مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265521 / تحميل: 6065
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

اشتمال مراتب القرآن على المقدّرات الحادثة في كلّ عام:

وقال: (المسألة الثامنة) في تفسير مفردات هذه الألفاظ، أمّا قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (1) فقد قيل فيه: إنّه تعالى أنزل كلّية القرآن، يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتُدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبرائيل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، انتهى كلامه.

وقال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: (في تفسير قوله تعالى: ( إنّا أَنْزَلْناهُ ) يعني القرآن، وإن لم يجرِ له ذكر في هذه السورة؛ لأنّ المعنى معلوم، والقرآن كلّه كالسورة الواحدة، وقد قال: ( شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي اُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ ) ، وقال: ( حم وَالْكِتابِ الْمُبينِ إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (2) يريد: في ليلة القدر.

وقال الشعبي: المعنى إنّا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه‌السلام جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزّة، وأملاه جبريل على السَفَرة، ثمّ كان جبريل ينزّله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نُجوماً نُجوماً، وكان بين أوّله وآخره ثلاث وعشرون سنة. قاله ابن عبّاس، وقد تقدّم في سورة البقرة.

وحكى الماوردي عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة جملة واحدة من عند اللَّه، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجّمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجّمه جبريل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرين سنة.

قال ابن العربي: وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين اللَّه واسطة، ولا بين جبريل

____________________

1) سورة الدخان: 3.

2) سورة الدخان: 1 - 3.

٢٨١

ومحمّد عليهما‌السلام واسطة.

قوله تعالى: ( في لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، قال مجاهد: في ليلة الحكم، ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) ، قال ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير، سمّيت بذلك لأنّ اللَّه تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلّمه إلى مدبّرات الأُمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل عليهم‌السلام .

أُمّ الكتاب في القرآن متضمّنة لتقدير كلّ شي‏ء:

وقال: وعن ابن عبّاس، قال: يكتب من أمّ الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر، وحياة وموت، حتّى الحاجّ. قال عكرمة: يكتب حجّاج بيت اللَّه تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء آبائهم، ما يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم.

وقاله سعيد بن جُبير، وقد مضى في أوّل سورة الدخان هذا المعنى. وعن ابن عبّاس أيضاً: إنّ اللَّه تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلّمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنّما سمّيت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر، أي شرف ومنزلة) (1) .

ليلة القدر عوض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآلهعليهم‌السلام عن غصب الخلافة:

وقال: (وفي الترمذي عن الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) ، يعني نهراً في الجنّة، ونزلت ( إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ

____________________

1) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، ج20، ص129 - 130، طبعة القاهرة.

٢٨٢

أَلْفِ شَهْرٍ ) ، يملكها بعدك بنو أُمية. قال القاسم بن الفضل الحدّاني: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً. قال: حديث غريب.

قوله تعالى: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) أي تهبط من كلّ سماء، ومن سدرة المنتهى، ومسكن جبريل على وسطها، فينزلون إلى الأرض ويؤمّنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر، فذاك قوله تعالى ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) .

حقيقة الروح النازل ليلة القدر:

وقال: ( وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) (1) ، أي جبرئيل عليه‌السلام ، وحكى القُشيري: أنّ الروح صنف من الملائكة جُعلوا حفظة على سائرهم، وأنّ الملائكة لا يرونهم كما لا نرى نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة وأقربهم من اللَّه تعالى.

وقيل: إنّهم جند من جند اللَّه عزّ وجلّ من غير الملائكة، رواه مجاهد عن ابن عبّاس مرفوعاً، ذكره الماوردي، وحكى القُشيري: قيل هم صنف من خلق اللَّه، يأكلون الطعام، ولهم أيدٍ وأرجل وليسوا ملائكة.

وقيل: (الروح) خلق عظيم يقوم صفّاً، والملائكة كلّهم صفّاً. وقيل: (الروح) الرحمة ينزل بها جبريل عليه‌السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، دليله: ( يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (2) ، أي بالرحمة، (فِيها) أي في ليلة القدر، ( بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) أي بأمره، ( مِن كُلِّ أَمْرٍ ) (3) أمر بكلّ أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل.

وقيل عنه: إنّها رُفعت - يعني ليلة القدر - وإنّها إنّما كانت مرّة واحدة.

____________________

1) سورة القدر: 4.

2) سورة النحل: 2.

3) سورة القدر: 5.

٢٨٣

بقاء ليلة القدر في كلّ عام:

وقال: (والصحيح أنّها باقية... والجمهور على أنّها من كلّ عام من رمضان... وقال الفرّاء: لا يقدّر اللَّه في ليلة القدر إلاّ السعادة والنعم، ويقدّر في غيرها البلايا والنقم) (1) .

وقال الطبري في تفسيره، في ذيل سورة البروج: ( فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، بسنده إلى مجاهد: في لوح، قال: ( فِي أُمِّ الْكِتَابِ ) (2) .

وقال ابن كثير في تفسيره، بعد ما نقل جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، والذي مرّ نقله، قال: (اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأُمم السالفة، أم هي من خصائص هذه الأُمّة؟

فقال الزهري:... وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأُمّة بليلة القدر. وقيل: إنّها كانت في الأُمم الماضين كما هي في أُمّتنا، ثمّ هي باقية إلى يوم القيامة وفي رمضان خاصّة) (3) .

وقال الزمخشري في الكشّاف، بعد ما ذكره جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، في ذيل قوله تعالى: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (4) قال: (وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها، من تنزّل الملائكة والروح، وفصل كلّ أمر حكيم).

وقال في ذيل قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (5) : أي تتنزّل من أجل كلّ أمر قضاه اللَّه لتلك السنة إلى قابل... وروي عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (من قرأ سورة القدر أُعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيى ليلة القدر)، وذكر في هامش المطبوع: أنّ الحديث أخرجه الثعلبي، والواحدي، وابن مردويه، بسندهم إلى أُبَيّ ابن كعب.

____________________

1) تفسير القرطبي، ج20، ص133 - 137، في تفسير الجامع لأحكام القرآن طبعة القاهرة.

2) جامع البيان، ج30، ص176.

3) تفسير ابن كثير، ج4، ص 568.

4) سورة القدر: 2.

5) سورة القدر: 5.

٢٨٤

ليلة القدر عوض له صلى‌الله‌عليه‌وآله عن غصب بني أُمية خلافته، وتعدد مصادر الحديث لديهم:

وقال الآلوسي في روح المعاني: (ويستدلّ لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي، والحاكم، عن الحسن ابن عليّ (رضي اللَّه تعالى عنهما): (أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أُري بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) (1) ، ونزلت: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (2) .. الحديث). وهو كما قال المزني: حديث منكر، انتهى.

وقد أخرج الجلال هذا الحديث في الدرّ المنثور عن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضاً، من رواية يوسف ابن سعد، وذكر فيه: أنّ الترمذي (3) أخرجه وضعّفه، وأنّ الخطيب أخرج عن ابن عبّاس نحوه، وكذا عن ابن نسيب، بلفظٍ: قال نبي اللَّه: (أُريتُ بني أُمية يصعدون منبري، فشقّ ذلك عليّ فأُنزِلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، ففي قول المزني هو منكر تردّد عندي.

وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام ما رواه الكافي بسنده إلى أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (أُري رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه بني أُمية يصعدون على منبره من بعده ويضلّون الناس عن الصراط القهقري، فأصبح كئيباً حزيناً، قال: فهبط عليه جبرئيل فقال: يا رسول اللَّه مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أُمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي، يضلّون الناس عن الصراط القهقري. فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي ما اطّلعت عليه. فعرّج إلى السماء فلم يلبث أن نزل بآي من القرآن يُؤنسه بها، قال: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (4) ، وأُنزل عليه: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) ، جعل اللَّه ليلة القدر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

1) سورة الكوثر: 1.

2) سورة القدر: 1.

3) سنن الترمذي، ج5، ص444، ح 3350.

4) سورة الشعراء: 205 - 207.

٢٨٥

خيراً من ألف شهر ملك بني أُمية) (1) .

وروى الكُليني، عن علي بن عيسى القمّاط عن عمّه، قال: (سمعت أبا عبد اللَّه يقول: هبط جبرئيل عليه‌السلام على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسول اللَّه كئيب حزين، فقال: رأيت بني أُمية يصعدون المنابر وينزلون منها. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً، ما علمت بشي‏ء من هذا. وصعد جبرئيل إلى السماء، ثمّ أهبطه اللَّه جلّ ذكره بآي من القرآن يعزّيه بها قوله: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (2) .

وأنزل اللَّه جلّ ذكره: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) للقوم، فجعل اللَّه ليلة القدر (لرسوله) خير، من ألف شهر) (3) .

وفي سند الصحيفة السجّادية، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (إنّ أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه‌السلام : إنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذته نَعسةٌ وهو على منبره، فرأى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة، يردّون الناس على أعقابهم القهقري، فاستوى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جالساً والحزن يعرف في وجهه، فأتاه جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ) ، يعني بني أُمية. قال: يا جبرئيل على عهدي يكونون وفي زمني؟

قال: لا، ولكن تدور رحى الإسلام من مُهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثمّ تدور رحى الإسلام على رأس خمسة وثلاثين من مهاجِرَك فتلبث بذلك خمساً، ثمّ لابدّ من رحى

____________________

1) الكافي، ج4، ص159.

2) سورة الشعراء:205 - 206.

3) الكافي، ج8، ص223.

٢٨٦

ضلاله هي قائمة على قطبها ثمّ ملك الفراعنة. قال: وأنزل اللَّه تعالى في ذلك: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) يملكها بنو أُمية. فيها ليلة القدر.

قال: فأَطلع اللَّه عزّ وجلّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بني أُمية تملك سلطان هذه الأُمّة وملكها طول هذه المدّة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها، حتّى يأذن اللَّه تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا. أخبر اللَّه نبيّه بما يلقي أهل بيت محمّد وأهل مودّتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم) (1) .

وفي تأويل الآيات: (روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: قوله عزّ وجلّ: ( خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ ) هو سلطان بني أُمية.

وقال: ليلة من إمام عادل خير من ألف شهر ملك بني أُمية.

وقال: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) أيّ من عند ربّهم على محمّد وآل محمّد، بكلّ أمر سلام) (2) .

وفي تفسير القمّي: بسنده، في معنى سورة: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) فهو القرآن... قوله: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) .

أقول: تكثر الروايات في غصب الخلافة من بني أُمية، وتأذّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعويضه بليلة القدر، وسيأتي معنى تعويضه بليلة القدر، وتسالم كثير من علماء الجمهور بهذه الروايات، هذا الأمر أحد الأدلّة على أنّ الخلافة في الشريعة الإلهية هي منصب أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فتدبّر تبصُر.

____________________

1) الصحيفة السجّادية الكاملة: 15 - 16.

2) تأويل الآيات، ج2، ص817، ح2.

٢٨٧

حقيقة النازل الذي نزل في ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) : الضمير عند الجمهور للقرآن، وادّعى الإمام فيه إجماع المفسّرين، وكأنّه لم يعتقد بقول من قال منهم برجوعه لجبرئيل عليه‌السلام أو غيره؛ لضعفه. قالوا: وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدّم ذكره تعظيم له، أي تعظيم لِما أنّه يشعر بأنّه لعلوّ شأنه كأنّه حاضر عند كلّ أحد.

جهل الخلق بحقيقة ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (1) : لِما فيه من الدلالة على أنّ علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يُعلم ذلك، ولا يَعلم به إلاّ علاّم الغيوب.

حقيقة نزول القرآن جملة واحدة:

ثمّ ذكر جملة في تعدّد نزول القرآن جملةً واحدةً ونجوماً، وذكر في ضمنها هذه الرواية، عن ابن عبّاس: (أُنزل القرآن جملةً واحدة حتّى وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزل به جبريل عليه‌السلام على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بجواب كلام العباد وأعمالهم)... ثمّ نقل الاختلاف بين المفسّرين عندهم في قوله تعالى: ( أَنْزَلْنَاهُ ) من جهة نزول القرآن جملةً واحدة، فهل تضمّن القرآن النازل جملةً واحدة هذه العبارة أم لا؟ فلابدّ من ارتكاب المجاز في الإسناد؛ لأنّه إخبار عمّا وقع فيما مضى، فكيف يكون هذا اللفظ في ضمنه؟

____________________

1) سورة القدر: 2.

٢٨٨

فذكر قولاً للرازي في حلّ الإشكال، وللقرطبي، وابن كثير، وضعّف قولهم. ونقل عن ابن حجر في شرح البخاري أنّه أُنزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، بل حكى بعضهم الإجماع عليه، ثمّ نقل جواباً لحلّ الإشكال عن السيد عيسى الصفوي، ثمّ الاختلاف بين الدَّواني وغيره، وأنّه ألّف رسالة في ذلك، في الجواب عن مسألة الحذر الأصمّ.

ثمّ نقل عن الإتقان قول أبي شامة: فإن قلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة، فما نزل جملة؟ وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟

قلت: لها وجهان:

أحدهما: أن يكون المعنى إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدّرناه في الأزل.

والثاني: أنّ لفظ ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) ماضٍ ومعناه على الاستقبال، أي تنزّله جملة في ليلة القدر. ثمّ ذكر عدم ارتضائه لهذا القول وعدم حسنه.

ثمّ نقل أقوالاً أُخر، ثمّ قال: والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، أو إثباته لدى السَفَرة هناك، أو نحو ذلك ممّا لا يشكل نسبته إلى القرآن.

تقدير الأُمور في ليلة القدر على من تُنزّل؟

وقال في معنى ليلة القدر: إنّها ليلة التقدير، وسبب تسميتها بذلك لتقدير ما يكون في تلك السنة من أُمور. قال: المراد إظهار تقديره ذلك للملائكة عليهم‌السلام المأمورين بالحوادث الكونية. ثمّ نقل عن بعض تفسير ذلك: هاهنا ثلاثة أشياء:

الأوّل: نفس تقدير الأُمور، أي تعيين مقاديرها وأوقاتها، وذلك في الأزل.

٢٨٩

الثاني: إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم‌السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ، وذاك في ليلة النصف من شعبان.

الثالث: إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبّرات، فتدفع نسخة الأرزاق، والنباتات، والأمطار، إلى ميكائيل عليه‌السلام ، ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرئيل عليه‌السلام ، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه‌السلام ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، وذلك في ليلة القدر.

وقيل: يقدّر في ليلة النصف الآجال والأرزاق، وفي ليلة القدر الأُمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. وقيل: يقدّر في هذه ما يتعلّق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلّم إلى ملك الموت، واللَّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

أقول: إنّ المكتوب في ليلة القدر ويقدّر يُفترض أنّ كتابته وتقديره إنّما يُكتب ويقدّر لتسليمه إلى من يوكّل إليه تدبير الأُمور بإذن اللَّه، كالملائكة الموكّلين، فالتنزّل بكلّ هذه التقديرات والكتابة إلى الأرض إلى من يسلّم؟ ومن هو الذي يطّلع على ذلك من أهل الأرض؟ وما هو التناسب بين نزول ما فيه إعزاز الدين والأُمّة، والحديث النبويّ: (إنّ الإسلام لا يزال عزيزاً إلى اثني عشر خليفة... كلّهم من قريش) (1) ؟

أقوال علماء سنّة الجماعة في عِوَضية الليلة له عن غصب الخلافة:

قال في تفسير ( أَلْفِ شَهْرٍ ) : وقد سمعت إلى ما يدلّ أنّ الألف إشارة إلى مُلك بني أُميّة، وكان على ما قال القاسم بن الفضل: ألف شهر، لا يزيد يوماً ولا ينقص

____________________

1) المعجم الكبير للطبراني، ج2، ص232. ولاحظ: إحقاق الحق، ج13، 1 - 49.

٢٩٠

يوماً، على ما قيل: ثمانين سنة، وهي ألف شهر تقريباً؛ لأنّها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، ولا يعكّر على ذلك ملكُهم في جزيرة الأندلس بعد؛ لأنّه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، ولذا لا يعدّ من مَلَكَ منهم هناك من خلفائهم، وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار.

وطعن القاضي عبد الجبّار في كون الآية إشارة لما ذُكر؛ بأنّ أيام بني أُمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب، فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنّها خير من ألف شهر مذمومة:

ألم ترَ أنّ السيف ينقص قدره

إذا قيل إنّ السيف خيرٌ من العصا

وأُجيب: إنّ تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يبعد أن يقول اللَّه تعالى: أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية، فلا تبقى فائدة.

ليلة القدر مع الأنبياء في ما مضى فهي مع من في ما بقي:

الروح النازل في ليلة القدر قناة غيبية كانت مع الأنبياء، فهي مع من بعد النبيّ الخاتم؟ قال: وما أشير إليه من خصائص هذه الأُمّة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول، وصرّح به الهيثمي وغيره.

وقال القسطَلاني: إنّه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: (يا رسول اللَّه، أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت. قال: بل هي باقية). ثمّ ذكر أنّ عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدّمناه في سبب النزول من رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله تقاصر أعمار أُمّته عن أعمار الأُمم، وتعقّبه بقوله هذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان: ابن كثير في تفسيره، وابن حجر في فتح الباري.

٢٩١

وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركتا في إخفاء كلّ منهما ليقع الجدّ في طلبهما:

القول الأوّل: إنّها رُفعت أصلاً ورأساً. حكاه المتولّي في التتمّة عن الروافض، والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية، وكأنّه خطأ منه، والذي حكاه السروجي أنّه قول الشيعة.

أقول: بل الشيعة الإمامية هم المذهب الوحيد على وجه الأرض القائلون ببقاء الاتّصال بين الأرض والسماء، وأنّ هناك سبب متّصل هو الإمام من عِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن لم يكن هذا الاتّصال وحياً نبويّاً، وهو الذي يتنزّل عليه الروح الأعظم والملائكة كلّ عام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بينما المذاهب الإسلامية كلّها حتّى الزيدية، وإن قالوا باستمرار الإمامة السياسية وعدم حصرها بالأئمّة المنصوص عليهم وأنّ الإمامة هي لكلّ من قام بالثورة على الظلم ولا يشترط فيها العصمة، إلاّ أنّهم قائلون بانقطاع الاتّصال أيضاً بين الغيب والشهادة.

وانقطاع الاتّصال ذهبت إليه اليهود بعد النبيّ موسى عليه‌السلام ، كما ذهبت إليه النصارى بعد النبيّ عيسى عليه‌السلام .

وقال: وقد روى عبد الرزّاق من طريق داود بن أبي عاصم، عن عبد اللَّه بن يخنس: قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر رُفعت، قال: كذّب من قال ذلك. ومن طريق عبد اللَّه بن شُريك قال: ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها، فأراد زر بن حُبيش أن يحصبه فمنعه قومه.

الثاني: إنّها خاصّة بسنة واحدة وقعت في زمن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حكاه الفاكهاني أيضاً.

الثالث: إنّها خاصّة بهذه الأُمّة، ولم تكن في الأُمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية ونقله الجمهور، وحكاه صاحب العدّة من الشافعية ورجّحه،

٢٩٢

وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال: لا، بل هي باقية.

وعمدتهم قول مالك في الموطأ: بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تقاصر أعمار أمّته عن أعمار الأُمم الماضية، فأعطاه اللَّه ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل، فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذر (1) .

ليلة القدر يفصل فيها المقدّرات لأحداث كلّ السنة:

وقال الآلوسي في روح المعاني في تفسير قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (2) : أي من أجل كلّ أمر تعلّق به التقدير في تلك السنة إلى قابل وأظهره سبحانه وتعالى لهم، قاله غير واحد. ف)من(بمعنى اللام التعليلية متعلّقة بتنزّل، وقال أبو حاتم: (من) بمعنى الباء، أي تنزّل بكلّ أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشرّ وجعلت الباء عليه للسببية.

والظاهر على ما قالوا إنّ المراد بالملائكة المدبّرات؛ إذ غيرهم لا تعلّق له بالأُمور التي تعلّق بها التقدير ليتنزّلوا لأجلها على المعنى السابق، وهو خلاف ما تدلّ عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبّرات (3) .

ليلة القدر يتحقّقها وتتنزّل على من شاء اللَّه تعالى من عباده:

جاء في شرح صحيح مسلم للنووي قوله: (اعلم أنّ ليلة القدر موجودة... وأنّها تُرى ويتحققّها من شاء اللَّه تعالى من بني آدم كلّ سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه الأحاديث... وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تُحصر. وأمّا قول القاضي عيّاض عن المهلّب بن أبي صُفرة: لا يمكن رؤيتها حقيقةً. فغلط فاحش

____________________

1) فتح الباري، ص262 - 263، كتاب فضل ليلة القدر.

2) سورة القدر: 6.

3) روح المعاني، ج30، ص196.

٢٩٣

نبهتُ عليه لئلاّ يُغترّ به) (1) .

وقال في ذيل سورة الدخان، في قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) (2) : أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعوّل عليه في ( لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) هي ليلة القدر، على ما روي عن ابن عبّاس وقتادة.

وفي تحفة المحتاج لابن حَجَر الهيتمي: (ليس لرائيها كَتْمها، ولا ينال فضلها - أي كمالها - إلاّ من أطلعه اللَّه عليها)، انتهى.

والظاهر أنّه عَنى برؤيتها: رؤية ما يحصل به العلم له بها، ممّا خُصّت به من الأنوار، وتنزّل الملائكة عليهم‌السلام ، أي: نحوٍ من الكشف ممّا لا يعرف حقيقته إلاّ أهله، وهو كالنصّ في أنّها يراها من شاء اللَّه تعالى من عباده. ثمّ حكى عن ابن شاهين: إنّه لا يراها أحد من الأوّلين والآخرين إلاّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ قال: وفي بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ رؤيتها مناماً وقعت لغيره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي صحيح مسلم وغيره، عن ابن عمر: (إنّ رجالاً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّياً فليتحرَّها في السبع الأواخر) (3) .

وحُكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضاً، وغلّط، ففي شرح صحيح مسلم وابن جُبير ومجاهد وابن زيد والحسن، وعليه أكثر المفسّرين والظواهر معهم.. والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملةً إلى السماء الدنيا من اللوح، فالإنزال المنجّم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا، وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أنّ المحلّ الذي أُنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور، وهو

____________________

1) شرح مسلم، ج8، ص66.

2) سورة الدخان: 3.

3) صحيح مسلم، ج3، ص170.

٢٩٤

مسامِت للكعبة، بحيث لو نزل لنزل عليها.

وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنّه قال: أُنزل القرآن جملةً على جبرئيل عليه‌السلام ، وكان جبرئيل عليه‌السلام يجي‏ء به بعدُ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ليلة القدر في سورة الشورى والنزول الأول للقرآن:

وقال في ذيل قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ... ) (1) : وهو ما أُوحي إليه (عليه الصلاة والسلام)، أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية. وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهود لغيرك، أوحينا أبو القاسم إليك. وقيل: أي مثل ذلك الإيحاء المفصّل، أوحينا إليك، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث، سواء فُسّر الوحي بالإلقاء، أم فُسّر بالكلام الشفاهي.

وقد ذُكر أنّه (عليه الصلاة والسلام) قد أُلقي إليه في المنام كما أُلقي إلى إبراهيم عليه‌السلام ، وأُلقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه‌السلام . ففي (الكبريت الأحمر) للشعراني، نقلاً عن الباب الثاني من (الفتوحات المكّية): أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أُعطي القرآن مجملاً قبل جبرئيل عليه‌السلام ، من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عبّاس تفسير الروح بالنبوّة. وقال الربيع: هو جبرئيل عليه‌السلام .

وعليه، فأوحينا مضمّن معنى أرسلنا، والمعنى: أرسلناه بالوحي إليك؛ لأنّه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله.

ونقل الطبرسي عن أبي جعفر، وأبي عبد اللَّه (رضي اللَّه تعالى عنهما): أنّ المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يصعد

____________________

1) سورة الشورى 52: 42.

٢٩٥

إلى السماء. وهذا القول في غاية الغرابة، ولعلّه لا يصحّ عن هذين الإمامين.

وتنوين (روحاً) للتعظيم، أي روحاً عظيماً (1) ... وقال في ذيل قوله تعالى ( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ ) : أي الروح الذي أوحيناه إليك. وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل للإيمان، ورجّح بالقرب، وقيل للكتاب والإيمان ووحّد؛ لأنّ مقصدهما واحد فهو نظير ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) (2) .

____________________

1) روح المعاني، ج25، ص 80 - 81.

2) سورة التوبة: 62.

٢٩٦

ليلة القدر

في روايات أهل سنّة الخلافة

دوام ليلة القدر في كلّ عام إلى يوم القيامة:

1 - فقد روى عبد الرزّاق الصنعاني في (المصنّف) بسنده، عن مولى معاوية، قال: (قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر قد رُفعت، قال: كذّب من قال كذلك، قلت: فهي كلّ شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم... الحديث) (1) ، ورواه عنه بطريق آخر (2) ، ورواه كنز العمّال أيضاً (3) .

2 - وروى عبد الرزّاق الصنعاني في المصنّف بسنده، عن ابن عبّاس، قال: (ليلةٌ في كلّ رمضان يأتي، قال: وحدّثني يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سُئِل عن ليلة القدر، فقيل له: كانت مع النبيّين ثمّ رُفعت حين قُبضوا، أو هي في كلّ سنة؟ قال: بل هي في كلّ سنة، بل هي في كلّ سنة) (4) .

3 - وروي عن ابن جرير، قال: (حُدّثت: أنّ شيخاً من أهل المدينة سأل أبا ذر بمنى، فقال: رُفعت ليلة القدر أم هي في كلّ رمضان؟ فقال أبو ذر: سألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت: يا رسول اللَّه رُفعت ليلة القدر؟ قال: بل هي كلّ رمضان) (5) .

4 - وروى ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف في باب ليلة القدر، بسنده إلى ابن

____________________

1) المصنّف، ج3، ص216، ح 5586.

2) المصنّف، ج3، ص255، ح 7707.

3) كنز العمّال، ج3، ص634، ح 24490.

4) المصنّف، ج4، ص255، ح 7708.

5) المصنّف، ج4، ص255، ح 7709، وأخرجه هق، ج4، ص307، والطحاوي، ج2، ص50.

٢٩٧

أبي مرثد عن أبيه، قال: (كنت مع أبي ذر عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: كان أسأل الناس عنها رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا: ليلة القدر كانت تكون على عهد الأنبياء فإذا ذهبوا رُفعت؟ قال: لا ولكن تكون إلى يوم القيامة) (1) .

5 - أخرج السيوطي في الدرّ المنثور: (عن محمّد بن نصر، عن سعيد بن المسيّب أنّه سُئل عن ليلة القدر، أهي شي‏ء كان فذهب، أم هي في كلّ عام؟ فقال: بل هي لأُمّة محمّد ما بقي منهم اثنان) (2) .

أقول: وفي هذه الرواية - وإن كانت مقطوعة - دلالةٌ على أن لو بقي في الأرض رجلٌ واحد لكان الثاني هو الحجّة وخليفة اللَّه في الأرض، الذي تنزّل عليه ليلة القدر بمقادير الأُمور، وأنّ ليلة القدر هي من حقائق وخصائص روح الحجّة في الأرض.

6 - وروى الطبري بسنده عن ربيعة بن كلثوم، قال: (قال رجل للحسن وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، واللَّه الذي لا إله إلاّ هو إنّها لفي كلّ رمضان، وأنّها ليلة القدر، فيها يُفرق كلّ أمر حكيم، فيها يقضي اللَّه كلّ أجل وعمل ورزق إلى مثلها) (3) .

النزول في ليلة القدر وحي للأنبياء، واستمراره بعد الأنبياء:

قال ابن خزيمة في صحيحه (4) : باب ذكر أبواب ليلة القدر، والتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيها ما يحسب كثيراً من حملة العلم، ممّن لا يفهم صناعة العلم، أنّها متهاتِرةٌ متنافية، وليس كذلك هي عندنا بحمد اللَّه ونعمته، بل هي

____________________

1) المصنّف لابن أبي شيبة، ج2، ص394، ح 5، باب 341.

2) الدرّ المنثور، ج6، ص371، في ذيل سورة القدر.

3) جامع البيان، ج25، ص139، ح24000.

4) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

٢٩٨

مختلفة الألفاظ متّفقة المعنى، على ما سأبيّنه إن شاء اللَّه.

قال أيضاً: باب ذكر دوام ليلة القدر في كلّ رمضان إلى قيام الساعة، ونفي انقطاعها بنفي الأنبياء.

7 - وروى بسنده إلى أبي مرثد، قال: (قال: لقينا أبا ذر وهو عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: ما كان أحد بأَسأل لها منّي، قلت: يا رسول اللَّه ليلة القدر أُنزلت على الأنبياء بوحي إليهم فيها ثمّ ترجع؟ فقال: بل هي إلى يوم القيامة.. الحديث) (1) ، ورواه بطريق آخر أيضاً، في باب أنّ ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان (2) .

8 - وروى النسائي، والقسطلاني، والهيثمي، وابن حجر في فتح الباري، وابن كثير في تفسيره حديث أبي ذر - في ليلة القدر - قال: (يا رسول اللَّه أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت؟ قال: بل هي باقية).

9 - وروى أحمد بن محمّد بن سلمة في شرح معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده، إلى مالك ابن مرثد عن أبيه، قال: (سألت أبا ذر فقلت: أسألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ليلة القدر؟ قال: نعم، كنت أسأل الناس عنها، قال عكرمة: يعني أشبع سؤلاً، قلت: يا رسول اللَّه، ليلة القدر أفي رمضان هي أم في غيره؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : في رمضان. قلت: وتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا رُفعوا رُفعت؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة) (3) .

10 - وفي صحيح ابن حِبان، قال في باب ذكر البيان بأنّ ليلة القدر تكون في العشر الأواخر كلّ سنة إلى أن تقوم الساعة، ثمّ روى بسند متّصل رواية أبي ذر

____________________

1) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

2) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص321.

3) شرح معاني الآثار، ج3، ص85.

٢٩٩

المتقدِّمة واللفظ فيها... (تكون في زمان الأنبياء ينزل عليهم الوحي، فإذا قُبضوا رُفعت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل هي إلى يوم القيامة) (1) .

وروى البيهقي في فضائل الأوقات رواية أبي ذر المتقدّمة بإسناده (2) ، وقال - قبل تلك الرواية -: وليلة القدر التي ورد القرآن بفضيلتها إلى يوم القيامة وهي في كلّ رمضان... ثمّ نقل الخبر المزبور. وروى الهيثمي في موارد الظمآن رواية أبي ذر بسنده (3) .

11 - وروى أحمد بن محمّد بن سَلمة في معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: (سُئل رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال: في كلّ رمضان). ففي هذا الحديث أنّها في كلّ رمضان، فقال قوم هذا دليل على أنّها تكون في أوّله وفي وسطه، كما قد تكون في آخره. وقد يحتمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (في كلّ رمضان)، هذا المعنى، ويحتمل أنّها في كلّ رمضان إلى يوم القيامة (4) ، ورواه بطرق أخرى غير مرفوعة.

أقول: هذه الروايات عند العامّة مطابقة لما يأتي من الروايات عند أهل البيت عليهم‌السلام ، من عدّة وجوه، أهمّها:

أوّلاً: ليلة القدر كانت من لَدُن آدم عليه‌السلام ، واستمرّت إلى النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي مستمرّة إلى يوم القيامة نزولاً على خلفاء النبيّ الاثني عشر.

وثانياً: إنّ هذا الروح النازل في ليلة القدر هو قناة ارتباط الأنبياء والأوصياء مع الغيب.

وثالثاً: ممّا يدلّل على عموم الخلافة الإلهية: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ

____________________

1) صحيح ابن حِبّان، ج8، ص438.

2) البيهقي، ص 219.

3) موارد الظمآن، ص 231.

4) شرح معاني الحديث، ج3، ص84.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وكان أكثر المؤمنين يريدون مواجهة العير دون النفير، مواجهة غير ذات الشوكة، حتّى يكسبوا الأموال ويجمعوا الغنائم. وإليه يشير قوله سبحانه:( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ *لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ) ( الأنفال / ٧ ـ ٨ ).

وقد عرفت أنّ النّبي قال لهم: « إنّ الله تعالىٰ قد وعدني إحدى الطائفتين » ولكنّ إرادة الله سبحانه غلبت على إرادتهم فالتقوا بالنفير دون العير، لما في ذلك من إظهار للحق، واعزاز للإسلام، واستئصال للكافرين، وإبطال للباطل.

إنتقال الرّسول إلى مكان قريب من بدر

ولـمّا وقف الرّسول على أنّ الأنصار مستعدّون للحرب والقتال، وأنّ حربهم وقتالهم عن رغبة ورضى، ارتحل الرّسول من « ذفران » وقطع منازل حتّى نزل قريباً من « وادي بدر »، فركب هوصلى‌الله‌عليه‌وآله ورجل من أصحابه يتعرّفان أخبار قريش، فوقفصلى‌الله‌عليه‌وآله على شيخ في المنطقة، فسأله عن قريش وعن محمّد وأصحابه.

قال الشيخ: إنّه بلغني أنّ محمّداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذّي أخبرني صدق، فهم اليوم بمكان كذا وكذا ( فسمّىٰ المكان الّذي به رسول الله )، وبلغني أنّ قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الّذي أخبرني صدق، فهم اليوم في مكان كذا وكذا ( فسمّى المكان الّذي فيه قريش ) ; ثمّ انصرف. فلمّا أمسى بعث عليّ بن أبي طالب مع غيره يلتمسون الخبر له، فأصابوا راوية(١) لقريش، وعليها غلامان لهم، فأتوا بهما فسألوهما، فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء وهؤلاء وراء هذا الكثيب ; فقال لهما رسول الله: كم القوم ؟ قالا: كثير، قال: ما

__________________

(١) الإبل التي يستقي عليها الماء.

٣٢١

عدّتهم ؟ قالا: لا ندري، قال: كم ينحرون كل اليوم ؟ قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً، فقال رسول الله القوم بين التسعمائة والألف. ثمّ قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش ؟ فسمّوا أسماء عدّة منهم، فأقبل رسول الله على النّاس، فقال: هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.

ولم يكتف النّبي بما وصل اليه من الأخبار، فأرسل بعض أصحابه حتّى نزل بدراً، فأناخ إلى تل قريب من الماء، ثمّ أخذ زقّاً يستقي فيه، فسمع جاريتين تتنازعان في دين عند « مجدي بن عمرو الجهني » شيخ القبيلة، فقالت إحداهما للاُخرى: عند ما تأتي العير غداً أو بعد غد، فأعمل لهم، ثمّ أقضي الّذي لك، فقال مجدي: صدقت: ثّم خلص بينهما. فرجع إلى النّبي، فأخبره بما سمع، فأذعن النّبي بأنّ موضع العدو قريب وهم وراء الكثيب.

نزول النّبي في وادي بدر

لـمّا كانت قلب المياه في بدر، أسرع النبي بالسير حتّى ينزل ببدر في العدوة الدنيا، فمضى وكان الوادي ليّناً ولكن قليل الرمل، وجاءت الأمطار فلبّدت الأرض للنّبي وأصحابه ولم يمنعهم عن السير، ولكن أصاب قريشاً من المطر ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، فخرج رسول الله يبادرهم إلى الماء، حتّى إذا جاء أدنى ماء من بدر، نزل به.

ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله به: أشيروا عليّ في المنزل. فقال الحبّاب بن المنذر: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله، فليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخّر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: فإن هذا ليس بمنزل انطلق بنا إلى أدنى ماء القوم، فإنّي عالم بها وبقلبها، بها قليب قد عرفت عذوبة مائه، وماء كثير لا ينزح، ثمّ نبني عليها حوضاً ونقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل، ونغور ما سواها من القلب.

٣٢٢

فقال رسول الله: يا حبّاب أشرت بالرأي، وبادر القوم إلى الماء حتّى إذا وصلوا إلى ما يريدون نزلوا فيه. ثمّ أمر بالقلب فغورت، وبنى حوضاً على القليب الّذي نزل عليه. فملي ماء ثمّ قذفوا فيه الآنية(١) .

بناء العريش

فلمّا استقرّ لهم المكان إقترح سعد بن معاذ على النّبي، فقال: يا نبي الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ونعدّ عندك ركائبك ثمّ نلقى عدوّنا، فإن أعزّنا الله وأظهرنا على عدوّنا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الاُخرى، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلّف عنك أقوام، يا نبي الله، ما نحن بأشدّ لك حبّاً منهم، ولو ظنّوا انّك تلقى حرباً ما تخلّفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك. فأثنى عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خيراً، ودعا له بخير، ثمّ بنى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عريش، فكان فيه(٢) .

تعليق على تغوير القلب وبناء العريش

هذا ما تذكره كتب السيرة، ولكن للنظر في كلا الأمرين المذكورين مجالاً، أمّا تغوير القلب وطمّها، فهو لا يناسب شأن النبي الأكرم، فقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله يوصي قادة سراياه عندما كان يبعثها باُمور، ويقول: سيروا باسم الله وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله، لا تغلو، ولا تمثّلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبيّاً، ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلّا أن تضطرّوا إليها.

وفي رواية اُخرى: ولا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعاً، لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه(٣) .

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٦٢٠، مغازي الواقدي: ج ١ ص ٥٣.

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٦٢٠ ـ ٦٢١.

(٣) الوسائل: ج ١١ الباب ٥ من أبواب جهاد العدو، الحديث ٢ و ٣.

٣٢٣

فإنّ من يمنع من قطع الشجرة أولى بأن يمنع من طمّ القلب الّتي حفرها رجال الخير لأجل سقاية القوافل الّتي كانت تمرّ من هذا الطريق.

وقد أشار بعض أصحابه في غزوة خيبر أن يمنع جريان الماء إلى قلاع خيبر، فأبى(١) . وقد كانت هذه سيرة وصيّة أمير المومنين فإنّه ـ صلوات الله عليه ـ ورد صفّين وقد سيطر أصحاب معاوية على الشريعة، فمنعوا أصحاب عليٍّ من الإستقاء، حتّى أصابهم العطش وضاق الأمر عليهم، فلم يكن بد من فتح طريق الماء على أصحابه، فحمل حملة خاطفة مع لفيف من أصحابه على الشريعة فأزال جيش معاوية عنها، فلمّا استولى عليها إقترح عليه بعض أصحابه أن يعتدي عليهم بالمثل، فأبى، وقال ـ مخاطباً لعسكره ـ: خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى عسكركم وخلّوا بينهم وبين الماء، فإنّ الله قد نصركم ببغيهم وظلمهم(٢) .

وأمّا بناء العريش للنّبي الأكرم، فهو بمعزل من الصّحة، فإنّ قبوله أمام أصحابه الّذين يضحّون بنفسهم ونفيسهم يثبّط من عزائمهم، ويخفّف من مثابرتهم، فإنّهم إذا رأوا باُمّ أعينهم أنّ سيّدهم على حالة إذا رأى بوادر الهزيمة فسيجلس على الركائب وينجي نفسه ويترك أصحابه تحت رحمة عدوّهم، فلربّما يشكّون في صحّة دعوته ونبوّته، فلا يصدر مثل ذلك الاقتراح من سيد مثل سعد بن معاذ المعروف بالعقل والحنكة، ولو صدر منه ـ على وجه بعيد ـ فلن يقبله النّبي الأكرم الّذي يصفه عليّعليه‌السلام بقوله: « كان أقرب الناس إلى العدوّ، وكنّا إذا احمر البأس إتّقينا برسول الله »(٣) .

__________________

(١) ناسخ التواريخ: ج ٢ ص ٤٠٠.

(٢) وقعة صفّين: ص ١٨٠.

(٣) نهج البلاغة: قسم غريب كلامه برقم ٩.

٣٢٤

إرتحال قريش من مقامهم ونزولهم وادي بدر

قد تعرّفت على أنّ النّبي الأكرم قد أسرع في الإرتحال واستقرّ في وادي بدر قبل أن ينزل العدو من وراء الكثيب، فارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت، فلمّا رأى رسول الله نزولهم إلى الوادي قال: « أللّهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذّب رسولك، أللّهم فنصرك الّذي وعدتني، أللّهم أحنهم(١) الغداة »(٢) .

وقال الواقدي: وكان أوّل من طلع زمعة بن الأسود على فرس له، يتبعه ابنه، فاستجال بفرسه يريد أن يتبوّأ للقوم منزلاً، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أللّهم إنّك أنزلت عليّ الكتاب وأمرتني بالقتال، ووعدتني إحدى الطائفتين، وأنت لا تخلف الميعاد، أللّهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها(٣) .

فلمّا اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي، فقالوا: أحرز لنا محمداً وأصحابه، فاستجال بفرسه حول المعسكر، فصوّب في الوادي وصعد، يقول: عسى أن يكون لهم مدد أو كمين، ثمّ رجع فقال: لا مدد ولا كمين، والقوم ثلاثمائة إنْ زادوا قليلاً، ومعهم سبعون بعيراً، ومعهم فرسان، ثمّ قال: يا معشر قريش، البلايا(٤) تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلّا سيوفهم، ألا ترونهم خُرّسا لا يتكلّمون، يتلمّظون تلمّظ الأفاعي، والله ما أرى أن يقتل منهم رجل حتّى يقتل منّا رجلاً، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم فما خير في العيش بعد ذلك، فارتأوا رأيكم(٥) .

__________________

(١) أي أهلكهم.

(٢) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٦٢١.

(٣) مغازي الواقدي: ج ١ ص ٢٩.

(٤) البلايا: جمع بليه وهي الناقة.

(٥) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٦٢٢، والمغازي للواقدي: ج ١ ص ٦٢.

٣٢٥

ولـمّا قال الجمحي هذه المقالة أرسلوا أبا اُسامة الجشمي وكان فارساً، فأطاف بالنّبي وأصحابه، قال: والله ما رأيت جلداً، ولا عدداً، ولا حلقة(١) ، ولا كراعاً، ولكنّي والله رأيت قوماً لا يريدون أن يعودوا إلى أهليهم، قوماً مستميتين ليست لهم منعة ولا ملجأ إلّا سيوفهم(٢) .

فلمّا سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في النّاس، فأتى عتبة بن ربيعة، فاستدعى منه أن يرجع بالنّاس فلبّى دعوته برحابة، وأمره بالإنطلاق إلى أبي جهل، ويستدعي منه نفس ذلك، فرجع إليه وقال يا أبا الحكم: إنّ عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا ( أي أن ترجع بالنّاس وتترك الحرب )، فقال: « والله لا نرجع حتّى يحكم الله بيننا وبين محمّد. وما بعتبة ما قال، ولكنّه قد رأى أنّ محمداً وأصحابه أكلة جزور، وبين أصحابه ابنه، فقد تخوّفكم عليه ». وبالتّالي أفسد أبو جهل على النّاس الرأي الّذي دعاهم إليه عتبة، وجرّهم إلى التهلكة والدمار.

الشرارة الّتي أشعلت الحرب

كان القوم يتحاورون حول الحرب، فبين داع إلى ترك الوادي واللحوق بمكّة، وترك أمر محمّد إلى ذؤبان العرب(٣) ، وبين متردّد يقدّم رجلاً ويؤخّر اُخرى، ومحرّض يدعو إلى الإقدام والقتال، فبينما كان القوم على هذه الحالة، خرج الأسود بن عبد الأسد المخزوفي، وكان رجلاً سيّئ الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لاُهدِّمنّه أو لأموتنّ دونه، فلمّا خرج، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلمّا التقيا، ضربه حمزة فأطار قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً، ثمّ حبا إلى الحوض، حتّى وقع فيه، يريد أن يبرّ يمينه، فتبعه حمزة وضربه حتى قتله في الحوض.

__________________

(١) أي سلاحاً.

(٢) المغازي: ج ١ ص ٦٢.

(٣) صعاليكهم.

٣٢٦

وهذه الحادثة فرضت الحرب على قريش وأبطلت فكرة الرجوع، فخرج عتبة ابن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن ربيعة، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار. فقالوا: من أنتم ؟ فقالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ثمّ نادى مناديهم: يا محمّد، أخرج إلينا أكفّاءنا من قومنا، فقال رسول الله: قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا عليّ، فلمّا قاموا ودنوا منهم. قالوا: من أنتم ؟ قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال عليٌّ: عليٌّ. قالوا: نعم أكفّاء كرام، فبارز عبيدة، وكان أسن القوم عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز عليّ الوليد بن عتبة، فأمّا حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأمّا عليٌّ فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه(١) ، وكرّ حمزة وعليٌّ بأسيافهما على عتبة، فأسرعا قتله، واحتملا صاحبهما.

ثّم تزاحف النّاس ودنا بعضهم من بعض، وقد أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه أن لا يحملوا حتّى يأمرهم، فقال: إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنّبل. ثمّ عدّل رسول الله الصفوف، وناشد ربّه وقال: « أللّهم إنْ تهلك هذه العصابة اليوم لن تعبد » ثمّ خرج رسول الله إلى النّاس فحرّضهم وقال: والّذي نفس محمّد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلّا أدخله الله الجنّة.

ثّم إنّ رسول الله أخذ حفنةً من الحصباء فاستقبل قريشاً بها، ثمّ قال: شاهت الوجوه، ثمّ نفحهم بها. وأمر أصحابه فقال: شدّوا، فكانت الهزيمة، فقتل الله تعالى من قتل من صناديد قريش، واُسِّر من اُسّر من أشرافهم وفرّ من فرّ إلى مكّة.

وكان شعار أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر: أحد، أحد. فكانت الهزيمة لقريش والنّصر للمسلمين.

* * *

__________________

(١) جرحه جراحة لم يقم معها.

٣٢٧

الإعانات الغيبيّة

إنّ غزوة بدر من أعظم غزوات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان انتصاره فيها معجزة غيبيّة تفضّل بها سبحانه على اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث التقى في وادي بدر فئتان غير متكافئتين عدداً وعدّة، ولقد كان عدد المشركين ثلاثة أضعاف عدد المسلمين، كان المشكون بين تسعمائة وألف(١) وعدد المسلمين ثلاثمائة وبضع وعلى قول ثلاثمائة وثلاثة عشر لم يكن لدى المسلمين إلّا فرسان، وقد تعرّفت على كلمة أبي اُسامة الجشمي رائد القوم ( قريش ) « والله ما رأيت جلداً ولا عدداً ولا حلقة ولا كراعاً »(٢) .

ومع ذلك كلّه، غلبت هذه الفئة القليلة تلك الفئة الكثيرة، لقوّة إيمانها وتفانيها دون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ودينهم، وفي ظل إعانات غيبيّة يذكرها القرآن الكريم، سيوافيك بيانها.

قال سبحانه:( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( آل عمران / ١٢٣ ).

نعم، كانوا أذلّاء، فصاروا أعزّاء أقوياء بفضله وكرمه. قال سبحانه:( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( المنافقون / ٨ ) فصاروا أعزّاء بعنايات ربّانية، وإعانات غيبيّة تكفّل الذكر الحكيم ببيانها ونحن نذكرها إستلهاماً منه، وتصل أنواعها إلى ثمانية، وكان لها الدور الهام في إنتصار المسلمين.

__________________

(١) قال الواقدي: « وخرجت قريش بالجيش يتقاذفون بالحراب، وخرجوا بتسعمائة وخمسين مقاتلاً، وقادوا مائة فرس، وكانت الإبل سبعمائة بعير، وكان أهل الخيل كلّهم دارع وكانوا مائة، وكان في الرجالة دروع سوى ذلك » المغازي: ج ١ ص ٣٩.

(٢) المغازي: ج ١ ص ٦٢.

٣٢٨

١ ـ إراءة العدو قليلاً في المنام

قد رأى النّبي في المنام وقعة بدر، وأراه سبحانه عدد العدو قليلاً فيه ليصون المسلمين بذلك عن الفشل والتنازع، قال سبحانه:( إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( الأنفال / ٤٣ ).

إنّ الآية تصرّح بأنّه سبحانه أراهم للنّبي في منامه قليلاً، وبيّن أنّ سبب ذلك هو منع طروء أمرين بين المسلمين، أشار إليهما بقوله:

أ ـ( لَّفَشِلْتُمْ )

ب ـ( وَلَتَنَازَعْتُمْ )

والّذي يلزم الفات النظر إليه هو أنّ الله سبحانه ينسب الأمرين إلى المسلمين لا إلى النّبي الأكرم، وهذا يعرب أنّ إراءة العدو قليلين كان مؤثّراً في عزائم المسلمين لا في عزيمة النّبي الأكرم، فإنّه ( صلوات الله عليه وآله ) كان ثابتاً، قليلين كانوا أم كثيرين، وإنّما أراهم النّبي قليلاً حتّى ينقل رؤياه إلى المسلمين حسب ما رآه، فتشتدّ عزيمتهم وترتفع معنويّاتهم بظنّ أنّ أعدائهم أقلاّء.

٢ ـ إراءة كلّ من الفريقين الآخر قليلاً في بدء الحرب

ومن إعاناته تعالى الغيبيّة أنّه سبحانه أرى كل فريق للفريق الآخر ـ عند إبتداء الحرب ـ قليلاً، وقد كانت تكمن في ذلك فلسفة انتصار الحق على الباطل وزهوقه، فأرى المشركين المؤمنين قليلين، كما أرى المؤمنين للفريق الآخر كذلك، حتّى أنّ أبا جهل قال: خذوا أصحاب محمّد بالأيدي(١) .

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص ٥٤٧.

٣٢٩

إنّما أرى المشركين المؤمنين قليلين، حتّى لا يورث ذلك رُعبا ووحشة في قلوبهم، وقد مرّ في الإعانة الاُولى أنّه سبحانه فعل ذلك دفعاً للفشل والتّنازع.

وإنّما أرى المؤمنين للمشركين قليلين لئلاّ يتأهّبوا ويستشرسوا في القتال، ويتخيّلوا أنّهم لا يحتاجون في دفع عدوّهم إلى بذل جهد كبير.

قال سبحانه مشيراً إلى ذلك بقوله:( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وإلى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ) ( الأنفال / ٤٤ ) وحاصل الآية أنّه سبحانه قلّل الفريقين في عين الآخر، ولولا ذلك لانتهى الأمر إلى فشل المسلمين أو إلى فرار العدوّ من المعركة، بحفظ أنفسهم. وقد تعلّقت مشيئته بإبادتهم.

٣ ـ إراءة المشركين كثرة المؤمنين أثناء القتال

وهناك إعانة غيبيّة ثالثة وهي أنّه سبحانه أرىٰ المؤمنين للمشركين في أثناء القتال كثيرين، على خلاف ما أراهم إيّاه عند إبتداء القتال.

إنّ المصلحة قد اقتضت أن يُري سبحانه المؤمنين للعدو كثيرين على خلاف ما أراهم عند أوّل الحرب وذلك حتّى يتخيّل العدو أنّه وصل إلى المسلمين مددٌ كانوا بعيدين عن المعركة حتّى تتزعزع بذلك معنويّاتهم ويتقهقروا عن ميدان المعركة بعدما فتك بهم المسلمون بقتل كثيرين منهم وأسر آخرين.

قال سبحانه:( قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ) ( آل عمران / ١٣ ).

اُنظر إلى قوله سبحانه:( يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) فإنّ هذه الجملة ناظرة إلى أثناء الحرب، وما ورد في الإعانة الغيبيّة الثانية ناظر إلى أوّل الحرب.

٣٣٠

٤ ـ إستغاثة المسلمين ونزول الملائكة

إنّ النّبي لـمّا نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلّة عدد المسلمين استقبل القبلة، وقال: أللّهم أنجز لي ما وعدتني، أللّهم إنْ تهلك هذه العصابة، لا تعبد في الأرض. فما زال يهتف ربّه مادّاً ييديه حتّى سقط رداؤه من منكبيه، فأنزل الله تعالى:( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ *وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إلّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلّا مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال / ٩ و ١٠ ).

لعلّ معنى قوله:( وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إلّا بُشْرَىٰ ) إنّه سبحانه جعل الإمداد بالملائكة بشرى للمسلمين بالنّصر ولتسكن به قلوبهم وتزول الوسوسة عنها، وإلّا فملك واحد كاف للتدمير.

أو لعلّ معناها: إنّ الإمداد بالملائكة إمداد بالسبب والنصر الحقيقي من جانب المسبّب وهو الله العزيز الحكيم، وليس للسبب أصالة ولا استقلال(١) .

ثمّ إنّه سبحانه جعل عدد الملائكة في هذه الآية ألفاً، مع أنّه سبحانه أمدّ المسلمين ـ حسب آية اُخرى ـ بثلاثة آلاف كما في قوله:( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنزَلِينَ *بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ *وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إلّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إلّا مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الحَكِيمِ ) ( آل عمران / ١٢٤ ـ ١٢٦ ).

ولكنّ الاختلاف يرتفع بالإمعان بما في ذيل الآية التّاسعة من سورة الأنفال حيث قال:( بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) أي مردفين بملائكة اُخرى، كما يقال أردفت زيداً خلفي، فيكون المفعول الثاني محذوفاً، فلو كان عدد الملائكة الاُخرى ألفين، يصير المجموع ثلاثة ألاف.

__________________

(١) وقد تكرّر مضمون الآية في سورة آل عمران، الآية ١٢٦.

٣٣١

وهناك وجه آخر لرفع الإختلاف وهو أنّ هذا العدد ( ثلاثة آلاف ) جاء في كلام النّبي عند مخاطبة المسلمين حيث قال:( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ ) وأمّا عدد الألف فقد جاء في كلامه سبحانه ووعده حيث قال:( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ ) .

والجمع بين الآيتين بأنّه كان في ضمير النّبي أنّه سبحانه ينزّل ثلاثة آلاف، ولكنّه سبحانه نزّل ألفاً منهم، وما ذلك إلّا لأنّ الملائكة لم يقتحموا المعركة إلّا بشكل جزئي كما سيوافيك، وكان الوعد والعمل به لأجل تثبيتهم وإزالة الوسوسة عنهم.

وأمّا عدد الخمسة آلاف فلم يكن إلّا وعداً مشروطاً بأنّ المؤمنين لو صبروا على الجهاد واتّقوا معاصي الله ومخالفة الرسول ورجع المشركون إليهم فوراً، فالله سبحانه يمددهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين أي معلَّمين.

٥ ـ الإمداد بالنعاس

إنّ الإنسان لا يأخده النوم في حال الخوف، وقد قيل: الخوف مسهر والأمن منوّم، فاللّه سبحانه أمدّهم بالنّعاس وهو أوّل النوم قبل أن يثقل، فقوّاهم ـ بالإستراحة ـ على قتال العدو.

٦ ـ الإمداد بنزول المطر

وقد أصابهم المطر ـ وكانوا أحوج شيء إليه فطهّروا به أبدانهم واغتسلوا من الجنابة، وزادهم قوّة قلب وسكون نفس وثقة بالنّصر، وثبّت أقدامهم في الحرب بتلبّد الرّمل.

وإلى الإمدادين: الخامس والسادس يشير قوله سبحانه:( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ (١)

__________________

(١) وهو الجنابة.

٣٣٢

وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ) ( الأنفال / ١١ ).

فإلى فائدة الإمداد بالنّعاس أشار بقوله:( أَمَنَةً مِّنْهُ ) .

وإلى فوائد نزول المطر المختلفة أشار بقوله:

١ ـ( يُطَهِّرَكُم ) ٢ ـ( يُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ) ٣ ـ( يُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ) ٤ ـ( وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ) .

٧ ـ الإمداد بتثبيت أقدام المؤمنين

وقد كان لنزول الملائكة فائدة اُخرى، وهي تثبيت أقدام المؤمنين في ميدان الحرب لئلاّ تزلّ أقدامهم عند هجوم العدو، وكانت ساحة القتال رملاً.

٨ ـ الإمداد بإلقاء الرّعب في قلوب المشركين

وقد أمدّهم سبحانه بإلقاء الرّعب في قلوب الكافرين.

يقول سبحان مشيراً إلى الإمدادين:( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) ( الأنفال / ١٢ ).

والمراد من « فَوقَ الأعناق » هي الرؤوس، لأنّها فوق الأعناق، كما أنّ المراد من قوله: « كُلَّ بَنَان »، أطراف الأصابع، ولعلّه سبحانه اكتفى به عن جملة اليد والرّجل.

وأمّا الخطاب، فيحتمل أن يكون للملائكة، كما استظهره أكثر المفسّرين، أو للمؤمنين كما هو الظّاهر، لما عرفت من أنّ الملائكة لم يقتحموا المعركة، وإنّما كان نزولهم لأجل تثبيت القلوب.

وأمّا وجه إذلاله سبحانه قريشاً، وأعزازه المؤمنين، فقد بيّنه في قوله:( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *ذَٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ

٣٣٣

وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ) ( الأنفال / ١٣ و ١٤ ).

هذه مجموعة الإعانات الغيبيّة التّي شملت المسلمين، وقد تعلّقت مشيئته سبحانه بإختصاص الإعانات الربّانيّة بالمؤمنين، والوساوس الشيطانيّة بالمشركين، فقد ظهر الشيطان، وتجسّم للكافرين يوم بدر، وزيّن لهم أعمالهم وخروجهم بطراً ورئاء النّاس، ثمّ قال لهم بأنّه لا يغلبكم أحد من الناس لكثرة عددكم، وقوّتكم، وأنا ناصر لكم، ودافع عنكم السوء، ولـمـّا التقت الفرقتان، رجع العدو القهقرى منهزماً، لأنه رأى عناية الله سبحانه بالمسلمين.

وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الأنفال / ٤٨ ).

وقد علّل الشيطان تقهقره بأمرين:

الأوّل: إنّه يرى ما لا تراه قريش أعني الملائكة الّذين جاءوا لنصرة المؤمنين.

الثّاني: إنّه يخاف الله.

إختلافهم في الفيء

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بما في العسكر، ممّا جمع النّاس، فجُمع، فاختلف المسلمون فيه فقال من جمعه: هو لنا، وقال الّذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه: والله لولا نحن ما أصبتموه لنحن شغلنا عنكم القوم حتّى أصبتم ما أصبتم، وقال الّذين يحرسون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : والله ما أنتم بأحق به منّا، والله لقد رأينا أن نقتل العدو إذ منحنا الله أكتافهم، وقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، فخفنا على رسول الله كرّة العدو، فقمنا دونه، فما أنتم بأحقّ به منّا.

كان الأولى بالمسلمين أن يفوّضوا أمر الفيء إلى الرّسول أخذاً بالتسليم الّذي

٣٣٤

أمر به المسلمون.

سُئل عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحابَ بدر نزلت، حين اختلفنا في النفل، وساءت أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسوله، وقال:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( الأنفال / ١ )(١) .

وروي عن ابن عباس أنّ سبب سؤالهم هو أنّ النّبي قال يوم بدر: من جاء بكذا، فله كذا، ومن جاء بأسير، فله كذا، فتسارع الشبّان، وبقي الشيوخ تحت الراية، فلمّا انقضت الحرب طلب الشبّان ما كان قد نفلهم النّبي به، فقال الشيوخ: كنّا ردءاً لكم ولو وقعت عليكم الهزيمة لرجعتم إلينا وجرى بين أبي اليسر وبين سعد بن معاذ كلام، فنزع الله تعالى الغنائم منهم(٢) .

ما معنى الأنفال في الآية ؟

الأنفال جمع نفل، وهو بمعنى الزيادة، ولو أطلقت على الرواتب من الصلوات وغيرها فلأجل أنّها زيادة على الفريضة، وربّما تستعمل في العطيّة، ولعلّ المعنيين متقاربان.

وقد اُطلق هذا اللّفظ في الآية واُريد منه غنائم الحرب، فيكون مساوياً لقوله سبحانه:( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الأنفال / ٤١ ) والآيتان نزلتا في غزوة بدر، وسيوافيك الجمع بين مضمونيهما، حيث جعلت الاُولى الأنفال لله. والثّانية خصّت الخمس منها لله وللرّسول ولذي القربى، والطوائف الثلاث الاُخرى، فانتظر.

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٦٤١ ـ ٦٤٢.

(٢) مجمع البيان: ج ٢ ص ٥١٨.

٣٣٥

وأمّا الغنائم التّي يحصل عليها النّبي عن غير طريق الحرب، أي بلا إيجاف عليه بخيل، ولا ركاب، فيطلق عليها الفيء، قال سبحانه:( وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَٰكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *مَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الحشر / ٦ و ٧ ).

وقد نزلت الآيتان في أموال كفّار أهل القرى، وهم بنو النضير وبنو قريظة قرب المدينة، وفدك. وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بني النضير للأنصار: إن شئتم قسّمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسّم لكم شيء من الغنيمة، فقال الأنصار: بل نقسّم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها، وفيهم نزل قوله سبحانه:( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( الحشر / ٩ ).

نعم ربّما تطلق الأنفال ويراد منها غير غنائم الحرب بل معنى يرادف الفيء، أو شيئاً أوسع منه، قال الإمام الصادق: « الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ( الفيء )، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، وكلّ أرض خربة، وبطون الأودية، فهو لرسول الله، وللإمام من بعده يضعه حيث يشاء ».

وبذلك يعلم أنّ الأنفال بما أنّ له معنى وسيعاً، يطلق على غنائم الحرب تارة، وعلى ما يحصل عليه النّبي من غير إيجاف بخيل ولا ركاب، وثالثاً على معنى أوسع يشمل على بطون الأودية، ورؤوس الجبال ممّا ورد في الروايات.

٣٣٦

الجمع بين مفاد الآيتين

إنّ الآيتين:( قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ ـوَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَ ) .

نزلتا في غزوة بدر، فعلى ضوء ذلك يكون المراد من الأنفال هو غنائم الحرب، وقد جعله في الآية الاُولىٰ لله وللرّسول، وفي الآية الثانية للمسلمين إلّا الخمس، فخصّه لله والرسول وذي القربى والطوائف الثلاث الباقية، فكيف التوفيق بينهما ؟ فهل الآية الثانية ناسخة للاُولىٰ أو لا ؟

والجواب انّه لا تنافي بين الآيتين حتّى تكون الثانية ناسخة للاُولى ولا تفيد إلّا كون أصل ملكها لله وللرّسول من دون أن تتعرّض لكيفيّة التصرّف وجواز الأكل والتمتّع، وأمّا الآية الثانية فهو يبيّن كيفيّة التصرّف والأكل والتمتع، وتكون الثانية مبيّنة للاُولى. فأصل الملك في الغنيمة لله والرّسول، ثمّ ترجع أربعة أخماسها إلى المجاهدين به يمتلكونها، ويرجع خمس منها إلى الله والرّسول وذي القربى وغيرهم(١) .

وبعبارة اُخرى: انّ أمرها مفوّض إلى الله ورسوله، ثمّ بيّن سبحانه مصارفها، وكيفيّة قسمتها في آية الخمس، ثمّ إنّ التعبير عن الغنائم بالأنفال التّى هي بمعنى الزيادات، لأجل الإشارة إلى تعليل الحكم بموضوعه، كأنّه قيل يسألونك عن الغنائم، وهي زيادات لا مالك لها بين النّاس، وإذا كان كذلك، فأجبهم بحكم الزيادات والأنفال، وقل الأنفال لله والرّسول، ومنها الغنيمة، فهي لله والرّسول بالذات، وإنّما يتمتّع بها المسلمون، حسب ما ورد في الآية الثانية.

ثمّ إنّ اللام في قوله:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ ) وإن كانت للعهد، تشير إلى غنائم الحرب، لكنّها في قوله:( قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ ) للجنس، وعليه فكل ما يعدّ زيادة، فهو لهما بالذات من غير فرق بين غنائم الحرب، أو ما حصل عليه

__________________

(١) الوسائل: ج ٦ كتاب الخمس الباب الأوّل من أبواب الأنفال، الحديث ١ ص ٣٦٤.

٣٣٧

بغير خيل ولا ركاب، أو ليس له مالك خاص، فالأموال الزائدة في المجتمع نظير الديار الخالية، والقرى البائدة، ورؤوس الجبال، وبطون الأودية، وقطائع الملوك، وتركة من لا وارث له.

نعم يقسّم قسم خاص من الأنفال بين المقاتلين، وهو ما أوجفوا عليه بخيل وركاب، دون الباقي، وتفصيل الكلام في الفقه.

أخذ الأسرى قبل الدعم والإستقرار

أمر رسول الله بقتل أسيرين أعني النضر بن حارث وعقبة بن أبي معيط لأعمالهما الإجرامية في مكّة قبل الهجرة وبعدها، فخافت الأنصار أن يقتل الأسرى، فقالوا يا رسول الله: قتلنا سبعين وهم قومك واُسرتك أتجذّ أصلهم ؟ فخذ يا رسول الله منهم الفداء. وقد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش، ولـمـّا طلبوه وسألوه، نزل قوله سبحانه:( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *لَّوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأنفال / ٦٧ ـ ٦٩ ).

إنّ الاثخان في الأرض عبارة عن التغليظ. يقال: ثخن الشيء فهو ثخيبن إذا غلظ فلم يسل، فكنّي به عن استقرار دينه بين النّاس كاستقرار الشيء الغليظ المنجمد الثّابت بعدما كان رقيقاً سائلاً مخشيّ الزوال بالسيلان، فالآية تحرّم أخذ الأسرى قبل أن يستقر للمسلمين أمرهم، ويعرب عن أنّ الهدف من الأمر بقتل الأسرىٰ، وعدم أخذ الفداء، لأجل أنّ في اطلاق سراحهم قبل الاستقرار مظنّة إجتماعهم، وتكاثفهم، ووثوبهم على النّبي، والمسلمين من جديد، فيجب إبادتهم واستئصالهم إلى حد الإثخان الذّي لا يخاف معه عن توثّبهم وتكاثفهم مرّة اُخرى.

إنّ اتخاذ الأسرى إنّما يكون خيراً ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل، ولولاه لانقلب شرّاً، والّذين يقترحون أخذ الأسرى ،

٣٣٨

يريدون عرض الدّنيا، أعني المال الّذي يأخذونه من الأسرى فداء لهم، والله يريد ثواب الآخرة الباقي.

والعتاب خاص بالصحابة والمسلمون الأوائل دون النّبي، بشهادة تغيّر لحن الكلام حيث إبتدأه بقوله:( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ ) وانتهى بالخطاب للمسلمين( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا ) ، والخطاب خاص بهم لا يشمل النّبي، وحاشا نبيّ العظمة أن يريد عرض الدّنيا.

ومن رديء الكلام، ما مرّ في تفسير المراغْي وغيره، من أنّه سبحانه عاتبهم على ما فعلوا بعد بيان سنّة النبيين كما عاتب رسوله(١) .

والآية تعرب أنّ السنّة الجارية في الأنبياء الماضيبن هي أنّهم كانوا إذا حاربوا أعداءهم، وظفروا بهم ينكّلونهم بالقتل لكي يضعفوا أوّلاً، ويعتبر بهم مَنْ وراءهم، فيكفّوا عن محادّة الله ورسوله، فكانوا لا يأخذون أسرىٰ حتّى يثخنوا في الأرض، ويستقرّ دينهم بين النّاس، وأمّا مسألة المنّ أو الفداء، فإنّما هو بعدما علا أمر الإسلام، واستقرّ في الحجاز واليمن:( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) ( محمد / ٤ )، فحكم الأسرى قبل الإثخان هو القتل، وأمّا بعده، فالحكم هو شدّهم في الحبال، وسوقهم على الأقدام حتّى يتعامل معهم بأحد الأمرين: المنّ واطلاق السراح، أو أخذ الفدية.

وبذلك يعلم أنّ الأمر بقتل الأسرى إنّما كان حكماً مؤقّتاً زمنياً مختصّاً بزمن لم يستقر أمر النّبي ولا دينه، فكان في أخذ الأسرى مظنّة الخوف على بيضة الإسلام، وأمّا إذا ارتفع ذلك الخوف، وضرب الإسلام بجرانه(٢) في الأرض، فالحكم السائد هو ما جاء في سورة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله من المنّ، أو أخذ الفداء، فلربّما يستدلّ بالآية على أنّ الإسلام يسرف في إراقة الدماء، وقتل النفوس، لا أصل له، لأنّ الأمر بالقتل، وعدم أخذ الأسرى، كان راجعاً إلى حالة خاصّة، وهي حالة

__________________

(١) تفسير المراغي: ج ٤ ص ٣٦.

(٢) ضرب الإسلام بجرانه: أي ثبت واستقرّ.

٣٣٩

عدم استقرار الإسلام في المنطقة كما كان الحال كذلك في السنوات الاُولى قبل غزوة الأحزاب، وأمّا بعدها فقد علا أمر النّبي واستقرّ، فلم تكن حاجة إلى قتل الأسرى، بل كان السائد هو ما ورد في سورة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله من إطلاق سراحهم منّاً عليهم، أو أخذ الفدية منهم.

بل الظروف في غزوة واحدة كانت مختلفة، فربّما تسود في السّاعات الاُولى من الحرب حالة عدم الاستقرار والتزلزل، ومظنّة رجوع العدو ثانياً بعد إطلاق سراحه، فلا يؤخذ الأسرىٰ، والحال أنّ الحالات الأخيرة من الحرب كانت على عكس ذلك، فلم يكن أيّة مظنّة للكرّة، فيختصّ قتل الأسرى في غزوة واحدة بالسّاعات الاُولى أي ساعات عدم الإستقرار، ومظنّة الكرة لا الساعات الأخيرة.

ثُمَّ إنّ الآية الثانية أعني قوله:( لَّوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) يعرب عن عظم المعصية، أعني أخذ الأسرى قبل الاثخان في الأرض لما فيه من مظنّة زوال الإسلام وكيانه.

كيف ولولا كتاب سابق لمسّ المسلمين، أو المصرّين على الأخذ عذاب عظيم. وأمّا ما هو هذا الكتاب الّذي سبق، فقد اُبهم غاية الابهام، لأنّه أنسب في مقام المعاتبة ليذهب ذهن السامع كل مذهب ممكن، ولا يتعيّن عنده، فيهون عنده الأمر. ومن رديء الكلام ما مرّ في غير واحد من التفاسير: قال رسول الله: « إن كاد ليمسّنا في خلاف ابن الخطّاب ( حيث كان يقترح القتل خلاف الباقين حيث كانوا يقترحون الأخذ ) عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت إلّا عمر ».

ومعناه شمول العذاب، للرّسول الأعظم، وقد سبق من المراغي وغيره: إنّ العتاب عام يعمّ المسلمين والنّبي الأكرم، مع أنّه سبحانه يقول:( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ) ( الأنفال / ٣٣ ).

فالّذي يدفع بوجوده العذاب، صار يُدفع عنه العذاب بوجود غيره.( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) ( الكهف / ٥ ).

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581