مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن13%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265569 / تحميل: 6065
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الفصل الثالث :

توطئة في أهل البيتعليهم‌السلام وفضائلهم

مقدمة الفصل :

نبدأ الفصل ببحث قيّم حول معنى (أهل البيت) والألفاظ المختلفة التي تطلق عليهم ، مثل : آل الرسول ـ عترة النبي ـ ذوو القربى. فهم بالمعنى الضيّق الخمسة أصحاب الكساء. وبالمعنى الموسّع المعصومون الأربعة عشر ؛ وهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاطمة والأئمة الاثنا عشرعليهم‌السلام . وبالمعنى الأوسع كل أقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعشيرته الذين حرموا الصدقة من بعده.

ويلجئنا هذا إلى الحديث حول ثبوت إمامة الأئمة الاثني عشر من أهل البيتعليهم‌السلام الذين أولهم عليعليه‌السلام وآخرهم المهديعليه‌السلام .

وبعد هذه المقدمة نشرع في ذكر فضائل أهل البيتعليهم‌السلام مبتدئين بالإمام عليعليه‌السلام وزوجته فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، ثم بفضائل الخمسة أصحاب الكساءعليهم‌السلام والذين من ضمنهم الفرقدان الحسن والحسينعليهما‌السلام ، ثم بفضائل الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام . ومن أبرز هذه الفضائل توصية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمحبة أهل البيتعليهم‌السلام ومودتهم وموالاتهم ونصرتهم والمحافظة عليهم. والفرق بين المحبة والمودة ، أن المحبة شيء قلبي ، بينما المودة فشيء تطبيقي ، يقول تعالى على لسان نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) [الشورى : ٢٣].

١ ـ من هم أهل البيتعليهم‌السلام ؟

٣١ ـ من هم أهل البيتعليهم‌السلام ؟ :

نستخدم عبارة (أهل البيت) كثيرا في كتاباتنا وخطبنا. كما نطلق عبارات أخرى على أهل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل (آل الرسول)و (عترة النبي).

و (ذوي القربى). فلنحدد مدلول هذه العبارات والمصطلحات ، التي يحتلّ الحسينعليه‌السلام ذروة سنام المجد منها.

١٢١

ولم أجد لهذه الغاية أفضل من فضل عقده محبّ أهل البيتعليهم‌السلام كمال الدين محمّد بن طلحة الشافعي في أول كتابه :

(مطالب السّؤول في مناقب آل الرسول)

هذا الكتاب الّذي فتّشت عنه كثيرا حتّى وجدت نسخة حجرية منه في مكتبة الأسد ، مطبوعة في ذيل كتاب لسبط ابن الجوزي هو :

(تذكرة خواص الأمة في معرفة الأئمة)

وهي طبعة حجرية قديمة طبعت في إيران سنة ١٢٨٧ ه‍.

يقول ابن طلحة الشافعي في سبب تأليفه لكتابه الجليل (مطالب السّؤول) : كنت في شبابي ألّفت كتابا باسم (زبدة المقال في فضائل الآل) ثم وسّعته وألّفت كتاب (مطالب السّؤول في مناقب آل الرسول).

وفي مقدمة الكتاب (ص ٣ ـ ٥) يقولرحمه‌الله :

هناك أربعة ألفاظ يوصف بها (أهل النبي) وتطلق عليهم ، هي :

١ ـ آل الرسول

٢ ـ أهل البيت

٣ ـ العترة

٤ ـ ذوو القربى.

ثم يشرع في شرح مضمون هذه الألفاظ ، فيقول :

٣٢ ـ من هم آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ :

قد تعددت أقوال الناس في تفسير (الآل). فذهب قوم إلى أن آل الشخص أهل بيته. وقال آخرون : إن آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم الذين حرّمت عليهم الزكاة ، وعوّضوا عنها خمس الخمس. وقال آخرون : آل الشخص من دان بدينه وتبعه فيه. فهذه الأقوال الثلاثة أشهر ما قيل.

واستدل من قال بالقول الأول بما أورده القاضي الحسين بن مسعود البغوي في كتابه الموسوم «بشرح سنة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأحاديث المتفق على صحتها «يرفعه بسنده إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : لقيني كعب بن عجرة فقال : ألا أهدي إليك هدية سمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟. فقلت : بلى ، فاهدها إليّ. فقال : سألنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلنا: يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟. قال : قولوا :«اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ؛

١٢٢

وبارك على محمّد وآل محمّد ، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم. إنك حميد مجيد». فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسّر أحدهما (أي الأهل والآل) بالآخر ، فالمفسّر والمفسّر به سواء في المعنى ، فقد بدّل لفظا بلفظ مع اتحاد المعنى ، فيكون آله أهل بيته ، وأهل بيته آله. فيتحدا به في المعنى على هذا القول. ويكشف حقيقة ذلك أن أصل (آل) أهل ، فأبدلت الهاء همزة. ويدل عليه أن الهاء ترد في التصغير ، فيقال في تصغير (آل) أهيل ، والتصغير يردّ الأسماء إلى أصولها.

واستدل من قال بالتفسير الثاني بما خرّجه الأئمة في أسانيدهم المتفق على صحتها : الإمام مسلم وأبو داود والنسائي ، يرفعه كل واحد منهم بسنده في صحيحه ، إلى عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث ، قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ ، وإنها لا تحلّ لمحمد ولا لآل محمّد. وبما نقل إمام دار الهجرة مالك بن أنس في موطئه بسنده إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا تحل الصدقة لآل محمّد ، إنما هي أوساخ الناس. فجعل حرمة الصدقات من خصائص آلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقد قيل لزيد بن أرقم : من آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين حرّمت عليهم الصدقات؟ قال : آل علي وآل جعفر وآل عباس وآل عقيل. وهذا التفسير قريب من الأول.

واستدل من قال بالتفسير الثالث بقوله تعالى :( إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ) (٥٩) [الحجر : ٥٩]. وأجمع المفسرون على أن المراد ب (آله) من آمن به وتبعه في دينه.

وإذا ظهر ما قيل في تفسير (الآل) ، فالمعاني كلها مجتمعة فيهمعليهم‌السلام :فهم أهل بيته ، وتحرم عليهم الزكاة ، وهم دائنون بدينه ومتّبعون منهاجه وسبيله ، فإطلاق اسم الآل عليهم حقيقة فيهم بالاتفاق.

٣٣ ـ من هم أهل البيتعليهم‌السلام ؟ :

وأما اللفظة الثانية وهي (أهل البيت) فقد قيل هم من ناسبه إلى جده الأدنى ، وقيل من اجتمع معه في رحم ، وقيل من اتصل به بنسب أو سبب.

وهذه المعاني كلها موجودة فيهمعليهم‌السلام . فإنهم يرجعون بنسبهم إلى جده عبد المطلب ، ويجتمعون معه في رحم ، ويتصلون به بنسبهم وسببهم ، فهم أهل بيته حقيقة. فالآل وأهل البيت سواء ، اتحد معناهما على ما شرح أولا ، واختلف على ما ذكر ثانيا ، فحقيقتهما ثابتة لهمعليهم‌السلام .

١٢٣

وقد روى مسلم في صحيحه بسنده عن زيد بن حيان ، قال : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم ، فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا ؛ رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه ، لقد لقيت خيرا كثيرا. حدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال :يابن أخي لقد كبر سني وقدم عهدي ، ونسيت بعض الّذي كنت أعي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما أحدثكم فاقبلوه وما لا فلا تكلّفونيه.

ثم قال : قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما خطيبا بماء يدعى (خما) بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وعظ وذكّر ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس إنما أنا بشر ، يوشك أن يأتيني رسول ربي (أي ملك الموت) فأجيب ، وأنا تارك فيكم الثّقلين :أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي.

فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ، أليس نساؤه بأهل بيته؟. قال : لا ، أهل بيته من حرموا الصدقة بعده.

٣٤ ـ من هم العترة؟ :

وأما اللفظة الثالثة وهي (العترة) ، فقد قيل : العترة هي العشيرة ، وقيل العترة هم الذرية ، وقد وجد الأمران فيهم ؛ فإنهم عترته وذريته. وأما العشيرة فالأهل الأدنون ، وهم كذلك. وأما الذرية ، فإن أولاد بنت الرجل ذريته. ويدل عليه قوله تعالى عن إبراهيمعليه‌السلام :( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤)وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (٨٥) [الأنعام : ٨٤ ـ ٨٥]. فجعل الله سبحانه وتعالى هؤلاء المذكورين ، من ذرية إبراهيم ، ومن جملتهم عيسىعليه‌السلام ، ولم يتصل بإبراهيم إلا من جهة أمه مريمعليها‌السلام .

قصة الشعبي مع الحجاج :

وقد نقل أن الشعبي كان يميل إلى عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان لا يذكرهم إلا ويقول : هم أبناء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذريته. فنقل ذلك عنه إلى الحجاج بن يوسف الثقفي وتكرر ذلك ، وكثر نقله عنه إليه ، فأغضبه ذلك منه ونقمه عليه.

فاستدعاه الحجاج يوما إلى مجلسه ، وقد اجتمع لديه أعيان المصرين الكوفة

١٢٤

والبصرة وعلماؤهما وقراؤهما. فلما دخل الشعبي عليه وسلّم ، فلم يبشّ به ، ولا وفّاه حقه من الرد عليه. فلما جلس قال له : يا شعبي ما أمر تبلّغني عنك يشهد عليك بجهلك؟. قال : ما هو يا أمير؟. قال : ألم تعلم أن أبناء الرجل من ينسبون إليه ، وأن الأنساب لا تكون إلا للآباء؟ فما بالك تقول عن أبناء علي أنهم أبناء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذريته ، وهل لهم اتصال برسول الله إلا بأمهم فاطمةعليها‌السلام ؟ ، والنسب لا يكون بالبنات ، وإنما يكون بالآباء. فأطرق الشعبي ساعة ، حتّى بالغ الحجاج في الإنكار عليه ، وقرّع إنكاره مسامع الحاضرين ، والشعبي ساكت.

فلما رأى الحجاج سكوته أطمعه ذلك في زيادة تعنيفه. فرفع الشعبي صوته وقال : يا أمير ، ما أراك إلا متكلما كلام من يجهل كتاب الله وسنة رسوله ، ومن يعرض عنهما. فازداد الحجاج غيظا منه ، وقال : ألمثلي تقول هذا ، يا ويلك!. قال الشعبي : نعم ، هؤلاء قرّاء المصرين حملة الكتاب العزيز ، فكلّ منهم يعلم ما أقول.أليس قد قال الله تعالى حين خاطب عباده بأجمعهم بقوله( يا بَنِي آدَمَ ) [وقال( يا بَنِي إِسْرائِيلَ ) [المائدة : ٧٢]. وقال عن إبراهيم :( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ) [الأنعام : ٨٤] إلى أن قال :( وَيَحْيى وَعِيسى ) [الأنعام : ٨٥] أفترى يا حجاج اتصال عيسى بآدم وباسرائيل الله.

(أي يعقوب) وبإبراهيم خليل الله ، بأي آبائه كان؟. أو بأي أجداد أبيه؟ هل كان إلا بأمه مريمعليها‌السلام . وقد صحّ النقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال للحسن : «إنّ ابني هذا سيّد ...».

فلما سمع الحجاج ذلك منه أطرق خجلا. ثم عاد يلطف بالشعبي ، واشتدّ حياؤه من الحاضرين.

وإذا وضح ذلك ، فالعترة الطاهرة هم ذريتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبناؤه وعشيرته ، فقد اجتمعت فيهم المعاني بأسرها.

٣٥ ـ من هم ذوو القربى؟ :

وأما اللفظة الرابعة وهي (ذوو القربى) فمستندها ما رواه الإمام أبو الحسن علي ابن أحمد الواحدي في تفسيره ، يرفعه بسنده إلى ابن عباس ، قال :

لما نزل قوله تعالى :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) [الشورى : ٢٣] قالوا :يا رسول الله ، من هؤلاء الذين أمرنا الله تعالى بمودتهم؟. قال : علي وفاطمة وأبناؤهماعليهم‌السلام .

١٢٥

٢ ـ أهل البيتعليهم‌السلام هم الأئمة الاثنا عشر

ثم يخصص ابن طلحة الشافعي القسم الثاني من مقدمته الرائقة (ص ٥) لذكر المعاني التي ذكر اختصاصهم بها ، وهي الإمامة الثابتة لكل واحد منهم ، وكون عددهم منحصرا في اثني عشر إماما.

٣٦ ـ ثبوت الإمامة لأئمة أهل البيتعليهم‌السلام :

يقول ابن طلحة الشافعي في (مطالب السّؤول) ص ٥ :

أما ثبوت الإمامة لكل واحد منهم ، فإنه حصل ذلك لكل واحد بمن قبله.فحصلت للحسن النقي من أبيه علي بن أبي طالبعليه‌السلام . وحصلت بعده لأخيه الحسين الزكي منهعليه‌السلام . وحصلت بعد الحسين لابنه زين العابدين منهعليه‌السلام .وحصلت بعد زين العابدين لولده محمّد الباقر منهعليه‌السلام . وحصلت بعد الباقر لولده جعفر الصادق منهعليه‌السلام . وحصلت بعد الصادق لولده موسى الكاظم منهعليه‌السلام .وحصلت بعد الكاظم لولده علي الرضا منهعليه‌السلام . وحصلت بعد الرضا لولده محمّد القانع منهعليه‌السلام . وحصلت بعد القانع لولده علي المتوكل منهعليه‌السلام .وحصلت بعد المتوكل لولده الحسن الخالص منهعليه‌السلام . وحصلت بعد الخالص لولده محمّد الحجة المهدي منهعليه‌السلام .

وأما ثبوتها لأمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام فمستقصى على أكمل الوجوه في كتب الأصول. انتهى كلامه.

٣٧ ـ الخلفاء بعدي اثنا عشر :

(شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي)

أخرج ابن حنبل في مسنده عن جابر بن سمرة ، قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في حجة الوداع : لا يزال هذا الدين ظاهرا على من ناواه ، ولا يضرّه مخالف ولا مطارق ، حتّى يمضي من أمتي اثنا عشر أميرا كلهم من قريش.

وذكر القندوزي الحنفي في (ينابيع المودة) باب ٧٧ ، عن كتاب (مودة القربى) بسنده عن جابر بن سمرة ، قال : كنت مع أبي عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «بعدي اثنا عشر خليفة». ثم أخفى صوته. فقلت لأبي : ما الّذي أخفى صوته؟.(قال) قال :«كلهم من بني هاشم».

١٢٦

وروى أيضا في ينابيعه عن جابر (قال) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا سيد النبيين ، وعليّ سيد الوصيين ، وإن أوصيائي بعدي اثنا عشر ، أولهم علي وآخرهم المهدي».

٣٨ ـ من هم الاثنا عشر خليفة غير أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ؟ :

(شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي)

وروي عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود ، أنه عهد إلينا نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه يكون بعده اثنا عشر خليفة ، بعدد نقباء بني إسرائيل.

وقال القندوزي في (ينابيع المودة) أيضا : ذكر يحيى بن الحسن في كتاب

(العمدة) من عشرين طريقا ، أن الخلفاء بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ؛ في البخاري من ثلاثة طرق ، وفي مسلم من تسعة طرق ، وفي أبي داود من ثلاثة طرق

ثم قال : ذكر بعض المحققين أن الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثنا عشر ، قد اشتهرت من طرق كثيرة. فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان ، علم أن مراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حديثه هذا ، الاثنا عشر من أهل بيته وعترته ، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلتهم عن اثني عشر ، ولا يمكن حمله على الملوك الأموية لزيادتهم على اثني عشر ، ولظلمهم الفاحش إلا عمر بن عبد العزيز ، ولكونهم غير بني هاشم ، لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «كلهم من بني هاشم». وفي رواية عبد الملك عن جابر ، وإخفاء صوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا القول ، يرجّح هذه الرواية ، لأنهم لا يحبون خلافة بني هاشم. ولا يمكن أن يحمله على الملوك العباسية لزيادتهم عن العدد المذكور ، ولقلة رعايتهم للقربى.

٣٩ ـ إمامة أهل البيتعليهم‌السلام منصوصة في كتب السنّة :

(أسرار الشهادة للفاضل الدربندي ، ص ٢٩)

يقول الفاضل الدربندي : فيا ليتهم قد تأملوا في الأخبار المتكاثرة المتضافرة المتواترة المفيدة القطع واليقين ، والمروية عن طرقهم عن سيد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في باب أن الخلفاء والأئمة من قريش ، بعد تأملهم في قصة يوم الطف ، وما جرى على آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يزيد الطاغي الكافر الزنديق وجنوده. فلو كانوا متأملين في ذلك لعلموا أن إمامة أهل بيت العصمة آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منصوصة في طرقهم ، بالنصوص المتضافرة المتواترة. فإنكار قطعيات الشرع وضرورياته كفر ، وحمل

١٢٧

ما في تلك الأخبار المتضافرة على غير آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفر وجهل ، واستيقنتها أنفسهم ، وعتوا عتوّا كبيرا.

وبيان ذلك أنه قد روى البخاري ومسلم والترمذي والنّسائي وابن ماجة وابو داود والسجستاني في صحاحهم الستة ، ومالك في موطّئه ، وصاحب المصابيح ، وصاحب المشكاة ، وصاحب كتاب الفردوس ، وأحمد بن حنبل في مسنده ، والفقيه ابن المغازلي في مناقبه ، والحافظ أبو نعيم في حليته ، وغيرهم من حذقة الحديث من العامة ، بأسانيدهم المصححة عندهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن الخلفاء والأئمة بعده اثنا عشر ، لا يزال الدين بهم مستقيما إلى أن تقوم الساعة.

ففي صحيح مسلم مسندا إلى عامر بن سعيد بن أبي العاص ، قال : كتبت إلى ابن سمرة مع غلامي نافع أن أخبرني بشيء سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فكتب إليّ :سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم جمعة ـ عشية رجم الأسلمي ـ يقول : «لا يزال هذا الدين قائما حتّى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة».

وفي (مصباح البغوي) عن الصحاح عن جابر بن سمرة ، قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة ، كلهم من قريش».

وأورد شيخ العامة جلال الدين السيوطي في (جامعه الصغير) في حرف الهمزة :إن عدة الخلفاء بعدي عدد نقباء موسىعليه‌السلام .

ثم يقول الفاضل الدربندي : ولا يخفى عليك أن علماء العامة لا بدّ أن يتدبروا ويتبصروا ويعطوا الإنصاف من أنفسهم. لأنهم لو حملوا هذه الأخبار المتضافرة على ما عندهم ، من كون أول السلسلة في باب الخلافة والإمامة ، الخلفاء الأربعة وهكذا ، لزم أن يكون يزيد الطاغي الكافر الزنديق هو سابع الخلفاء عندهم والأئمة المنصوصين بنصّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فأي مسلم يرضى من نفسه أن ينسب أبغض خلق الله تعالى إلى الله وملائكته ورسله ، وأكفر الناس وأشرّهم ، إلى كونه منصوصا بالخلافة والإمامة ، متّصفا بالأوصاف الحسنة الموجودة في هذه الأخبار.

إذن فما عليه العامة من حمل هذه الأخبار ، لا يمكن أن يستصحّ بوجه من الوجوه. فإذا وجب بحكم الضرورة العقلية طرح هذا الحمل ، لزم حملها على ما عليها الإمامية الاثني عشرية ، مما قد استفاضت به كتب العامة.

١٢٨

٤٠ ـ الأئمة هم أهل البيتعليهم‌السلام :

(المصدر السابق)

ثم يقول الفاضل الدربندي : ومن أعجب العجاب غفلتهم وذهولهم وطيّهم الكشح عن الأخبار المستفيضة في طرقهم ، المفسرة لهذه الأخبار ، المذكورة بغاية التفسير والبيان.

فقد روى فخر خوارزم في مقتله بإسناده (قال) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«فاطمة بهجة قلبي ، وابناها ثمرة فؤادي ، وبعلها نور بصري ، والأئمة من ولدها أمناء ربي ؛ حبل ممدود بينه وبين خلقه ، من اعتصم به نجا ، ومن تخلفّ عنه هوى».

٤١ ـ رواية حذيفة بن اليمان :

(المصدر السابق)

ومن رواية حذيفة بن اليمان ، قال : صلى بنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم أقبل بوجهه الكريم علينا ، فقال : معاشر أصحابي أوصيكم بتقوى الله كأني أدعى فأجيب ، وإني تارك فيكم الثّقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ، من تمسّك بعترتي بعدي كان من الفائزين ، ومن تخلّف عنهم كان من الهالكين.

فقلت : يا رسول الله على من تخلّفنا؟. قال : على من خلّف موسى بن عمران قومه. قلت : على وصيّه يوشع؟. قال : وصيي وخليفتي من بعدي علي ابن أبي طالب ، قائد البررة ، قاتل الكفرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله.

قلت : يا رسول الله ، كم تكون الأئمة من بعدك؟. قال : عدد نقباء بني إسرائيل (أي اثنا عشر) ، التسعة من صلب الحسينعليه‌السلام ، أعطاهم الله تعالى علمي وفهمي ، خزّان علم الله ومعادن وحيه. قلت : يا رسول الله ، فما لأولاد الحسن؟قال : إن الله تبارك وتعالى جعل الإمامة في عقب الحسينعليه‌السلام وذلك قولهعزوجل :( وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) [الزخرف : ٢٨].

٤٢ ـ رواية سلمان الفارسي :

(المصدر السابق ، ص ٣٠)

ومن رواية سلمان الفارسي ، قال : خطبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : معاشر الناس ،

١٢٩

إني راحل عن قريب ، ومنطلق إلى الغيب. أوصيكم في عترتي خيرا ، وإياكم والبدع ، فإن كل بدعة ضلالة ، والضلالة وأهلها في النار.

معاشر الناس ، من افتقد الشمس فليتمسّك بالقمر ، ومن افتقد القمر فليتمسك بالفرقدين ، فإذا فقدتم الفرقدين فتمسّكوا بالنجوم الزّهر بعدي.

قال : فلم يزل حتّى دخل بيت عائشة ، فدخلت إليه. فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، سمعتك تقول : إذا فقدتم الشمس فتمسكوا بالقمر فما الشمس وما القمر ، وما الفرقدان ، وما النجوم الزهر؟. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا الشمس ، وعلي القمر ، فإذا فقدتموني فتمسّكوا به بعدي. وأما الفرقدان فالحسن والحسينعليهما‌السلام ، فإذا فقدتم القمر فتمسكوا بهما. وأما النجوم الزاهرة فهم الأئمة التسعة من صلب الحسينعليه‌السلام والتاسع مهديّهم.

ثم يقول الفاضل الدربندي : وبالجملة فإن روايات التنصيص على الأئمة الاثنا عشر وتسميتهم بأسمائهم ، وذكر أن أولهم عليعليه‌السلام وآخرهم المهدي (عج) يصلي خلفه المسيح بن مريمعليه‌السلام ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متواترة. وحديث جابر ابن عبد الله الأنصاري في ذلك مستفيض مشهور ، وكذلك غيره من الأحاديث.

(أقول) : وإليك رواية أخرى ، ذكرها الخوارزمي في مقتله ، فيها شفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين.

٤٣ ـ رؤية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام حين أسري به :

(مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي ، ج ١ ص ٩٤)

ذكر ابن شاذان عن أبي سلمى ، قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ليلة أسري بي إلى السماء ، قال لي الجليل جلّ وعلا :( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ) ، قلت :( وَالْمُؤْمِنُونَ ) [البقرة : ٢٨٥]. قال : صدقت يا محمّد. ومن خلّفت في أمّتك؟. قلت : خيرها. قال : علي بن أبي طالب؟. قلت : نعم يا ربّ.

قال : يا محمّد ، إني اطّلعت إلى الأرض اطّلاعة فاخترتك منها ، فشققت لك اسما من أسمائي ، فلا أذكر في موضع إلا ذكرت معي ، فأنا المحمود وأنت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ثم اطّلعت الثانية فاخترت عليا ، وشققت له اسما من أسمائي ، فأنا الأعلى وهو عليعليه‌السلام . يا محمّد ، إني خلقتك وخلقت عليا وفاطمة والحسن

١٣٠

والحسين والأئمة من ولدهعليهم‌السلام من سنخ نور من نوري ، وعرضت ولايتكم على أهل الأرض ، فمن قبلها كان عندي من المؤمنين ، ومن جحدها كان عندي من الكافرين. يا محمّد ، لو أن عبدا من عبيدي عبدني حتّى ينقطع أو يصير كالشّنّ (أي الجلد اليابس المتجعد) البالي ، ثم أتاني جاحدا لولايتكم ، ما غفرت له حتّى يقرّ بولايتكم.

يا محمّد أتريد أن تراهم؟. قلت : نعم يا رب. فقال لي : التفت عن يمين العرش ، فالتفتّ فإذا أنا بعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام وعلي بن الحسين (زين العابدين) ومحمد بن علي (الباقر) وجعفر بن محمّد (الصادق) وموسى بن جعفر (الكاظم) وعلي بن موسى (الرضا) ومحمد بن علي (الجواد) وعلي بن محمّد (الهادي) والحسن بن علي (العسكري) والمهديعليهم‌السلام ، في ضحضاح من نور ، قياما يصلّون ، وهو وسطهم (يعني المهدي) كأنه كوكب درّي. قال : يا محمّد هؤلاء الحجج ، وهو الثائر من عترتك. وعزتي وجلالي إنه الحجة الواجبة لأوليائي ، والمنتقم من أعدائي.

٤٤ ـ الإمام عليعليه‌السلام يؤكد كون الأئمة من بني هاشم :

وجاء عليعليه‌السلام يفسر حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويوضح إبهامه في نهج البلاغة ، فقال : إن الأئمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم (نهج البلاغة ، الخطبة ١٤٢).

٤٥ ـ الإنجيل يتنبّأ بالأئمة الاثني عشر :

جاء في الإصحاح الحادي عشر عن تنبؤات يوحنا اللاهوتي ما نصه :

«وظهرت آية عظيمة في السماء ، امرأة متسربلة بالشمس ، وتحت رجليها القمر ، وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكبا».

فكأنه يتكلم عن مولاتنا فاطمة الزهراءعليها‌السلام وقد تسربلت بالشمس يعني أبيها محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتزوجت بالقمر وهو علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وعلى رأسها إكليل من أبنائها المعصومين الاثني عشر ، الذين أولهم الحسن والحسين وآخرهم المهديعليه‌السلام . وليس هناك فيما تنبّأ به يوحنا اللاهوتي فيما سيحصل من أمور ، شيء شبيه بالذي ذكر ، غير فاطمة وأبيها وبعلها وبنيهاعليهم‌السلام .

١٣١

٤٦ ـ الحجة المهديعليه‌السلام هو الإمام الثاني عشر :

(إسعاف الراغبين للشيخ محمّد الصبان ، ص ١٤١)

قال الشيخ محمّد الصبان : يكون ظهور المهديعليه‌السلام في يوم عاشوراء. وقال سيدي عبد الوهاب الشعراني في كتابه (اليواقيت والجواهر) : المهديعليه‌السلام من ولد الإمام الحسن العسكري ، ومولده ليلة النصف من شعبان سنة ٢٥٥ ه‍ ، وهو باق إلى أن يجتمع بعيسى بن مريمعليه‌السلام .

وقال الشيخ محيي الدين بن العربي في (الفتوحات المكية) : اعلموا أنه لا بدّ من خروج المهديعليه‌السلام ، لكن لا يخرج حتّى تمتلئ الأرض جورا وظلما ، فيملؤها قسطا وعدلا. وهو من عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ولد فاطمةعليها‌السلام ، جده الحسين بن عليعليهم‌السلام ووالده الإمام حسن العسكري ابن الإمام علي النقي ، ابن الإمام محمّد التقي ، ابن الإمام علي الرضا ، ابن الإمام جعفر الصادق يواطئ اسمه اسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . يبايعه المسلمون بين الركن والمقام ، يشبه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخلق ، وينزل عنه في الخلق ، إذ لا يكون أحد مثل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أخلاقه.

٣ ـ أهل البيتعليهم‌السلام هم الخمسة أصحاب الكساء

٤٧ ـ من هم أهل البيتعليهم‌السلام المقصودون في آية التطهير؟ :

(نور الأبصار للشبلنجي ، ص ١١٠)

يقول الشيخ مؤمن الشبلنجي : اختلف في المراد من (أهل البيت) فقيل :

١) ـ هم نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنهن في بيته.

٢) ـ هم علي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام .

٣) ـ هم من تحرم عليهم الصدقة بعده ، وهم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس.

وقال الفخر الرازي : والأولى أن يقال : هم أولاده وأزواجه ، والحسن والحسين. وعليعليهم‌السلام منهم ، لأنه كان من أهل بيته ، لمعاشرته فاطمة بنته وملازمته له.

١٣٢

تعليق المؤلف :

إن تعبير (أهل البيت) كما شرحنا سابقا يطلق على عدة أشياء ، فيقصد به الخمسة الذين ضمهم الكساء ، وقد يقصد به الأئمة الاثنا عشر ، وقد يقصد به ذرية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم السادة الأشراف. وقد يقصد به نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . لكن إذا كنا نبحث بالمقصود بهم في آية التطهير ، وهي قوله تعالى :

( يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣٣) [الأحزاب : ٣٣] فهم حصرا الخمسة أصحاب الكساء ، الذين نزلت فيهم الآية على وجه الخصوص كما سترى. أما الزوجات فهن مختلفات في الفضل فيما بينهن ، لكنهن لا يرقين إلى درجة هؤلاء الخمسة الذين طهّرهم الله وعصمهم من كل رجس ، منذ ولادتهم وحتى وفاتهم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ثم يقول الشبلنجي : هذا ويشهد للقول بأن (أهل البيت) هم علي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام عدة آيات ودلالات ، منها : حديث الكساء ، وآية المباهلة ، وآية المودة.

٤٨ ـ حديث الكساء :

(نور الأبصار للشبلنجي ، ص ١١١)

ثم يقول الشبلنجي : وروي من طرق عديدة صحيحة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء ومعه علي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، ثم أخذ كلّ واحد منهما على فخذه ، ثم لفّ عليهم كساء ، ثم تلا هذه الآية :

( يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣٣) وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

(وفي رواية) : الله م هؤلاء آل محمّد ، فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمّد ، كما جعلتها على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد.

١٣٣

(وفي رواية أم سلمة) قالت : فرفعت الكساء لأدخل معهم ، فجذبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يدي. فقلت : وأنا معكم يا رسول الله. فقال : إنك من أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خير.

وروى أحمد بن حنبل والطبراني عن أبي سعيد الخدري (قال) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنزلت هذه الآية في خمسة : فيّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمةعليهم‌السلام .

وروى سبط ابن الجوزي الحنفي المذهب في كتابه (تذكرة الخواص ، ص ٦٥٤ ط نجف) حديث الكساء بسنده عن واثلة بن الأسقع قال : أتيت فاطمة أسألها عن عليعليه‌السلام فقالت : توجّه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فجلست أنتظره ، فإذا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أقبل ومعه علي والحسن والحسين قد أخذ بيد كل واحد منهم ، حتّى دخل الحجرة ، فأجلس الحسن على فخذه اليمنى ، والحسين على فخذه اليسرى ، وأجلس عليا وفاطمة بين يديه ، ثم لفّ عليهم كساه (أي ثوبه) ، ثم قرأ :( يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣٣). ثم قال : «اللهم هؤلاء أهل بيتي حقا».

وقد أخرج العلامة الفقيه محب الدين الطبري الشافعي في كتابه (ذخائر العقبى ، ص ٢١ ـ ٢٤) أحاديث متعددة في قصة الكساء. منها حديث عن عائشة قالت :خرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات غداة وعليه مرط (كساء) مرجّل من شعر. فجاء الحسن بن علي فأدخله فيه ، ثم جاء الحسين فأدخله فيه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها فيه ، ثم جاء عليعليه‌السلام فأدخله فيه ، ثم قال :

( يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣٣). أخرجه مسلم. وأخرج أحمد معناه عن واثلة ، وزاد في آخره : «اللهم هؤلاء أهل بيتي ، وأهل بيتي أحقّ».

ومنها حديث عن أم سلمة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لفاطمة : ائتني بزوجك وابنيك. فجاءت بهم ، وأكفأ عليهم كساء فدكيا ، ثم وضع يده عليهم ، ثم قال :«اللهم إن هؤلاء آل محمّد ، فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمّد ، إنك حميد مجيد».

قالت أم سلمة : فرفعت الكساء لأدخل معهم ، فجذبه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال :«إنك على خير».(أخرجه الدولابي في كتاب الذرية الطاهرة).

١٣٤

وروى ابن شيبة وأحمد والترمذي وحسّنه ، وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصحّحه ، عن أنس ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول هذه الآية (كما في رواية الترمذي) كان يمرّ ببيت فاطمةعليها‌السلام إذا خرج إلى صلاة الفجر ، ويقول :الصلاة أهل البيت( يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣٣).

وفي رواية ابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري ، أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء أربعين صباحا إلى دار فاطمة ، يقول : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ، الصلاة رحمكم الله( يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣٣).

وفي رواية له عن ابن عباس : سبعة أشهر. وفي رواية لابن جرير وابن المنذر والطبراني : ثمانية أشهر.

وذكر ابن الصباغ المالكي في (الفصول المهمة) آية التطهير ، ثم قال : ذكر الترمذي في صحيحه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من وقت نزول هذه الآية إلى قريب من ستة أشهر إذا خرج إلى الصلاة يمر بباب فاطمة ، ثم يقول :( يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣٣).

وذكر ابن حجر أحاديث غير ما تقدم ، وقال : وأشار المحب الطبري إلى أن هذا الفعل (أي وضع الكساء عليهم) تكرر منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيت أم سلمة وبيت فاطمة وغيرهما. وهذا يفسّر لنا تعدد الروايات بأشكال مختلفة ، في هيئة اجتماعهم وما جللهم به وما دعا به لهم.

وقال الشيخ كمال الدين محمّد بن طلحة الشافعي الشامي في كتابه (مطالب السّؤول في مناقب آل الرسول ، ص ٨ ط إيران) بعد أن ذكر حديث الكساء : فهؤلاء أهل بيته المرتقون بتطهيرهم إلى ذروة أوج الكمال ، المستحقون لتوقيرهم مراتب الإعظام والإجلال ، الموفّقون لتأييدهم لانتهاج مناهج الاستقامة والاعتدال ، المستبقون لتسديدهم إلى مدارج الفضائل والافضال.

٤٩ ـ حديث المباهلة يؤيد حديث الكساء :

(محمّد وعلي وبنوه الأوصياء للشريف العسكري ، ص ٣٢٣ ـ ٣٢٦)

ومما يؤكد أن أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم الخمسة على وجه التحديد دون غيرهم ، ما وقع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أراد المباهلة مع وفد نجران.

١٣٥

خرّج جماعة من علماء الجمهور حديث المباهلة بعبارات مختلفة في أحاديث مختلفة. وقصة المباهلة المشهورة حدثت في السنة العاشرة للهجرة. وهي أن وفدا من آل نجران وهم من النصارى ، جاؤوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجادلونه في المسيحعليه‌السلام ، فلما تعنّتوا في غلوائهم ، دعاهم الرسول إلى المباهلة ، وهي أن يجتمع فريق من كل طرف ، فيدعو الواحد على الآخر ، فتكون الغلبة لمن يستجيب الله دعاءه. فطلبوا منه الإنظار إلى صبيحة الغد. فقال لهم الأسقف : انظروا محمدا في غد ، فإن جاء بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه فباهلوه ، فإنه على غير شيء. فلما جاء الغد جاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخذا بيد علي بن أبي طالب ، والحسن والحسين بين يديه ، وفاطمة خلفه. وخرج النصارى يقدمهم أسقفهم ، فلما رآهم قال الأسقف : يا معشر النصارى ، إني لأرى وجوها لو أقسمت على الله أن يزيل الجبال لأزالها ، فلا تباهلوهم فتهلكوا. فامتنعوا عن المباهلة وفي ذلك نزلت الآية :( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) (٦١)[آل عمران : ٥٩ ـ ٦١].

ذكر الشيخ سليمان القندوزي الحنفي في كتابه (ينابيع المودة ، ص ٥٢) حديث المباهلة وقال : أخرج صاحب المناقب عن جعفر الصادقعليه‌السلام عن أبيه عن جده علي بن الحسينعليهم‌السلام ، أن الحسن بن عليعليهما‌السلام قال في خطبته : قال الله تعالى لجديصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين جحده كفرة أهل نجران وحاجّوه :( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) (٦١) [آل عمران : ٦١]. فأخرج جديصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معه من الأنفس أبي ، ومن البنين أنا وأخي ، ومن النساء فاطمة أمي. فنحن أهله ولحمه ودمه ونفسه ، ونحن منه وهو منا.

(وفيه أيضا ، ص ٥٣) : قال الإمام الرضا رضي الله عنه (في تفسير آية المباهلة) : عنى الله تعالى من( أَنْفُسَنا ) نفس عليعليه‌السلام . ومما يدل على ذلك قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوفد ثقيف : «لتنتهنّ بني وليعة ، أو لأبعثنّ إليكم رجلا كنفسي «يعني علي بن أبي طالب. فهذه خصوصية لا يلحقه فيها بشر.

(وفي ينابيع المودة أيضا ، ص ٢٦٦) قال : أخرج الدارقطني بسنده عن واثلة

١٣٦

(قال) قال الإمام عليعليه‌السلام يوم الشورى : والله لأحتجّنّ عليهم بما لا يستطيع قرشيّهم ولا عربيّهم ولا عجميّهم ردّه. ثم قال لهم خصالا صدّقوها.

(إلى أن قالعليه‌السلام ) : أنشدتكم بالله ، هل فيكم أحد أقرب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مني؟. وهل فيكم من جعل الله نفس نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ، وأبناءه أبناءه ، ونساءه نساءه ، غيري؟. قالوا : لا. قال : فأنشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت أبو ولدي ، غيري؟. قالوا : لا.

٥٠ ـ آية المودّة :

ويقول الشبلنجي في (نور الأبصار) : ما قدّمناه من أن أهل البيتعليهم‌السلام هم :علي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام هو ما جنح إليه الفخر الرازي في تفسيره والزمخشري في كشافه. وعبارته عند تفسير قوله تعالى :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) : روي أنها لما نزلت ، قيل : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟. قال : علي وفاطمة وابناهماعليهم‌السلام . وسوف نتناول تفسير هذه الآية فيما بعد ، عند حديثنا عن محبة أهل البيتعليهم‌السلام ومودتهم.

٥١ ـ آية السلام :

قال الموفق بن أحمد الحنفي الخوارزمي في مناقبه : ومن الآيات التي نزلت في أهل البيتعليهم‌السلام ، آية السلام ، وهي قوله تعالى :( سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ ) (١٣٠) [الصافات : ١٣٠]. وقد عدّ ابن حجر في صواعقه هذه الآية من الآيات النازلة بحقهم.ونقل أن جماعة من المفسرين رووا عن ابن عباس أنه قال : المراد بها السلام على آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . إلى أن قال :

(وذكر الفخر الرازي) أن أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يساوونه في خمسة أشياء :

في السلام ، قال تعالى (السلام عليك أيها النبي) ، وقال :( سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ ) (١٣٠). وفي الصلاة عليه وعليهم في التشهد في الصلاة. وفي الطهارة ، قال تعالى( طه ) (١) [طه : ١] أي يا طاهر ، وقال :( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣٣). وفي تحريم الصدقة. وفي المحبّة ، قال تعالى( فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) [آل عمران : ٣١] ، وقال :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) . ا ه.

٥٢ ـ الصلاة على محمّد وآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

وقد أخرج البخاري في كتاب تفسير القرآن ، من الجزء الثالث من صحيحه ، في

١٣٧

تفسير قوله تعالى :( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٥٦) [الأحزاب : ٥٦]. فقال الصحابة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله ، أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك؟. فقال :

«قولوا : اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد». وقد أخرج هذا الحديث مسلم في باب الصلاة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كتاب الصلاة ، في الجزء الأول من صحيحه ، وأخرجه سائر المحدّثين فعلم أن الصلاة على آل محمّد جزء من الصلاة المأمور بها في هذه الآية. ولذا عدّها العلماء من الآيات النازلة بحقهم ، حتّى عدّها ابن حجر في صواعقه من آياتهم الخاصةعليهم‌السلام .

وحسبنا في إيثارهم على من سواهم ، إيثار اللهعزوجل إياهم ، حتّى جعل الصلاة عليهم جزءا من الصلاة المفروضة على جميع عباده ، فلا تصحّ بدونها صلاة أحد من العالمين أيا كان شأنه. بل لابدّ لكل من امتثل أمر الله بفرائضه ، أن يمتثل أمره في أثنائها بالصلاة عليهم ، كما يمتثل أمره بالشهادتين. ولذلك أثر عن جابر أنه كان يقول : لو صلّيت صلاة لم أصلّ فيها على محمّد وعلى آل محمّد ، ما رأيت أنها تقبل. وهذه منزلة عنت لها وجوه الأمة ، وخشعت أمامها أبصار العلماء الأئمة ، لذلك قال الشافعي إمام المذهب :

يا آل بيت رسول الله حبّكم

فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم الفضل أنّكم

من لا يصلّي عليكم لا صلاة له

٤ ـ فضائل أهل البيتعليهم‌السلام

٥٣ ـ منزلة أهل البيتعليهم‌السلام :

(الاتحاف بحب الأشراف للشبراوي ، ص ٥٨)

قال بعض أهل العلم : إن آل البيتعليهم‌السلام حازوا الفضائل كلها ؛ علما وحلما ، وفصاحة وصباحة ، وذكاء وبديهة ، وجودا وشجاعة. فعلومهم لا تتوقف على تكرار درس ، ولا يزيد يومهم فيها على ما كان بالأمس ، بل هي مواهب من مولاهم ، من أنكرها وأراد سترها كان كمن أراد ستر وجه الشمس. فما سألهم في العلوم مستفيد ووقفوا ، ولا جرى معهم في مضمار الفضل قوم إلا عجزوا وتخلّفوا.

٥٤ ـ بعض فضائل أهل البيتعليهم‌السلام :

وحسب أئمة العترة الطاهرة أن يكونوا عند الله ورسوله بمنزلة الكتاب الكريم ، لا

١٣٨

يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهم أعدال القرآن ، وشجرة النبوة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومعدن العلم ، وأهل بيت الوحي.

فيهم نزلت آية التطهير في قوله تعالى :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣٣) [الأحزاب : ٣٣] وفيهم نزلت آية الرحمة والبركة في قوله تعالى :( رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) (٧٣) [هود : ٧٣].

وفيهم نزلت آية المباهلة في قوله تعالى :( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) (٦١) [آل عمران : ٦١]. وفيهم نزلت آية الإطعام في قوله تعالى :( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨)إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً ) (٩) [الإنسان : ٨ ـ ٩]. وفيهم نزلت آية المودة في قوله تعالى :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) (٣٣) [الشورى : ٢٣]. وفيهم نزلت آية النور في قوله تعالى:( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ) (٣٥) [النور : ٣٥]. وفيهم نزلت آية الهداية في قوله تعالى :( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) (٨٢) [طه : ٨٢]. وفيهم نزلت آية الولاية في قوله تعالى :( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (٥٥) [المائدة : ٥٥]. وفيهم نزلت آية الطاعة في قوله تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) [النساء : ٥٩]. وفيهم نزلت آية النعمة في قوله جلّ من قائل :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) [المائدة : ٣]. وفيهم نزلت آية الميثاق في قوله :( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا ) [المائدة : ٧]. يشير تعالى في هذه الآية إلى حادثة الغدير في حجة الوداع.

بعض فضائل الإمام عليعليه‌السلام

٥٥ ـ فضائل الإمام عليعليه‌السلام لا تحصى :

فضائل الإمام عليعليه‌السلام جمّة لا تحصى ، فهي بعدد ذرات الثرى. وكما قال ابن أبي الحديد المعتزلي في مقدمة شرحه لنهج البلاغة (ج ١ ص ١٧ ط مصر ، تحقيق أبي الفضل إبراهيم) :

وما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل ، ولم يمكنهم جحد مناقبه ، ولا كتمان فضائله. فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق

١٣٩

الأرض وغربها ، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره والتحريض عليه ، ووضع المعائب والمثالب له ، ولعنوه على جميع المنابر ، وتوعّدوا مادحيه ، بل حبسوهم وقتلوهم ، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة ، أو يرفع له ذكرا ، حتّى حظّروا أن يسمى أحد باسمه ، فما زاده ذلك إلا رفعة وسموا ، وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه ، وكلما كتم تضوّع نشره ، وكالشمس لا تستر بالراح ، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة ، أدركته عيون كثيرة.

وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة ، وتنتهي إليه كل فرقة ، وتتجاذبه كل طائفة ؛ فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وأبو عذرها ، وسابق مضمارها ، ومجليّ حلبتها ، كلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ ، وله اقتفى ، وعلى مثاله احتذى. اه.

(أقول) : وإنما أحببت أن أسوق في هذه الموسوعة بعض مناقبه وفضائلهعليه‌السلام للتبرك بذكره وتعطير الكتاب بأريج عطره.

٥٦ ـ بعض الروايات في فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ٣ ط نجف)

عن الإمام الرضاعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يا علي إن الله قد غفر لك ولأهلك وشيعتك ، ومحبّي شيعتك ومحبّي محبّي شيعتك ، فأبشر فإنك الأنزع البطين ؛ منزوع من الشرك ، بطين من العلم.

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليهما‌السلام عن آبائه عن الحسينعليه‌السلام قال :سمعت جدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من أحبّ أن يحيى حياتي ويموت ميتتي ، ويدخل الجنّة التي وعدني ربي ، فليتولّ علي بن أبي طالب وذريته ، فإنهم لن يخرجوك من باب الهدى إلى باب الضلالة.

وروى الحمويني في (فرائد السمطين) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : من أحبّ أن يتمسّك بديني ، ويركب سفينة النجاة بعدي ، فليقتد بعلي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وليعاد عدوّه ، وليوال وليّه ، فإنه وصيي وخليفتي على أمتي ، في حياتي وبعد وفاتي ، وهو إمام كل مسلم وأمير كل مؤمن بعدي. قوله قولي وأمره أمري ونهيه نهيي ، وتابعه تابعي وناصره ناصري وخاذله خاذلي.

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ سيّد العرب. فقيل : ألست سيد العرب؟. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أنا سيد العالمين (فضائل الخمسة ، ج ٢ ص ٩٧).

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

فقالوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إلى ما تدعو ؟ فقال إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وإنّي رسول الله وإنّ عيسى عبد مخلوق، يأكل ويشرب، ويُحدث، فقالوا: فمن أبوه ؟ فنزل الوحي على رسول الله، فقال: قل لهم: « ما تقولون في آدم أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويُحدث وينكح ؟ فسألهم النبيّ، فقالوا: نعم، فقل: فمن أبوه ؟ فبهتوا، فأنزل الله:

( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ *الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُن مِّنَ المُمْتَرِينَ *فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) ( آل عمران / ٥٩ ـ ٦١ ).

الدعوة إلى المباهلة

فلأجل ذلك قال لهم رسول الله فباهلوني فإن كنت صادقاً اُنزلت اللّعنة عليكم وإن كنت كاذباً اُنزلت عليّ، فقالوا: « أنصفت »، فتواعدوا للمباهلة، فلمّا رجعوا إلى منازلهم، قال لهم رؤساؤهم ـ السيّد والعاقب والأيهم ـ: إنْ باهلنا بقومه باهلناه فإنّه ليس نبيّاً، وإن باهلنا بأهل بيته خاصّة لم نباهله فإنّه لا يقدّم أهل بيته إلّا وهو صادق، فلمّا أصبحوا جاءوا إلى رسول الله ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين، فقال النصارى من هؤلاء ؟ فقيل لهم: هذا ابن عمّه وصهره عليّ بن أبي طالب وهذه ابنته فاطمة وهذان ابناه الحسن والحسين، ففزعوا، فقالوا لرسول الله: نعطيك الرّضا فاعفنا من المباهلة، فصالحهم رسول الله على الجزية وانصرف(١) .

وروى الطبرسي: ولـمـّا كان الغد جاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله آخذ بيد عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين: بين يديه يمشيان وفاطمةعليها‌السلام تمشي خلفه، وخرج النصارى يتقدّمهم أسقفهم فلمّا رأى

__________________

(١) تفسير القمي: ج ١ ص ١٠٤.

٢٨١

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أقبل بمن معه، سأل عنهم، فقيل له: هذا ابن عمّه وزوج ابنته وأحبّ الخلق إليه وهذان ابنا بنته من عليٍّعليه‌السلام وهذه الجارية بنته فاطمة، أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه، وتقدّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فجثا على ركبتيه.

قال أبو الحارثة الأسقف: جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة، فسكع ولم يقدم على المباهلة، فقال السيّد: إدن يا أبا حارثة للمباهلة، فقال: لا، إنّي لأرى رجلاً جريئاً على المباهلة وأنا أخاف أن يكون صادقاً ولئن كان صادقاً لم يحل والله علينا الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الماء، فقال الأسقف: يا أبا القاسم إنّا لا نباهلك ولكن نصالحك فصالحنا على ما ينهض به، فصالحهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على ألفي حلّة من حلل الأواقي قسمة كل حلّة أربعون درهماً فما زاد ونقص فعلى حساب ذلك، وعلى عارية ثلاثين درعاً، وثلاثين رمحاً، وثلاثين فرساً إن كان باليمن كيد، ورسول الله ضامن حتّى يؤديها وكتب لهم بذلك كتاباً.

وروي أنّ الأسقف قال لهم: إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، وقال النبيّ: والذي نفسي بيده لو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم الوادي عليهم ناراً، ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا كلّهم، قالوا: فلمّا رجع وفد نجران، لم يلبث السيّد والعاقب إلّا يسيراً، حتّى رجعا إلى النبيّ، وأهدى العاقب له حلّة وعصا وقدحاً ونعلين وأسلما(١) .

وهناك كلمة قيّمة للزمخشري يقول فيها:

فإن قلت: ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلّا لتبيّن الكاذب منه ومن خصمه وذلك أمر يختصّ به وبمن يكاذبه فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟

قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث تجرّأ على

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص ٧٦٢ و ٧٦٣ ( طبع بيروت ).

٢٨٢

تعريض أعزّته وأفلاذ كبده وأحبّ الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له وعلى ثقته بكذب خصمه حتّى يهلك خصمه مع أحبّته وأعزّته هلاك الإستئصال إن تمّت المباهلة. وخصّ الأبناء والنساء لأنّهم أعزّ الأهل وألصقهم بالقلوب، وربّما فداهم الرجل بنفسه، وحارب دونهم حتّى يقتل، ومن ثمّ كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب، ويسمّون الذادة عنهم بأرواحهم: « حماة الحقائق » وقدّمهم في الذكر على الأنفس ( في الآية ) لينبّه على لطف مكانهم، وقرب منزلتهم وليؤذن بأنّهم مقدّمون على الأنفس مفدون بها، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء: وفيه برهان واضح على صحّة نبوّة النبيّ لأنّه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنّهم أجابوا إلى ذلك(١) .

ومن أمعن فيما ورد من سبب النزول وشرحه في كتب الحديث والتفسير يقف على مكرمة وفضيلة عظيمة لأهل البيت: في تلك الحادثة، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب « الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء » للسيّد شرف الدين ( ص ١٩٧ ـ ٢٠٣ ).

وهناك نكتة اُخرى نقلها الرازي عن بعض معاصريه من الشيعة ولم يناقش في كلامه مع غرامه بنقض المحكمات وهيامه في التشكيكات والشبهات، قال:

كان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي وكان معلّم الإثنى عشرية وكان يزعم أنّ عليّاًرضي‌الله‌عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله واستدلّ على ذلك بقوله تعالى:( وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) إذ ليس المراد بقوله( وَأَنفُسَنَا ) نفس محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد غيرها، وأجمعوا على أنّ ذلك الغير كان عليّ بن أبي طالب (رض) فدلّت الآية على أنّ « نفس عليٍّ » هي محمد، ولا يمكن أن يكون المراد أنّ هذه النفس هي عين تلك، فالمراد أنّ هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك

__________________

(١) الكشاف: ج ١ ص ٣٢٧.

٢٨٣

يقتضي المساواة في جميع الوجوه، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوّة وفي حقّ الفضل لقيام الدلائل على أنّ محمداً عليه الصّلاة والسّلام كان نبيّاً وما كان عليٌّ كذلك ولإنعقاد الإجماع على أنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله كان أفضل من عليٍّ (رض) فبقى فيما وراءه معمولاً به ثمّ الإجماع دلّ على أنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله كان أفضل من سائر الأنبياء: فيلزم أن يكون عليٌّ أفضل من سائر الأنبياء(١) .

٢٩ ـ الخلفيّة التشريعيّة لحرمة الأشهر الحرم:

ربّما نقرأ في بعض الصحف والكتب أنّ عرب الجاهلية هم الذين حرّموا الحرب في الأشهر الحرم وأضفوا عليها مسحة قدسية خاصة، وذلك لأنّهم كانوا متوغّلين في الحروب والغارات وكان تمادي الظاهرة القبليّة الشاذّة موجباً لفكّ عرى الحياة، ولأجل ذلك استثنوا هذه الأشهر لتقويم أودهم وضمان أمن طرق التجارة وتيسير أمر زيارة الكعبة.

ولكنّها فكرة خاطئة تخالف ما نستلهمه من القرآن الكريم، فإنّ الظاهر منه أنّ حرمة الأشهر لها جذور دينية وأنّها جزء من صميم الدين القيّم الذي جاء به إبراهيمعليه‌السلام إلى اُمّته، قال سبحانه:( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) ( التوبة / ٣٦ ).

فإنّ قوله:( ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) ربّما يشير إلى أنّ اتّصاف الأربعة بالحرم جزء من الدين القيّم وتشريعاته.

وعلى ذلك الأساس فالنبيّ الأكرم أولى بأن يحافظ على حرمتها ويراعي قدسيّتها، وبذلك يسهل لك القضاء في الحادثة الدموية التي وقعت في مستهلّ

__________________

(١) تفسير الرّازي: ج ٨ ص ٨١ ( طبع بيروت ).

٢٨٤

شهر رجب بيد المسلمين وهي التي استغلّتها قريش للتعيير بالنبيّ والإزدراء به، وأنّه هدم قدسيّة تلك الأشهر وإراقة الدم فيها، وإليك نصّ القصة:

بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب مقفلة من بدر الاُولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب لهم كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتّى يسير يومين ثمّ ينظر فيه، فيمضي بما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحداً.

فلمّا سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتّى تنزل نخلة بين مكّة والطائف، فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم.

فلمّا نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعاً وطاعة، ثمّ قال: لأصحابه قد أمرني رسول الله أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشاً حتّى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع، فأمّا أنا فماض لأمر رسول الله، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلّف منهم أحد.

وسلك إلى الحجاز حتّى إذا كان بمعد فوق « الفرع » يقال له بحران أضلّ سعد بن أبي وقّاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما، كانا يتعاقبانه، فتخلّفا عليه في طلبه ومضى عبد الله بن جحش وبقيّة أصحابه حتّى نزل بنخلة، فمرّت به عير لقريش تحمل زبيباً وادماً وتجارة من تجارة قريش، فيها عمرو بن الحضرمي، فلمّا رآهم القوم(١) هابوهم وقد نزلوا قريباً منهم، فأشرف لهم عكاشة ابن محصن وكان قد حلق رأسه فلمّا رأوه أمنوا وقالوا: عمّار لا بأس عليكم منهم، وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم:(٢) والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلنّ الحرم

__________________

(١) المقصود عير قريش.

(٢) المقصود المسلمون.

٢٨٥

فليمتنعنّ منكم به(١) ولئن قتلتموهم لنقتلنّهم في الشهر الحرام، فتردّد القوم(٢) وهابوا الإقدام عليهم ثمّ شجّعوا أنفسهم عليهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم فرمى واقد بن عبد الله التيمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وأفلت القوم(٣) نوفل ابن عبد الله فأعجزهم وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين حتّى قدموا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلمّا قدموا على رسول الله المدينة، قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فوقّف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً، فلمّا قال ذلك رسول الله، سقط في أيدي القوم وظنّوا أنّهم قد هلكوا وعنّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد إستحلّ محمّد وأصحابه الشهر الحرام فسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال.

وقد توقّع اليهود لأجل هذه الحادثة بالمسلمين الشر، فلمّا أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / ٢١٧ و ٢١٨ ).

والآية الثانية تحكي عن نزول المغفرة لعبد الله بن جحش وأصحابه وذلك لأجل أنّهم كانوا ذوو سابقة حسنة وبلاء محمود كما يشير إليه قوله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) أي يتحصّنون يالحرم.

(٢) المقصود هم المسلمون.

(٣) أي فر من بين أيديهم فلم يتمكنّوا من اللحاق به والقبض عليه.

٢٨٦

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ ) .

قال ابن هشام: لـمّا تجلّى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن ( الآية الاُولى ) طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطي فيها أجر المجاهدين ؟ فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا ) .

فلمّا نزل القرآن بهذا وفرّج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله العير والأسيرين. وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ( الأسيرين )، فقال رسول الله: لا نفديكموهما حتّى يقدم صاحبانا ـ يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان ـ فإنّا نخشاكم عليهما فإن تقتلوهما، نقتل صاحبيكم، فقدم سعد وعتبة فأفداهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منهم.

فأمّا الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه واقام عند رسول الله حتّى قتل يوم بئر معونة شهيداً، وأمّا عثمان بن عبد الله فلحق بمكّة حتّى مات بها كافراً.

هذا كلّه راجع إلى حكاية القصّة بجزئيّاتها وأمّا تحليل الحادثة وتوضيح الجواب الذي جاءت به الآية الاُولى فهو بالشكل التالي.

لا شك أنّ عمل عبد الله بن جحش لم يكن خاضعاً للضوابط العسكرية، فإنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يأمره بالقتال بل أمر بإستطلاع أخبار القوم ونقل أخبارهم إليه، فقتاله كان عصياناً لأوامر قائده أوّلاً وهتكاً لقداسة الشهر ثانياً، ولأجل ذلك لـمّا جاء إلى النبيّ لم يقبل منه العير والأسيرين وانتظر الوحي الإلهي حتّى وافاه، وليس من الصحيح أن يؤاخذ الأمير ورئيس القوم بإجرام واحد من قادة عسكره.

وإليه يشير قوله سبحانه:( قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) أي إنّ القتال فيه وإن كان صغيراً في نفسه: أمر كبير مستنكر لعظيم حرمته، ولكن الذي ينبغي إلفات النظر إليه هو أنّ الناقدين أعني قريشاً قد إرتكبوا جريمة أكبر ممّا إرتكبه ذلك القائد

٢٨٧

العسكري وذلك:

١ ـ إنّهم صدّوا الناس عن سبيل الله ومنعوهم عن الطريق الموصل إلى الله تعالى وهو الإسلام، حيث كان المشركون يضطهدون المسلمين ويقتلون من يسلم أو يؤذونه في نفسه وأهله وماله فيمنعونه من الهجرة إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ ـ إنّهم كفروا بالله سبحانه.

٣ ـ إنّهم صدّوا عن المسجد الحرام ومنعوا المؤمنين من الحج والإعتمار.

٤ ـ إنّهم أخرجوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والمهاجرين.

وكلّ هذه أكبر عند الله من قتال المسلمين المشركين في الشهر الحرام.

٥ ـ والفتنة أكبر من القتل أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم كما فعلوا بعمّار بن ياسر وبلال وخبّاب بن الأرت وغيرهم، أكبر من قتل المشركين.

والقتال في الشهر الحرام أهون من الفتنة عن الإسلام لو لم يحفّ بها غيرها من الآثار، كيف وقد قارنها الصدّ عن سبيل الله، والكفر به، والصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه، فمن وقف على فتنة المشركين لضعفاء المسلمين طيلة ثلاث عشرة سنة واستمرارها بعد هجرته في حقّ المستضعفين القاطنين في مكّة، يقف على أنّ قتل مشرك وأسر نفرين منهم أهون بكثير ممّا ارتكبوه طوال هذه السنين.

وإلى هذا يشير قوله سبحانه:

( وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) .

٢٨٨

٩

الإشتباك المسلّح مع اليهود بالمدينة:

١ ـ إجلاء بني قينقاع من المدينة:

قد وقفت فيما سبق على المناظرات والإجتجاجات التي دارت رحاها بين النبيّ واليهود، واتّضح لك إنّها لم تكن من اليهود بغرض كشف الحقيقة وإنّما كانت مماراة منهم حتّى يشوّهوا الحقيقة على طلّابها ويضعوا العراقيل في وجه إنتشار الإسلام وتعاظم قدرة المسلمين، وقد كان النبيّ الأكرم صابراً على إيذائهم، ولكنّهم لـمّا بلغت جرأتهم إلى حدّ هتكوا عرض امرأة مسلمة وقتلوا رجلاً من المسلمين في سوقهم، قام النبيّ في وجههم فرفض الميثاق الذي عقدوه بينهم وبين النبيّ لأنّهم بأعمالهم الإجرامية نقضوا بنوده ومضامينه فلم يبقوا له حرمة، ولكن النبيّ الأكرم أخذ كل طائفة من اليهود بجرمها ولم يأخذ جميع طوائف اليهود بجرم واحدة منها.

فأجلى بني قينقاع لأجل ذينك العملين ( هتك حرمة المرأة المسلمة وقتل مسلم ) وأبقى الطائفتين الاُخريين على حالهما، فلمّا همّ بنو النضير بقتل النبيّ الأكرم، أجلاهم بمؤامرتهم وأبقى بني قريظة على حالها في المدينة إلى أن إرتكبت الثالثة جريمة كبيرة، فجازاهم بعملهم حسبما يوافيك بيانه.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ النبيّ الأكرم كان يحترم العهود والمواثيق المبرمة بينه وبين سائر الملل والنحل وأنّه لو لم تنقض اليهود عهودها ومواثيقها لما خطا النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله خطوة واحدة في طريق

٢٨٩

الحرب ضدّهم، ولأجل ذلك يجب علينا دراسة العوامل التي حفّزت النبي إلى إتّخاذ موقف حازم وصارم في وجه اليهود القاطنين في المدينة، وقبل إيضاحها نذكر لك نص الميثاق الذي عقده النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله معهم إبّان نزوله المدينة.

روى القمّي في تفسيره: وجاءته اليهود ـ قريظة والنضير وقينقاع ـ فقالوا: يا محمّد إلى ما تدعو ؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله وأنّي الذي تجدونني مكتوباً في التوراة والذي أخبركم به علماؤكم أنّ مخرجي بمكة ومهاجري في هذه الحرّة، وأخبركم عالم منكم جاءكم من الشام فقال: « تركت الخمر والخمير وجئت إلى البؤس والتمور لنبيّ يبعث في هذه الحرّة مخرجه بمكة ومهاجره هاهنا، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم، يركب الحمار ويلبس الشملة ويجتزي بالكسرة، في عينيه حمرة وبين كتفيه خاتم النبوّة، ويضع سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى، وهو الضحوك القتّال يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر » فقالوا له: قدسمعنا ما تقول وقد جئناك لنطلب منك الهدنة على أن لا نكون لك ولا عليك ولا نعين عليك أحداً ولا نتعرّض لأحد من أصحابك ولا تتعرّض لنا ولا لأحد من أصحابنا حتّى ننظر إلى ما يصير أمرك وأمر قومك، فأجابهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ذلك وكتب بينهم كتاباً: إلّا يعينوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا على أحد من أصحابه بلسان ولايد ولا بسلاح ولا بكراع في السرّ والعلانية، لا بليل ولا بنهار، الله بذلك عليهم شهيد، فإن فعلوا فرسول الله في حِلٍّ من سفك دمائهم، وسبي ذراريهم ونسائهم، وأخذ أموالهم. وكتب لكل قبيلة منهم كتاباً على حدّة، وكان الذي تولّى أمر بني النضير حيّي بن أخطب، فلمّا رجع إلى منزله قال له اُخوته ( جديّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب ): ما عندك ؟ قال: هو الذي نجده في التوراة والذي يبشّرنا به علماؤنا ولا أزال له عدوّاً لأنّ النبوّة خرجت من ولد إسحاق، وصارت في ولد إسماعيل، ولا نكون تبعاً لولد إسماعيل أبداً.

وكان الذي ولي أمر قريضة كعب بن أسد، والذي ولي أمر بني قينقاع مخيريق وكان أكثرهم مالاً وحدائق، فقال لقومه: تعلمون أنّه النبيّ المبعوث ؟

٢٩٠

فهلمّوا نؤمن به ونكون قد أدركنا الكتابين، فلم تجبه قينقاع إلى ذلك(١) .

هذا هو نص الميثاق، وسنوافيك في هذا البحث وما يتلوه إنّهم كيف ضربوا به عرض الجدار خصوصاً بعد ما بلغهم إنتصار المسلمين على قريش في غزوة بدر فانتابهم الهلع والخوف، وترقّبوا الخطر المحدق بهم، وقد بلغ النبيَّ أخبار بني قينقاع، وما أخذوا يتفوّهون به ضدّه، فلأجل إتمام الحجة جمعهم رسول الله في سوق بني قينقاع بعد نزوله عن بدر، فقال: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بمثل ما أصاب به قريشاً، فقالوا له: يا محمّد لا يغرّنّك من نفسك أنّك قتلت نفراً من قريش، كانوا أغماراً(٢) لا يعرفون القتال، إنّك والله لو قاتلتنا لعرفت انّا نحن الناس وإنّك لن تلقى مثلنا، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم:( قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ *قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ) ( آل عمران / ١٢ و ١٣ )(٣) .

وبين ما هم عليه من إظهار العداوة ونقض العهد، جاءت امرأة نزيعة(٤) من العرب تحت رجل من الأنصار إلى سوق بني قينقاع، وجلست عند صائغ في حُليّ لها، فجاء رجل من يهود قينقاع فجلس من ورائها ولا تشعر، فخلّى(٥) درعها إلى ظهرها بشوكة، فلمّا قامت المرأة بدت عورتها، فضحكوا منها، فقام إليه رجل من المسلمين فاتّبعه فقتله، فاجتمعت بنو قينقاع فتحايشوا، فقتلوا الرجل ونبذوا العهد إلى النبيّ وتحصّنوا في حصنهم(٦) .

__________________

(١) البحار: ج ١٩ ص ١١٠ ـ ١١١ ( طبع بيروت ).

(٢) الأغمار جمع الغمر وهو الذي لم يجرّب الاُمور.

(٣) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٥٥٢، مجمع البيان: ج ٢ ص ٧٠٦، المغازي للواقدي: ج ١ ص ١٧٦.

(٤) المرأة التي تزوّجت في غير عشيرتها.

(٥) أي جمع بين طرفي الشيء.

(٦) المغازي للواقدي: ج ١ ص ١٧٦ و ١٧٧.

٢٩١

فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فحاصرهم رسول الله حتّى نزلوا على حكمه.

روى الواقدي: لـمّا رجع ( رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ) من بدر حسدوه فأظهروا الغشّ، فنزل عليه جبرئيلعليه‌السلام بهذه الآية:( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ ) ( الأنفال / ٥٨ ).

قال: فلمّا فرغ جبرئيل قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فأنا أخافهم. فسار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الآية حتّى نزلوا على حكمه ولرسول الله أموالهم، ولهم الذرّية والنساء(١) .

فقام عبد الله بن اُبي بن سلول رئيس المنافقين في المدينة بالشفاعة لهم فقال: يا محمّد أحسن في موالي، وكانوا حلفاء الخزرج، فأبطأ عليه رسول الله، فقال: يا محمّد، أحسن في موالي، فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله، فقال له رسول الله: أرسلني، وغضب رسول الله حتّى رأوا لوجهه ظللاً، ثمّ قال: ويحك أرسلني، قال: لا والله لا أرسلك حتّى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر(٢) وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة إنّي والله أمرؤٌ أخشى الدوائر، فقال رسول الله: هم لك، فاستعمل رسول الله على المدينة في محاصرته إيّاهم بشير بن عبد المنذر، وكانت محاصرته إيّاهم خمس عشرة ليلة.

وكان لعبادة بن الصامت مثل الحلف الذي كان لهم من عبد الله بن اُبي، فجاء عبادة بن الصامت وقال: يا رسول الله أتولّى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأُ من حلف هؤلاء الكفّار وولايتهم، وفي تلك القصّة نزلت الآيات التالية:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم

__________________

(١) مغازي الواقدي: ج ١ ص ١٨٠.

(٢) الحاسر الذي لا درع له ويقابله الدارع.

٢٩٢

مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ *وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَٰؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ) ( المائدة / ٥١ ـ ٥٣ ).

فلمّا أصرّ ابن اُبي فيهم تركهم رسول الله وأمر بهم أن يجلوا من المدينة.

وروى الواقدي: كان ابن اُبيّ أمرهم أن يتحصّنوا وزعم أنّه سيدخل معهم، فخذلهم ولم يدخل معهم، ولزموا حصنهم فما رموا بسهم، ولا قاتلوا حتّى نزلوا على صلح رسول الله وحكمه، وأموالهم لرسول الله، فلمّا نزلوا وفتحوا حصنهم، كان محمّد بن مسلمة هو الذي أجلاهم وقبض أموالهم، وأمر رسول عبادة بن الصامت أن يجليهم، فقالت قينقاع، يا أبا الوليد نحن مواليك فعلت هذا بنا ؟

قال لهم عبادة: لـمّا حاربتم جئت إلى رسول الله فقلت: يا رسول الله إنّي أبراُ إليك منهم ومن حلفهم، وكان ابن اُبي وعبادة بن الصامت منهم بمنزلة واحدة في الحلف، فقال عبد الله بن اُبي: تبرّأت من حلف مواليك، فقال عبادة: أبا الحبّاب تغيّرت القلوب ومحي الإسلام العهود، فخرجوا إلى الشام ولحقوا بإذرعات(١) ثمّ هلكوا(٢) .

__________________

(١) بلد في أطراف الشام يجاور أرض البلقاء وعمان « معجم البلدان: ج ١ ص ١٦٢ ).

(٢) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٤٧ ـ ٤٩، المغازي للواقدي: ج ١ ص ١٧٦ ـ ١٨٠.

٢٩٣

٢ ـ إجلاء بني النضير

قدم أبو براء، عامر بن مالك على رسول الله المدينة فعرض عليه رسول الله الإسلام ودعاه إليه، فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام، وقال: يا محمّد لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى نجد، فادعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله: إنّي أخشى عليهم أهل نجد، قال أبو براء: أنا لهم جار، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك، فبعث رسول الله المنذر بن عمرو في أربعين رجلاً(١) من خيار المسلمين فساروا حتّى نزلوا بئر معونة وهي بين أرض بني عامر، وحرة بني سليم، كلا البلدين منها قريب وهي إلى حرّة بني سليم أقرب.

فلمّا نزلوها بعثوا ابن ملحام بكتاب رسول الله إلى عامر بن الطفيل، فلمّا أتاه لم ينظر في كتابه حتّى عدى على الرجل فقتله، ثمّ استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، وقالوا لن نحفر(٢) أبا براء لقد عقد لهم عقداً وجواراً، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتّى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلمّا رأوهم أخذوا سيوفهم ثمّ قاتلوهم حتّى قتلوا من عند آخرهم إلّا كعب بن زيد فإنّهم تركوه وبه رمق، فرفع من بين القتلى فقدم المدينة.

وكان في مسير القوم عمرو بن اُميّة الضمري ورجل من الأنصار فلمّا اطّلعا على قتل إخوانهم، قال عمرو بن اُميّة: نخبر رسول الله، فقال الأنصاري: ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، فقاتل القوم حتّى قتل واُسر عمرو ابن اُميّة، وأطلقه عامر بن الطفيل وجزّ ناصيته، فأقبل عمرو بن اُميّة إلى المدينة

__________________

(١) أو سبعين رجلاً على ما في صحيح البخاري ومسلم.

(٢) أي لا ننقض عهده.

٢٩٤

ولقى في مسيره رجلين من بني عامر وقد سألهما ممّن أنتما ؟ فقالا: من بني عامر فأمهلهما حتّى إذا ناما، عدى عليهما فقتلهما وهو يرى أنّه أصاب بهما الثأر من بني عامر، فيما أصابوا من أصحاب رسول الله، فلمّا قدم عمرو بن اُميّة على رسول الله فأخبره الخبر، قال رسول الله: لقد قتلت قتيلين لاُدِينهما(١) .

خرج رسول الله إلى بني النضير يستعينهم في ديّة ذينك القتيلين من « بني عامر » اللذين قتلهما عمرو بن اُميّة الضمري، فكان بين بني النضير وبين بني عامر عقد وحلف، فلمّا أتاهم رسول الله يستعينهم في أداء الديّة، قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أجبت ممّا استعنت بنا عليه، ثمّ خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، ورسول الله إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد، فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيرحنا منه ؟ فانتبذ لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فصعد ليلقي عليه صخرة ورسول الله في نفر من أصحابه.

فأتى الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج إلى المدينة « وكأنّه يريد أن يقضي حاجة وترك أصحابه في مجلسهم »(٢) فلمّا إستلبث النبيّ أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلاً المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله حتّى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما أراد اليهود من الغدر إليه، وأمر رسول الله بالتهيّؤ لحربهم، والسير إليهم، واستعمل على المدينة ابن اُمّ مكتوم فتحصّنوا في الحصون.

وقد بعث عبد الله بن اُبي بعض أصحابه إلى بني النضير، فقال لهم: إثبتوا وتمنّعوا فإنّا لن نسلّمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن اُخرجتم خرجنا معكم ،

__________________

(١) أي لأدفع ديّتهما، ووجهه: إنّ القتل وقع بقبيلة بني سليم لا ببني عامر، فإنّهم وإن لم يدافعوا عن المسلمين وخذلوهم، ولكنّهم لم يشتركوا في مقاتلتهم، فكان قتل هذين الرجلين بلا ظلامة اقترفاها، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الرسول كان يقوم بالعدل ولا يأخذه في ذلك شيء من الأهواء.

(٢) ما بين القوسين ممّا رواه الواقدي.

٢٩٥

فتربّصوا ذلك من نصرهم، ولم يكن وعده إلّا خداعاً، وفي ذلك نزل الوحي:

( أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ *لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ *لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إلّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ *كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( الحشر / ١١ ـ ١٥ ) ففي هذه الآيات ملاحم وتنبّؤات غيبية كشف عنها الوحي. وإليك الإشارة إليها:

١ ـ إنّ اليهود لعلاقتهم الشديدة بالحياة لا يجرأون على مقاتلتكم خارج حصونهم، وإنّما يقاتلونكم متمنّعين بحصونهم، ويكتفون في ذلك برشقهم بالحجارة ونحوها، كما أشار إليه قوله:( لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إلّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ) .

٢ ـ يستأسدون عند الإجتماع ببعضهم البعض ولكنّهم عند لقاء المسلمين ينتابهم الخوف والرعب والهلع، ويستفاد ذلك من ضم الآيتين أعني قوله:( بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ) إلى قوله:( لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللهِ ) .

٣ ـ إنّهم يتظاهرون بوحدة الكلمة، ولكنّها وحدة شكلية صورية وقلوبهم شتّى، وإليه يشير قوله سبحانه:( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ) .

ثمّ إنّ الذكر الحكيم يصفهم بأنّهم قوم لا يعقلون ولا يتّخذون العبرة ممّا لاقاه بنو قينقاع، وإليه يشير قوله:( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ) .

ثمّ إنّ الملاحم الواردة فيما سبق من الآيات لا تنحصر بذلك بل تنبّأت بأنّ وعد النصر من جانب المنافقين وعد خاوٍ ومكذوب لا يفون به، وإليه يشير قوله سبحانه:( لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) .

٢٩٦

وقد تنبّأ القرآن بكل ما ذكرنا قبل وقوع النصر وغلبة المسلمين عليهم.

روى البيهقي: إنّ النبيّ مضى لأمر الله تعالى فأمر أصحابه فأخذوا السلاح، ثمّ مضى إليهم وتحصّنت اليهود في دورهم وحصونهم، فلمّا إنتهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أزقّتهم وحصونهم فأمر بالأدنى فالأدنى من دورهم أن تهدم، وبالنخل أن تحرق وتقطع، وكفّ الله تعالى أيديهم وأيدي المنافقين فلم ينصرونهم، وألقى الله عزّ وجلّ في قلوب الفريقين الرعب(١) .

لم يكن عمل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا المجال إلّا إيجاداً للرعب في قلوب الكافرين والتعجيل في إستسلامهم، فإنّ اليهود ما زالوا ولن يزالوا عالقين بالمال والثروة، ويحبّونهما كحب الأنفس والأولاد، فلم يكن للنبيّ إلّا الإضرار ببعض أموالهم وثرواتهم لتلك الغاية، والشاهد على ذلك أنّ النبيّ لم يقطع إلّا بعض النخيل، قوله تعالى:( مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ) ( الحشر / ٥ )، وأمّا الدور التي هدمها النبي فكانت عبارة عن الدور الواقعة خارج الحصن بشهادة أنّهم هدموا دورهم بأيديهم عند مغادرة المدينة، يقول سبحانه:( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ) ( الحشر / ٢ ).

فهذا العمل العسكري من النبي وأصحابه كان عملاً تكتيكيّاً لغاية قصوى، وهو الإستيلاء عليهم بلا إراقة الدم من الجانبين، ولولا ذلك ربّما طال الحصار وكان من المتوقّع تحقّق الإشتباك الدموي بين الطرفين. فلما رأوا أنّ النبيّ مصمّم على الإستيلاء عليهم، سألوه أن يجليهم ويكف عن دماءهم على أنّ لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلّا السلاح، فقبل النبيّ، فاحتملوا من أموالهم ما استقالت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف(٢) بابه، فيضعه على ظهر بعيره

__________________

(١) دلائل النبوّة: ج ٣ ص ١٨١، والمغازي للواقدي: ج ١ ص ٣٧٤، والسيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ١٩١.

(٢) نجاف ـ على وزن كتاب ـ: العتبة التي على الباب.

٢٩٧

فينطلق به، فخرجوا من المدينة إلى خيبر وبعضهم صار إلى الشام.

ومن الذين صاروا إلى خيبر سلَّام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحُيي بن الأخطب.

والعجب انّهم خرجوا بنساءهم وأبنائهم وأموالهم ومعهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم، وما هذا إلّا لأجل إلقاء الستار على خذلانهم فكأنّهم أرادوا بالخروج بهذه الكيفية أنّهم ليسوا بمغلوبين ولا محزونين، وإنّما يخرجون مع النشاط والسرور لأنّهم ينتقلون إلى أمكنة خصبة بالعطف والحنان(١) .

وأمّا الأراضي التي تركوها فجعلها سبحانه نفلاً لرسول الله ولم يجعل فيها سهماً لأحد غيره، قال سبحانه:( وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ (٢) عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَٰكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *مَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر / ٦ ـ ٨ ).

فالآيات الكريمة تحدّد مواضع صرف الأموال التي أفاء الله على رسوله، فذكر مصارفها المتعدّدة فيها، ولكنّ النبيّ حسب ما ورد في السيرة قسّمها على المهاجرين الأوّلين دون الأنصار إلّا سهل بن حنيف وأبا دجانة الأنصاري ـ سماك بن حرشة ـ ذَكرا فَقْراً فأعطاهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولم يسلم من بني النضير إلّا رجلان. أسلما على أموالهما فأحرزاها.

__________________

(١) قال الواقدي: ومرّوا يضربون بالدفوف، ويزمّرون بالمزامير مظهرين ذلك تجلّداً المغازي للواقدي: ج ١ ص ٣٧٥.

(٢) فما أوجفتم: أي ما حرّكتم وأتعبتم في السير، قال سبحانه:( قُلُوب يَوْمَئِذ وَاجِفَة) .

٢٩٨

وقد نزلت سورة الحشر في هذه القصة والله سبحانه يمنّ على المؤمنين، بأنّه سبحانه سلّطهم على الكافرين عن طريق إيجاد الرعب في قلوبهم، كما يبيّن بأنّهم جوزوا بسوء أعمالهم، قال سبحانه:

( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ *وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ *ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الحشر / ٢ ـ ٤ ).

وبإجلاءهم لم تبق في المدينة طائفة من اليهود، إلّا قبيلة بني قريظة، وكان النبي يحترم عهودهم ما داموا حافظين عليها. ولـمـّا ظهرت منهم بادرة النقض، أخذهم النبيّ أخذ عزيز مقتدر، كما سيبيّن في الفصل القادم.

٢٩٩

٣ ـ إبادة بني قريظة

لقد أجلى النبيّ الأكرم قبيلتي بني قينقاع، وبني النضير، وجزاهم بأعمالهم الإجرامية، وكانت فكرة تأليب العرب على النبي والمسلمين فكرة اختمرت في نفوس رؤساء بني النضير، وقبلهم بني قينقاع، نظراء حيي بن أخطب وسلّام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي حقيق، الذين نزلوا حصن خيبر، فأرادوا درك ثأرهم من المسلمين بتأليب الأحزاب عليهم، فقدموا إلى قريش، ودعوهم إلى حرب رسول الله وقالوا: إنّا سنكون معكم عليه، حتّى نستأصله، وقد سألتهم قريش وقالوا يا معشر يهود: إنّكم أهل الكتاب الأوّل، وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد. أفديننا خير أم دينه ؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحقّ منه(١) .

ولم يكتف زعماء بني النضير بتأليب قريش على النبي الأكرم بل خرجوا إلى غطفان وكلّ من له عند المسلمين ثأر، حرّضوهم على الأخذ بثأرهم، ويذكرون لهم متابعة قريش إيّاهم على حرب محمد، فاتّفقوا على الخروج والحضور في المدينة في يوم واحد، وأحاطوا المدينة رجالاً وركباناً وقد بلغ عددهم عشرة آلاف، وكان قد بلغ النبي مؤامرتهم فضرب الخندق على المدينة حتّى يكون كالحصن لها حائلاً بينه وبينهم، وقد طال الحصار على المدينة قرابة شهر، ووقع هناك إشتباك بينهم وبين العدوّ على وجه سنذكره في مغازي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد أدركت الأحزاب المؤلّفة من قريش وغطفان ويهود خيبر وعلى رأسهم حيي بن أخطب أنّ الإنتصار على محمد أمر غير ميسور، مادام الخندق يحول بينه و

__________________

(١) قد مرّ نقل هذا الخطأ الفاحش في مناظرات النبيّ مع اليهود، فلاحظ.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581