مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265398 / تحميل: 6059
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

صحيحة الحلبيّ عن الصادق عليه الصلاة والسلام أنّه سئل عن الرجل يخرج من بيته وهو يريد السفر وهو صائم قال إن خرج قبل أن ينتصف النهار فليفطر وليقض ذلك اليوم، وإن خرج بعد الزوال فليتمّ صومه. وهو حسن على رواية الشيخ وصحيح على ما رواه في الفقيه(1) وهذه صريحة في الجواز قبل الزوال ويفهم بعده أيضا في الجملة لعدم المنع في الخبرين وعدم القول بالواسطة على ما أظنّ.

ولصحيحة رفاعة(2) قال سألت أبا عبد الله عليه الصلاة والسلام عن الرجل يريد السفر في شهر رمضان قال: إذا أصبح في بلده ثمّ خرج فان شاء صام، وإن شاء أفطر، ولصحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر عليه الصلاة والسلام أنّه سئل عن الرجل يعرض له السفر في شهر رمضان وهو مقيم وقد مضى منه أيّام فقال: لا بأس أن يسافر ويفطر ولا يصوم، ولصحيحة حمّاد بن عثمان، قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام رجل من أصحابنا جاء خبره من الأعراض(3) وذلك في شهر رمضان أتلقّاه وأفطر؟ قال نعم قلت أتلقّاه وأفطر أو أقيم وأصوم؟ قال تلقّاه وأفطر، ولما في الفقيه في الصحيح عن أبان بن عثمان(4) وسئل الصادق عليه الصلاة والسلام عن الرجل يخرج يشيّع أخاه مسيرة يومين أو ثلاثة فقال: إن كان في شهر رمضان فليفطر، قيل: فأيّهما أفضل يصوم أو يشيّع؟ قال يشيّع إنّ الله تعالى وضع الصوم عنه إذا شيّع. ويفهم منه استحباب التشييع على وجه آكد، فافهم وغيرها من الأخبار على ما في المختلف لكن تركتها لعدم الصحّة.

والّذي يدلّ على مذهب أبي الصلاح وهو تحريم السفر في شهر رمضان أخبار غير صحيحة إلّا خبر أبي بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الخروج إذا دخل شهر رمضان فقال لا، إلّا فيما أخبرك به: خروج فيه إلى مكّة أو غزو في سبيل الله، أو مال تخاف هلاكه، أو أخ تخاف هلاكه، وإنّه ليس بأخ

__________________

(1) التهذيب ج 1 ص 416، الفقيه ج 2 ص 92، الكافي ج 4 ص 131.

(2) ترى هذه الروايات في المصادر الثلاثة بتقديم وتأخير في الصفحات.

(3) أعراض الحجاز رساتيقه، وفي الفقيه والكافي: الأعوص وهو عين قرب المدينة.

(4) في نسبة هذا الحديث إلى أبان بن عثمان سهو راجع الفقيه ج 2 ص 90.

١٦١

من الأب والأمّ(1) ويمكن الجواب عن استدلاله بضعف الأخبار، وبأنّ أبا بصير مشترك وأيضا أرسل عن أبي حمزة عنه في الفقيه، فان كان الثماليّ كما هو الظاهر فالطريق على ما قيل قوىّ على تقدير توثيق أبي بصير وإن كان البطائنيّ فليس بقويّ أيضا لأنّه مجهول والظاهر أنّ أبا بصير هو يحيى بن القاسم على ما نقل في الكافي عن عليّ بن أبي حمزة عن أبي بصير وعليّ هو قائد أبي بصير يحيى فيحتمل سقوطه على ما في الفقيه.

وأيضا في الكافي «تريد وداعه» بدل تخاف هلاكه، فلا دلالة فيه حينئذ وبأنّه ليس بصريح في التحريم، فانّ كلمة «لا» تحتمل التحريم والكراهة وإن قلنا إنّ الأوّل أظهر، ولكنّه ليس بمثابة يعارض هذه الأخبار، ويخصّص عموم القرآن به إذ لا بدّ لتخصيص القرآن بالخبر من كون الخبر نصّا في الدلالة على ما يخرج به القرآن عن ظاهره، وبالجملة ينبغي في تخصيص قطعيّ المتن بظنيّ المتن من كون دلالة المخصّص الظنيّ قطعيّة لينجبر به قطعيّة العامّ، فلا بدّ أن يكون دلالة الخاصّ على الفرد المخرج بالمخصّص عن العام القطعيّ أقوى وأتمّ من دلالة العامّ عليه، وهو ظاهر ومبيّن في الأصول، فلا تغفل عن هذه اللّطيفة وبأنّه قد يكون بترك ما أخبر به أيضا مثل ما فهم من الأخبار، بل ذلك متعيّن لعدم إمكان ترك هذه الأخبار كلّها، أو أنّ هذا عامّ فيخصّص بتلك الأخبار يعني نزيد عليه ما وجد في الأخبار الأخر، ولا يمكن حمل تلك على هذا، إذ فيه حصر في أمور مذكورة محصورة ولو حمل على كلّ ضروريّ كما هو مذهب أبي الصلاح فهو خلاف الظاهر من الرواية فمذهبه أيضا لا يناسب دليله، ومع ذلك لا يمكن حمل بعض الروايات عليه، كما يعلم إذا تأمّلتها.

وبعد هذا كلّه يمكن حمله على الكراهية للجمع ويدلّ عليه ما ذكره الشيخ في التهذيب عن أبي بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قلت جعلت فداك يدخل عليّ شهر

__________________

(1) التهذيب ج 1 ص 444، الفقيه ج 2 ص 89، الكافي ج 4 ص 126. وفيه أو أخ تريد وداعه.

١٦٢

رمضان فأصوم بعضا فيحضرني زيارة قبر أبي عبد اللهعليه‌السلام فأزوره وأفطر ذاهبا وجائيا أو أقيم حتّى أفطر وأزوره بعد ما أفطر بيوم أو يومين؟ فقال: أقم حتّى تفطر قلت جعلت فداك فهو أفضل؟ قال: نعم أما قرأت كتاب الله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) . ففيه دلالة على الأفضليّة وكذا يدلّ عليها ما رواه في الفقيه(1) في صحيحة الحلبيّ عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام قال: سألته عن الرجل يدخل شهر رمضان وهو مقيم لا يريد براحا ثمّ يبدو له بعد ما يدخل، فسكت فسألته غير مرّة فقال يقيم أفضل إلّا أن يكون له حاجة لا بدّ من الخروج فيها أو يتخوّف على ماله، وإن كان الحلبيّ محتملا ولكنّ الظاهر أنّه ثقة كما يفهم من كلامهم والمشهور أنه مكروه إلى أن يمضي ثلاثة وعشرون يوما، فتزول الكراهة للخبر بذلك التفصيل، حيث قال في الرواية: فإذا مضت ليلة ثلاث وعشرين فليخرج حيث شاء.

ثمّ اعلم أنّ في الأخبار المتقدّمة دلالة على الإفطار لو سافر قبل الزوال، وعلى الصوم والاجزاء لو سافر بعده، ويدلّ عليها مع ذلك الإجماع المنقول في المختلف عن الشيخ والأخبار الصحيحة الدالّة على أنّ من قصّر الصلاة قصّر الصوم، ومن لم يقصّرها لم يقصّره(2) فالعجب أنّ في المختلف بعد ما اختار ما قلناه هنا وردّ مذهب الشيخ قال: قوله إذا خرج بعد الزوال مع تبييت النيّة للسفر أمسك وعليه الإعادة ليس ببعيد من الصواب، إذ لم يتحقّق منه شرط الصوم، وهو النيّة. فإنّه في غاية البعد، إذ لا معنى بالاعتداد بالصوم والأمر به، ووجوب القضاء والإعادة مع أنّ الأمر مفيد للاجزاء والصحّة كما بيّن في محلّه إلّا أن يؤوّل بالإمساك وهو بعيد أيضا، وليس له دليل إلّا ما تخيّل من قوله هنا، إذ لم يتحقّق إلى آخره يعني النيّة شرط فإذا بيّت بنيّة السفر لم يتحقّق نيّة الصوم فلا يصحّ الصوم، وهو ليس بدليل بعد ما نقلنا لك ما رأيت من أنّ النيّة قد لا تشترط في اللّيل وقد

__________________

(1) الفقيه ج 2 ص 90 الكافي ج 4 ص 126.

(2) الفقيه ج 1 ص 280 وج 2 ص 91 و 92.

١٦٣

يتحقّق على طريق الشرط، ولهذا يوجبون النيّة على من بيّت نيّة السفر، ويوجبون عليه الصوم لا الإمساك فقطّ حتّى يخرج وأيضا قد تحصل النيّة بالنهار بعد أن عرف أنّه إنّما يسافر بعد الزوال وحينئذ يصحّ فيجزي صومه أو يكون تبييت النيّة في اللّيل على هذه المثابة أي بأنّه إنّما يسافر بعد الزوال.

ثمّ قال بالتخيير بين الإفطار والصوم لصحيحة رفاعة المتقدّمة، بعد أن قال أصحّ ما بلغنا في هذا الباب هي مع روايتي الحلبيّ ومحمّد الصحيحتين المتقدّمتين وقال إنّما قيّدنا ذلك بالخروج بعد الزوال، جمعا بين الأخبار، ولك أن تقول: الجمع بين الأخبار إن اقتضى ذلك يقتضيه قبل الزوال أيضا فإنّه نقل في المختلف أخبارا تدلّ على وجوب الصوم إذا سافر قبل الزوال أيضا مع أنّ حمل صحيحة رفاعة على النصف الأوّل أقرب، لقوله أصبح، ويأبى حمله على تفصيل صحيحة الحلبيّ المتقدّمة فيمكن الحمل على عمومه وهو ظاهر، وحمل المتقدّمة على الاستحباب، ويمكن حملها على قبل الزوال على معنى مخيّر بين أن يبطل سفره فيصوم، وبين أن يلتزمه فيفطر، أو يحمل على أنّ معناها إن خرج قبل الزوال فيفطر، وإن خرج بعده فيصوم، فهو مخيّر بين الصوم والإفطار بهذا التفصيل، بل يجب حملها عليه لوجوب حمل المطلق والمجمل على المقيّد والمفصّل، وقد مضى المفصّل والمقيّد.

واعلم أنّه قد طوّلنا في هذه المسئلة، والعذر ما ذكره في المختلف للتطويل وهو كونه من المسائل الجليلة، وأنّه أفتى فيه أوّلا بما ذكرناه أوّلا ثمّ استصوب مذهب الشيخ، بعد ردّه، واستدلّ عليه، ثمّ استصوب التخيير واستدلّ عليه، وهذا لا يخلو عن اضطراب، على أنّه اعترض في هذه المسئلة على ابن إدريس بالاضطراب الله تعالى يعلم الصواب.

ثمّ اعلم أنّه لما كانت في الآية المذكورة بعدها دلالة مّا على بعض الأحكام مع اشتمالها على التحريض، في الطلب والدعاء والسؤال من الله تعالى، مع ورود أنّ دعاء الصائم لا يردّ ذكرناها هنا.

١٦٤

( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) (1) .

روي أنّ أعرابيّا قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزلت(2) . النداء للبعيد المحتاج إلى رفع الصوت والمناجاة للقريب الّذي لا يحتاج إلى ذلك والخطاب لهصلى‌الله‌عليه‌وآله والتقدير فقل لهم إنّي قريب - وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد واطّلاعه على أحوالهم - بحال من قرب مكانه منهم، يعني إذا سألك عبادي - وفي هذه الإضافة تشريف لهم - عن كيفيّة أحوالي من جهة القريب والبعد فقل إنّي عليم أعلم دعاءكم، ولو كان في غاية الخفاء كما يسمع القريب إذا قرب فمه إلى اذنه يناجيه، بل أقرب من حبل الوريد، فأقبل دعاء الداعي إذا دعاني، ولعلّ «ذكر إذا دعان» للتحريص في الدعاء والترغيب في التكرار، وتعريف الداعي إشارة إلى داع خاصّ وهو الّذي يدعو متيقّنا للإجابة، ويطلب ما له فيه المصلحة، لا المحرّم، ولا ما لا يليق بحاله وليس فيه المصلحة، أو يكون إلى الجنس، وبالجملة إنّ الله يعلم المصلحة ويستجيب معها، ولا يستجيب بدونها، ويعجّل ويؤخّر لذلك ولو لم يستجب يعوّض ويثيب في الدّنيا والآخرة فعلى تقدير عدم الإجابة لا ينبغي الترك واليأس، فإنّ ذلك للمصلحة.

فاندفع بما قرّرناه السؤال المشهور كما ذكره المفسّرون أيضا.

وبعد أن وعد بالإجابة والقبول قال( فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ) أي أقبلوا أنتم أيضا دعوتي إذا دعوتكم وأمرتكم بالطاعات والدعاء، فاطلبوا واسألوا تضرّعا وخفية لا بقلب ساه وغير متوجّه، ومتعقّل لمعنى ما تقولون، ولا جهرا ورياء فانّ الله لا يحبّ المعتدين واطلبوا ولا تستكبروا ولا تتركوا الدعاء استكبارا وتجبّرا، وعدم اعتقاد

__________________

(1) البقرة: 185.

(2) راجع الدر المنثور ج 1 ص 194، مجمع البيان ج 2 ص 278.

١٦٥

الإجابة وعدم علمه بالسماع وقدرته على الإجابة، فإنّ من فعل ذلك يدخل النار مقيما فيها.

( وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ) إلى قوله(1) ( وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ ) في الكشّاف سأل زكريّاعليه‌السلام ربّه أن يرزقه ولدا يرثه، ولا يدعه وحيدا بلا وارث ثمّ ردّ أمره إلى الله مستسلما فقال وأنت خير الوارثين، إن لم ترزقني من ترثني، فلا أبالي فإنّك خير وارث، وإصلاح زوجه أن جعلها صالحة للولادة، بعد عقرها، وقيل تحسين خلقها، وكانت سيّئة الخلق، فيمكن أن يستدلّ بها على تحقّق الإرث من الأنبياءعليهم‌السلام فتذكّر! وعلى استحباب هذا الدعاء لطلب الولد، ولا يبعد أن يستجاب له كما لزكريّاعليه‌السلام مثل الآيتين المتقدّمتين(2) ويدلّ عليه الرواية عن أبي عبد اللهعليه‌السلام (3) .

( إِنَّهُمْ كانُوا ) بمنزلة التعليل لاستجابة دعاء الأنبياء السابقينعليهم‌السلام ، يريد أنّ الأنبياء المتقدّمين استحقّوا إجابة دعوتهم وقبول دعائهم بمبادرتهم إلى أبواب الخير، ومسارعتهم في تحصيل العبادات كما يفعل الراغبون في الأمور الجادّون وقرئ( رَغَباً وَرَهَباً ) بالإسكان، وأنّهم يدعون الله رغبا راغبين في الدعاء، وراجين للإجابة، وخائفين من الردّ، وعدم الإجابة، وعقاب ربّهم، مثل قوله( يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ) (4) وأنّهم كانوا خاشعين متضرّعين، فالمسارعة إلى العبادات مطلقا مطلوبة لله كما في( وَسارِعُوا ) (5) فيدلّ على أنّ فعلها في أوّل الوقت أفضل، الصلاة وغيرها، إلّا لدليل وعلى الدّعاء.

__________________

(1) والآية هكذا: فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجة إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين - الأنبياء: 89 و 90.

(2) هما قوله( وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ ) الاية وقوله بعدها «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً إلى قوله تعالىفَاسْتَجَبْنا لَهُ الاية.

(3) يعني الرواية الاتية.

(4) الزمر: 9.

(5) آل عمران: 133.

١٦٦

فهذه الآية تدلّ على استحباب كون الداعي مسارعا في الخيرات، وراغبا وراهبا وخاشعا ليستجاب دعاؤه، فيمكن أن يقيّد به عموم ما يدلّ على استجابة الدعاء مطلقا، مثل قوله تعالى( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) وهذا أحد الأجوبة لما يقال: كثيرا مّا ندعو ولا نرى الإجابة فتأمّل.

قال في مجمع البيان: روى الحارث بن المغيرة قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام إنّي من أهل بيت قد انقرضوا، وليس لي ولد، فقال لي: ادع وأنت ساجد ربّ هب لي من لدنك ذرّيّة طيّبة إنّك سميع الدعاء ربّ لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين»(1) فقد أشرنا فيما قلناه إلى معنى قوله تعالى في التحريص على الدعاء في الآيتين الأخيرتين بقوله( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) و( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ) (2) .

( وَلْيُؤْمِنُوا بِي ) أمر بتحصيل الإيمان أي التصديق بجميع ما جاء به الأنبياء لمن لا إيمان له، وبالثبات والاستمرار للمتّصف به أو التصديق بأنّه قادر على الإجابة( لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) راجين في ذلك كلّه الرشد، يعني إصابة الحقّ والخير.

واعلم أنّه لمّا أمر بعبادات شاقّة وهي الصوم بتكميل العدّة على وجه أمر به والقيام بوظائف التحميد والتكبير والشكر على ما يليق به، فإنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه ومع شرائطه عسر ومشقّة كما يفهم من الرواية المشهورة، وهي على ما سمعتها من بعض الفضلاء أنّه روي أنّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله شيّبتني سورة هود إذ فيها( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) في الكشّاف عن ابن عبّاس: ما نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع القرآن آية كانت أشدّ ولا أشقّ عليه من هذه الآية، ولهذا قال شيّبتني سورة هود والواقعة وأخواتهما، وروي أنّ أصحابه قالوا له لقد أسرع فيك الشيب، فقال شيّبتني سورة هود(3) ، وعن بعض رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام فقلت له: روي عنك أنّك قلت

__________________

(1) راجع مجمع البيان ج 7 ص 61.

(2) الأعراف: 55، غافر: 50. راجع ص 82 و 84 مما سبق.

(3) ورواه الثعلبي بإسناده عن أبي إسحاق عن أبي جحيفة كما في المجمع ج 5 ص 140 وهكذا في الدر المنثور ج 3 ص 319.

١٦٧

شيّبتني سورة هود؟ فقال نعم، فقلت: ما الّذي شيّبتك منها أقصص الأنبياء؟ وهلاك الأمم؟ فقال: لا، ولكن قوله( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) (1) وعن جعفر الصادق عليه الصلاة والسلام( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) قال: افتقر إلى الله بصحّة العزم، وغيره من الأخبار عن أهل البيتعليهم‌السلام وأيضا قال في الفقيه قال أبو جعفرعليه‌السلام يا جابر من دخل عليه شهر رمضان فصام نهاره، وقام وردا من ليله، وحفظ فرجه ولسانه، وغضّ بصره وكفّ أذاه خرج من الذنوب كيوم ولدته امّه، قال جابر قلت له: جعلت فداك ما أحسن هذا من حديث؟ قال: ما أشدّ هذا من شرط(2) أتى(3) بهذه الآية الشريفة الدالّة على أنّه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم، مجاز لهم بأعمالهم حتّى يهون ذلك عليهم، ويكونوا حريصا عليها ففهم من الآية وجوب الايمان وقبوله، ووجوب قبول سائر الطاعات واعتقاد إجابة الدعاء، واعتقاد أنّه سميع عليم، وأنّه ليس في جهة ولا مكان إذ لو كان كذلك لما قرب إلى كلّ داع، ثمّ بيّن أحكام الصوم وكيفيّة فعله بعد أن بيّن الفاعل فقال:

( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (4) .

__________________

(1) أخرجه البيهقي في شعب الايمان عن أبي على السري كما في الدر المنثور ج 3 ص 320.

(2) الفقيه ج 2 ص 60.

(3) جواب قوله في الصفحة الماضية: لما أمر.

(4) البقرة: 187.

١٦٨

قيل: سبب نزولها أنّ الله تعالى لمّا أوجب الصوم على الناس، كان وجوبه بحيث لو صلّوا العشاء الآخرة أو رقدوا، ما يحلّ لهم الأكل والشرب والجماع إلى اللّيلة القابلة، ثمّ إنّ عمر باشر بعد العشاء فندم وأتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله واعتذر إليه فقام إليه رجال واعترفوا بما صنعوا بعد العشاء فنزلت كذا في تفسير القاضي والكشاف وقاله في مجمع البيان، أيضا، وأنت تعلم أنّ هذا أيضا لا يناسب ما نقلنا عنهما في تفسير قوله تعالى في أوائل السورة( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ) (1) الآية أنها تدلّ على أنّ الفاسق لا يصلح للإمامة، وأنّ النبيّ معصوم قبل النبوّة أيضا وهذا دليل على أنّه(2) .

وأمّا تفسيرها فهو أنّ الله تعالى أباح الجماع في اللّيلة الّتي يصبح فيها صائما إذ الرفث هو الجماع هنا كما قاله المفسّرون، ودلّ عليه سبب النزول، وكأنّ لتضمّنه معنى الإفضاء عدّي، بإلى( هُنَّ لِباسٌ ) استيناف لبيان سبب الإباحة، بمعنى أنّ الصبر عنهنّ صعب لأنّهنّ مثل الثياب لكم وأنتم كذلك، فشبّه شدّة المخالطة والملامسة والانضمام بمخالطة الثياب وملامستها وانضمامها بصاحبها، وقيل هنّ فروش لكم وأنتم لحاف لهنّ أو شبّه حفظ كلّ واحد حال صاحبه عن كشفه عند غيره بفعل الساتر وصيانته عن كشف عورته عند الغير.

( عَلِمَ اللهُ ) بيان لزيادة سبب الإباحة ولطفه ورحمته لعباده، بأنّه يعلم أنّهم ما يفعلون الصبر، بل يختانون الأوامر والنواهي بالمخالفة والمعصية فما يؤدّون الأوامر الشرعيّة الّتي هي أمانات، ويظلمون أنفسهم بتعريضها للعقاب وتنقيص حظّها عن الثواب لشهوتهم وقلّة تدبّرهم في العواقب ويسعون ويبالغون في الظلم والاختيان والخيانة لكثرة الميل والشهوة، ولهذا قال( تَخْتانُونَ ) وما قال

__________________

(1) البقرة: 124. راجع ص 44 - 48 فيما سبق.

(2) عجز شعر أوله:

يحب الغلام إذا ما التحى

وهذا دليل على أنه

يقال: التحى الغلام: إذا نبت شعر لحيته وقوله على أنه اى على أنه كذا وكذا، كناية،

١٦٩

«تخونون» إذ الاختيان أبلغ في الخيانة كالاكتساب والكسب، فإنّ زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني، كما هو المشهور عندهم، فيحتمل أن يكون الزيادة في الاكتساب هنا(1) إشارة إلى أنّ المعصية لا تكتب عليها، ولا تصير سببا للعقاب إلّا بعد كثرتها: فعلا أو إصرارا والسعي والجدّ في تحصيلها وتعمّدها وعمدها(2) والكسب في الطاعة، إلى أنّ الطاعة تكتب ويثاب عليها، بمجرّد وقوعها، على أيّ وجه كانت وأدنى شيء منها، فيكون إشارة إلى كمال كرم الله ولطفه ورحمته وشفقته قال صاحب الكشّاف وذكر في المطوّل أيضا أنّه إشارة إلى أنّ النفس إنّما تعمل المعاصي بالميل والشهوة والسعي، فهي أعمل وأجدّ في المعصية، بخلاف الطاعة.

( فَتابَ عَلَيْكُمْ ) أي قبل توبتكم إن تبتم عمّا فعلتم، ومحا عنكم ذنوب ما فعلتم من المحرّم الّذي ذكرناه من قبل أو مطلقا لعموم اللفظ، فدلّ على وجوب قبول التوبة سمعا، لأنّ الله تعالى أخبر بذلك( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ) يعني لمّا جوّزنا ورفعنا التحريم، فافعلوا ما نهيناكم عنه وابتغوا واطلبوا ما كتبنا لكم وقدّرنا وأثبتناه في اللّوح المحفوظ من الولد، إشارة إلى أنّه لا ينبغي حصر الغرض من هذا الفعل في الشهوة وإعطاء النفس ما تريد، بل ينبغي جعل ما هو مطلوب لله منه غرضا ومطلوبا، أو اجعلوا جميع ما تطلبون في مطالبكم وأفعالكم من أرزاقكم وأزواجكم وأولادكم ما كتب الله لكم، أي اقصدوا الّذي قدّره ورضيه لكم، لا غيره، فإنّكم تتعبون في التحصيل، ولم يحصل وما يليق بكم أيضا، لعموم اللفظ.

( وَكُلُوا ) أي باشروهنّ وأطعموا( وَاشْرَبُوا ) من حين الإفطار إلى أن يعلم لكم الفجر المعترض في الأفق ممتازا عن الظلمة الّتي معه، فشبّه الأوّل بالخيط الأبيض، والثاني بالأسود، وبيّن المراد بأنّ الأوّل هو الفجر، واكتفى ببيانه عن بيان الثاني لأنّه علم من ذلك، ثمّ بيّن آخر الصوم بقوله:( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ

__________________

(1) في قوله تعالى( لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) البقرة: 286.

(2) في النسخ: وعدمها، وهو تصحيف: وقد فسره بعضهم بقوله: أى يحتمل أن عدم زيادة الحروف والمعاني والكسب إشارة إلى أن الطاعة تكتب، وهو كلام بارد.

١٧٠

إِلَى اللَّيْلِ ) بأنّه أوّل اللّيل، وهو دخول الظلمة في الجملة، وقالوا يعلم بغروب الشمس المعلوم بذهاب الحمرة المشرقيّة، بحيث لا يبقى منها شيء وإن بقيت صفرة أو بياض، هذا عند أكثر الأصحاب وعند الشيخ باستتار القرص كما عند العامّة والروايات مختلفة، ولعلّ الأحوط ما قاله الأكثر للأكثريّة، واحتمال دليل غيره التقييد به، للخبر الدالّ على أنّ غيبوبة القرص المذكور في بعض الروايات يعلم بالذهاب المذكور.

ثمّ إنّه نهى عن المباشرة في حال كونهم عاكفين في المساجد، وكأنّه لمناسبة اشتراط الصوم في الاعتكاف ذكر متّصلا بأحكام الصوم والاعتكاف هو اللزوم لغة، وشرعا هو اللّبث المخصوص في مكان مخصوص للقربة، ولا يحسن تعريفه بأنّه لبث في جامع صائما للعبادة كما هو في كلام بعض الأصحاب، فإنّه مشعر بكون الغرض من اللبث فيه عبادة أخرى غيره من صلاة أو تسبيح أو قراءة أو غير ذلك وليس كذلك وتفصيل أحكامه وأحكام الصوم يطلب من كتب الفقه.

ثمّ أكّد الأحكام المذكورة بقوله( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ ) يعني أنّ ما نهيتم عنه من المنهيّات صريحا أو في ضمن الأمر، من حدود الله( فَلا تَقْرَبُوها ) فنهى عن قرب المنهيّات وترك المأمورات للمبالغة مثل( لا تَقْرَبُوا الزِّنى ) (1) . أو المراد بالقرب المخالفة، وبحدود الله أحكامه أمرا كان أو نهيا أي لا تتعدّوها لقوله تعالى( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها ) (2) ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) (3) .

( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ ) إلخ أي مثل هذا البيان المذكور يبيّن الله لكم آياته مثل الترخّص، رجاء تقواكم عن المعاصي والمحارم.

وأمّا الأحكام المستفادة منها فهي إباحة الوطي في ليلة كلّ يوم يراد صومه أوّل اللّيل وآخره أيّ ليلة كانت، وأيّ صوم كان، وتحريم ذلك في النهار من المفهوم، ومن مفهوم المفهوم إباحة التقبيل وغيره من الأفعال المتعلّقة بالنساء

__________________

(1) أسرى: 32.

(2) البقرة: 229.

(3) الطلاق: 1.

١٧١

غير الجماع، إذ مفهوم الإباحة المذكورة تحريم الرفث في النهار، ومفهومه ما قلناه، وذلك كلّه معلوم بالأصل والأخبار بل الإجماع أيضا فخلافه من التحريم والكراهة يحتاج إلى الدليل، ووجوب التوبة، لأنّه قد علم سقوط الذنب بها وفعل مسقطة الّذي هو مخلّص من ضرر عظيم واجب عقلا وسمعا أيضا على ما هو المقرّر.

ورجحان المباشرة المستفادة من الأمر أي باشروهنّ ويحتمل الاستحباب مطلقا إلّا أن يدلّ على غيره دليل، كالكراهة مثل أوّل ليلة كلّ شهر غير شهر رمضان، ونصفه وغيرهما ممّا هو المذكور في الفقه مع دليله، إذ لا قائل بالوجوب أو يكون للإباحة مجملا، والتفصيل مستفاد من الشرع مثل وجوبها لو خاف الوقوع في الزنا، أو بعد مضيّ أربعة أشهر، واستحبابها في أوّل ليلة شهر رمضان للرواية وانكسار الشهوة في النهار، ورفع حدث يحتمل وقوعه من غير شعور، وعند كثرة الميل مع عدم الوصول إلى الوجوب، ورجاء حصول ولد يعبد الله، والكراهة مثل ما مرّ، والإباحة إذا لم يكن دليل على غيرها.

واستحباب النكاح ووجوبه أو التسرّي(1) لأنّ المباشرة المستحبّة أو الواجبة موقوفة عليه إذ الأصل عدم التقدير، واستحباب طلب الولد بالنكاح ليعبد الله لا المال والجمال، كما وقع النهي عنهما في الأخبار، ولا قصد التلذّذ والشهوة كالبهائم واستحباب القناعة والرضا بما كتب الله، واستحباب اختيار الولود أي من هي في سنّ من تلد أو من البيت الغالب عليهنّ الولادة أو الخالية من علامات العقم، مثل عدم الحيض على ما قيل أو الّتي تزوّجت وما ولدت، ولا يبعد فهم كراهة الوطي في غير القبل الّذي ليس هو من مظنّة حصول الولد، وكراهة العزل عن الأمة والمتعة، والتحريم في غيرهما يكون مستفادا من غيرها من الأخبار أو الإجماع إن كان.

وإباحة الأكل والشرب بل رجحانهما، لبقاء الأمر في معناه الأصليّ في

__________________

(1) التسري: أخذ السرية، والسرية كذرية الأمة التي أنزلتها بيتا وتزوجتها سرا لئلا تعلم زوجتك بها، أو هو مطلق التزوج بالإماء.

١٧٢

الجملة وإن كان بعد النهي وقلنا إنّه للإباحة بمعنى رفع الحظر أم لا، وهذا يجري في المباشرة أيضا، وتحريم الأكل والشرب بعد الفجر للغاية لأنّ مفهوم الغاية حجّة كما هو الحقّ المبيّن في الأصول وهذا على تقدير حمل الأمر على الإباحة بالمعنى الأعمّ واضح، وبالمعنى الأخصّ كذلك بضمّ أمر آخر إليه لا على حمله على الاستحباب.

وليس ببعيد إخراج جزء ما قبل الفجر أيضا من باب المقدّمة، فيحرمان في ذلك أيضا كما يحرمان في جزء من أوّل اللّيل كذلك كما هو المصرّح في الأصول والمدلّل فحينئذ يمكن أن لا يصحّ النيّة مقارنة للفجر، فكيف في النهار، لوجوب تقديمها على المنويّ بحيث لا يقع جزء منه خاليا عنها يقينا، وذلك لم يتحقّق إلّا بوقوعها قبله، ففهم أيضا وجوب النيّة ليلا لأنّ الصوم المنويّ الّذي هو الإمساك في تمام النهار مع جزء من اللّيل من باب المقدّمة لا بدّ أن لا يخلو عن النيّة يقينا ولو لم تكن في اللّيل لم يتحقّق ذلك، نعم لو فرض تحقّق الصوم بدون جزء من الليل يمكن القول بالمقارنة، فيسقط المقدّمة كما في سائر ما يجعلونه مقدّمة للواجب فبناء على ما تقرّر عندهم يلزم مقارنة النيّة لذلك الجزء، فجوازها من أوّل اللّيل وكذا النهار فيما يجوّزونه يحتاج إلى الدليل.

فقد ظهر لك من ذلك أنّه على تقدير جعل «حتّى» غاية للمباشرة أيضا لا يدلّ على جواز الوطي إلى الفجر، فيدلّ على جواز وقوع الغسل نهارا وصحّة صوم المصبح جنبا، وما ذكره في الكشّاف بقوله: قالوا فيه دليل على جواز النيّة بالنهار في صوم شهر رمضان، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر، كما قاله القاضي أيضا غير ظاهر، ثمّ إنّ الظاهر أنّ حتّى غاية للشرب لأنّ المذهب الحقّ الثابت في الأصول أنّ القيد المذكور بعد الجمل المتعدّدة للأخيرة فكأنّه أشار إليه صاحب الكشّاف بإسناد ما مرّ إلى الغير كيف لا، وهو خلاف مذهب الحنفيّ؟ وأمّا هنا فيمكن تعلّقه بكلوا أيضا لأنّه مع الشرب كشيء واحد فكأنّهما جملة واحدة، أو نقول ليس بمتعلّق إلّا بالشرب وكون الأكل مثله لدليل آخر من السنّة والإجماع

١٧٣

أو إجماع مركّب، وكذا غاية الجماع، واشتراط الصوم بالغسل في اللّيل وعدمه يفهم من موضع آخر، وأكثر الأصحاب على اشتراطه، وابن بابويه على عدمه، والأخبار مختلفة، والظاهر مذهب ابن بابويه للأصل والرواية الصحيحة الصريحة(1) بل ظاهر الآية حيث دلّت على جواز الرفث والمباشرة في جميع أجزاء اللّيل والشريعة السهلة وأولويّة الجمع بين الأدلّة بحمل ما يدلّ على الغسل ليلا على الاستحباب ولكنّ الاحتياط مع الجماعة، وتركنا ذكر الأخبار والبحث عنها خوفا من التطويل مع أنّها مبيّنة في موضعها.

وأيضا وجوب الإفطار بمعنى تحصيل مبطل للصوم ولو كان بقصد إبطاله في الليل، ويحتمل كون الإتمام إشارة إلى وجوب استمراره إلى اللّيل حسب فلا يجب غيره. وتحريم الوصال، وأيضا مشروعيّة الاعتكاف في المسجد، وتحريم مباشرة النساء فيه، ولو ليلا، ولا يفهم منه الشرطية ولا فساد الاعتكاف بالوطء لأنّ النهي ليس بمتعلّق بالعبادة حتّى يلزم تعلّق الأمر والنهي معا بشيء واحد شخصيّ فيكون محالا فيفسد، نعم ذلك ثابت الأخبار بل الإجماع أيضا على الظاهر، فقد علمت فساد قول القاضي: «وفيه دليل على أنّ الاعتكاف يكون في المسجد، ولا يختصّ بمسجد دون مسجد، وأنّ الوطي يحرم فيه ويفسده لأنّ النهي في العبادات يوجب الفساد». لأنّك قد علمت أنّ النهي إنّما يدلّ على الفساد في العبادة إذا تعلّق بها أو بجزئها أو بشرطها الشرعيّ المأمور به.

وبالجملة التحقيق ما أشرت إليه، ففي كلّ صورة يلزم اجتماع الطلب والنهي يفسد، وهنا ليس كذلك إلّا أن يقال: يفهم التنافي هنا فتأمل، بل يمكن كون التحريم لكونه في المسجد لا للاعتكاف فتأمل، وأيضا خفاء في دلالة الآية بمجرّدها من غير انضمام تعريف الاعتكاف وثبوت الحقيقة الشرعيّة على أنّ الاعتكاف لا يكون في غير المسجد، كما هو ظاهر كلامه، وكذا في دلالتها على عدم الاختصاص بمسجد دون مسجد كما هو صريح نقل الكشّاف، حيث قال: «وقالوا: فيه دليل على أنّ

__________________

(1) راجع الفقيه ج 2 ص 75، التهذيب ج 1 ص 411 و 412.

١٧٤

الاعتكاف لا يكون إلّا في المسجد وأنّه لا يختصّ به مسجد دون مسجد» فانّ مضمونها تحريم المباشرة حين الاعتكاف في المساجد - بعد أن سلّمنا إرادة عموم المساجد أي أيّ مسجد كان - ولكن ما يفهم جواز الاعتكاف في أيّ مسجد كان، بل تحريم المباشرة في أيّ مسجد يجوز الاعتكاف [ويتحقّق الاعتكاف فيه] وقد يكون ذلك مخصوصا ببعض دون بعض، كما قيل إنّ مالكا يقول باختصاصه بالجامع، وكذا بعض أصحابنا وبعض يقول باشتراطه في مسجد جمع فيه معصوم جمعة، وقيل جماعة، فخصّص البعض بالأربعة المسجدين ومسجد الكوفة ومسجد البصرة، وبعضهم بالثلاثة الأول، وبدّل البعض البصرة بالمدائن وهو بعيد، وقال في الكشاف: وقيل: لا يجوز إلّا في مسجد نبيّ وهو أحد المساجد الثلاثة، وقيل في مسجد جامع والعامّة على أنّه في مسجد جماعة وقرأ مجاهد «في المسجد» انتهى، لعلّ المراد بالثلاثة مسجد الحرمين ومسجد الأقصى، والجامع المسجد الأعظم، وهذا يدلّ على عدم فهم العموم وفهم الاختصاص إلّا أن يقال: إنّهم فهموا العموم وخصّصوا بدليل، وإن كان يلزمهم خلاف ظاهر الآية، ولكنّه غير بعيد ولا عزيز.

١٧٥

(كتاب الزكاة)

وفيه أبحاث:

(الأول)

في وجوبها ومحلها

وفيه آيات:

الاولى: ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (1) .

أي ليس الخير والفعل المرضيّ كلّه صرف الوجه في الصلاة إلى القبلة حتّى يضاف إليه سائر الطاعات، فيكون الخطاب للمسلمين أيضا أو يكون الخطاب لأهل الكتاب، فإنّهم لمّا أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حوّلت وادّعى كلّ طائفة أنّ البرّ هو التوجّه إلى قبلته فاليهود يدّعي أنّ البرّ هو التوجّه قبل المغرب أي إلى بيت المقدس، والنصارى قبل المشرق قال الله تعالى ليس البرّ ذلك بل البرّ المعتمد عليه هو برّ من آمن بالله الآية، فهنا المضاف محذوف، وهو أولى من جعل البرّ بمعنى البارّ لموافقة ليس البرّ، أي من صدّق بالله وبجميع صفاته من العلم والإرادة والكراهة والوحدة والقدرة والسمع والبصر والعدل والحكمة وجميع الصفات الثبوتيّة والسلبيّة، كأنّ ذلك كلّه مراد بالإيمان بالله قال في مجمع البيان

__________________

(1) البقرة: 177.

١٧٦

يدخل فيه جميع ما لا يتمّ معرفة الله تعالى إلّا به كمعرفة حدوث العالم إلخ.

وصدّق بيوم القيامة بأنّه حقّ وفيه الحساب والعقاب، والحشر والنشر والميزان وتطاير الكتب وجميع الأمور الواقعة فيه وصدّق بوجود الملائكة وأنّهم عباد الله يعبدون حيث يؤمرون وبالكتب المنزلة بأنّه حقّ وثابت ومنزل من الله تعالى إلى عباد الله وأنّ ما فيه حقّ وصدق، وكذا التصديق بالأنبياء بأنّهم مبعوثون إلى الناس لتعليمهم، وأنّهم معصومون من الذنوب وما يفعلون إلّا الحقّ.

( وَآتَى الْمالَ ) عطف على( آمَنَ ) أي من أعطى المال مع حبّ المال أي مع احتياجه كما روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا سئل أيّ الصدقة أفضل قال: أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر(1) أو على حبّ الله تعالى أي لوجهه، والتقرّب به إلى الله، وهذا نقله في مجمع البيان عن السيّد المرتضى قدّس الله روحه قال: ما سبقه إليه أحد وهو مذكور في الكشّاف وتفسير القاضي أيضا، أو على حبّ الإعطاء، والجارّ والمجرور حال «وذَوِي الْقُرْبى » أي قرابة المعطي أو قرابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه ورد الثواب العظيم لإعطاء القرابة، لأنّه تصدّق وصلة الرحم، وكذا صلة قرابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّها تصدّق وصلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

واليتيم من الانس من لا أب له ممّن لم يبلغ، ومن باقي الحيوانات ما ليس له أمّ كذا قيل في مجمع البيان وغيره وفيه أيضا فيحتمل أن يكون معطوفا على القربى فيعطي المال من يكفلهم لأنّه لا يصحّ إيصال المال إلى من لا يعقل، أو يكون معطوفا على ذوي القربى فيعطي المال أنفسهم، نقلا عن الغير في كلا الوجهين، ومنع إعطاء المال للأطفال سيّما المميّز غير ظاهر إلّا أن يكون من الحقوق الواجبة وكذا يشكل إعطاؤه لكلّ من يكفلهم حيث لا يكون وليّا، فينبغي الإعطاء للوليّ ولا يبعد الإعطاء على تقدير عدمه إلى ثقة ليخرجه عليهم، وصرف المعطي بنفسه عليهم على تقدير عدم الغير فتأمل.

__________________

(1) تمامه: ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا. راجع مجمع البيان ج 1 ص 263، الدر المنثور ج 1: 171 من حديث أبي هريرة.

١٧٧

والمسكين من ليس له نفقة السنة، على ما قالوا، وابن السبيل من انقطع بسفره عن أهله ويكون غير قادر على الرّواح إلى أهله وإن كان غنيّا في أهله، ولعلّه يشترط عدم قدرته على التصرّف في ماله الّذي في بلده ببيع ونحوه، والسائل الفقير الّذي يسأل فهو أخصّ من المسكين، والظاهر أنّ الفقر شرط في الجميع على تقدير الإعطاء من الزكاة الواجبة وترك لعدم الالتباس كما قال في الكشّاف وتفسير القاضي( وَفِي الرِّقابِ ) أي أعطي المال في الرقاب بأن يشتري العبيد والإماء ويعتق مطلقا أو الّذين تحت الشدّة، أو المكاتبين فقطّ، والأوّل هو الظاهر من الآية.

وكذا البرّ برّ من أقام الصلاة بحدودها في أوقاتها مع الشرائط المعتبرة فيها، وبرّ من آتى الزكاة مع الشرائط أيضا، فهما أيضا عطف على( آمَنَ ) كما قبلهما( وَالْمُوفُونَ ) أي هم الموفون بعهدهم فهو خبر مبتدأ محذوف، أي الّذين ذكروا من أصحاب البرّ هم الّذين يوفون بما عاهدوا الله، ويمكن أن يعمّ العهد واليمين والنذر أيضا، بل لا يبعد شموله لما عاهدوا الناس أيضا، وهم الصابرون أيضا أي الحابسون أنفسهم على ما تكرهه لله( فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ ) البؤس الفقر والوجع والعلّة( وَحِينَ الْبَأْسِ ) وقت القتال وجهاد العدوّ أو الشدّة والرخاء، والصحّة وو المرض و( الصَّابِرِينَ ) قيل منصوب على المدح أي أعني بمن ذكرناه الصابرين كما أنّ الموفون مرفوع بالمدح، ولكن وجود الواو غير مناسب في المنصوب بالمدح والمرفوع به أيضا لأنّهما صفتان في الأصل، ولعدم ما عطفا عليه ظاهرا وكأنّه استيناف، ويحتمل أن يكون الموفون عطفا على( مَنْ آمَنَ ) والصابرين بتقدير وبرّ الصابرين عطفا عليه أيضا، ولكن في الأوّل حذف المضاف وأعرب المضاف إليه بإعرابه وفي الثاني أقيم على حاله كما في( وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ) (1) بقراءة الجرّ بتقدير عرض الآخرة، قال في الكشّاف( الْمُوفُونَ ) عطف على( مَنْ آمَنَ ) وأخرج( الصَّابِرِينَ ) منصوبا على الاختصاص والمدح، إظهارا لفضل الصبر في

__________________

(1)( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ) الأنفال: 67.

١٧٨

الشدائد، وقرئ «والصابرون» وقرئ: والموفين والصابرين.

( أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ) أي الموصوفون بالصفات المتقدّمة هم الّذين صدقوا الله فيما قبلوا وعاهدوا وقت القتال، أو هم الّذين صدّق أفعالهم نيّاتهم، وهم المتّقون بفعلهم عن نار جهنّم وسائر العذاب، أو عن الكفر وسائر المعاصي المهلكة، ويحتمل أن يكون( وَآتَى الْمالَ ) إشارة إلى غير الزكاة الواجبة من المندوبات والصلات وآتى الزكاة إشارة إليها أو يكون كلاهما في الواجبة: الأولى لبيان المصرف، والثانية لبيان الفعل فقط، ويكون الذكر على هذا الوجه والتكرار للاهتمام فما قال في مجمع البيان: في الآية دلالة على وجوب إعطاء مال الزكاة المفروضة غير ظاهر عندي إلّا باعتبار حصر البرّ أو حصر الصدق والتقوى في فاعل المذكورات، وذلك أيضا غير واضح فافهم.

واعلم أنّه ليس في الآية دلالة على وجوب الزكاة، بل ولا على وجوب شيء من المذكورات، نعم فيها ترغيب وتحريص على الأمور المذكورة فيعلم الوجوب من موضع آخر، فما كان فيها أحكام يعتدّ بها مع أنّ هذه الأحكام يفهم من غيرها مفصّلة، ولكن ذكرتها لمتابعة من تقدّمنا كغيرها، واشتمالها على فوائد حتّى قال القاضي: والآية جامعة للكمالات الإنسانيّة بأسرها دالّة عليها صريحا أو ضمنا فإنّها بكثرتها وشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء: صحّة الاعتقاد، وحسن المعاشرة وتهذيب النفس، وقد أشير إلى الأوّل بقوله «مَنْ آمَنَ - إلى -وَالنَّبِيِّينَ » وإلى الثاني بقوله «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ - إلى قوله تعالى -وَفِي الرِّقابِ » وإلى الثالث بقوله( وَأَقامَ الصَّلاةَ ) إلى آخرها، ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظرا إلى إيمانه واعتقاده، وبالتقوى باعتبار معاشرته للخلق، وتهذيب أفعاله ونفسه أيضا، وكأنّه إليه أشار بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : من عمل بهذه الآية فقد استكمل الايمان(1) وفيها وفيه دلالة على عدم اعتبار الأعمال في الايمان بل في كماله.

__________________

(1) تفسير البيضاوي: 47.

١٧٩

الثانية: ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) (1) .

فيها دلالة على وجوب الزكاة على الكفّار لأنّه يفهم منها أنّ للوصف بعدم إيتاء الزكاة دخلا في ثبوت الويل لهم، ولكن علم من الإجماع وغيره عدم الصحّة منهم إلّا بعد الإسلام وكذا علم بالإجماع سقوطها عنهم بالإسلام، ويدلّ عليه الخبر المشهور «الإسلام يجبّ ما قبله(2) » وأما دلالتها على كون مستحلّ تركها كافرا ففيها خفاء، نعم إشعار به من قوله( وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) فإنّه يدلّ على كفر الموصوفين بعدم الإيتاء، وذلك لم يكن إلّا مع الاستحلال بالنصّ والإجماع ولكنّهما يكفيان فتلغو الآية أو يقال: لأنّهم ما كانوا يتركونها إلّا استحلالا فتأمّل فيه.

الثالثة: ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) (3) .

الكنز هو المال المذخور تحت الأرض، ولعلّ المراد هنا حفظه وعدم إنفاقه في سبيل الله، فيكون( وَلا يُنْفِقُونَها ) بيانا للمقصود، ولعلّ الضمائر للكنوز أو الأموال أو لكلّ واحد من الذهب والفضّة، والتأنيث باعتبار الفضّة أو باعتبار التعدّد والكثرة، وقيل للفضّة والاختصار لقربها، وفهم حكم الذهب بالطريق الأولى و «الّذين» مبتدأ تضمّن معنى الشرط و «فبشّرهم» خبره مع التأويل، و «يوم» يحتمل أن يكون ظرفا لقوله «فبشّر» وأن يكون صفة «عذاب» أو «أليم»

__________________

(1) حم السجدة: 7.

(2) تراه في الجامع الصغير على ما في السراج المنير ج 2 ص 131 الدر المنثور ج 3 ص 184.

(3) براءة: 36.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

فقوله سبحانه( وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ) إشارة إلى أنّ كلاّ من الفريقين يتلو في كتابه تصديق ما كفر به، أي كفر اليهود بعيسى بن مريم وعندهم التوراة فيما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى، وفي الإنجيل ما جاء به عيسىعليه‌السلام من تصديق موسىعليه‌السلام وما جاء به من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يد صاحبه.

وقوله سبحانه:( كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ) إشارة إلى أنّ مشركي العرب الّذين هم جهّال وليس لهم كتاب، هكذا قالوا لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه: إنّهم ليسوا على شيء من الدين مثل ما قالت اليهود والنصارى بعضهم لبعض(١) .

وربمّا بلغ تجاسرهم بساحة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فطلبوا منه أن يقتدي بإحدى الشريعتين، قال ابن عباس: إنّ جماعة من اليهود ونصارى نجران ذمّوا أهل الإسلام، كل فرقة تزعم أنّها أحق بدين الله من غيرها، فقالت اليهود: نبيّنا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وقالت النصارىٰ: نبيّنا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب وكل فريق منهما قالوا للمؤمنين كونوا على ديننا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: إنّ ابن صوريا قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما الهدى إلّا ما نحن عليه فاتّبعنا تهتدِ، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله هذه الآية.( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ) .

فرّد الله عليهم بقوله:( بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( البقرة / ١٣٥ ).

٨ ـ التشبّث بالكلمات المتشابهة:

كان اليهود لا يألون جهداً في إثارة القلاقل والفتن والإستهزاء بالنبيّ إلى حدّ

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٤٩، ومجمع البيان: ج ١ ص ٣٥٩.

٢٦١

يصرّون على إستعمال الكلمات المشتركة بين المعنى الحسن والمعنى القبيح.

فعلى سبيل المثال عندما كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يتحدّث، كان المسلمون يطلبون منه التأنّي في التحدّث فيقولون « راعنا » بمعنى أمهلنا مشتق من مادّة « رعى »، فحرّفت اليهود هذه اللفظة، فقالوا يا محمد راعنا، وهم يلحدون إلى الرعونة يريدون به النقيصة والوقيعة ومعناه « حمّقنا »، ولأجل ذلك وافى الوحي وأمر أن يتركوا هذه الكلمة ويستعملوا مكانه « أنظرنا » قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( البقرة / ١٠٤ ).

وقال العلّامة الطباطبائي في الآية نهي شديد عن قول « راعنا » وهذه الكلمة ذكرتها آية اُخرى وبيّنت معناها في الجملة وهي قوله تعالى:( مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ) ( النساء / ٤٦ ).

ومنه يعلم أنّ اليهود كانوا يريدون بقولهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله راعنا نحواً من معنى قوله:( اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) ، ولذلك ورد النهي عن خطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك وحينئذ ينطبق على ما نقل: إنّ المسلمين كانوا يخاطبون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك إذا ألقى إليهم كلاماً يقولون « رَاعِنَا يَا رَسُولَ الله » يريدون أمهلنا وانظرنا حتّى نفهم ما تقول، وكانت اللفظة تفيد في لغة اليهود معنى الشتم، فاغتنم اليهود ذلك فكانوا يخاطبون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك يظهرون التأدّب معه وهم يريدون الشتم، ومعناه عندهم: اسمع لا أسمعت، فنزل:( مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا ) ونهى الله المؤمنين عن الكلمة وأمرهم أن يقولوا ما في معناه وهو: أنظرنا، فقال:( لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا ) (١) .

__________________

(١) الميزان: ج ١ ص ٢٤٨.

٢٦٢

٩ ـ كتمان الحقائق:

سأل معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وخارجة بن زيد، نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة، فكتموهم وأبوا أن يخبروهم عنه، فأنزل الله تعالى فيهم:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) ( البقرة / ١٥٩ )(١) .

ولو أنّ أحبار اليهود مثل كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وابن صوريا وغيرهم من علماء النصارى بيّنوا للناس ما ورد في التوراة والإنجيل من أوصافهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمّ الإسلام شرق العالم وغربه ويا للأسف رجّحوا الإحتفاظ بمناصبهم على ثواب الآخرة.

١٠ ـ النبيّ الأكرم وبيت المدارس:

دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيت المدارس(٢) على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله، فقال لهم النعمان بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد ؟ قال على ملّة إبراهيم ودينه، قال: فإنّ إبراهيم كان يهوديّاً. فقال لهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فهلمّا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم. فأبيا عليه، فأنزل الله تعالى فيهما:( أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ *ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) ( آل عمران / ٢٣ و ٢٤ ).

وقد رووا أنّ أحبار اليهود ونصارى نجران اجتمعوا عند رسول الله، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلّا يهوديّاً، وقالت النصارى من أهل نجران: ما كان إبراهيم

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٥١.

(٢) بيت المدارس: هو بيت اليهود يتدارسون فيه كتابهم.

٢٦٣

إلاّ نصرانيّاً، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إلّا مِن بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ *هَا أَنتُمْ هَٰؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ *مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ *إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / ٦٥ ـ ٦٨ )(١) .

إنّ ادّعاءهم بأنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يهوديّاً أو نصرانيّاً نابع عن جهلهم المطبق بحياة إبراهيم، فكيف يكون إبراهيم يهوديّاً أو نصرانيّاً وهو والد إسحاق الّذي هو والد يعقوب المعروف بيهودا فما ظنّك بكونه نصرانيّاً ؟

١١ ـ الإيمان غدوة والكفر عشيّة:

لـمّا رأت اليهود أنّ الإسلام ينتشر شيئاً فشيئاً فحاولوا تشويه سمعته بالتظاهر بالإنتماء إلى الإسلام صباحاً والخروج عنه عشيّة حتّى يلبسوا على المسلمين دينهم ويصيروا مثلهم، فقال جماعة منهم: تعالوا نؤمن بما اُنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشيّة حتّى نلبس عليهم دينهم لعلّهم يصنعون كما نصنع ويرجعون عن دينه، فأنزل الله تعالى فيهم:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ *وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ *وَلا تُؤْمِنُوا إلّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللهِ أَن يُؤْتَىٰ أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( آل عمران / ٧١ ـ ٧٣ ).

١٢ ـ إتّهام النبيّ بأنّه يُؤَلِّهُ نفسه:

اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله ( صلى الله

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٥٣.

٢٦٤

عليه وآله وسلم ) فدعاهم إلى الإسلام، فقالوا: أتريد منّا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ وقال رجل من أهل نجران: أو ذاك تريد منّا يا محمد ؟ وإليه تدعونا ؟ فقال رسول الله: معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره فما بذلك بعثني الله ولا أمرني. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما:( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ *وَلا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ( آل عمران / ٧٩ و ٨٠ ).

ومحصّل ما يستفاد من الآية إنّ البشر الذي آتاه الله تعالى الكتاب والحكم والنبوّة كائناً من كان ـ عيسى كان اُم محمد ـ إنّما يدعوكم إلى التلبّس بالإيمان واليقين بما في الكتاب الذي تعلّمونه وتدرسونه من اُصول المعارف الإلهيّة والإتّصاف بالملكات والأخلاق الفاضلة التي يشتمل عليها والعمل بالصالحات حتى تنقطعوا بذلك إلى ربّكم وتكونوا به علماء ربّانيين.

ثمّ إنّ الربّاني منسوب إلى الرب، زيد عليه الألف والنون للدلالة على التفخيم كما يقال « لحياني » لكثير اللحية ونحو ذلك، فمعنى الربّاني شديد الإختصاص بالرب وكثير الإشتغال بعبوديّته وعبادته(١) .

١٣ ـ سعيهم للوقيعة بين الأنصار:

نزل النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مدينة يثرب فوجد الأوس والخزرج في شقاق، فآخى بينهما وجعل الجميع صفّاً واحداً في وجه اليهود، فشقّ ذلك على الكافرين فحاولوا جاهدين أن يشقّوا عرى وحدتهم بوسائل مختلفة، فمرّ شاس بن قيس ـ وكان شيخاً عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٥٤، الميزان: ج ٣ ص ٢٧٦.

٢٦٥

الحسد عليهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه فغاظه ما رأى من ألفهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، وقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذا البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتىً شابّاً من اليهود كان معهم، فقال: أعمد إليهم، فاجلس معهم ثمّ اذكر يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقوّلوا فيه من الأشعار، ففعل ذلك الشاب، فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيّين فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين ! الله الله ! أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بين قلوبكم، فعرف القوم أنّها نزعة من الشيطان وكيد من عدوّهم فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً ثمّ انصرفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّ الله شاس بن قيس، فأنزل الله تعالى في شاس بن قيس وما صنع:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ *قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / ٩٨ و ٩٩ )(١) .

١٤ ـ الحط من شأن مَنْ آمن من اليهود:

قد سبق وأن عرفت أنّ اليهود كانوا ـ وما زالوا ـ أكثر تعصّباً لقوميتهم ودينهم ولأجل ذلك لم يدخل منهم في الإسلام إلّا الأقل القليل مثل عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود معهم، فخاف الملأ من اليهود أن يدخل الإسلام في سائر البيوت، فنشروا بينهم: ما آمن بمحمّد ولا اتّبعه إلّا شرارنا ولو كانوا من أخيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره ،

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٥٦.

٢٦٦

فأنزل الله تعالى في ذلك:( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) ( آل عمران / ١١٣ ).

١٥ ـ دعوة المسلمين إلى البخل:

كان الإسلام ينتشر صيته في الربوع والآفاق بفضل ما كان يمتلكه من مبادئ سامية وقيم مثالية وإيثار معتنقيه النفس والنفيس، فشق ذلك على اليهود فحاولوا خداع المسلمين حتّى يصدّوهم عن البذل في سبيل نصرة الدعوة المحمدية وخوّفوهم بحلول القحط.

قال ابن هشام: كان رجال من اليهود يأتون رجالاً من الأنصار يخالطونهم ينتصحون لهم من أصحاب رسول الله، فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم فإنّنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة فإنّكم لا تدرون على ما يكون، فأنزل الله فيهم:( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ) ( النساء / ٣٧ ).

١٦ ـ تفضيلهم الوثنية على الإسلام:

كانت فكرة تأليب العرب هي الفكرة التي اختمرت في نفوس يهود المدينة خصوصاً بعد غزوة بدر واحد، فخرجوا من المدينة نازلين بمكّة، فقالت قريش لليهود: يا معشر اليهود إنّكم أهل الكتاب الأوّل وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفَديننا خير أم دينه ؟ قالت اليهود: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه، فنزل القرآن ردّاً عليهم بقوله:( أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً *أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ) ( النساء / ٥١ و ٥٢ ).

وفي موقف اليهود هذا من قريش وتفضيلهم وثنيّتهم على توحيد

٢٦٧

محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه ( تاريخ اليهود في بلاد العرب ):

« كان من واجب هؤلاء ألّا يتورّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش وألّا يصرّحوا أمام زعماء قريش بأنّ عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي ولو أدّى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطالبهم لأنّ بني إسرائيل الّذين كانوا مدّة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الاُمم الوثنية بإسم الآباء الأقدمين والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بالٰه واحد في عصور شتّى من الأدوار التاريخية، كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين، هذا فضلاً عن أنّهم بإلتجائهم إلى عبدة الأصنام إنّما كانوا يحاربون أنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام وبالوقوف منهم موقف الخصومة »(١) .

١٧ ـ إدّعاؤهم أنّهم أحبّاء الله وأصفياؤه:

أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة من اليهود فكلّموه وكلّمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته، فأنزل الله تعالى فيهم:( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ ) ( المائدة / ١٨ ).

١٨ ـ إنكارهم نزول كتاب بعد موسى:

دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اليهود إلى الإسلام ورغّبهم فيه، وحذّرهم غِيرَ الله وعقوبته، فأبوا عليه وكفروا بما جاءهم به، فقال لهم معاذ بن

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٦٢، حياة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لهيكل، ص ٣٢٨ ـ ٣٢٩.

٢٦٨

جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر اليهود إتّقو الله فوالله إنّكم لتعلمون أنّه رسول الله ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته، فقال بعضهم: ما قلنا لكم هذا قط وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما:

( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( المائدة / ١٩ )(١) .

١٩ ـ رجوعهم إلى النبيّ في حكم الرجم:

إنّ أحبار اليهود إجتمعوا في بيت المدارس، حين قدم رسول الله المدينة وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة من اليهود قد أحصنت، فقالوا: إبعثوا بهذا الرّجل وهذه المرأة إلى محمد فسلوه كيف الحكم فيهما، وولّوه الحكم عليهما فإن عمل فيهما بعمل من التجْبية فاتّبعوه(٢) فإنّما هو ملك وصدّقوه، وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنّه نبي فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه، فأتوه فقالوا: يا محمد ! هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت فاحكم فيهما، فقد ولّيناك الحكم فيهما، فمشى رسول الله حتّى أتى أحبارهم في بيت المدارس، فقال: يا معشر اليهود ! أخرجوا إليّ علماؤكم، فاُخرج له عبد الله بن صوريا وغيره، فقالوا: هؤلاء علماؤنا، وقالوا: إنّ عبد الله ابن صوريا أعلم من بقى بالتوراة، فخلي به رسول الله وكان غلاماً شابّاً من أحدثهم سنّاً، فألحّ رسول الله عليه المسألة وقال له: أنشدك الله واُذكّرك بأيّامه عند بني إسرائيل، هل تعلم أنّ الله حكم في من زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة ؟

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٦٣ ـ ٥٦٤.

(٢) الجلد بحبل من ليف مطلي بقار ثمّ تسوّد وجوههما، ثمّ يحملان على حمارين وتجعل وجوهها من قبل ادبار الحمارين.

٢٦٩

قال: أللّهم نعم ! أما والله يا أبا القاسم إنّه ليعرفونك أنّك لنبيّ مرسل ولكنّهم يحسدونك، فخرج رسول الله فأمر بهما فرجما في باب مسجده، ثمّ كفر بعد ذلك ابن صوريا وجحد نبوّة رسول الله، فأنزل الله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ *سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة / ٤١ و ٤٢ ).

ونقل ابن هشام عن ابن إسحاق: إنّه لما حكّموا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيهما، دعاهم بالتوراة وجلس حبر منهم يتلوها وقد وضع يده على آية الرجم، فضرب عبد الله بن سلام يد الحبر ثمّ قال: هذه يا نبيّ الله آية الرجم يأبى أن يتلوها عليك، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ويحكم يا معشر يهود ! ما دعاكم إلى ترك حكم الله وهو بأيديكم ؟ قال: « فقالوا أما والله أنّه قد كان فينا يعمل به، حتّى زنى رجل منّا بعد إحصانه من بيوت الملوك وأهل الشرف فمنعه الملك من الرّجم ثمّ زنى رجل بعده فأراد أن يرجمه فقالوا: لا والله حتّى ترجم فلاناً ! فلمّا قالوا له ذلك إجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التجبية وأماتوا ذكر الرجم، والعمل به ». قال: فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فأنا أوّل من أحيا أمر الله وكتابه وعمل به، ثمّ أمر بهما فرجما عند باب مسجده، قال عبد الله بن عمر: فكنت فيمن رجمهما(١) .

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٦٦.

٢٧٠

٢٠ ـ ظلمهم في الديّة:

كانت قبيلة بني النضير يؤدّون الديّة كاملة وبنو قريظة كانوا يؤدّون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله، فنزل قوله سبحانه:( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة / ٤٢ ).

فحملهم رسول الله على الحق ذلك وجعل الديّة سواء.

٢١ ـ قصدهم الفتنة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

قال جماعة من اليهود: اذهبوا بنا إلى محمد لعلّنا نفتنه عن دينه فإنّما هو بشر، فأتوه فقالوا له: « يا محمد إنّك قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأشرافهم وسادتهم وإنّا إن إتّبعناك إتّبعتك اليهود ولم يخالفنا وإنّ بيننا وبين بعض قومنا خصومة أفنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ونصدّقك ؟ » فأبى ذلك رسول الله، فأنزل الله فيهم:( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ *أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) ( المائدة / ٤٩ و ٥٠ ).

٢٢ ـ إنكار نبوّة المسيح:

مناصبة اليهود العداء للمسيحيين لها جذور متأصّلة في التاريخ فمذ أعلن المسيح بنبوّته ورسالته قامت اليهود في وجهه وأنكروا رسالته، يقول سبحانه:( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) ( الصف / ٦ ).

نعم نرى اليوم تحالف اليهود مع المسيحيين لضمان المصالح المشتركة التي

٢٧١

على رأسها وأهمّها القضاء على الإسلام وإبعاده عن المجتمع والحياة، ولأجل ذلك نرى أنّ البابا قام مؤخّراً بزيارة الكنيست اليهودي في روما وأعلن خلال زيارته له براءة اليهود من دم المسيح من أجل توحيد الصف ودعم الجهود الكفيلة بالقضاء على المسلمين ودينهم، ولكنّهم في الواقع والحقيقة لا زالوا يكنّون نفس العداء التاريخي المتأصّل في نفوسهم.

روي أنّ نفراً من اليهود أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فسألوه عمّن يؤمن به من الرّسل ؟ فقال: اُؤمن بالله، فعند ذاك جحدوا نبوّة المسيح وقالوا والله ما نعلم أهل دين قطّ أخطأ في الدّنيا والآخرة منكم ولا ديناً شرّاً من دينكم، فأنزل الله:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إلّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ) ( المائدة / ٥٩ )(١) .

٢٣ ـ إشراكهم بالله عزّ وجلّ:

إنّ العصبية العمياء ربّما تبلغ بالإنسان حدّاً ينكر ما كان يدين به هو وقومه طيلة قرون إنصرمت، فهؤلاء اليهود المعاصرون كانوا يفتخرون ويتمجّدون بدين التوحيد، وأنّهم ضحّوا في سبيله نفسهم ونفيسهم، ولكنّهم لـمّا رأوا أنّ النبيّ الأكرم يدعو إلى هذا المبدأ، ويتّخذ منه الحجر الأساس لدعوته، عادوا ينكرونه ويروّجون الشرك تشفّياً لغيظهم وحنقهم.

أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة من اليهود فقالوا له: يا محمد أما تعلم مع الله إله غيره ؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الله لا إله إلّا هو بذلك بعثت وإلى ذلك أدعوا »، فأنزل الله فيهم وفي قولهم:( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي

__________________

(١) السيرة الحلبية: ج ١ ص ٥٦٧، مجمع البيان: ج ٣ ص ٣٢٩ ( طبع بيروت ).

٢٧٢

بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام / ١٩ )(١) .

٢٤ ـ سؤالهم عن محين الساعة:

تعلّقت مشيئته الحكيمة بكتمان وقت الساعة، قال سبحانه:( إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ( لقمان / ٣٤ )، ومع ذلك جاء جماعة من اليهود قالوا: أخبرنا متى تقوم الساعة إن كنت نبيّاً، فنزل قوله سبحانه:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إلّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( الأعراف / ١٨٧ ).

ولم يكن هذا السؤال إلّا تعنّتاً وعناداً لأنّهم هم الذين ذكروا لقريش: إسألوا محمداً عن وقت الساعة فإن خوّل علمها إلى الله سبحانه فاعلموا أنّه نبي(٢) .

هذه نماذج من مناظراتهم ومشاغباتهم التي تنم عن مبلغ لجاجهم وعنادهم وممّا يصوّر لك طبيعتهم.

٢٥ ـ تهجّمهم على ذات الله عزّو جل:

أتى رهط من اليهود إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: يا محمّد هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله ؟ فغضب رسول الله حتّى انتقع لونه ثمّ ساورهم(٣) غضباً لربّه، فجاءه جبرئيلعليه‌السلام فسكّنه فقال: خفّض عليك يا محمد وجاءه عن الله بجواب ما سألوه عنه:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ *اللهُ الصَّمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٥٦٨.

(٢) قد ذكرنا تفصيل القصّة في ص ١٩٩ ـ ٢٠١.

(٣) ساورهم: واثبهم وباطشهم.

٢٧٣

فلمّا تلاها عليهم، قالوا: فصف لنا يا محمد كيف خلقه ( الله )، كيف ذراعه، كيف عضده ؟ فغضب رسول الله أشدّ من غضبه الأوّل وساورهم، فأتى جبرئيل فقال له مثل ما قال له أوّل مرّة، وجاءه من الله تعالى بجواب ما سألوه يقول الله تعالى:( وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الزمر / ٦٧ ).

٢٦ ـ طلبهم كتاباً من السماء:

إنّ اليهود كانت جاهلة بحكمة نزول القرآن تدريجيّاً وقد ورد النص بها في غير واحد من الآيات، قال سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) ( الفرقان / ٣٢ ).

إنّ في نزول القرآن تدريجيّاً منجّماً حسب الوقائع والأحداث لدلالة واضحة على أنّه وحي إلهي ينزل شيئاً فشيئاً حسب الحاجات وليس شيئاً متعلّماً عن ذي قبل من إنس أو جن، ولكن جهل اليهود بحكمته دعاهم إلى أن يطلبوا عن رسول الله نزول القرآن جملة واحدة من السماء حتّى يروا باُمّ أعينهم أنّه كتاب سماوي اُنزل من عند الله سبحانه وهم يضاهئون في هذا الإقتراح قول المشركين في مكّة(١) .

أتى جماعة من اليهود رسول الله، فقالوا: يا محمد ! إنّ هذا الذي جئت به لحقّ من عند الله فإنّا لا نراه متّسقاً كما تتّسق التوراة ؟ فقال لهم رسول الله: أما والله لأنّكم لتعرفون أنّه من عند الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة ولو إجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله ما جاءوا به، فقالوا: يا محمّد أما يعلّمك هذا إنس ولا جن ؟ فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أما والله إنّكم تعلمون أنّه من عند الله وإنّي لرسول الله تجدون ذلك مكتوباً عندكم في التوراة، فقالوا: يا محمد فإنّ الله يصنع لرسول إذا بعثه ما يشاء ويقدر منه على ما أراد، فأنزل علينا كتاباً من السماء

__________________

(١) الإسراء / ٩٣، وقد مضى تفسيرها.

٢٧٤

نقرؤه ونعرفه وإلّا جئناك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله تعالى فيهم وفيما قالوا:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء / ٨٨ ).

٢٧ ـ تحويل القبلة إلى الكعبة:

كان النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي إلى بيت المقدس في المدينة المنوّرة إلى سبعة عشر شهراً(١) من الهجرة، وكانت اليهود تعيّر المسلمين على تبعيّة قبلتهم ويتفاخرون بذلك عليهم، فحزن رسول الله ذلك فخرج في سواد الليل يقلّب وجهه في السماء ينتظر الوحي من الله سبحانه وكشف همّه، فنزل الوحي بقبلة جديدة، فقطع تعييرهم وتفاخرهم، قال سبحانه:( قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) ( البقرة / ١٤٤ ).

وروى الصدوق أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة وتسعة عشر شهراً بالمدينة ثمّ عيّرته اليهود، فقالوا: إنّك تابع قبلتنا فاغتمّ لذلك غمّا شديداً، فلمّا كان في بعض الليل خرج يقلّب وجهه في آفاق السماء فلمّا أصبح صلّى الغداة فلمّا صلّى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له:( قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ ) ثمّ أخذ بيد النبي فحوّل وجهه إلى الكعبة وحوّل من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال، فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة، فبلغ الخبر مسجداً بالمدينة وقد صلّى أهله من العصر ركعتين فحوّلوا نحو القبلة، فكان أوّل صلاتهم إلى بيت المقدس، وآخرها إلى الكعبة فسمّي

__________________

(١) وفي رواية الفقية كما سيوافيك تسعة عشر شهراً.

٢٧٥

ذلك المسجد مسجد القبلتين(١) .

وقد أثار هذا الأمر أسئلة واعتراضات من جانب اليهود بل المؤمنين أنفسهم وجاء الذكر الحكيم مجيباً عنها بما يلي:

١ ـ أتى جماعة من اليهود مثل رفاعة بن قيس وكعب بن الأشرف وغيرهما فقالوا: يا محمد ما ولّاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنّك على ملّة إبراهيم ودينه إرجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتّبعك ونصدّقك. وإنّما يريدون بذلك فتنته عن دينه، وهذا هو الإعتراض الذي يتناوله الوحي مشفوعاً بالجواب:( سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ) وبعبارة اُخرى إنّ التحوّل كان بأمر من الله فكيف يأمر به مع أنّه هو الذي جعل بيت المقدس قبلة فكيف ينقض حكمه وينسخ ما شرعه ( واليهود من القائلين بامتناع النسخ ) وإن كان بغير أمر الله فهو إنحراف عن الصراط المستقيم.

وأمّا الجواب فهو إنّ جعل بيت من البيوت أو بناء من الأبنية قبلة ليس لاقتضاء ذاتي فيه يستحيل التعدّي عنه، بل جميع الأجسام والأبنية بل جميع الجهات من الشرق والغرب إليه سبحانه على السواء يحكم فيها ما يشاء وكيف يشاء ومتى شاء، وانّ الإعتراض نابع من قلّة عقلهم أو عدم إستقامته في درك حقيقة التشريع.

وإلى هذا الجواب يشير قوله سبحانه:( قُل للهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( البقرة / ١٤٢ ).

٢ ـ لـمّا كان المقدّر أن تكون الكعبة هي القبلة الأخيرة فما هو السبب في جعل بيت المقدس قبلة اُولى للمسلمين ؟

والجواب: إنّ المصالح كانت تقتضي أن يصلّي المسلمون إلى القبلة الاُولى في مكّة والمدينة في أوائل البعثة وأوائل الهجرة وذلك لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في مكّة المكرمة وبعد الهجرة بقليل كان مبتلى بالمشركين الذين

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه: ج ١ ص ١٧٨ ج ٣.

٢٧٦

لا يصلّون لله سبحانه ولا يعبدونه وإنّما يعبدون الأوثان والأصنام، فعندئذٍ أمر النبي بالصلاة إلى بيت المقدس ( الذي كان الموحّدون من اليهود والنصارى يصلّون إليه ) حتّى يتميّز الموحّدون عن المشركين ويكون ذلك سمة التوحيد وعلامته، فكانت الصلاة إلى بيت المقدس وسيلة لتميّز الموّحدين عن المشركين.

ولـمّا كانت العرب شديدة الاُلفة بمكّة وقبلتها فأحبّ الله تعالى أن يمتحن القوم بغير ما ألفوا ليميّز من يتّبع الرسول عمّن ينقلب على عقبيه.

ولأجل هذين الوجهين ( تميّز الموحّدون عن المشركين وامتحان من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه من العرب الآلفة بمكّة وقبلتها ) أمر المسلمون بالصّلاة إلى بيت المقدس مؤقّتاً وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إلّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ) ( البقرة / ١٤٣ ).

ولعلّ قوله:( لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ) إشارة إلى الوجه الأوّل.

كما أنّ قوله:( وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ) إشارة إلى الوجه الثاني وهو اختبار من يخالف العادة والاُلفة لأجل إمتثال أمر الرسول، فإنّ مخالفة العادات والتقاليد كبيرة إلّا على الذين هدى الله.

والحاصل إنّ جعل بيت المقدس قبلة لأجل تمحيص المؤمنين من غيرهم وتميّز المطيعين من العاصين والمنقادين من المتمرّدين.

وأمّا العدول عن بيت المقدس إلى الكعبة فقد عرفت أنّه ليس لمكان أو بيتٍ شرفٌ ذاتي بل الحكم يدور مدار المصلحة، فصارت المصالح مقتضية بأن يتميّز المسلمون من اليهود بتفكيك قبلتهم التي كانوا يصلّون إليها عن قبلة اليهود، ويميّز المنافق المتظاهر بالإسلام من اليهود عن المؤمن المنقاد الواقعي، ولأجل ذلك حوّلت القبلة إلى الكعبة.

٣ ـ ما حكم الصلوات التي كان المسلمون قد أدّوها إلى بيت المقدس ؟

٢٧٧

والجواب: إنّ القبلة قبلة ما لم تنسخ وإنّ الله سبحانه إذا نسخ حكماً نسخه من حين النسخ لا من أصله لرأفته ورحمته بالمؤمنين، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / ١٤٣ ).

وأمّا الإقتراح الذي تقدّمت به اليهود إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من رجوعه إلى القبلة السابقة حتّى يتّبعوه ويصدّقوه فإنّما هو وعد مكذوب لا يتّبعون قبلته إلى آخر الدهر، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) ( البقرة / ١٤٥ ).

والمراد من الإيمان في الآية في قوله:( مَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) هو العمل. قال ابن عباس: قالوا كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك ؟ وكان قد مات أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وكانا من النقباء.

وبذلك يعلم أنّ ما ذكره سبحانه قبل هذه الآيات من قصّة إبراهيم وأنواع كرامته وكرامة ابنه إسماعيل ودعوتهما للكعبة ومكّة وللنبيّ والاُمّة المسلمة وبنائهما البيت والأمر بتطهيره للعبادة، كل ذلك تمهيد لحادثة تغيير القبلة واتّخاذ الكعبة قبلة، فإنّ تحويل القبلة من أعظم الحوادث الدينية وأهم التشريعات التي قوبل بها الناس بعد هجرة النبيّ إلى المدينة. فكانت محتاجة إلى ترويض النفوس لقبولها.

٢٨ ـ مباهلة النبيّ نصارى نجران:(١)

لـمـّا كتب رسول الله إلى ملوك العرب والعجم رسائلة التبليغية وبعث رسله إلى

__________________

(١) نجران في مخاليف اليمن من ناحية مكّة، وبها كان خبر الأخدود واليها تنسب كعبة نجران، وكانت بيعة، بها أساقفة مقيمون منهم السيّد والعاقب اللّذان جاءا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في أصحابها ودعاهم إلى المباهلة وبقوا بها حتّى أجلاهم عمر. وقال زيني دحلان:

٢٧٨

الأقوام والقبائل، أرسل عتبة بن غزوان، وعبد الله بن أبي اُميّة وصهيب بن سنان إلى نجران ونواحيه وكتب معهم(١) إلى أساقفة نجران يدعوهم إلى رفض الأقانيم والأنداد والتزام التوحيد وعبادة الله تعالى، وها نحن نسوق إليك نصّ كتابه:

« بسم إله إبراهيم واسحاق ويعقوب، من محمّد النبيّ رسول الله إلى أسقف نجران، فإنّي أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أمّا بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، وإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم آذنتكم بحرب »(٢) .

ولـمـّا قرأ الأسقف الكتاب فزع وارتاع وشاور أهل الحجى والرأي منهم، فقال شرحبيل وكان ذا لبّ ورأي بنجران: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذريّة إسماعيل من النبوّة فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل ؟ وليس لي في النبوّة رأي لو كان أمر من اُمور الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك.

فبعث الأسقف إلى واحد من بعد واحد من أهل نجران فتشاوروا فكثر اللغط وطال الحوار، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا وفداً يأتي رسول الله فيرجع بخبره.

فأوفدوا إليه ستّين راكباً وفيهم ثلاثة عشر رجلاً من أشرافهم وذوو الرأي والحجى منهم وثلاثة يتولّون أمرهم: العاقب إسمه عبد المسيح، أمير الوفد الذي لا يصدرون إلّا عن رأيه، والسيّد وإسمه الأيهم وهو ثمالهم وصاحب رحلهم، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم الأوّل وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم وهو

__________________

نجران بلدة كبيرة واسعة على سبع مراحل من مكّة إلى جهة اليمن تشتمل على ثلاث وسبعين قرية.

مراصد الإطلاع في معرفة الأمكنة والبقاع، مادة ( نجران ).

(١) وكان بخط الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام راجع: صبح الاعشى: ج ١ ص ٦٥ ( طبع بيروت ).

(٢) تاريخ اليعقوبي: ج ٢ ص ٦٥، دلائل النبوّة: ج ٥ ص ٣٨٥، البداية والنهاية: ج ٥ ص ٥٣.

٢٧٩

الأسقف الأعظم(١) .

فجاءوا إلى النبي حتّى دخلوا على رسول الله وقت العصر، فدخلوا المسجد وعليهم ثياب الحبرات(٢) وأردية الحرير مختمين بخواتيم الذهب وأظهروا الصليب وأتوا رسول الله فسلّموا عليه، فلم يرد: ولم يكلّمهم، فانطلقوا يبتغون عثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف وكان لهما معرفة بهم فوجدوهما في مجلس من المهاجرين، فقالوا: إنّ نبيّكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه وسلّمنا عليه فلم يردّ سلامنا ولم يكلّمنا. فما الرأي ؟

فقالا لعليّ بن أبي طالب: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ قال: أرى أن يضعوا حللهم هذه، وخواتيمهم ثمّ يعودون إليه، ففعلوا ذلك، فسلّموا فردّ عليهم سلامهم، ثمّ قال: والّذي بعثني بالحق لقد آتيتموني المرّة الاُولى وإنّ إبليس لمعكم(٣) .

وكانوا قد أتوا معهم بهديّة وهي بُسط إلى النبيّ فيها تماثيل ومسوح، فصار الناس ينظرون للتماثيل، فقال: أمّا هذه البسط فلا حاجة لي فيها، وأمّا هذه المسوح فإن تعطونيها آخذها، فقالوا: نعم نعطيكها، ولـمـّا رأى فقراء المسلمين ما عليه هؤلاء من الزينة والزيّ الحسن، تشوّقت نفوسهم، فنزل قوله سبحانه:

( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) ( آل عمران / ١٥ ).

ثمّ أرادوا أن يصلّوا بالمسجد بعد أن حانت وقت صلاتهم، وذلك بعد العصر فأراد الناس معهم، فقال النبي: دعوهم، فاستقبلوا المشرق فصلّوا صلاتهم فلمّا قضوا صلاتهم ناظروه.

__________________

(١) دلائل النبوّة: ج ٥ ص ٣٨٦، الدر المنثور: ج ٢ ص ٣٨، وتاريخ اليعقوبي: ج ٢ ص ٦٦.

(٢) ثوب من ثياب اليمن.

(٣) السيرة الحلبية: ج ٣ ص ٢٣٩.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581