مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265522 / تحميل: 6065
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

للحيلولة دون بلوغ أهدافه التي كان يطمح لإقرارها وتثبيت اُسسها في برهة زمنية قياسية، فكانت لهم ردود فعل مثبّطة نشير إليها.

قد وقفت على الدوافع الروحية الباعثة على مخالفة النبي الأكرم غير أنّها تبلورت في الاُمور التالية:

١ ـ إكالة التهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ ـ الاستنكار والاحتجاج بالاُمور الواهية.

٣ ـ الاقتراحات الباطلة كشروط لقبول الرسالة.

٤ ـ ايقاع الأذىٰ على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه.

وإليك بيان هذه الاُمور واحداً تلو الآخر حسبما يستفاد من آيات القرآن الكريم:

١٤١

الف ـ اكالة التهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله

كان أسلوب تحطيم الشخصيات عن طريق إكالة التّهم إليهم أقدم حربة بيد الجهّال يطعنون بها على المصلحين، وقد إستعملها مشركوا عصر الرسالة في بدء الدعوة ولم تكن الفرص تسنح لهم بقتله واغتياله، فحاولوا إغتيال شخصيّته ليسقطوه عن أعين الناس، فإنّ نجاح المصلح في نشر دعوته يكمن في اتّسامه بالقداسة والطهارة والعقلية الرزينة، فلو افتقد المصلح تلك ـ السمات عن طريق الاتّهام بما يضادها ـ ذهب سعيه أدراج الرياح وأصبحت جهوده سدىٰ، فلأجل ذلك إختارت قريش القيام بشنّ حرب نفسيّة ضروس لا هوادة فيها للحطّ من قيمته وكرامته والحيلولة دون نفوذ كلمته.

ولكنّهم مهما بذلوا من جهود لإنجاح مؤامراتهم لم تتجاوز تهمهم عن الكهانة والسحر والجنون وأشباهها لأنّ النّبي قد كان في الطهارة النفسيّة والأمانة المالية وسائر الصفات الكريمة على حدّ حال دون إلصاق تهم اُخرى به ككونه خائناً سارقاً قاتلاً غير عفيف، وهذا أحد الدلائل البارزة المشرقة على أنّه كان فوق التهم المشينة المزرية، وكانت حياته طيلة أربعين سنة مقرونة بالصلاح والفلاح والأمانة، ولو كانت هناك أرضية صالحة لتوصيف النبيّ بها، لما أمسكوا عنها.

نعم قام العدو باتّهامه باُمور يشكل اثباتها كما يشكل نفيها عن المتهم، وهذه هي الطريقة المألوفة عند بني الشياطين لمس كرامة المصلحين حيث يشنّون عليهم بمثل هذه التّهم لغاية إسقاطهم عن أعين النّاس. يقول سبحانه:( كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إلّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) ( الذاريات / ٥٢ ).

١٤٢

هكذا كانت سيرة الأعداء في طرد المصلحين عن الساحة.

ثمّ إنّ التّهم الّتي حكاها القرآن عن لسان أعداء النبيّ تتلخّص في العناوين التالية:

١ ـ الكهانة: وهي في اللغة عبارة عن اتّصال الإنسان بالجن ليتلقّى منهم أنباء الماضين وأخبار اللّاحقين ومن خلالها يتمكّن من التنبّؤ بالمستقبل، يقول سبحانه مشيراً إلى تلك التّهمة وردّها:( وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ) ( الحاقة / ٤٢ ).

٢ ـ السحر: وهو قوّة نفسانيّة للساحر يقدر معها على إنجاز اُمور خارقة للعادة مموّهة، ومن تلك الاُمور التفريق بين المرء وزوجته والوالد وولده بل بين أفراد العائلة كافّة. قال سبحانه:( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) ( ص / ٤ ).

٣ ـ المسحورية: والمراد منه تأثّره بسحر الآخرين، وأنّ هناك ساحراً أو سحرة سحروا النبيّ وأثّروا فيه. يقول سبحانه حاكياً عن المشركين:( إِن تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلاً مَّسْحُورًا ) ( الفرقان / ٨ ). ثمّ يردّه بقوله سبحانه:( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) ( الفرقان / ٩ ) والمراد من قوله( ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ ) أي وصفوك بالمسحورية، وقد اتّهم بنفس تلك التهمة النبيّ صالح. قال سبحانه حاكياً عن أعدائه:( قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ ) ( الشعراء / ١٥٣ ) وممّا يجدر ذكره أنّ اتّهام النبيّ بالمسحورية ليست تهمة مستقلّة تغاير الجنون جوهراً بل هي نفس التهمة ولكنّها صيغت بلفظ أكثر أدباً، وهذه شيمة الدهاة حيث يمزجون السم بالعسل.

٤ ـ الجنون: ومفهومه غني عن البيان وقد مضى أنّها تهمة شائعة تُلصق بالمصلحين من جانب خصومهم من غير فرق بين النبيّ وغيره، وبين نبيّنا وسائر الأنبياء كما عرفت(١) . قال سبحانه نقلاً عن المشركين:( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( الحجر / ٦ )، قال تعالى:( وَمَا صَاحِبُكُم

__________________

(١) الذاريات / ٥٢.

١٤٣

بِمَجْنُونٍ ) ( التكوير / ٢٢ )، وقال عزّ من قائل:( فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ) ( الطور / ٢٩ ) والمبرّر لهم بوصفه بالجنون ومؤاخذتهم له، وقوفه لوحده في وجه الرأي العام المتمثّل في الشرك. والسذّج من النّاس يصفون من يتبنّىٰ الفكر الذي لا يوافقه عليه الرأي العام وهو يريد تطبيقه في المجتمع، بأَنّه مجنون لا يعرف قدر نفسه ومنزلته وسوف يهدر دمه لا محالة.

ما أسخف هذه التهم إذ كيف يتّهمون من هو أرجحهم عقلاً وأبينهم قولاً منذ ترعرع إلى أن بلغ أشدّه بالجنون والكهانة مضافاً إلى ما في هذا من التناقض والإضطراب، فإنّ الكهنة كانوا من الطبقة العليا بين الناس يرجع إليهم القوم في المشاكل والمعضلات وأين هو من الجنون ؟ فكيف جمعوا بين كونه كاهناً ومجنوناً ؟

ولقد لمسنا ذلك في حياتنا القصيرة في مجتمعنا ورأينا كيف رمي رجال الإصلاح بنظائر هذه التهم وما ذلك إلّا لأنّهم قاموا في وجه المستعمرين والناهبين لثروة أقطار العالم الإسلامي، فما كان نصيبهم جرّاء مقاومتهم تلك، إلّا اتّهامهم بالجنون والتدهور العقلي، والغربة عن الواقع والحياة.

٥ ـ التعلّم من الغير: إنّ أعداء النبيّ من قريش وغيرهم وقفوا على مدى عظمة تعاليمه وسموّها، ولكن الحالة النفسية قد صدّتهم عن تصديق قوله والإذعان برسالته الإلهية وانتسابه إلى الوحي والسماء، فقاموا بتزوير آخر وهو أنّه مُعَلّم، قد تلقّى تعاليمه من غيره. يقول سبحانه:( وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ *ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ) ( الدخان / ١٣ و ١٤ ).

وأمّا من هو المعلّم الذي كان قد علّم النبي وغذّاه بتلك المبادئ والقيم فلم يذكروه، ولكن إقتران هذه التهمة بتهمة الجنون يدلّ على أنّ المعلّم المزعوم هو الجن فهو عن طريق صلته بهم تلقّى رسالته عنهم ـ وبالتالي ـ اُصيب في عقله فصار معلّماً مجنوناً بزعمهم.

وهناك إحتمال آخر وهو أنّه تلقّى مبادئه عن بشر آخر، وقد اُشير إليه في قوله

١٤٤

سبحانه:( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل / ١٠٣ ).

قال ابن عباس: قالت قريش: إنّما يعلّمه بلعام ( وكان قينا بمكّة روميّاً نصرانياً ) وقال الضحّاك: أرادوا به سلمان الفارسي(١) قالوا إنّه يتعلّم القصص منه، وقال مجاهد وقتاده: أرادوا به عبداً لبني الحضرمي روميّاً يقال له يعيش أو عائش صاحب كتاب، أسلم وحسن إسلامه، وقال عبد الله بن مسلم: كان غلامان في الجاهلية نصرانيّان من أهل عين التمر، اسم أحدهما يسار واسم الآخر خير، كانا صيقلين يقرءان كتاباً لهما بلسانهم وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ربّما مرّ بهما واستمع لقراءتهما، فقالوا: إنّما يتعلّم منهما، ثمّ ألزمهم الله تعالى الحجّة وأكذبهم بأن قال: لسان الذي يضيفون إليه التعليم ويميلون إليه القول، أعجميّة لا يفصح ولا يتكلّم بالعربية، فكيف يتعلّم منه من هو في أعلى طبقات البيان ؟ وهذا القرآن بلسان عربي مبين، فإذا كانت العرب تعجز عن الإتيان بمثله وهو بلغتهم فكيف يأتي الأعجمي بمثله(٢) ؟

قال ابن هشام: قالوا: إنّما يعلّمه رجل باليمامة يقال له الرحمان ولن نؤمن به أبداً، فنزل قوله سبحانه:( كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَٰنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ) ( الرعد / ٣٠ )(٣) .

روى ابن هشام: إنّ النضر بن الحارث كان إذا جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مجلساً، فدعا فيه إلى الله تعالى وتلا فيه القرآن، وحذّر فيه قريشاً ما أصاب الاُمم الخالية، خلّفه في مجلسه إذا قام، فحدّثهم عن رستم واسفنديار وملوك فارس ثمّ يقول: والله ما محمّد بأحسن حديثاً منّي وما حديثه إلّا أساطير

__________________

(١) كيف يقول ذلك مع أنّ سلمان أدرك النبي في مهجره، لا في موطنه.

(٢) مجمع البيان: ج ٣ ص ٣٨٦.

(٣) السيرة النبوية لابن هشام: ج ١ ص ٣٣١.

١٤٥

الأوّلين، اكتتبها كما اكتتبتها، فأنزل الله فيه:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً *قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان / ٥ و ٦ ).

ونزل فيه:( وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ *يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( الجاثية / ٧ )(١) .

٦ ـ كذّاب: وما وصفوه به إلّا لأجل أنّه كان يكافح عقيدتهم ويقارع دينهم. قال سبحانه حاكياً عنهم تلك التهمة:( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) ( ص / ٤ ).

فلماذا لا يكون عندهم كذّاباً وقد رفض الآلهة المتعدّدة وجعلها إلهاً واحداً. قال سبحانه حاكياً عنهم:( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ( ص / ٥ ).

٧ ـ مفتر: وإنّما وصفوه به لأنّه ينسب تعاليمه إلى السماء. يقول سبحانه حاكياً عنهم:( قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( النحل / ١٠١ ) ويقول أيضاً:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إلّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ) ( الفرقان / ٤ ). وهذه الآية تعبّر عن أنّهم كانوا يتّهمونه بأنَّ القرآن ليس من صنعه وحده بل هناك قوم أعانوه عليه، فربّما كانوا يفسّرونه بشكل آخر وهو انّ القرآن ليس شيئاً جديداً بل هي أساطير الأوّلين تملىٰ عليه بكرة وأصيلاً، كما قال سبحانه:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) .

وقد أدحض الوحي هذه التهمة وكشف عن زيفها بأمرين:

الأوّل: لو صحّ قولكم إنّ هذا الكتاب من صنع محمّد فنسبه إلى الوحي فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، فإنّه لبشر مثلكم وأنتم بشر مثله. قال سبحانه:

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ١ ص ٣٥٧.

١٤٦

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَٰهَ إلّا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ( هود / ١٣ و ١٤ ).

الثاني: كيف تقولون بأنّه استنسخ هذه الأساطير بإملاء الغير مع أنّه ما تلىٰ كتاباً، ولا خطّ صحيفة، فكيف تتّهمونه بالاستنساخ والاستكتاب ؟ قال سبحانه:( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ *بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إلّا الظَّالِمُونَ ) ( العنكبوت / ٤٨ و ٤٩ ).

٨ ـ مفتر أو مجنون: ـ على ترديد بينهما ـ ربّما كان القوم يتردّدون في توصيف النبي بين كونه عاقلاً مفترياً على الله سبحانه أو مجنوناً معدم العقل والشعور، وهذه شيمة الدهاة في استنقاص فضل الأشخاص حيث يكيلون التهم على مخالفيهم الأقوياء بلسان التردّد وعدم الجزم، لدفع نسبة شناعة التهمة عن أنفسهم كما يحكي عنهم سبحانه:( أَفْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ) ( سبأ / ٨ ).

٩ ـ شاعر: إنّ القوم كانوا اُسود الفصاحة وفرسان البلاغة وقد أدركوا بفطرتهم سموّ القرآن وعلوّ مرتبته في ذلك المجال، ومن جانب كانوا في العداء والحسد على مرتبة صدّتهم عن الاعتراف بكونه كتاباً منزّلاً من السماء، حاولوا أن يفسّروه بالشعر فوصفوه بالشاعر وقالوا:( أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ ) ( الطور / ٣٠ ) وحاصل هذه التهمة أنّه شاعر و « أعذب الشعر أكذبه »، فلنصبر عليه ولنتربّص به صروف الدهر وأحداثه فسيكون حاله حال زهير والنابغة وأضرابهم ممّن انقرضوا وصاروا كأمس الدابر.

وقد ردّ سبحانه على تلك التهمة يأمر نبيّه بقوله:( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُتَرَبِّصِينَ *أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَٰذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ *أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ *فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) ( الطور / ٣١ ـ ٣٤ ).

١٤٧

إنّ الله سبحانه أمر النبي أن يتهدّدهم ويتوعّدهم باُمور:

أ ـ( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُتَرَبِّصِينَ ) : انتظروا وتمهّلوا في ريب المنون فإنّي متربّص معكم منتظر قضاء الله فيّ وفيكم وستعلمون لمن تكون حسن العاقبة والظفر في الدّنيا والآخرة.

ب ـ( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَٰذَا ) ؟ أي هل تأمرهم عقولهم بنشر هذه التّهمة، فإنّ التهم الثلاث لا تجتمع بحسب مدّعاهم في آن واحد، فإنّ المجنون من زال تعقّله وإدراكه، فكيف يقوىٰ على إنشاء الشعر الرصين، وكيف يكون قوله حجّة في الإخبار عن المغيّبات ؟.

وقصارى القول: إنّ هؤلاء المتحاملين كانوا قد فقدوا رشدهم فأخذوا يتخبّطون في تهمهم وكلامهم من دون وعي.

ج ـ( أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) : بل الحقّ، إنّ الذي حملهم على ما يقولون هو عنادهم وعتوّهم عن الحقّ وطغيانهم.

د ـ( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ) أي أنّ عقولهم لم تأمرهم بهذا ولم تدعهم إليه بل حملهم الطغيان على تكذيبك، ولأجل ذلك يقولون: افتعل القرآن من تلقاء نفسه.

ه‍ ـ( بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ ) أي قصارى القول: إنّهم لا يؤمنون ولا يصدّقون بذلك عناداً وحسداً واستكباراً، وإنّما هذه تهم اتّخذوها ذريعة إلى التمويه وستروا بها عداءهم وعنادهم.

و ـ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) أي إن كان شاعراً فلديكم الشعراء الفصحاء، أو كاهناً فلديكم الكهّان الأذكياء، وإن كان قد تقوّله فلديكم الخطباء الّذين يحضرون الخطب ويجيدون إنشاء القول في كلّ فنون الكلام، فليأتوا بمثل هذا القرآن إن كانوا صادقين فيما يزعمون، فإنّ أسباب التحدّي بالقول متوفّرة لديكم كما هي متوّفّرة لديه، بل فيكم من طالت مزاولته للخطب والأشعار وكثرة الممارسة لأساليب النظم والنثر وحفظ أيّام العرب ووقائعها أكثر من محمّد ( صلى الله عليه وآله

١٤٨

وسلم )(١) .

وقال سبحانه ردّاً على هذه الفرية:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) ( يس / ٦٩ ) فأين القرآن من الشعر وأين محمّد من الشعراء ؟.

١٠ ـ أضغاث أحلام : والمراد منه تخاليط أحلام رآها في المنام، ويحكي عنهم سبحانه بقوله:( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَٰذَا إلّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ *قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) ( الأنبياء / ٣ ـ ٥ ).

بيّن سبحانه في هاتين الآيتين اقتسامهم القول في النبيّ، فقال بعضهم أخلاط أحلام قد رآها في النوم، وقال آخرون: بل إختلقه من تلقاء نفسه ونسبه إلى الله، وقال قوم: بل هو شاعر وما أتى به شعر، يخيّل إلى السامع معاني لا حقيقة لها، مضافاً إلى أنّهم استبعدوا أن يكون بشر مثلهم نبيّاً.

وهذا الإضطراب والتردّد في القول دأب المحجوج المغلوب على أمره، لا يتردّد إلّا بين باطل وأبطل ويتذبذب بين فاسد وأفسد منه.

فلو بنىٰ على تحليل القرآن بواحد من هذه الوجوه، فكونه سحراً ـ مع كونه فاسداً ـ أقرب من كونه أضغاث أحلام، فأين هذا النظم البديع من تخاليط الكلام التي لا تضبط ؟ وادّعاء كونها مفتريات أبعد وأبعد، لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد اشتهر بالأمانة والصدق، مضافاً إلى أنّهم أعرف النّاس بالفرق بين النظم والنثر، فكيف يصفونه بالشعر ؟ كما أنّهم يفرّقون بين الغايات التي يصاغ له الشعر والغايات التي يشدها القرآن كيف يتّهمونه بالشعر مع أنّهم يعلمون أنّه لم ينشد شعراً وما اجتمع بالشعراء ولا حام حوله مدىٰ أربعين سنة ؟(٢) .

__________________

(١) تفسير المراغي: ج ٢٥ ص ٣٢.

(٢) تفسير المراغي: ج ١٧ ص ٧.

١٤٩

إنّ المتمعّن في أحوال النبيّ ينتهي من خلال هذه التهم إلى أنّه كان رجلاً صالحاً طاهراً ديّناً عفيفاً نقي الجيب مأموناً على المال والعرض والنفس، لم يدنّس نفسه بفاحشة ولم يتجاوز حقّ أحد قط بل كانت حياته حياة إنسان مثالي، فلأجل ذلك لم يجد الأعداء سبيلاً إلى رميه بهذه التهم، فحاولوا أن يتّهموه باُمور نفسيّة يعسر إثباتها كما يعسر نفيها، وأمّا انّهم كيف اتّهموه بالسحر ؟ فيقول ابن هشام:

« إنّ الوليد بن المغيرة إجتمع إليه نفر من قريش فقال: إنّه قد حضر الموسم، وإنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً، قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأياً نقول به، قال: بل أنتم فقولوا وأسمع، قالوا: نقول كاهن، قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، قالوا فنقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال: والله إنّ لقوله لحلاوة، وإنّ أصله لعذق، وإنّ فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلّا عرف أنّه باطل، وانّ أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرّق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرّقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل النّاس حين قدموا الموسم، لا يمرّ بهم أحد إلّا حذّروه إيّاه، وذكروا لهم أمره. فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة في ذلك من قوله:( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا *وَبَنِينَ شُهُودًا *وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا *ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ *كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا ) أي خصيماً( سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا *إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ *فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ نَظَرَ *ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ *ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ *فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إلّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ *إِنْ هَٰذَا إلّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) ( المدّثّر / ١١ ـ ٢٥ ).

١٥٠

وأنزل الله في النفر الذين كانوا يصنّفون القول في رسول الله وفيما جاء به من الله تعالى:( كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ *الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ *فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( الحجر / ٩٠ ـ ٩٣ )(١) .

* * *

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٢٧٠.

١٥١

ب ـ الاستنكار والاحتجاج بالاُمور الواهية

قد اطّلعت على الظنون والشبهات التي نسجها القوم على منوال التّهم وعرفت إجابة القرآن عنها، فهلمّ معي ندرس إستنكارات القوم الباطلة التي جعلوها سدّاً في وجه الإذعان برسالته، وهاتيك الإحتجاجات وإن كانت قد صدرت من أفواه رجال طعنوا في السن ولكنّها أشبه شيء بمنطق الّذين لا يعون ما يقولونه وإليك سردها واحدة واحدة:

١ ـ لماذا لم ينزل القرآن على رجل مُثْرٍ ؟!

إنّ الوليد بن المغيرة كان رجلاً مثرياً معروفاً في مكّة ومثله عروة بن مسعود الثقفي في الطائف، فكان من حججهم الواهية على النّبي أنّه لماذا لم ينزل ما تدّعيه من القرآن عليهما ونزل عليك ؟ فهما مثريان وأنت معوز فقير، فبما أنّ الرجلين كانا عظيمي قومهما ومن أصحاب الأموال الطائلة في البلدين، فدخلت الشبهة عليهم حتّى اعتقدوا أنّ من كان كذلك فهو أولى بالنبوّة. قال سبحانه حاكياً عنهم:( لَوْلا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ( الزخرف / ٣١ ) فهؤلاء وإن كانوا صادقين في أنّ شأن القرآن أن ينزل على من له مكانة مرموقة يمتاز بها عن الآخرين، ولكنّهم أخطأوا في جعل السموّ والعظمة في الثروة والمال لأنّ نزول الوحي رهن كون المنزول عليه رجلاً تقيّاً طاهر النفس، صامداً في تحمّل أعباء الرسالة الإلهيّة، لا يخاف من مواجهة الملك، ولا يخفى عليك أنّه لا صلة لهذه الشروط بالغنى والفقر، أو الثروة وخلّو اليد، والقرآن يردّ على تلك الفرية بقوله:( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ

١٥٢

بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) ( الزخرف / ٣٢ ) والمعنى أنّهم لا يملكون النبوّة الّتي هي رحمة الله ولطفه الّذي يختصّ به من يشاء من عباده حتّى يمنعوك منها، فيعطوها من شاؤوا، فهم عاجزون عن قسمة ما هو دون النبوّة بمراحل وهو معيشتهم في الحياة الدّنيا فنحن قسّمناها بينهم، فكيف يتدخّلون فيما هو أرفع منزلة منها بما لا يقدّر قدره، ألا وهي النبوّة الّتي هي من شؤون الباري جلّ وعلا ؟

٢ ـ الرسالة الإلهيّة فوق طاقة البشر

كان عرب الجاهليّة يزعمون: انّ الرسالة الإلهيّة فوق قدرة البشر وإنّما هي شؤون الملك، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَٰذَا إلّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ) ( الأنبياء / ٣ ) وقال سبحانه:( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَىٰ إلّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً ) ( الاسراء / ٩٤ ) ويظهر من غير واحد من الآيات أنّ تلك الظاهرة الفكرية كانت تدور في أذهان أقوام نوح وثمود وعاد من قبل، حيث اعترضوا على رسلهم بأنّهم بشر مثلهم، قال سبحانه حاكياً عنهم:( قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إلّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ *قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إلّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) ( إبراهيم / ١٠ و ١١ ) ويلوح من بعض الآيات أنّ بعض اليهود المعاصرين للنبيّ الأكرم كانوا يتذرّعون بهذه الحجّة الواهية كما يحكي عنهم بقوله:( وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ) يقولون ذلك بصلافة ووقاحة في الوقت الذي كانوا يعتقدون بنبوّة موسى وكتابه، وإليه يشير قوله سبحانه:( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ) ( الأنعام / ٩١ ).

والقوم على جهل بسر لزوم كون الرسول بشراً لا ملكاً، ولو كانوا على إحاطة به ومنصفين في الحكم لما احتجّوا بمثل تلك الحجّة الواهية، إذ يترتّب على وجود المماثلة النوعية بين الرسول والمرسل إليه ما لا يترتّب على عدمها وذلك لاُمور:

١٥٣

أوّلاً: المسانخة والمماثلة أساس ترتكز عليه القيادة، فلو عدمت لانتّفت الغاية المنشودة، فإنّ القائد إذا كان مشاكلاً للمقود يكون واقفاً على حدود طاقات المرسل إليهم وغرائزهم وطبائعهم وميولهم، فيبادر إلى معالجة ما يعانونه من تخلّف وجهل وانحطاط كما يقوم بتنمية طاقاتهم واستعداداتهم في مجالي المادة والمعنى، إذ يحسّ منهم ما يحسّ من نفسه، فأين طبيعة الملك من فطرة الإنسان، فالملك مخلوق على نمط خاص لا يحيد عنه فلا يتمكّن من العصيان، وأمّا البشر فقد خلق مخيّراً بين الطاعة والمخالفة إن شاء إمتثل وآمن، وإن شاء إرتدّ وكفر.

وبعبارة ثانية: إنّ الإنسان جبل على غرائز متضادّة سائدة عليه، ففيه الشهوة والغضب وهما من الميول السفلية في كيان ذاته، كما فيه الميول العلوية التي تجرّه إلى الخير والإحسان والتجافي عن الطبيعة والتوجّه إلى ما وراءها، فالإنسان المثالي هو من يقوم بتعديل تلك الفطريّات المتضادّة، وأمّا الملك فقد جبل على سلوك الخير والطاعة، فلا يقدر على الخلاف والعصيان، فهل يدرك هذا الموجود المفارق موقف الإنسان الذي خلق هلوعاً.

وثانياً: إنّ القائد كما يهدي بكلامه ومقاله، يهدي بفعله وعمله، فهو قدوة في مجالي القول والعمل، والدعوة بالفعل أرسخ في القلوب من الدعوة بالقول، وهذا يقتضي وجود السنخيّة بين الرسول والمرسل إليهم حتّى يكون الرسول في الغرائز الباعثة إلى الشرّ والعصيان، مثل المرسل إليهم في ذلك المجال، وبالتالي يكون سلوكه طريق الخير والصلاح حجّة على المرسل إليهم، ولولا السنخيّة لما تمّت الحجّة وبقى مجال للإعتراض.

وإلى بعض ما ذكرنا يمكن أن يشير قوله سبحانه:( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَىٰ إلّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً *قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولاً ) ( الأسراء / ٩٤ و ٩٥ ) أي لو وجد

١٥٤

في الأرض ملائكة يمشون كما يمشي البشر، ويقيمون فيها كما يقيم ويسهل الإجتماع يهم، وتلقّي الشرائع منهم، لنزّلنا عليهم من السماء رسلاً من الملائكة للهداية والإرشاد وتعليم الناس ما يجب عليهم تعلّمه، ولكن طبيعة الملك لا تصلح للإجتماع بالبشر، فلا يسهل عليهم التخاطب والتفاهم معهم، لبعد ما بين الملك وبينهم، ومن ثمّ لم نبعث ملائكة، بل بعثنا خواص البشر، لأنّ الله قدوهبهم نفوساً زكيّة، وأيّدهم بأرواح قدسية، وجعل لهم ناحية ملكية بها يستطيعون أن يتلقّوا من الملائكة، وناحية بشرية بها يبلّغون رسالات ربّهم إلى عباده(١) .

وقد نبّه سبحانه إلى عظيم هذه الحكمة وجليل تلك النعمة بقوله:( لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ( آل عمران / ١٦٤ ) وقوله:( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / ١٢٨ ). وقوله:( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة / ١٥١ ) إلى غير ذلك من الآيات التي وقع التنصيص فيها بكون الرسول من جنس البشر.

٣ ـ نبذ سنّة الآباء:

التشبّث بسيرة الآباء من الاُمور الجبليّة للبشر، خصوصاً فيمن يعيش في واحات الصحراء بعيداً عن الحضارة واسبابها، فقد كان العرب متعصّبين على مسلك آبائهم تعصّباً حال بينهم وبين الإيمان بالرسول بحجّة أنّه يدعوا إلى خلاف سيرة آبائهم، وفي ذلك يقول سبحانه:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللهُ وإلى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ) ( المائدة / ١٠٤ ) وقد عرفت الكلام في ذلك عند البحث عن الدوافع الروحيّة التي منعتهم عن الإيمان إجمالاً.

__________________

(١) تفسير المراغي: ج ١٥ ص ٩٧.

١٥٥

وعلى ضوء ذلك كانوا يتعجّبون من جعل الآلهة المتعدّدة إلهاً واحداً، فقدكان للعرب أصنام منصوبة على سطح الكعبة، كاللّات والعزّى وهبل، ويعكفون على عبادتها، فقال لهم النبي: يا معشر العرب، أدعوكم إلى عبادة الله، وخلع الأنداد والأصنام، وأدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلّا الله، فقالوا: أنَدَع ثلاث مائة وستين إلٰهاً ونعبد إلهاً واحداً، وإليه الإشارة في قوله سبحانه:( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ *أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ( ص / ٤ و ٥ )(١) .

روى المفسّرون أنّ أشراف قريش وهم خمسة وعشرون منهم: الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم، وأبوجهل، واُبي واُميّة ابنا خلف، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والنضر بن الحارث، أتوا أبا طالب، وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فإنّه سفّه أحلامنا وشتم آلهتنا، فدعا أبو طالب رسول الله وقال: يا بن أخي هؤلاء قومك يسألونك، فقال: ماذا يسألونني ؟ قالوا: دعنا وآلهتنا، ندعك والٰهك، فقال: أتعطوني كلمة تملكون بها العرب والعجم ؟ فقال أبو جهل: لله أبوك، نعطيك ذلك عشر أمثالها، فقال: قولوا لا إله إلّا الله، فقاموا وقالوا: أجعل الآلهة إلٰهاً واحداً، وروي أنّ النبي استعبر ثمّ قال: يا عمّ والله لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو اُقتل دونه، فقال له أبو طالب: إمض لأمرك فوالله لا أخذلُك أبداً(٢) .

٤ ـ الدعوة إلى الحياة الاُخروية

كانت عرب الجاهلية خصوصاً المترفين منهم يخافون من سماع أخبار البعث والنشور، وأنّ الإنسان سيبعث بعد موته ويحاسب ويجزى حسب أعماله، وكان

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب: ج ١ ص ٤٩، بحار الأنوار: ج ١٨ ص ١١٥، ولاحظ تاريخ الطبري: ج ٢ ص ٦٦.

(٢) مجمع البيان: ج ٨ ص ٤٦٥.

١٥٦

هذا أحد الدوافع للإعراض عن الدعوة، وقد جاء في الذكر الحكيم ما ذكروه في هذا المجال من الحجج الواهية، وسنوافيك به عند البحث عن المعاد في الذكر الحكيم ونكتفي في هذا المقام ببعض الآيات، فقال سبحانه:( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ( السجدة / ١٠ )، وقال سبحانه:( وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) ( الإسراء / ٩٨ )، وقال سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ( سبأ / ٧ ).

وتعرب الآية الاُولى عن أنّهم كانوا يظنّون أنّ الموت إفناء للإنسان واعدام واضمحلال له، فكيف يمكن إحياؤه ثانياً ؟ والقرآن يجيب عنه بقوله سبحانه:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) ( السجدة / ١١ ). إنّ الوفاء في الآية بمعنى الأخذ، وحاصل الجواب: انّ ملك الموت الذي وكّل بكم يأخذكم فلا تضلّون في الأرض ثمّ إلى ربّكم ترجعون.

وبعبارة ثانية: إنّ الإنسان مركّب من جسم وروح فما يبقى في الأرض هو جسمه وليس حقيقته وواقعيّته، وأمّا حقيقة الإنسان فهي روحه ونفسه وهي محفوظة عندنا يأخذها ملك الموت فما بقي فهو غير حقيقته، وما هو واقعية الإنسان ( الروح )، والنفس فهي محفوظة عند الله غير ضالة في الأرض.

قال العلّامة الطباطبائي: « أمر سبحانه رسوله أن يجيب عن حجّتهم المبنيّة على الاسبتعاد بأنّ حقيقة الموت ليس بطلاناً لكم وضلالاً منكم في الأرض، بل ملك الموت الموكّل بكم يأخذكم تامّين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم بمعنى قطع علاقتها من الأبدان، وأرواحكم تمام حقيقتكم، فأنتم أي ما يعني لفطة « كم » محفوظون لا يضل منكم شيء من الأرض، وإنّما تضلّ الأبدان وتتغيّر من حال إلى حال، وقد كانت في معرض التغيّر من أوّل كينونتها، ثمّ إنّكم محفوظون حتّى ترجعوا إلى ربّكم بالبعث ورجوع الأرواح إلى أجسادها »(١) .

__________________

(١) الميزان: ج ١٦ ص ٢٥٢.

١٥٧

وتعرب الآية الثانية عن أنّ سبب الإنكار هو تخيّل قصور القدرة وعدم إمكان البعث، فكيف يمكن إحياء العظام الرميمة ؟ فردّ عليه سبحانه بقوله:( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) ( الإسراء / ٩٩ ) فليس إحياء العظام الرميمة أكبر وأعظم من خلق السموات والأرض، فالقادر على خلقهما قادر على إحيائهم من جديد(١) .

٥ ـ طلب المشاركة في امتيازات النبوّة

كان المشركون - لأجل قصور معارفهم عن درك مقام النبوّة السامي- يطلبون المشاركة في أمر النبوّة، فكان الوليد بن المغيرة يقول: لو كانت النبوّة حقّاً لكنت أولى بها منك، لأنّي أكبر سنّا واكثر منك مالاً ! وقال أبوجهل: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى صرنا كفرسي رهان. قالوا منّا نبيّ يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً إلّا أن يأتينا وحي كما يأتيه(٢) .

وإلى هذه الحجّة الواهية يشير قوله سبحانه حاكياً عنهم:( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) ( الأنعام / ١٢٤ ).

إنّ كلامهم هذا ينمّ عن حقد دفين وعناد مستبطن فردّ عليهم سبحانه بقوله:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الأنعام / ١٢٤ ). فهو سبحانه أعلم منهم ومن جميع الخلق بمن يصلح لتنفيذ رسالاته، ويعلم من له الأهلية بتحمّل أعباء الرسالة.

٦ ـ المطالبة بمثل ما اُوتي سائر الرسل

كان المشركون المتواجدون في عصر الرسالة بلغ مسامعهم بأنّ الكليم موسى

__________________

(١) قد جمعنا مجموع شبهاتهم الواهية في إمكان المعاد وتحقّقه في الجزء المختص بالمعاد وقد إكتفينا بهذا المقدار هنا روماً للإختصار.

(٢) مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٦٢ ( ط صيدا ).

١٥٨

بعث بمعاجز مثل العصا إذا رمى بها في مجال التحدّي تنقلب ثعباناً، وبإدخال اليد في الجيب إذا أخرجها منه تكون بيضاء للناظرين، فاعترضوا عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه يجب أن تكون حجّة رسالته كحجج الكليم موسىعليه‌السلام وقد حكى ذلك منهم سبحانه بقوله:( فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ ) ( القصص / ٤٨ ).

وفي آية اُخرى:( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( الأنعام / ٣٧ ). وربّما يحتجّ بهذا الإعتراض من في قلبه مرض من المستشرقين، فيجب علينا تناوله بشيء من الدراسة والتحليل لرفع ما فيه من الإيهام والإبهام وذلك من خلال جوابين مستفادين من القرآن الكريم:

أ ـ إنّ هذا الإعتراض كان لمحض إختلاق المعاذير، والشاهد على ذلك أنّ هؤلاء المشركين وصفوا ما اُوتي الكليم بالسحر أيضاً، فقد روى المفسّرون أنّ المشركين بعثوا رهطاً إلى رؤوس اليهود في عيد لهم فسألوهم عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبروهم بنعته وصفته في كتابهم التوراة، فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك:( سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) وإليه يشير قوله سبحانه:( أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ) ( القصص / ٤٨ ).

ويظهر من الآيات الواردة بعد هذه الآية أنّهم رجعوا إلى أهل الكتاب واستفتوهم في أمره وعرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه، فأجابوا عنه بتصديقه والإيمان به، فساء ذلك المشركين واُغلظ عليهم بالقول واعرض الكتابيّون عنهم وقالوا: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين. قال سبحانه:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ *وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ ) ( القصص / ٥٢ ـ ٥٥ )(١) .

__________________

(١) لاحظ التفاسير.

١٥٩

ب ـ إنّ هؤلاء جاهلون بالحكمة في إختلاف المعاجز والآيات التي تنزل على أنبياء الله تعالى ويزعمون أنّه يجب أن تكون معاجز الجميع على حد سواء مع أنّ المصالح تقتضي أن تختلف معاجز الأنبياء ذاتاً وسنخاً حتى تتم الحجّة على المرسل إليهم، وتفصيل القول في ذلك أنّه يجب أن تكون معجزة كل نبي مجانسة للفن الرائج في عصره حتى إذا عرضت على مهرة ذلك الفن وخبرائه، أذعنوا بتفوّقه على قدراتهم وطاقاتهم، والذي جاء به مدّعي النبوّة فوق حدود العلم والفن الذي تمرّسوا فيه، وهذا يقتضي كون المعجزة مسانخة لما برعوا فيه في ذلك العصر إذ لوكان مغايراً ومفارقاً لما تمّت الحجة ولما اُلزموا بها إذ بوسعهم أن يعترضوا ويقولون: لا خبرة بشأن ما اُتيت به، فكيف لنا التحدّي والمناجزة أو التصديق بأنّ ما جئت به معجزة إلهية تفوق قدرة البشر، فاقتضت المصلحة تسانخ المعاجز للفنون الرائجة في عصر كل نبي.

وقد بلغ فن السحر والشعبذة في عصر الكليم موسى الذروة والقمّة كما اكتسب الطب في عصر المسيح أهميّة بالغة، فجاء الكليم موسى بالعصا واليد البيضاء فأبطل سحرهم وأثبت أنّ ما أتى به معجزة تفوق حد السحر وإن كان بينهما مشاكلة في الصورة ولكنّها تباينه بالذات، كما أنّ المسيح بابراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى كان قد أثبت أنّ ما أتى به فوق علمهم وطاقتهم وبراعتهم، وخارج عن الموازين الطبيعية التي كانوا يعتمدونها في الإبراء والمداواة.

فنفس تلك المصلحة تتطلّب أن تكون معجزة النبي الأكرم مشابهة لما برع فيه العرب في العصر الجاهلي لأنّه كان قد راج بينهم إنشاء الخطب البليغة الفصيحة ونظم الشعر والتحدّي بينهم في ذلك، فجاء بكتاب متحدّياً بصريح نصّه:( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٢٣ و ٢٤ ).

وإلى هذا الجواب يشير قوله سبحانه في ذيل الآية التي نبحث عنها:

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

اشتمال مراتب القرآن على المقدّرات الحادثة في كلّ عام:

وقال: (المسألة الثامنة) في تفسير مفردات هذه الألفاظ، أمّا قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (1) فقد قيل فيه: إنّه تعالى أنزل كلّية القرآن، يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتُدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبرائيل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، انتهى كلامه.

وقال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: (في تفسير قوله تعالى: ( إنّا أَنْزَلْناهُ ) يعني القرآن، وإن لم يجرِ له ذكر في هذه السورة؛ لأنّ المعنى معلوم، والقرآن كلّه كالسورة الواحدة، وقد قال: ( شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي اُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ ) ، وقال: ( حم وَالْكِتابِ الْمُبينِ إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (2) يريد: في ليلة القدر.

وقال الشعبي: المعنى إنّا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه‌السلام جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزّة، وأملاه جبريل على السَفَرة، ثمّ كان جبريل ينزّله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نُجوماً نُجوماً، وكان بين أوّله وآخره ثلاث وعشرون سنة. قاله ابن عبّاس، وقد تقدّم في سورة البقرة.

وحكى الماوردي عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة جملة واحدة من عند اللَّه، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجّمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجّمه جبريل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرين سنة.

قال ابن العربي: وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين اللَّه واسطة، ولا بين جبريل

____________________

1) سورة الدخان: 3.

2) سورة الدخان: 1 - 3.

٢٨١

ومحمّد عليهما‌السلام واسطة.

قوله تعالى: ( في لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، قال مجاهد: في ليلة الحكم، ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) ، قال ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير، سمّيت بذلك لأنّ اللَّه تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلّمه إلى مدبّرات الأُمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل عليهم‌السلام .

أُمّ الكتاب في القرآن متضمّنة لتقدير كلّ شي‏ء:

وقال: وعن ابن عبّاس، قال: يكتب من أمّ الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر، وحياة وموت، حتّى الحاجّ. قال عكرمة: يكتب حجّاج بيت اللَّه تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء آبائهم، ما يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم.

وقاله سعيد بن جُبير، وقد مضى في أوّل سورة الدخان هذا المعنى. وعن ابن عبّاس أيضاً: إنّ اللَّه تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلّمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنّما سمّيت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر، أي شرف ومنزلة) (1) .

ليلة القدر عوض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآلهعليهم‌السلام عن غصب الخلافة:

وقال: (وفي الترمذي عن الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) ، يعني نهراً في الجنّة، ونزلت ( إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ

____________________

1) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، ج20، ص129 - 130، طبعة القاهرة.

٢٨٢

أَلْفِ شَهْرٍ ) ، يملكها بعدك بنو أُمية. قال القاسم بن الفضل الحدّاني: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً. قال: حديث غريب.

قوله تعالى: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) أي تهبط من كلّ سماء، ومن سدرة المنتهى، ومسكن جبريل على وسطها، فينزلون إلى الأرض ويؤمّنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر، فذاك قوله تعالى ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) .

حقيقة الروح النازل ليلة القدر:

وقال: ( وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) (1) ، أي جبرئيل عليه‌السلام ، وحكى القُشيري: أنّ الروح صنف من الملائكة جُعلوا حفظة على سائرهم، وأنّ الملائكة لا يرونهم كما لا نرى نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة وأقربهم من اللَّه تعالى.

وقيل: إنّهم جند من جند اللَّه عزّ وجلّ من غير الملائكة، رواه مجاهد عن ابن عبّاس مرفوعاً، ذكره الماوردي، وحكى القُشيري: قيل هم صنف من خلق اللَّه، يأكلون الطعام، ولهم أيدٍ وأرجل وليسوا ملائكة.

وقيل: (الروح) خلق عظيم يقوم صفّاً، والملائكة كلّهم صفّاً. وقيل: (الروح) الرحمة ينزل بها جبريل عليه‌السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، دليله: ( يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (2) ، أي بالرحمة، (فِيها) أي في ليلة القدر، ( بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) أي بأمره، ( مِن كُلِّ أَمْرٍ ) (3) أمر بكلّ أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل.

وقيل عنه: إنّها رُفعت - يعني ليلة القدر - وإنّها إنّما كانت مرّة واحدة.

____________________

1) سورة القدر: 4.

2) سورة النحل: 2.

3) سورة القدر: 5.

٢٨٣

بقاء ليلة القدر في كلّ عام:

وقال: (والصحيح أنّها باقية... والجمهور على أنّها من كلّ عام من رمضان... وقال الفرّاء: لا يقدّر اللَّه في ليلة القدر إلاّ السعادة والنعم، ويقدّر في غيرها البلايا والنقم) (1) .

وقال الطبري في تفسيره، في ذيل سورة البروج: ( فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، بسنده إلى مجاهد: في لوح، قال: ( فِي أُمِّ الْكِتَابِ ) (2) .

وقال ابن كثير في تفسيره، بعد ما نقل جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، والذي مرّ نقله، قال: (اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأُمم السالفة، أم هي من خصائص هذه الأُمّة؟

فقال الزهري:... وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأُمّة بليلة القدر. وقيل: إنّها كانت في الأُمم الماضين كما هي في أُمّتنا، ثمّ هي باقية إلى يوم القيامة وفي رمضان خاصّة) (3) .

وقال الزمخشري في الكشّاف، بعد ما ذكره جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، في ذيل قوله تعالى: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (4) قال: (وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها، من تنزّل الملائكة والروح، وفصل كلّ أمر حكيم).

وقال في ذيل قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (5) : أي تتنزّل من أجل كلّ أمر قضاه اللَّه لتلك السنة إلى قابل... وروي عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (من قرأ سورة القدر أُعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيى ليلة القدر)، وذكر في هامش المطبوع: أنّ الحديث أخرجه الثعلبي، والواحدي، وابن مردويه، بسندهم إلى أُبَيّ ابن كعب.

____________________

1) تفسير القرطبي، ج20، ص133 - 137، في تفسير الجامع لأحكام القرآن طبعة القاهرة.

2) جامع البيان، ج30، ص176.

3) تفسير ابن كثير، ج4، ص 568.

4) سورة القدر: 2.

5) سورة القدر: 5.

٢٨٤

ليلة القدر عوض له صلى‌الله‌عليه‌وآله عن غصب بني أُمية خلافته، وتعدد مصادر الحديث لديهم:

وقال الآلوسي في روح المعاني: (ويستدلّ لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي، والحاكم، عن الحسن ابن عليّ (رضي اللَّه تعالى عنهما): (أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أُري بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) (1) ، ونزلت: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (2) .. الحديث). وهو كما قال المزني: حديث منكر، انتهى.

وقد أخرج الجلال هذا الحديث في الدرّ المنثور عن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضاً، من رواية يوسف ابن سعد، وذكر فيه: أنّ الترمذي (3) أخرجه وضعّفه، وأنّ الخطيب أخرج عن ابن عبّاس نحوه، وكذا عن ابن نسيب، بلفظٍ: قال نبي اللَّه: (أُريتُ بني أُمية يصعدون منبري، فشقّ ذلك عليّ فأُنزِلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، ففي قول المزني هو منكر تردّد عندي.

وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام ما رواه الكافي بسنده إلى أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (أُري رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه بني أُمية يصعدون على منبره من بعده ويضلّون الناس عن الصراط القهقري، فأصبح كئيباً حزيناً، قال: فهبط عليه جبرئيل فقال: يا رسول اللَّه مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أُمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي، يضلّون الناس عن الصراط القهقري. فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي ما اطّلعت عليه. فعرّج إلى السماء فلم يلبث أن نزل بآي من القرآن يُؤنسه بها، قال: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (4) ، وأُنزل عليه: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) ، جعل اللَّه ليلة القدر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

1) سورة الكوثر: 1.

2) سورة القدر: 1.

3) سنن الترمذي، ج5، ص444، ح 3350.

4) سورة الشعراء: 205 - 207.

٢٨٥

خيراً من ألف شهر ملك بني أُمية) (1) .

وروى الكُليني، عن علي بن عيسى القمّاط عن عمّه، قال: (سمعت أبا عبد اللَّه يقول: هبط جبرئيل عليه‌السلام على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسول اللَّه كئيب حزين، فقال: رأيت بني أُمية يصعدون المنابر وينزلون منها. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً، ما علمت بشي‏ء من هذا. وصعد جبرئيل إلى السماء، ثمّ أهبطه اللَّه جلّ ذكره بآي من القرآن يعزّيه بها قوله: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (2) .

وأنزل اللَّه جلّ ذكره: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) للقوم، فجعل اللَّه ليلة القدر (لرسوله) خير، من ألف شهر) (3) .

وفي سند الصحيفة السجّادية، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (إنّ أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه‌السلام : إنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذته نَعسةٌ وهو على منبره، فرأى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة، يردّون الناس على أعقابهم القهقري، فاستوى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جالساً والحزن يعرف في وجهه، فأتاه جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ) ، يعني بني أُمية. قال: يا جبرئيل على عهدي يكونون وفي زمني؟

قال: لا، ولكن تدور رحى الإسلام من مُهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثمّ تدور رحى الإسلام على رأس خمسة وثلاثين من مهاجِرَك فتلبث بذلك خمساً، ثمّ لابدّ من رحى

____________________

1) الكافي، ج4، ص159.

2) سورة الشعراء:205 - 206.

3) الكافي، ج8، ص223.

٢٨٦

ضلاله هي قائمة على قطبها ثمّ ملك الفراعنة. قال: وأنزل اللَّه تعالى في ذلك: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) يملكها بنو أُمية. فيها ليلة القدر.

قال: فأَطلع اللَّه عزّ وجلّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بني أُمية تملك سلطان هذه الأُمّة وملكها طول هذه المدّة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها، حتّى يأذن اللَّه تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا. أخبر اللَّه نبيّه بما يلقي أهل بيت محمّد وأهل مودّتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم) (1) .

وفي تأويل الآيات: (روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: قوله عزّ وجلّ: ( خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ ) هو سلطان بني أُمية.

وقال: ليلة من إمام عادل خير من ألف شهر ملك بني أُمية.

وقال: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) أيّ من عند ربّهم على محمّد وآل محمّد، بكلّ أمر سلام) (2) .

وفي تفسير القمّي: بسنده، في معنى سورة: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) فهو القرآن... قوله: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) .

أقول: تكثر الروايات في غصب الخلافة من بني أُمية، وتأذّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعويضه بليلة القدر، وسيأتي معنى تعويضه بليلة القدر، وتسالم كثير من علماء الجمهور بهذه الروايات، هذا الأمر أحد الأدلّة على أنّ الخلافة في الشريعة الإلهية هي منصب أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فتدبّر تبصُر.

____________________

1) الصحيفة السجّادية الكاملة: 15 - 16.

2) تأويل الآيات، ج2، ص817، ح2.

٢٨٧

حقيقة النازل الذي نزل في ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) : الضمير عند الجمهور للقرآن، وادّعى الإمام فيه إجماع المفسّرين، وكأنّه لم يعتقد بقول من قال منهم برجوعه لجبرئيل عليه‌السلام أو غيره؛ لضعفه. قالوا: وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدّم ذكره تعظيم له، أي تعظيم لِما أنّه يشعر بأنّه لعلوّ شأنه كأنّه حاضر عند كلّ أحد.

جهل الخلق بحقيقة ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (1) : لِما فيه من الدلالة على أنّ علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يُعلم ذلك، ولا يَعلم به إلاّ علاّم الغيوب.

حقيقة نزول القرآن جملة واحدة:

ثمّ ذكر جملة في تعدّد نزول القرآن جملةً واحدةً ونجوماً، وذكر في ضمنها هذه الرواية، عن ابن عبّاس: (أُنزل القرآن جملةً واحدة حتّى وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزل به جبريل عليه‌السلام على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بجواب كلام العباد وأعمالهم)... ثمّ نقل الاختلاف بين المفسّرين عندهم في قوله تعالى: ( أَنْزَلْنَاهُ ) من جهة نزول القرآن جملةً واحدة، فهل تضمّن القرآن النازل جملةً واحدة هذه العبارة أم لا؟ فلابدّ من ارتكاب المجاز في الإسناد؛ لأنّه إخبار عمّا وقع فيما مضى، فكيف يكون هذا اللفظ في ضمنه؟

____________________

1) سورة القدر: 2.

٢٨٨

فذكر قولاً للرازي في حلّ الإشكال، وللقرطبي، وابن كثير، وضعّف قولهم. ونقل عن ابن حجر في شرح البخاري أنّه أُنزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، بل حكى بعضهم الإجماع عليه، ثمّ نقل جواباً لحلّ الإشكال عن السيد عيسى الصفوي، ثمّ الاختلاف بين الدَّواني وغيره، وأنّه ألّف رسالة في ذلك، في الجواب عن مسألة الحذر الأصمّ.

ثمّ نقل عن الإتقان قول أبي شامة: فإن قلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة، فما نزل جملة؟ وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟

قلت: لها وجهان:

أحدهما: أن يكون المعنى إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدّرناه في الأزل.

والثاني: أنّ لفظ ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) ماضٍ ومعناه على الاستقبال، أي تنزّله جملة في ليلة القدر. ثمّ ذكر عدم ارتضائه لهذا القول وعدم حسنه.

ثمّ نقل أقوالاً أُخر، ثمّ قال: والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، أو إثباته لدى السَفَرة هناك، أو نحو ذلك ممّا لا يشكل نسبته إلى القرآن.

تقدير الأُمور في ليلة القدر على من تُنزّل؟

وقال في معنى ليلة القدر: إنّها ليلة التقدير، وسبب تسميتها بذلك لتقدير ما يكون في تلك السنة من أُمور. قال: المراد إظهار تقديره ذلك للملائكة عليهم‌السلام المأمورين بالحوادث الكونية. ثمّ نقل عن بعض تفسير ذلك: هاهنا ثلاثة أشياء:

الأوّل: نفس تقدير الأُمور، أي تعيين مقاديرها وأوقاتها، وذلك في الأزل.

٢٨٩

الثاني: إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم‌السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ، وذاك في ليلة النصف من شعبان.

الثالث: إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبّرات، فتدفع نسخة الأرزاق، والنباتات، والأمطار، إلى ميكائيل عليه‌السلام ، ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرئيل عليه‌السلام ، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه‌السلام ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، وذلك في ليلة القدر.

وقيل: يقدّر في ليلة النصف الآجال والأرزاق، وفي ليلة القدر الأُمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. وقيل: يقدّر في هذه ما يتعلّق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلّم إلى ملك الموت، واللَّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

أقول: إنّ المكتوب في ليلة القدر ويقدّر يُفترض أنّ كتابته وتقديره إنّما يُكتب ويقدّر لتسليمه إلى من يوكّل إليه تدبير الأُمور بإذن اللَّه، كالملائكة الموكّلين، فالتنزّل بكلّ هذه التقديرات والكتابة إلى الأرض إلى من يسلّم؟ ومن هو الذي يطّلع على ذلك من أهل الأرض؟ وما هو التناسب بين نزول ما فيه إعزاز الدين والأُمّة، والحديث النبويّ: (إنّ الإسلام لا يزال عزيزاً إلى اثني عشر خليفة... كلّهم من قريش) (1) ؟

أقوال علماء سنّة الجماعة في عِوَضية الليلة له عن غصب الخلافة:

قال في تفسير ( أَلْفِ شَهْرٍ ) : وقد سمعت إلى ما يدلّ أنّ الألف إشارة إلى مُلك بني أُميّة، وكان على ما قال القاسم بن الفضل: ألف شهر، لا يزيد يوماً ولا ينقص

____________________

1) المعجم الكبير للطبراني، ج2، ص232. ولاحظ: إحقاق الحق، ج13، 1 - 49.

٢٩٠

يوماً، على ما قيل: ثمانين سنة، وهي ألف شهر تقريباً؛ لأنّها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، ولا يعكّر على ذلك ملكُهم في جزيرة الأندلس بعد؛ لأنّه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، ولذا لا يعدّ من مَلَكَ منهم هناك من خلفائهم، وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار.

وطعن القاضي عبد الجبّار في كون الآية إشارة لما ذُكر؛ بأنّ أيام بني أُمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب، فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنّها خير من ألف شهر مذمومة:

ألم ترَ أنّ السيف ينقص قدره

إذا قيل إنّ السيف خيرٌ من العصا

وأُجيب: إنّ تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يبعد أن يقول اللَّه تعالى: أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية، فلا تبقى فائدة.

ليلة القدر مع الأنبياء في ما مضى فهي مع من في ما بقي:

الروح النازل في ليلة القدر قناة غيبية كانت مع الأنبياء، فهي مع من بعد النبيّ الخاتم؟ قال: وما أشير إليه من خصائص هذه الأُمّة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول، وصرّح به الهيثمي وغيره.

وقال القسطَلاني: إنّه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: (يا رسول اللَّه، أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت. قال: بل هي باقية). ثمّ ذكر أنّ عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدّمناه في سبب النزول من رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله تقاصر أعمار أُمّته عن أعمار الأُمم، وتعقّبه بقوله هذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان: ابن كثير في تفسيره، وابن حجر في فتح الباري.

٢٩١

وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركتا في إخفاء كلّ منهما ليقع الجدّ في طلبهما:

القول الأوّل: إنّها رُفعت أصلاً ورأساً. حكاه المتولّي في التتمّة عن الروافض، والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية، وكأنّه خطأ منه، والذي حكاه السروجي أنّه قول الشيعة.

أقول: بل الشيعة الإمامية هم المذهب الوحيد على وجه الأرض القائلون ببقاء الاتّصال بين الأرض والسماء، وأنّ هناك سبب متّصل هو الإمام من عِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن لم يكن هذا الاتّصال وحياً نبويّاً، وهو الذي يتنزّل عليه الروح الأعظم والملائكة كلّ عام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بينما المذاهب الإسلامية كلّها حتّى الزيدية، وإن قالوا باستمرار الإمامة السياسية وعدم حصرها بالأئمّة المنصوص عليهم وأنّ الإمامة هي لكلّ من قام بالثورة على الظلم ولا يشترط فيها العصمة، إلاّ أنّهم قائلون بانقطاع الاتّصال أيضاً بين الغيب والشهادة.

وانقطاع الاتّصال ذهبت إليه اليهود بعد النبيّ موسى عليه‌السلام ، كما ذهبت إليه النصارى بعد النبيّ عيسى عليه‌السلام .

وقال: وقد روى عبد الرزّاق من طريق داود بن أبي عاصم، عن عبد اللَّه بن يخنس: قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر رُفعت، قال: كذّب من قال ذلك. ومن طريق عبد اللَّه بن شُريك قال: ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها، فأراد زر بن حُبيش أن يحصبه فمنعه قومه.

الثاني: إنّها خاصّة بسنة واحدة وقعت في زمن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حكاه الفاكهاني أيضاً.

الثالث: إنّها خاصّة بهذه الأُمّة، ولم تكن في الأُمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية ونقله الجمهور، وحكاه صاحب العدّة من الشافعية ورجّحه،

٢٩٢

وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال: لا، بل هي باقية.

وعمدتهم قول مالك في الموطأ: بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تقاصر أعمار أمّته عن أعمار الأُمم الماضية، فأعطاه اللَّه ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل، فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذر (1) .

ليلة القدر يفصل فيها المقدّرات لأحداث كلّ السنة:

وقال الآلوسي في روح المعاني في تفسير قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (2) : أي من أجل كلّ أمر تعلّق به التقدير في تلك السنة إلى قابل وأظهره سبحانه وتعالى لهم، قاله غير واحد. ف)من(بمعنى اللام التعليلية متعلّقة بتنزّل، وقال أبو حاتم: (من) بمعنى الباء، أي تنزّل بكلّ أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشرّ وجعلت الباء عليه للسببية.

والظاهر على ما قالوا إنّ المراد بالملائكة المدبّرات؛ إذ غيرهم لا تعلّق له بالأُمور التي تعلّق بها التقدير ليتنزّلوا لأجلها على المعنى السابق، وهو خلاف ما تدلّ عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبّرات (3) .

ليلة القدر يتحقّقها وتتنزّل على من شاء اللَّه تعالى من عباده:

جاء في شرح صحيح مسلم للنووي قوله: (اعلم أنّ ليلة القدر موجودة... وأنّها تُرى ويتحققّها من شاء اللَّه تعالى من بني آدم كلّ سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه الأحاديث... وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تُحصر. وأمّا قول القاضي عيّاض عن المهلّب بن أبي صُفرة: لا يمكن رؤيتها حقيقةً. فغلط فاحش

____________________

1) فتح الباري، ص262 - 263، كتاب فضل ليلة القدر.

2) سورة القدر: 6.

3) روح المعاني، ج30، ص196.

٢٩٣

نبهتُ عليه لئلاّ يُغترّ به) (1) .

وقال في ذيل سورة الدخان، في قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) (2) : أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعوّل عليه في ( لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) هي ليلة القدر، على ما روي عن ابن عبّاس وقتادة.

وفي تحفة المحتاج لابن حَجَر الهيتمي: (ليس لرائيها كَتْمها، ولا ينال فضلها - أي كمالها - إلاّ من أطلعه اللَّه عليها)، انتهى.

والظاهر أنّه عَنى برؤيتها: رؤية ما يحصل به العلم له بها، ممّا خُصّت به من الأنوار، وتنزّل الملائكة عليهم‌السلام ، أي: نحوٍ من الكشف ممّا لا يعرف حقيقته إلاّ أهله، وهو كالنصّ في أنّها يراها من شاء اللَّه تعالى من عباده. ثمّ حكى عن ابن شاهين: إنّه لا يراها أحد من الأوّلين والآخرين إلاّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ قال: وفي بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ رؤيتها مناماً وقعت لغيره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي صحيح مسلم وغيره، عن ابن عمر: (إنّ رجالاً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّياً فليتحرَّها في السبع الأواخر) (3) .

وحُكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضاً، وغلّط، ففي شرح صحيح مسلم وابن جُبير ومجاهد وابن زيد والحسن، وعليه أكثر المفسّرين والظواهر معهم.. والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملةً إلى السماء الدنيا من اللوح، فالإنزال المنجّم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا، وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أنّ المحلّ الذي أُنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور، وهو

____________________

1) شرح مسلم، ج8، ص66.

2) سورة الدخان: 3.

3) صحيح مسلم، ج3، ص170.

٢٩٤

مسامِت للكعبة، بحيث لو نزل لنزل عليها.

وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنّه قال: أُنزل القرآن جملةً على جبرئيل عليه‌السلام ، وكان جبرئيل عليه‌السلام يجي‏ء به بعدُ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ليلة القدر في سورة الشورى والنزول الأول للقرآن:

وقال في ذيل قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ... ) (1) : وهو ما أُوحي إليه (عليه الصلاة والسلام)، أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية. وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهود لغيرك، أوحينا أبو القاسم إليك. وقيل: أي مثل ذلك الإيحاء المفصّل، أوحينا إليك، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث، سواء فُسّر الوحي بالإلقاء، أم فُسّر بالكلام الشفاهي.

وقد ذُكر أنّه (عليه الصلاة والسلام) قد أُلقي إليه في المنام كما أُلقي إلى إبراهيم عليه‌السلام ، وأُلقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه‌السلام . ففي (الكبريت الأحمر) للشعراني، نقلاً عن الباب الثاني من (الفتوحات المكّية): أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أُعطي القرآن مجملاً قبل جبرئيل عليه‌السلام ، من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عبّاس تفسير الروح بالنبوّة. وقال الربيع: هو جبرئيل عليه‌السلام .

وعليه، فأوحينا مضمّن معنى أرسلنا، والمعنى: أرسلناه بالوحي إليك؛ لأنّه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله.

ونقل الطبرسي عن أبي جعفر، وأبي عبد اللَّه (رضي اللَّه تعالى عنهما): أنّ المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يصعد

____________________

1) سورة الشورى 52: 42.

٢٩٥

إلى السماء. وهذا القول في غاية الغرابة، ولعلّه لا يصحّ عن هذين الإمامين.

وتنوين (روحاً) للتعظيم، أي روحاً عظيماً (1) ... وقال في ذيل قوله تعالى ( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ ) : أي الروح الذي أوحيناه إليك. وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل للإيمان، ورجّح بالقرب، وقيل للكتاب والإيمان ووحّد؛ لأنّ مقصدهما واحد فهو نظير ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) (2) .

____________________

1) روح المعاني، ج25، ص 80 - 81.

2) سورة التوبة: 62.

٢٩٦

ليلة القدر

في روايات أهل سنّة الخلافة

دوام ليلة القدر في كلّ عام إلى يوم القيامة:

1 - فقد روى عبد الرزّاق الصنعاني في (المصنّف) بسنده، عن مولى معاوية، قال: (قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر قد رُفعت، قال: كذّب من قال كذلك، قلت: فهي كلّ شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم... الحديث) (1) ، ورواه عنه بطريق آخر (2) ، ورواه كنز العمّال أيضاً (3) .

2 - وروى عبد الرزّاق الصنعاني في المصنّف بسنده، عن ابن عبّاس، قال: (ليلةٌ في كلّ رمضان يأتي، قال: وحدّثني يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سُئِل عن ليلة القدر، فقيل له: كانت مع النبيّين ثمّ رُفعت حين قُبضوا، أو هي في كلّ سنة؟ قال: بل هي في كلّ سنة، بل هي في كلّ سنة) (4) .

3 - وروي عن ابن جرير، قال: (حُدّثت: أنّ شيخاً من أهل المدينة سأل أبا ذر بمنى، فقال: رُفعت ليلة القدر أم هي في كلّ رمضان؟ فقال أبو ذر: سألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت: يا رسول اللَّه رُفعت ليلة القدر؟ قال: بل هي كلّ رمضان) (5) .

4 - وروى ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف في باب ليلة القدر، بسنده إلى ابن

____________________

1) المصنّف، ج3، ص216، ح 5586.

2) المصنّف، ج3، ص255، ح 7707.

3) كنز العمّال، ج3، ص634، ح 24490.

4) المصنّف، ج4، ص255، ح 7708.

5) المصنّف، ج4، ص255، ح 7709، وأخرجه هق، ج4، ص307، والطحاوي، ج2، ص50.

٢٩٧

أبي مرثد عن أبيه، قال: (كنت مع أبي ذر عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: كان أسأل الناس عنها رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا: ليلة القدر كانت تكون على عهد الأنبياء فإذا ذهبوا رُفعت؟ قال: لا ولكن تكون إلى يوم القيامة) (1) .

5 - أخرج السيوطي في الدرّ المنثور: (عن محمّد بن نصر، عن سعيد بن المسيّب أنّه سُئل عن ليلة القدر، أهي شي‏ء كان فذهب، أم هي في كلّ عام؟ فقال: بل هي لأُمّة محمّد ما بقي منهم اثنان) (2) .

أقول: وفي هذه الرواية - وإن كانت مقطوعة - دلالةٌ على أن لو بقي في الأرض رجلٌ واحد لكان الثاني هو الحجّة وخليفة اللَّه في الأرض، الذي تنزّل عليه ليلة القدر بمقادير الأُمور، وأنّ ليلة القدر هي من حقائق وخصائص روح الحجّة في الأرض.

6 - وروى الطبري بسنده عن ربيعة بن كلثوم، قال: (قال رجل للحسن وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، واللَّه الذي لا إله إلاّ هو إنّها لفي كلّ رمضان، وأنّها ليلة القدر، فيها يُفرق كلّ أمر حكيم، فيها يقضي اللَّه كلّ أجل وعمل ورزق إلى مثلها) (3) .

النزول في ليلة القدر وحي للأنبياء، واستمراره بعد الأنبياء:

قال ابن خزيمة في صحيحه (4) : باب ذكر أبواب ليلة القدر، والتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيها ما يحسب كثيراً من حملة العلم، ممّن لا يفهم صناعة العلم، أنّها متهاتِرةٌ متنافية، وليس كذلك هي عندنا بحمد اللَّه ونعمته، بل هي

____________________

1) المصنّف لابن أبي شيبة، ج2، ص394، ح 5، باب 341.

2) الدرّ المنثور، ج6، ص371، في ذيل سورة القدر.

3) جامع البيان، ج25، ص139، ح24000.

4) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

٢٩٨

مختلفة الألفاظ متّفقة المعنى، على ما سأبيّنه إن شاء اللَّه.

قال أيضاً: باب ذكر دوام ليلة القدر في كلّ رمضان إلى قيام الساعة، ونفي انقطاعها بنفي الأنبياء.

7 - وروى بسنده إلى أبي مرثد، قال: (قال: لقينا أبا ذر وهو عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: ما كان أحد بأَسأل لها منّي، قلت: يا رسول اللَّه ليلة القدر أُنزلت على الأنبياء بوحي إليهم فيها ثمّ ترجع؟ فقال: بل هي إلى يوم القيامة.. الحديث) (1) ، ورواه بطريق آخر أيضاً، في باب أنّ ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان (2) .

8 - وروى النسائي، والقسطلاني، والهيثمي، وابن حجر في فتح الباري، وابن كثير في تفسيره حديث أبي ذر - في ليلة القدر - قال: (يا رسول اللَّه أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت؟ قال: بل هي باقية).

9 - وروى أحمد بن محمّد بن سلمة في شرح معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده، إلى مالك ابن مرثد عن أبيه، قال: (سألت أبا ذر فقلت: أسألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ليلة القدر؟ قال: نعم، كنت أسأل الناس عنها، قال عكرمة: يعني أشبع سؤلاً، قلت: يا رسول اللَّه، ليلة القدر أفي رمضان هي أم في غيره؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : في رمضان. قلت: وتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا رُفعوا رُفعت؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة) (3) .

10 - وفي صحيح ابن حِبان، قال في باب ذكر البيان بأنّ ليلة القدر تكون في العشر الأواخر كلّ سنة إلى أن تقوم الساعة، ثمّ روى بسند متّصل رواية أبي ذر

____________________

1) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

2) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص321.

3) شرح معاني الآثار، ج3، ص85.

٢٩٩

المتقدِّمة واللفظ فيها... (تكون في زمان الأنبياء ينزل عليهم الوحي، فإذا قُبضوا رُفعت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل هي إلى يوم القيامة) (1) .

وروى البيهقي في فضائل الأوقات رواية أبي ذر المتقدّمة بإسناده (2) ، وقال - قبل تلك الرواية -: وليلة القدر التي ورد القرآن بفضيلتها إلى يوم القيامة وهي في كلّ رمضان... ثمّ نقل الخبر المزبور. وروى الهيثمي في موارد الظمآن رواية أبي ذر بسنده (3) .

11 - وروى أحمد بن محمّد بن سَلمة في معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: (سُئل رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال: في كلّ رمضان). ففي هذا الحديث أنّها في كلّ رمضان، فقال قوم هذا دليل على أنّها تكون في أوّله وفي وسطه، كما قد تكون في آخره. وقد يحتمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (في كلّ رمضان)، هذا المعنى، ويحتمل أنّها في كلّ رمضان إلى يوم القيامة (4) ، ورواه بطرق أخرى غير مرفوعة.

أقول: هذه الروايات عند العامّة مطابقة لما يأتي من الروايات عند أهل البيت عليهم‌السلام ، من عدّة وجوه، أهمّها:

أوّلاً: ليلة القدر كانت من لَدُن آدم عليه‌السلام ، واستمرّت إلى النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي مستمرّة إلى يوم القيامة نزولاً على خلفاء النبيّ الاثني عشر.

وثانياً: إنّ هذا الروح النازل في ليلة القدر هو قناة ارتباط الأنبياء والأوصياء مع الغيب.

وثالثاً: ممّا يدلّل على عموم الخلافة الإلهية: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ

____________________

1) صحيح ابن حِبّان، ج8، ص438.

2) البيهقي، ص 219.

3) موارد الظمآن، ص 231.

4) شرح معاني الحديث، ج3، ص84.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581