مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581
المشاهدات: 251967
تحميل: 5317


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 251967 / تحميل: 5317
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 7

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-223-4
العربية

فقوله سبحانه( وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ) إشارة إلى أنّ كلاّ من الفريقين يتلو في كتابه تصديق ما كفر به، أي كفر اليهود بعيسى بن مريم وعندهم التوراة فيما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى، وفي الإنجيل ما جاء به عيسىعليه‌السلام من تصديق موسىعليه‌السلام وما جاء به من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يد صاحبه.

وقوله سبحانه:( كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ) إشارة إلى أنّ مشركي العرب الّذين هم جهّال وليس لهم كتاب، هكذا قالوا لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه: إنّهم ليسوا على شيء من الدين مثل ما قالت اليهود والنصارى بعضهم لبعض(١) .

وربمّا بلغ تجاسرهم بساحة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فطلبوا منه أن يقتدي بإحدى الشريعتين، قال ابن عباس: إنّ جماعة من اليهود ونصارى نجران ذمّوا أهل الإسلام، كل فرقة تزعم أنّها أحق بدين الله من غيرها، فقالت اليهود: نبيّنا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وقالت النصارىٰ: نبيّنا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب وكل فريق منهما قالوا للمؤمنين كونوا على ديننا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: إنّ ابن صوريا قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما الهدى إلّا ما نحن عليه فاتّبعنا تهتدِ، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله هذه الآية.( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ) .

فرّد الله عليهم بقوله:( بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( البقرة / ١٣٥ ).

٨ ـ التشبّث بالكلمات المتشابهة:

كان اليهود لا يألون جهداً في إثارة القلاقل والفتن والإستهزاء بالنبيّ إلى حدّ

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٤٩، ومجمع البيان: ج ١ ص ٣٥٩.

٢٦١

يصرّون على إستعمال الكلمات المشتركة بين المعنى الحسن والمعنى القبيح.

فعلى سبيل المثال عندما كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يتحدّث، كان المسلمون يطلبون منه التأنّي في التحدّث فيقولون « راعنا » بمعنى أمهلنا مشتق من مادّة « رعى »، فحرّفت اليهود هذه اللفظة، فقالوا يا محمد راعنا، وهم يلحدون إلى الرعونة يريدون به النقيصة والوقيعة ومعناه « حمّقنا »، ولأجل ذلك وافى الوحي وأمر أن يتركوا هذه الكلمة ويستعملوا مكانه « أنظرنا » قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( البقرة / ١٠٤ ).

وقال العلّامة الطباطبائي في الآية نهي شديد عن قول « راعنا » وهذه الكلمة ذكرتها آية اُخرى وبيّنت معناها في الجملة وهي قوله تعالى:( مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ) ( النساء / ٤٦ ).

ومنه يعلم أنّ اليهود كانوا يريدون بقولهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله راعنا نحواً من معنى قوله:( اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) ، ولذلك ورد النهي عن خطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك وحينئذ ينطبق على ما نقل: إنّ المسلمين كانوا يخاطبون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك إذا ألقى إليهم كلاماً يقولون « رَاعِنَا يَا رَسُولَ الله » يريدون أمهلنا وانظرنا حتّى نفهم ما تقول، وكانت اللفظة تفيد في لغة اليهود معنى الشتم، فاغتنم اليهود ذلك فكانوا يخاطبون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك يظهرون التأدّب معه وهم يريدون الشتم، ومعناه عندهم: اسمع لا أسمعت، فنزل:( مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا ) ونهى الله المؤمنين عن الكلمة وأمرهم أن يقولوا ما في معناه وهو: أنظرنا، فقال:( لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا ) (١) .

__________________

(١) الميزان: ج ١ ص ٢٤٨.

٢٦٢

٩ ـ كتمان الحقائق:

سأل معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وخارجة بن زيد، نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة، فكتموهم وأبوا أن يخبروهم عنه، فأنزل الله تعالى فيهم:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) ( البقرة / ١٥٩ )(١) .

ولو أنّ أحبار اليهود مثل كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وابن صوريا وغيرهم من علماء النصارى بيّنوا للناس ما ورد في التوراة والإنجيل من أوصافهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمّ الإسلام شرق العالم وغربه ويا للأسف رجّحوا الإحتفاظ بمناصبهم على ثواب الآخرة.

١٠ ـ النبيّ الأكرم وبيت المدارس:

دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيت المدارس(٢) على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله، فقال لهم النعمان بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد ؟ قال على ملّة إبراهيم ودينه، قال: فإنّ إبراهيم كان يهوديّاً. فقال لهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فهلمّا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم. فأبيا عليه، فأنزل الله تعالى فيهما:( أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ *ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) ( آل عمران / ٢٣ و ٢٤ ).

وقد رووا أنّ أحبار اليهود ونصارى نجران اجتمعوا عند رسول الله، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلّا يهوديّاً، وقالت النصارى من أهل نجران: ما كان إبراهيم

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٥١.

(٢) بيت المدارس: هو بيت اليهود يتدارسون فيه كتابهم.

٢٦٣

إلاّ نصرانيّاً، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إلّا مِن بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ *هَا أَنتُمْ هَٰؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ *مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ *إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / ٦٥ ـ ٦٨ )(١) .

إنّ ادّعاءهم بأنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يهوديّاً أو نصرانيّاً نابع عن جهلهم المطبق بحياة إبراهيم، فكيف يكون إبراهيم يهوديّاً أو نصرانيّاً وهو والد إسحاق الّذي هو والد يعقوب المعروف بيهودا فما ظنّك بكونه نصرانيّاً ؟

١١ ـ الإيمان غدوة والكفر عشيّة:

لـمّا رأت اليهود أنّ الإسلام ينتشر شيئاً فشيئاً فحاولوا تشويه سمعته بالتظاهر بالإنتماء إلى الإسلام صباحاً والخروج عنه عشيّة حتّى يلبسوا على المسلمين دينهم ويصيروا مثلهم، فقال جماعة منهم: تعالوا نؤمن بما اُنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشيّة حتّى نلبس عليهم دينهم لعلّهم يصنعون كما نصنع ويرجعون عن دينه، فأنزل الله تعالى فيهم:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ *وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ *وَلا تُؤْمِنُوا إلّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللهِ أَن يُؤْتَىٰ أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( آل عمران / ٧١ ـ ٧٣ ).

١٢ ـ إتّهام النبيّ بأنّه يُؤَلِّهُ نفسه:

اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله ( صلى الله

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٥٣.

٢٦٤

عليه وآله وسلم ) فدعاهم إلى الإسلام، فقالوا: أتريد منّا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ وقال رجل من أهل نجران: أو ذاك تريد منّا يا محمد ؟ وإليه تدعونا ؟ فقال رسول الله: معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره فما بذلك بعثني الله ولا أمرني. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما:( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ *وَلا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ( آل عمران / ٧٩ و ٨٠ ).

ومحصّل ما يستفاد من الآية إنّ البشر الذي آتاه الله تعالى الكتاب والحكم والنبوّة كائناً من كان ـ عيسى كان اُم محمد ـ إنّما يدعوكم إلى التلبّس بالإيمان واليقين بما في الكتاب الذي تعلّمونه وتدرسونه من اُصول المعارف الإلهيّة والإتّصاف بالملكات والأخلاق الفاضلة التي يشتمل عليها والعمل بالصالحات حتى تنقطعوا بذلك إلى ربّكم وتكونوا به علماء ربّانيين.

ثمّ إنّ الربّاني منسوب إلى الرب، زيد عليه الألف والنون للدلالة على التفخيم كما يقال « لحياني » لكثير اللحية ونحو ذلك، فمعنى الربّاني شديد الإختصاص بالرب وكثير الإشتغال بعبوديّته وعبادته(١) .

١٣ ـ سعيهم للوقيعة بين الأنصار:

نزل النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مدينة يثرب فوجد الأوس والخزرج في شقاق، فآخى بينهما وجعل الجميع صفّاً واحداً في وجه اليهود، فشقّ ذلك على الكافرين فحاولوا جاهدين أن يشقّوا عرى وحدتهم بوسائل مختلفة، فمرّ شاس بن قيس ـ وكان شيخاً عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٥٤، الميزان: ج ٣ ص ٢٧٦.

٢٦٥

الحسد عليهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه فغاظه ما رأى من ألفهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، وقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذا البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتىً شابّاً من اليهود كان معهم، فقال: أعمد إليهم، فاجلس معهم ثمّ اذكر يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقوّلوا فيه من الأشعار، ففعل ذلك الشاب، فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيّين فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين ! الله الله ! أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بين قلوبكم، فعرف القوم أنّها نزعة من الشيطان وكيد من عدوّهم فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً ثمّ انصرفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّ الله شاس بن قيس، فأنزل الله تعالى في شاس بن قيس وما صنع:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ *قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / ٩٨ و ٩٩ )(١) .

١٤ ـ الحط من شأن مَنْ آمن من اليهود:

قد سبق وأن عرفت أنّ اليهود كانوا ـ وما زالوا ـ أكثر تعصّباً لقوميتهم ودينهم ولأجل ذلك لم يدخل منهم في الإسلام إلّا الأقل القليل مثل عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود معهم، فخاف الملأ من اليهود أن يدخل الإسلام في سائر البيوت، فنشروا بينهم: ما آمن بمحمّد ولا اتّبعه إلّا شرارنا ولو كانوا من أخيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره ،

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٥٦.

٢٦٦

فأنزل الله تعالى في ذلك:( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) ( آل عمران / ١١٣ ).

١٥ ـ دعوة المسلمين إلى البخل:

كان الإسلام ينتشر صيته في الربوع والآفاق بفضل ما كان يمتلكه من مبادئ سامية وقيم مثالية وإيثار معتنقيه النفس والنفيس، فشق ذلك على اليهود فحاولوا خداع المسلمين حتّى يصدّوهم عن البذل في سبيل نصرة الدعوة المحمدية وخوّفوهم بحلول القحط.

قال ابن هشام: كان رجال من اليهود يأتون رجالاً من الأنصار يخالطونهم ينتصحون لهم من أصحاب رسول الله، فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم فإنّنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة فإنّكم لا تدرون على ما يكون، فأنزل الله فيهم:( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ) ( النساء / ٣٧ ).

١٦ ـ تفضيلهم الوثنية على الإسلام:

كانت فكرة تأليب العرب هي الفكرة التي اختمرت في نفوس يهود المدينة خصوصاً بعد غزوة بدر واحد، فخرجوا من المدينة نازلين بمكّة، فقالت قريش لليهود: يا معشر اليهود إنّكم أهل الكتاب الأوّل وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفَديننا خير أم دينه ؟ قالت اليهود: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه، فنزل القرآن ردّاً عليهم بقوله:( أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً *أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ) ( النساء / ٥١ و ٥٢ ).

وفي موقف اليهود هذا من قريش وتفضيلهم وثنيّتهم على توحيد

٢٦٧

محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه ( تاريخ اليهود في بلاد العرب ):

« كان من واجب هؤلاء ألّا يتورّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش وألّا يصرّحوا أمام زعماء قريش بأنّ عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي ولو أدّى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطالبهم لأنّ بني إسرائيل الّذين كانوا مدّة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الاُمم الوثنية بإسم الآباء الأقدمين والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بالٰه واحد في عصور شتّى من الأدوار التاريخية، كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين، هذا فضلاً عن أنّهم بإلتجائهم إلى عبدة الأصنام إنّما كانوا يحاربون أنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام وبالوقوف منهم موقف الخصومة »(١) .

١٧ ـ إدّعاؤهم أنّهم أحبّاء الله وأصفياؤه:

أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة من اليهود فكلّموه وكلّمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته، فأنزل الله تعالى فيهم:( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ ) ( المائدة / ١٨ ).

١٨ ـ إنكارهم نزول كتاب بعد موسى:

دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اليهود إلى الإسلام ورغّبهم فيه، وحذّرهم غِيرَ الله وعقوبته، فأبوا عليه وكفروا بما جاءهم به، فقال لهم معاذ بن

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٦٢، حياة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لهيكل، ص ٣٢٨ ـ ٣٢٩.

٢٦٨

جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر اليهود إتّقو الله فوالله إنّكم لتعلمون أنّه رسول الله ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته، فقال بعضهم: ما قلنا لكم هذا قط وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما:

( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( المائدة / ١٩ )(١) .

١٩ ـ رجوعهم إلى النبيّ في حكم الرجم:

إنّ أحبار اليهود إجتمعوا في بيت المدارس، حين قدم رسول الله المدينة وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة من اليهود قد أحصنت، فقالوا: إبعثوا بهذا الرّجل وهذه المرأة إلى محمد فسلوه كيف الحكم فيهما، وولّوه الحكم عليهما فإن عمل فيهما بعمل من التجْبية فاتّبعوه(٢) فإنّما هو ملك وصدّقوه، وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنّه نبي فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه، فأتوه فقالوا: يا محمد ! هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت فاحكم فيهما، فقد ولّيناك الحكم فيهما، فمشى رسول الله حتّى أتى أحبارهم في بيت المدارس، فقال: يا معشر اليهود ! أخرجوا إليّ علماؤكم، فاُخرج له عبد الله بن صوريا وغيره، فقالوا: هؤلاء علماؤنا، وقالوا: إنّ عبد الله ابن صوريا أعلم من بقى بالتوراة، فخلي به رسول الله وكان غلاماً شابّاً من أحدثهم سنّاً، فألحّ رسول الله عليه المسألة وقال له: أنشدك الله واُذكّرك بأيّامه عند بني إسرائيل، هل تعلم أنّ الله حكم في من زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة ؟

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٦٣ ـ ٥٦٤.

(٢) الجلد بحبل من ليف مطلي بقار ثمّ تسوّد وجوههما، ثمّ يحملان على حمارين وتجعل وجوهها من قبل ادبار الحمارين.

٢٦٩

قال: أللّهم نعم ! أما والله يا أبا القاسم إنّه ليعرفونك أنّك لنبيّ مرسل ولكنّهم يحسدونك، فخرج رسول الله فأمر بهما فرجما في باب مسجده، ثمّ كفر بعد ذلك ابن صوريا وجحد نبوّة رسول الله، فأنزل الله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ *سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة / ٤١ و ٤٢ ).

ونقل ابن هشام عن ابن إسحاق: إنّه لما حكّموا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيهما، دعاهم بالتوراة وجلس حبر منهم يتلوها وقد وضع يده على آية الرجم، فضرب عبد الله بن سلام يد الحبر ثمّ قال: هذه يا نبيّ الله آية الرجم يأبى أن يتلوها عليك، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ويحكم يا معشر يهود ! ما دعاكم إلى ترك حكم الله وهو بأيديكم ؟ قال: « فقالوا أما والله أنّه قد كان فينا يعمل به، حتّى زنى رجل منّا بعد إحصانه من بيوت الملوك وأهل الشرف فمنعه الملك من الرّجم ثمّ زنى رجل بعده فأراد أن يرجمه فقالوا: لا والله حتّى ترجم فلاناً ! فلمّا قالوا له ذلك إجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التجبية وأماتوا ذكر الرجم، والعمل به ». قال: فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فأنا أوّل من أحيا أمر الله وكتابه وعمل به، ثمّ أمر بهما فرجما عند باب مسجده، قال عبد الله بن عمر: فكنت فيمن رجمهما(١) .

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٦٦.

٢٧٠

٢٠ ـ ظلمهم في الديّة:

كانت قبيلة بني النضير يؤدّون الديّة كاملة وبنو قريظة كانوا يؤدّون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله، فنزل قوله سبحانه:( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة / ٤٢ ).

فحملهم رسول الله على الحق ذلك وجعل الديّة سواء.

٢١ ـ قصدهم الفتنة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

قال جماعة من اليهود: اذهبوا بنا إلى محمد لعلّنا نفتنه عن دينه فإنّما هو بشر، فأتوه فقالوا له: « يا محمد إنّك قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأشرافهم وسادتهم وإنّا إن إتّبعناك إتّبعتك اليهود ولم يخالفنا وإنّ بيننا وبين بعض قومنا خصومة أفنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ونصدّقك ؟ » فأبى ذلك رسول الله، فأنزل الله فيهم:( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ *أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) ( المائدة / ٤٩ و ٥٠ ).

٢٢ ـ إنكار نبوّة المسيح:

مناصبة اليهود العداء للمسيحيين لها جذور متأصّلة في التاريخ فمذ أعلن المسيح بنبوّته ورسالته قامت اليهود في وجهه وأنكروا رسالته، يقول سبحانه:( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) ( الصف / ٦ ).

نعم نرى اليوم تحالف اليهود مع المسيحيين لضمان المصالح المشتركة التي

٢٧١

على رأسها وأهمّها القضاء على الإسلام وإبعاده عن المجتمع والحياة، ولأجل ذلك نرى أنّ البابا قام مؤخّراً بزيارة الكنيست اليهودي في روما وأعلن خلال زيارته له براءة اليهود من دم المسيح من أجل توحيد الصف ودعم الجهود الكفيلة بالقضاء على المسلمين ودينهم، ولكنّهم في الواقع والحقيقة لا زالوا يكنّون نفس العداء التاريخي المتأصّل في نفوسهم.

روي أنّ نفراً من اليهود أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فسألوه عمّن يؤمن به من الرّسل ؟ فقال: اُؤمن بالله، فعند ذاك جحدوا نبوّة المسيح وقالوا والله ما نعلم أهل دين قطّ أخطأ في الدّنيا والآخرة منكم ولا ديناً شرّاً من دينكم، فأنزل الله:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إلّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ) ( المائدة / ٥٩ )(١) .

٢٣ ـ إشراكهم بالله عزّ وجلّ:

إنّ العصبية العمياء ربّما تبلغ بالإنسان حدّاً ينكر ما كان يدين به هو وقومه طيلة قرون إنصرمت، فهؤلاء اليهود المعاصرون كانوا يفتخرون ويتمجّدون بدين التوحيد، وأنّهم ضحّوا في سبيله نفسهم ونفيسهم، ولكنّهم لـمّا رأوا أنّ النبيّ الأكرم يدعو إلى هذا المبدأ، ويتّخذ منه الحجر الأساس لدعوته، عادوا ينكرونه ويروّجون الشرك تشفّياً لغيظهم وحنقهم.

أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة من اليهود فقالوا له: يا محمد أما تعلم مع الله إله غيره ؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الله لا إله إلّا هو بذلك بعثت وإلى ذلك أدعوا »، فأنزل الله فيهم وفي قولهم:( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي

__________________

(١) السيرة الحلبية: ج ١ ص ٥٦٧، مجمع البيان: ج ٣ ص ٣٢٩ ( طبع بيروت ).

٢٧٢

بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام / ١٩ )(١) .

٢٤ ـ سؤالهم عن محين الساعة:

تعلّقت مشيئته الحكيمة بكتمان وقت الساعة، قال سبحانه:( إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ( لقمان / ٣٤ )، ومع ذلك جاء جماعة من اليهود قالوا: أخبرنا متى تقوم الساعة إن كنت نبيّاً، فنزل قوله سبحانه:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إلّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( الأعراف / ١٨٧ ).

ولم يكن هذا السؤال إلّا تعنّتاً وعناداً لأنّهم هم الذين ذكروا لقريش: إسألوا محمداً عن وقت الساعة فإن خوّل علمها إلى الله سبحانه فاعلموا أنّه نبي(٢) .

هذه نماذج من مناظراتهم ومشاغباتهم التي تنم عن مبلغ لجاجهم وعنادهم وممّا يصوّر لك طبيعتهم.

٢٥ ـ تهجّمهم على ذات الله عزّو جل:

أتى رهط من اليهود إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: يا محمّد هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله ؟ فغضب رسول الله حتّى انتقع لونه ثمّ ساورهم(٣) غضباً لربّه، فجاءه جبرئيلعليه‌السلام فسكّنه فقال: خفّض عليك يا محمد وجاءه عن الله بجواب ما سألوه عنه:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ *اللهُ الصَّمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٥٦٨.

(٢) قد ذكرنا تفصيل القصّة في ص ١٩٩ ـ ٢٠١.

(٣) ساورهم: واثبهم وباطشهم.

٢٧٣

فلمّا تلاها عليهم، قالوا: فصف لنا يا محمد كيف خلقه ( الله )، كيف ذراعه، كيف عضده ؟ فغضب رسول الله أشدّ من غضبه الأوّل وساورهم، فأتى جبرئيل فقال له مثل ما قال له أوّل مرّة، وجاءه من الله تعالى بجواب ما سألوه يقول الله تعالى:( وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الزمر / ٦٧ ).

٢٦ ـ طلبهم كتاباً من السماء:

إنّ اليهود كانت جاهلة بحكمة نزول القرآن تدريجيّاً وقد ورد النص بها في غير واحد من الآيات، قال سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) ( الفرقان / ٣٢ ).

إنّ في نزول القرآن تدريجيّاً منجّماً حسب الوقائع والأحداث لدلالة واضحة على أنّه وحي إلهي ينزل شيئاً فشيئاً حسب الحاجات وليس شيئاً متعلّماً عن ذي قبل من إنس أو جن، ولكن جهل اليهود بحكمته دعاهم إلى أن يطلبوا عن رسول الله نزول القرآن جملة واحدة من السماء حتّى يروا باُمّ أعينهم أنّه كتاب سماوي اُنزل من عند الله سبحانه وهم يضاهئون في هذا الإقتراح قول المشركين في مكّة(١) .

أتى جماعة من اليهود رسول الله، فقالوا: يا محمد ! إنّ هذا الذي جئت به لحقّ من عند الله فإنّا لا نراه متّسقاً كما تتّسق التوراة ؟ فقال لهم رسول الله: أما والله لأنّكم لتعرفون أنّه من عند الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة ولو إجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله ما جاءوا به، فقالوا: يا محمّد أما يعلّمك هذا إنس ولا جن ؟ فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أما والله إنّكم تعلمون أنّه من عند الله وإنّي لرسول الله تجدون ذلك مكتوباً عندكم في التوراة، فقالوا: يا محمد فإنّ الله يصنع لرسول إذا بعثه ما يشاء ويقدر منه على ما أراد، فأنزل علينا كتاباً من السماء

__________________

(١) الإسراء / ٩٣، وقد مضى تفسيرها.

٢٧٤

نقرؤه ونعرفه وإلّا جئناك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله تعالى فيهم وفيما قالوا:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء / ٨٨ ).

٢٧ ـ تحويل القبلة إلى الكعبة:

كان النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي إلى بيت المقدس في المدينة المنوّرة إلى سبعة عشر شهراً(١) من الهجرة، وكانت اليهود تعيّر المسلمين على تبعيّة قبلتهم ويتفاخرون بذلك عليهم، فحزن رسول الله ذلك فخرج في سواد الليل يقلّب وجهه في السماء ينتظر الوحي من الله سبحانه وكشف همّه، فنزل الوحي بقبلة جديدة، فقطع تعييرهم وتفاخرهم، قال سبحانه:( قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) ( البقرة / ١٤٤ ).

وروى الصدوق أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة وتسعة عشر شهراً بالمدينة ثمّ عيّرته اليهود، فقالوا: إنّك تابع قبلتنا فاغتمّ لذلك غمّا شديداً، فلمّا كان في بعض الليل خرج يقلّب وجهه في آفاق السماء فلمّا أصبح صلّى الغداة فلمّا صلّى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له:( قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ ) ثمّ أخذ بيد النبي فحوّل وجهه إلى الكعبة وحوّل من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال، فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة، فبلغ الخبر مسجداً بالمدينة وقد صلّى أهله من العصر ركعتين فحوّلوا نحو القبلة، فكان أوّل صلاتهم إلى بيت المقدس، وآخرها إلى الكعبة فسمّي

__________________

(١) وفي رواية الفقية كما سيوافيك تسعة عشر شهراً.

٢٧٥

ذلك المسجد مسجد القبلتين(١) .

وقد أثار هذا الأمر أسئلة واعتراضات من جانب اليهود بل المؤمنين أنفسهم وجاء الذكر الحكيم مجيباً عنها بما يلي:

١ ـ أتى جماعة من اليهود مثل رفاعة بن قيس وكعب بن الأشرف وغيرهما فقالوا: يا محمد ما ولّاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنّك على ملّة إبراهيم ودينه إرجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتّبعك ونصدّقك. وإنّما يريدون بذلك فتنته عن دينه، وهذا هو الإعتراض الذي يتناوله الوحي مشفوعاً بالجواب:( سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ) وبعبارة اُخرى إنّ التحوّل كان بأمر من الله فكيف يأمر به مع أنّه هو الذي جعل بيت المقدس قبلة فكيف ينقض حكمه وينسخ ما شرعه ( واليهود من القائلين بامتناع النسخ ) وإن كان بغير أمر الله فهو إنحراف عن الصراط المستقيم.

وأمّا الجواب فهو إنّ جعل بيت من البيوت أو بناء من الأبنية قبلة ليس لاقتضاء ذاتي فيه يستحيل التعدّي عنه، بل جميع الأجسام والأبنية بل جميع الجهات من الشرق والغرب إليه سبحانه على السواء يحكم فيها ما يشاء وكيف يشاء ومتى شاء، وانّ الإعتراض نابع من قلّة عقلهم أو عدم إستقامته في درك حقيقة التشريع.

وإلى هذا الجواب يشير قوله سبحانه:( قُل للهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( البقرة / ١٤٢ ).

٢ ـ لـمّا كان المقدّر أن تكون الكعبة هي القبلة الأخيرة فما هو السبب في جعل بيت المقدس قبلة اُولى للمسلمين ؟

والجواب: إنّ المصالح كانت تقتضي أن يصلّي المسلمون إلى القبلة الاُولى في مكّة والمدينة في أوائل البعثة وأوائل الهجرة وذلك لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في مكّة المكرمة وبعد الهجرة بقليل كان مبتلى بالمشركين الذين

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه: ج ١ ص ١٧٨ ج ٣.

٢٧٦

لا يصلّون لله سبحانه ولا يعبدونه وإنّما يعبدون الأوثان والأصنام، فعندئذٍ أمر النبي بالصلاة إلى بيت المقدس ( الذي كان الموحّدون من اليهود والنصارى يصلّون إليه ) حتّى يتميّز الموحّدون عن المشركين ويكون ذلك سمة التوحيد وعلامته، فكانت الصلاة إلى بيت المقدس وسيلة لتميّز الموّحدين عن المشركين.

ولـمّا كانت العرب شديدة الاُلفة بمكّة وقبلتها فأحبّ الله تعالى أن يمتحن القوم بغير ما ألفوا ليميّز من يتّبع الرسول عمّن ينقلب على عقبيه.

ولأجل هذين الوجهين ( تميّز الموحّدون عن المشركين وامتحان من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه من العرب الآلفة بمكّة وقبلتها ) أمر المسلمون بالصّلاة إلى بيت المقدس مؤقّتاً وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إلّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ) ( البقرة / ١٤٣ ).

ولعلّ قوله:( لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ) إشارة إلى الوجه الأوّل.

كما أنّ قوله:( وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ) إشارة إلى الوجه الثاني وهو اختبار من يخالف العادة والاُلفة لأجل إمتثال أمر الرسول، فإنّ مخالفة العادات والتقاليد كبيرة إلّا على الذين هدى الله.

والحاصل إنّ جعل بيت المقدس قبلة لأجل تمحيص المؤمنين من غيرهم وتميّز المطيعين من العاصين والمنقادين من المتمرّدين.

وأمّا العدول عن بيت المقدس إلى الكعبة فقد عرفت أنّه ليس لمكان أو بيتٍ شرفٌ ذاتي بل الحكم يدور مدار المصلحة، فصارت المصالح مقتضية بأن يتميّز المسلمون من اليهود بتفكيك قبلتهم التي كانوا يصلّون إليها عن قبلة اليهود، ويميّز المنافق المتظاهر بالإسلام من اليهود عن المؤمن المنقاد الواقعي، ولأجل ذلك حوّلت القبلة إلى الكعبة.

٣ ـ ما حكم الصلوات التي كان المسلمون قد أدّوها إلى بيت المقدس ؟

٢٧٧

والجواب: إنّ القبلة قبلة ما لم تنسخ وإنّ الله سبحانه إذا نسخ حكماً نسخه من حين النسخ لا من أصله لرأفته ورحمته بالمؤمنين، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / ١٤٣ ).

وأمّا الإقتراح الذي تقدّمت به اليهود إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من رجوعه إلى القبلة السابقة حتّى يتّبعوه ويصدّقوه فإنّما هو وعد مكذوب لا يتّبعون قبلته إلى آخر الدهر، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) ( البقرة / ١٤٥ ).

والمراد من الإيمان في الآية في قوله:( مَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) هو العمل. قال ابن عباس: قالوا كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك ؟ وكان قد مات أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وكانا من النقباء.

وبذلك يعلم أنّ ما ذكره سبحانه قبل هذه الآيات من قصّة إبراهيم وأنواع كرامته وكرامة ابنه إسماعيل ودعوتهما للكعبة ومكّة وللنبيّ والاُمّة المسلمة وبنائهما البيت والأمر بتطهيره للعبادة، كل ذلك تمهيد لحادثة تغيير القبلة واتّخاذ الكعبة قبلة، فإنّ تحويل القبلة من أعظم الحوادث الدينية وأهم التشريعات التي قوبل بها الناس بعد هجرة النبيّ إلى المدينة. فكانت محتاجة إلى ترويض النفوس لقبولها.

٢٨ ـ مباهلة النبيّ نصارى نجران:(١)

لـمـّا كتب رسول الله إلى ملوك العرب والعجم رسائلة التبليغية وبعث رسله إلى

__________________

(١) نجران في مخاليف اليمن من ناحية مكّة، وبها كان خبر الأخدود واليها تنسب كعبة نجران، وكانت بيعة، بها أساقفة مقيمون منهم السيّد والعاقب اللّذان جاءا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في أصحابها ودعاهم إلى المباهلة وبقوا بها حتّى أجلاهم عمر. وقال زيني دحلان:

٢٧٨

الأقوام والقبائل، أرسل عتبة بن غزوان، وعبد الله بن أبي اُميّة وصهيب بن سنان إلى نجران ونواحيه وكتب معهم(١) إلى أساقفة نجران يدعوهم إلى رفض الأقانيم والأنداد والتزام التوحيد وعبادة الله تعالى، وها نحن نسوق إليك نصّ كتابه:

« بسم إله إبراهيم واسحاق ويعقوب، من محمّد النبيّ رسول الله إلى أسقف نجران، فإنّي أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أمّا بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، وإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم آذنتكم بحرب »(٢) .

ولـمـّا قرأ الأسقف الكتاب فزع وارتاع وشاور أهل الحجى والرأي منهم، فقال شرحبيل وكان ذا لبّ ورأي بنجران: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذريّة إسماعيل من النبوّة فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل ؟ وليس لي في النبوّة رأي لو كان أمر من اُمور الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك.

فبعث الأسقف إلى واحد من بعد واحد من أهل نجران فتشاوروا فكثر اللغط وطال الحوار، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا وفداً يأتي رسول الله فيرجع بخبره.

فأوفدوا إليه ستّين راكباً وفيهم ثلاثة عشر رجلاً من أشرافهم وذوو الرأي والحجى منهم وثلاثة يتولّون أمرهم: العاقب إسمه عبد المسيح، أمير الوفد الذي لا يصدرون إلّا عن رأيه، والسيّد وإسمه الأيهم وهو ثمالهم وصاحب رحلهم، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم الأوّل وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم وهو

__________________

نجران بلدة كبيرة واسعة على سبع مراحل من مكّة إلى جهة اليمن تشتمل على ثلاث وسبعين قرية.

مراصد الإطلاع في معرفة الأمكنة والبقاع، مادة ( نجران ).

(١) وكان بخط الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام راجع: صبح الاعشى: ج ١ ص ٦٥ ( طبع بيروت ).

(٢) تاريخ اليعقوبي: ج ٢ ص ٦٥، دلائل النبوّة: ج ٥ ص ٣٨٥، البداية والنهاية: ج ٥ ص ٥٣.

٢٧٩

الأسقف الأعظم(١) .

فجاءوا إلى النبي حتّى دخلوا على رسول الله وقت العصر، فدخلوا المسجد وعليهم ثياب الحبرات(٢) وأردية الحرير مختمين بخواتيم الذهب وأظهروا الصليب وأتوا رسول الله فسلّموا عليه، فلم يرد: ولم يكلّمهم، فانطلقوا يبتغون عثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف وكان لهما معرفة بهم فوجدوهما في مجلس من المهاجرين، فقالوا: إنّ نبيّكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه وسلّمنا عليه فلم يردّ سلامنا ولم يكلّمنا. فما الرأي ؟

فقالا لعليّ بن أبي طالب: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ قال: أرى أن يضعوا حللهم هذه، وخواتيمهم ثمّ يعودون إليه، ففعلوا ذلك، فسلّموا فردّ عليهم سلامهم، ثمّ قال: والّذي بعثني بالحق لقد آتيتموني المرّة الاُولى وإنّ إبليس لمعكم(٣) .

وكانوا قد أتوا معهم بهديّة وهي بُسط إلى النبيّ فيها تماثيل ومسوح، فصار الناس ينظرون للتماثيل، فقال: أمّا هذه البسط فلا حاجة لي فيها، وأمّا هذه المسوح فإن تعطونيها آخذها، فقالوا: نعم نعطيكها، ولـمـّا رأى فقراء المسلمين ما عليه هؤلاء من الزينة والزيّ الحسن، تشوّقت نفوسهم، فنزل قوله سبحانه:

( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) ( آل عمران / ١٥ ).

ثمّ أرادوا أن يصلّوا بالمسجد بعد أن حانت وقت صلاتهم، وذلك بعد العصر فأراد الناس معهم، فقال النبي: دعوهم، فاستقبلوا المشرق فصلّوا صلاتهم فلمّا قضوا صلاتهم ناظروه.

__________________

(١) دلائل النبوّة: ج ٥ ص ٣٨٦، الدر المنثور: ج ٢ ص ٣٨، وتاريخ اليعقوبي: ج ٢ ص ٦٦.

(٢) ثوب من ثياب اليمن.

(٣) السيرة الحلبية: ج ٣ ص ٢٣٩.

٢٨٠