مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265838 / تحميل: 6065
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الفصل الثالث و الخمسون في الفتن و الشبه و البدع

١٦١

١ في أوّل الباب الثالث من النهج باب المختار

من حكم امير المؤمنينعليه‌السلام و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله و الكلام القصير الخارج في ساير أغراضه .

قالعليه‌السلام :

كُنْ فِي اَلْفِتْنَةِ كَابْنِ اَللَّبُونِ لاَ ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ وَ لاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ قول المصنّف : « باب المختار » هو القسم الأخير من كتابه « من حكم أمير المؤمنينعليه‌السلام » اقتصر عليه في ( المصرية ) و زاد ابن أبي الحديد و ابن ميثم : « و مواعظه » و هو الصحيح لأصحية نسختيهما لا سيما الأخير الذي نسخته بخط المصنف .

و لأنّ فيه مواعظ كثيرة و منها في العنوان ( ١٥٠ ) كلامهعليه‌السلام لرجل سأله أن يعظه الذي قال المصنف فيه « و لو لم يكن في هذا الكتاب إلاّ هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة » .

١٦٢

و وصف الشعبي كلامهعليه‌السلام في الحكم و غيرها فقال : تكلّم أمير المؤمنينعليه‌السلام بتسع كلمات ارتجلهن ارتجالا فقأن عيون البلاغة و أيتمن جواهر الحكمة و قطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهن ، ثلاث منهن في الحكمة و ثلاث في المناجاة و ثلاث في الأدب ، أما اللائي في الحكمة فقال : قيمة كلّ امرى‏ء ما يحسنه ، و ما هلك امرؤ عرف قدره ، و المرء مخبوء تحت لسانه .

و أما اللائي في المناجاة فقال : اللّهم كفى بي عزّا أن أكون لك عبدا ، و كفى بي فخرا أن تكون لي ربا ، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب و أما اللائي في الأدب فقال : امنن على من شئت تكن أميره ، و استغن عمّن شئت تكن نظيره و احتج إلى من شئت تكن أسيره(١) .

« و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسألته » ترى أجوبة مسألته في العناوين ( ١٦ ) ( ٣٠ ) ( ٩٤ ) ( ١٢٠ ) ( ١٥٠ ) ( ٢٢٧ ) ( ٢٢٩ ) ( ٢٣٥ ) ( ٢٦٦ ) ( ٢٨٧ ) ( ٢٩٤ ) ( ٣٠٠ ) ( ٣١٨ ) ( ٣٥٦ ) ( ٤٧٠ ) .

« و الكلام القصير » كان حاجب هشام بن عبد الملك يأمر منتجعيه بالإيجاز في الكلام ، فقام أعرابي فقال : إنّ اللَّه تعالى جعل العطاء محبة و المنع مبغضة فلأن نحبك خير من أن نبغضك فأعطاه و أجزل له .

« الخارج في سائر أغراضه » أي باقي مقاصده ، و الأصل في ( الغرض ) الهدف و ( سائر ) يأتي بمعنى الجميع و معنى الباقي ، و الأخير هو المراد هنا .

قوله « كن في الفتنة » الأصل في « الفتنة » قولهم « دينار مفتون » فتن بالنار ، و كلّ شي‏ء ادخل النار فقد فتن ، و قالوا « الناس عبيد الفتانين » أي الدرهم و الدينار .

« كابن اللبون » ابن اللبون : ولد الناقة الذكر إذا دخل في الثالثة ، لأن امّه

____________________

( ١ ) الخصال للصدوق : ١٨٦ .

١٦٣

وضعت غيره فصار لها لبن ، و الانثى بنت اللبون ، و يجمعان بنات اللبون .

« لا ظهر فيركب و لا ضرع فيحلب » نظيره قول حاجب بن زرارة في القعقاع :

ما هو رطب فيعصر و لا يابس فيكسر .

و في المثل : لا تكن حلوا فتزدرد و لا مرّا فتلفظ .

و من الأمثال في الاعتزال قولهم : لا ناقة لي في هذا و لا جمل و قالوا : ان كنت من أهل الفطن فلا تدر حول الفتن .

ثم كما لا ينتفع بابن اللبون لصغره كذلك بالثلب لكبره ، و هو الذي انكسرت أنيابه من شدّة هرمه ، و إنما الانتفاع الكامل بالناب الذي في وسط الشباب ، قال بعضهم :

ألم تر أن الناب يحلب علبة

و يترك ثلب لا ضراب و لا ظهر

قال ابن أبي الحديد : أيام الفتنة هي أيام الخصومة بين رئيسين ضالين يدعوان كلاهما إلى ضلالة ، كفتنة عبد الملك و ابن الزبير و فتنة مروان و الضحاك و فتنة الحجاج و ابن الأشعث ، و أما إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين(١) .

قلت : إن جانبوا العصبية و أرادوا فهم الحقيقة فأول أيام الفتنة أيام أوّلهم ، ففي ( الطبري ) : قال أبو مويهبة مولى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : بعث إليّ النبي من جوف الليل فقال : يا أبا مويهبة إنّي قد امرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال : السّلام عليكم أهل المقابر ، ليهن لكم ما أصبحتم ممّا أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها ، الآخرة شرّ من الاولى إلى أن قال ثم انصرف فبدأ

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨٢ .

١٦٤

بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعه الذي قبض فيه(١) .

و في ( بلاغات نساء أحمد بن أبي طاهر البغدادي ) من رجالهم في ذكره خطبة سيّدة نساء العالمين باتفاق فرق المسلمين لما منعها أبو بكر فدك و في الخطبة : فأنقذكم اللَّه برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد اللتيا و التي ، و بعد ما مني ببهم الرجال و ذؤبان العرب ، كلّما حشوا نارا للحرب أطفأها و نجم قرن للضلال و فغرت فاغرة من المشركين قذف بأخيه في لهواتها ، فلا ينكفي حتى يطأ صماخها بأخمصه و يخمد لهبها بحده ، مكدودا في ذات اللَّه قريبا من رسول اللَّه سيّدا في أولياء اللَّه ، و أنتم في بلهنية و ادعون آمنون ، حتى إذا اختار اللَّه تعالى لنبيه دار أنبيائه ظهرت خلّة النفاق و سمل جلباب الدين و نطق كاظم الغاوين و نبغ خامل الآفلين و هدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم و أطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخا بكم ، فوجدكم لدعائه مستجيبين و للغرة فيه ملاحظين ، فاستنهضكم فوجدكم خفافا و أحمشكم فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير أبلكم و أوردتموها غير شربكم ، هذا و العهد قريب و الكلم رحيب و الجراح لما يندمل ، بدارا زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا و إنّ جهنم لمحيطة بالكافرين(٢) .

و روى الإسكافي منهم في نقضه ( عثمانية الجاحظ ) عن أبي رافع قال :

أتيت أبا ذر بالربذة اودّعه ، فلما أردت الانصراف قال لي و لا ناس معي :

ستكون فتنة فاتقوا اللَّه و عليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه ، فإني سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول له : أنت أوّل من آمن بي و أوّل من يصافحني يوم القيامة ، و أنت الصدّيق الأكبر ، و أنت الفاروق الذي تفرّق بين الحق و الباطل ،

____________________

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ٤٣٢ .

( ٢ ) بلاغات النساء لابن طيفور : ١٣ ١٤ .

١٦٥

و أنت يعسوب المؤمنين و المال يعسوب الكافرين ، و أنت أخي و وزيري و خير من أترك بعدي(١) .

ثم ما قاله ابن أبي الحديد : من فتنة الحجاج و ابن الأشعث خلاف عقيدة أهل نحلته ، فإنّ عندهم كان قيام ابن الأشعث فتنة ، و أمّا الحجاج فكان عامل من بايعه جميع الناس و كان عندهم خليفة حقّا و أميرا للمؤمنين به .

و كذلك قوله « فتنة عبد الملك و ابن الزبير » غير صحيح عند أهل ملته ، فانّه عندهم كان ابتداء ابن الزبير ولي اللَّه و عبد الملك عدوّ اللَّه ، و لما غلب عبد الملك صار هو ولي اللَّه و ابن الزبير عدوّ اللَّه(٢) .

ففي ( كامل المبرد ) : خرج مصعب بن الزبير إلى باجميراء ، ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن و لم يأت المهلب و أصحابه ، فتواقفوا يوما على الخندق ، فناداهم الخوارج : ما تقولون في المصعب ؟ قالوا : إمام هدى قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : ضالّ مضل فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل صعب و إنّ أهل الشام اجتمعوا على عبد الملك ، و ورد عليه كتاب عبد الملك بولايته ، فلما تواقفوا ناداهم الخوارج : ما تقولون في مصعب ؟ قالوا : لا نخبركم قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : إمام هدى قالوا : يا أعداء اللَّه بالأمس ضال مضل و اليوم امام هدى ، يا عبيد الدّنيا عليكم لعنة اللَّه(٣) .

و الخوارج و إن طعنوا عليهم بكون ما عليهم خلاف العقل و خلاف الفطرة التي فطر الناس عليها ، إلاّ أنّه يقال لهم : إنّ ذلك لازم لكم أيضا بموافقة العامة في إمامة صديقهم و صديقه ، فلا يمكن القول بالملزوم و ترك اللازم .

____________________

( ١ ) نقض العثمانية لأبي جعفر الإسكافي : ٢٩٠ ملحقة بالعثمانية .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨٢ .

( ٣ ) الكامل في الأدب للمبرّد ٣ : ١١٠١ ١١٠٢ .

١٦٦

و أما قوله « إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين » فأيضا أهل ملّته غير معترفين به ، فهذا ابن عبد البر من أئمتهم قال في سعد بن أبي وقاص الذي لم يشهد الجمل و صفين مع أمير المؤمنينعليه‌السلام :

كان ممّن قعد و لزم بيته في الفتنة و أمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس بشي‏ء حتى تجتمع الامة على إمام(١) .

و قال في ترجمة ابن فاروقهم : قيل لنافع : ما بال ابن عمر بايع معاوية و لم يبايع عليّا ؟ فقال : كان ابن عمر لا يعطي يدا في فرقة و لا يمنعها من جماعة ، و لم يبايع معاوية حتى اجتمعوا عليه(٢) .

قبّح اللَّه هذا الدين الذي يصير معاوية الذي كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعنه في غير موطن و عدوّ الدين أولى بالإمامة من أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي جعله اللَّه تعالى في كتابه كنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله .( و أنفسنا و أنفسكم . ) (٣) و جعله النبي بمنزلة نفسه في المتواتر منه في قوله للناس : من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه .

لا يقال : انّما قال « من كنت مولاه فعلي مولاه » لا ما قلت قلت : ما ذكرته ان لم يكن لفظه هو معناه ، ألم يكن قال تلك الجملة بعد قوله للناس « ألست بكم أولى من أنفسكم » و قول الناس له « بلى أنت أولى بنا من أنفسنا » فهل يصير معناها غير ما قلناه .

قبّح اللَّه هذا الدين الذي هو خلاف ناموس الإنسانية ، حتى ان الحجاج الذي قال عمر بن عبد العزيز الذي هو أحد خلفائهم : لو أنّ جميع الامم جاءت

____________________

( ١ ) الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر ٢ : ٦٠٩ .

( ٢ ) المصدر نفسه ٣ : ٩٥٣ .

( ٣ ) آل عمران : ٦١ .

١٦٧

يوم القيامة كلّ واحدة منهم بشرارهم و جئناهم بالحجاج لغلبنا جميعهم لم يرضه ، فقال الاسكافي أحد أئمتهم في نقض ( عثمانيته ) : امتنع ابن عمر من بيعة عليعليه‌السلام و طرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام ، زعم لأنّه روي ان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال « من مات و لا إمام له مات ميتة جاهلية »(١) و حتى بلغ من احتقار الحجاج له و استرذاله حاله أن أخرج رجله من الفراش فقال : اصفق بيدك عليها قال و رواه بعضهم و زاد : و لما خرج قال الحجاج : ما أحمق هذا يترك بيعة علي و يأتيني مبايعا في ليله .

٢ الخطبة ( ٩١ ) إِنَّ اَلْفِتَنَ

إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ يَحُمْنَ حَوْلَ اَلرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً أقول : رواه الثقفي في أول ( غاراته ) باسنادين عن زر بن حبيش عنهعليه‌السلام : الأول عن إسماعيل بن ابان عن عبد الغفار بن القاسم عن المنصور بن عمرو عن ذر و الثاني عن أحمد بن عمران الأنصاري عن أبيه عن أبن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن زر قال : خطب عليعليه‌السلام بالنهروان إلى أن قال فقام إليه رجل آخر فقال لهعليه‌السلام : حدّثنا عن الفتن قال : ان الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت ، يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات ، ان الفتن تحوم كالرياح يصبن بلدا و يخطئن اخرى(٢) .

« ان الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت » في ( نهاية الجزري ) : التشابه قسمان ، قسم إذا ردّ إلى المحكم يفهم معناه ، و قسم لا سبيل إلى معرفة

____________________

( ١ ) نقض العثمانية : ٣٠١ .

( ٢ ) الغارات للثقفي : ٧ .

١٦٨

حقيقته ، فالمتتبع له متتبع للفتنة ، لأنّه لا يكاد ينتهي إلى شي‏ء تسكن إليه نفسه ، و منه حديث ذكر فيه فتنة « تشبه مقبلة و تبين مدبرة » أي أنّها إذا أقبلت شبهت على القوم و أرتهم أنّهم على الحق حتى يدخلوا فيها و يركبوا منها ما لا يجوز ، فإذا أدبرت بان أمرها فعلم من دخل فيها أنّه كان على الخطأ(١) .

« ينكرن مقبلات و يعرفن مدبرات » قد عرفت أنّ ( غارات الثقفي ) رواه « يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات » .

« يحمن حول الرياح » هكذا في ( المصرية )(٢) ، و الصواب : « حوم الرياح » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية )(٣) ، مع أنّه لا معنى لما في ( المصرية ) ، فالفتن لا يدرن حول الرياح بل يدرن حول الناس دور الرياح ، من قولهم « حام الطائر حول الشي‏ء حوما » أي دار .

« يصبن بلدا و يخطئن اخرى » أي كما أن الرياح الشديدة تصيب بلدا و تخطى‏ء بلدا كذلك الفتن يصبن بلدا فيبتلى الناس بوخامتهن و يخطئن بلدا فيسلمون منها .

٣ الحكمة ( ٧٦ ) و قالعليه‌السلام :

إِنَّ اَلْأُمُورَ إِذَا اِشْتَبَهَتْ اُعْتُبِرَ آخِرُهَا بِأَوَّلِهَا كان العباسيون يدّعون إجراء العدالة إذا ظهروا إلاّ انّه كان حالهم في الآخر معلومة من أوّلها .

____________________

( ١ ) النهاية لابن الأثير للجزري ٢ : ٤٤٢ .

( ٢ ) الطبعة المصرية : ٢٣٤ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٧ : ٤٤ الخطبة ( ١٩٢ ) ، أمّا شرح ابن ميثم ٢ : ٣٨٨ ، بلفظ « حول » ، أما الخطبة ٧٤ بلفظ « حوم » .

١٦٩

و لما بايعت الأوس أبا بكر لئلا يصير الأمر إلى الخزرج و كانت بينهما رقابة من الجاهلية ، قال لهم المنذر بن الحباب : فعلتموها أما و اللَّه لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم قد وقفوا يسألونهم بأكفّهم و لا يسقون الماء .

و صار كما قال(١) .

٤ الحكمة ( ٩٣ ) و قالعليه‌السلام :

لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ اَلْفِتْنَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ إِلاَّ وَ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ وَ لَكِنْ مَنِ اِسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ مُضِلاَّتِ اَلْفِتَنِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ١ ٧ ٨ : ٢٨ وَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَخْتَبِرُهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ لِيَتَبَيَّنَ اَلسَّاخِطَ لِرِزْقِهِ وَ اَلرَّاضِيَ بِقِسْمِهِ وَ إِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ لَكِنْ لِتَظْهَرَ اَلْأَفْعَالُ اَلَّتِي بِهَا يُسْتَحَقُّ اَلثَّوَابُ وَ اَلْعِقَابُ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ اَلذُّكُورَ وَ يَكْرَهُ اَلْإِنَاثَ وَ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ تَثْمِيرَ اَلْمَالِ وَ يَكْرَهُ اِنْثِلاَمَ اَلْحَالِ و هذا من غريب ما سمع منه في التفسير « لا يقولن أحدكم اللّهم اني أعوذ بك من الفتنة » قال ابن بابويه في ( توحيده ) :

الفتنة على عشرة أوجه : فوجه الضلال ، و الثاني : الاختبار و هو قوله تعالى .( و فتناك فتونا ) .(٢) ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون ) (٣) و الثالث : الحجّة و هو قوله تعالى( ثم لم تكن فتنتهم إلاّ أن قالوا

_ ___________________

( ١ ) التوحيد للصدوق : ٣٨٦ .

( ٢ ) طه : ٤٠ .

( ٣ ) العنكبوت : ١ ٢ .

١٧٠

 و اللَّه ربنا ما كنّا مشركين ) (١) و الرابع : الشرك و هو قوله تعالى .( و الفتنة أشدّ من القتل ) .(٢) و الخامس : الكفر و هو قوله تعالى .( ألا في الفتنة سقطوا ) .(٣) و السادس : الإحراق بالنار و هو قوله تعالى( إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ) . .(٤) و السابع : العذاب كقوله تعالى( يوم هم على النار يفتنون ) (٥) ( ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون ) (٦) .( و من يرد اللَّه فتنته فلن تملك له من اللَّه شيئا ) . .(٧) و الثامن : القتل كقوله تعالى .( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) .(٨) ( فما آمن لموسى إلاّ ذريّة من قومه على خوف من فرعون و ملئهم أن يفتنهم ) .(٩) و التاسع : الصدّ كقوله تعالى( و ان كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا اليك ) .(١٠) و العاشر : شدّة المحنة كقوله تعالى .( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) (١١) ، و قد زاد علي بن ابراهيم وجها آخر ، و هو المحبة كقوله تعالى .( انّما أموالكم و أولادكم فتنة ) .(١٢) و عندي أنّه المحنة بالنون لا المحبة بالباء لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله « الولد مجبنة مبخلة »(١٣) .

____________________

( ١ ) الأنعام : ٢٣ .

( ٢ ) البقرة : ١٩١ .

( ٣ ) التوبة : ٤٩ .

( ٤ ) البروج : ١٠ .

( ٥ ) الذاريات : ١٣ .

( ٦ ) الذاريات : ١٤ .

( ٧ ) المائدة : ٤١ .

( ٨ ) النساء : ١٠١ .

( ٩ ) يونس : ٨٣ .

( ١٠ ) الاسراء : ٧٣ .

( ١١ ) يونس : ٨٥ .

( ١٢ ) الأنفال : ٢٨ .

( ١٣ ) بحار الأنوار ١٠٤ : ٩٧ رواية ٦٠ ب ٢ .

١٧١

قلت : و المفهوم من الخليل أن الأصل في معناه الإحراق ، فقال : الفتن الإحراق(١) ، قال تعالى( يوم هم على النار يفتنون ) (٢) ، و ورق فتين أي فضة محرقة و يقال للحرة فتين كأن حجارتها محرقة .

هذا ، و عن الأصمعي لا يقال أفتنته بل فتنته ، ورد عليه بقول أعشى همدان في سعيد بن جبير :

لئن أفتنتني فهي بالأمس أفتنت سعيدا فأمسى قد قلى كلّ مسلم(٣) و عن ام عمرو بنت الأهتم : مررنا بمجلس فيه سعيد بن جبير و نحن جوار و معنا جارية تغني بدف معها و تنشد البيت « لئن أفتنتني . » ، فقال سعيد : كذبتن كذبتن .

« لأنّه ليس أحد إلاّ و هو مشتمل على فتنة » و لو بالمال أو الولد ، و لأنّ سنته تعالى فتن عباده و لن تجد لسنته تبديلا ، قال تعالى( أحسب الناس ان يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فَليعلمنَّ اللَّه الذين صدقوا و ليعلَمَنَّ الكاذبين ) (٤) .

« و لكن من استعاذ فليستعذ باللَّه من مضلاّت الفتن » كما في فتنة بني اسرائيل بالعجل الذي أضلّهم السامري به حتى تركوا هارون و أرادوا قتله .

و كما في فتنة المسلمين بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمثل فتنة بني اسرائيل بجعل الثاني الأول عجله حتى تركوا خليفة نبيّهم و أرادوا قتله ، و كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم في المتواتر : لتتبعن بني إسرائيل حذوا بحذو حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه .

____________________

( ١ ) العين لأحمد الفراهيدي ٨ : ١٢٧ مادة ( فتن ) .

( ٢ ) الذاريات : ١٣ .

( ٣ ) العين للفراهيدي ٨ : ١٢٨ مادة ( فتن ) .

( ٤ ) العنكبوت : ٢ ٣ .

١٧٢

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) في قصة السقيفة فأخرجوا عليّا فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع فقال : إن أنا لم أفعل فمه ؟ قالوا : إذن و اللَّه الذي لا إله إلاّ هو لضرب عنقك قال : إذن تقتلون عبد اللَّه و أخا رسوله قال عمر : أما عبد اللَّه فنعم و أما أخو رسوله فلا و أبو بكر ساكت لا يتكلّم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه ؟ فقال : لا اكرهه على شي‏ء ما كانت فاطمة إلى جنبه فلحق علي بقبر رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يصيح و يبكي و ينادي : يابن امّ إن القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني إلى آخر ما ذكر(١) .

هذا ، و روى ( توحيد الصدوق ) أنّه تعالى قال : إنّ من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده ، و إنّ منهم لمن لا يصلح ايمانه إلاّ بالفقر و لو أغنيته لأفسده ، و إنّ منهم لمن لا يصلح ايمانه إلاّ بالغنى و لو أفقرته لأفسده ، و ان منهم لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالسقم و لو صححت جسده لأفسده ذلك ، و إنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالصحّة و لو أسقمته لأفسده ، و إنّي ادبر عبادي بعلمي بقلوبهم فإنّي عليم خبير(٢) .

« فإنّ اللَّه سبحانه يقول( و اعلموا أنّما أموالكم و أولادكم فتنة و أن اللَّه عنده أجر عظيم ) (٣) .

« و معنى ذلك أنّه سبحانه » سقطت كلمة « سبحانه » من ( المصرية )(٤) مع وجودها في ( ابن ميثم و ابن أبي الحديد و الخطية )(٥) .

____________________

( ١ ) الخلفاء لابن قتيبة : ١٣ .

( ٢ ) التوحيد للصدوق : ٣٩٨ ح ١ .

( ٣ ) الأنفال : ٢٨ .

( ٤ ) الطبعة المصرية : ٦٧٧ .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٢٤٨ ، و ابن ميثم ٥ : ٢٨٧ .

١٧٣

« يختبرهم » أي : يمتحنهم .

« بالأموال و الأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه » في الأموال .

« و الراضي بقسمه » في الأولاد .

« و إن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم » .( فليعلمن اللَّه الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين ) (١) .

« و لكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب و العقاب » لأن الجزاء على العمل لا مجرّد النيّة و مقتضى الطوية ، و إن كان هو تعالى يثيب على مجردهما تفضلا و لا يؤاخذ على صرفهما تكرّما .

« لأنّ بعضهم يحب الذكور و يكره الاناث » حتى قال تعالى( في مثلهم و إذا بُشّر أحدهم بالانثى ظلّ وجهه مسودّا و هو كظيم يتوارى عن القوم من سوء ما بُشّر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون ) (٢) .

قالوا : و لحب الناس الذكور و كراهتم للإناث و كان الواجب عليهم التسليم لمشيته تعالى شأنه قدّم عز و جل هبة الإناث على الذكور فقال .( يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور ) (٣) .

« و بعضهم يحبّ تثمير المال و يكره انثلام الحال » أي وقوع الخلل فيه ، قال تعالى( و إنّه لحبّ الخير لشديد ) (٤) و فسر الخير هنا بالمال .

و قال تعالى في امتحان عبيده بالمال و الولد و غيرهما( و لنبلونكم بشي‏ء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثمرات

_ ___________________

( ١ ) العنكبوت : ٣ .

( ٢ ) النحل : ٥٨ ٥٩ .

( ٣ ) الشورى : ٤٩ .

( ٤ ) العاديات : ٨ .

١٧٤

 و بشّر الصابرين ) (١) .

« و هذا من غريب ما سمع منه في التفسير » و لو كان قال ما روي عنهعليه‌السلام بدل ما سمع منهعليه‌السلام كان أحسن .

جعله من غريب التفسير لأنّ المتبادر من كون الأموال فتنة أنّ الانسان يطغى أن رآه استغنى ، و أنّ كثيرا من الناس يميل المال بهم إلى الشهوات كما أنّ كثيرا منهم يصعب عليهم إخراج الحقوق التي أوجب اللَّه تعالى عليهم في المال فيهلكون كما ان المتبادر من كون الأولاد فتنة أنّهم يصيرون سببا للتخلّف عن الجهاد ، و البخل عن الزكاة ، و تحصيل المال لهم من غير طريق المشروع لو ضاق عليه المشروع و لموافقة الآباء غالبا أهواء أبنائهم المهوية ، كما اتفق للزبير مع ابنه ، فقالعليه‌السلام : ما زال الزبير منّا حتى نشأ ابنه الميشوم .

و روت العامة في تفسير الآية عن بريدة : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخطب فجاء الحسن و الحسينعليهما‌السلام و عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران ، فنزل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إليهما فأخذهما و وضعهما في حجره على المنبر و قال : صدق اللَّه تعالى( انّما أموالكم و أولادكم فتنة ) .(٢) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان و يعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي و رفعتهما(٣) .

هذا ، و مما روي عنهعليه‌السلام من غريب التفسير غير ما مرّ أنّهعليه‌السلام قال :

الاستثناء في اليمين متى ما ذكر و لو بعد أربعين صباحا ثم تلا هذه الآية . و اذكر ربّك إذا نسيت .(٤) .

و أنّهعليه‌السلام قال : تستحب المقاربة مع أهله ليلة أول شهر الصيام لقوله

____________________

( ١ ) البقرة : ١٥٥ .

( ٢ ) التغابن : ١٥ .

( ٣ ) سنن الترمذي ٥ : ٦١٦ ح ٣٧٧٤ .

( ٤ ) الكافي ٧ : ٤٤٨ الرواية ٦ ، و الآية ٢٤ من سورة الكهف .

١٧٥

تعالى( اُحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) . .(١) .

٥ في الخطبة ( ١٤٣ ) منها :

وَ مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ فَاتَّقُوا اَلْبِدَعَ وَ اِلْزَمُوا اَلْمَهْيَعَ إِنَّ عَوَازِمَ اَلْأُمُورِ أَفْضَلُهَا إِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا « و ما احدثت بدعة إلاّ ترك بها سنة » قال ابن أبي الحديد : البدعة كلّ ما لم يكن في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمنها الحسن كصلاة التراويح و منها القبيح كالمنكرات التي ظهرت أواخر الخلافة العثمانية و إن كانت قد تكلّفت الأعذار عنها(٢) .

قلت : صلاة التراويح أيضا من بدع ، قالعليه‌السلام ترك بها سنة ، و كيف تكون حسنة و كانت تشريعا في قبال الدين ، و إنما التشريع للَّه تعالى( ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون إنّ لكم فيه لما تخيرون ) (٣) .

ما كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يشرّع شيئا من قبل نفسه إلاّ بوحي منه تعالى إليه ، فكيف كان لعمر الذي أفحمته مرأة في أنفها فطس في حظره جعل الصداق أكثر من خمسمائة درهم بأنّه تعالى قال .( و آتيتم إحداهن قنطاراً ) .(٤) فقال : كل الناس أفقه من عمر .

و روى سليم بن قيس الهلالي في كتابه أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام خطب فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه

____________________

( ١ ) البقرة : ١٨٧ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٩٤ .

( ٣ ) القلم : ٣٦ ٣٨ .

( ٤ ) النساء : ٢٠ .

١٧٦

ناقضين لعهده مغيّرين لسنّته ، و لو حملت الناس على تركها تفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي و قليل من شيعتي ، و اللَّه لقد أمرت أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة و أعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي يا أهل الاسلام لقد غيرت سنّة عمر نهينا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا ، و قد خفت أن يثوروا في ناحية عسكري(١) .

و روى محمد بن علي بن بابويه عن الباقر و الصادقعليهما‌السلام : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان في جماعة بدعة ، و صلاة الضحى بدعة ، ألا و إنّ كلّ بدعة ضلالة و كلّ ضلالة سبيلها إلى النار(٢) .

و روى محمد بن يعقوب الكليني : إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام مر برجل يصلّي الضحى في مسجد الكوفة ، فغمز جنبه بالدرة و قال : نحرت صلاة الأوابين نحرك اللَّه(٣) .

و أما أعمال عثمان و لم قال كالمنكرات التي ظهرت أواخر الخلافة العثمانية كنفيه أبا ذر و ضربه عمارا و نهبه بيت المال لأقاربه و توليته لهم حتى يصلّوا بالناس سكارى و يصلّوا الصبح أربعا و يغنوا في الصلاة و غيرها من نظائرها فشنائع ينكرها الموحد و الملحد و المسلم و الكافر .

و أما ما قاله من تكلّف الأعذار الذي نوريهم ، فالتكلّف لعدم منكرية عداوة أبي جهل مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أقرب إلى العقول منه .

ثم جعلها في عداد البدع كصلاة التراويح في غير محله .

____________________

( ١ ) سليم بن قيس ، لا وجود له في الطبعة النجفية ، لعل المؤلف أخذه من البحار حيث ذكر المجلسي في ٩٦ : ٢٠٣ الرواية ٢١ باب ٢٤ .

( ٢ ) الفقيه للصدوق ٢ : ١٣٧ الرواية ١٩٦٤ باب ٢ .

( ٣ ) الكافي ٣ : ٤٥٢ رواية ٨ .

١٧٧

« فاتقوا البدع » روى ابن بابويه عن الصادقعليه‌السلام : من مشى إلى صاحب بدعة فوقرها فقد مشى في هدم الإسلام(١) .

« و الزموا المهيع » أي الطريق الواسع و هو طريق الاسلام ، قال تعالى( و إنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ) . .(٢) .

« إنّ عوازم الامور أفضلها » قال ابن أبي الحديد : عوازم ما تقادم منها من قولهم « عجوز عوزم » أي مسنّة ، و يجوز أن يكون جمع عازمة بمعنى مفعول أي معزوم عليها ، أي مقطوع معلوم بيقين صحتها ، و الأول أظهر لأن في مقابلته « و ان محدثاتها » و المحدث في مقابلة القدم(٣) .

قلت : بل الظاهر أن « عوازم » محرف « قدائم » جمع قديم للتشابه الخطي بينهما ، لأن العزم في مقابل الرخصة لا المحدث ، يقال عزائم القرآن و رخصه ، ثم جمع العوزم بالعوازم كما قاله غير معلوم .

٦ الخطبة ( ٥٠ ) و من كلام لهعليه‌السلام :

إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ اَلْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَ أَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اَللَّهِ وَ يَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً عَلَى غَيْرِ دِينِ اَللَّهِ فَلَوْ أَنَّ اَلْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ اَلْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى اَلْمُرْتَادِينَ وَ لَوْ أَنَّ اَلْحَقَّ خَلَصَ مِنْ اَلْبَاطِلِ اِنْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ اَلْمُعَانِدِينَ وَ لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا

____________________

( ١ ) الفقيه للصدوق ٣ : ٥٧٢ ح ٤٩٥٧ الباب ٢ .

( ٢ ) الأنعام : ١٥٣ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٩٤ .

١٧٨

ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي اَلشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَ يَنْجُو اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ ٢ ٤ ٢١ : ١٠١ مِنَ اَللَّهِ اَلْحُسْنى‏ ٦ ٦ ٢١ : ١٠١ أقول : رواه الكليني في ( بدع كافيه ) بإسنادين عن عاصم بن حميد عن محمد ابن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : خطب أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال : أيها الناس إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع و أحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب اللَّه ، يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا ، فهنا لك استحوذ الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم منه الحسنى(١) .

و رواه في ( روضته ) مع زيادات ، فروى عن سليم بن قيس قال : خطب عليعليه‌السلام فقال : إنّما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع و أحكام تبتدع ، يخالف فيها حكم اللَّه ، يتولى فيها رجال رجالا ، إنّ الحق لو خلص لم يكن اختلاف و لو أنّ الباطل خلص لم يخف على ذي حجى ، لكنّه يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجتمعان فيجللان معا ، فهنا لك يستولي الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم الحسنى ، إنّي سمعت رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

كيف أنتم إذا لبستكم فتنة تربو فيها الصغير و يهرم فيها الكبير يجري الناس عليها و يتخذونها سنة ، فإذا غيّر منها شي‏ء قيل قد غيّرت السنّة ، و قد أتى الناس منكرا ثم تشتدّ البلية و تسبى الذريّة و تدقهم الفتنة كما تدقّ النار الحطب و كما تدقّ الرحى بثفالها ، و يتفقهون لغير اللَّه و يتعلمون لغير العمل و يطلبون الدنيا بأعمال الآخرة .

ثم أقبل بوجهه و حوله ناس من أهل بيته و خاصته و شيعته فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه ناقضين بعهده مغيّرين لسنّته ، و لو حملت الناس على تركها و حوّلتها إلى مواضعها

____________________

( ١ ) الكافي ١ : ٥٤ رواية ١ و أيضا ٨ : ٥٨ الرواية ٢١ .

١٧٩

و الى ما كانت في عهد رسول اللَّه لتفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي أو مع قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي و فرض إمامتي من كتاب اللَّه و سنّة رسوله ، أرأيتم لو أمرت بمقام ابراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللَّه و رددت فدك إلى ذريّة فاطمة و رددت صاع رسول اللَّه كما كان و أمضيت قطائع أقطعها النبي لأقوام لم تمض لهم و لم تنفذ و رددت دار جعفر إلى ورثته و هدمتها من المسجد و رددت قضايا من الجور قضي بها و نزعت نساء تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن و استقبلت بهن الحكم ( في الفروج و الأحكام ) و سبيت ذراري بني تغلب و رددت ما قسم من أرض خيبر و محيت دواوين العطاء و أعطيت كما كان النبي يعطي بالسوية و لم أجعلها دولة بين الأغنياء و ألقيت المساحة و سويت بين المناكح و أنفذت خمس الرسول كما أنزل اللَّه عز و جل و فرضه و رددته إلى ما كان عليه و سددت ما فتح من الأبواب و فتحت ما سد منه و حرمت المسح على الخفين و حددت على النبيذ و أمرت باحلال المتعتين و أمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات و ألزمت الناس الجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم و أخرجت من ادخل مع رسول اللَّه في مسجده ممن كان رسول اللَّه أخرجه و أدخلت من اخرج بعد رسول اللَّه و حملت الناس على حكم القرآن ( في ) الطلاق على السنّة و أخذت الصدقات على أصنافها و حدودها و رددت الوضوء و الغسل و الصلاة إلى مواقيتها و شرائعها و حدودها و رددت أهل نجران إلى مواضعهم و رددت سبايا فارس و سائر الامم إلى كتاب اللَّه و سنّة نبيّه ، إذن لتفرّقوا عني ، و اللَّه لقد أمرت الناس ألا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة و أعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الاسلام غيّرت سنّة عمر نهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا ، و لقد خفت أن

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وفد الحبشة إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله للإستطلاع على أمر الدعوة:

لـمّا بلغ خبر رسول الله إلى الحبشة وهم نصارى، فقدم منهم إلى مكّة عشرون رجلاً ليقفوا على حقيقة الأمر عن كثب، فوجدوا النبي في المسجد، فجلسوا إليه وكلّموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلمّا فرغوا من مسألة رسول الله عمّا أراد، ودعاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الله عزّ وجلّ وتلا عليهم القرآن، فلمّا سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثمّ استجابو لله وآمنوا بالنبيّ وصدّقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلمّا قاموا عنه إعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش فقالوا لهم: خيّبكم الله من ركب بعثكم من ورائكم من أهل دينكم، ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم، وصدّقتموه بما قال، ما نعلم ركباً أحمق منكم، فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيراً، وفيهم نزل قوله سبحانه:

( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ *وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ *أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ *وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ ) ( القصص / ٥٢ ـ ٥٥ )(١) .

إلى هنا تمّ الفراغ من بيان الحوادث المهمّة في الفترة الواقعة بين بعثته وهجرته وبقيت هناك عدّة حوادث يقف عليها من سبر التفاسير، فتركنا ذكرها روماً للإختصار.

__________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام: ج ١ ص ٣٩٢، مجمع البيان: ج ٤ ص ٣٥٨، مع اختلاف يسير بين المصدرين.

٢٢١
٢٢٢

(٨)

في رحاب الهجرة إلى يثرب

الهجرة في اللّغة هو الخروج من أرض إلى أرض(١) فلو ترك إنسان أرضاً وانتقل إلى أرضٍ اُخرى لغاية من الغايات، يقال إنّه هاجر، ولكنّها في مصطلح القرآن هو الإنتقال من أرض إلى أرض لغاية قدسية كحفظ الإيمان والتمكّن من إقامة الفرائض على وجه تكون قداسة الهدف مقوّماً لمفهوم المهاجرة إلى حدٍّ استعمله النبيّ في ترك المحرّمات ونبذ المعاصي وإن لم يكن هناك إنتقال من مكان إلى مكان، بل كان هناك إنتقال الرّوح من العصيان إلى الطّاعة. قال: « المهاجر من هجر ما حرّم الله عليه »(٢) .

والهجرة في مصطلح أهل السيرة والتاريخ والتفسير من المسلمين هو هجرة الرسول من موطنه إلى يثرب للتخلّص من مؤامرة قريش على سجنه أو قتله أو نفيه، وليس الرسول بدعاً في ذلك فقد ذكر القرآن مهاجرة لفيف من الأنبياء.

فهذا هو إبراهيم الخليل لـمّا اُلقي في النار، ونجّاه الله سبحانه غادر موطنه، قال سبحانه حاكياً قصّته:

( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الجَحِيمِ *فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ *وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ *رَبِّ هَبْ لِي مِنَ

__________________

(١) لسان العرب: مادة « هجر ».

(٢) جامع الاُصول: ج ١ ص ١٥٤.

٢٢٣

الصَّالِحِينَ ) ( الصافّات / ٩٧ ـ ١٠٠ ) فنزل الخليل الأراضي المقدّسة ووهبه سبحانه إسحاق ويعقوب. قال تعالى:

( وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا ) ( مريم / ٤٩ ).

وهذا لوط وقد تبع إبراهيم وغادر موطنه كما يحكي عنه قوله سبحانه:( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( العنكبوت / ٢٦ ).

وهذا موسى بن عمران فلمّا وقف على أنّ الملأ يأتمرون به ليقتلوه غادر أرض الفراعنة ونزل مدين. يقول سبحانه:( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ( القصص / ٢١ ).

وأمّا النبيّ الأكرم فقد خرج في موسم الحج ولقيه فيه نفر من الخزرج فقال لهم: من أنتم ؟ فقالوا: نفر من الخزرج، قال: أمن موالي يهود ؟ قالوا: نعم. قال: أفلا تجلسون أكلّمكم ؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ وعرض عليهم الإسلام، وتلى عليهم القرآن. قال: وكان ممّا صنع الله بهم في الإسلام أنّ اليهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، وكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إنّ نبيّنا مبعوث الآن قد أظلّ زمانه نتبعهُ فنقتلكم معهُ قتل عاد وإرم، فلمّا كلّم رسول الله اُولئك النفر ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: ياقوم، تعلموا والله إنّه النبيّ الذي توعدكم به اليهود، فلا تسبقنّكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنّا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فستقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، وتعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعزّ منك.

ثمّ انصرفوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدّقوا. فلمّا قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله ودعوهم إلى الإسلام، حتّى فشا فيهم، فلم يبق دار من دور الأنصار إلّا وفيه ذكر لرسول الله.

٢٢٤

حتّى إذا كان في العام المقبل وأتى الموسم من الخزرجيين اثنا عشر رجلاً بالعقبة، فبايعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على بيعة النساء(١) وذلك قبل أن تفرض عليهم الحرب

يقول عبادة بن الصامت: فبايعنا على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف. وقال النبيّ: فإن وفّيتم فلكم الجنّة وإن خشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عزّ وجلّ إن شاء عذّب وإن شاء غفر

ثمّ إنّ النبي بعث إلى يثرب مصعب بن عمير ليعلّمهم القرآن، وذلك باستدعاء أسعد بن زرارة ـ أحد رؤساء الخزرجيين ـ، فصارت نتيجة ذلك أن وافى النبيّ في العام المقبل في العقبة الثانية وفود من الخزرجيين والأوسيين، فبايعوا النبيّ في الشعب

فتكلّم رسول الله، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغَّب في الإسلام. ثمّ قال اُبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم

فقام أبو الهيثم بن التيهان، وقال يا رسول الله: إنّ بيننا وبين الرجال حبالاً وإنّا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثمّ أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ قال: فتبسمّ رسول الله ثمّ قال: بل الدم بالدم، والهدم بالهدم(٢) أنا منكم وأنتم منّي، أحارب من حاربتم، واُسالم من سالمتم

ثمّ قال: أخرجوا إليّ منكم اثنيّ عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم ،

__________________

(١) ذكر الله تعالى بيعة النساء في القرآن وقال:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ( الممتحنة / ١٢ ). ترى المماثلة بين بيعة الخزرجيّين وبيعة النساء في الموادّ والمضامين.

(٢) الهدم: الحرمة، أي ذمتي وحرمتي حرمتكم.

٢٢٥

فأخرجوا منهم اثنيّ عشر نقيباً تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس

فلمّا انتشرت مبايعة الأوس والخزرج لرسول الله، خافت قريش على نفسها خصوصاً بعد ما وقفوا على أنّ المعذّبين في مكّة أخذوا يهاجرون إلى يثرب، فأذعنوا أنّ النبيّ أيضاً سوف يخرج إليهم ويتّخذها مأوى لنفسهِ وأصحابه، وليشنّ عليهم الحرب وينكّلهم، فاجتمعوا

قال ابن إسحاق: « فلمّا رأت قريش أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنّهم قد نزلوا داراً، وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم، وعرفوا أنّه قد أجمع لحربهم. فاجتمعوا له في دار الندوة وهي دار قصيّ بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلّا فيها، يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين خافوه

فتشاوروا فقال قائل منهم: إحبسوه في الحديد واغلقوا عليه باباً، ثمّ تربّصوا به ما أصاب من الشعراء الذين كانوا قبله: زهيراً والنابغة حتّى يصيبهُ ما أصابهم، وقال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، وقال أبوجهل بن هشام: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتىً شابّاً جليداً نسيباً وسيطاً فينا، ثمّ نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثمّ يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه فنستريح منه، فإنّهم إذا فعلوا ذلك تفرّق دمه في القبائل جميعاً، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً، فرضوا منّا بالعقل فعقلناه لهم، فتفرّق القوم على ذلك وهم مجمعون له، فأتى جبرئيل وقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. قال فلمّا كان عتمة من الليل إجتمعوا على بابه يرصدونه متىٰ ينام فيثبون عليه، فلمّا رآى رسول الله مكانهم قال لعليّ بن أبي طالب: نم على فراشي وتسبّح ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه، فخرج عليهم رسول الله، وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه، وجعل القوم يتطلّعون فيرون عليّاً علىٰ الفراش متسجّياً ببرد رسول الله، فيقولون: والله إنّ هذا لمحمّد نائماً عليه برده، فلم يبرحوا كذلك، وحتى أصبحوا، فقام عليٌّ

٢٢٦

رضي‌الله‌عنه عن الفراش »(١) فباؤوا بالفشل وانصرفوا عن إيذاء عليٍّ وقتله.

وإلى تلك المؤامرة يشير قوله سبحانه:( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ) ( الأنفال / ٣٠ ). وفيه تصريح بآرائهم الثلاثة التي أبدوا بها في الندوة، وأجمعوا على القتل.

عزب عن قريش أنّه سبحانه تعهّد على نفسه نصر أنبيائه ورسله، فقال سبحانه:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ *إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ ) ( الصافّات / ١٧١ ـ ١٧٢ ).

أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً أن يتخلّف بعده بمكّة حتّى يؤدّي عن رسول الله الأمانة التي كانت عنده للناس، وليس بمكّة أحد عنده شيء إلّا وضعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند عليٍّ، فخرج رسول الله عامداً إلى غار بثور(٢) وبقى فيها ثلاثاً، واستنفدت قريش طاقتها في الوقوف على محلّه، وجعلت مائة ناقة لمن يردّه إليها، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مع دليله ( عبد الله بن أرقط ) ومعهما أبو بكر فسلك بهما أسفل مكّة ثمّ مضى على الساحل حتّى عارض الطريق أسفل من عسفان حتى قدم قباء باثنتىٰ عشرة ليلة خلّت من شهر ربيع الأوّل يوم الإثنين، حتّى اشتدّ الضحى وكانت الشمس تعتدل(٣) .

وإلى هجرته هذه واختفائه في الغار ونزول نصرته سبحانه عليه يشير قوله سبحانه:

( إلّاتَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة / ٤٠ ).

__________________

(١) السيرة النبوية، لابن هشام: ج ١ ص ٤٢٨ ـ ٤٨٣.

(٢) جبل بأسفل مكّة.

(٣) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٤٨٥ ـ ٤٩٢.

٢٢٧

والضمير في قوله:( أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) يرجع إلى النبيّ بشهادة قوله:( وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا ) . فما هي النكتة في أفراد الضمير ؟

روى البيهقي عن ابن عباس كان رسول الله بمكّة فاُمر بالهجرة واُنزل عليه:( وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ) ( الإسراء / ٨٠ )(١) .

وقد نقل غير واحد من المفسّرين: إنّ النبيّ لما بلغ في هجرته الجحفة تذكّر موطنه، فنزل عليه الوحي مبشّراً بأنّه سوف يرد إلى موطنه ويزوره، قال سبحانه:( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ) ( القصص / ٨٥ ).

روى السيوطي: « لما خرج النبي من مكّة فبلغ الجحفة إشتاق إلى مكّة فأنزل الله:( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ) : إلى مكّة، وعن عليِّ بن الحسينعليه‌السلام قال: كل القرآن مكّي أو مدني غير قوله:( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ) فإنّها اُنزلت على رسول الله بالجحفة حين خرج إلى المدينة فلا هي مكّية ولا مدنية، وكل آية نزلت على رسول الله قبل الهجرة فهي مكيّة نزلت بمكة أو بغيرها من البلدان، وكل آية نزلت بالمدينة بعد الهجرة فإنّها مدنيّة نزلت بالمدينة أو بغيرها من البلدان »(٢) .

وقد أشار الذكر الحكيم إلى موطنهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله:( وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ ) ( محمد / ١٣ ).

__________________

(١) دلائل النبوّة: ج ٢ ص ٥١٦، وأخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب تفسير سورة الإسراء الحديث ٣١٣٩.

(٢) الدر المنثور في التفسير بالمأثور: ج ٥ ص ١٣٩ و ١٤٠، ومجمع البيان: ج ٧ ص ٢٦٨ و ٢٦٩.

٢٢٨

قدومهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قباء

قدم النبي حسب ما يذكره ابن هشام قباء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل يوم الإثنين حين اشتدّ الضحى وكانت الشمس تعتدل، وأقام عليّ بن أبي طالب بمكّة ثلاثة ليال وأيامها حتى أدّى عن رسول الله الودائع التي كانت لرسول الله عنده، حتى إذا فرغ منها لحق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فأقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بـــ‍ « قباء » في بني عمر بن عوف يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسّس مسجده الذي اُشير إليه في قوله سبحانه:( لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ ) ( التوبة / ١٠٨ )(١) .

إطلالة على نشأة التاريخ الهجري

المشهور أنّ أوّل من أرّخ بالتاريخ الهجري هو عمر بن الخطاب. يقول اليعقوبي: « وفيها ( سنة ١٦ ه‍ ) أرّخ عمر الكتب وأراد أن يكتب التاريخ منذ مولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال: من المبعث، فأشار عليه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام أن يكتبه من الهجرة، فكتبه من الهجرة(٢) .

وروى الحاكم عن سعيد بن المسيب أنّه قال: جمع عمر الناس فسألهم من أيّ يوم يكتب التاريخ ؟ فقال عليّ بن أبي طالب: من يوم هاجر رسول الله، وترك أرض الشرك، ففعله عمررضي‌الله‌عنه ، هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه(٣) .

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص ٧٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ج ٢ ص ١٣٥ ( طبع النجف ).

(٣) مستدرك الصحيحين، الحاكم: ج ٣ ص ١٤.

٢٢٩

ويظهر من ابن كثير الدمشقي أنّ اليعقوبي والحاكم لخّصا القصة وكانت هي أطول ممّا ذكراه. حيث نقل عن الواقدي أنّه قال:

« وفي الربيع الأوّل من هذه السنة ـ أعني سنة ١٦ ـ كتب عمر بن الخطاب التاريخ وهو أوّل من كتبه.

وأضاف ابن كثير قائلاً: قد ذكرنا سببه في سيرة عمر، وذلك انّه رفع إلى عمر صكّ مكتوب لرجل على آخر بدين يحلّ عليه في شعبان، فقال: أي شعبان ؟ أمن هذه السنة أم التي قبلها، أم التي بعدها ؟ ثمّ جمع الناس فقال: ضعوا للناس شيئاً يعرفون فيه حلول ديونهم، فيقال: إنّهم أراد بعضهم أن يؤرّخوا كما تؤرّخ الفرس بملوكهم كلّما هلك ملك أرّخوا من تاريخ ولاية الذي بعده فكرهوا ذلك، ومنهم من قال: أرّخوا بتاريخ الروم من زمان إسكندر فكرهوا ذلك، ولطوله أيضاً، وقال قائلون: أرّخوا من مولد رسول الله، وقال آخرون: من مبعثهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأشار عليّ بن أبي طالب وآخرون أن يؤرّخ من هجرته من مكّة إلى المدينة لظهوره لكل أحد، فإنّه أظهر من المولد والمبعث، فاستحسن ذلك عمر والصحابة، فأمر عمر أن يؤرّخ من هجرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأرّخوا من أوّل تلك السنة من محرّمها، وعند مالكرحمه‌الله فيما حكاه عن السهيلي(١) وغيره أنّ أوّل السنة من ربيع الأوّل لقدومهصلى‌الله‌عليه‌وآله على المدينة، والجمهور على أنّ أوّل السنة من المحرّم لأنّه أضبط لئلاّ تختلف الشهور، فإنّ المحرّم أوّل السنة الهلالية العربية(٢) .

ولكن الجزم والإذعان بصحّة هذه النقول مشكل، والظاهر أنّ أوّل من أرّخ بالسنة الهجريّة، هو النبيّ الأكرم حسب تضافر النصوص الموجودة في ثنايا الكتب وما ظفرنا عليه من النصوص تدلّ على كون التأريخ بالهجرة في زمن النبي وبعده.

__________________

(١) كذا في المصدر والظاهر زيادة كلمة « عن ».

(٢) البداية والنهاية: ج ٧ ص ٧٥ و ٧٦. طبع دار الكتب العلميّة.

٢٣٠

١ ـ ما روي عن الزهري: إنّ رسول الله لـمّا قدم المدينة مهاجراً أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأوّل(١) .

٢ ـ ما رواه الحاكم وصحّحه عن عبد الله بن العباس أنّه قال: كان التاريخ في السنة التي قدم فيها رسول الله المدينة، وفيها ولد عبد الله بن الزبير(٢) .

ودلالته على المقصود واضحة، لأنّه قال: « كان التاريخ في السنة » ولم يقل « من السنة ».

٣ ـ إنّ بعض الصحابة كانوا يعدّون بالأشهر من مهاجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أواسط السنة الخامسة، مثلاً أرّخوا تحويل القبلة على رأس سبعة عشر شهراً، وفرض رمضان على رأس ثمانية عشر شهراً من هجرة الرسول(٣) .

٤ ـ ما رواه أبو نعيم عن عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لسلمان الفارسي وهو مؤرّخ بسنة تسع للهجرة، وهو ينقل عن الحسين بن محمد بن عمرو الوثابي: إنّه رأى هذا السجل بشيراز بيد سبط لغسّان بن زاذان بن شاذويه بن ماهبنداز، وهو أخو سلمان، وهذا العهد بخط عليّ بن أبي طالب، مختوم بخاتم النبي، فنسخ منه ما صورته:

« بسم الله الرّحمن الرّحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله ـ سأله سلمان وصيّة بأخيه ماهبنداز أهل بيته وعقبه » وفي آخر العهد: « وكتب عليّ بن أبي طالب بأمر رسول الله في رجب سنة تسع من الهجرة، وحضره أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرّحمان، وسعد، وسعيد، وسلمان، وأبوذر، وعمّار، وعيينة، وصهيب، وبلال، والمقداد، وجماعة آخرون من المؤمنين ».

__________________

(١) فتح الباري: ج ٧ ص ٢٠٨، وإرشاد الساري: ج ٦ ص ٢٣٣.

(٢) مستدرك الصحيحين، للحاكم النيسابوري: ج ٣ ص ١٣ و ١٤.

(٣) تاريخ الخميس: ج ١ ص ٣٦٨، ومن راجع الكتب المؤلّفة حول السيرة يجد ذلك بوضوح، فإنّ أكثر الحوادث في السنين الاُولى بعد الهجرة مؤّرخة بالشهور.

٢٣١

وذكره أيضاً أبو محمد بن حيّان عن بعض من عني بهذا الشأن: إنّ رهطاً من ولد أخي سلمان بشيراز زعيمهم رجل يقال له ( غسّان ) بن زاذان معهم هذا الكتاب بخط عليّ بن أبي طالب في يد غسّان، مكتوب في أديم أبيض مختوم بخاتم النبي وخاتم أبي بكر وعليّ ـ رضي الله عنهما ـ على هذا العهد حرفاً بحرف إلّا أنّه قال: وكتب عليّ بن أبي طالب، ولم يذكر عيينة مع الجماعة(١) .

ونقل أيضاً عن أبي كثير بن عبد الرحمان بن عبد الله بن سلمان الفارسي، عن أبيه، عن جدّه أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أملى هذا الكتاب على عليّ بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه : هذا ما فادى محمد بن عبد الله رسول الله فدى سلمان الفارسي من عثمان بن الأشهل اليهودي، ثمّ القرظي بغرس ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية ذهب، فقد برء محمد بن عبد الله رسول الله لثمن سلمان الفارسي، وولاّه لمحمد بن عبد الله رسول الله وأهل بيته فليس لأحد على سلمان سبيل. شهد على ذلك: أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب وكتب عليّ بن أبي طالب يوم الإثنين في جمادي الاُولى مهاجر محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

٥ ـ كتب خالد بن وليد لأهل دمشق: إنّي قد أمنتهم على دمائهم وأموالهم وكنائسهم وفي آخره شهد أبو عبيدة بن الجرّاح وشرحبيل بن حسنة، وكتب سنة ١٣(٣) .

إلى غير ذلك من النصوص التي جاء بها الفاضل المتتبّع السيّد جعفر مرتضى

__________________

(١) ذكر أخبار اصبهان: ج ١ ص ٥٣.

(٢) المصدر السابق: ج ١ ص ٥٢، والظاهر أنّ المراد من « المهاجر » هو عام الهجرة لامكانها، ويؤيّد ذلك: إنّ سلمان عرف الرسول إبّان قدومه بالمدينة وآمن والتحق به، والظاهر أنّ توصيف أبي بكر بما في الرواية من تلاعب الرواة، حيث لم يكن يوم ذلك معروفاً به. لاحظ: السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٢١٨ و ٢١٩.

(٣) الأموال لأبي عبيد الثقفي القاسم بن سلام، ـ ( المتوفّى ٢٢٤ ): ص ٢٩٧.

٢٣٢

العاملي في مقاله في مجلة الهادي(١) وهذا يعرب عن أنّ التاريخ بالهجرة كان قبل الخليفة، وغاية ما يمكن تصحيح ما ورد بأنّ الخليفة أرّخ بالهجرة هو أنّ النبيّ أرّخ بالهجرة ولم يشتهر بين الناس لقلّة حاجاتهم إلى التاريخ، فلمّا إنتشر الإسلام خارج الجزيرة مسّت الحاجة إلى تاريخ الكتب والرسائل الواردة من مختلف الأرجاء، جمع الخليفة صحابة النبي وأشار الإمام بنفس مافعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وممّا يؤسف له أنّ المسلمين نسوا أمجادهم التاريخية والحضارية التي كرّمهم الإسلام بها، فعادوا يؤرّخون كتبهم ورسائلهم بالتاريخ المسيحي، فكأنّهم( نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) وقد رأيت بعيني رسالة لشيخ الأزهر الشيخ محمود عبد الحليم وقد أرّخها بالتاريخ المسيحي الميلادي ولم يذكر ـ حتّى في جنبه ـ التاريخ الهجري، فإذا كان هذا حال شيخ الأزهر فما ظنّك بغيره ؟

إذا كان ربّ البيت بالدفّ مولعاً

فشيمة أهل البيت كلّهم رقص

ومن الواجب على المسلمين أن لا يتنازلوا عن أقل شيء ممّا يرجع إلى تاريخهم وحضارتهم ودينهم، حتى أنّ ذكر التاريخ الميلادي جنب التاريخ الهجري نوع ترويج له ومماشاة مع الكفر، ولم يزل أعداء الدين يتآمرون على الإسلام والمسلمين بمسخ شخصيتهم الإسلاميّة واقتلاع جذور مبادئها، وقد شهدنا في بلدنا العزيز إيران مثل ذلك عام ١٣٩٦ ه‍ ـ ق. فقد قام طاغوت إيران بتبديل التاريخ الإسلامي إلى التاريخ « الشاهنشاهي » المجعول الذي لا سند له، وفرضه على الناس وعادت الرسائل والكتب الرسمية تؤرّخ به، وكادت أن ترسّخ في القلوب لولا أن بدّد الله شمله وأزال ملكه وحاق به العذاب والبلاء بانتصار الثورة الإسلاميّة عام ١٣٩٨ ه‍.ق( قُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) .

__________________

(١) العدد السادس من السنة الخامسة وهو مقال ممتع.

٢٣٣

نزول النبيّ بالمدينة:

خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الجمعة من ( قبا ) فأدرك الجمعة في بني سالم بن عوف فكانب أوّل جمعة أقامها بالمدينة، وكان لا يمر على قبيلة إلّا قالوا أقم عندنا، فيقول النبيّ خلّوا سبيلها ( الناقة ) فإنّها مأمورة حتّى إذا أتت دار بني مالك بن النجّار، بركت ناقته على باب مسجده وهو مربد(١) فنزل رسول الله فاحتمل أبو أيّوب رحله فوضعه في بيته، وسأل عن المربد لمن هو، فقال معاذ بن عفراء: هو لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان لي وسارضيهما منه، فاتّخذه مسجداً، فأمر به رسول الله أن يبني مسجداً، ونزل رسول الله حتى بنى مسجده ومسكنه، فعمل فيه رسول الله ليرغّب المسلمين في العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار ودأبوا، فقال قائل من المسلمين:

لئن قعدنا والنبي يعمل

لذاك منّا العمل المضلّل

وممّن ساهم في بناء المسجد عمّار بن ياسر وقد أثقلوه باللبن، فقال يا رسول الله: قتلوني، يحمّلون عليّ ما لا يحملون، قالت اُمّ سلمة زوجة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : فرأيت رسول الله ينفض وفرته بيده وكان رجلاً جعداً، وهو يقول: ويح ابن سميّة ليسوا بالذين يقتلونك إنّما تقتلك الفئة الباغية.

وارتجز عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام يومئذ:

لا يستوي من يعمّر المساجدا

يدأب فيه قائماً وقاعداً

ومن يرى عن الغبار حائداً

         

وقد كان بين أصحاب رسول الله من يستنكف العمل، فهذا الرجز من عليّعليه‌السلام كان بقصد التعريض به، وقد قال ابن إسحاق: إنّ المقصود به عثمان بن عفّان، وفي المواهب، الّدنيّة: إنّ المقصود عثمان بن مظعون.

__________________

(١) الموضع الذي يجفّف فيه التمر.

٢٣٤

فأقام رسول الله بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأوّل إلى صفر من السنة التالية حتّى بنى له فيها مسجده ومساكنه، فلم يبق دار من دور الأنصار إلّا أسلم أهلها إلّا حيّ من الأوس، فإنّهم أقاموا على شركهم.

ولأجل استتباب الأمن، واضفاء طابع الوحدة السياسية على القبائل التي تستوطن يثرب وما جاورها كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرّهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم.

وقد نقل ابن هشام الكتاب برمّته وهو أوّل منشور سياسي أدلى به النبي إبّان نزوله بالمدينة.

ولم يكتف بذلك حتى آخى بين المهاجرين والأنصار، فقال: تآخوا في الله أخوين أخوين، ثمّ أخذ بيد عليّ بن أبي طالب، فقال: هذا أخي، فكان رسول الله سيّد المرسلين وإمام المتّقين ورسول رب العالمين الذي ليس له نظير من العباد وعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام أخوين، وكان حمزة بن عبد المطّلب أسد الله وأسد رسوله وعمّه وزيد بن حارثة مولى رسول الله أخوين، وإليه أوصى حمزة يوم اُحد حين حضره القتال إن حدث به حادث الموت، فهكذا تآخى المهاجرون والأنصار أخوين أخوين.

فلمّا اطمأنّ رسول الله بالمدينة والتفّ حوله إخوانه من المهاجرين واجتمع أمر الأنصار، استحكم أمر الإسلام، فقامت الصلاة وفرضت الزكاة والصيام وقامت الحدود وفرض الحلال والحرام، وشرع الآذان(١) .

ولـمـّا استحكمت شوكة المسلمين ظهرت من أحبار اليهود العداوة حسداً وضغناً والتحق بهم رجال من الأوس والخزرج فتظاهروا بالإسلام، ونافقوا في السرّ وكان هواهم مع اليهود.

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٤٩٤ ـ ٥١٢.

٢٣٥

وكان أحبار اليهود هم الذين يسألون رسول الله ويشاغبونه ليلبسوا الحقّ بالباطل، فكان القرآن ينزل فيهم فيما يسألون عنه.

وكان المجتمع اليهودي عبارة عن مجموع قبائل ثلاث:

١ ـ بني قينقاع.

٢ ـ بني النضير.

٣ ـ بني قريظة.

وكانت تلك القبائل مليئة بالأحبار وهم الذين شنُّوا حرب الاستنزاف الخفيَّة على النبي، واستمدّوا ممّن اجتمع إليهم من منافقي الأنصار، وإليك استعراض ما بدر منهم من جدال على ضوء ما ورد في القرآن الكريم.

مجادلة أهل الكتاب

كانت بيئة مكّة قاعدة للشرك والمشركين ولم يكن هناك حبر ولا راهب، بل ولا يهودي ولا نصراني إلّا شرذمة قليلة لا تتجاوز عدد الأصابع من أمثال ورقة بن نوفل، وعثمان بن حويرث اللّذين تنصّرا قبل الإسلام، وكانت قريش تغط في الكفر والشرك إلّا اُناس قليل المقتفين أثر الخليل المسمّين بالأحناف(١) .

إنّ ما ورد من الآيات حول جدال أهل الكتاب مع النبي، آيات مدنية تناثر ذكرها في السور الطوال كالبقرة وآل عمران وغيرهما.

كان الجدال محتدماً على قدم وساق في الفترة التي كانت القبائل الثلاث مقيمة في المدينة، وبعد ما اُزيلوا عنها اُخمدت نار فتنتهم، وكان أكثر ما جادلوا فيه ما يرجع إلى النبي وعلائمه في العهدين، ولسنا في هذا المقام بصدد نقل كل حوار

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٢٢٢ ـ ٢٢٤.

٢٣٦

ورد في القرآن الكريم سواء أكانت راجعة إلى الأحبار والرهبان أم إلى غيرهم، وإنّما الهدف تبيين ما دار بين النبي وبين أحبار اليهود في يثرب قبل إجلائهم وإبادتهم، وكان الكل في السنين الخمس الاُولى إلى أوان حرب الخندق حيث استأصل نسل اليهود في المدينة ولم يبق منهم أحد إلّا كعب القرظي(١) .

تنبّؤ القرآن عن شدّة عداوة اليهود:

تنبّأ القرآن الكريم عن قسوة اليهود وشدّة عدائهم كالمشركين بينما كان المسيحيون على خلاف ذلك، فكانوا أقرب الناس مودّة للّذين آمنوا، قال سبحانه:( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ *وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) ( المائدة ٨٢ ـ ٨٣ ) ولأجل ذلك نرى أنّه لم يسلم من اليهود ولا من أحبارهم إلّا أقل القليل، كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار من الذين دسُّوا بإسلامهم كثيراً من البدع اليهودية بين المسلمين، بينما نرى أنّه بعد ما إنتشر الإسلام في ربوع الأراضي المسيحية، دخل المسيحيّون أفواجاً في الإسلام وما ذلك إلّا لأنّه كان فيهم قسّيسون ورهبان، مالوا إلى الحق واعتنقوه وصدّقوا به فتبعهم غيرهم.

وهناك سبب آخر لتصلّب اليهود وعدم رضوخهم لدعوة الإسلام، يتمثّل في حرصهم على زينة الحياة وزبرجها وهو أكبر حجاب بين بصيرة الإنسان، والحق الذي يجب أن يتّبع، قال سبحانه:

__________________

(١) هو والد محمد بن كعب القرظي، القصّاص الذي ملأت كتب التاريخ والتفسير قصصه، فتدبّر.

٢٣٧

( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) ( البقرة / ٩٦ ).

الدعوة إلى أصل مشترك بين الشرائع السماوية:

إنّ التوحيد في العبادة هو الأصل المشترك الذي قام عليه صرح الشرائع السماوية، ومن العجب أنّ أهل الكتاب الذي يضفون على أنفسهم أنّهم من أنصار لواء التوحيد، قد إنحرفوا عن هذا الأصل الأصيل، فعاد يتّخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، فجاء الوحي يدعوهم إلى العودة إلى هذا الأصل، والإنضواء تحت رايته الخفّاقة، قال سبحانه:

( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إلّا نَعْبُدَ إلّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران / ٦٤ ).

ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من إنحراف اليهود والنصارى عن هذا الأصل المشترك على أبعاده المختلفة ( التوحيد في العبادة ـ التوحيد في الربوبية ) نذكر بعض عقائدهم الخرافية حسبما ورد في القرآن الكريم.

الإعتقاد بمبدأ البنوّة للباري جلّ وعلا:

وقد تمخّض الانحراف عن أصل التوحيد، وبلغ الذروة حيث اتّخذوا لله ابناً باسم عزير والمسيح وهم يضاهئون بذلك قول الكافرين، وإليه الإشارة في قوله عزّ وجلّ:( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) ( التوية / ٣٠ ).

٢٣٨

إنّ اليهود اليوم وإن كانت تنكر تلك النسبة ولا تدين بها ولكنّها كانت موجودة في عصر نزول القرآن، ولأجل ذلك لم تعترض اليهود على النبيّ الأكرم.

والمستفاد من الآية انّ الإعتقاد بمبدأ البنوّة للباري جلّ وعلا ذات خلفيّة تاريخية ولعلّ الآية تشير إلى عقيدة التثليث التي كانت تدين بها الهندوكيّة كما هو الظاهر من آثار آلهتهم المجسّمة المثلّثة(١) .

وبما أنّ للتثليث دعامة راسخة في الديانة النصرانية أفاض القرآن القول فيه، يليق بنا الإسهاب في تناول أطراف هذا الموضوع.

ذاتية التوحيد وظاهرة التثليث:

لقد تمثّلت ظاهرة التثليث في الديانة النصرانية عصر نزول القرآن في صور مختلفة تناولها القرآن الكريم بالذكر.

فتارة يقولون المسيح هو الله.

واُخرى يصرّحون بالثالوث المقدّس، وإنّ هناك ثلاث آلهاتٍ بإسم إله الأب، واله الإبن، وروح القدس.

وثالثة إنّ المسيح ابن الله.

ولعلّ الجميع تعبيرات متنوّعة عن حقيقة واحدة أو أنّها عبارة عن نظريّات مختلفة يتبنّى كلّ واحد منها طائفة منهم وإليك التوضيح.

أ ـ المسيح هو الله:

يقول سبحانه حاكياً عنهم تلك العقيدة:( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ

__________________

(١) لاحظ: الآثار الوثنية في الديانة النصرانية.

٢٣٩

المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) ( المائدة / ٧٢ ).

فالآية تعرب عن أنّ المسيح عند طائفة منهم هو الربّ الخالق، وبعبارة اُخرى: إنّ الله إتّحد بالمسيح إتّحاد الذات، فصارا شيئاً واحداً وصار الناسوت لاهوتاً(١) .

والذين يقولون من النصارى: إنّ الله هو المسيح ابن مريم هم اليعقوبية، واللائق بهذا القول هو إنكار التثليث، ولكنّ لا يخلوا مذهب من مذاهب النصارى منه، وقد ردّ القرآن على ذلك الزعم بما نقله عن المسيح بأنّه قال:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) فهو يدّل على أنّه عبد مثلهم كما أنّ قوله:( إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ) يدلّ على أنّ من يجعل لله شريكاً في الوهيّته، فهو مشرك كافر، محرّم عليه الجنّة. وفي هذا القول مزيد عناية بإبطال ما ينسبونه إلى المسيح من حديث التفدية وأنّهعليه‌السلام باختياره الصلب فدى بنفسه عنهم، فهم مغفور لهم، مرفوع عنهم التكاليف الإلهية، ومصيرهم إلى الجنة ولا يمسّون ناراً.

كيف يقولون ذلك مع أنّهعليه‌السلام كان يقول:( مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) (٢) .

ب ـ الله ثالث ثلاثة أو الثالوث المقدّس:

وكان هناك قسم آخر من الإنحراف عن خط التوحيد يتجسّد في القول بأنّ الله ثالث ثلاثة كما يحكيه قوله سبحانه:

( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إلّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( المائدة / ٧٣ ) والقائل بهذه

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص ٢٢٨.

(٢) التبيان: ج ٣ ص ٥٨٧.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581