إبراهيم عليه‌السلام مجي‏ء وإتيان وقصد إلى اللَّه عزّ وجل، وكذا أهل البيت عليهم‌السلام ؛ لأنهم الذريّة والأمة المسلمة الذين دعا إبراهيم والنبيّ الأكرم إلى مودّتهم ومحبّتهم.

إذن، الأنبياء والأوصياء هم أبواب اللَّه التي يتّجه إلى اللَّه تعالى بها، ولولا ذلك لا يكون الحجّ حجّاً إبراهيمياً، بل حجّ الجاهلية.

8 - الأنبياء مصدر البركة:

قال تعالى حكاية عن قول عيسى عليه‌السلام : ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) (3) .

وهذا يعني أن عيسى عليه‌السلام جعله اللَّه عزّ وجلّ مصدر البركة والتبرّك أين ما حل؛ ولذا كان ببركته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن اللَّه تعالى، فهو

____________________

(1) ابن حمزة، الوسيلة، ص172.

(2) الصدوق، المقنع، ص255.

(3) مريم: 31.

١٠٨

وجيه وواسطة في قضاء الحوائج في كلّ مكان حلّ فيه، فما بالك بخاتم الأنبياء عليه‌السلام وأهل بيته الأطهار ومَن يصلّي عيسى خلفه عند نزوله ويكون وزيراً له؟!

وكذا ورد في الآيات المباركة أن الماء مصدر البركة والخيرات كما في قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ) (1) ، فإذا كان اللَّه تعالى ببركة الماء المنزل من السماء ينبت الجنان ويحيي الأرض بعد موتها، فكيف بك بأنبياء اللَّه ورسله وخلفائه الأوصياء؟!

9 - البقعة المباركة:

وهي الطائفة من الروايات التي تعرّضت لذكر البقعة المقدّسة والمباركة التي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيها موسى عليه‌السلام كقوله تعالى: ( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَ نَارًا فَقَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ يَا مُوسَى * إِنِّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (2) ، وقوله تعالى: ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (3) ، وكذا قوله تعالى: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) (4) .

____________________

(1) ق: 9.

(2) طه: 9 - 12.

(3) النازعات: 15 - 16.

(4) مريم: 51 - 52.

١٠٩

وقوله عزّ وجلّ: ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِي‏ءِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (1) .

وقد أقسم اللَّه عزّ وجلّ بهذه البقعة المباركة لعظمتها، بالإضافة إلى بقع ثلاث أخرى، وذلك في قوله تعالى: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) (2) ، وهذا قسم من اللَّه عزّ وجلّ ببلد التين، وهو المدينة، وبلد الزيتون وهو بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، والبلد الأمين، وهو مكّة، كما ورد ذلك عن الإمام الكاظم عليه‌السلام ؛ حيث قال: (واختار من البلدان أربعة؛ فقال عزّ وجلّ: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) فالتين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سنين الكوفة، وهذا البلد الأمين مكّة) (3) .

هذا من طرقنا.

وكذلك من طرق السنّة، ولكن بتفسير التين بالبيت الحرام، وتفسير الطور بأنه الجبل الذي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيه موسى عليه‌السلام (4) ، ولا تنافي في ذلك إذ لعلّ ذلك هو الوادي المقدّس بين جبل طور والكوفة كما ذكر ذلك بعض المفسّرين.

____________________

(1) القصص:29 - 30.

(2) التين: 1 - 3.

(3) الصدوق، الخصال، ص225، والنيسابوري، روضة الواعظين، ص405.

(4) ابن الجوزي، زاد المسير، ج8، ص275.

١١٠

وقد ورد في الحديث أن محلّ قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام أوّل طور سيناء. عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال: (كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام : أن أخرجوني إلى الظهر [أي ظهر الكوفة]، فإذا تصوّبتْ أقدامكم واستقبلتكم ريح، فادفنوني؛ وهو أوّل طور سيناء. ففعلوا ذلك) (1) .

والحاصل: إن القرآن يؤكّد أن هناك بقعة مقدّسة مباركة، فيها هبطت الملائكة بالوحي على موسى عليه‌السلام ، ولابدّ أن تقدّس وتُعظّم ويُتقرّب فيها إلى اللَّه عزّ وجلّ ويكلّم اللَّه تعالى فيها الأنبياء.

قال القرطبي في تفسيره قوله تعالى ( إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (2) :

(المقدّس: المطهّر، والقدس: الطهارة، والأرض المقدّسة أي المطهّرة) إلى أن قال: (وقد جعل اللَّه تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض، كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض) (3) .

وهذا يعني أن هناك أماكن مقدّسة فيها ينزل الوحي وتفتح أبواب السماء، وفيها يزداد الأجر ويقبل الدعاء ويتوجّه إلى اللَّه عزّ وجل.

10 - وجوب تعظيم الأنوار الإلهيّة:

خلقة الأنوار الخمسة لأصحاب الكساء في سورة النور؛ قال تعالى: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا

____________________

(1) تهذيب الأحكام، ج 6، ص 34.

(2) طه: 12.

(3) تفسير القرطبي، ج11، ص175.

١١١

شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي‏ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (1) .

إن هذه الآية المباركة تنصّ على وجود بيوت خاصّة أذن اللَّه أن ترفع وتعظّم ويذكر فيها اسمه، وفي تلك البيوت يسبّح للَّه عزّ وجلّ وتقبل العبادة ويسمع الذكر، وتحت قبّتها يرفع الدعاء وتفتّح أبواب السماء وتحصل القربة إلى اللَّه تعالى، فهي بيوت مباركة ومقدّسة جعلها اللَّه تبارك وتعالى وسيلة وواسطة ومحلّاً لقبول العبادة والذكر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار.

ومن الجدير بالذكر أن تلك البيوت بيوتاً خاصّة، وهي مهبط الوحي والقداسة والطهارة. والشاهد على ذلك أن الجار والمجرور في قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بذلك النور الذي ضربه اللَّه عزّ وجلّ مثلاً للناس، فالنور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، وقد ذكرت الآية المباركة أن هذا النور نور السماوات والأرض، أي محيط بهما ومهيمن عليهما وأشرف منهما في الخلقة والرتبة الوجودية.

ثمّ إن ذلك النور مخلوق من مخلوقات اللَّه تعالى، أُضيف إليه عزّ وجلّ في الآية إضافة الفعل إلى فاعله، وهو عبارة عن أنوار خمسة شامخة، ضرب اللَّه تعالى لكلّ واحد منها مثلاً حسّياً لتقريب الفكرة وتنزيل الحقيقة إلى رقيقة

____________________

(1) النور: 35 -37.

١١٢

يفهمها البشر، وليس هذا النور عين الذات الإلهية؛ لأنها أحدية المعنى لا تعدّد ولا تكثّر فيها، والنور المذكور في الآية المباركة متعدّد منشعب إلى خمسة أنوار، مستقل بعضها عن البعض الآخر.

والأنوار الخمسة التي ضُربت مثلاً هي:

أولاً: المشكاة.

ثانياً: المصباح.

ثالثاً: الزجاجة.

رابعاً: الكوكب الدُّرِّي

خامساً: الشجرة المباركة.

ثم تقول الآية الكريمة بعد ذلك: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) .

وفي اللغة العربية يقول علماء البلاغة: كل تشبيه جملة مستقلة برأسها، وتفيد معنىً ومغزىً مستقلاً، فالآية بصدد التعرض إلى خلقة النور، وأن أحد مراحل الخلقة الإلهية هي المخلوقات النورية، وهي أنوار خمسة، تعظم في الخلقة الملائكةَ والروح والجنّ والإنس ومطلق الموجودات الأخرى، وهي أنوار مشتقّ بعضها من بعض، ومرتبط بعضها بالبعض الآخر كما هو ظاهر الآية المباركة.

وهذه الأنوار المباركة المحيطة بالسماوات والأرض، هي الأسماء والكلمات التي لم تعلم بها الملائكة، مع أن الملائكة ملأت أركان السماوات والأرض؛ لأنها هي التي تدبّرها وتدير شؤونها، وهو المشار إليه في تعليم آدم الأسماء وعرض اللَّه تعالى لها على الملائكة، فلم يعلموا بها، فأنبأهم آدم بها،

١١٣

ووصفها اللَّه بأنها غيب السماوات والأرض (1) ، وكما ورد هذا المعنى في روايات الفريقين (2) .

ولو كانت تلك الأسماء من عالم السماء والأرض، لعلمت بها الملائكة، ومن ذلك يعلم أن الأسماء التي علّمها اللَّه عزّ وجلّ آدم وجهلتها الملائكة، كانت مخلوقات محيطة بعالم السماوات والأرض.

وهذا نوع من أنواع التشاهد بين الآيات القرآنية، فالأنوار الخمسة المذكورة في سورة النور هي الأسماء التي خفيت عن الملائكة وعلّمها اللَّه تعالى آدم، وهي كما سيأتي موجودات حيّة عاقلة شاعرة من عالم النور كما عبّر عنها في سورة البقرة بضمير (هم) واسم الإشارة (هؤلاء)، وهما لفظتان لا تستعملان في الذوات الجامدة، بل في الذوات الحيّة الشاعرة العاقلة.

ويتحصّل من ذلك وجود مخلوقات خمسة نورية محيطة بالسماوات والأرض، أفضل من الملائكة ولا تحيط الملائكة بها علماً، بل إن اللَّه تعالى شرّف آدم على جميع مخلوقاته، بما فيهم المقرّبين من كبار الملائكة، كجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل بفضل تلك الأنوار، وبفضلها أيضاً استحقّ مقام الخلافة الإلهية، وسجد له الملائكة كلّهم أجمعون.

ومن ذلك يتضح أن هذه الأنوار الخمسة هي باطن (غيب) وملكوت السماوات والأرض؛ لأن نور كلّ شي‏ء بمنزلة الروح له، ومن دونه يكون ظلمانياً، والنور في المقام ليس هو النور الحسّي الذي يظهر الصفات العارضة

____________________

(1) سورة البقرة: 31 - 33.

(2) بصائر الدرجات، ص89، الطبراني، المعجم الأوسط، ج4، ص44.

١١٤

على الشي‏ء، بل هو نور الخلقة الذي يوجد الشي‏ء ويكوّنه ويظهره من كتم العدم إلى الوجود، فنور السماوات والأرض أي ملكوتهما وباطنهما ومظهرهما من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وهو اسم اللَّه الأعظم الذي هو غير المسمّى، يفوق في القدرة والعظمة كافّة المخلوقات في السماوات والأرض.

وسيأتي أن تلك الأنوار الخمسة المباركة - وهي الأسماء التي علّمها اللَّه تعالى آدم وتاب بفضلها عليه من خطيئته، وابتلى بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة - هم خمسة أصحاب الكساء وأهل آية المباهلة: محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، فهم أهل البيت، وهم النور الإلهي الذي حلّ في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، لتكون محلّاً للذكر والتسبيح والعبادة والتوجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ وتشييد معالم الدين.

ولذا أخرج السيوطي في الدرّ المنثور عن ابن مردويه عن أنس ابن مالك وبريدة، قال: قرأ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول اللَّه؟ قال: (بيوت الأنبياء)، فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول اللَّه، هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت عليّ وفاطمة عليهم‌السلام ، قال: (نعم، من أفاضلها) (1) .

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه‌السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال: (هي بيوت النبي صلَّى الله عليه وآله) (2) .

كذلك عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، في قوله: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ

____________________

(1) الدرّ المنثور، ج 5، ص50.

(2) الكافي، ج8، ص331، ح510.

١١٥

تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) قال: (هي بيوت الأنبياء، وبيت علي منها) (1) .

وقد تقدّم رواية الحاكم في المستدرك أن من الكلمات التي تاب اللَّه بها على آدم (وهي الأسماء التي شُرّف آدم بها على الملائكة كخليفة، لأن الكلمات أعظم مقاماً من آدم إذ بها تاب اللَّه عليه)، أن من أعظم تلك الكلمات والأسماء هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد ورد في المستدرك أنه لولاه لَمَا خلق آدم ولا الجنة ولا النار (2) ويتشاهد هذان الحديثان النبويان على أن أوّل الأنوار الخمسة والأسماء التي تعلّمها آدم وتوسّل بها هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا بالنسبة إلى الأنوار الخمسة المباركة.

الأئمة التسعة من ولد الحسين عليه‌السلام في آية النور:

وأمَّا قوله تعالى: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) ، فهو إشارة إلى استمرار وديمومة قانون الإمامة والخلافة الإلهية بعد تلك الأنوار الخمسة إلى يوم القيامة، نور على نور يهدي اللَّه لنوره من يشاء، و(على)؛ أي على إثر وعقب، لغة في أحد المعاني المستعملة في لفظ (على) بالتضمين لمعنى الإثر؛ والشاهد على ذلك ما تقدّم من أن الهداية هي الإيصال إلى المطلوب، وقد جاء ذكر الهداية تفسيراً وبياناً لمقام الإمامة والولاية كما في قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، فالتعبير بالهداية في الآية المباركة يراد منه الإمامة، وهو مقتضى معنى النور أيضاً؛ إذ هو الهادي إلى صراط اللَّه تعالى.

____________________

(1) تفسير القمي: ج2 ص79.

(2) المستدرك، ج 2، ص 671 و 672

١١٦

ولذا ورد عن الإمام محمّد بن علي بن الحسين عليه‌السلام في قوله تعالى ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) قال: (يعني إماماً مؤيّداً بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك من لدن آدم إلى يوم القيامة) (1) .

وعن الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ، قال: قلت ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) ؟ قال: (الإمام في إثر الإمام) (2) .

وورد أيضاً عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في قوله تعالى ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) قال: (يهدي لولايتنا من أحبّ) (3) .

بيان آخر للآية المباركة:

هناك بيان آخر للآية الكريمة التي نحن بصدد الاستدلال بها، أدقّ وأعمق وأدلّ على المطلوب من البيان الأول؛ وهو:

بعد أن تبيّن أن قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بالنور، وأن النور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، نقول:

إن الآية الثالثة التي ذكرناها في المقام، وهو قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) ، هذه الجملة من المبتدأ والخبر كلّها بدل من قوله تعالى ذكره: ( فِي بُيُوتٍ ) ، أي أنها في محلّ جرّ بدل من البيوت؛ ويكون المعنى على ذلك: أن البيوت رجال لا تلهيهم تجارة، وليست هي

____________________

(1) توحيد الصدوق، ص158، ح4.

(2) المصدر، ص157، ح3.

(3) مناقب ابن المغازلي، ص263، ح361.

١١٧

بيوت حجارة، ولا طين.

والشواهد على ذلك من نفس الآيات المباركة كثيرة نشير إلى بعضها:

أ - قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ ) ليس فاعلاً لقوله عزّ وجل: ( يُسَبِّحُ ) ؛ وذلك طبقاً لقراءة أهل البيت عليه‌السلام ، حيث إن قراءتهم لكلمة يسبَّح (بفتح الباء) مبني للمجهول، وبناءً على هذا لا تكون كلمة ( رِجَالٌ ) فاعلاً لـ (يسبَّح) وإنما تكون مبتدءاً والجملة التي بعدها خبر، والجملة بتمامها عطف بدل على بيوت، فالبيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع، وإلى ذلك يشير قول الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام إلى قتادة البصري(فقيه أهل البصرة) عندما سأله قائلاً:

(أصلحك اللَّه، واللَّه لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عبَّاس، فما اضطرب قلبي قدّام واحدٍ منهم ما اضطرب قدّامك؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : (ويحك أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي ( بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) فأنت ثَمَّ، ونحن أولئك)، فقال له قتادة: صدقت واللَّه، جعلني اللَّه فداك، واللَّه ما هي بيوت حجارة ولا طين) (1) .

وكذلك ما ورد عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ؛ حيث قال: (إنّه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل اللَّه طاعة وليّ أمره بطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعة رسوله بطاعته، فمَن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللَّه ولا رسوله، وهو الإقرار بما نزل من عند اللَّه: ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) والتمسوا البيوت التي أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه أخبركم أنهم

____________________

(1) الكافي، ج6، ص256، ح1.

١١٨

( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (1) .

ثم إن تلك القراءة بفتح الباء في (يسبَّح) قرأ بها أيضاً ابن عامر وأبو بكر وابن شاهي عن حفص (2) .

إذن، يتحصّل أن النور في بيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.

أهل البيت عليهم‌السلام معصومون بأعالي درجات العصمة:

ب - قوله عزّ وجل: ( لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) . فإن هذا المقطع من الآية المباركة يشير إلى أن هؤلاء الرجال معصومون بأعلى درجات العصمة، وهي عصمة السرّ التي هي فوق عصمة الجوارح؛ إذ لا يلهون برهة من حياتهم عن ذكر اللَّه، فهم في ذكر دائم، وهذا يعني أن أولئك الرجال ثلّة خاصة في الأمة الإسلامية يتميّزون عن بقيّة المسلمين وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين انفضّ أكثرهم من حوله وتركوه قائماً عندما سمعوا بالتجارة كما نصّت على هذه الحادثة سورة الجمعة؛ وذلك في قوله تعالى: ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (3) .

ففي الروايات لم يبقَ مع النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا اثني عشر أو ثمانية رجال،

____________________

(1) الكافي، ج1، ص182، ح6.

(2) الطوسي، لاحظ التبيان، ج7، ص439، وابن الجوزي، زاد المسير، ج5، ص364.

(3) الجمعة: 11.

١١٩

وانفضّ الباقون إلى اللّهو والتجارة (1) .

وفي بعض الروايات لم يبقَ إلّا علي عليه‌السلام (2) .

ولا شك أنه لا يوجد ثلّة معصومة في هذه الأمة غير أهل آية التطهير، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فنالوا بذلك أعلى درجات العصمة والطهارة.

وهذا يعني أن تلك الأنوار الخمسة المباركة في بيوت وأبدان طاهرة، وهم رجال معصومون من الغفلة عن ذكر اللَّه عزّ وجل، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.

وتلك البيوت والرجال أذن اللَّه أن يرفع ذكرهم، كما قال اللَّه تعالى لنبيّه: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) ، ولا شك أن معنى ذلك هو وجوب التعظيم والطاعة لهم والانقياد لولايتهم والتوجّه بهم إلى اللَّه تعالى في العبادة، كما أمر اللَّه عزّ وجلّ الملائكة بالخضوع والسجود لآدم وجعل الخضوع واسطة للانقياد إلى الأوامر الإلهية.

إذن، لا يقبل اللَّه عزّ وجلّ من العباد الطاعة، إلّا برفع تلك البيوت وتعظيم أولئك الرجال، والإتيان بالطاعات امتثالاً لأمر اللَّه وأمر رسوله وأمر أُولي الأمر من هذه الأمة.

قال تعالى: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ

____________________

(1) لاحظ: الطبري، جامع البيان، ج28، ص132.

(2) شرف الدين، تأويل الآيات، ج2، ص693.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

للحيلولة دون بلوغ أهدافه التي كان يطمح لإقرارها وتثبيت اُسسها في برهة زمنية قياسية، فكانت لهم ردود فعل مثبّطة نشير إليها.

قد وقفت على الدوافع الروحية الباعثة على مخالفة النبي الأكرم غير أنّها تبلورت في الاُمور التالية:

١ ـ إكالة التهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ ـ الاستنكار والاحتجاج بالاُمور الواهية.

٣ ـ الاقتراحات الباطلة كشروط لقبول الرسالة.

٤ ـ ايقاع الأذىٰ على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه.

وإليك بيان هذه الاُمور واحداً تلو الآخر حسبما يستفاد من آيات القرآن الكريم:

١٤١

الف ـ اكالة التهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله

كان أسلوب تحطيم الشخصيات عن طريق إكالة التّهم إليهم أقدم حربة بيد الجهّال يطعنون بها على المصلحين، وقد إستعملها مشركوا عصر الرسالة في بدء الدعوة ولم تكن الفرص تسنح لهم بقتله واغتياله، فحاولوا إغتيال شخصيّته ليسقطوه عن أعين الناس، فإنّ نجاح المصلح في نشر دعوته يكمن في اتّسامه بالقداسة والطهارة والعقلية الرزينة، فلو افتقد المصلح تلك ـ السمات عن طريق الاتّهام بما يضادها ـ ذهب سعيه أدراج الرياح وأصبحت جهوده سدىٰ، فلأجل ذلك إختارت قريش القيام بشنّ حرب نفسيّة ضروس لا هوادة فيها للحطّ من قيمته وكرامته والحيلولة دون نفوذ كلمته.

ولكنّهم مهما بذلوا من جهود لإنجاح مؤامراتهم لم تتجاوز تهمهم عن الكهانة والسحر والجنون وأشباهها لأنّ النّبي قد كان في الطهارة النفسيّة والأمانة المالية وسائر الصفات الكريمة على حدّ حال دون إلصاق تهم اُخرى به ككونه خائناً سارقاً قاتلاً غير عفيف، وهذا أحد الدلائل البارزة المشرقة على أنّه كان فوق التهم المشينة المزرية، وكانت حياته طيلة أربعين سنة مقرونة بالصلاح والفلاح والأمانة، ولو كانت هناك أرضية صالحة لتوصيف النبيّ بها، لما أمسكوا عنها.

نعم قام العدو باتّهامه باُمور يشكل اثباتها كما يشكل نفيها عن المتهم، وهذه هي الطريقة المألوفة عند بني الشياطين لمس كرامة المصلحين حيث يشنّون عليهم بمثل هذه التّهم لغاية إسقاطهم عن أعين النّاس. يقول سبحانه:( كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إلّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) ( الذاريات / ٥٢ ).

١٤٢

هكذا كانت سيرة الأعداء في طرد المصلحين عن الساحة.

ثمّ إنّ التّهم الّتي حكاها القرآن عن لسان أعداء النبيّ تتلخّص في العناوين التالية:

١ ـ الكهانة: وهي في اللغة عبارة عن اتّصال الإنسان بالجن ليتلقّى منهم أنباء الماضين وأخبار اللّاحقين ومن خلالها يتمكّن من التنبّؤ بالمستقبل، يقول سبحانه مشيراً إلى تلك التّهمة وردّها:( وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ) ( الحاقة / ٤٢ ).

٢ ـ السحر: وهو قوّة نفسانيّة للساحر يقدر معها على إنجاز اُمور خارقة للعادة مموّهة، ومن تلك الاُمور التفريق بين المرء وزوجته والوالد وولده بل بين أفراد العائلة كافّة. قال سبحانه:( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) ( ص / ٤ ).

٣ ـ المسحورية: والمراد منه تأثّره بسحر الآخرين، وأنّ هناك ساحراً أو سحرة سحروا النبيّ وأثّروا فيه. يقول سبحانه حاكياً عن المشركين:( إِن تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلاً مَّسْحُورًا ) ( الفرقان / ٨ ). ثمّ يردّه بقوله سبحانه:( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) ( الفرقان / ٩ ) والمراد من قوله( ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ ) أي وصفوك بالمسحورية، وقد اتّهم بنفس تلك التهمة النبيّ صالح. قال سبحانه حاكياً عن أعدائه:( قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ ) ( الشعراء / ١٥٣ ) وممّا يجدر ذكره أنّ اتّهام النبيّ بالمسحورية ليست تهمة مستقلّة تغاير الجنون جوهراً بل هي نفس التهمة ولكنّها صيغت بلفظ أكثر أدباً، وهذه شيمة الدهاة حيث يمزجون السم بالعسل.

٤ ـ الجنون: ومفهومه غني عن البيان وقد مضى أنّها تهمة شائعة تُلصق بالمصلحين من جانب خصومهم من غير فرق بين النبيّ وغيره، وبين نبيّنا وسائر الأنبياء كما عرفت(١) . قال سبحانه نقلاً عن المشركين:( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( الحجر / ٦ )، قال تعالى:( وَمَا صَاحِبُكُم

__________________

(١) الذاريات / ٥٢.

١٤٣

بِمَجْنُونٍ ) ( التكوير / ٢٢ )، وقال عزّ من قائل:( فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ) ( الطور / ٢٩ ) والمبرّر لهم بوصفه بالجنون ومؤاخذتهم له، وقوفه لوحده في وجه الرأي العام المتمثّل في الشرك. والسذّج من النّاس يصفون من يتبنّىٰ الفكر الذي لا يوافقه عليه الرأي العام وهو يريد تطبيقه في المجتمع، بأَنّه مجنون لا يعرف قدر نفسه ومنزلته وسوف يهدر دمه لا محالة.

ما أسخف هذه التهم إذ كيف يتّهمون من هو أرجحهم عقلاً وأبينهم قولاً منذ ترعرع إلى أن بلغ أشدّه بالجنون والكهانة مضافاً إلى ما في هذا من التناقض والإضطراب، فإنّ الكهنة كانوا من الطبقة العليا بين الناس يرجع إليهم القوم في المشاكل والمعضلات وأين هو من الجنون ؟ فكيف جمعوا بين كونه كاهناً ومجنوناً ؟

ولقد لمسنا ذلك في حياتنا القصيرة في مجتمعنا ورأينا كيف رمي رجال الإصلاح بنظائر هذه التهم وما ذلك إلّا لأنّهم قاموا في وجه المستعمرين والناهبين لثروة أقطار العالم الإسلامي، فما كان نصيبهم جرّاء مقاومتهم تلك، إلّا اتّهامهم بالجنون والتدهور العقلي، والغربة عن الواقع والحياة.

٥ ـ التعلّم من الغير: إنّ أعداء النبيّ من قريش وغيرهم وقفوا على مدى عظمة تعاليمه وسموّها، ولكن الحالة النفسية قد صدّتهم عن تصديق قوله والإذعان برسالته الإلهية وانتسابه إلى الوحي والسماء، فقاموا بتزوير آخر وهو أنّه مُعَلّم، قد تلقّى تعاليمه من غيره. يقول سبحانه:( وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ *ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ) ( الدخان / ١٣ و ١٤ ).

وأمّا من هو المعلّم الذي كان قد علّم النبي وغذّاه بتلك المبادئ والقيم فلم يذكروه، ولكن إقتران هذه التهمة بتهمة الجنون يدلّ على أنّ المعلّم المزعوم هو الجن فهو عن طريق صلته بهم تلقّى رسالته عنهم ـ وبالتالي ـ اُصيب في عقله فصار معلّماً مجنوناً بزعمهم.

وهناك إحتمال آخر وهو أنّه تلقّى مبادئه عن بشر آخر، وقد اُشير إليه في قوله

١٤٤

سبحانه:( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل / ١٠٣ ).

قال ابن عباس: قالت قريش: إنّما يعلّمه بلعام ( وكان قينا بمكّة روميّاً نصرانياً ) وقال الضحّاك: أرادوا به سلمان الفارسي(١) قالوا إنّه يتعلّم القصص منه، وقال مجاهد وقتاده: أرادوا به عبداً لبني الحضرمي روميّاً يقال له يعيش أو عائش صاحب كتاب، أسلم وحسن إسلامه، وقال عبد الله بن مسلم: كان غلامان في الجاهلية نصرانيّان من أهل عين التمر، اسم أحدهما يسار واسم الآخر خير، كانا صيقلين يقرءان كتاباً لهما بلسانهم وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ربّما مرّ بهما واستمع لقراءتهما، فقالوا: إنّما يتعلّم منهما، ثمّ ألزمهم الله تعالى الحجّة وأكذبهم بأن قال: لسان الذي يضيفون إليه التعليم ويميلون إليه القول، أعجميّة لا يفصح ولا يتكلّم بالعربية، فكيف يتعلّم منه من هو في أعلى طبقات البيان ؟ وهذا القرآن بلسان عربي مبين، فإذا كانت العرب تعجز عن الإتيان بمثله وهو بلغتهم فكيف يأتي الأعجمي بمثله(٢) ؟

قال ابن هشام: قالوا: إنّما يعلّمه رجل باليمامة يقال له الرحمان ولن نؤمن به أبداً، فنزل قوله سبحانه:( كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَٰنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ) ( الرعد / ٣٠ )(٣) .

روى ابن هشام: إنّ النضر بن الحارث كان إذا جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مجلساً، فدعا فيه إلى الله تعالى وتلا فيه القرآن، وحذّر فيه قريشاً ما أصاب الاُمم الخالية، خلّفه في مجلسه إذا قام، فحدّثهم عن رستم واسفنديار وملوك فارس ثمّ يقول: والله ما محمّد بأحسن حديثاً منّي وما حديثه إلّا أساطير

__________________

(١) كيف يقول ذلك مع أنّ سلمان أدرك النبي في مهجره، لا في موطنه.

(٢) مجمع البيان: ج ٣ ص ٣٨٦.

(٣) السيرة النبوية لابن هشام: ج ١ ص ٣٣١.

١٤٥

الأوّلين، اكتتبها كما اكتتبتها، فأنزل الله فيه:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً *قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان / ٥ و ٦ ).

ونزل فيه:( وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ *يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( الجاثية / ٧ )(١) .

٦ ـ كذّاب: وما وصفوه به إلّا لأجل أنّه كان يكافح عقيدتهم ويقارع دينهم. قال سبحانه حاكياً عنهم تلك التهمة:( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) ( ص / ٤ ).

فلماذا لا يكون عندهم كذّاباً وقد رفض الآلهة المتعدّدة وجعلها إلهاً واحداً. قال سبحانه حاكياً عنهم:( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ( ص / ٥ ).

٧ ـ مفتر: وإنّما وصفوه به لأنّه ينسب تعاليمه إلى السماء. يقول سبحانه حاكياً عنهم:( قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( النحل / ١٠١ ) ويقول أيضاً:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إلّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ) ( الفرقان / ٤ ). وهذه الآية تعبّر عن أنّهم كانوا يتّهمونه بأنَّ القرآن ليس من صنعه وحده بل هناك قوم أعانوه عليه، فربّما كانوا يفسّرونه بشكل آخر وهو انّ القرآن ليس شيئاً جديداً بل هي أساطير الأوّلين تملىٰ عليه بكرة وأصيلاً، كما قال سبحانه:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) .

وقد أدحض الوحي هذه التهمة وكشف عن زيفها بأمرين:

الأوّل: لو صحّ قولكم إنّ هذا الكتاب من صنع محمّد فنسبه إلى الوحي فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، فإنّه لبشر مثلكم وأنتم بشر مثله. قال سبحانه:

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ١ ص ٣٥٧.

١٤٦

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَٰهَ إلّا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ( هود / ١٣ و ١٤ ).

الثاني: كيف تقولون بأنّه استنسخ هذه الأساطير بإملاء الغير مع أنّه ما تلىٰ كتاباً، ولا خطّ صحيفة، فكيف تتّهمونه بالاستنساخ والاستكتاب ؟ قال سبحانه:( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ *بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إلّا الظَّالِمُونَ ) ( العنكبوت / ٤٨ و ٤٩ ).

٨ ـ مفتر أو مجنون: ـ على ترديد بينهما ـ ربّما كان القوم يتردّدون في توصيف النبي بين كونه عاقلاً مفترياً على الله سبحانه أو مجنوناً معدم العقل والشعور، وهذه شيمة الدهاة في استنقاص فضل الأشخاص حيث يكيلون التهم على مخالفيهم الأقوياء بلسان التردّد وعدم الجزم، لدفع نسبة شناعة التهمة عن أنفسهم كما يحكي عنهم سبحانه:( أَفْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ) ( سبأ / ٨ ).

٩ ـ شاعر: إنّ القوم كانوا اُسود الفصاحة وفرسان البلاغة وقد أدركوا بفطرتهم سموّ القرآن وعلوّ مرتبته في ذلك المجال، ومن جانب كانوا في العداء والحسد على مرتبة صدّتهم عن الاعتراف بكونه كتاباً منزّلاً من السماء، حاولوا أن يفسّروه بالشعر فوصفوه بالشاعر وقالوا:( أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ ) ( الطور / ٣٠ ) وحاصل هذه التهمة أنّه شاعر و « أعذب الشعر أكذبه »، فلنصبر عليه ولنتربّص به صروف الدهر وأحداثه فسيكون حاله حال زهير والنابغة وأضرابهم ممّن انقرضوا وصاروا كأمس الدابر.

وقد ردّ سبحانه على تلك التهمة يأمر نبيّه بقوله:( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُتَرَبِّصِينَ *أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَٰذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ *أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ *فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) ( الطور / ٣١ ـ ٣٤ ).

١٤٧

إنّ الله سبحانه أمر النبي أن يتهدّدهم ويتوعّدهم باُمور:

أ ـ( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُتَرَبِّصِينَ ) : انتظروا وتمهّلوا في ريب المنون فإنّي متربّص معكم منتظر قضاء الله فيّ وفيكم وستعلمون لمن تكون حسن العاقبة والظفر في الدّنيا والآخرة.

ب ـ( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَٰذَا ) ؟ أي هل تأمرهم عقولهم بنشر هذه التّهمة، فإنّ التهم الثلاث لا تجتمع بحسب مدّعاهم في آن واحد، فإنّ المجنون من زال تعقّله وإدراكه، فكيف يقوىٰ على إنشاء الشعر الرصين، وكيف يكون قوله حجّة في الإخبار عن المغيّبات ؟.

وقصارى القول: إنّ هؤلاء المتحاملين كانوا قد فقدوا رشدهم فأخذوا يتخبّطون في تهمهم وكلامهم من دون وعي.

ج ـ( أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) : بل الحقّ، إنّ الذي حملهم على ما يقولون هو عنادهم وعتوّهم عن الحقّ وطغيانهم.

د ـ( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ) أي أنّ عقولهم لم تأمرهم بهذا ولم تدعهم إليه بل حملهم الطغيان على تكذيبك، ولأجل ذلك يقولون: افتعل القرآن من تلقاء نفسه.

ه‍ ـ( بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ ) أي قصارى القول: إنّهم لا يؤمنون ولا يصدّقون بذلك عناداً وحسداً واستكباراً، وإنّما هذه تهم اتّخذوها ذريعة إلى التمويه وستروا بها عداءهم وعنادهم.

و ـ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) أي إن كان شاعراً فلديكم الشعراء الفصحاء، أو كاهناً فلديكم الكهّان الأذكياء، وإن كان قد تقوّله فلديكم الخطباء الّذين يحضرون الخطب ويجيدون إنشاء القول في كلّ فنون الكلام، فليأتوا بمثل هذا القرآن إن كانوا صادقين فيما يزعمون، فإنّ أسباب التحدّي بالقول متوفّرة لديكم كما هي متوّفّرة لديه، بل فيكم من طالت مزاولته للخطب والأشعار وكثرة الممارسة لأساليب النظم والنثر وحفظ أيّام العرب ووقائعها أكثر من محمّد ( صلى الله عليه وآله

١٤٨

وسلم )(١) .

وقال سبحانه ردّاً على هذه الفرية:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) ( يس / ٦٩ ) فأين القرآن من الشعر وأين محمّد من الشعراء ؟.

١٠ ـ أضغاث أحلام : والمراد منه تخاليط أحلام رآها في المنام، ويحكي عنهم سبحانه بقوله:( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَٰذَا إلّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ *قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) ( الأنبياء / ٣ ـ ٥ ).

بيّن سبحانه في هاتين الآيتين اقتسامهم القول في النبيّ، فقال بعضهم أخلاط أحلام قد رآها في النوم، وقال آخرون: بل إختلقه من تلقاء نفسه ونسبه إلى الله، وقال قوم: بل هو شاعر وما أتى به شعر، يخيّل إلى السامع معاني لا حقيقة لها، مضافاً إلى أنّهم استبعدوا أن يكون بشر مثلهم نبيّاً.

وهذا الإضطراب والتردّد في القول دأب المحجوج المغلوب على أمره، لا يتردّد إلّا بين باطل وأبطل ويتذبذب بين فاسد وأفسد منه.

فلو بنىٰ على تحليل القرآن بواحد من هذه الوجوه، فكونه سحراً ـ مع كونه فاسداً ـ أقرب من كونه أضغاث أحلام، فأين هذا النظم البديع من تخاليط الكلام التي لا تضبط ؟ وادّعاء كونها مفتريات أبعد وأبعد، لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد اشتهر بالأمانة والصدق، مضافاً إلى أنّهم أعرف النّاس بالفرق بين النظم والنثر، فكيف يصفونه بالشعر ؟ كما أنّهم يفرّقون بين الغايات التي يصاغ له الشعر والغايات التي يشدها القرآن كيف يتّهمونه بالشعر مع أنّهم يعلمون أنّه لم ينشد شعراً وما اجتمع بالشعراء ولا حام حوله مدىٰ أربعين سنة ؟(٢) .

__________________

(١) تفسير المراغي: ج ٢٥ ص ٣٢.

(٢) تفسير المراغي: ج ١٧ ص ٧.

١٤٩

إنّ المتمعّن في أحوال النبيّ ينتهي من خلال هذه التهم إلى أنّه كان رجلاً صالحاً طاهراً ديّناً عفيفاً نقي الجيب مأموناً على المال والعرض والنفس، لم يدنّس نفسه بفاحشة ولم يتجاوز حقّ أحد قط بل كانت حياته حياة إنسان مثالي، فلأجل ذلك لم يجد الأعداء سبيلاً إلى رميه بهذه التهم، فحاولوا أن يتّهموه باُمور نفسيّة يعسر إثباتها كما يعسر نفيها، وأمّا انّهم كيف اتّهموه بالسحر ؟ فيقول ابن هشام:

« إنّ الوليد بن المغيرة إجتمع إليه نفر من قريش فقال: إنّه قد حضر الموسم، وإنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً، قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأياً نقول به، قال: بل أنتم فقولوا وأسمع، قالوا: نقول كاهن، قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، قالوا فنقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال: والله إنّ لقوله لحلاوة، وإنّ أصله لعذق، وإنّ فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلّا عرف أنّه باطل، وانّ أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرّق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرّقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل النّاس حين قدموا الموسم، لا يمرّ بهم أحد إلّا حذّروه إيّاه، وذكروا لهم أمره. فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة في ذلك من قوله:( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا *وَبَنِينَ شُهُودًا *وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا *ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ *كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا ) أي خصيماً( سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا *إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ *فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ نَظَرَ *ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ *ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ *فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إلّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ *إِنْ هَٰذَا إلّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) ( المدّثّر / ١١ ـ ٢٥ ).

١٥٠

وأنزل الله في النفر الذين كانوا يصنّفون القول في رسول الله وفيما جاء به من الله تعالى:( كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ *الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ *فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( الحجر / ٩٠ ـ ٩٣ )(١) .

* * *

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٢٧٠.

١٥١

ب ـ الاستنكار والاحتجاج بالاُمور الواهية

قد اطّلعت على الظنون والشبهات التي نسجها القوم على منوال التّهم وعرفت إجابة القرآن عنها، فهلمّ معي ندرس إستنكارات القوم الباطلة التي جعلوها سدّاً في وجه الإذعان برسالته، وهاتيك الإحتجاجات وإن كانت قد صدرت من أفواه رجال طعنوا في السن ولكنّها أشبه شيء بمنطق الّذين لا يعون ما يقولونه وإليك سردها واحدة واحدة:

١ ـ لماذا لم ينزل القرآن على رجل مُثْرٍ ؟!

إنّ الوليد بن المغيرة كان رجلاً مثرياً معروفاً في مكّة ومثله عروة بن مسعود الثقفي في الطائف، فكان من حججهم الواهية على النّبي أنّه لماذا لم ينزل ما تدّعيه من القرآن عليهما ونزل عليك ؟ فهما مثريان وأنت معوز فقير، فبما أنّ الرجلين كانا عظيمي قومهما ومن أصحاب الأموال الطائلة في البلدين، فدخلت الشبهة عليهم حتّى اعتقدوا أنّ من كان كذلك فهو أولى بالنبوّة. قال سبحانه حاكياً عنهم:( لَوْلا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ( الزخرف / ٣١ ) فهؤلاء وإن كانوا صادقين في أنّ شأن القرآن أن ينزل على من له مكانة مرموقة يمتاز بها عن الآخرين، ولكنّهم أخطأوا في جعل السموّ والعظمة في الثروة والمال لأنّ نزول الوحي رهن كون المنزول عليه رجلاً تقيّاً طاهر النفس، صامداً في تحمّل أعباء الرسالة الإلهيّة، لا يخاف من مواجهة الملك، ولا يخفى عليك أنّه لا صلة لهذه الشروط بالغنى والفقر، أو الثروة وخلّو اليد، والقرآن يردّ على تلك الفرية بقوله:( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ

١٥٢

بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) ( الزخرف / ٣٢ ) والمعنى أنّهم لا يملكون النبوّة الّتي هي رحمة الله ولطفه الّذي يختصّ به من يشاء من عباده حتّى يمنعوك منها، فيعطوها من شاؤوا، فهم عاجزون عن قسمة ما هو دون النبوّة بمراحل وهو معيشتهم في الحياة الدّنيا فنحن قسّمناها بينهم، فكيف يتدخّلون فيما هو أرفع منزلة منها بما لا يقدّر قدره، ألا وهي النبوّة الّتي هي من شؤون الباري جلّ وعلا ؟

٢ ـ الرسالة الإلهيّة فوق طاقة البشر

كان عرب الجاهليّة يزعمون: انّ الرسالة الإلهيّة فوق قدرة البشر وإنّما هي شؤون الملك، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَٰذَا إلّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ) ( الأنبياء / ٣ ) وقال سبحانه:( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَىٰ إلّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً ) ( الاسراء / ٩٤ ) ويظهر من غير واحد من الآيات أنّ تلك الظاهرة الفكرية كانت تدور في أذهان أقوام نوح وثمود وعاد من قبل، حيث اعترضوا على رسلهم بأنّهم بشر مثلهم، قال سبحانه حاكياً عنهم:( قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إلّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ *قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إلّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) ( إبراهيم / ١٠ و ١١ ) ويلوح من بعض الآيات أنّ بعض اليهود المعاصرين للنبيّ الأكرم كانوا يتذرّعون بهذه الحجّة الواهية كما يحكي عنهم بقوله:( وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ) يقولون ذلك بصلافة ووقاحة في الوقت الذي كانوا يعتقدون بنبوّة موسى وكتابه، وإليه يشير قوله سبحانه:( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ) ( الأنعام / ٩١ ).

والقوم على جهل بسر لزوم كون الرسول بشراً لا ملكاً، ولو كانوا على إحاطة به ومنصفين في الحكم لما احتجّوا بمثل تلك الحجّة الواهية، إذ يترتّب على وجود المماثلة النوعية بين الرسول والمرسل إليه ما لا يترتّب على عدمها وذلك لاُمور:

١٥٣

أوّلاً: المسانخة والمماثلة أساس ترتكز عليه القيادة، فلو عدمت لانتّفت الغاية المنشودة، فإنّ القائد إذا كان مشاكلاً للمقود يكون واقفاً على حدود طاقات المرسل إليهم وغرائزهم وطبائعهم وميولهم، فيبادر إلى معالجة ما يعانونه من تخلّف وجهل وانحطاط كما يقوم بتنمية طاقاتهم واستعداداتهم في مجالي المادة والمعنى، إذ يحسّ منهم ما يحسّ من نفسه، فأين طبيعة الملك من فطرة الإنسان، فالملك مخلوق على نمط خاص لا يحيد عنه فلا يتمكّن من العصيان، وأمّا البشر فقد خلق مخيّراً بين الطاعة والمخالفة إن شاء إمتثل وآمن، وإن شاء إرتدّ وكفر.

وبعبارة ثانية: إنّ الإنسان جبل على غرائز متضادّة سائدة عليه، ففيه الشهوة والغضب وهما من الميول السفلية في كيان ذاته، كما فيه الميول العلوية التي تجرّه إلى الخير والإحسان والتجافي عن الطبيعة والتوجّه إلى ما وراءها، فالإنسان المثالي هو من يقوم بتعديل تلك الفطريّات المتضادّة، وأمّا الملك فقد جبل على سلوك الخير والطاعة، فلا يقدر على الخلاف والعصيان، فهل يدرك هذا الموجود المفارق موقف الإنسان الذي خلق هلوعاً.

وثانياً: إنّ القائد كما يهدي بكلامه ومقاله، يهدي بفعله وعمله، فهو قدوة في مجالي القول والعمل، والدعوة بالفعل أرسخ في القلوب من الدعوة بالقول، وهذا يقتضي وجود السنخيّة بين الرسول والمرسل إليهم حتّى يكون الرسول في الغرائز الباعثة إلى الشرّ والعصيان، مثل المرسل إليهم في ذلك المجال، وبالتالي يكون سلوكه طريق الخير والصلاح حجّة على المرسل إليهم، ولولا السنخيّة لما تمّت الحجّة وبقى مجال للإعتراض.

وإلى بعض ما ذكرنا يمكن أن يشير قوله سبحانه:( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَىٰ إلّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً *قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولاً ) ( الأسراء / ٩٤ و ٩٥ ) أي لو وجد

١٥٤

في الأرض ملائكة يمشون كما يمشي البشر، ويقيمون فيها كما يقيم ويسهل الإجتماع يهم، وتلقّي الشرائع منهم، لنزّلنا عليهم من السماء رسلاً من الملائكة للهداية والإرشاد وتعليم الناس ما يجب عليهم تعلّمه، ولكن طبيعة الملك لا تصلح للإجتماع بالبشر، فلا يسهل عليهم التخاطب والتفاهم معهم، لبعد ما بين الملك وبينهم، ومن ثمّ لم نبعث ملائكة، بل بعثنا خواص البشر، لأنّ الله قدوهبهم نفوساً زكيّة، وأيّدهم بأرواح قدسية، وجعل لهم ناحية ملكية بها يستطيعون أن يتلقّوا من الملائكة، وناحية بشرية بها يبلّغون رسالات ربّهم إلى عباده(١) .

وقد نبّه سبحانه إلى عظيم هذه الحكمة وجليل تلك النعمة بقوله:( لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ( آل عمران / ١٦٤ ) وقوله:( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / ١٢٨ ). وقوله:( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة / ١٥١ ) إلى غير ذلك من الآيات التي وقع التنصيص فيها بكون الرسول من جنس البشر.

٣ ـ نبذ سنّة الآباء:

التشبّث بسيرة الآباء من الاُمور الجبليّة للبشر، خصوصاً فيمن يعيش في واحات الصحراء بعيداً عن الحضارة واسبابها، فقد كان العرب متعصّبين على مسلك آبائهم تعصّباً حال بينهم وبين الإيمان بالرسول بحجّة أنّه يدعوا إلى خلاف سيرة آبائهم، وفي ذلك يقول سبحانه:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللهُ وإلى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ) ( المائدة / ١٠٤ ) وقد عرفت الكلام في ذلك عند البحث عن الدوافع الروحيّة التي منعتهم عن الإيمان إجمالاً.

__________________

(١) تفسير المراغي: ج ١٥ ص ٩٧.

١٥٥

وعلى ضوء ذلك كانوا يتعجّبون من جعل الآلهة المتعدّدة إلهاً واحداً، فقدكان للعرب أصنام منصوبة على سطح الكعبة، كاللّات والعزّى وهبل، ويعكفون على عبادتها، فقال لهم النبي: يا معشر العرب، أدعوكم إلى عبادة الله، وخلع الأنداد والأصنام، وأدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلّا الله، فقالوا: أنَدَع ثلاث مائة وستين إلٰهاً ونعبد إلهاً واحداً، وإليه الإشارة في قوله سبحانه:( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ *أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ( ص / ٤ و ٥ )(١) .

روى المفسّرون أنّ أشراف قريش وهم خمسة وعشرون منهم: الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم، وأبوجهل، واُبي واُميّة ابنا خلف، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والنضر بن الحارث، أتوا أبا طالب، وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فإنّه سفّه أحلامنا وشتم آلهتنا، فدعا أبو طالب رسول الله وقال: يا بن أخي هؤلاء قومك يسألونك، فقال: ماذا يسألونني ؟ قالوا: دعنا وآلهتنا، ندعك والٰهك، فقال: أتعطوني كلمة تملكون بها العرب والعجم ؟ فقال أبو جهل: لله أبوك، نعطيك ذلك عشر أمثالها، فقال: قولوا لا إله إلّا الله، فقاموا وقالوا: أجعل الآلهة إلٰهاً واحداً، وروي أنّ النبي استعبر ثمّ قال: يا عمّ والله لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو اُقتل دونه، فقال له أبو طالب: إمض لأمرك فوالله لا أخذلُك أبداً(٢) .

٤ ـ الدعوة إلى الحياة الاُخروية

كانت عرب الجاهلية خصوصاً المترفين منهم يخافون من سماع أخبار البعث والنشور، وأنّ الإنسان سيبعث بعد موته ويحاسب ويجزى حسب أعماله، وكان

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب: ج ١ ص ٤٩، بحار الأنوار: ج ١٨ ص ١١٥، ولاحظ تاريخ الطبري: ج ٢ ص ٦٦.

(٢) مجمع البيان: ج ٨ ص ٤٦٥.

١٥٦

هذا أحد الدوافع للإعراض عن الدعوة، وقد جاء في الذكر الحكيم ما ذكروه في هذا المجال من الحجج الواهية، وسنوافيك به عند البحث عن المعاد في الذكر الحكيم ونكتفي في هذا المقام ببعض الآيات، فقال سبحانه:( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ( السجدة / ١٠ )، وقال سبحانه:( وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) ( الإسراء / ٩٨ )، وقال سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ( سبأ / ٧ ).

وتعرب الآية الاُولى عن أنّهم كانوا يظنّون أنّ الموت إفناء للإنسان واعدام واضمحلال له، فكيف يمكن إحياؤه ثانياً ؟ والقرآن يجيب عنه بقوله سبحانه:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) ( السجدة / ١١ ). إنّ الوفاء في الآية بمعنى الأخذ، وحاصل الجواب: انّ ملك الموت الذي وكّل بكم يأخذكم فلا تضلّون في الأرض ثمّ إلى ربّكم ترجعون.

وبعبارة ثانية: إنّ الإنسان مركّب من جسم وروح فما يبقى في الأرض هو جسمه وليس حقيقته وواقعيّته، وأمّا حقيقة الإنسان فهي روحه ونفسه وهي محفوظة عندنا يأخذها ملك الموت فما بقي فهو غير حقيقته، وما هو واقعية الإنسان ( الروح )، والنفس فهي محفوظة عند الله غير ضالة في الأرض.

قال العلّامة الطباطبائي: « أمر سبحانه رسوله أن يجيب عن حجّتهم المبنيّة على الاسبتعاد بأنّ حقيقة الموت ليس بطلاناً لكم وضلالاً منكم في الأرض، بل ملك الموت الموكّل بكم يأخذكم تامّين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم بمعنى قطع علاقتها من الأبدان، وأرواحكم تمام حقيقتكم، فأنتم أي ما يعني لفطة « كم » محفوظون لا يضل منكم شيء من الأرض، وإنّما تضلّ الأبدان وتتغيّر من حال إلى حال، وقد كانت في معرض التغيّر من أوّل كينونتها، ثمّ إنّكم محفوظون حتّى ترجعوا إلى ربّكم بالبعث ورجوع الأرواح إلى أجسادها »(١) .

__________________

(١) الميزان: ج ١٦ ص ٢٥٢.

١٥٧

وتعرب الآية الثانية عن أنّ سبب الإنكار هو تخيّل قصور القدرة وعدم إمكان البعث، فكيف يمكن إحياء العظام الرميمة ؟ فردّ عليه سبحانه بقوله:( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) ( الإسراء / ٩٩ ) فليس إحياء العظام الرميمة أكبر وأعظم من خلق السموات والأرض، فالقادر على خلقهما قادر على إحيائهم من جديد(١) .

٥ ـ طلب المشاركة في امتيازات النبوّة

كان المشركون - لأجل قصور معارفهم عن درك مقام النبوّة السامي- يطلبون المشاركة في أمر النبوّة، فكان الوليد بن المغيرة يقول: لو كانت النبوّة حقّاً لكنت أولى بها منك، لأنّي أكبر سنّا واكثر منك مالاً ! وقال أبوجهل: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى صرنا كفرسي رهان. قالوا منّا نبيّ يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً إلّا أن يأتينا وحي كما يأتيه(٢) .

وإلى هذه الحجّة الواهية يشير قوله سبحانه حاكياً عنهم:( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) ( الأنعام / ١٢٤ ).

إنّ كلامهم هذا ينمّ عن حقد دفين وعناد مستبطن فردّ عليهم سبحانه بقوله:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الأنعام / ١٢٤ ). فهو سبحانه أعلم منهم ومن جميع الخلق بمن يصلح لتنفيذ رسالاته، ويعلم من له الأهلية بتحمّل أعباء الرسالة.

٦ ـ المطالبة بمثل ما اُوتي سائر الرسل

كان المشركون المتواجدون في عصر الرسالة بلغ مسامعهم بأنّ الكليم موسى

__________________

(١) قد جمعنا مجموع شبهاتهم الواهية في إمكان المعاد وتحقّقه في الجزء المختص بالمعاد وقد إكتفينا بهذا المقدار هنا روماً للإختصار.

(٢) مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٦٢ ( ط صيدا ).

١٥٨

بعث بمعاجز مثل العصا إذا رمى بها في مجال التحدّي تنقلب ثعباناً، وبإدخال اليد في الجيب إذا أخرجها منه تكون بيضاء للناظرين، فاعترضوا عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه يجب أن تكون حجّة رسالته كحجج الكليم موسىعليه‌السلام وقد حكى ذلك منهم سبحانه بقوله:( فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ ) ( القصص / ٤٨ ).

وفي آية اُخرى:( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( الأنعام / ٣٧ ). وربّما يحتجّ بهذا الإعتراض من في قلبه مرض من المستشرقين، فيجب علينا تناوله بشيء من الدراسة والتحليل لرفع ما فيه من الإيهام والإبهام وذلك من خلال جوابين مستفادين من القرآن الكريم:

أ ـ إنّ هذا الإعتراض كان لمحض إختلاق المعاذير، والشاهد على ذلك أنّ هؤلاء المشركين وصفوا ما اُوتي الكليم بالسحر أيضاً، فقد روى المفسّرون أنّ المشركين بعثوا رهطاً إلى رؤوس اليهود في عيد لهم فسألوهم عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبروهم بنعته وصفته في كتابهم التوراة، فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك:( سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) وإليه يشير قوله سبحانه:( أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ) ( القصص / ٤٨ ).

ويظهر من الآيات الواردة بعد هذه الآية أنّهم رجعوا إلى أهل الكتاب واستفتوهم في أمره وعرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه، فأجابوا عنه بتصديقه والإيمان به، فساء ذلك المشركين واُغلظ عليهم بالقول واعرض الكتابيّون عنهم وقالوا: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين. قال سبحانه:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ *وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ ) ( القصص / ٥٢ ـ ٥٥ )(١) .

__________________

(١) لاحظ التفاسير.

١٥٩

ب ـ إنّ هؤلاء جاهلون بالحكمة في إختلاف المعاجز والآيات التي تنزل على أنبياء الله تعالى ويزعمون أنّه يجب أن تكون معاجز الجميع على حد سواء مع أنّ المصالح تقتضي أن تختلف معاجز الأنبياء ذاتاً وسنخاً حتى تتم الحجّة على المرسل إليهم، وتفصيل القول في ذلك أنّه يجب أن تكون معجزة كل نبي مجانسة للفن الرائج في عصره حتى إذا عرضت على مهرة ذلك الفن وخبرائه، أذعنوا بتفوّقه على قدراتهم وطاقاتهم، والذي جاء به مدّعي النبوّة فوق حدود العلم والفن الذي تمرّسوا فيه، وهذا يقتضي كون المعجزة مسانخة لما برعوا فيه في ذلك العصر إذ لوكان مغايراً ومفارقاً لما تمّت الحجة ولما اُلزموا بها إذ بوسعهم أن يعترضوا ويقولون: لا خبرة بشأن ما اُتيت به، فكيف لنا التحدّي والمناجزة أو التصديق بأنّ ما جئت به معجزة إلهية تفوق قدرة البشر، فاقتضت المصلحة تسانخ المعاجز للفنون الرائجة في عصر كل نبي.

وقد بلغ فن السحر والشعبذة في عصر الكليم موسى الذروة والقمّة كما اكتسب الطب في عصر المسيح أهميّة بالغة، فجاء الكليم موسى بالعصا واليد البيضاء فأبطل سحرهم وأثبت أنّ ما أتى به معجزة تفوق حد السحر وإن كان بينهما مشاكلة في الصورة ولكنّها تباينه بالذات، كما أنّ المسيح بابراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى كان قد أثبت أنّ ما أتى به فوق علمهم وطاقتهم وبراعتهم، وخارج عن الموازين الطبيعية التي كانوا يعتمدونها في الإبراء والمداواة.

فنفس تلك المصلحة تتطلّب أن تكون معجزة النبي الأكرم مشابهة لما برع فيه العرب في العصر الجاهلي لأنّه كان قد راج بينهم إنشاء الخطب البليغة الفصيحة ونظم الشعر والتحدّي بينهم في ذلك، فجاء بكتاب متحدّياً بصريح نصّه:( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٢٣ و ٢٤ ).

وإلى هذا الجواب يشير قوله سبحانه في ذيل الآية التي نبحث عنها:

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581