مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن13%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265457 / تحميل: 6062
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

(٧)

إسراءه ومعراجه

إنّ الأنبياء والرسل هم أوّل من سبروا أعماق الفضاء بأكنافه وآفاقه، ولو صحّ لنا تسميتهم: « روّاد الفضاء » فهم أولى بإطلاق ذلك الإسم عليهم دون غيرهم، فقد عرجوا قبل أن يكون هناك أثر لوجود روّاد الفضاء في روسيا أو الولايات المتحدة الأمريكية، بل لم تكن هناك أية فكرة لتسخير الفضاء أو التجاسر على التفكير به، وأخطاره في الأذهان، فقد كانت العلوم الرائجة في تلك العصور تستحيله وتجعله في مصافّ المحالات، لأنّهم كانوا على القول بإمتناع الخرق والإلتئام في طبقات السماء فهم: أوّل من كسروا حاجز هذه الخرافة وأثبتوا بتطبيقهم العملي عن طريق العروج والاسراء. إنّه ليست هناك حجب تخرق، أو تلتئم بعد الخرق، بل السماء فضاء رحب، والكواكب إنّما هي عبارة عن أجرام معلّقة في أرجائه، تحكمها قوانين الطرد والجذب المركزية، وإنّ الإنسان بفضل معونة القدرة الغيبية، يستطيع الإفلات من قوّة الجاذبية الأرضية، كما أنّه يقدر على اختراق الغلاف الكثيف المحيط بالأرض كل ذلك بفضل المواهب السنيّة التي يجلّل بها الخالق جلّ جلاله عبده.

إنّ الاُمنيّة البعيدة غوراً في تاريخ الفكر الإنساني، والتي أصبحت في متناول إنسان العصر الحديث بفضل إزدهار ورقي حضارته المادّية، وتسخير قوى الطبيعة لصالحه، تحقّقت بالأنبياء واُمناء الغيب بفضل ما حباهم الباري عزّ شأنه به من الوسائل الغيبية للصعود والإرتقاء في أعماق الفضاء الواسع.

وبذلك يفترق عمل الأنبياء في ذلك المجال عن عمل روّاد الفضاء وإن كان الكل مثيراً للإعجاب لأنّهم كانوا يعتمدون على أسباب غيبية لا تخضع للموازين

٢٠١

البشرية، وهذا بخلاف عمل روّاد الفضاء فإنّهم يستمدّون في تحقيق اُمنيتهم، بتوسّط الأسباب والعلل الطبيعية والأجهزة الصناعيّة التي عكف على صنعها وإعدادها مئات بل اُلوف من المفكّرين والعباقرة في مختلف العلوم البشرية وبإنفاق المليارات من العملة الصعبة.

هذا هو الذكر الحكيم يصوّر لنا كيفيّة إرتقاء النبي سليمانعليه‌السلام إلى السماء وسياحته في جوّ الأرض وذلك بتسخير الريح العاصفة له تسير به طواعية تحت أمره حيثما شاء في قوله:( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إلى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ) ( الأنبياء / ٨١ ).

فهذه الآية تعرب عن أنّ الريح العاصفة تسير به إلى الأرض التي باركها سبحانه وهي أرض الأنبياء المشار إليها في آية اُخرى:( إلىالمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) ( الأسراء / ١ ).

ومثلها قوله سبحانه:( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) ( ص / ٣٦ ).

والرخاء هو اللين، ولعلّ المراد بأنّ الريح العاصفة التي من طبيعتها الجموح والإهلاك كانت مطيعة لسليمان تجري بأمره طواعية ذلولاً كما أنّ قوله( حَيْثُ أَصَابَ ) أي بمعنى حيث شاء سليمان وقصد، سواء كان المقصد البقاع المباركة أو غيرها.

كما أنّ هناك آية اُخرى تحدّد لنا مقاطع حركتها الزمنية وكيف أنّها كانت في يوم واحد تقوم بقطع مسافة كانت تقطعها وسائل النقل في تلك العصور مدّة شهرين في قوله:

( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ) ( سبأ / ١٢ ).

فلو افترضنا أنّ وسائل النقل تقطع في كلّ يوم أربعاً وأربعين كيلومتراً على وفق ما هو المتعارف عليه يومذاك، يكون مجموع مقدار المسافة اليوميّة في امتداد شهر (١٣٢٠) كيلومتراً، فإذا كان غدوّها شهراً ورواحها شهراً يكون مجموع المسافة التي كان يقطعها سليمان في يوم واحد تبلغ (٢٦٤٠) كيلومتراً.

٢٠٢

والحقّ إنّها كانت كرامة عظيمة كرّمه الله سبحانه بها، وليس سليمان وحيداً في الاختصاص بتلك المكرمة بل تلاه المسيح عيسى بن مريم عند ما اجتمع أجلاف اليهود وجلاوزتهم على قتله حيث رفعه إليه ونجّاه من كيدهم. يقول سبحانه:

( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا *بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) ( النساء / ١٥٧ و ١٥٨ ).

فالآية تتضمّن دعويين:

الاُولى: ما يقوله اليهود وهو قتل المسيح وصلبه.

الثاني: ما يصرّح به القرآن وهو نفي قتله وعدم صلبه بل رفعه.

وبما أنّ متعلّق القتل والصلب هو الوجود الخارجي أي جسم المسيح وروحه فيكون ذلك متعلّق الرفع أيضاً، فهو رفع بجسمه وروحه، وبعبارة أكثر وضوحاً إنّه رفع حيّاً لا أنّه قد اُميت ثمّ رفع على ما هو المصرّح به في الأناجيل المحرّفة من موت المسيح ثمّ رفعه بعد اسبوع من صلبه أو أيام قلائل، فما ربّما يظهر من جنوح بعض المتأخّرين من المفسّرين إلى هذا التفسير، فهو تفسير بمحض الرأي ومخالف لظاهر الآية فإنّ الاضراب الوارد في قوله تعالى( بَل رَّفَعَهُ اللهُ ) لا يكون إضراباً عن قول اليهود إلّا برفعه حيّاً لا برفعه ميّتاً، فإنّ هذا الرفع كان لغاية تخليص المسيح من سطوة اليهود سواء مات بعد ذلك أم بقي حيّاً بإبقاء الله تعالى له، وعلى كل تقدير فلا يكون قوله( بَل رَّفَعَهُ اللهُ ) إبطالاً لقول اليهود إلّا إذا رفع حيّاً.

وأمّا قوله سبحانه:( إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) ( آل عمران / ٥٥ )، فليس التوفّي هناك بمعنى الإماتة والإزهاق بل ليس للتوفّي إلّا معنى واحد وهو القبض والأخذ، يقال: توفّيت المال منه واستوفيته: إذا أخذته كلّه، ويقال توفّيت عدد القوم: إذا عددتهم كلّهم، كما يقال: توفّي فلان

٢٠٣

وتوفّاه الله إذا قبض(١) . وعلى ذلك فليس للتوفّي إلّا معنى الأخذ وله مصاديق مختلفة، فالإماتة من مصاديقه كما أنّ النوم بما أنّه نوع أخذ للإنسان مصداق آخر له قال سبحانه:( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ) ( الأنعام / ٦٠ ) وعلى ضوء ذلك فمعنى( إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ ) : قابضك من الأرض حيّاً إلى جواري ورافعك من بين أعدائك، فالآيات متضافرة المضمون على أنّه رفع من الأرض حيّاً إليه سبحانه.

ورفعه من الأرض حيّاً يلازم رفعه إلى السماء، وبذلك تقف على تفسير قوله سبحانه حيث يحكي عن المسيح قوله:( مَا قُلْتُ لَهُمْ إلّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( المائدة / ١١٧ ).

معراج النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

إنّ الوقوف على إسراء النبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعروجه منه إلى سدرة المنتهى من معاجزه وكراماته التي أثبتهما القرآن الكريم في سورتي الإسراء والنجم، وتفصيل ما ظهر له فيهما من الآيات يتوقّف على نقل شأنهما في الذكر الحكيم. أمّا الإسراء فقال فيه:

( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) ( الإسراء / ١ ).

١ ـ إبتدأ سبحانه كلامه بالتسبيح وقال:( سُبْحَانَ ) (٢) وهي كلمة تنزيه لله عزّ

__________________

(١) لسان العرب: ج ١٥ ص ٤٠٠ مادّة « وفى ».

(٢) سبحان علم للتسبيح كعثمان للرجل، وانتصابه بفعل مضمر لا يظهر تقديره يسبّح الله سبحان، ثمّ نزل سبحان منزلة الفعل وسدّ مسدّه ودلّ على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداؤه.

٢٠٤

اسمه عمّا لا يليق به من الصفات، وقد يراد به التعجيب، ولكن الظاهر هو الأوّل.

ولعلّ الوجه في إبتدائها بالتنزيه هو التصريح بتنزيهه سبحانه عن العجز لما سيذكر بعده من الإسراء بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في فترة زمنية قصيرة، ويمكن أن يكون الوجه إرادة تنزيهه سبحانه عن التجسيم والجهة والرؤية وكل ما لا يليق بعزّ جلاله وصفات كماله، حتّى لا يتوهّم متوهّم أنّ المقصود من المعراج هو رؤية الله تبارك وتعالى في ملكوت عرشه وجبروت سلطانه، والأوّل أقرب.

٢ ـ الإسراء لغة هو السير في الليل. يقال: سرى بالليل وأسرى بمعنىً، وأمّا الإتيان بلفظة « ليلاً » مع الإستغناء عنه فيأتي وجهه.

٣ ـ قوله « بعبده » يدل على أنّ الإسراء كان بمجموع الروح والجسد يقظة لا مناماً ولم يطلق العبد في القرآن إلّا على المجموع منهما. قال سبحانه:( الحُرُّ بِالحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ) ( البقرة / ١٧٨ )، وقال سبحانه:( وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ ) ( البقرة / ٢٢١ ).

إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها لفظ العبد والتي تناهز ٢٨ آية، ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه ابتدأ السورة بالتنزيه فقال:( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ ) خصوصاً إذا قلنا بأنّه للتعجّب فإنّه يكون في الاُمور العظام الخارقة للعادة، ولو كان الإسراء بمجرّد الروح، مناماً لم يكن فيه كبير شأن ولم يكن مستعظماً، وما ورد في المقام من الروايات المنتهية إلى أمثال معاوية ابن أبي سفيان بأنّه قال: كان رؤيا من الله صادقة، مرفوض فإنّ معاوية يومئذٍ كان من المشركين لا يقبل خبره في مثل هذا، ومثله ما روي عن عائشة زوجة النبي بأنّه قال: ما فقد جسد رسول الله ولكن اُسري بروحه، فإنّ عائشة يومئذٍ كانت صغيرة ولم تكن زوجة رسول الله، بل لم تولد بعد على إحتمال، وهناك كلام لأبي جعفر الطبري في تفسيره نقتطف منه ما يلي:

« الصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنّ الله أسرى بعبده محمد ( صلّى

٢٠٥

الله عليه وآله وسلّم ) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر الله عباده وكما تضافرت به الأخبار عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله حمله على البراق حتى أتى به فصلّى هناك بمن صلّى من الأنبياء والرسل فأراه ما أراه من الآيات، ولا معنى لقول من قال: اُسري بروحه دون جسده، لأنّ هذا الإسراء لا يشكّل دليلاً على نبوّته ولا حجّة له على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك. إذ لم يكن منكراً عندهم ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل ؟ وبعد، فإنّ الله إنّما أخبر في كتابه أنّه أسرى بعبده ولم يخبرنا أنّه أسرى بروح عبده، فليس جائزاً لأحد أن يتعدّى ما قال الله إلى غيره ـ [ مضافاً ] إلى أنّ الأدلّة الواضحة والأخبار المتداولة عن رسول الله أنّه اُسري به على دابة يقال لها البراق، فلو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق، إذ كانت الدواب لا تحمل إلّا الأجساد(١) .

٤ ـ( لَيْلاً ) وهو يدل على أنّ الإسراء في بعض الليل كما يفيده التنكير فلا يستفاد ذلك من لفظ الإسراء، فإنّه يدل على صرف كونه في الليل.

قال الزمخشري: إنّ تنكير « ليلاً » للدلالة على أنّه اُسرى به بعض الليل من مكّة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أنّ التنكير قد دلّ على معنى البعضيّة ويشهد لذلك قراءة عبد الله بن حذيفة: « من الليل » أي بعض الليل، كقوله:( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ) ( أي من بعضه )(٢) . ثمّ إنّ الحركة بهذه السرعة ممكنة في نفسها، فقد جاء في القرآن أنّ الرياح كانت تسير بسليمان إلى المواقع البعيدة، في الأوقات الزمنية القليلة كما مرّ.

وحكى سبحانه عن الذي كان عنده علم من الكتاب أنّه أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر، حيث قال:( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ

__________________

(١) تفسير الطبري: ج ١٥ ص ١٣٠.

(٢) الكشّاف: ج ٢ ص ٢٢٣ ( طبع مصر ).

٢٠٦

هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ) ( النمل / ٤٠ ).

فإذا أجاز هذا لدى طائفة من الناس، ممّن سبقه، صحّ وقوعه منه(١) .

وها نحن في كل يوم نشاهد من صنوف المخترعات في ميادين النقل والمواصلات ما يتمكّن بواسطتها من قطع المسافات الشاسعة كالطائرات التي تجتاز المحيطات في ساعات قلائل وينتقل من قارة إلى قارة ومن قطر إلى قطر بيسر وسهولة، وهذا ليدفعنا إلى الإعتقاد الجازم بشهادة العيان بأنّ ما جاء في هذه الرحلة الخارقة لقوانين الطبيعة ليس أمراً عزيز الحصول أو مستحيلاً، فإذا كان هذا بوسع الإنسان بحسب طاقاته المحدودة وهو الذي خلق ضعيفاً، فالله سبحانه أقدر عليه وعلى غيره من كل أحد( وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) .

٥ ـ( مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى ) وهذه الجملة تعرب عن تحديد بدء السير ومنتهاه، وأنّه ابتدأ من المسجد الحرام وانتهى إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس بقرينة قوله:( الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) والقصى البعد، وسمّي المسجد الأقصى به لكونه أبعد مسجد بالنسبة إلى مكان النبي ومن معه من المخاطبين وهو مكّة التي فيها « المسجد الحرام ».

وذهب أكثر المفسّرين إلى أنّه اُسري به من دار اُم هاني اُخت عليّ بن أبي طالب وزوجها هبيرة بن أبي لهب المخزومي، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله نائماً تلك الليلة في بيتها، وأنّ المراد بالمسجد الحرام هنا مكّة، والحرم كلّها مسجد(٢) .

وقال بعضهم: إنّما اُسري به من شعب أبي طالب.

والوجه الأوّل هو الأوفق بظاهر الكتاب ومع ذلك يمكن تصحيح الوجهين الأخيرين بوجهين:

__________________

(١) تفسير المراغي: ج ١٥، ص ٦، بتصرّف يسير.

(٢) مجمع البيان: ج ٦ ص ٣٩٩.

٢٠٧

الأوّل: إنّه لو كان في المكان الوسيع شيء معروف ومتبرّك يطلق اسمه على جميع المكان، نظير ذلك مسجد الشجرة حيث يطلق ويراد منه ذو الحليفة، ومشهد الإمام عليّعليه‌السلام يطلق ويراد منه النجف برمّتها، إلى غير ذلك، ومن الممكن أن يكون المراد من المسجد الحرام، الحرم كلّه بالملاك المذكور فيشمل مكّة والبيت الذي اُسري منه النبي أو الشعب الذي كان النبي لاجئاً إليه يومذاك.

الثاني: أن يكون الإسراء قد حدث مرّتين أحدهما من المسجد الحرام والآخر من بيت أم هاني أو من الشعب، ويؤيّد ذلك ما رواه الكليني أنّه سأل أبو بصير أبا عبد اللهعليه‌السلام فقال: جعلت فداك وكم عرج برسول الله ؟ فقال: مرّتين(١) .

٦ ـ( الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) أي جعلنا البركة فيما حوله من الأشجار والثمار والنبات والأمن والخصب حتّى لا يحتاجون إلى أن يجلب إليهم من موضع آخر. أضف إلى ذلك أنّه سبحانه جعله مقر الأنبياء ومهبط الملائكة، فقد اجتمعت فيه بركات وخيرات الدين والدنيا.

٧ ـ( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) والجملة متكفّلة ببيان الهدف من الإسراء وهو إراءة عجائب الآيات وغرائب الصنع، ومنها إسراءه في ليلة واحدة من مكّة إلى المسجد الأقصى، وهي فترة قياسية خارقة للعادة.

فلو كان المسجد الأقصى منتهى سيره في ذلك الإسراء، فيكون المراد من الآيات التي أراه الله سبحانه إيّاها مجرّد ما رأته عيناه في طريقة إلى المسجد الأقصى وما فيه من مقامات الأنبياء وقبورهم وآثارهم.

وأمّا إذا كان العروج إلى السماء متّصلاً بذلك الإسراء فيتّسع نطاق الآيات، وفي السياق دلالة على عظمة هذه الآيات التي كشف له عنها الله سبحانه، وحيث أراه بعضها لا كلّها، وفيه تصريح بأنّ الهدف هو إراءة الآيات الكونية الباهرة ليرجع

__________________

(١) نور الثقلين: ج ٣ ص ٩٨.

٢٠٨

النبي من إسرائه بصدر منشرح وقلب متفتّح قد انعكست فيه آيات العظمة وسبحات الجلال والجمال، وأمّا ما يتخيّل من أنّ الهدف رؤية الله سبحانه فهو ممّا حاكته يد الدسّ ونسجته أغراض التزوير.

وفي الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت تنديد بهذا الفكر النابي. روى الصدوق في علل الشرائع: عن ثابت بن دينار، قال سألت زين العابدين ـ عليّ بن الحسين ـعليه‌السلام عن الله جلّ جلاله هل يوصف بمكان ؟ فقال: تعالى عن ذلك، قلنا: فلم أسرى نبيّه إلى السماء ؟ قال: ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه.

وفي حديث آخر عن يونس بن عبد الرحمان، قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام : لأيّ علّة عرج الله ـ عزّ وجلّ ـ نبيّه إلى السماء ومنها إلى سدرة المنتهى، ومنها إلى حجب النور، وخاطبه وناجاه هناك، والله لا يوصف بمكان ؟ فقالعليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان ولا يجري عليه زمان، ولكنّه عزّ وجلّ أراد أن يشرّف ملائكته وسكّان سماواته ويكرمهم بمشاهدته ويريه من عجائب عظمته ويخبر به بعد هبوطه، وليس ذلك على ما يقوله المشبّهون. سبحان الله وتعالى عمّا يشركون.

٨ ـ( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) وهذا تعليل لإراءة آياته، ومعناه أنّه سميع لأقوال عباده، بصير بأفعالهم، يسمع أقوال من صدّقه أو كذّبه ويبصر أفعالهم.

عروجه إلى السماء

هذا كلّه حول إسرائه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وقد جاء في القرآن في سورة واحدة وهي سورة الإسراء، وأمّا عروجه إلى السماء فقد تكفّلت ببيانه سورة النجم، وإليك نصّ ما ورد بشأن ذلك فيها:

٢٠٩

قال سبحانه:( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ *مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ *وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَىٰ *إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحَىٰ *عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ *ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ *وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَىٰ *ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ *فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ *مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ *أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ )

( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ *عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَىٰ *عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَىٰ *إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ *مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ *لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ) ( النجم / ١ ـ ١٨ ).

والطائفة الاُولى من الآيات راجعة إلى بدء الدعوة ولا تمتّ إلى حديث المعراج بصلة، وأمّا الطائفة الثانية فهي مصرّحة بمعراجهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولأجل الوقوف على ما تهدف إليه الآيات يحتّم علينا أن نفسّرها واحدة بعد الاُخرى، فنقول:

١ ـ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ ) . وهو حلف من الله بمخلوقه، والمراد من الهوى سقوطه للغروب.

٢ ـ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ) أي لم يخرج عن الصراط المستقيم، والمراد من الصاحب هو النبي، كما أنّ المراد من الغيّ هو الإعتقاد الفاسد، أي ما خرج النبي عن الطريق الموصل إلى الغاية المطلوبة ولم يخطئ في إعتقاده ورأيه.

٣ ـ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَىٰ ) المراد بالهوى هوى النفس ورأيها، ومقتضى ورود النفي على النطق هو نفي الهوى في مطلق نطقه، إلّا أنّ ذيله قرينة على أنّ المراد نفي سلطة الهوى في ما يدعوهم إلى الله.

٤ ـ( إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) أي لا ينطق فيما يدعوكم إلى الله عن هوى نفسه ورأيه وليس ذلك إلّا وحياً يوحى إليه من الله تعالى.

٥ ـ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ ) المراد من شديد القوى هو جبرئيل بقرينة قوله

٢١٠

سبحانه:( ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) ( التكوير / ٢٠ ) وبذلك يضعف إحتمال كون المراد هو الله سبحانه، والضمير في « علّمه » يرجع إلى الصاحب، المراد منه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واحتمال رجوعه إلى الوحي أو القرآن ضعيف لإستلزامه تقدير مفعول له مثل قولنا: « علّمه إيّاه » وهو خلاف الظاهر.

٦ ـ( ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ ) المرّة ـ بكسر الميم ـ الشدّة وحصافة العقل والرأي، أي ذو حصافة في عقله ورأيه أو ذو شدّة في جنب الله، واحتمال كون المراد منه هو النبي يستلزم جعله صفة ل‍ « صاحبكم » وهو بعيد، بل هو صفة لشديد القوى الذي جاء بعده، وهو أيضاً دليل على أنّ المراد من شديد القوى هو جبرئيل. كما أنّ المراد من قوله « فاستوى » إستقام على صورته الأصليّة التي خلق عليها، لأنّ جبرئيل كان ينزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في صور مختلفة، ولكنه في بدء الدعوة ظهر له في صورته الأصليّة.

٧ ـ( وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَىٰ ) والضمير يرجع إلى شديد القوى، والمراد منه جبرئيل، كما أنّ المراد بالاُفُق الأعلى ناحية المشرق من السماء، لأنّ المشرق مطلّ على المغرب ويحتمل أن يكون المراد اُفق أعلى من السماء من غير اعتبار كونه شرقياً، والجملة، هي جملة حالية من ضمير فاستوى.

٨ ـ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ) والضميران راجعان إلى جبرئيل، والمراد من « الدنوّ » القرب كما أنّ المراد من التدلّي هو الإعتماد على جهة السفل مأخوذ من الدلو، والمراد قرب جبرئيل متدلّياً من الاُفق الأعلى.

٩ ـ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ ) ألقاب مقدار الشيء، والقوس معروف وهي آلة الرمي، والمعنى قرب جبرئيل على حدّ لم يبق بينه وبين النبي إلّا قدر قوسين أو أقلّ.

١٠ ـ( فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ) والضمير في كلا الفعلين يرجع إلى جبرئيل على نسق رجوع سائر الضمائر إليه. نعم الضمير في « عبده » يرجع إلى الله

٢١١

سبحانه، والمعنى فأوحى جبرئيل إلى عبد الله ما أوحى.

وربّما يحتمل رجوع الضمائر الثلاث إلى الله سبحانه، والمراد فأوحى الله بتوسّط جبرئيل إلى عبده، وهو وإن كان صحيحاً ولكنه على خلاف السياق.

١١ ـ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) والكذب كما يتّصف به الكلام كذلك يطلق على خطأ القوّة المدركة، يقال: كذّبته عينه أي أخطأت في رؤيتها، ونفي الكذب عن الفؤاد كناية عن تنزيهه عن الخطأ، والمراد من الفؤاد فؤاد النبي، وضمير الفاعل في « ما رأى » راجع إلى الفؤاد، والرؤية رؤيته، ولا إشكال في إسناد الرؤية إلى الفؤاد لأنّه يطلق على شهود النفس رؤيتها.

١٢ ـ( أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ) وهو توبيخ لهم على مماراتهم إيّاه، حيث إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يدّعي رؤية جبرئيل وهم يجادلونه في ما رآه وشاهده، ولا مجال للمجادلة فيما شوهد بالحسّ والعيان.

إلى هنا تمّت الطائفة الاُولى من الآيات والكلّ يهدف إلى إستعراض قصّة بدء الدعوة أنّ جبرئيل الذي هو شديد القوى كان قد علّمه القرآن ورآه النبي وهو بالاُفق الأعلى، وقد قرب من النبي متدلّياً إليه فلم يبق بينه وبين النبي إلّا مسافة قوسين أو أدنى، وليس هناك بحث عن رؤية النبي لله سبحانه كما لا صلة لهذه الآيات بحديث المعراج وعروجه إلى السماء.

وبالإمعان فيما ذكرنا تظهر اُمور:

أ ـ إنّ الضمائر من قوله( عَلَّمَهُ ) إلى قوله:( إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ) كلّها يرجع إلى شديد القوى والمراد منه جبرائيل إلّا الضمير في( إِلَىٰ عَبْدِهِ ) فإنّه يرجع إلى الله.

وعلى إحتمال، يرجع الضميران في الفعلين( فَأَوْحَىٰ مَا أَوْحَىٰ ) إلى الله سبحانه، وبعد ذلك لا معنى للإستدلال بهذه الآيات على أنّ النبي رأى ربّه، والإشتباه إنّما حصل من إرجاع الضمائر الثلاثة من قوله:( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ) إلى النبي

٢١٢

الأكرم وأنّ المرادنا منه سبحانه وهو ممّا لا يساعد عليه سياق الآيات.

ب ـ إنّ الكاتب الإنگليزي « جان. ديون. بورت » فسّر قوله( دَنَا فَتَدَلَّىٰ ) بأنّ النبي استجاز ربّه للحضور عنده، فقرب منه إلى حدّ لم يبق بينه وبين ربّه إلّا قاب قوسين، وهو غلط كما أوضحناه. أضف إلى ذلك: إنّ هذا القسم من الآيات لا يمتّ إلى حديث المعراج بصلة، وإنّما هو بصدد بيان حادثة بدء الدعوة ولم يكن هناك يومئذ معراج من النبيّ حتى يستأذن للحضور عند ربّه، ومنشأ الإشتباه مضافاً إلى ذلك هو إرجاع الضميرين في دنا فتدلّى إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ج ـ إنّ بعض المستشرقين يذكر في تفسير الآيات: إنّ النبي قرب من الله سبحانه حتى سمع صرير قلمه ووقف على أنّه سبحانه مهتمّ بصيانة حساب عباده، سمع صرير قلمه ولم ير شخصه، كل ذلك خلط وخبط، يفعلون ذلك على الرغم من أنّهم غير متضلّعين في اللغة العربيّة وأساليبها وقواعدها وأسرارها وفي القرآن الكريم وإشاراته ونكاته، ثمّ يكتبون عن النبي والإسلام والقرآن كل شيء دعتهم إليه أغراضهم ولا علم لهم بشيء منها إلّا ما لا يلتفت إليه.

إذا وقفت على مفاد الطائفة الاُولى من الآيات نعرج بك على تفسير الطائفة الثانية التي وردت في معراج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّما جاءت بعد الطائفة الاُولى لصلة تامّة بينهما وهو التركيز على أنّ النبي رأى جبرئيل على صورته الواقعيّة في كلتا المرحلتين، اُولاهما بدء الدعوة حيث رآه بالاُفق الأعلى، وثانيهما عند المعراج إذ رآه عند سدرة المنتهى التي عندها جنّة المأوى، ويؤكّد على أنّ الرؤية كانت رؤية صادقة غير خاطئة، فيركّز على صدق الرؤية في ضمن الطائفة الاُولى بقوله:( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) وفي ضمن الطائفة الثانية بقوله:( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ) وأنّ الرؤية رؤية واقعيّة غير مشوبة بالزيغ والخطأ، ثمّ قال سبحانه:

١٣ ـ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ ) النزلة بناء مرة من النزول فمعناه نزول واحد، فتدلّ الآية على أنّ هذه قصّة رؤية في نزول آخر، والآيات السابقة تحكي نزولاً آخر، ولأجل

٢١٣

ذلك قلنا أنّ الطائفتين تهدف كل منهما إلى قصّة خاصة، وضمير الفاعل يرجع إلى النبي، وضمير المفعول لجبرئيل والنزلة نزول جبرئيل إليه ليعرج به إلى السموات.

١٤ ـ( عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَىٰ ) وهو ظرف للرؤية، لا للنزلة والمراد برؤيته رؤيته وهو في صورته الأصليّة، والمعنى أنّه نزل عليه نزلة اُخرى، وعرج به إلى السماوات، ورآه النبي عند سدرة المنتهى وهو في صورته الأصليّة، والسدر شجر معروف والتاء للوحدة، والمنتهى كأنّه إسم مكان، ولعلّ المراد به منتهى السماوات بدليل أنّ جنّة المأوى عنده والجنّة في السماء، فينتج أنّ سدرة المنتهى في السماء، وأمّا كون الجنّة في السماء فبدليل قوله:( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) ( الذاريات / ٢٢ ) وأمّا ما هو المراد من تلك الشجرة فليس في كلامه سبحانه ما يفسّره، ويؤيّده قوله:( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ ) وسيوافيك تفسيره.

١٥ ـ( عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَىٰ ) والمراد هي جنّة الآخرة التي يأوى إليها المؤمنون. قال تعالى:( فَلَهُمْ جَنَّاتُ المَأْوَىٰ نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( السجدة / ١٩ ). وهي أيضاً في السماء على ما دلّ عليه قوله:( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) .

١٦ ـ( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ ) غشيان الشيء الإحاطة به، وما موصولة والمعنى إذ يحيط بالسدرة ما يحيط بها، وقد أبهم الله تعالى حقيقة تلك الشجرة كما أبهم ما يغشاها.

١٧ ـ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ) زيغ البصر إدراكه المبصر على غير ما هو عليه، وطغيانه إدراكه ما لاحقيقة له، والمراد بالبصر بصر النبي، والمعنى أنّه لم يبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقة، ولا أبصر ما لاحقيقة له بل أبصر إبصاراً لا يشوبه الخطأ.

وقال العلّامة الطباطبائي: إنّ المراد بالإبصار رؤيته بقلبه لا بجارحة العين، فإنّ المراد بهذا الإبصار ما يعنيه بقوله:( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ ) المشير إلى مماثلة هذه

٢١٤

الرؤية لرؤية النزلة الاُولى التي يقول فيها:( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ *أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ) (١) غير أنّه لا منافاة بين أن يراه بعينه ويراه بقلبه، فإنّ الرؤية بالجارحة وسيلة والرؤية الحقيقية بالقلب.

١٨ ـ( لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ) فهو رأى بعض آيات ربّه الكبرى، ورؤية الآيات نوع رؤية لذيها ولا يمكن رؤية ذي الآية أعني ذاته المقدسة بلا توسيط آية. قال سبحانه:( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) إلى غير ذلك من الآيات المنكرة لإمكان وقوع الرؤية على ذاته عزّ وجلّ، والإمعان في مجموع الآيات الواردة حول إسرائه وعروجه ينتهي بنا إلى عدّة اُمور:

١ ـ إنّه قد اُسري بالنبي ليلاً على جهة القطع، ولكن هل كان عروجه في الليل أيضاً ؟ ليس في الآيات شيء يدل على ذلك، فلو كان عروجه إلى السماوات متّصلاً بإسرائه فيتّحد معه زماناً.

٢ ـ إنّ النبي اُسري وعرج بروحه وجسده ولم يكن ذلك رؤياً.

٣ ـ بدأ الإسراء من المسجد الحرام أو مكّة المكرمة على ما مرّ ذكره، وأمّا مبدأ المعراج فلو كان متّصلاً بالإسراء فيكون مبدؤه من المسجد الأقصى.

٤ ـ منتهى الإسراء هو المسجد الأقصى، وأمّا منتهى المعراج فهو منتهى السماوات كما يفيده قوله:( عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَىٰ ) أي رأى جبرئيل عند شجرة السدرة الواقعة في منتهى السماوات.

٥ ـ كان الغرض من الإسراء والمعراج إراءة الآيات كما يتضمّنه قوله:( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) وقوله:( لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ) .

٦ ـ إنّ النبي رآى جبرئيل بصورته الأصليّة مرّتين، مرّة في بدء الدعوة ومرّة في المعراج.

__________________

(١) الميزان: ج ١٩ ص ٣٢.

٢١٥

٧ ـ قد دنا جبرئيل من النبي على حد لم يبق بينهما مسافة إلّا مقدار قاب قوسين أو أدنى.

٨ ـ لم يكن هناك خطأ في تلك الرؤية، فما أخطأ فؤاده وما زاغ بصره وما طغى.

كل ذلك ممّا تفيده الآيات وبقيت هنا عدّة اُمور لم يرد في كلامه سبحانه ما يوضحه:

الف ـ ما هو حقيقة شجرة السدرة ؟

ب ـ بماذا غشى السدرة ؟

ج ـ ماذا أوحى إلى النبي في بدء الدعوة ؟

فلابدّ في الوقوف على هذه الاُمور من الرجوع إلى الروايات.

ثمّ إنّ الروايات الواردة في الإسراء ومعراج النبي تنقسم جملتها عن أربعة أوجه:

أوّلاً: ما يقطع بصحّتها لتواتر الأخبار به ولإحاطة العلم بصحّته.

ثانياً: ما ورد في ذلك ممّا تجوّزه العقول ولا تأباه الاُصول، ونحن نجوّزه ثمّ نقطع بأن ذلك كان في يقظته دون منامه.

ثالثاً: ما يكون ظاهره مخالفاً لبعض الاُصول إلّا أنّه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول، فالأولى أن نؤوّله إلى ما يطابق الحق والدليل.

رابعاً: ما لا يصحّ ظاهره ولا يمكن تأويله إلّا بالتعسّف البعيد، فالأولى أن لا نقبله.

أمّا الأوّل المقطوع به، فهو أنّه أسرى به.

وأمّا الثاني فمنه ما روي أنّه طاف في السماوات ورأى الأنبياء والعرش وسدرة المنتهى والجنّة والنار ونحو ذلك.

٢١٦

وأمّا الثالث فنحو ما روي أنّه رأى قوماً في الجنّة يتنعّمون فيها وقوماً في النار يعذّبون فيها، فيحمل على أنّه رأى صفتهم أو أسماءهم.

وأمّا الرابع فنحو ما روي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّم الله سبحانه جهرة ورآه وقعد معه على سريره ونحو ذلك ممّا يوجب ظاهره التشبيه، والله سبحانه يتقدّس عن ذلك.

وكذلك ما روي أنّه شقّ بطنه وغسله، لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان طاهراً مطهّراً من كل سوء وعيب، وكيف يطهر القلب وما فيه من الاعتقاد بالماء(١) ؟

* * *

إستشارة قريش أحبار اليهود في أمر دعوة النبي:

كان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وكان ممّن يؤذي رسول الله وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم وإسبنديار، وكان يقول: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه فأنا اُحدّثكم أحسن من حديثه، ثمّ يحدّثهم عن ملوك فارس ورستم وإسبنديار، ثمّ يقول: بماذا محمد أحسن حديثاً منّي ؟

وهو الذي نزل في حقّه قوله:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللهُ ) ( الأنعام / ٩٣ ).

فلمّا قال ذلك النضر بن الحارث، بعثته قريش مع عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما: سلاهم عن محمد، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله ،

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص ٣٩٥ ( طبع طهران ).

٢١٧

فإنّهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله ووصفاً لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنّكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقال لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرّجل متقوّل، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان أمرهم ؟ وأنّه قد كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه، وسلوه عن الروح ما هي، فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنّه نبي، وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل فاصنعوا في أمره ما بدا لكم، فأقبل النضر بن الحارث وعقبة ابن أبي معيط حتى قدما مكّة على قريش، وقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء آمرونا بها فإن أخبركم عنها فهو نبي وإن لم يفعل فالرجل متقوّل، فأروا فيه رأيكم.

فجاءوا رسول الله وذكروا الأسئلة حسبما تلقّوه من أحبار يهود، فوافاه الوحي في الموارد الثلاثة.

أمّا الفتية التي ذهبوا في الدهر الأوّل، فبيّنتها آيات من سورة الكهف مبتدئة من قوله:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) ومنتهية بقوله:( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ) ( الكهف / ٢٦ ).

وأمّا الرجل الطوَّاف الذي قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، فنزل في حقّه آيات من سورة الكهف، مبتدئة بقوله:( وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا ) ( الكهف / ٨٣ ) ومنتهية بقوله:( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) ( الكهف / ٩٩ ).

وأمّا الروح فوافاهم الجواب بقوله:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) ( الإسراء / ٨٥ ).

٢١٨

ثمّ إنّ النبي الأكرم لـمّا قدم المدينة قالت أحبار اليهود: يا محمد أرأيت قولك( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) إيّانا تريد، أم قومك ؟ قال: كلاّ، قالوا: فإنّك تتلو فيما جاءك: « إنّا قد اُوتينا التوراة فيها بيان كل شيء فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّها في علم الله قليل، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه ». قال: فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك:( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) أي أنّ التوراة في هذا من علم الله قليل(١) .

هذا ما رواه ابن هشام في سيرته، ولكن المروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام يختلف معه في جهات:

الاُولى: إنّ صريح ما ورد في السيرة هو أنّ قريشاً بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة والمروي عنهعليه‌السلام أنّ قريشاً بعثوا إلى نجران.

الثانية: إنّ المبعوث على ما في السيرة شخصان، ولكن المرويّ عنه ثلاثة أشخاص، والثالث العاص بن وائل.

الثالثة: إنّ المسألة الثالثة على ما في السيرة هو السؤال عن الروح والمروي عنه هو قصّة موسى حين أمره الله عزّ وجلّ أن يتبع العالم ويتعلّم منه، فمن هو ذلك العالم وكيف تبعه وما كانت قصّته معه ؟

الرابعة: صريح السيرة أنّ السؤال كان عن ثلاث مسائل، والمرويّ عنه أنّ السؤال كان عن أربع مسائل، والمسألة الرابعة هو السؤال عن وقت الساعة، فإن ادّعى علمها فهو كاذب، فإنّ قيام الساعة لا يعلمها إلّا الله(٢) .

ويؤيّد كون السؤال عن أمر موسى باتباع العالم أنّ هذه المسائل الثلاث وردت

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٣٠٧ و ٣٠٨.

(٢) تفسير القمي: ج ٢ ص ٣١.

٢١٩

في سورة الكهف(١) وأمّا السؤال عن الروح فقد ورد في سورة الإسراء، الآية ٨٥. ولو كان السؤال عن الروح لكان الأنسب الإجابة عن الجميع في سورة واحدة.

وعلى فرض التسليم بذلك فما هو المراد من الروح، فهل المراد هو روح الإنسان أو جبرئيل ( روح الأمين ) والأقرب هو الثاني، وذلك بقرينة كون السؤال هو من اليهود، فقد كان لهم عقيدة خاصة في جبرئيل وكانوا يسمّونه ملك العذاب، ولأجل ذلك كانوا ينصبون له العداء، وهم الذين يتهمونه بأنّه خان حيث نقل النبوّة من نسل إسرائيل إلى أولاد إسماعيل، وقد إشتهر منهم قولهم « خان الأمين »، وفي الوقت نفسه كانوا يظهرون المودّة لميكائيل، ولأجل ذلك جاء الوحي مندّداً بهم بقوله:( مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ) ( البقرة / ٩٧ ) وقال:( مَن كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٩٨ ) وقال سبحانه:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / ١٩٣ ـ ١٩٤ ).

ووصفه بالأمين لرد إتهام اليهود إياه بالخيانة، وأنّه نقل النبوّة من نسل إسرائيل إلى أولاد إسماعيل، وأنّ قولهم « خان الأمين » إفتراء على أمين الوحي.

كل ذلك يعرب عن أنّ اليهود كانوا يكنّون العداء لجبرئيل أو يظهرونه له، وعند ذلك طرحوا هذا السؤال حتى يعلم لهم موقف النبي ( مدّعي النبوّة ) من عدوّهم ( جبرئيل ) فإن قام بذمّه، كان من أنصارهم، وإن مدحه، قاموا في وجهه، فنزل الوحي بأنّ الروح من أمر الله أي من مظاهر أمره سبحانه، فهو لا يقوم بما يقوم إلّا بأمر منه، فلو قام بإنزال البشارة فبأمره، ولو جاء بأمر العذاب والإبادة فهو أيضاً من أمره وبذلك يعلم أنّ تفسير الروح بروح الإنسان بعيد عن البيئة التي طرح فيها السؤال، فإنّ البحث عن الروح وحقيقتها وحدوثها وقدمها يناسب البيئات الفلسفية لا غير.

__________________

(١) أعني قوله سبحانه:( إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) ( الكهف / ٦٠ ـ ٨٢ ).

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

٥٢٤ ـ انتقال مسلم إلى دار هانئ بن عروة :

(لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٤٨)

فلما سمع مسلم بن عقيل بمجيء عبيد الله إلى الكوفة ومقالته التي قالها ، وما أخذ به العرفاء والناس ، خرج من دار المختار إلى دار هانئ بن عروة المرادي في جوف الليل ودخل في أمانه. وأخذت الشيعة تختلف إلى دار هانئ سرا واستخفاء من عبيد الله ، وتواصوا بالكتمان. وألحّ عبيد الله في طلب مسلم ، ولا يعلم أين هو.

وقد أورد ابن قتيبة كيفية انتقال مسلم إلى دار هانئ برواية غريبة في

(الإمامة والسياسة) ج ٢ ص ٤ قال :

وبايع للحسين مسلم بن عقيل وأكثر من ثلاثين ألفا من أهل الكوفة ، فنهضوا معه يريدون عبيد الله بن زياد ، فجعلوا كلما أشرفوا على زقاق انسلّ عنه منهم ناس ، حتّى بقي مسلم في شرذمة قليلة.

قال : فجعل أناس يرمونه بالآجر من فوق البيوت. فلما رأى ذلك دخل دار هانئ ابن عروة المرادي ، وكان له فيهم رأي.

ابن زياد يعتمد على نظام العرافة

٥٢٥ ـ نظام العرافة في صدر الإسلام :

(الفن الحربي في صدر الإسلام لعبد الرؤوف عون ، ص ١١٠)

قال عبد الرؤوف عون : فحين كثر أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّمهم عرافات ، وجعل على كل عشرة منهم عريفا.

فقد روى الطبري في حديثه عن (القادسية) أن سعدا عرّف العرفاء ، فجعل على كل عشرة عريفا ، كما كانت العرافات أزمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي عهد عمر ، لما اتسعت الفتوح ، وتبع ذلك كثرة الأجناد والأموال ، وضع عمر (الديوان) ورتّب العطاء للناس جميعا. وجعل العرفاء أداته في توزيعه ، فكان العريف في المدنيين ينوب عن القبيلة ، وفي الجند ينوب عن عشرة.

فلما كثر عدد الناس ، جمع كل عدد من العرافات في (سبع) عليه أمير ، وسمّاهم (أمراء الأسباع) ، فكان هؤلاء يأخذون العطاء ، فيدفعونه إلى العرفاء والنقباء والأمناء ، فيدفعونه إلى أهله في دورهم.

٤٦١

٥٢٦ ـ العرفاء والمناكب :(لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٤٠)

العرفاء : جمع عريف كأمير ، وهو الرئيس. والظاهر أنه كان يجعل لكل قوم رئيس من قبل السلطان يطالب بأمورهم ، يسمى العريف. وكان يجعل للعرفاء أيضا رؤساء يقال لهم : المناكب.

وفي كتاب (مع الحسين في نهضته) لأسد حيدر ، ص ٩٨ :

العريف في اللغة : هو من يعرّف أصحابه ، وهو القائم بأمور الجماعة من الناس ؛ يلي أمورهم ، ومنه يتعرّف الأمير على أحوالهم. وكان لكل عشرة عريف ، وللعرفاء رئيس يدعى : أمير الأعشار. فالعريف يقود خلية مؤلفة من عشرة أشخاص ، وأمير الأعشار يقود مجموعة مؤلفة من مئة شخص ، وهو يقابل اليوم قائد سريّة.

٥٢٧ ـ نظام العرافة :(حياة الإمام الحسين ، ج ٢ ص ٤٤٧)

قال السيد باقر شريف القرشي : وكانت الدولة تعتمد على العرفاء ، فكانوا يقومون بأمور القبائل ، ويوزعون عليهم العطاء. كما كانوا يقومون بتنظيم السجلات العامة التي فيها أسماء الرجال والنساء والأطفال ، وتسجيل من يولد ليفرض له العطاء من الدولة ، وحذف العطاء لمن يموت(١) .

كما كانوا مسؤولين عن شؤون الأمن والنظام. وكانوا في أيام الحرب يندبون الناس للقتال ويحثونهم على الحرب ، ويخبرون السلطة بأسماء الذين يتخلفون عن القتال(٢) . وإذا قصّر العرفاء أو أهملوا واجباتهم ، فإن الحكومة تعاقبهم أقسى العقوبات وأشدها(٣) .

ومن أهمّ الأسباب في تفرّق الناس عن مسلم بن عقيل ، هو قيام العرفاء في تخذيل الناس عن الثورة ، وإشاعة الإرهاب والأراجيف بين الناس(٤) كما كانوا السبب الفعال في زجّ الناس وإخراجهم لحرب الإمام الحسينعليه‌السلام .

__________________

(١) الحياة الإجتماعية والاقتصادية في الكوفة ، ص ٥٣.

(٢) تاريخ الطبري ، ج ٧ ص ٢٢٦.

(٣) الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني ، ج ٢ ص ١٧٩.

(٤) البداية والنهاية لابن كثير ، ج علينا ص ١٥٤.

٤٦٢

٥٢٨ ـ التجنيد في الدولة الأموية :

(الفن الحربي في صدر الإسلام لعبد الرؤوف عون ، ص ١٠١)

وكان التجنيد في عهد الخلفاء الأولين إلزاميا من أجل الفتح الإسلامي ، لكنه فقد عنصر الإلزام أو كاد بعد النكسة التي سببتها الحروب الأهلية. وصار المال أداة التجنيد في الدولة الأموية ، وارتفع صوت الذهب فوق كل صوت. فكان الخليفة تكثر أجناده أو تقلّ ، تبعا لكثرة المال في خزائنه أو قلته. وصار الخلفاء يسترضون الجند بصرف الأموال لهم مقدّما ، وعزل من يطلبون عزله من الولاة.

ولم تقف روح التهرب من الجندية عند حد ، بل سرت عدواها إلى الأمصار ، حتّى إلى (البصرة والكوفة) وهما المعسكران اللذان كانا مصدر المدد الحربي للمسلمين ، ومنهما اتجهت الجيوش شرقا حتّى اقتحمت على الفرس عاصمتهم ، ووطدت قدم الإسلام فيما وراء النهر إلى حدود الصين. حتّى بلغ عدد الجند في (خراسان) وحدها أيام قتيبة بن مسلم سبعة وأربعين ألفا (كما في رواية ابن الأثير) عدا ما كان في غيرها من المقاطعات الفارسية.

٥٢٩ ـ تنظيم الجيش في الكوفة :

(حياة الإمام الحسين لباقر شريف القرشي ، ج ٢ ص ٤٤٥)

أنشئت الكوفة لتكون معسكرا للجيوش الإسلامية. وقد نظّم الجيش فيها على أساس قبلي ، فكانوا يقسمون في معسكراتهم باعتبار القبائل والبطون التي ينتمون إليها ، وقد رتّبت على نظام الأسباع.

وفي سنة ٥٠ ه‍ عمد زياد بن أبيه حاكم العراق فغيّر ذلك وجعل التقسيم رباعيا ، فكان على النحو التالي :

١ ـ أهل المدينة : وجعل عليهم عمرو بن حريث.

٢ ـ تميم وهمدان : وعليهم خالد بن عرفطة.

٣ ـ ربيعة بكر وكندة : وعليهم قيس بن الوليد.

٤ ـ مذحج وأسد : وعليهم أبو بردة بن أبي موسى [الأشعري].

وقد استعان عبيد الله بن زياد بهذا التنظيم لقمع ثورة مسلم بن عقيل. كما تولى بعضهم قيادة الفرق التي زجّها الطاغية لحرب الإمام الحسينعليه‌السلام .

٤٦٣

٥٣٠ ـ الجيش النظامي والجيش الشعبي :

وكان هناك دائما جيشان :

الأول جيش نظامي عدده قليل ، ومهمته المحافظة على الوالي ، وكان ينتقى من غير العرب (الأعاجم والموالي) لأنهم يخلصون للوالي أكثر من العرب ، ولا ينقادون لانتمائهم القبلي. وقد كان هؤلاء يسمّون (الحمر) وهم من بقايا رستم ، أسلموا وتجندوا في الجيش الاسلامي ، وعددهم أربعة آلاف ، وهم الذين خرجوا أول دفعة لحرب الحسينعليه‌السلام بقيادة عمر بن سعد.

أما الجيش الآخر [الشعبي] فهو يدعى عند الضرورة ومن أجل الفتوحات ، ويكون تنظيمه آنيا. وهو جيش شعبي يستنفر من المسلمين للجهاد. وقد كانت الكوفة مركزا لتنظيم هذه الجيوش ودفعها للفتح في مشارق البلاد.

ملفّ الكوفة

(مدينة الكوفة ـ مسجد الكوفة ـ قصر الإمارة)

٥٣١ ـ مدينة الكوفة :(البلدان لليعقوبي ، ص ٩٢)

الكوفة مدينة العراق الكبرى والمصر الأعظم وقبة الإسلام ودار هجرة المسلمين. وهي أول مدينة اختطها المسلمون بالعراق في سنة ١٧ ه‍. وبها خطط العرب. وهي على معظم الفرات ، ومنه يشرب أهلها. وهي من أطيب البلدان وأفسحها وأعذبها وأوسعها.

وعن الإمام عليعليه‌السلام في قوله تعالى :( وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ ) [المؤمنون : ٥٠] ، الربوة : الكوفة ، والقرار : مسجدها ، والمعين : الفرات.

٥٣٢ ـ تعريف بقصر الإمارة بالكوفة :(تاريخ الكوفة للبراقي)

قصر الإمارة بالكوفة بناه سعد بن أبي وقّاص ، وأمره عمر بن الخطاب أن يبني بجنبه مسجدا.

موقع القصر والمسجد شرق ميدان الكوفة

٤٦٤

(الشكل ٥) : مخطط الكوفة القديمة

[مأخوذ من كتاب (خطط الكوفة وشرح خريطتها) للمسيو لويس ماسينيون]

٤٦٥

هدم القصر عبد الملك بن مروان لما وضع بين يديه رأس مصعب بن الزبير ، وقال له ما قال عبيد بن عمير (والأصح عبد الملك بن عمير) فارتعد عبد الملك وقام من فوره وأمر بهدم القصر. يقع القصر في الزاوية الجنوبية الشرقية من ميدان الكوفة ، بينما يقع المسجد في الزاوية الشمالية الشرقية (انظر المخطط).

وفي (أضواء على معالم محافظة كربلاء) ص ١١٢ :

يقع هذا القصر خلف المسجد مباشرة ، وهو الآن في منخفض من الأرض.وعند ما بنى سعد بن أبي وقّاص مدينة الكوفة سنة ١٧ ه‍ بأمر عمر بن الخطاب ، شيّد بجانب المسجد دارا سميت بدار الإمارة ، تكون مقرا لأمير الكوفة. وتعتبر دار الإمارة أقدم ما عثر عليه من عمارات إسلامية حتّى الآن في كافة الأقطار الإسلامية.

وتتألف دار الإمارة من بناء مربع طول ضلعه ١١٠ م ومعدل سمك الجدران ١٨٠ سم ، وفي بعض أجزائه ممران. وهذه الدار مشيّدة بالآجر والجص ، وفي كل ركن من أركانها توجد أبراج نصف دائرية.

مسجد الكوفة :

وهو جامع واسع جدا ، يتسع لأكثر من ثلاثين ألفا من المصلين ، وهو الجامع الّذي ضرب في محرابه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام (انظر الشكل ٦). وهو الّذي صلى فيه مسلم بن عقيل حين جاء إلى الكوفة سفيرا للحسينعليه‌السلام ، ثم نكثوا به البيعة وتخلوا عنه.

ونورد فيما يلي تعريفا ببعض الأماكن الواقعة حول الكوفة :

٥٣٣ ـ القادسيّة :

مدينة صغيرة ذات نخيل ومياه تقع على حافة البرية وحامة سواد العراق. وهي بليدة بينها وبين الكوفة ١٥ فرسخا (نحو ٨٠ كم) في طريق الحاج. وبها كانت وقعة القادسية المشهورة أيام عمر بن الخطاب.

وفي (معجم البلدان) لياقوت الحموي : القادس : السفينة العظيمة. والقادسية :بلدة بينها وبين الكوفة ١٥ فرسخا ، وبينها وبين العذيب أربعة أميال. قيل : سميت القادسية بقادس هراة.

٤٦٦

(الشكل ٦)

مخطط مسجد الكوفة

ويظهر في أطرافه قبر هانئ ومسلم والمختار رضي الله عنهم

٤٦٧

قال المدائني : كانت القادسية تسمى قديسا ، وذلك أن إبراهيمعليه‌السلام مرّ بها فرأى زهرتها ، ووجد هناك عجوزا فغسلت رأسه ، فقال : قدّست من أرض ، فسميت (القادسية).

تقع القادسية جنوب الكوفة ومنها

ينطلق طريق الحاج إلى مكة

٥٣٤ ـ الحيرة :

مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة (٦ كم) جنوبا ، على موضع يقال له النجف [هذا نجف الحيرة ، وليس نجف الكوفة المعروفة] ، زعموا أن بحر فارس [لعل المقصود به الخليج العربي] كان يتصل به.والنجف كان ساحل بحر الملح ، وكان في قديم الدهر يبلغ الحيرة.

ومعنى الحيرة في اللغة السريانية (الحصن) ، وكانت الحيرة من أكبر مدن العصور السالفة. وهي منازل آل (بقيلة) وغيرهم.

وكانت الحيرة مسكن ملوك العرب في الجاهلية ، وبها كانت منازل ملوك بني نصر من لخم ، وهم آل النعمان بن المنذر. وعلية أهل الحيرة نصارى ، وتكثر فيها الأديرة ، مثل دير علقمة ودير اللّج ودير هند الصغرى ودير هند الكبرى ؛ بنتي النعمان بن المنذر ، ودير حتّه ودير السّوا (أي العدل).

وبنى فيها المناذرة بعد تنصّرهم القصور والكنائس الكبيرة والحصون المنيعة.وبنى فيها النعمان بن المنذر قصرين شهيرين هما : الخورنق والسّدير.

ولقد مرّت على (الحيرة) فترات من العمران والخراب. فلما مات بخت نصّر انضم عرب الحيرة إلى أهل الأنبار (مدينة تسمى اليوم الرمادي ، وتقع على نهر الفرات) ، وبقي الحير خرابا زمانا طويلا ، لا تطلع عليه طالعة من بلاد العرب. وبعد خمسمائة سنة عمّرت الحيرة في زمن عمرو بن عدي ، باتخاذه إياها مسكنا ، وظلت عامرة أكثر من خمسمائة سنة ، إلى أن جاء الفتح الإسلامي وعمّرت (الكوفة) ونزلها المسلمون ، فأهملت الحيرة.

٥٣٥ ـ الخورنق والسّدير :

إنما تكلمت عن الحيرة ، والآن أتكلم عن الخورنق والسدير ، لأبيّن أن هذه المنطقة التي حول الكوفة كانت مهد حضارات قديمة منذ أقدم العصور.

٤٦٨

يقع قصر الخورنق بالقرب من الحيرة مما يلي الشرق ، على بعد ثلاثة أميال (انظر الشكل ٧). والخورنق تعريب للكلمة الفارسية (خورنكاه) ومعناها : محل الأكل.

والسّدير : قصر في وسط البرية التي بينها وبين الشام.

وفي كتاب (العرب قبل الإسلام) لجرجي زيدان ، ج ١ ص ٢٠٤ ط مصر ، قال :

كانت الحيرة على شاطئ الفرات ، والفرات يدنو من أطراف البر حتّى يقرب من النجف ، فلما تبسّط النعمان في العيش رأى أن يتّخذ مجلسا عاليا يشرف منه على المدينة ، فاتخذ الخورنق على مرتفع يشرف منه على النجف ، وما يليه من البساتين والجنان والأنهار.

٥٣٦ ـ النّخيلة :

هي العباسية (في كلام ابن نما) ، وتعرف اليوم بالعباسيات ، وهي قريبة من (ذي الكفل). وفي (اليقين) لابن طاووس : أن النخيلة تبعد فرسخين عن الكوفة (انظر الشكل ٧).

(الشكل ٧) : مصور سواد الكوفة

[مأخوذ من كتاب (خطط الكوفة وشرح خريطتها) للمسيولويس ماسينيون]

٤٦٩

٥٣٧ ـ النجف والغريّ :

تقع النجف على بعد ٧ كم جنوب غرب الكوفة ، وترتفع ٣٦ مترا عن الكوفة الواقعة على الفرات. والنجف في اللغة : التل ، لأنه عال. ووراء مدينة النجف البحيرة المعروفة ببحر النجف ، حيث تنخفض الأرض انخفاضا هو أوطأ من مستوى نهر الفرات الموازي لها.

يقع بحر النجف من جهة الجنوب الغربي من المدينة ، يبتدئ من نهر الفرات عند (أبي ضمير) وينتهي فوق المدينة. ويغلب على الظن أن هذا البحر حصل هنا بتأثير زلزال انخفضت من جرائه الأرض ، فانسابت إليها مياه الفرات ، فتكونت هذه البحيرة ، التي عرضها عشرة كيلو مترات.

وكان اسم (النجف) يطلق قديما على الجزء الغربي ـ المطلّ على البحيرة المالحة ـ من ذلك اللسان الّذي تقع الكوفة في النقطة الشمالية الشرقية منه (من جهة الفرات). وهذه الذروة صارت في عصر اللخميين تسمى (الغريّ). والغراء :الحسن ، ومنه الغريّ (كغنيّ) : الحسن الوجه. والغري : البناء الجيد.

ومنه : الغريّان ، وهما بناءان مشهوران بالكوفة عند الثويّة ، حيث قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام . زعموا أنهما بناهما بعض ملوك الحيرة ، حيث كان الأمير (ماء السماء) قد نصب عليها عمودين : الغريّين.

محاولة قتل عبيد الله بن زياد

تضاربت الأخبار حول محاولة قتل عبيد الله بن زياد. فبعض الروايات تقول إن هانئ بن عروة كان مريضا منذ جاء ابن زياد إلى الكوفة ، فلما علم هانئ بزيارته طلب من مسلم بن عقيل وكان عنده ، أن يغتال ابن زياد أثناء الزيارة. وهذه الرواية مستبعدة للأسباب التي ستأتي.

وفي رواية أن أحد أصحاب هانئ طلب منه قتل ابن زياد ، أثناء مجيء ابن زياد لعيادته ، فرفض.

وفي روايات أخرى أن الّذي مرض هو شريك بن الأعور ، وكان مقيما في دار هانئ ، فطلب من مسلم قتل ابن زياد أثناء عيادته له ، وأن هانئا ترجّى مسلما أن لا يقتله في داره ، وكذلك زوجة هانئ توسّلت إليه بأن لا يقتله.

٤٧٠

ويمكن التوفيق بين هذه الروايات ، بأن عبيد الله بن زياد قد زار دار هانئ مرتين ، وذلك أن هانئ مرض أولا فعاده ، ثم مرض شريك فزاره. ولا بدّ أن ذلك حصل قبل أن تتم مكيدة (معقل) مولى ابن زياد ، وينكشف مكان مسلم.

٥٣٨ ـ علاقة شريك بهانئ بن عروة :

(الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري ، ص ٢٣٣)

وكان هانئ بن عروة مواصلا لشريك بن الأعور البصري الّذي قام مع ابن زياد.وكان شريك ذا شرف بالبصرة وخطر. فانطلق هانئ إليه حتّى أتى منزله ، وأنزله مع مسلم بن عقيل في الحجرة التي كان فيها.

وكان شريك بن الأعور من كبار الشيعة بالبصرة ، فكان يحثّ هانئا على القيام بأمر مسلم.

٥٣٩ ـ مرض هانئ :(الكامل في التاريخ لابن الأثير ، ج ٣ ص ٣٦١)

ومرض هانئ بن عروة بعد نزول مسلم بن عقيل عنده ، فأتاه عبيد الله يعوده. فقال عمارة بن عبد السلولي لهانئ : إنما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية ، وقد أمكنك الله ، فاقتله. فقال هانئ : ما أحبّ أن يقتل في داري. وجاء ابن زياد فجلس عنده ، ثم خرج.

٥٤٠ ـ مرض شريك بن الأعور :(المصدر السابق)

فما مكث إلا جمعة حتّى مرض شريك بن الأعور ، وكان قد نزل على هانئ.وكان كريما على ابن زياد وعلى غيره من الأمراء. وكان شديد التشيّع ، قد شهد صفين مع عمار. فأرسل إليه عبيد الله : إني رائح إليك العشية. فقال لمسلم : إن هذا الفاجر عائدي العشية ، فإذا جلس اخرج إليه فاقتله ، ثم اقعد في القصر ليس أحد يحول بينك وبينه ، فإن برئت من وجعي ، سرت إلى البصرة حتّى أكفيك أمرها.وعلامتك أن أقول : اسقوني ماء. ونهاه هانئ عن ذلك.

٥٤١ ـ هانئ يتوسّل إلى مسلم بعدم قتل ابن زياد في داره ، ومسلم يتورّع عن قتله :(مخطوطة مصرع الحسين ـ مكتبة الأسد)

هناك توسّل هانئ إلى مسلم أن لا يقتل عبيد الله أثناء عيادته لشريك. فلما كان وقت الميعاد جاء عبيد الله بن زياد ، ودخل مسلم الخباء ، وهمّ مسلم أن يخرج إليه ،

٤٧١

فوثب إليه هاني وقال له : يا سيدي ناشدتك الله لا تفعل ذلك ، ولا تحدث في منزلنا حادثة ، فإن فيه نسوة ضعافا وأطفالا صغارا فأخاف عليهم. فقال مسلم : معاذ الله أن يصاب أحد من أجلنا بمكروه ، فنكون قد تقلدّنا إثمه. وقبل قول هاني وأطاع أمره وبقي على حاله. فأبطأ ذلك على شريك ، فجعل يتمثّل بهذه الأبيات :

ما تنظرون بسلمى لا تحيّوها

حيّوا سليمى وحيّوا من يحيّيها

هل شربة عذبة أسقى على ظمأ

ولو تلفت وكانت منيتي فيها

وإن تخشّيت من سلمى مراقبة

فلست تأمن يوما من دواهيها

٥٤٢ ـ زيارة ابن زياد لشريك بن الأعور في دار هانئ :

(الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري ، ص ٢٣٤)

قال أبو حنيفة الدينوري : ومرض شريك بن الأعور في منزل هانئ مرضا شديدا.وبلغ ذلك عبيد الله بن زياد ، فأرسل إليه يعلمه أنه يأتيه عائدا.

فقال شريك لمسلم : إنما غايتك وغاية شيعتك هلاك هذا الطاغية ، وقد أمكنك الله منه ، وهو صائر إليّ ليعودني ، فقم فادخل الخزانة ، حتّى إذا اطمأن عندي ، فاخرج إليه فقاتله. ثم صر إلى قصر الإمارة فاجلس فيه ، فإنه لا ينازعك فيه أحد من الناس. وإن رزقني الله العافية صرت إلى البصرة ، فكفيتك أمرها ، وبايع لك أهلها.

فقال هانئ : ما أحبّ أن يقتل في داري ابن زياد.

فقال له شريك : ولم؟. فوالله إنّ قتله لقربان إلى الله.

ثم قال شريك لمسلم : لا تقصّر في ذلك.

فبينا هم على ذلك إذ قيل لهم : الأمير بالباب!. فدخل مسلم بن عقيل الخزانة.ودخل عبيد الله بن زياد على شريك ، فسلّم عليه ، وقال : ما الذي تجد وتشكو؟.فلما طال سؤاله إياه ، استبطأ شريك خروج مسلم ، وجعل يقول ويسمع مسلما :

ما تنظرون بسلمى عند فرصتها

فقد وفى ودّها واستوسق الصّرم(١)

وجعل يردد ذلك.

__________________

(١) الصّرم : الطائفة المجتمعة من القوم.

٤٧٢

فقال ابن زياد لهانئ : أيهجر؟(أي يهذي).

قال هانئ : نعم ، أصلح الله الأمير ، لم يزل هكذا منذ أصبح.

ثم قام عبيد الله وخرج. فخرج مسلم بن عقيل من الخزانة ، فقال شريك : ما الذي منعك منه إلا الجبن والفشل؟!.

قال مسلم : منعني منه خلّتان : إحداهما كراهية هانئ أن يقتل في منزله ، والأخرى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الإيمان قيد الفتك ، لا يفتك مؤمن بمؤمن» (يعني : إن إيمان الرجل يمنعه عن الفتك برجل على سبيل الاحتيال والإغتيال ، ولو كان المقتول كافرا).

قال شريك : أما والله لو قتلته لاستقام لك أمرك ، واستوسق لك سلطانك.

(وفي رواية ابن الأثير) : «لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا ، كافرا غادرا».

ولم يعش شريك بعد ذلك إلا أياما ، حتّى توفي. وشيّع ابن زياد جنازته ، وتقدم فصلى عليه.

(وفي رواية ابن الأثير) : «فلما علم عبيد الله أن شريكا كان حرّض مسلما على قتله ، قال : والله لا أصلي على جنازة عراقي أبدا. ولو لا أن قبر زياد فيهم لنبشت شريكا».

وكان شريك من خيار الشيعة وعبّادها ، غير أنه كان يكتم ذلك إلا عمن يثق به من إخوانه.

ترجمة شريك بن الأعور

(لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٣٩)

أبوه الحارث الأعور الهمداني ، من خواص أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهو الّذي يقول فيه :

يا حار همدان من يمت يرني

من مؤمن أو منافق قبلا

ولما رأى الإمامعليه‌السلام بطولات بني همدان في حروبه قال فيهم :

ولو كنت بوّابا على باب جنة

لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

وكان شريك شديد التشيّع ، وقد شهد صفين. وحكايته مع معاوية حين عيّره في اسمه مشهورة.

٤٧٣

(رواية أخرى) : تمارض هانئ لقتل عبيد الله بن زياد :

(الإمامة والسياسة لابن قتيبة ، ج ٢ ص ٤)

فقال هانئ بن عروة لمسلم : إن لي من ابن زياد مكانا ، وسوف أتمارض له ، فإذا جاء يعودني فاضرب عنقه.

قال : فقيل لابن زياد : إن هانئ بن عروة شاك يقيء الدم.

قال : وشرب المغرة فجعل يقيئها.

قال : فجاء ابن زياد يعوده. وقال لهم هانئ : إذا قلت لكم : اسقوني ، فاخرج إليه فاضرب عنقه. فقال : اسقوني ، فأبطؤوا عليه. فقال : ويحكم اسقوني ولو كان فيه ذهاب نفسي.

قال : فخرج عبيد الله بن زياد ولم يصنع الآخر شيئا. وكان مسلم من أشجع الناس ، ولكنه أخذته كبوة.

٥٤٣ ـ مكيدة بواسطة (معقل) تنطلي على مسلم بن عوسجة :

(الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري ، ص ٢٣٥)

وخفي على عبيد الله بن زياد موضع مسلم بن عقيل ، فقام لمولى له من أهل الشام يسمى (معقلا) وناوله ثلاثة آلاف درهم في كيس ، وقال : خذ هذا المال وانطلق ، فالتمس مسلم بن عقيل ، وتأنّ له بغاية التأني.

فانطلق الرجل حتّى دخل المسجد الأعظم ، وجعل لا يدري كيف يتأنى الأمر.ثم إنه نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد ، فقال في نفسه : إن هؤلاء الشيعة يكثرون الصلاة ، وأحسب هذا منهم. فجلس الرجل حتّى إذا انفتل من صلاته قام ، فدنا منه وجلس ، فقال : جعلت فداك ، إني رجل من أهل الشام (من حمص) مولى لذي الكلاع ، وقد أنعم الله عليّ بحبّ أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحبّ من أحبهم ، ومعي هذه الثلاثة آلاف درهم ، أحبّ إيصالها إلى رجل منهم.بلغني أنه قدم هذا المصر داعية للحسين ابن عليعليه‌السلام ، فهل تدلني عليه لأوصل هذا المال إليه؟. ليستعين به على بعض أموره ، ويضعه حيث أحبّ من شيعته؟.

فقال له الرجل : وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيري ممن هو في المسجد؟.قال : لأني رأيت عليك سيما الخير ، فرجوت أن تكون ممن يتولى أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤٧٤

قال له الرجل : ويحك ، قد وقعت عليّ بعينك ، أنا رجل من إخوانك ، واسمي مسلم بن عوسجة ، وقد سررت بك ، وساءني ما كان من حسّي قبلك ، فإني رجل من شيعة أهل هذا البيت ، خوفا من هذا الطاغية ابن زياد ، فأعطني ذمة الله وعهده ، أن تكتم هذا عن جميع الناس. فأعطاه من ذلك ما أراد.

فقال له مسلم بن عوسجة : انصرف يومك هذا ، فإن كان غد فائتني في منزلي حتّى أنطلق معك إلى صاحبنا [يعني مسلم بن عقيل] فأوصلك إليه.

فمضى الشامي فبات ليلته. فلما أصبح غدا إلى مسلم بن عوسجة في منزله ، فانطلق به حتّى أدخله إلى مسلم بن عقيل ، فأخبره بأمره. ودفع إليه الشامي ذلك المال ، وبايعه.

فكان الشامي يغدو إلى مسلم بن عقيل ، فلا يحجب عنه ، فيكون نهاره كله عنده ، فيتعرف جميع أخبارهم. فإذا أمسى وأظلم عليه الليل ، دخل على عبيد الله بن زياد ، فأخبره بجميع قصصهم ، وما قالوا وفعلوا في ذلك. وأعلمه نزول مسلم في دار هانئ بن عروة.

وفي (مقتل الخوارزمي) ج ١ ص ٢٠٢ ط نجف :

فبقي ابن زياد متعجبا ، وقال لمعقل : انظر أن تختلف إلى مسلم [أي تزوره] في كل يوم ، ولا تنقطع عنه ، فإنك إن قطعته استرابك ، وتنّحى عن منزل هاني إلى منزل آخر ، فألقى في طلبه عناء.

٥٤٤ ـ إمساك عبد الله بن يقطر :

(مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب ، ج ٣ ص ٢٤٣ ط نجف)

فلما دخل ابن زياد القصر أتاه مالك بن يربوع التميمي بكتاب أخذه من يدي عبد الله بن يقطر ، فإذا فيه : للحسين بن عليعليهما‌السلام : أما بعد ، فإني أخبرك أنه قد بايعك من أهل الكوفة كذا ، فإذا أتاك كتابي هذا فالعجل العجل ، فإن الناس معك ، وليس لهم في يزيد رأي ولا هوى.

فأمر ابن زياد بقتله.

٥٤٥ ـ مقتل عبد الله بن يقطر (على رواية أخرى):

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٣)

فبينا عبيد الله مع القوم إذ دخل رجل من أصحابه يقال له مالك بن يربوع التميمي ،

٤٧٥

فقال : أصلح الله الأمير ، ههنا خبر!. قال ابن زياد : ما ذاك؟. قال : كنت خارج الكوفة أجول على فرسي إذ نظرت رجلا خرج من الكوفة مسرعا يريد البادية ، فأنكرته. ثم إني لحقته وسألته عن حاله فذكر أنه من المدينة ، فنزلت عن فرسي وفتشته ، فأصبت هذا الكتاب.

فأخذه ابن زياد ، فإذا فيه مكتوب : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. للحسين ابن عليعليهما‌السلام : أما بعد ، فإني أخبرك أنه قد بايعك من أهل الكوفة ما ينيف على عشرين ألفا ، فإذا أتاك كتابي هذا فالعجل العجل ، فإن الناس كلهم معك ، وليس لهم في يزيد بن معاوية هوى ولا رأي ، والسلام.

فقال ابن زياد : أين هذا الرجل الّذي أصبت معه الكتاب؟. قال : هو بالباب.قال : ائتوني به ، فأدخل. فلما وقف بين يدي ابن زياد ، قال له : من أنت؟. قال :مولى لبني هاشم. قال : ما اسمك؟. قال : عبد الله بن يقطر. قال : من دفع إليك هذا الكتاب؟. قال : امرأة لا أعرفها ، فضحك ابن زياد. قال : اختر واحدة من اثنتين : إما أن تخبرني من دفع إليك هذا الكتاب ، أو تقتل. فقال : أما الكتاب فإني لا أخبرك من دفعه إليّ ، وأما القتل فإني لا أكرهه ، لأني لا أعلم قتيلا عند الله أعظم أجرا من قتيل يقتله مثلك. فأمر ابن زياد فضرب عنقه صبرا(١) .

ترجمة عبد الله بن يقطر

أرسله الحسينعليه‌السلام برسالة إلى أهل الكوفة وهو في طريقه إلى العراق.وقد اختلف بين أن تكون وفاته وهو ذاهب بهذه الرسالة ، أو بين أن يكون قد أوصلها ثم قبض عليه وهو راجع بجوابها من أهل الكوفة.

وكان عبد الله بن يقطر صحابيا. وكان لدة الحسينعليه‌السلام [أي الّذي ولد معه في زمن واحد] لأن (يقطر) كان خادما عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت زوجته ميمونة في بيت أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فولدت عبد الله قبل ولادة الحسينعليه‌السلام بثلاثة أيام. وكانت حاضنة للحسينعليه‌السلام ، لأنه لم يرضع من أمه فاطمةعليها‌السلام ، فلذلك فهو أخو الحسينعليه‌السلام من الرضاعة. (انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة للجزري)

__________________

(١) يقال قتل صبرا : إذا قتل وهو أسير ، لا يسمح له أن يدافع عن نفسه أو يقاتل خصمه.

٤٧٦

٥٤٦ ـ استدعاء هانئ بن عروة إلى قصر الإمارة :

(لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٤٣ ط نجف)

وخاف هانئ من عبيد الله بن زياد على نفسه ، فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض. فسأل عنه ابن زياد؟ فقيل : هو مريض. فقال : لو علمت بمرضه لعدته.

ودعا محمّد بن الأشعث وأسماء بن خارجة وعمرو بن الحجاج الزبيدي ، وكانت رويحة بنت عمرو هذا تحت هانئ. فقال لهم : ما يمنع هانئ من إتياننا؟. فقالوا : ما ندري ، وقد قيل إنه مريض. قال : قد بلغني ذلك ، وبلغني أنه بريء ، وأنه يجلس على باب داره. فالقوه ومروه أن لا يدع ما عليه من حقنا ، فإني لا أحب أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب.

(وفي مقتل الخوارزمي ج ١ ص ٢٠٣) فقال : «صيروا إلى هانئ بن عروة المذحجي فسلوه أن يصير إلينا ، فإنا نريد مناظرته. فركب القوم ثم صاروا إلى هانئ فوجدوه جالسا على باب داره ، فسلّموا عليه» ، وقالوا له : ما يمنعك من لقاء الأمير ، فإنه قد ذكرك وقال : لو أعلم أنه مريض لعدته. فقال لهم : المرض يمنعني. فقالوا :إنه قد بلغه أنك تجلس كل عشية على باب دارك ، وقد استبطأك. والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان من مثلك ، لأنك سيد في قومك ، ونحن نقسم عليك إلا ركبت معنا.

٥٤٧ ـ هانئ يحسّ بالشّر الّذي يترصده :(المصدر السابق)

فدعا [هانئ] بثيابه فلبسها ، ثم دعا ببغلته فركبها. حتّى إذا دنا من القصر كأن نفسه أحسّت (بالشر) ببعض الّذي كان. فقال لحسان بن أسماء ابن خارجة : يابن الأخ ، إني والله لهذا الرجل لخائف ، فما ترى؟. قال :

يا عم والله ما أتخوّف عليك شيئا (فلا تحدّثنّ نفسك بشيء من هذا) ولم تجعل على نفسك سبيلا. ولم يكن حسان يعلم مما كان شيئا ، وكان محمّد بن الأشعث عالما به.

٥٤٨ ـ دعوة هانئ إلى قصر الإمارة لقتله :

(الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري ، ص ٥)

فقيل لابن زياد : والله إن في البيت رجلا متسلحا. قال : فأرسل ابن زياد إلى هانئ ، فدعاه. فقال : إني شاك [أي مريض] لا أستطيع النهوض. فقال : ائتوني به

٤٧٧

وإن كان شاكيا. قال : فأخرج له دابة ، فركب ومعه عصاه ، وكان أعرج. فجعل يسير قليلا ويقف ، ويقول : مالي أذهب إلى ابن زياد؟!. فما زال ذلك دأبه حتّى دخل عليه.

فقال له عبيد الله بن زياد : يا هانئ ، أما كانت يد زياد عندك بيضاء؟. قال : بلى.قال : ويدي؟. قال : بلى. فقال : يا هانئ قد كانت لكم عندي يد بيضاء ، وقد أمّنتك على نفسك ومالك. فتناول العصا التي كانت بيد هانئ فضرب بها وجهه حتّى كسرها.

٥٤٩ ـ إمساك هانئ ومعاملته بقسوة :

(سير أعلام النبلاء للذهبي ، ج ٣ ص ٢٩٩)

قال الذهبي : فبعث ابن زياد إلى هانئ ـ وهو شيخ ـ فقال : ما حملك على أن تجير عدوي؟. قال : يابن أخي ، جاء حقّ هو أحقّ من حقك. فوثب إليه عبيد الله بالعنزة [عصا يتوكأ عليها الشيخ] حتّى غرز رأسه بالحائط.

٥٥٠ ـ دخول هانئ على ابن زياد :(لواعج الأشجان ، ص ٤٤)

فجاء هانئ والقوم معه حتّى دخلوا على عبيد الله. فلما طلع (نظر إليهم من بعيد) قال عبيد الله لشريح القاضي ، وكان جالسا عنده :

أتتك بخائن رجلاه تسعى

يقود النفس منها للهوان

فلما دنا من ابن زياد التفت إلى شريح وأشار إلى هانئ ، وأنشد بيت عمرو بن معديكرب الزبيدي :

أريد حياته ويريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد

فقال له هانئ : وما ذاك أيها الأمير؟. قال : إيه يا هانئ ، ما هذه الأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين؟. جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له الجموع والسلاح في الدور حولك ، وظننت أن ذلك يخفى عليّ؟!. قال : ما فعلت ذلك ، وما مسلم عندي. قال : بلى قد فعلت.

فلما كثر ذلك بينهما ، وأبى هانئ إلا مجاحدته ومناكرته ، دعا ابن زياد (معقلا) ذاك اللعين ، فقال : أتعرف هذا؟. قال : نعم. وعلم هانئ عند ذلك أنه كان عينا [أي جاسوسا] عليهم ، وأنه قد أتاه بأخبارهم ، فسقط في يده ساعة [أي بهت وتحيّر ما يدري ما يقول] ، ثم راجعته نفسه.

٤٧٨

(وفي رواية مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٤) : «فقال : أصلح الله الأمير. ما بعثت إلى مسلم ولا دعوته ، ولكنه جاءني مستجيرا ، فاستحييت من ردّه ، وأخذني من ذلك ذمام». فضيّفته وآويته ، وقد كان من أمره ما قد بلغك. فإن شئت أعطيتك الآن موثقا تطمئن به ، ورهينة تكون في يدك ، حتّى أنطلق وأخرجه من داري ، فأخرج من ذمامه وجواره.

فقال له ابن زياد : والله لا تفارقني أبدا حتّى تأتيني به. قال : لا والله لا أجيئك به أبدا. أجيئك بضيفي تقتله!(أيكون هذا في العرب؟). قال ابن زياد : والله لتأتينّي به. فقال هانئ : لا والله لا آتيك به أبدا.

٥٥١ ـ ابن زياد يجدع أنف هانئ بن عروة :

(لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٤٥ ط نجف)

ثم قال ابن زياد : والله لتأتينّي به أو لأضربنّ عنقك. فقال هانئ : إذن والله لتكثر البارقة [أي السيوف] حول دارك. فقال ابن زياد : والهفاه عليك ، أبالبارقة تخوّفني!. وهانئ يظن أن عشيرته سيمنعونه.

ثم قال : ادنوه مني ، فأدني منه ، فاستعرض وجهه بالقضيب ، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخده ، حتّى كسر أنفه وسالت الدماء على ثيابه ووجهه ولحيته ، ونثر لحم جبينه وخده على لحيته ، حتّى كسر القضيب. وضرب هانئ بيده على قائم سيف شرطي ، وجاذبه الشرطي ومنعه من ذلك السيف.

فصاح ابن زياد : خذوه. فأخذوه وألقوه في بيت من بيوت القصر ، وأغلقوا عليه الباب. فقال : اجعلوا عليه حرسا ، ففعل ذلك به.

ثم وثب أسماء بن خارجة ، فقال له : أيها الأمير ، أرسل غدر سائر اليوم ، أمرتنا أن نجيئك بالرجل ، حتّى إذا جئناك به هشّمت أنفه ووجهه ، وسيّلت دماءه على لحيته ، وزعمت أنك تقتله!. فقال له عبيد الله : وإنك لههنا

(وأنت ههنا أيضا)؟. فأمر به فضرب وأجلس ناحية. فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، إلى نفسي أنعاك يا هانئ.

٥٥٢ ـ تداعي مذحج لتخليص هانئ ، وخدعة شريح القاضي :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٥)

قال : وبلغ ذلك بني مذحج ، فركبوا بأجمعهم وعليهم عمرو بن الحجاج الزبيدي

٤٧٩

(وكانت رويحة بنت عمرو زوجة هانئ) فوقفوا بباب القصر. ونادى عمرو : يا عبيد الله (أنا عمرو بن الحجاج) وهذه فرسان مذحج (ووجوهها) ، لم تخلع طاعة ولم تفرّق جماعة ، فلم تقتل صاحبنا؟!.

فقال ابن زياد لشريح القاضي : ادخل على صاحبهم فانظر إليه ، ثم اخرج إليهم فأعلمهم أنه (حي) لم يقتل. قال شريح : فدخلت عليه ، فقال هاني : ويحك (يا لله يا للمسلمين) أهلكت عشيرتي!. أين أهل الدين فلينقذوني من يد عدوهم وابن عدوهم؟. ثم قال والدماء تسيل من لحيته : يا شريح هذه أصوات عشيرتي ، أدخل منهم عشرة ينقذوني.

قال شريح : فلما خرجت تبعني حمران بن بكير ، وقد بعثه ابن زياد عينا عليّ ، فلو لا مكانه لكنت أبلّغ أصحابه ما قال.

ثم خرج شريح فقال : يا هؤلاء لا تعجلوا بالفتنة ، فإن صاحبكم لم يقتل.

(فقال له عمرو بن الحجاج وأصحابه : أما إذا لم يقتل فالحمد لله). ثم انصرف القوم.

تعليق : يقول العلامة السيد محسن الأمينرحمه‌الله في (أعيان الشيعة) ج ٤ ص ١٦٩: وهكذا يتمكن الظالم من ظلمه ، بأمثال محمّد بن الأشعث من أعوان الظلمة ، وأمثال شريح من قضاة السوء ، المظهرين للدين ، المصانعين الظلمة ، اللابسين جلود الأكباش ، وقلوبهم قلوب الذئاب ، وبأمثال (مذحج) الذين اغتروا بكلام شريح ، وانصرفوا ولم يأخذوا بالحزم.

٥٥٣ ـ خطبة ابن زياد في مسجد الكوفة :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٦)

(ولما ضرب عبيد الله هانئا وحبسه ، خاف أن يثب به الناس). فخرج حتّى دخل المسجد الأعظم ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، فنظر إلى أصحابه عن يمين المنبر وشماله ، في أيديهم الأعمدة والسيوف المسللة. (فخطب خطبة موجزة) فقال : أما بعد ، يا أهل الكوفة ، فاعتصموا بطاعة الله ، وطاعة رسول الله ، وطاعة أئمتكم ، ولا تختلفوا وتفرقوا ، فتهلكوا وتندموا وتذلوا وتقهروا وتحرموا ، ولا يجعلن أحد على نفسه سبيلا. وقد أعذر من أنذر.

فما أتمّ الخطبة حتّى سمع الصيحة!. فقال : ما هذا؟. فقيل له : أيها الأمير

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581