مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن13%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265517 / تحميل: 6065
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

هم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، فبهم يتقرّب ويتوسل إلى اللَّه عزّ وجلّ، وبمودّتهم وولايتهم تقبل الطاعات، ومحبّتهم ركن ركين في الدين لا يعرض عنه إلّا كافر أو مشرك، ومن هنا جعل النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عدل الرسالة وأجرها المودّةَ في القربى كما في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) .

ومن ذلك كلّه يتضح أن من تمام الحجّ وسائر العبادات لقاء الإمام وإظهار المودّة والنصرة والتولّي له، وإلّا فلا حجّ ولا طواف ولا صلاة مقبولة عند اللَّه تعالى، فالتوحيد في العبادة هو الإقرار بولاية أهل البيت عليهم‌السلام .

ومن هنا أيضاً يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام : (تمام الحجّ لقاء الإمام) (2) .

وكذا قول الإمام الصادق عليه‌السلام : (ابدؤوا بمكّة واختموا بنا) (3) .

وقول الإمام الباقر عليه‌السلام : (إنما أمروا أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (4) .

وكذا قال عندما رأى الناس يحجّون بمكّة: (فعال كفعال الجاهلية، أمَا واللَّه ما أمروا بهذا، وما أمروا إلّا أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمرّوا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (5) .

____________________

(1) الشورى: 23.

(2) الكليني، الكافي، ج4، ص549.

(3) المصدر، ص550.

(4) المصدر، ص549.

(5) المصدر، ج1، ص392.

١٠١

6 - الولاية من شرائط المغفرة:

قال تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (1) ، فلا تحصل المغفرة ولا التوبة ولا الإيمان ولا يقبل العمل الصالح إلّا بشرط الهداية، والمراد من الهداية في هذه الآية المباركة مقام الإمامة؛ لأنها تعني الإيصال إلى المطلوب، وهي مرحلة بعد مقام النبوّة الذي هو إراءة الطريق فقط. فإن مجرّد إراءة الطريق شأن النبيّ والرسول، قال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (2) .

وأمَّا مقام الإمامة، فنجد أن القرآن الكريم كلّما تعرّض إليه تعرض معه لذكر الهداية بياناً وتفسيراً، قال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (3) ، وقال أيضاً عزّ وجلّ: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (4) ، فوصف اللَّه عزّ وجلّ الإمامة بالهداية وصف بيان وتعريف وتفسير، هذا في إمامة الحقّ.

كذلك في إمامة الباطل والكفر، فإن فرعون الذي هو من أئمة الكفر قال تعالى في حقّه: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (5) ، فإمامة الكفر أيضاً فيها هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود من الكمال الإنساني؛ ولذا

____________________

(1) طه: 82.

(2) إبراهيم: 4.

(3) الأنبياء: 72 - 73.

(4) السجدة: 24.

(5) القصص: 41.

١٠٢

قال تعالى: ( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ) (1) ، فإمامة الحقّ هي الهداية والإيصال إلى المطلوب وولاية على الناس في أعمالهم بأمر ملكوتي من اللَّه عزّ وجلّ كما يستفاد من قوله تعالى: ( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، وإمامة الباطل أيضاً هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود.

والحاصل: أن مقام الهداية الإلهية الحقّة - بقول مطلق - يساوق مقام الإمامة والخلافة الربّانية؛ وهذا يعني أن هناك مقاماً ثالثاً غير الشهادة الأولى والشهادة الثانية لابدّ أن يعتقد به المسلم لكي يكون مهتدياً مؤمناً، فقوله تعالى: ( آمَنَ ) إشارة إلى الشهادة الأولى والثانية، وقوله: ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) إشارة إلى الإيمان والعمل بالشريعة الذي هو مقام النبوّة، وقوله: ( ثُمَّ اهْتَدَى ) إشارة إلى ذلك المقام الثالث والشهادة الثالثة؛ وهي الولاية والإمامة.

سورة الحمد وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام :

وإذا لم يعتقد بها الشخص ولم يجعلها واسطة بينه وبين ربّه لا يتحقّق منه الإيمان ولا العمل الصالح، فولاية وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام واسطة ووسيلة يتوسَّل بها العبد إلى اللَّه عزّ وجلّ لقبول عقيدته وعبادته، وهذا ما صرّحت به سورة الحمد، التي يقرؤها المسلم في اليوم والليلة عشر مرّات على أقل تقدير.

فإن سورة الحمد تعرّضت للشهادة الأولى والشهادة الثانية والشهادة الثالثة،

____________________

(1) طه: 79.

١٠٣

فقوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) (1) إشارة إلى الشهادة الأولى، وهي كلمة (لا إله إلّا اللَّه)، وقوله تعالى: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (2) إشارة إلى أصل المعاد، الذي هو من أصول الدين، وقوله تعالى: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (3) إشارة إلى مقام التشريع والنبوّة؛ لأن العبادة لا تتحقّق إلّا بالسير على خطى النبوّة والرسالة، وقوله تعالى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) (4) إشارة إلى مقام الإمامة في الأمة، فهناك مجموعة في الأمة الإسلامية ندعو اللَّه عزّ وجلّ في اليوم والليلة أن يهدينا صراطهم المستقيم، المنزّه عن الغضب في العمل وعن الضلال في العلم؛ أي صراط المعصومين علماً وعملاً، وهؤلاء الهداة الهادون إلى الصراط المستقيم وصفهم اللَّه تعالى بثلاثة نعوت:

الأول: أنهم منْعَم عليهم بنعمة خاصّة دون بقية الأمة وسائر البشر، نظير ما أنعم اللَّه على النبيِّين.

الثاني: أنهم لا يغضب اللَّه عليهم قطّ، وإلّا لَمَا كانت لهم صلاحية الهداية لجميع الأمة.

الثالث: أنهم لا يضلّون قط، وإلّا لم يكونوا هداة هادين لكل الأمة.

ولم يحدّثنا القرآن عن ثلّة عن هذه الأمة قد خصصوا بنعمة وحظوة وحبوة

____________________

(1) الحمد: 2 - 3.

(2) الحمد: 4.

(3) الحمد: 5.

(4) الحمد: 6 - 7.

١٠٤

إلهية خاصة دون بقية الأمة إلّا أهل البيت عليهم‌السلام كما في ولاية الفي‏ء في قوله تعالى: ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (1) ، وكما في ولاية الخمس في قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (2) ، وكذا التطهير في قوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (3) ، والمودّة والولاية في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (4) وقوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (5) ، وعلم الكتاب في قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (6) وغيرها من الآيات المخصِّصة

لهم عليهم‌السلام بمقامات دون سائر الأمة إلى يوم القيامة، فلا توجد مجموعة في الأمة الإسلامية معصومة عن الغضب والضلال سوى أهل البيت عليهم‌السلام ، الذين أنعم اللَّه عزّ وجلّ عليهم بالطهارة من الرجس والغواية في العلم والعمل كما قال تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (7) .

ويتحصّل من ذلك: أن سورة الحمد اشتملت على أصول الدين من التوحيد والمعاد والنبوّة والإمامة، وقارئ الحمد يطلب من اللَّه تعالى الهداية إلى الصراط

____________________

(1) سورة الحشر: 7.

(2) سورة الأنفال: 41.

(3) سورة الأحزاب: 33.

(4) سورة الشورى: 23.

(5) سورة المائدة: 55.

(6) سورة الواقعة: 77 - 79.

(7) الأحزاب: 33.

١٠٥

المستقيم، وأن يجعل له هداة وأئمة يهتدي بهم، وهذا يعني أن ضمّ الشهادة الثالثة بالإمامة إلى الشهادة الثانية بالرسالة والنبوّة للنبيّ

الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يوجب الخروج عن الشرك وقبول الإيمان والعبادة.

ومن ذلك كلّه يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام لسدير وهو مستقبل البيت: (يا سدير، إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، وهو قول اللَّه: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (1) - ثم أومأ إلى صدره - إلى ولايتنا) (2) .

إذن تمام الحجّ وسائر العبادات بالهداية إلى ولاية أهل البيت عليهم‌السلام والتوسّل والتوجّه بهم إلى اللَّه عزّ وجل.

7 - الوفود على ولي اللَّه من شرائط الحجّ:

قال تعالى: ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود × وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (3) .

فهذه الآية المباركة تنصّ على أن اللَّه عزّ وجلّ جعل مكان البيت مبوّءاً وسكناً لإبراهيم عليه‌السلام ، وأن إبراهيم عليه‌السلام هو المتكلّم الأوّل والناطق الرسمي عن اللَّه تعالى في الندبة إلى الحجّ، فهو يأمر الناس بحجّ بيت اللَّه الحرام كما نصّت على ذلك روايات الفريقين.

____________________

(1) طه: 82.

(2) أصول الكافي، ج 1، ص 393.

(3) الحج: 26 - 27.

١٠٦

ثم إن التعبير الآخر في الآية المباركة بعد الأذان في الناس بالحجّ ( يَأْتُوكَ رِجَالاً ) ، فالمجي‏ء ليس إلى البيت ولا إلى اللَّه عزّ وجلّ مباشرة، بل المجي‏ء أوّلاً إلى إبراهيم عليه‌السلام .

فالإتيان إلى الحجّ تلبية وإجابة للنداء الإلهي إنما يتمّ بالوفادة على وليّ اللَّه، ويكون الحجّ الذي هو القصد إلى اللَّه عزّ وجلّ بواسطة الإتيان إلى إبراهيم عليه‌السلام ، الذي هو وجيه عند اللَّه تعالى يتوجّه إليه ويُقصد لإقامة الصلاة والطواف وسائر مناسك الحجّ العبادية، فلابدّ من الوفود على إبراهيم عليه‌السلام ومحبّته وهويّ الأفئدة إليه.

وهذه الآية المباركة تتوافق في المضمون مع ما تقدّم من قوله تعالى: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (1) ، فإبراهيم عليه‌السلام وذرّيته أسكنهم اللَّه عزّ وجلّ البيت الحرام وبوّأهم فيه لإقامة الصلاة وتشييد الدين وتطهير البيت للطائفين والقائمين والرّكع السجود، والإيذان في الناس بالحجّ، ولكن لا قيمة للحجّ ولا مقبولية عند اللَّه عزّ وجلّ إلّا بالمجي‏ء إلى إبراهيم عليه‌السلام وذريّته من ولد إسماعيل عليه‌السلام ، وهويّ القلوب والأفئدة إليهم ومحبّتهم ومودّتهم وتولّيهم وإبراز الطاعة لهم وجعلهم واسطة في القصد إلى اللَّه تعالى.

فتبويء اللَّه عزّ وجلّ لإبراهيم البيت، وإسكان إبراهيم ذريَّته فيه من أجل الوفود عليهم ومودّتهم، هو الذي جعل من البيت الحرام مكاناً ومقصداً لإقامة العبادة فيه، والأحجار بما هي أحجار لولا ذلك تكون وثناً يعبد من دون اللَّه

____________________

(1) إبراهيم: 37.

١٠٧

عزّ وجلّ كما كان الحجّ في الجاهلية. ولذا ورد أن من المستحبّات عند الدخول إلى البيت الحرام إلقاء التحيّة والسلام على سيّد الأنبياء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم السلام على النبيّ إبراهيم عليه‌السلام (1) .

فعن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (فإذا انتهيت إلى باب المسجد فقم وقل: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، بسم اللَّه وباللَّه ومن اللَّه وما شاء اللَّه، والسلام على أنبياء اللَّه ورسله والسلام على رسول اللَّه، والسلام على إبراهيم والحمد للَّه رب العالمين) (2) .

فالمجي‏ء إلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم إلى إبراهيم عليه‌السلام مجي‏ء وإتيان وقصد إلى اللَّه عزّ وجل، وكذا أهل البيت عليهم‌السلام ؛ لأنهم الذريّة والأمة المسلمة الذين دعا إبراهيم والنبيّ الأكرم إلى مودّتهم ومحبّتهم.

إذن، الأنبياء والأوصياء هم أبواب اللَّه التي يتّجه إلى اللَّه تعالى بها، ولولا ذلك لا يكون الحجّ حجّاً إبراهيمياً، بل حجّ الجاهلية.

8 - الأنبياء مصدر البركة:

قال تعالى حكاية عن قول عيسى عليه‌السلام : ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) (3) .

وهذا يعني أن عيسى عليه‌السلام جعله اللَّه عزّ وجلّ مصدر البركة والتبرّك أين ما حل؛ ولذا كان ببركته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن اللَّه تعالى، فهو

____________________

(1) ابن حمزة، الوسيلة، ص172.

(2) الصدوق، المقنع، ص255.

(3) مريم: 31.

١٠٨

وجيه وواسطة في قضاء الحوائج في كلّ مكان حلّ فيه، فما بالك بخاتم الأنبياء عليه‌السلام وأهل بيته الأطهار ومَن يصلّي عيسى خلفه عند نزوله ويكون وزيراً له؟!

وكذا ورد في الآيات المباركة أن الماء مصدر البركة والخيرات كما في قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ) (1) ، فإذا كان اللَّه تعالى ببركة الماء المنزل من السماء ينبت الجنان ويحيي الأرض بعد موتها، فكيف بك بأنبياء اللَّه ورسله وخلفائه الأوصياء؟!

9 - البقعة المباركة:

وهي الطائفة من الروايات التي تعرّضت لذكر البقعة المقدّسة والمباركة التي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيها موسى عليه‌السلام كقوله تعالى: ( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَ نَارًا فَقَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ يَا مُوسَى * إِنِّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (2) ، وقوله تعالى: ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (3) ، وكذا قوله تعالى: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) (4) .

____________________

(1) ق: 9.

(2) طه: 9 - 12.

(3) النازعات: 15 - 16.

(4) مريم: 51 - 52.

١٠٩

وقوله عزّ وجلّ: ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِي‏ءِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (1) .

وقد أقسم اللَّه عزّ وجلّ بهذه البقعة المباركة لعظمتها، بالإضافة إلى بقع ثلاث أخرى، وذلك في قوله تعالى: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) (2) ، وهذا قسم من اللَّه عزّ وجلّ ببلد التين، وهو المدينة، وبلد الزيتون وهو بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، والبلد الأمين، وهو مكّة، كما ورد ذلك عن الإمام الكاظم عليه‌السلام ؛ حيث قال: (واختار من البلدان أربعة؛ فقال عزّ وجلّ: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) فالتين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سنين الكوفة، وهذا البلد الأمين مكّة) (3) .

هذا من طرقنا.

وكذلك من طرق السنّة، ولكن بتفسير التين بالبيت الحرام، وتفسير الطور بأنه الجبل الذي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيه موسى عليه‌السلام (4) ، ولا تنافي في ذلك إذ لعلّ ذلك هو الوادي المقدّس بين جبل طور والكوفة كما ذكر ذلك بعض المفسّرين.

____________________

(1) القصص:29 - 30.

(2) التين: 1 - 3.

(3) الصدوق، الخصال، ص225، والنيسابوري، روضة الواعظين، ص405.

(4) ابن الجوزي، زاد المسير، ج8، ص275.

١١٠

وقد ورد في الحديث أن محلّ قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام أوّل طور سيناء. عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال: (كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام : أن أخرجوني إلى الظهر [أي ظهر الكوفة]، فإذا تصوّبتْ أقدامكم واستقبلتكم ريح، فادفنوني؛ وهو أوّل طور سيناء. ففعلوا ذلك) (1) .

والحاصل: إن القرآن يؤكّد أن هناك بقعة مقدّسة مباركة، فيها هبطت الملائكة بالوحي على موسى عليه‌السلام ، ولابدّ أن تقدّس وتُعظّم ويُتقرّب فيها إلى اللَّه عزّ وجلّ ويكلّم اللَّه تعالى فيها الأنبياء.

قال القرطبي في تفسيره قوله تعالى ( إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (2) :

(المقدّس: المطهّر، والقدس: الطهارة، والأرض المقدّسة أي المطهّرة) إلى أن قال: (وقد جعل اللَّه تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض، كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض) (3) .

وهذا يعني أن هناك أماكن مقدّسة فيها ينزل الوحي وتفتح أبواب السماء، وفيها يزداد الأجر ويقبل الدعاء ويتوجّه إلى اللَّه عزّ وجل.

10 - وجوب تعظيم الأنوار الإلهيّة:

خلقة الأنوار الخمسة لأصحاب الكساء في سورة النور؛ قال تعالى: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا

____________________

(1) تهذيب الأحكام، ج 6، ص 34.

(2) طه: 12.

(3) تفسير القرطبي، ج11، ص175.

١١١

شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي‏ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (1) .

إن هذه الآية المباركة تنصّ على وجود بيوت خاصّة أذن اللَّه أن ترفع وتعظّم ويذكر فيها اسمه، وفي تلك البيوت يسبّح للَّه عزّ وجلّ وتقبل العبادة ويسمع الذكر، وتحت قبّتها يرفع الدعاء وتفتّح أبواب السماء وتحصل القربة إلى اللَّه تعالى، فهي بيوت مباركة ومقدّسة جعلها اللَّه تبارك وتعالى وسيلة وواسطة ومحلّاً لقبول العبادة والذكر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار.

ومن الجدير بالذكر أن تلك البيوت بيوتاً خاصّة، وهي مهبط الوحي والقداسة والطهارة. والشاهد على ذلك أن الجار والمجرور في قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بذلك النور الذي ضربه اللَّه عزّ وجلّ مثلاً للناس، فالنور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، وقد ذكرت الآية المباركة أن هذا النور نور السماوات والأرض، أي محيط بهما ومهيمن عليهما وأشرف منهما في الخلقة والرتبة الوجودية.

ثمّ إن ذلك النور مخلوق من مخلوقات اللَّه تعالى، أُضيف إليه عزّ وجلّ في الآية إضافة الفعل إلى فاعله، وهو عبارة عن أنوار خمسة شامخة، ضرب اللَّه تعالى لكلّ واحد منها مثلاً حسّياً لتقريب الفكرة وتنزيل الحقيقة إلى رقيقة

____________________

(1) النور: 35 -37.

١١٢

يفهمها البشر، وليس هذا النور عين الذات الإلهية؛ لأنها أحدية المعنى لا تعدّد ولا تكثّر فيها، والنور المذكور في الآية المباركة متعدّد منشعب إلى خمسة أنوار، مستقل بعضها عن البعض الآخر.

والأنوار الخمسة التي ضُربت مثلاً هي:

أولاً: المشكاة.

ثانياً: المصباح.

ثالثاً: الزجاجة.

رابعاً: الكوكب الدُّرِّي

خامساً: الشجرة المباركة.

ثم تقول الآية الكريمة بعد ذلك: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) .

وفي اللغة العربية يقول علماء البلاغة: كل تشبيه جملة مستقلة برأسها، وتفيد معنىً ومغزىً مستقلاً، فالآية بصدد التعرض إلى خلقة النور، وأن أحد مراحل الخلقة الإلهية هي المخلوقات النورية، وهي أنوار خمسة، تعظم في الخلقة الملائكةَ والروح والجنّ والإنس ومطلق الموجودات الأخرى، وهي أنوار مشتقّ بعضها من بعض، ومرتبط بعضها بالبعض الآخر كما هو ظاهر الآية المباركة.

وهذه الأنوار المباركة المحيطة بالسماوات والأرض، هي الأسماء والكلمات التي لم تعلم بها الملائكة، مع أن الملائكة ملأت أركان السماوات والأرض؛ لأنها هي التي تدبّرها وتدير شؤونها، وهو المشار إليه في تعليم آدم الأسماء وعرض اللَّه تعالى لها على الملائكة، فلم يعلموا بها، فأنبأهم آدم بها،

١١٣

ووصفها اللَّه بأنها غيب السماوات والأرض (1) ، وكما ورد هذا المعنى في روايات الفريقين (2) .

ولو كانت تلك الأسماء من عالم السماء والأرض، لعلمت بها الملائكة، ومن ذلك يعلم أن الأسماء التي علّمها اللَّه عزّ وجلّ آدم وجهلتها الملائكة، كانت مخلوقات محيطة بعالم السماوات والأرض.

وهذا نوع من أنواع التشاهد بين الآيات القرآنية، فالأنوار الخمسة المذكورة في سورة النور هي الأسماء التي خفيت عن الملائكة وعلّمها اللَّه تعالى آدم، وهي كما سيأتي موجودات حيّة عاقلة شاعرة من عالم النور كما عبّر عنها في سورة البقرة بضمير (هم) واسم الإشارة (هؤلاء)، وهما لفظتان لا تستعملان في الذوات الجامدة، بل في الذوات الحيّة الشاعرة العاقلة.

ويتحصّل من ذلك وجود مخلوقات خمسة نورية محيطة بالسماوات والأرض، أفضل من الملائكة ولا تحيط الملائكة بها علماً، بل إن اللَّه تعالى شرّف آدم على جميع مخلوقاته، بما فيهم المقرّبين من كبار الملائكة، كجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل بفضل تلك الأنوار، وبفضلها أيضاً استحقّ مقام الخلافة الإلهية، وسجد له الملائكة كلّهم أجمعون.

ومن ذلك يتضح أن هذه الأنوار الخمسة هي باطن (غيب) وملكوت السماوات والأرض؛ لأن نور كلّ شي‏ء بمنزلة الروح له، ومن دونه يكون ظلمانياً، والنور في المقام ليس هو النور الحسّي الذي يظهر الصفات العارضة

____________________

(1) سورة البقرة: 31 - 33.

(2) بصائر الدرجات، ص89، الطبراني، المعجم الأوسط، ج4، ص44.

١١٤

على الشي‏ء، بل هو نور الخلقة الذي يوجد الشي‏ء ويكوّنه ويظهره من كتم العدم إلى الوجود، فنور السماوات والأرض أي ملكوتهما وباطنهما ومظهرهما من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وهو اسم اللَّه الأعظم الذي هو غير المسمّى، يفوق في القدرة والعظمة كافّة المخلوقات في السماوات والأرض.

وسيأتي أن تلك الأنوار الخمسة المباركة - وهي الأسماء التي علّمها اللَّه تعالى آدم وتاب بفضلها عليه من خطيئته، وابتلى بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة - هم خمسة أصحاب الكساء وأهل آية المباهلة: محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، فهم أهل البيت، وهم النور الإلهي الذي حلّ في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، لتكون محلّاً للذكر والتسبيح والعبادة والتوجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ وتشييد معالم الدين.

ولذا أخرج السيوطي في الدرّ المنثور عن ابن مردويه عن أنس ابن مالك وبريدة، قال: قرأ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول اللَّه؟ قال: (بيوت الأنبياء)، فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول اللَّه، هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت عليّ وفاطمة عليهم‌السلام ، قال: (نعم، من أفاضلها) (1) .

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه‌السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال: (هي بيوت النبي صلَّى الله عليه وآله) (2) .

كذلك عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، في قوله: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ

____________________

(1) الدرّ المنثور، ج 5، ص50.

(2) الكافي، ج8، ص331، ح510.

١١٥

تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) قال: (هي بيوت الأنبياء، وبيت علي منها) (1) .

وقد تقدّم رواية الحاكم في المستدرك أن من الكلمات التي تاب اللَّه بها على آدم (وهي الأسماء التي شُرّف آدم بها على الملائكة كخليفة، لأن الكلمات أعظم مقاماً من آدم إذ بها تاب اللَّه عليه)، أن من أعظم تلك الكلمات والأسماء هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد ورد في المستدرك أنه لولاه لَمَا خلق آدم ولا الجنة ولا النار (2) ويتشاهد هذان الحديثان النبويان على أن أوّل الأنوار الخمسة والأسماء التي تعلّمها آدم وتوسّل بها هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا بالنسبة إلى الأنوار الخمسة المباركة.

الأئمة التسعة من ولد الحسين عليه‌السلام في آية النور:

وأمَّا قوله تعالى: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) ، فهو إشارة إلى استمرار وديمومة قانون الإمامة والخلافة الإلهية بعد تلك الأنوار الخمسة إلى يوم القيامة، نور على نور يهدي اللَّه لنوره من يشاء، و(على)؛ أي على إثر وعقب، لغة في أحد المعاني المستعملة في لفظ (على) بالتضمين لمعنى الإثر؛ والشاهد على ذلك ما تقدّم من أن الهداية هي الإيصال إلى المطلوب، وقد جاء ذكر الهداية تفسيراً وبياناً لمقام الإمامة والولاية كما في قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، فالتعبير بالهداية في الآية المباركة يراد منه الإمامة، وهو مقتضى معنى النور أيضاً؛ إذ هو الهادي إلى صراط اللَّه تعالى.

____________________

(1) تفسير القمي: ج2 ص79.

(2) المستدرك، ج 2، ص 671 و 672

١١٦

ولذا ورد عن الإمام محمّد بن علي بن الحسين عليه‌السلام في قوله تعالى ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) قال: (يعني إماماً مؤيّداً بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك من لدن آدم إلى يوم القيامة) (1) .

وعن الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ، قال: قلت ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) ؟ قال: (الإمام في إثر الإمام) (2) .

وورد أيضاً عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في قوله تعالى ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) قال: (يهدي لولايتنا من أحبّ) (3) .

بيان آخر للآية المباركة:

هناك بيان آخر للآية الكريمة التي نحن بصدد الاستدلال بها، أدقّ وأعمق وأدلّ على المطلوب من البيان الأول؛ وهو:

بعد أن تبيّن أن قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بالنور، وأن النور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، نقول:

إن الآية الثالثة التي ذكرناها في المقام، وهو قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) ، هذه الجملة من المبتدأ والخبر كلّها بدل من قوله تعالى ذكره: ( فِي بُيُوتٍ ) ، أي أنها في محلّ جرّ بدل من البيوت؛ ويكون المعنى على ذلك: أن البيوت رجال لا تلهيهم تجارة، وليست هي

____________________

(1) توحيد الصدوق، ص158، ح4.

(2) المصدر، ص157، ح3.

(3) مناقب ابن المغازلي، ص263، ح361.

١١٧

بيوت حجارة، ولا طين.

والشواهد على ذلك من نفس الآيات المباركة كثيرة نشير إلى بعضها:

أ - قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ ) ليس فاعلاً لقوله عزّ وجل: ( يُسَبِّحُ ) ؛ وذلك طبقاً لقراءة أهل البيت عليه‌السلام ، حيث إن قراءتهم لكلمة يسبَّح (بفتح الباء) مبني للمجهول، وبناءً على هذا لا تكون كلمة ( رِجَالٌ ) فاعلاً لـ (يسبَّح) وإنما تكون مبتدءاً والجملة التي بعدها خبر، والجملة بتمامها عطف بدل على بيوت، فالبيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع، وإلى ذلك يشير قول الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام إلى قتادة البصري(فقيه أهل البصرة) عندما سأله قائلاً:

(أصلحك اللَّه، واللَّه لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عبَّاس، فما اضطرب قلبي قدّام واحدٍ منهم ما اضطرب قدّامك؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : (ويحك أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي ( بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) فأنت ثَمَّ، ونحن أولئك)، فقال له قتادة: صدقت واللَّه، جعلني اللَّه فداك، واللَّه ما هي بيوت حجارة ولا طين) (1) .

وكذلك ما ورد عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ؛ حيث قال: (إنّه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل اللَّه طاعة وليّ أمره بطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعة رسوله بطاعته، فمَن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللَّه ولا رسوله، وهو الإقرار بما نزل من عند اللَّه: ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) والتمسوا البيوت التي أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه أخبركم أنهم

____________________

(1) الكافي، ج6، ص256، ح1.

١١٨

( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (1) .

ثم إن تلك القراءة بفتح الباء في (يسبَّح) قرأ بها أيضاً ابن عامر وأبو بكر وابن شاهي عن حفص (2) .

إذن، يتحصّل أن النور في بيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.

أهل البيت عليهم‌السلام معصومون بأعالي درجات العصمة:

ب - قوله عزّ وجل: ( لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) . فإن هذا المقطع من الآية المباركة يشير إلى أن هؤلاء الرجال معصومون بأعلى درجات العصمة، وهي عصمة السرّ التي هي فوق عصمة الجوارح؛ إذ لا يلهون برهة من حياتهم عن ذكر اللَّه، فهم في ذكر دائم، وهذا يعني أن أولئك الرجال ثلّة خاصة في الأمة الإسلامية يتميّزون عن بقيّة المسلمين وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين انفضّ أكثرهم من حوله وتركوه قائماً عندما سمعوا بالتجارة كما نصّت على هذه الحادثة سورة الجمعة؛ وذلك في قوله تعالى: ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (3) .

ففي الروايات لم يبقَ مع النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا اثني عشر أو ثمانية رجال،

____________________

(1) الكافي، ج1، ص182، ح6.

(2) الطوسي، لاحظ التبيان، ج7، ص439، وابن الجوزي، زاد المسير، ج5، ص364.

(3) الجمعة: 11.

١١٩

وانفضّ الباقون إلى اللّهو والتجارة (1) .

وفي بعض الروايات لم يبقَ إلّا علي عليه‌السلام (2) .

ولا شك أنه لا يوجد ثلّة معصومة في هذه الأمة غير أهل آية التطهير، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فنالوا بذلك أعلى درجات العصمة والطهارة.

وهذا يعني أن تلك الأنوار الخمسة المباركة في بيوت وأبدان طاهرة، وهم رجال معصومون من الغفلة عن ذكر اللَّه عزّ وجل، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.

وتلك البيوت والرجال أذن اللَّه أن يرفع ذكرهم، كما قال اللَّه تعالى لنبيّه: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) ، ولا شك أن معنى ذلك هو وجوب التعظيم والطاعة لهم والانقياد لولايتهم والتوجّه بهم إلى اللَّه تعالى في العبادة، كما أمر اللَّه عزّ وجلّ الملائكة بالخضوع والسجود لآدم وجعل الخضوع واسطة للانقياد إلى الأوامر الإلهية.

إذن، لا يقبل اللَّه عزّ وجلّ من العباد الطاعة، إلّا برفع تلك البيوت وتعظيم أولئك الرجال، والإتيان بالطاعات امتثالاً لأمر اللَّه وأمر رسوله وأمر أُولي الأمر من هذه الأمة.

قال تعالى: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ

____________________

(1) لاحظ: الطبري، جامع البيان، ج28، ص132.

(2) شرف الدين، تأويل الآيات، ج2، ص693.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

(٧)

إسراءه ومعراجه

إنّ الأنبياء والرسل هم أوّل من سبروا أعماق الفضاء بأكنافه وآفاقه، ولو صحّ لنا تسميتهم: « روّاد الفضاء » فهم أولى بإطلاق ذلك الإسم عليهم دون غيرهم، فقد عرجوا قبل أن يكون هناك أثر لوجود روّاد الفضاء في روسيا أو الولايات المتحدة الأمريكية، بل لم تكن هناك أية فكرة لتسخير الفضاء أو التجاسر على التفكير به، وأخطاره في الأذهان، فقد كانت العلوم الرائجة في تلك العصور تستحيله وتجعله في مصافّ المحالات، لأنّهم كانوا على القول بإمتناع الخرق والإلتئام في طبقات السماء فهم: أوّل من كسروا حاجز هذه الخرافة وأثبتوا بتطبيقهم العملي عن طريق العروج والاسراء. إنّه ليست هناك حجب تخرق، أو تلتئم بعد الخرق، بل السماء فضاء رحب، والكواكب إنّما هي عبارة عن أجرام معلّقة في أرجائه، تحكمها قوانين الطرد والجذب المركزية، وإنّ الإنسان بفضل معونة القدرة الغيبية، يستطيع الإفلات من قوّة الجاذبية الأرضية، كما أنّه يقدر على اختراق الغلاف الكثيف المحيط بالأرض كل ذلك بفضل المواهب السنيّة التي يجلّل بها الخالق جلّ جلاله عبده.

إنّ الاُمنيّة البعيدة غوراً في تاريخ الفكر الإنساني، والتي أصبحت في متناول إنسان العصر الحديث بفضل إزدهار ورقي حضارته المادّية، وتسخير قوى الطبيعة لصالحه، تحقّقت بالأنبياء واُمناء الغيب بفضل ما حباهم الباري عزّ شأنه به من الوسائل الغيبية للصعود والإرتقاء في أعماق الفضاء الواسع.

وبذلك يفترق عمل الأنبياء في ذلك المجال عن عمل روّاد الفضاء وإن كان الكل مثيراً للإعجاب لأنّهم كانوا يعتمدون على أسباب غيبية لا تخضع للموازين

٢٠١

البشرية، وهذا بخلاف عمل روّاد الفضاء فإنّهم يستمدّون في تحقيق اُمنيتهم، بتوسّط الأسباب والعلل الطبيعية والأجهزة الصناعيّة التي عكف على صنعها وإعدادها مئات بل اُلوف من المفكّرين والعباقرة في مختلف العلوم البشرية وبإنفاق المليارات من العملة الصعبة.

هذا هو الذكر الحكيم يصوّر لنا كيفيّة إرتقاء النبي سليمانعليه‌السلام إلى السماء وسياحته في جوّ الأرض وذلك بتسخير الريح العاصفة له تسير به طواعية تحت أمره حيثما شاء في قوله:( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إلى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ) ( الأنبياء / ٨١ ).

فهذه الآية تعرب عن أنّ الريح العاصفة تسير به إلى الأرض التي باركها سبحانه وهي أرض الأنبياء المشار إليها في آية اُخرى:( إلىالمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) ( الأسراء / ١ ).

ومثلها قوله سبحانه:( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) ( ص / ٣٦ ).

والرخاء هو اللين، ولعلّ المراد بأنّ الريح العاصفة التي من طبيعتها الجموح والإهلاك كانت مطيعة لسليمان تجري بأمره طواعية ذلولاً كما أنّ قوله( حَيْثُ أَصَابَ ) أي بمعنى حيث شاء سليمان وقصد، سواء كان المقصد البقاع المباركة أو غيرها.

كما أنّ هناك آية اُخرى تحدّد لنا مقاطع حركتها الزمنية وكيف أنّها كانت في يوم واحد تقوم بقطع مسافة كانت تقطعها وسائل النقل في تلك العصور مدّة شهرين في قوله:

( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ) ( سبأ / ١٢ ).

فلو افترضنا أنّ وسائل النقل تقطع في كلّ يوم أربعاً وأربعين كيلومتراً على وفق ما هو المتعارف عليه يومذاك، يكون مجموع مقدار المسافة اليوميّة في امتداد شهر (١٣٢٠) كيلومتراً، فإذا كان غدوّها شهراً ورواحها شهراً يكون مجموع المسافة التي كان يقطعها سليمان في يوم واحد تبلغ (٢٦٤٠) كيلومتراً.

٢٠٢

والحقّ إنّها كانت كرامة عظيمة كرّمه الله سبحانه بها، وليس سليمان وحيداً في الاختصاص بتلك المكرمة بل تلاه المسيح عيسى بن مريم عند ما اجتمع أجلاف اليهود وجلاوزتهم على قتله حيث رفعه إليه ونجّاه من كيدهم. يقول سبحانه:

( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا *بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) ( النساء / ١٥٧ و ١٥٨ ).

فالآية تتضمّن دعويين:

الاُولى: ما يقوله اليهود وهو قتل المسيح وصلبه.

الثاني: ما يصرّح به القرآن وهو نفي قتله وعدم صلبه بل رفعه.

وبما أنّ متعلّق القتل والصلب هو الوجود الخارجي أي جسم المسيح وروحه فيكون ذلك متعلّق الرفع أيضاً، فهو رفع بجسمه وروحه، وبعبارة أكثر وضوحاً إنّه رفع حيّاً لا أنّه قد اُميت ثمّ رفع على ما هو المصرّح به في الأناجيل المحرّفة من موت المسيح ثمّ رفعه بعد اسبوع من صلبه أو أيام قلائل، فما ربّما يظهر من جنوح بعض المتأخّرين من المفسّرين إلى هذا التفسير، فهو تفسير بمحض الرأي ومخالف لظاهر الآية فإنّ الاضراب الوارد في قوله تعالى( بَل رَّفَعَهُ اللهُ ) لا يكون إضراباً عن قول اليهود إلّا برفعه حيّاً لا برفعه ميّتاً، فإنّ هذا الرفع كان لغاية تخليص المسيح من سطوة اليهود سواء مات بعد ذلك أم بقي حيّاً بإبقاء الله تعالى له، وعلى كل تقدير فلا يكون قوله( بَل رَّفَعَهُ اللهُ ) إبطالاً لقول اليهود إلّا إذا رفع حيّاً.

وأمّا قوله سبحانه:( إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) ( آل عمران / ٥٥ )، فليس التوفّي هناك بمعنى الإماتة والإزهاق بل ليس للتوفّي إلّا معنى واحد وهو القبض والأخذ، يقال: توفّيت المال منه واستوفيته: إذا أخذته كلّه، ويقال توفّيت عدد القوم: إذا عددتهم كلّهم، كما يقال: توفّي فلان

٢٠٣

وتوفّاه الله إذا قبض(١) . وعلى ذلك فليس للتوفّي إلّا معنى الأخذ وله مصاديق مختلفة، فالإماتة من مصاديقه كما أنّ النوم بما أنّه نوع أخذ للإنسان مصداق آخر له قال سبحانه:( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ) ( الأنعام / ٦٠ ) وعلى ضوء ذلك فمعنى( إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ ) : قابضك من الأرض حيّاً إلى جواري ورافعك من بين أعدائك، فالآيات متضافرة المضمون على أنّه رفع من الأرض حيّاً إليه سبحانه.

ورفعه من الأرض حيّاً يلازم رفعه إلى السماء، وبذلك تقف على تفسير قوله سبحانه حيث يحكي عن المسيح قوله:( مَا قُلْتُ لَهُمْ إلّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( المائدة / ١١٧ ).

معراج النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

إنّ الوقوف على إسراء النبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعروجه منه إلى سدرة المنتهى من معاجزه وكراماته التي أثبتهما القرآن الكريم في سورتي الإسراء والنجم، وتفصيل ما ظهر له فيهما من الآيات يتوقّف على نقل شأنهما في الذكر الحكيم. أمّا الإسراء فقال فيه:

( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) ( الإسراء / ١ ).

١ ـ إبتدأ سبحانه كلامه بالتسبيح وقال:( سُبْحَانَ ) (٢) وهي كلمة تنزيه لله عزّ

__________________

(١) لسان العرب: ج ١٥ ص ٤٠٠ مادّة « وفى ».

(٢) سبحان علم للتسبيح كعثمان للرجل، وانتصابه بفعل مضمر لا يظهر تقديره يسبّح الله سبحان، ثمّ نزل سبحان منزلة الفعل وسدّ مسدّه ودلّ على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداؤه.

٢٠٤

اسمه عمّا لا يليق به من الصفات، وقد يراد به التعجيب، ولكن الظاهر هو الأوّل.

ولعلّ الوجه في إبتدائها بالتنزيه هو التصريح بتنزيهه سبحانه عن العجز لما سيذكر بعده من الإسراء بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في فترة زمنية قصيرة، ويمكن أن يكون الوجه إرادة تنزيهه سبحانه عن التجسيم والجهة والرؤية وكل ما لا يليق بعزّ جلاله وصفات كماله، حتّى لا يتوهّم متوهّم أنّ المقصود من المعراج هو رؤية الله تبارك وتعالى في ملكوت عرشه وجبروت سلطانه، والأوّل أقرب.

٢ ـ الإسراء لغة هو السير في الليل. يقال: سرى بالليل وأسرى بمعنىً، وأمّا الإتيان بلفظة « ليلاً » مع الإستغناء عنه فيأتي وجهه.

٣ ـ قوله « بعبده » يدل على أنّ الإسراء كان بمجموع الروح والجسد يقظة لا مناماً ولم يطلق العبد في القرآن إلّا على المجموع منهما. قال سبحانه:( الحُرُّ بِالحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ) ( البقرة / ١٧٨ )، وقال سبحانه:( وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ ) ( البقرة / ٢٢١ ).

إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها لفظ العبد والتي تناهز ٢٨ آية، ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه ابتدأ السورة بالتنزيه فقال:( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ ) خصوصاً إذا قلنا بأنّه للتعجّب فإنّه يكون في الاُمور العظام الخارقة للعادة، ولو كان الإسراء بمجرّد الروح، مناماً لم يكن فيه كبير شأن ولم يكن مستعظماً، وما ورد في المقام من الروايات المنتهية إلى أمثال معاوية ابن أبي سفيان بأنّه قال: كان رؤيا من الله صادقة، مرفوض فإنّ معاوية يومئذٍ كان من المشركين لا يقبل خبره في مثل هذا، ومثله ما روي عن عائشة زوجة النبي بأنّه قال: ما فقد جسد رسول الله ولكن اُسري بروحه، فإنّ عائشة يومئذٍ كانت صغيرة ولم تكن زوجة رسول الله، بل لم تولد بعد على إحتمال، وهناك كلام لأبي جعفر الطبري في تفسيره نقتطف منه ما يلي:

« الصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنّ الله أسرى بعبده محمد ( صلّى

٢٠٥

الله عليه وآله وسلّم ) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر الله عباده وكما تضافرت به الأخبار عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله حمله على البراق حتى أتى به فصلّى هناك بمن صلّى من الأنبياء والرسل فأراه ما أراه من الآيات، ولا معنى لقول من قال: اُسري بروحه دون جسده، لأنّ هذا الإسراء لا يشكّل دليلاً على نبوّته ولا حجّة له على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك. إذ لم يكن منكراً عندهم ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل ؟ وبعد، فإنّ الله إنّما أخبر في كتابه أنّه أسرى بعبده ولم يخبرنا أنّه أسرى بروح عبده، فليس جائزاً لأحد أن يتعدّى ما قال الله إلى غيره ـ [ مضافاً ] إلى أنّ الأدلّة الواضحة والأخبار المتداولة عن رسول الله أنّه اُسري به على دابة يقال لها البراق، فلو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق، إذ كانت الدواب لا تحمل إلّا الأجساد(١) .

٤ ـ( لَيْلاً ) وهو يدل على أنّ الإسراء في بعض الليل كما يفيده التنكير فلا يستفاد ذلك من لفظ الإسراء، فإنّه يدل على صرف كونه في الليل.

قال الزمخشري: إنّ تنكير « ليلاً » للدلالة على أنّه اُسرى به بعض الليل من مكّة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أنّ التنكير قد دلّ على معنى البعضيّة ويشهد لذلك قراءة عبد الله بن حذيفة: « من الليل » أي بعض الليل، كقوله:( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ) ( أي من بعضه )(٢) . ثمّ إنّ الحركة بهذه السرعة ممكنة في نفسها، فقد جاء في القرآن أنّ الرياح كانت تسير بسليمان إلى المواقع البعيدة، في الأوقات الزمنية القليلة كما مرّ.

وحكى سبحانه عن الذي كان عنده علم من الكتاب أنّه أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر، حيث قال:( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ

__________________

(١) تفسير الطبري: ج ١٥ ص ١٣٠.

(٢) الكشّاف: ج ٢ ص ٢٢٣ ( طبع مصر ).

٢٠٦

هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ) ( النمل / ٤٠ ).

فإذا أجاز هذا لدى طائفة من الناس، ممّن سبقه، صحّ وقوعه منه(١) .

وها نحن في كل يوم نشاهد من صنوف المخترعات في ميادين النقل والمواصلات ما يتمكّن بواسطتها من قطع المسافات الشاسعة كالطائرات التي تجتاز المحيطات في ساعات قلائل وينتقل من قارة إلى قارة ومن قطر إلى قطر بيسر وسهولة، وهذا ليدفعنا إلى الإعتقاد الجازم بشهادة العيان بأنّ ما جاء في هذه الرحلة الخارقة لقوانين الطبيعة ليس أمراً عزيز الحصول أو مستحيلاً، فإذا كان هذا بوسع الإنسان بحسب طاقاته المحدودة وهو الذي خلق ضعيفاً، فالله سبحانه أقدر عليه وعلى غيره من كل أحد( وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) .

٥ ـ( مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى ) وهذه الجملة تعرب عن تحديد بدء السير ومنتهاه، وأنّه ابتدأ من المسجد الحرام وانتهى إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس بقرينة قوله:( الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) والقصى البعد، وسمّي المسجد الأقصى به لكونه أبعد مسجد بالنسبة إلى مكان النبي ومن معه من المخاطبين وهو مكّة التي فيها « المسجد الحرام ».

وذهب أكثر المفسّرين إلى أنّه اُسري به من دار اُم هاني اُخت عليّ بن أبي طالب وزوجها هبيرة بن أبي لهب المخزومي، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله نائماً تلك الليلة في بيتها، وأنّ المراد بالمسجد الحرام هنا مكّة، والحرم كلّها مسجد(٢) .

وقال بعضهم: إنّما اُسري به من شعب أبي طالب.

والوجه الأوّل هو الأوفق بظاهر الكتاب ومع ذلك يمكن تصحيح الوجهين الأخيرين بوجهين:

__________________

(١) تفسير المراغي: ج ١٥، ص ٦، بتصرّف يسير.

(٢) مجمع البيان: ج ٦ ص ٣٩٩.

٢٠٧

الأوّل: إنّه لو كان في المكان الوسيع شيء معروف ومتبرّك يطلق اسمه على جميع المكان، نظير ذلك مسجد الشجرة حيث يطلق ويراد منه ذو الحليفة، ومشهد الإمام عليّعليه‌السلام يطلق ويراد منه النجف برمّتها، إلى غير ذلك، ومن الممكن أن يكون المراد من المسجد الحرام، الحرم كلّه بالملاك المذكور فيشمل مكّة والبيت الذي اُسري منه النبي أو الشعب الذي كان النبي لاجئاً إليه يومذاك.

الثاني: أن يكون الإسراء قد حدث مرّتين أحدهما من المسجد الحرام والآخر من بيت أم هاني أو من الشعب، ويؤيّد ذلك ما رواه الكليني أنّه سأل أبو بصير أبا عبد اللهعليه‌السلام فقال: جعلت فداك وكم عرج برسول الله ؟ فقال: مرّتين(١) .

٦ ـ( الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) أي جعلنا البركة فيما حوله من الأشجار والثمار والنبات والأمن والخصب حتّى لا يحتاجون إلى أن يجلب إليهم من موضع آخر. أضف إلى ذلك أنّه سبحانه جعله مقر الأنبياء ومهبط الملائكة، فقد اجتمعت فيه بركات وخيرات الدين والدنيا.

٧ ـ( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) والجملة متكفّلة ببيان الهدف من الإسراء وهو إراءة عجائب الآيات وغرائب الصنع، ومنها إسراءه في ليلة واحدة من مكّة إلى المسجد الأقصى، وهي فترة قياسية خارقة للعادة.

فلو كان المسجد الأقصى منتهى سيره في ذلك الإسراء، فيكون المراد من الآيات التي أراه الله سبحانه إيّاها مجرّد ما رأته عيناه في طريقة إلى المسجد الأقصى وما فيه من مقامات الأنبياء وقبورهم وآثارهم.

وأمّا إذا كان العروج إلى السماء متّصلاً بذلك الإسراء فيتّسع نطاق الآيات، وفي السياق دلالة على عظمة هذه الآيات التي كشف له عنها الله سبحانه، وحيث أراه بعضها لا كلّها، وفيه تصريح بأنّ الهدف هو إراءة الآيات الكونية الباهرة ليرجع

__________________

(١) نور الثقلين: ج ٣ ص ٩٨.

٢٠٨

النبي من إسرائه بصدر منشرح وقلب متفتّح قد انعكست فيه آيات العظمة وسبحات الجلال والجمال، وأمّا ما يتخيّل من أنّ الهدف رؤية الله سبحانه فهو ممّا حاكته يد الدسّ ونسجته أغراض التزوير.

وفي الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت تنديد بهذا الفكر النابي. روى الصدوق في علل الشرائع: عن ثابت بن دينار، قال سألت زين العابدين ـ عليّ بن الحسين ـعليه‌السلام عن الله جلّ جلاله هل يوصف بمكان ؟ فقال: تعالى عن ذلك، قلنا: فلم أسرى نبيّه إلى السماء ؟ قال: ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه.

وفي حديث آخر عن يونس بن عبد الرحمان، قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام : لأيّ علّة عرج الله ـ عزّ وجلّ ـ نبيّه إلى السماء ومنها إلى سدرة المنتهى، ومنها إلى حجب النور، وخاطبه وناجاه هناك، والله لا يوصف بمكان ؟ فقالعليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان ولا يجري عليه زمان، ولكنّه عزّ وجلّ أراد أن يشرّف ملائكته وسكّان سماواته ويكرمهم بمشاهدته ويريه من عجائب عظمته ويخبر به بعد هبوطه، وليس ذلك على ما يقوله المشبّهون. سبحان الله وتعالى عمّا يشركون.

٨ ـ( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) وهذا تعليل لإراءة آياته، ومعناه أنّه سميع لأقوال عباده، بصير بأفعالهم، يسمع أقوال من صدّقه أو كذّبه ويبصر أفعالهم.

عروجه إلى السماء

هذا كلّه حول إسرائه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وقد جاء في القرآن في سورة واحدة وهي سورة الإسراء، وأمّا عروجه إلى السماء فقد تكفّلت ببيانه سورة النجم، وإليك نصّ ما ورد بشأن ذلك فيها:

٢٠٩

قال سبحانه:( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ *مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ *وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَىٰ *إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحَىٰ *عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ *ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ *وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَىٰ *ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ *فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ *مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ *أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ )

( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ *عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَىٰ *عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَىٰ *إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ *مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ *لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ) ( النجم / ١ ـ ١٨ ).

والطائفة الاُولى من الآيات راجعة إلى بدء الدعوة ولا تمتّ إلى حديث المعراج بصلة، وأمّا الطائفة الثانية فهي مصرّحة بمعراجهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولأجل الوقوف على ما تهدف إليه الآيات يحتّم علينا أن نفسّرها واحدة بعد الاُخرى، فنقول:

١ ـ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ ) . وهو حلف من الله بمخلوقه، والمراد من الهوى سقوطه للغروب.

٢ ـ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ) أي لم يخرج عن الصراط المستقيم، والمراد من الصاحب هو النبي، كما أنّ المراد من الغيّ هو الإعتقاد الفاسد، أي ما خرج النبي عن الطريق الموصل إلى الغاية المطلوبة ولم يخطئ في إعتقاده ورأيه.

٣ ـ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَىٰ ) المراد بالهوى هوى النفس ورأيها، ومقتضى ورود النفي على النطق هو نفي الهوى في مطلق نطقه، إلّا أنّ ذيله قرينة على أنّ المراد نفي سلطة الهوى في ما يدعوهم إلى الله.

٤ ـ( إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) أي لا ينطق فيما يدعوكم إلى الله عن هوى نفسه ورأيه وليس ذلك إلّا وحياً يوحى إليه من الله تعالى.

٥ ـ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ ) المراد من شديد القوى هو جبرئيل بقرينة قوله

٢١٠

سبحانه:( ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) ( التكوير / ٢٠ ) وبذلك يضعف إحتمال كون المراد هو الله سبحانه، والضمير في « علّمه » يرجع إلى الصاحب، المراد منه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واحتمال رجوعه إلى الوحي أو القرآن ضعيف لإستلزامه تقدير مفعول له مثل قولنا: « علّمه إيّاه » وهو خلاف الظاهر.

٦ ـ( ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ ) المرّة ـ بكسر الميم ـ الشدّة وحصافة العقل والرأي، أي ذو حصافة في عقله ورأيه أو ذو شدّة في جنب الله، واحتمال كون المراد منه هو النبي يستلزم جعله صفة ل‍ « صاحبكم » وهو بعيد، بل هو صفة لشديد القوى الذي جاء بعده، وهو أيضاً دليل على أنّ المراد من شديد القوى هو جبرئيل. كما أنّ المراد من قوله « فاستوى » إستقام على صورته الأصليّة التي خلق عليها، لأنّ جبرئيل كان ينزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في صور مختلفة، ولكنه في بدء الدعوة ظهر له في صورته الأصليّة.

٧ ـ( وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَىٰ ) والضمير يرجع إلى شديد القوى، والمراد منه جبرئيل، كما أنّ المراد بالاُفُق الأعلى ناحية المشرق من السماء، لأنّ المشرق مطلّ على المغرب ويحتمل أن يكون المراد اُفق أعلى من السماء من غير اعتبار كونه شرقياً، والجملة، هي جملة حالية من ضمير فاستوى.

٨ ـ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ) والضميران راجعان إلى جبرئيل، والمراد من « الدنوّ » القرب كما أنّ المراد من التدلّي هو الإعتماد على جهة السفل مأخوذ من الدلو، والمراد قرب جبرئيل متدلّياً من الاُفق الأعلى.

٩ ـ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ ) ألقاب مقدار الشيء، والقوس معروف وهي آلة الرمي، والمعنى قرب جبرئيل على حدّ لم يبق بينه وبين النبي إلّا قدر قوسين أو أقلّ.

١٠ ـ( فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ) والضمير في كلا الفعلين يرجع إلى جبرئيل على نسق رجوع سائر الضمائر إليه. نعم الضمير في « عبده » يرجع إلى الله

٢١١

سبحانه، والمعنى فأوحى جبرئيل إلى عبد الله ما أوحى.

وربّما يحتمل رجوع الضمائر الثلاث إلى الله سبحانه، والمراد فأوحى الله بتوسّط جبرئيل إلى عبده، وهو وإن كان صحيحاً ولكنه على خلاف السياق.

١١ ـ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) والكذب كما يتّصف به الكلام كذلك يطلق على خطأ القوّة المدركة، يقال: كذّبته عينه أي أخطأت في رؤيتها، ونفي الكذب عن الفؤاد كناية عن تنزيهه عن الخطأ، والمراد من الفؤاد فؤاد النبي، وضمير الفاعل في « ما رأى » راجع إلى الفؤاد، والرؤية رؤيته، ولا إشكال في إسناد الرؤية إلى الفؤاد لأنّه يطلق على شهود النفس رؤيتها.

١٢ ـ( أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ) وهو توبيخ لهم على مماراتهم إيّاه، حيث إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يدّعي رؤية جبرئيل وهم يجادلونه في ما رآه وشاهده، ولا مجال للمجادلة فيما شوهد بالحسّ والعيان.

إلى هنا تمّت الطائفة الاُولى من الآيات والكلّ يهدف إلى إستعراض قصّة بدء الدعوة أنّ جبرئيل الذي هو شديد القوى كان قد علّمه القرآن ورآه النبي وهو بالاُفق الأعلى، وقد قرب من النبي متدلّياً إليه فلم يبق بينه وبين النبي إلّا مسافة قوسين أو أدنى، وليس هناك بحث عن رؤية النبي لله سبحانه كما لا صلة لهذه الآيات بحديث المعراج وعروجه إلى السماء.

وبالإمعان فيما ذكرنا تظهر اُمور:

أ ـ إنّ الضمائر من قوله( عَلَّمَهُ ) إلى قوله:( إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ) كلّها يرجع إلى شديد القوى والمراد منه جبرائيل إلّا الضمير في( إِلَىٰ عَبْدِهِ ) فإنّه يرجع إلى الله.

وعلى إحتمال، يرجع الضميران في الفعلين( فَأَوْحَىٰ مَا أَوْحَىٰ ) إلى الله سبحانه، وبعد ذلك لا معنى للإستدلال بهذه الآيات على أنّ النبي رأى ربّه، والإشتباه إنّما حصل من إرجاع الضمائر الثلاثة من قوله:( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ) إلى النبي

٢١٢

الأكرم وأنّ المرادنا منه سبحانه وهو ممّا لا يساعد عليه سياق الآيات.

ب ـ إنّ الكاتب الإنگليزي « جان. ديون. بورت » فسّر قوله( دَنَا فَتَدَلَّىٰ ) بأنّ النبي استجاز ربّه للحضور عنده، فقرب منه إلى حدّ لم يبق بينه وبين ربّه إلّا قاب قوسين، وهو غلط كما أوضحناه. أضف إلى ذلك: إنّ هذا القسم من الآيات لا يمتّ إلى حديث المعراج بصلة، وإنّما هو بصدد بيان حادثة بدء الدعوة ولم يكن هناك يومئذ معراج من النبيّ حتى يستأذن للحضور عند ربّه، ومنشأ الإشتباه مضافاً إلى ذلك هو إرجاع الضميرين في دنا فتدلّى إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ج ـ إنّ بعض المستشرقين يذكر في تفسير الآيات: إنّ النبي قرب من الله سبحانه حتى سمع صرير قلمه ووقف على أنّه سبحانه مهتمّ بصيانة حساب عباده، سمع صرير قلمه ولم ير شخصه، كل ذلك خلط وخبط، يفعلون ذلك على الرغم من أنّهم غير متضلّعين في اللغة العربيّة وأساليبها وقواعدها وأسرارها وفي القرآن الكريم وإشاراته ونكاته، ثمّ يكتبون عن النبي والإسلام والقرآن كل شيء دعتهم إليه أغراضهم ولا علم لهم بشيء منها إلّا ما لا يلتفت إليه.

إذا وقفت على مفاد الطائفة الاُولى من الآيات نعرج بك على تفسير الطائفة الثانية التي وردت في معراج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّما جاءت بعد الطائفة الاُولى لصلة تامّة بينهما وهو التركيز على أنّ النبي رأى جبرئيل على صورته الواقعيّة في كلتا المرحلتين، اُولاهما بدء الدعوة حيث رآه بالاُفق الأعلى، وثانيهما عند المعراج إذ رآه عند سدرة المنتهى التي عندها جنّة المأوى، ويؤكّد على أنّ الرؤية كانت رؤية صادقة غير خاطئة، فيركّز على صدق الرؤية في ضمن الطائفة الاُولى بقوله:( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) وفي ضمن الطائفة الثانية بقوله:( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ) وأنّ الرؤية رؤية واقعيّة غير مشوبة بالزيغ والخطأ، ثمّ قال سبحانه:

١٣ ـ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ ) النزلة بناء مرة من النزول فمعناه نزول واحد، فتدلّ الآية على أنّ هذه قصّة رؤية في نزول آخر، والآيات السابقة تحكي نزولاً آخر، ولأجل

٢١٣

ذلك قلنا أنّ الطائفتين تهدف كل منهما إلى قصّة خاصة، وضمير الفاعل يرجع إلى النبي، وضمير المفعول لجبرئيل والنزلة نزول جبرئيل إليه ليعرج به إلى السموات.

١٤ ـ( عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَىٰ ) وهو ظرف للرؤية، لا للنزلة والمراد برؤيته رؤيته وهو في صورته الأصليّة، والمعنى أنّه نزل عليه نزلة اُخرى، وعرج به إلى السماوات، ورآه النبي عند سدرة المنتهى وهو في صورته الأصليّة، والسدر شجر معروف والتاء للوحدة، والمنتهى كأنّه إسم مكان، ولعلّ المراد به منتهى السماوات بدليل أنّ جنّة المأوى عنده والجنّة في السماء، فينتج أنّ سدرة المنتهى في السماء، وأمّا كون الجنّة في السماء فبدليل قوله:( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) ( الذاريات / ٢٢ ) وأمّا ما هو المراد من تلك الشجرة فليس في كلامه سبحانه ما يفسّره، ويؤيّده قوله:( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ ) وسيوافيك تفسيره.

١٥ ـ( عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَىٰ ) والمراد هي جنّة الآخرة التي يأوى إليها المؤمنون. قال تعالى:( فَلَهُمْ جَنَّاتُ المَأْوَىٰ نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( السجدة / ١٩ ). وهي أيضاً في السماء على ما دلّ عليه قوله:( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) .

١٦ ـ( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ ) غشيان الشيء الإحاطة به، وما موصولة والمعنى إذ يحيط بالسدرة ما يحيط بها، وقد أبهم الله تعالى حقيقة تلك الشجرة كما أبهم ما يغشاها.

١٧ ـ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ) زيغ البصر إدراكه المبصر على غير ما هو عليه، وطغيانه إدراكه ما لاحقيقة له، والمراد بالبصر بصر النبي، والمعنى أنّه لم يبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقة، ولا أبصر ما لاحقيقة له بل أبصر إبصاراً لا يشوبه الخطأ.

وقال العلّامة الطباطبائي: إنّ المراد بالإبصار رؤيته بقلبه لا بجارحة العين، فإنّ المراد بهذا الإبصار ما يعنيه بقوله:( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ ) المشير إلى مماثلة هذه

٢١٤

الرؤية لرؤية النزلة الاُولى التي يقول فيها:( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ *أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ) (١) غير أنّه لا منافاة بين أن يراه بعينه ويراه بقلبه، فإنّ الرؤية بالجارحة وسيلة والرؤية الحقيقية بالقلب.

١٨ ـ( لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ) فهو رأى بعض آيات ربّه الكبرى، ورؤية الآيات نوع رؤية لذيها ولا يمكن رؤية ذي الآية أعني ذاته المقدسة بلا توسيط آية. قال سبحانه:( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) إلى غير ذلك من الآيات المنكرة لإمكان وقوع الرؤية على ذاته عزّ وجلّ، والإمعان في مجموع الآيات الواردة حول إسرائه وعروجه ينتهي بنا إلى عدّة اُمور:

١ ـ إنّه قد اُسري بالنبي ليلاً على جهة القطع، ولكن هل كان عروجه في الليل أيضاً ؟ ليس في الآيات شيء يدل على ذلك، فلو كان عروجه إلى السماوات متّصلاً بإسرائه فيتّحد معه زماناً.

٢ ـ إنّ النبي اُسري وعرج بروحه وجسده ولم يكن ذلك رؤياً.

٣ ـ بدأ الإسراء من المسجد الحرام أو مكّة المكرمة على ما مرّ ذكره، وأمّا مبدأ المعراج فلو كان متّصلاً بالإسراء فيكون مبدؤه من المسجد الأقصى.

٤ ـ منتهى الإسراء هو المسجد الأقصى، وأمّا منتهى المعراج فهو منتهى السماوات كما يفيده قوله:( عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَىٰ ) أي رأى جبرئيل عند شجرة السدرة الواقعة في منتهى السماوات.

٥ ـ كان الغرض من الإسراء والمعراج إراءة الآيات كما يتضمّنه قوله:( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) وقوله:( لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ) .

٦ ـ إنّ النبي رآى جبرئيل بصورته الأصليّة مرّتين، مرّة في بدء الدعوة ومرّة في المعراج.

__________________

(١) الميزان: ج ١٩ ص ٣٢.

٢١٥

٧ ـ قد دنا جبرئيل من النبي على حد لم يبق بينهما مسافة إلّا مقدار قاب قوسين أو أدنى.

٨ ـ لم يكن هناك خطأ في تلك الرؤية، فما أخطأ فؤاده وما زاغ بصره وما طغى.

كل ذلك ممّا تفيده الآيات وبقيت هنا عدّة اُمور لم يرد في كلامه سبحانه ما يوضحه:

الف ـ ما هو حقيقة شجرة السدرة ؟

ب ـ بماذا غشى السدرة ؟

ج ـ ماذا أوحى إلى النبي في بدء الدعوة ؟

فلابدّ في الوقوف على هذه الاُمور من الرجوع إلى الروايات.

ثمّ إنّ الروايات الواردة في الإسراء ومعراج النبي تنقسم جملتها عن أربعة أوجه:

أوّلاً: ما يقطع بصحّتها لتواتر الأخبار به ولإحاطة العلم بصحّته.

ثانياً: ما ورد في ذلك ممّا تجوّزه العقول ولا تأباه الاُصول، ونحن نجوّزه ثمّ نقطع بأن ذلك كان في يقظته دون منامه.

ثالثاً: ما يكون ظاهره مخالفاً لبعض الاُصول إلّا أنّه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول، فالأولى أن نؤوّله إلى ما يطابق الحق والدليل.

رابعاً: ما لا يصحّ ظاهره ولا يمكن تأويله إلّا بالتعسّف البعيد، فالأولى أن لا نقبله.

أمّا الأوّل المقطوع به، فهو أنّه أسرى به.

وأمّا الثاني فمنه ما روي أنّه طاف في السماوات ورأى الأنبياء والعرش وسدرة المنتهى والجنّة والنار ونحو ذلك.

٢١٦

وأمّا الثالث فنحو ما روي أنّه رأى قوماً في الجنّة يتنعّمون فيها وقوماً في النار يعذّبون فيها، فيحمل على أنّه رأى صفتهم أو أسماءهم.

وأمّا الرابع فنحو ما روي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّم الله سبحانه جهرة ورآه وقعد معه على سريره ونحو ذلك ممّا يوجب ظاهره التشبيه، والله سبحانه يتقدّس عن ذلك.

وكذلك ما روي أنّه شقّ بطنه وغسله، لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان طاهراً مطهّراً من كل سوء وعيب، وكيف يطهر القلب وما فيه من الاعتقاد بالماء(١) ؟

* * *

إستشارة قريش أحبار اليهود في أمر دعوة النبي:

كان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وكان ممّن يؤذي رسول الله وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم وإسبنديار، وكان يقول: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه فأنا اُحدّثكم أحسن من حديثه، ثمّ يحدّثهم عن ملوك فارس ورستم وإسبنديار، ثمّ يقول: بماذا محمد أحسن حديثاً منّي ؟

وهو الذي نزل في حقّه قوله:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللهُ ) ( الأنعام / ٩٣ ).

فلمّا قال ذلك النضر بن الحارث، بعثته قريش مع عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما: سلاهم عن محمد، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله ،

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص ٣٩٥ ( طبع طهران ).

٢١٧

فإنّهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله ووصفاً لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنّكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقال لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرّجل متقوّل، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان أمرهم ؟ وأنّه قد كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه، وسلوه عن الروح ما هي، فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنّه نبي، وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل فاصنعوا في أمره ما بدا لكم، فأقبل النضر بن الحارث وعقبة ابن أبي معيط حتى قدما مكّة على قريش، وقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء آمرونا بها فإن أخبركم عنها فهو نبي وإن لم يفعل فالرجل متقوّل، فأروا فيه رأيكم.

فجاءوا رسول الله وذكروا الأسئلة حسبما تلقّوه من أحبار يهود، فوافاه الوحي في الموارد الثلاثة.

أمّا الفتية التي ذهبوا في الدهر الأوّل، فبيّنتها آيات من سورة الكهف مبتدئة من قوله:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) ومنتهية بقوله:( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ) ( الكهف / ٢٦ ).

وأمّا الرجل الطوَّاف الذي قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، فنزل في حقّه آيات من سورة الكهف، مبتدئة بقوله:( وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا ) ( الكهف / ٨٣ ) ومنتهية بقوله:( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) ( الكهف / ٩٩ ).

وأمّا الروح فوافاهم الجواب بقوله:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) ( الإسراء / ٨٥ ).

٢١٨

ثمّ إنّ النبي الأكرم لـمّا قدم المدينة قالت أحبار اليهود: يا محمد أرأيت قولك( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) إيّانا تريد، أم قومك ؟ قال: كلاّ، قالوا: فإنّك تتلو فيما جاءك: « إنّا قد اُوتينا التوراة فيها بيان كل شيء فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّها في علم الله قليل، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه ». قال: فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك:( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) أي أنّ التوراة في هذا من علم الله قليل(١) .

هذا ما رواه ابن هشام في سيرته، ولكن المروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام يختلف معه في جهات:

الاُولى: إنّ صريح ما ورد في السيرة هو أنّ قريشاً بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة والمروي عنهعليه‌السلام أنّ قريشاً بعثوا إلى نجران.

الثانية: إنّ المبعوث على ما في السيرة شخصان، ولكن المرويّ عنه ثلاثة أشخاص، والثالث العاص بن وائل.

الثالثة: إنّ المسألة الثالثة على ما في السيرة هو السؤال عن الروح والمروي عنه هو قصّة موسى حين أمره الله عزّ وجلّ أن يتبع العالم ويتعلّم منه، فمن هو ذلك العالم وكيف تبعه وما كانت قصّته معه ؟

الرابعة: صريح السيرة أنّ السؤال كان عن ثلاث مسائل، والمرويّ عنه أنّ السؤال كان عن أربع مسائل، والمسألة الرابعة هو السؤال عن وقت الساعة، فإن ادّعى علمها فهو كاذب، فإنّ قيام الساعة لا يعلمها إلّا الله(٢) .

ويؤيّد كون السؤال عن أمر موسى باتباع العالم أنّ هذه المسائل الثلاث وردت

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٣٠٧ و ٣٠٨.

(٢) تفسير القمي: ج ٢ ص ٣١.

٢١٩

في سورة الكهف(١) وأمّا السؤال عن الروح فقد ورد في سورة الإسراء، الآية ٨٥. ولو كان السؤال عن الروح لكان الأنسب الإجابة عن الجميع في سورة واحدة.

وعلى فرض التسليم بذلك فما هو المراد من الروح، فهل المراد هو روح الإنسان أو جبرئيل ( روح الأمين ) والأقرب هو الثاني، وذلك بقرينة كون السؤال هو من اليهود، فقد كان لهم عقيدة خاصة في جبرئيل وكانوا يسمّونه ملك العذاب، ولأجل ذلك كانوا ينصبون له العداء، وهم الذين يتهمونه بأنّه خان حيث نقل النبوّة من نسل إسرائيل إلى أولاد إسماعيل، وقد إشتهر منهم قولهم « خان الأمين »، وفي الوقت نفسه كانوا يظهرون المودّة لميكائيل، ولأجل ذلك جاء الوحي مندّداً بهم بقوله:( مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ) ( البقرة / ٩٧ ) وقال:( مَن كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٩٨ ) وقال سبحانه:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / ١٩٣ ـ ١٩٤ ).

ووصفه بالأمين لرد إتهام اليهود إياه بالخيانة، وأنّه نقل النبوّة من نسل إسرائيل إلى أولاد إسماعيل، وأنّ قولهم « خان الأمين » إفتراء على أمين الوحي.

كل ذلك يعرب عن أنّ اليهود كانوا يكنّون العداء لجبرئيل أو يظهرونه له، وعند ذلك طرحوا هذا السؤال حتى يعلم لهم موقف النبي ( مدّعي النبوّة ) من عدوّهم ( جبرئيل ) فإن قام بذمّه، كان من أنصارهم، وإن مدحه، قاموا في وجهه، فنزل الوحي بأنّ الروح من أمر الله أي من مظاهر أمره سبحانه، فهو لا يقوم بما يقوم إلّا بأمر منه، فلو قام بإنزال البشارة فبأمره، ولو جاء بأمر العذاب والإبادة فهو أيضاً من أمره وبذلك يعلم أنّ تفسير الروح بروح الإنسان بعيد عن البيئة التي طرح فيها السؤال، فإنّ البحث عن الروح وحقيقتها وحدوثها وقدمها يناسب البيئات الفلسفية لا غير.

__________________

(١) أعني قوله سبحانه:( إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) ( الكهف / ٦٠ ـ ٨٢ ).

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581