مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن6%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265862 / تحميل: 6070
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وكان أكثر المؤمنين يريدون مواجهة العير دون النفير، مواجهة غير ذات الشوكة، حتّى يكسبوا الأموال ويجمعوا الغنائم. وإليه يشير قوله سبحانه:( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ *لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ) ( الأنفال / ٧ ـ ٨ ).

وقد عرفت أنّ النّبي قال لهم: « إنّ الله تعالىٰ قد وعدني إحدى الطائفتين » ولكنّ إرادة الله سبحانه غلبت على إرادتهم فالتقوا بالنفير دون العير، لما في ذلك من إظهار للحق، واعزاز للإسلام، واستئصال للكافرين، وإبطال للباطل.

إنتقال الرّسول إلى مكان قريب من بدر

ولـمّا وقف الرّسول على أنّ الأنصار مستعدّون للحرب والقتال، وأنّ حربهم وقتالهم عن رغبة ورضى، ارتحل الرّسول من « ذفران » وقطع منازل حتّى نزل قريباً من « وادي بدر »، فركب هوصلى‌الله‌عليه‌وآله ورجل من أصحابه يتعرّفان أخبار قريش، فوقفصلى‌الله‌عليه‌وآله على شيخ في المنطقة، فسأله عن قريش وعن محمّد وأصحابه.

قال الشيخ: إنّه بلغني أنّ محمّداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذّي أخبرني صدق، فهم اليوم بمكان كذا وكذا ( فسمّىٰ المكان الّذي به رسول الله )، وبلغني أنّ قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الّذي أخبرني صدق، فهم اليوم في مكان كذا وكذا ( فسمّى المكان الّذي فيه قريش ) ; ثمّ انصرف. فلمّا أمسى بعث عليّ بن أبي طالب مع غيره يلتمسون الخبر له، فأصابوا راوية(١) لقريش، وعليها غلامان لهم، فأتوا بهما فسألوهما، فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء وهؤلاء وراء هذا الكثيب ; فقال لهما رسول الله: كم القوم ؟ قالا: كثير، قال: ما

__________________

(١) الإبل التي يستقي عليها الماء.

٣٢١

عدّتهم ؟ قالا: لا ندري، قال: كم ينحرون كل اليوم ؟ قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً، فقال رسول الله القوم بين التسعمائة والألف. ثمّ قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش ؟ فسمّوا أسماء عدّة منهم، فأقبل رسول الله على النّاس، فقال: هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.

ولم يكتف النّبي بما وصل اليه من الأخبار، فأرسل بعض أصحابه حتّى نزل بدراً، فأناخ إلى تل قريب من الماء، ثمّ أخذ زقّاً يستقي فيه، فسمع جاريتين تتنازعان في دين عند « مجدي بن عمرو الجهني » شيخ القبيلة، فقالت إحداهما للاُخرى: عند ما تأتي العير غداً أو بعد غد، فأعمل لهم، ثمّ أقضي الّذي لك، فقال مجدي: صدقت: ثّم خلص بينهما. فرجع إلى النّبي، فأخبره بما سمع، فأذعن النّبي بأنّ موضع العدو قريب وهم وراء الكثيب.

نزول النّبي في وادي بدر

لـمّا كانت قلب المياه في بدر، أسرع النبي بالسير حتّى ينزل ببدر في العدوة الدنيا، فمضى وكان الوادي ليّناً ولكن قليل الرمل، وجاءت الأمطار فلبّدت الأرض للنّبي وأصحابه ولم يمنعهم عن السير، ولكن أصاب قريشاً من المطر ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، فخرج رسول الله يبادرهم إلى الماء، حتّى إذا جاء أدنى ماء من بدر، نزل به.

ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله به: أشيروا عليّ في المنزل. فقال الحبّاب بن المنذر: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله، فليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخّر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: فإن هذا ليس بمنزل انطلق بنا إلى أدنى ماء القوم، فإنّي عالم بها وبقلبها، بها قليب قد عرفت عذوبة مائه، وماء كثير لا ينزح، ثمّ نبني عليها حوضاً ونقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل، ونغور ما سواها من القلب.

٣٢٢

فقال رسول الله: يا حبّاب أشرت بالرأي، وبادر القوم إلى الماء حتّى إذا وصلوا إلى ما يريدون نزلوا فيه. ثمّ أمر بالقلب فغورت، وبنى حوضاً على القليب الّذي نزل عليه. فملي ماء ثمّ قذفوا فيه الآنية(١) .

بناء العريش

فلمّا استقرّ لهم المكان إقترح سعد بن معاذ على النّبي، فقال: يا نبي الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ونعدّ عندك ركائبك ثمّ نلقى عدوّنا، فإن أعزّنا الله وأظهرنا على عدوّنا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الاُخرى، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلّف عنك أقوام، يا نبي الله، ما نحن بأشدّ لك حبّاً منهم، ولو ظنّوا انّك تلقى حرباً ما تخلّفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك. فأثنى عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خيراً، ودعا له بخير، ثمّ بنى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عريش، فكان فيه(٢) .

تعليق على تغوير القلب وبناء العريش

هذا ما تذكره كتب السيرة، ولكن للنظر في كلا الأمرين المذكورين مجالاً، أمّا تغوير القلب وطمّها، فهو لا يناسب شأن النبي الأكرم، فقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله يوصي قادة سراياه عندما كان يبعثها باُمور، ويقول: سيروا باسم الله وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله، لا تغلو، ولا تمثّلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبيّاً، ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلّا أن تضطرّوا إليها.

وفي رواية اُخرى: ولا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعاً، لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه(٣) .

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٦٢٠، مغازي الواقدي: ج ١ ص ٥٣.

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٦٢٠ ـ ٦٢١.

(٣) الوسائل: ج ١١ الباب ٥ من أبواب جهاد العدو، الحديث ٢ و ٣.

٣٢٣

فإنّ من يمنع من قطع الشجرة أولى بأن يمنع من طمّ القلب الّتي حفرها رجال الخير لأجل سقاية القوافل الّتي كانت تمرّ من هذا الطريق.

وقد أشار بعض أصحابه في غزوة خيبر أن يمنع جريان الماء إلى قلاع خيبر، فأبى(١) . وقد كانت هذه سيرة وصيّة أمير المومنين فإنّه ـ صلوات الله عليه ـ ورد صفّين وقد سيطر أصحاب معاوية على الشريعة، فمنعوا أصحاب عليٍّ من الإستقاء، حتّى أصابهم العطش وضاق الأمر عليهم، فلم يكن بد من فتح طريق الماء على أصحابه، فحمل حملة خاطفة مع لفيف من أصحابه على الشريعة فأزال جيش معاوية عنها، فلمّا استولى عليها إقترح عليه بعض أصحابه أن يعتدي عليهم بالمثل، فأبى، وقال ـ مخاطباً لعسكره ـ: خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى عسكركم وخلّوا بينهم وبين الماء، فإنّ الله قد نصركم ببغيهم وظلمهم(٢) .

وأمّا بناء العريش للنّبي الأكرم، فهو بمعزل من الصّحة، فإنّ قبوله أمام أصحابه الّذين يضحّون بنفسهم ونفيسهم يثبّط من عزائمهم، ويخفّف من مثابرتهم، فإنّهم إذا رأوا باُمّ أعينهم أنّ سيّدهم على حالة إذا رأى بوادر الهزيمة فسيجلس على الركائب وينجي نفسه ويترك أصحابه تحت رحمة عدوّهم، فلربّما يشكّون في صحّة دعوته ونبوّته، فلا يصدر مثل ذلك الاقتراح من سيد مثل سعد بن معاذ المعروف بالعقل والحنكة، ولو صدر منه ـ على وجه بعيد ـ فلن يقبله النّبي الأكرم الّذي يصفه عليّعليه‌السلام بقوله: « كان أقرب الناس إلى العدوّ، وكنّا إذا احمر البأس إتّقينا برسول الله »(٣) .

__________________

(١) ناسخ التواريخ: ج ٢ ص ٤٠٠.

(٢) وقعة صفّين: ص ١٨٠.

(٣) نهج البلاغة: قسم غريب كلامه برقم ٩.

٣٢٤

إرتحال قريش من مقامهم ونزولهم وادي بدر

قد تعرّفت على أنّ النّبي الأكرم قد أسرع في الإرتحال واستقرّ في وادي بدر قبل أن ينزل العدو من وراء الكثيب، فارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت، فلمّا رأى رسول الله نزولهم إلى الوادي قال: « أللّهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذّب رسولك، أللّهم فنصرك الّذي وعدتني، أللّهم أحنهم(١) الغداة »(٢) .

وقال الواقدي: وكان أوّل من طلع زمعة بن الأسود على فرس له، يتبعه ابنه، فاستجال بفرسه يريد أن يتبوّأ للقوم منزلاً، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أللّهم إنّك أنزلت عليّ الكتاب وأمرتني بالقتال، ووعدتني إحدى الطائفتين، وأنت لا تخلف الميعاد، أللّهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها(٣) .

فلمّا اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي، فقالوا: أحرز لنا محمداً وأصحابه، فاستجال بفرسه حول المعسكر، فصوّب في الوادي وصعد، يقول: عسى أن يكون لهم مدد أو كمين، ثمّ رجع فقال: لا مدد ولا كمين، والقوم ثلاثمائة إنْ زادوا قليلاً، ومعهم سبعون بعيراً، ومعهم فرسان، ثمّ قال: يا معشر قريش، البلايا(٤) تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلّا سيوفهم، ألا ترونهم خُرّسا لا يتكلّمون، يتلمّظون تلمّظ الأفاعي، والله ما أرى أن يقتل منهم رجل حتّى يقتل منّا رجلاً، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم فما خير في العيش بعد ذلك، فارتأوا رأيكم(٥) .

__________________

(١) أي أهلكهم.

(٢) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٦٢١.

(٣) مغازي الواقدي: ج ١ ص ٢٩.

(٤) البلايا: جمع بليه وهي الناقة.

(٥) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٦٢٢، والمغازي للواقدي: ج ١ ص ٦٢.

٣٢٥

ولـمّا قال الجمحي هذه المقالة أرسلوا أبا اُسامة الجشمي وكان فارساً، فأطاف بالنّبي وأصحابه، قال: والله ما رأيت جلداً، ولا عدداً، ولا حلقة(١) ، ولا كراعاً، ولكنّي والله رأيت قوماً لا يريدون أن يعودوا إلى أهليهم، قوماً مستميتين ليست لهم منعة ولا ملجأ إلّا سيوفهم(٢) .

فلمّا سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في النّاس، فأتى عتبة بن ربيعة، فاستدعى منه أن يرجع بالنّاس فلبّى دعوته برحابة، وأمره بالإنطلاق إلى أبي جهل، ويستدعي منه نفس ذلك، فرجع إليه وقال يا أبا الحكم: إنّ عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا ( أي أن ترجع بالنّاس وتترك الحرب )، فقال: « والله لا نرجع حتّى يحكم الله بيننا وبين محمّد. وما بعتبة ما قال، ولكنّه قد رأى أنّ محمداً وأصحابه أكلة جزور، وبين أصحابه ابنه، فقد تخوّفكم عليه ». وبالتّالي أفسد أبو جهل على النّاس الرأي الّذي دعاهم إليه عتبة، وجرّهم إلى التهلكة والدمار.

الشرارة الّتي أشعلت الحرب

كان القوم يتحاورون حول الحرب، فبين داع إلى ترك الوادي واللحوق بمكّة، وترك أمر محمّد إلى ذؤبان العرب(٣) ، وبين متردّد يقدّم رجلاً ويؤخّر اُخرى، ومحرّض يدعو إلى الإقدام والقتال، فبينما كان القوم على هذه الحالة، خرج الأسود بن عبد الأسد المخزوفي، وكان رجلاً سيّئ الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لاُهدِّمنّه أو لأموتنّ دونه، فلمّا خرج، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلمّا التقيا، ضربه حمزة فأطار قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً، ثمّ حبا إلى الحوض، حتّى وقع فيه، يريد أن يبرّ يمينه، فتبعه حمزة وضربه حتى قتله في الحوض.

__________________

(١) أي سلاحاً.

(٢) المغازي: ج ١ ص ٦٢.

(٣) صعاليكهم.

٣٢٦

وهذه الحادثة فرضت الحرب على قريش وأبطلت فكرة الرجوع، فخرج عتبة ابن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن ربيعة، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار. فقالوا: من أنتم ؟ فقالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ثمّ نادى مناديهم: يا محمّد، أخرج إلينا أكفّاءنا من قومنا، فقال رسول الله: قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا عليّ، فلمّا قاموا ودنوا منهم. قالوا: من أنتم ؟ قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال عليٌّ: عليٌّ. قالوا: نعم أكفّاء كرام، فبارز عبيدة، وكان أسن القوم عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز عليّ الوليد بن عتبة، فأمّا حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأمّا عليٌّ فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه(١) ، وكرّ حمزة وعليٌّ بأسيافهما على عتبة، فأسرعا قتله، واحتملا صاحبهما.

ثّم تزاحف النّاس ودنا بعضهم من بعض، وقد أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه أن لا يحملوا حتّى يأمرهم، فقال: إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنّبل. ثمّ عدّل رسول الله الصفوف، وناشد ربّه وقال: « أللّهم إنْ تهلك هذه العصابة اليوم لن تعبد » ثمّ خرج رسول الله إلى النّاس فحرّضهم وقال: والّذي نفس محمّد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلّا أدخله الله الجنّة.

ثّم إنّ رسول الله أخذ حفنةً من الحصباء فاستقبل قريشاً بها، ثمّ قال: شاهت الوجوه، ثمّ نفحهم بها. وأمر أصحابه فقال: شدّوا، فكانت الهزيمة، فقتل الله تعالى من قتل من صناديد قريش، واُسِّر من اُسّر من أشرافهم وفرّ من فرّ إلى مكّة.

وكان شعار أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر: أحد، أحد. فكانت الهزيمة لقريش والنّصر للمسلمين.

* * *

__________________

(١) جرحه جراحة لم يقم معها.

٣٢٧

الإعانات الغيبيّة

إنّ غزوة بدر من أعظم غزوات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان انتصاره فيها معجزة غيبيّة تفضّل بها سبحانه على اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث التقى في وادي بدر فئتان غير متكافئتين عدداً وعدّة، ولقد كان عدد المشركين ثلاثة أضعاف عدد المسلمين، كان المشكون بين تسعمائة وألف(١) وعدد المسلمين ثلاثمائة وبضع وعلى قول ثلاثمائة وثلاثة عشر لم يكن لدى المسلمين إلّا فرسان، وقد تعرّفت على كلمة أبي اُسامة الجشمي رائد القوم ( قريش ) « والله ما رأيت جلداً ولا عدداً ولا حلقة ولا كراعاً »(٢) .

ومع ذلك كلّه، غلبت هذه الفئة القليلة تلك الفئة الكثيرة، لقوّة إيمانها وتفانيها دون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ودينهم، وفي ظل إعانات غيبيّة يذكرها القرآن الكريم، سيوافيك بيانها.

قال سبحانه:( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( آل عمران / ١٢٣ ).

نعم، كانوا أذلّاء، فصاروا أعزّاء أقوياء بفضله وكرمه. قال سبحانه:( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( المنافقون / ٨ ) فصاروا أعزّاء بعنايات ربّانية، وإعانات غيبيّة تكفّل الذكر الحكيم ببيانها ونحن نذكرها إستلهاماً منه، وتصل أنواعها إلى ثمانية، وكان لها الدور الهام في إنتصار المسلمين.

__________________

(١) قال الواقدي: « وخرجت قريش بالجيش يتقاذفون بالحراب، وخرجوا بتسعمائة وخمسين مقاتلاً، وقادوا مائة فرس، وكانت الإبل سبعمائة بعير، وكان أهل الخيل كلّهم دارع وكانوا مائة، وكان في الرجالة دروع سوى ذلك » المغازي: ج ١ ص ٣٩.

(٢) المغازي: ج ١ ص ٦٢.

٣٢٨

١ ـ إراءة العدو قليلاً في المنام

قد رأى النّبي في المنام وقعة بدر، وأراه سبحانه عدد العدو قليلاً فيه ليصون المسلمين بذلك عن الفشل والتنازع، قال سبحانه:( إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( الأنفال / ٤٣ ).

إنّ الآية تصرّح بأنّه سبحانه أراهم للنّبي في منامه قليلاً، وبيّن أنّ سبب ذلك هو منع طروء أمرين بين المسلمين، أشار إليهما بقوله:

أ ـ( لَّفَشِلْتُمْ )

ب ـ( وَلَتَنَازَعْتُمْ )

والّذي يلزم الفات النظر إليه هو أنّ الله سبحانه ينسب الأمرين إلى المسلمين لا إلى النّبي الأكرم، وهذا يعرب أنّ إراءة العدو قليلين كان مؤثّراً في عزائم المسلمين لا في عزيمة النّبي الأكرم، فإنّه ( صلوات الله عليه وآله ) كان ثابتاً، قليلين كانوا أم كثيرين، وإنّما أراهم النّبي قليلاً حتّى ينقل رؤياه إلى المسلمين حسب ما رآه، فتشتدّ عزيمتهم وترتفع معنويّاتهم بظنّ أنّ أعدائهم أقلاّء.

٢ ـ إراءة كلّ من الفريقين الآخر قليلاً في بدء الحرب

ومن إعاناته تعالى الغيبيّة أنّه سبحانه أرى كل فريق للفريق الآخر ـ عند إبتداء الحرب ـ قليلاً، وقد كانت تكمن في ذلك فلسفة انتصار الحق على الباطل وزهوقه، فأرى المشركين المؤمنين قليلين، كما أرى المؤمنين للفريق الآخر كذلك، حتّى أنّ أبا جهل قال: خذوا أصحاب محمّد بالأيدي(١) .

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص ٥٤٧.

٣٢٩

إنّما أرى المشركين المؤمنين قليلين، حتّى لا يورث ذلك رُعبا ووحشة في قلوبهم، وقد مرّ في الإعانة الاُولى أنّه سبحانه فعل ذلك دفعاً للفشل والتّنازع.

وإنّما أرى المؤمنين للمشركين قليلين لئلاّ يتأهّبوا ويستشرسوا في القتال، ويتخيّلوا أنّهم لا يحتاجون في دفع عدوّهم إلى بذل جهد كبير.

قال سبحانه مشيراً إلى ذلك بقوله:( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وإلى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ) ( الأنفال / ٤٤ ) وحاصل الآية أنّه سبحانه قلّل الفريقين في عين الآخر، ولولا ذلك لانتهى الأمر إلى فشل المسلمين أو إلى فرار العدوّ من المعركة، بحفظ أنفسهم. وقد تعلّقت مشيئته بإبادتهم.

٣ ـ إراءة المشركين كثرة المؤمنين أثناء القتال

وهناك إعانة غيبيّة ثالثة وهي أنّه سبحانه أرىٰ المؤمنين للمشركين في أثناء القتال كثيرين، على خلاف ما أراهم إيّاه عند إبتداء القتال.

إنّ المصلحة قد اقتضت أن يُري سبحانه المؤمنين للعدو كثيرين على خلاف ما أراهم عند أوّل الحرب وذلك حتّى يتخيّل العدو أنّه وصل إلى المسلمين مددٌ كانوا بعيدين عن المعركة حتّى تتزعزع بذلك معنويّاتهم ويتقهقروا عن ميدان المعركة بعدما فتك بهم المسلمون بقتل كثيرين منهم وأسر آخرين.

قال سبحانه:( قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ) ( آل عمران / ١٣ ).

اُنظر إلى قوله سبحانه:( يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) فإنّ هذه الجملة ناظرة إلى أثناء الحرب، وما ورد في الإعانة الغيبيّة الثانية ناظر إلى أوّل الحرب.

٣٣٠

٤ ـ إستغاثة المسلمين ونزول الملائكة

إنّ النّبي لـمّا نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلّة عدد المسلمين استقبل القبلة، وقال: أللّهم أنجز لي ما وعدتني، أللّهم إنْ تهلك هذه العصابة، لا تعبد في الأرض. فما زال يهتف ربّه مادّاً ييديه حتّى سقط رداؤه من منكبيه، فأنزل الله تعالى:( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ *وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إلّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلّا مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال / ٩ و ١٠ ).

لعلّ معنى قوله:( وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إلّا بُشْرَىٰ ) إنّه سبحانه جعل الإمداد بالملائكة بشرى للمسلمين بالنّصر ولتسكن به قلوبهم وتزول الوسوسة عنها، وإلّا فملك واحد كاف للتدمير.

أو لعلّ معناها: إنّ الإمداد بالملائكة إمداد بالسبب والنصر الحقيقي من جانب المسبّب وهو الله العزيز الحكيم، وليس للسبب أصالة ولا استقلال(١) .

ثمّ إنّه سبحانه جعل عدد الملائكة في هذه الآية ألفاً، مع أنّه سبحانه أمدّ المسلمين ـ حسب آية اُخرى ـ بثلاثة آلاف كما في قوله:( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنزَلِينَ *بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ *وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إلّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إلّا مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الحَكِيمِ ) ( آل عمران / ١٢٤ ـ ١٢٦ ).

ولكنّ الاختلاف يرتفع بالإمعان بما في ذيل الآية التّاسعة من سورة الأنفال حيث قال:( بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) أي مردفين بملائكة اُخرى، كما يقال أردفت زيداً خلفي، فيكون المفعول الثاني محذوفاً، فلو كان عدد الملائكة الاُخرى ألفين، يصير المجموع ثلاثة ألاف.

__________________

(١) وقد تكرّر مضمون الآية في سورة آل عمران، الآية ١٢٦.

٣٣١

وهناك وجه آخر لرفع الإختلاف وهو أنّ هذا العدد ( ثلاثة آلاف ) جاء في كلام النّبي عند مخاطبة المسلمين حيث قال:( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ ) وأمّا عدد الألف فقد جاء في كلامه سبحانه ووعده حيث قال:( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ ) .

والجمع بين الآيتين بأنّه كان في ضمير النّبي أنّه سبحانه ينزّل ثلاثة آلاف، ولكنّه سبحانه نزّل ألفاً منهم، وما ذلك إلّا لأنّ الملائكة لم يقتحموا المعركة إلّا بشكل جزئي كما سيوافيك، وكان الوعد والعمل به لأجل تثبيتهم وإزالة الوسوسة عنهم.

وأمّا عدد الخمسة آلاف فلم يكن إلّا وعداً مشروطاً بأنّ المؤمنين لو صبروا على الجهاد واتّقوا معاصي الله ومخالفة الرسول ورجع المشركون إليهم فوراً، فالله سبحانه يمددهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين أي معلَّمين.

٥ ـ الإمداد بالنعاس

إنّ الإنسان لا يأخده النوم في حال الخوف، وقد قيل: الخوف مسهر والأمن منوّم، فاللّه سبحانه أمدّهم بالنّعاس وهو أوّل النوم قبل أن يثقل، فقوّاهم ـ بالإستراحة ـ على قتال العدو.

٦ ـ الإمداد بنزول المطر

وقد أصابهم المطر ـ وكانوا أحوج شيء إليه فطهّروا به أبدانهم واغتسلوا من الجنابة، وزادهم قوّة قلب وسكون نفس وثقة بالنّصر، وثبّت أقدامهم في الحرب بتلبّد الرّمل.

وإلى الإمدادين: الخامس والسادس يشير قوله سبحانه:( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ (١)

__________________

(١) وهو الجنابة.

٣٣٢

وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ) ( الأنفال / ١١ ).

فإلى فائدة الإمداد بالنّعاس أشار بقوله:( أَمَنَةً مِّنْهُ ) .

وإلى فوائد نزول المطر المختلفة أشار بقوله:

١ ـ( يُطَهِّرَكُم ) ٢ ـ( يُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ) ٣ ـ( يُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ) ٤ ـ( وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ) .

٧ ـ الإمداد بتثبيت أقدام المؤمنين

وقد كان لنزول الملائكة فائدة اُخرى، وهي تثبيت أقدام المؤمنين في ميدان الحرب لئلاّ تزلّ أقدامهم عند هجوم العدو، وكانت ساحة القتال رملاً.

٨ ـ الإمداد بإلقاء الرّعب في قلوب المشركين

وقد أمدّهم سبحانه بإلقاء الرّعب في قلوب الكافرين.

يقول سبحان مشيراً إلى الإمدادين:( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) ( الأنفال / ١٢ ).

والمراد من « فَوقَ الأعناق » هي الرؤوس، لأنّها فوق الأعناق، كما أنّ المراد من قوله: « كُلَّ بَنَان »، أطراف الأصابع، ولعلّه سبحانه اكتفى به عن جملة اليد والرّجل.

وأمّا الخطاب، فيحتمل أن يكون للملائكة، كما استظهره أكثر المفسّرين، أو للمؤمنين كما هو الظّاهر، لما عرفت من أنّ الملائكة لم يقتحموا المعركة، وإنّما كان نزولهم لأجل تثبيت القلوب.

وأمّا وجه إذلاله سبحانه قريشاً، وأعزازه المؤمنين، فقد بيّنه في قوله:( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *ذَٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ

٣٣٣

وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ) ( الأنفال / ١٣ و ١٤ ).

هذه مجموعة الإعانات الغيبيّة التّي شملت المسلمين، وقد تعلّقت مشيئته سبحانه بإختصاص الإعانات الربّانيّة بالمؤمنين، والوساوس الشيطانيّة بالمشركين، فقد ظهر الشيطان، وتجسّم للكافرين يوم بدر، وزيّن لهم أعمالهم وخروجهم بطراً ورئاء النّاس، ثمّ قال لهم بأنّه لا يغلبكم أحد من الناس لكثرة عددكم، وقوّتكم، وأنا ناصر لكم، ودافع عنكم السوء، ولـمـّا التقت الفرقتان، رجع العدو القهقرى منهزماً، لأنه رأى عناية الله سبحانه بالمسلمين.

وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الأنفال / ٤٨ ).

وقد علّل الشيطان تقهقره بأمرين:

الأوّل: إنّه يرى ما لا تراه قريش أعني الملائكة الّذين جاءوا لنصرة المؤمنين.

الثّاني: إنّه يخاف الله.

إختلافهم في الفيء

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بما في العسكر، ممّا جمع النّاس، فجُمع، فاختلف المسلمون فيه فقال من جمعه: هو لنا، وقال الّذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه: والله لولا نحن ما أصبتموه لنحن شغلنا عنكم القوم حتّى أصبتم ما أصبتم، وقال الّذين يحرسون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : والله ما أنتم بأحق به منّا، والله لقد رأينا أن نقتل العدو إذ منحنا الله أكتافهم، وقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، فخفنا على رسول الله كرّة العدو، فقمنا دونه، فما أنتم بأحقّ به منّا.

كان الأولى بالمسلمين أن يفوّضوا أمر الفيء إلى الرّسول أخذاً بالتسليم الّذي

٣٣٤

أمر به المسلمون.

سُئل عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحابَ بدر نزلت، حين اختلفنا في النفل، وساءت أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسوله، وقال:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( الأنفال / ١ )(١) .

وروي عن ابن عباس أنّ سبب سؤالهم هو أنّ النّبي قال يوم بدر: من جاء بكذا، فله كذا، ومن جاء بأسير، فله كذا، فتسارع الشبّان، وبقي الشيوخ تحت الراية، فلمّا انقضت الحرب طلب الشبّان ما كان قد نفلهم النّبي به، فقال الشيوخ: كنّا ردءاً لكم ولو وقعت عليكم الهزيمة لرجعتم إلينا وجرى بين أبي اليسر وبين سعد بن معاذ كلام، فنزع الله تعالى الغنائم منهم(٢) .

ما معنى الأنفال في الآية ؟

الأنفال جمع نفل، وهو بمعنى الزيادة، ولو أطلقت على الرواتب من الصلوات وغيرها فلأجل أنّها زيادة على الفريضة، وربّما تستعمل في العطيّة، ولعلّ المعنيين متقاربان.

وقد اُطلق هذا اللّفظ في الآية واُريد منه غنائم الحرب، فيكون مساوياً لقوله سبحانه:( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الأنفال / ٤١ ) والآيتان نزلتا في غزوة بدر، وسيوافيك الجمع بين مضمونيهما، حيث جعلت الاُولى الأنفال لله. والثّانية خصّت الخمس منها لله وللرّسول ولذي القربى، والطوائف الثلاث الاُخرى، فانتظر.

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٦٤١ ـ ٦٤٢.

(٢) مجمع البيان: ج ٢ ص ٥١٨.

٣٣٥

وأمّا الغنائم التّي يحصل عليها النّبي عن غير طريق الحرب، أي بلا إيجاف عليه بخيل، ولا ركاب، فيطلق عليها الفيء، قال سبحانه:( وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَٰكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *مَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الحشر / ٦ و ٧ ).

وقد نزلت الآيتان في أموال كفّار أهل القرى، وهم بنو النضير وبنو قريظة قرب المدينة، وفدك. وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بني النضير للأنصار: إن شئتم قسّمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسّم لكم شيء من الغنيمة، فقال الأنصار: بل نقسّم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها، وفيهم نزل قوله سبحانه:( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( الحشر / ٩ ).

نعم ربّما تطلق الأنفال ويراد منها غير غنائم الحرب بل معنى يرادف الفيء، أو شيئاً أوسع منه، قال الإمام الصادق: « الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ( الفيء )، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، وكلّ أرض خربة، وبطون الأودية، فهو لرسول الله، وللإمام من بعده يضعه حيث يشاء ».

وبذلك يعلم أنّ الأنفال بما أنّ له معنى وسيعاً، يطلق على غنائم الحرب تارة، وعلى ما يحصل عليه النّبي من غير إيجاف بخيل ولا ركاب، وثالثاً على معنى أوسع يشمل على بطون الأودية، ورؤوس الجبال ممّا ورد في الروايات.

٣٣٦

الجمع بين مفاد الآيتين

إنّ الآيتين:( قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ ـوَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَ ) .

نزلتا في غزوة بدر، فعلى ضوء ذلك يكون المراد من الأنفال هو غنائم الحرب، وقد جعله في الآية الاُولىٰ لله وللرّسول، وفي الآية الثانية للمسلمين إلّا الخمس، فخصّه لله والرسول وذي القربى والطوائف الثلاث الباقية، فكيف التوفيق بينهما ؟ فهل الآية الثانية ناسخة للاُولىٰ أو لا ؟

والجواب انّه لا تنافي بين الآيتين حتّى تكون الثانية ناسخة للاُولى ولا تفيد إلّا كون أصل ملكها لله وللرّسول من دون أن تتعرّض لكيفيّة التصرّف وجواز الأكل والتمتّع، وأمّا الآية الثانية فهو يبيّن كيفيّة التصرّف والأكل والتمتع، وتكون الثانية مبيّنة للاُولى. فأصل الملك في الغنيمة لله والرّسول، ثمّ ترجع أربعة أخماسها إلى المجاهدين به يمتلكونها، ويرجع خمس منها إلى الله والرّسول وذي القربى وغيرهم(١) .

وبعبارة اُخرى: انّ أمرها مفوّض إلى الله ورسوله، ثمّ بيّن سبحانه مصارفها، وكيفيّة قسمتها في آية الخمس، ثمّ إنّ التعبير عن الغنائم بالأنفال التّى هي بمعنى الزيادات، لأجل الإشارة إلى تعليل الحكم بموضوعه، كأنّه قيل يسألونك عن الغنائم، وهي زيادات لا مالك لها بين النّاس، وإذا كان كذلك، فأجبهم بحكم الزيادات والأنفال، وقل الأنفال لله والرّسول، ومنها الغنيمة، فهي لله والرّسول بالذات، وإنّما يتمتّع بها المسلمون، حسب ما ورد في الآية الثانية.

ثمّ إنّ اللام في قوله:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ ) وإن كانت للعهد، تشير إلى غنائم الحرب، لكنّها في قوله:( قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ ) للجنس، وعليه فكل ما يعدّ زيادة، فهو لهما بالذات من غير فرق بين غنائم الحرب، أو ما حصل عليه

__________________

(١) الوسائل: ج ٦ كتاب الخمس الباب الأوّل من أبواب الأنفال، الحديث ١ ص ٣٦٤.

٣٣٧

بغير خيل ولا ركاب، أو ليس له مالك خاص، فالأموال الزائدة في المجتمع نظير الديار الخالية، والقرى البائدة، ورؤوس الجبال، وبطون الأودية، وقطائع الملوك، وتركة من لا وارث له.

نعم يقسّم قسم خاص من الأنفال بين المقاتلين، وهو ما أوجفوا عليه بخيل وركاب، دون الباقي، وتفصيل الكلام في الفقه.

أخذ الأسرى قبل الدعم والإستقرار

أمر رسول الله بقتل أسيرين أعني النضر بن حارث وعقبة بن أبي معيط لأعمالهما الإجرامية في مكّة قبل الهجرة وبعدها، فخافت الأنصار أن يقتل الأسرى، فقالوا يا رسول الله: قتلنا سبعين وهم قومك واُسرتك أتجذّ أصلهم ؟ فخذ يا رسول الله منهم الفداء. وقد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش، ولـمـّا طلبوه وسألوه، نزل قوله سبحانه:( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *لَّوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأنفال / ٦٧ ـ ٦٩ ).

إنّ الاثخان في الأرض عبارة عن التغليظ. يقال: ثخن الشيء فهو ثخيبن إذا غلظ فلم يسل، فكنّي به عن استقرار دينه بين النّاس كاستقرار الشيء الغليظ المنجمد الثّابت بعدما كان رقيقاً سائلاً مخشيّ الزوال بالسيلان، فالآية تحرّم أخذ الأسرى قبل أن يستقر للمسلمين أمرهم، ويعرب عن أنّ الهدف من الأمر بقتل الأسرىٰ، وعدم أخذ الفداء، لأجل أنّ في اطلاق سراحهم قبل الاستقرار مظنّة إجتماعهم، وتكاثفهم، ووثوبهم على النّبي، والمسلمين من جديد، فيجب إبادتهم واستئصالهم إلى حد الإثخان الذّي لا يخاف معه عن توثّبهم وتكاثفهم مرّة اُخرى.

إنّ اتخاذ الأسرى إنّما يكون خيراً ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل، ولولاه لانقلب شرّاً، والّذين يقترحون أخذ الأسرى ،

٣٣٨

يريدون عرض الدّنيا، أعني المال الّذي يأخذونه من الأسرى فداء لهم، والله يريد ثواب الآخرة الباقي.

والعتاب خاص بالصحابة والمسلمون الأوائل دون النّبي، بشهادة تغيّر لحن الكلام حيث إبتدأه بقوله:( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ ) وانتهى بالخطاب للمسلمين( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا ) ، والخطاب خاص بهم لا يشمل النّبي، وحاشا نبيّ العظمة أن يريد عرض الدّنيا.

ومن رديء الكلام، ما مرّ في تفسير المراغْي وغيره، من أنّه سبحانه عاتبهم على ما فعلوا بعد بيان سنّة النبيين كما عاتب رسوله(١) .

والآية تعرب أنّ السنّة الجارية في الأنبياء الماضيبن هي أنّهم كانوا إذا حاربوا أعداءهم، وظفروا بهم ينكّلونهم بالقتل لكي يضعفوا أوّلاً، ويعتبر بهم مَنْ وراءهم، فيكفّوا عن محادّة الله ورسوله، فكانوا لا يأخذون أسرىٰ حتّى يثخنوا في الأرض، ويستقرّ دينهم بين النّاس، وأمّا مسألة المنّ أو الفداء، فإنّما هو بعدما علا أمر الإسلام، واستقرّ في الحجاز واليمن:( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) ( محمد / ٤ )، فحكم الأسرى قبل الإثخان هو القتل، وأمّا بعده، فالحكم هو شدّهم في الحبال، وسوقهم على الأقدام حتّى يتعامل معهم بأحد الأمرين: المنّ واطلاق السراح، أو أخذ الفدية.

وبذلك يعلم أنّ الأمر بقتل الأسرى إنّما كان حكماً مؤقّتاً زمنياً مختصّاً بزمن لم يستقر أمر النّبي ولا دينه، فكان في أخذ الأسرى مظنّة الخوف على بيضة الإسلام، وأمّا إذا ارتفع ذلك الخوف، وضرب الإسلام بجرانه(٢) في الأرض، فالحكم السائد هو ما جاء في سورة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله من المنّ، أو أخذ الفداء، فلربّما يستدلّ بالآية على أنّ الإسلام يسرف في إراقة الدماء، وقتل النفوس، لا أصل له، لأنّ الأمر بالقتل، وعدم أخذ الأسرى، كان راجعاً إلى حالة خاصّة، وهي حالة

__________________

(١) تفسير المراغي: ج ٤ ص ٣٦.

(٢) ضرب الإسلام بجرانه: أي ثبت واستقرّ.

٣٣٩

عدم استقرار الإسلام في المنطقة كما كان الحال كذلك في السنوات الاُولى قبل غزوة الأحزاب، وأمّا بعدها فقد علا أمر النّبي واستقرّ، فلم تكن حاجة إلى قتل الأسرى، بل كان السائد هو ما ورد في سورة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله من إطلاق سراحهم منّاً عليهم، أو أخذ الفدية منهم.

بل الظروف في غزوة واحدة كانت مختلفة، فربّما تسود في السّاعات الاُولى من الحرب حالة عدم الاستقرار والتزلزل، ومظنّة رجوع العدو ثانياً بعد إطلاق سراحه، فلا يؤخذ الأسرىٰ، والحال أنّ الحالات الأخيرة من الحرب كانت على عكس ذلك، فلم يكن أيّة مظنّة للكرّة، فيختصّ قتل الأسرى في غزوة واحدة بالسّاعات الاُولى أي ساعات عدم الإستقرار، ومظنّة الكرة لا الساعات الأخيرة.

ثُمَّ إنّ الآية الثانية أعني قوله:( لَّوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) يعرب عن عظم المعصية، أعني أخذ الأسرى قبل الاثخان في الأرض لما فيه من مظنّة زوال الإسلام وكيانه.

كيف ولولا كتاب سابق لمسّ المسلمين، أو المصرّين على الأخذ عذاب عظيم. وأمّا ما هو هذا الكتاب الّذي سبق، فقد اُبهم غاية الابهام، لأنّه أنسب في مقام المعاتبة ليذهب ذهن السامع كل مذهب ممكن، ولا يتعيّن عنده، فيهون عنده الأمر. ومن رديء الكلام ما مرّ في غير واحد من التفاسير: قال رسول الله: « إن كاد ليمسّنا في خلاف ابن الخطّاب ( حيث كان يقترح القتل خلاف الباقين حيث كانوا يقترحون الأخذ ) عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت إلّا عمر ».

ومعناه شمول العذاب، للرّسول الأعظم، وقد سبق من المراغي وغيره: إنّ العتاب عام يعمّ المسلمين والنّبي الأكرم، مع أنّه سبحانه يقول:( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ) ( الأنفال / ٣٣ ).

فالّذي يدفع بوجوده العذاب، صار يُدفع عنه العذاب بوجود غيره.( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) ( الكهف / ٥ ).

٣٤٠

ثُمَّ إنّه سبحانه يبيح لهم ـ رحمة منه ـ ما تسلّط عليه المسلمون من أموال المشركين، وما أخذوا من الأسرى للفداء، ويقول:( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) وحاصل مضمون الآيات الثلاث عبارة عن:

١ ـ إنّ أخذ الأسرى قبل الاثخان غير مشروع في الشرائع السماويّة.

٢ ـ لولا كتابٌ من الله سبق، لمسّ المسلمين في أخذ الأسرى قبل الاثخان عذاب عظيم.

٣ ـ لقد أباح الله سبحانه الجميع من الأموال والأسرى رحمة منه.

الوعد الجميل للأسرى

إنّ فداء كل رجل من المشركين يوم بدر كان أربعين أوقية والأوقية أربعون مثقالاً، إلّا العبّاس فإنّ فداءه كان مائة مثقال، وكان اُخذ منه حين اُسر عشرون أوقية ذهباً، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ذلك غنيمة ففاد نفسك، وابني أخيك نوفلاً وعقيلاً. فقال: ليس معي شيء. فقال: أين الذّهب الّذي سلّمته إلى أم الفضل وقلت: إن حدث بي حدث فهو لك وللفضل وعبد الله وقثم ؟ فقال: من أخبرك بهذا ؟ قال: الله تعالى. فقال: أشهد أنّك رسول الله، والله ما اطّلع على هذا إلّا الله.

ثمّ إنّه سبحانه ـ رحمة منه ـ يعد الأسرى بأنّهم إن آمنوا، واتبّعوا الحق، يؤتهم خيراً ممّا اُخذ منهم، ويغفر لهم، ولكنّهم إن أرادوا خيانتك بعد اطلاق سراحهم بالفداء، والعود إلى ما كانوا عليه من العناد والفساد، فقد خانوا الله من قبل، فأمكنك منهم، وأقدرك عليهم، وهو قادر على أن يفعل بهم ذلك ثانياً، كما يقول سبحانه:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال / ٧٠ ـ ٧١ ).

٣٤١

وروي أنّه قدم مال من البحرين يقدر بــــ « ثمانين » ألفاً، وقد توضّأ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لصلاة الظهر، فما صلّى يومئذ حتّى فرّقه، وأمر العباس أن يأخذ منه، ويحثي، فأخذ، فكان العبّاس يقول: هذا خير ممّا اُخذ منّا، وأرجو المغفرة(١) .

__________________

(١) لاحظ مجمع البيان: ج ٢ ص ٥٥٧ ـ ٥٦٠، والميزان: ج ٩ ص ١٣٦ ـ ١٤٠.

٣٤٢

٢ ـ غزوة أحد(١)

لقد كانت لغزوة « بدر » أصداء في عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وما بعده، وقد أوجد انتصار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها خوفاً ووجلاً في قلوب المشركين، خصوصاً بعد ما شاع خبر أنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله طرح أجساد قتلىٰ المشركين في القليب، ووقف عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخاطبهم بقوله: يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً، فإنّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً. فلمّا قيل لرسول الله: أتكلّم قوماً موتى، أو أتنادي قوماً قد جيفوا ؟ فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني.

فلمّا بلغ خبر انتصار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهزيمة المشركين إلى مكّة، ناحت قريش على قتلاها، ثمّ منعت النياحة بتاتاً في مكّة ونواحيها حذراً من شماتة المسلمين أوّلاً، واستنهاضاً لعزائمهم لأخذ الثأر ثانياً، فإنّ النياحة والبكاء وسكب الدّموع تهبّط العزائم، وتثبّط الهمم.

وكان الأسود بن عبد المطلب قد اُصيب له ثلاثة من ولده، وكان يحب أن يبكي على بنيه، ولكنّه كان يكبح جماح مشاعره حذراً من نقمة قريش، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة في الليل، فقال لغلام له وقد ذهب بصره: انظر هل اُحلّ النحب لعلّي أبكي على أولادي، فإنّ جوفي قد احترق، فرجع الغلام وقال: إنّما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلّته.

__________________

(١) وقعت غزوة اُحد يوم السبت لسبع خلون من شوّال في السنة الثالثة من الهجرة.

٣٤٣

فعند ذلك أنشأ يقول:

أتبكي أن يضل لها بعير

ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر ولكن

على بدر تقاصرت الجدود(١)

باتت قريش على تلك الحالة وصدورهم مليئة بالغيظ والحقد، وهم بصدد العزم على أخذ الثأر، وتحيّن الفرصة المناسبة لذلك.

ولأجل ذلك مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن اُميّة، في رجال من قريش ممّن اُصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلّموا أباسفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إنّ محمّداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال ( اشارة إلى العير الّتي أقبل بها أبوسفيان من الشام إلى مكّة ) على حربه، فلعلّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا، ففعلوا، وفي ذلك نزل قوله سبحانه:

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) ( الأنفال / ٣٦ )(٢) .

فاجتمعت قريش لحرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن أطاعهم من قبائل كنانة، وأهل تهامة. وكان أبو عزّة عمرو بن عبد الله الجمحي قد منّ عليه رسول الله يوم بدر، وكان فقيراً، ذا عيال وحاجة، وكان في الأسارى، فقال: إنّي ذو عيال وحاجة، فامنن عليّ صلّى الله عليك ؛ فمنّ عليه رسول الله. فقال له صفوان ابن اُميّة: يا أبا عزّة إنّك إمرؤٌ شاعر، فأعنّا بلسانك، فاخرج معنا ؛ فقال: إنّ محمداً قد منّ عليّ، فلا اُريد أن أظاهر عليه. قال: بلىٰ، فاعنا بنفسك، فلك الله عليّ إنْ رجعت أنْ أغنيك، وإن أصبتَ أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهنَّ ما أصابهنَّ من عسر ويسر. فخرج أبو عزّة في تهامة.

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٦٤٨.

(٢) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٦٠، ومجمع البيان: ج ٢ ص ٨٣٢، نقلاً عن أبي إسحاق.

٣٤٤

خرجت قريش بحدّها وجدّها، وحديدها وأحابيشها(١) ومن تابعها من بني كنانة، وأهل تهامة، وخرجت معهم النساء في الهوادج التماس الحفيظة وألّا يفرّوا. فخرج أبوسفيان بهند بنت عتبة، وخرج عكرمة بأمّ حكيم، وهكذا.

فخرجوا حتّى نزلوا على شفير الوادي مقابل المدينة، وهم ثلاثة آلاف بمن انضم إليهم، وكان فيهم من ثقيف مائة رجل، وخرجوا بعدّة وسلاح كثير، وقادوا مائتي فرس، وكان فيهم سبعمائة دارع، وثلاثة آلاف بعير.

ثمّ إنّ العباس بن عبد المطّلب أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بنيّة القوم، ومسيرهم نحو المدينة وعددهم وعُدّتهم، فكتب كتاباً وختمه، واستأجر رجلاً من بني غفار، واشترط عليه أن يسير ثلاثاً، فوجد رسول الله بقباء، فدفع إليه الكتاب، فقرأه عليهم اُبيّ بن كعب، واستكتم اُبيّاً ما فيه. فدخل منزل سعد بن الربيع، فأخبره بكتاب العباس، وجعل سعد يقول: يا رسول الله إنّي لأرجو أن يكون في ذلك خير.

فلمّا سمع رسول الله نزولهم على شفير الوادي، شاور قومه في الخروج عن المدينة، أو البقاء فيها، فاختلفت آراء أصحابه، فكان عبد الله بن اُبيّ وأصحابه يكرهون الخروج، فقالوا: يا رسول الله أقم بالمدينة لاتخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قطّ إلّا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلّا أصبنا منه.

وكان الشّباب من أصحاب الرّسول يصرّون على الخروج، ويقولون: « أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنّا جبنا عنهم وضعفنا ».

فلمّا رآى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اصرار هم على الخروج. وهم يقولون: ( هي إحدى الحُسنيين إمّا الشهادة وإمّا الغنيمة )، صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الجمعة بالنّاس، ثمّ وعظهم، وأمرهم بالجد والجهاد، ثمّ صلّى العصر، وصفّ النّاس له ما بين منبره وحجرته، فجاء هم سعد بن معاذ، وأسيد بن

__________________

(١) الأحابيش من اجتمع إلى العرب وانضمّ إليهم من غيرهم.

٣٤٥

حضير، فقالا للنّاس: قلتم لرسول الله ما قلتم، واستكرهتموه على الخروج، فردّوا الأمر إليه، فما أمركم فافعلوه، فبينا القوم على ذلك، إذ خرج رسول الله قد لبس لامّته ودرعه، وحزم وسطها بمنطقة من حمائل سيف من أدم، فقالوا يا رسول الله: استكرهناك، ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلّى الله عليك، فقال رسول الله: ما ينبغى لنبيّ إذا لبس لامّته أن يضعها حتّى يقاتل، فخرج في ألف من أصحابه(١) .

عودة المنافقين القهقرى إلى المدينة:

كان عبد الله بن اُبيّ ممّن أبدى الإصرار على الإقامة في المدينة والتحصّن بها فلمّا رأى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ترك رأيه وأخذ برأي الآخرين، فقال: أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا، فرجع بمن اتّبعه من قومه من أهل النفاق والريب، وهم ثلث النّاس، واتّبعهم عبد الله بن عمرو، فقال: ياقوم اُذكّركم الله إلّا تخذلوا قومكم ونبيّكم عندما حضر من عدوّهم ؛ قال عبد الله بن اُبىّ: لو نعلم أنّكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنّا لا نرى أنّه يكون قتال.

فلمّا استعصوا عليه وأبوا إلّا الإنصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيّه.

وفي ذلك نزل قوله سبحانه:( وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) ( آل عمران / ١٦٧ ).

وقد أوجد رجوع رئيس النفاق في أثناء الطريق شقاقاً وخلافاً بين أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على نحوين:

١ ـ فقال قوم من المسلمين: نقاتل قريشاً، وقال آخرون: لا نقاتلهم، وفي ذلك نزل قوله سبحانه( فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ

__________________

(١) المغازي للواقدي: ج ١ ص ٢١٣، والسيرة النبويّة: ج ٢ ص ٦٣.

٣٤٦

أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ) ( النساء / ٨٨ ).

فالآية تشير إلى أنّ المسلمين صاروا في أمر ما صار إليه المنافقون فرقتين مختلفتين، فمنهم من مال إلى مقالتهم ومنهم من يخالفهم في الرأي.

٢ ـ همّت طائفتان من المسلمين أن تأخذ برأي رئيس النفاق، ويرجعا في أثناء الطريق، وهما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار، وإليه يشير قوله سبحانه:

( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران / ١٢١ و ١٢٢ ).

نزول رسول الله أرض أحد:

لـمـّا انتهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أحد، جعل جبل اُحد خلف ظهره، واستقبل المدينة، وجعل عينين عن يساره، وجعل الرماة وهم خمسون رجلاً على عينين(١) عليهم عبد الله بن جبير، فقال لرئيسهم: انضح الخيل عنّا بالنّبل لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فأثبت مكانك لا نؤتين من قبلك.

ثمّ قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخطب النّاس وقال: إنّ جهاد العدو شديد، شديد كربه، قليل من يصبر عليه، إلّا من عزم الله رشده، فإنّ الله مع من أطاعه، وإنّ الشيطان مع من عصاه، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله(٢) .

وكان للمشركين كتيبتان ميمنة عليها خالد بن الوليد، وميسرة عليها عكرمة بن أبي جهل. وجعل رسول الله ميمنة، وميسرة، ودفع لواءه الأعظم إلى مصعب بن

__________________

(١) جبل باُحد له هضبتان بينهما معبر ينتهي إلى ساحة القتال.

(٢) راجع المغازي للواقدي: ج ١ ص ٢٢٢، وللخطبة صلة.

٣٤٧

عمير، ودفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج إلى سعد أو حباب بن المنذر، والرماة يحمون ظهورهم يرشقون خيل المشركين بالنّبل.

وعند ذلك دنا القوم بعضهم من بعض فقدّمت قريش صاحب لوائهم طلحة بن أبي طلحة، وصفّوا صفوفهم، وأقاموا النساء خلف الرجال بالأكبار والدفوف، وهند وصواحبها يحرّضن ويَذْمُرن(١) الرجال ويذكرن من اُصيب ببدر.

وصاح طلحة بن أبي طلحة: مَن لبني عبد الدار ؟ وكانت راية قريش يوم ذلك بأيدي هؤلاء، فقال عليٌّعليه‌السلام : هل لك في البراز ؟ قال طلحة: نعم، فبرزا بين الصفين، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جالس تحت الراية عليه درعان ومغفر وبيضة، فالتقيا، فبدره عليٌّ، فضربه على رأسه، فمضى السيف حتّى فلق هامته حتّى انتهى إلى لحيته، فوقع طلحة، وانصرف عليٌّ(٢) .

ثمّ أخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة، فقتله عليٌّ وسقطت الراية، فأخذها مسافع بن أبي طلحة، فقتله عليٌّ. حتّى قتل تسعة نفر من بني عبد الدار، حتّى صار لواؤهم إلى عبد لهم أسود يقال له: صوأب، فانتهى إليه عليٌّ، فقطع يده اليمنى، فأخذ اللواء باليسرىٰ، فضرب يسراه فقطعها، فاعتنقها باليدين المقطوعتين، فضربه على رأسه فقتله، فسقط اللواء، فأخذته عمرة بنت علقمة الكنانية، فرفعتها(٣) .

وقد كان لعليٍّعليه‌السلام مواقف مشهودة كما كان لأبي دجانة، والزبير بن العوّام، وفي ظل بطولة هؤلاء، ولفيف من غيرهم انهزمت قريش هزيمة نكراء لايلوون، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف، فلمّا انهزم المشركون تبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حتّى أخرجوهم عن الساحة ثمّ اشتغلوا بعد وضع سيوفهم على الأرض بنهب ما استولوا عليه في معسكرهم.

__________________

(١) أي يحضضن الرجال باللوم على الفرار.

(٢) المغازي للواقدي: ج ١ ص ٢٢٦.

(٣) مجمع البيان: ج ١ ص ٨٢٥.

٣٤٨

وعند ذلك قال بعض الرماة لبعض: لِمَ تقيمون ههنا في غير شيء ؟ قد هزم الله العدو، وهؤلاء إخوانكم ينهبون معسكرهم، فادخلوا معسكر المشركين، فاغنموا مع إخوانكم. فقال بعض الرماة لبعض: ألم تعلموا أنّ رسول الله قال لكم: « إحموا ظهورنا، فلا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل، فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا غنمنا، فلا تشركونا » فقال الآخر: لم يرد رسول الله هذا، وقد أذلّ الله المشركين وهزمهم، فادخلوا المعسكر، فانتهبوا مع إخوانكم، فلمّا اختلفوا خطبهم أميرهم عبد الله بن الجبير، وأمرهم بأن لايخالفوا لرسول الله أمراً، فعصوا، فانطلقوا فلم يبق من الرماة مع أميرهم عبد الله بن الجبير إلّا نفراً ما يبلغون العشرة، واشترك المنطلقون في النهب، واشتغلوا بما إشتغل به سائر المسلمين.

الهزيمة بعد الإنتصار:

قد كان الإنتصار حليف المسلمين في الغزوة، ولكن لـمّا خالف الرماة أمر رسول الله، وأخلوا مكانهم، رأى العدو أنّ جبل العينين قد أضحى خالياً من الرماة والمدافعين، وكان جبل العينين يقع على ضفّتين يتخللهما معبر، وينتهي مداه إلى المعسكر، وقد أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بوقوف الرماة على الضفّتين حتّى يمنعوا من دخول العدو من هذا المعبر على ساحة القتال، والحيلولة دون هجومه عليهم من خلفهم، ولـمـّا خالف الرماة باخلائهما، رأى العدو أنّ الفرصة مساعدة لمباغتة المسلمين، فأدار خالد بن الوليد ومن معه من وراء المسلمين(١) فورد المعسكر من هذا المعبر على حين غفلة من المسلمين بعد ما قتل من بقي من الرماة فوق الهضبة، وعند ذلك أثخنوا المسلمين ضرباً وقتلاً، فألقى كل مسلم ما كان بيده مما انتهب، وعاد إلى سيفه يسلّه ليقاتل به ولكنّ هيهات هيهات لقد تفرّقت الصفوف، وتمزّقت الوحدة، بعد أن كانت تقاتل تحت لواء قيادة قويّة حازمة حكيمة، وهي الآن أصبحت تقاتل ولا قيادة لها، فلم يكن عجباً أن ترى مسلماً يضرب مسلماً بسيفه، وهو لا يكاد يعرفه.

__________________

(١) ولعلّه نجح لذلك بإدارتهم على ظهر جبل اُحد حتّى دخل المعسكر من هذا المعبر.

٣٤٩

النداء بنعي النّبي:

والذي زاد في الطّين بلّة وأعان على تمّزق الصفوف، وتفرّق المسلمين عن ساحة الحرب، ولجوئهم إلى مخابئ الجبل وثناياه، سماعهم خبراً مكذوباً يهتف بموت النّبي، إذ نادى أحد المشركين أنّ محمّداً قد قتل، فعند ذلك سقط ما في أيدي المسلمين، وتفرّقوا في كل وجه، وصعدوا الجبل، والتجاؤا إلى المخابئ، فلم يبق إلّا الأقل القليل من أصحابه.

هذه هي الحالة التّي صار إليها المسلمون. وأمّا المشركون، فقد امتلأوا فرحاً وطرباً، واستنهضت هممهم كل يريد أن يشفي غليله بالمساعدة على الإجهاز على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفي هذه المرحلة الرهيبة كيف يتصوّر حال النبيّ ؟ فهو بين تجرّع مرارة جلاء أصحابه من ساحة القتال، وبين مضض هجوم عدوّه بشراسة وحماسة تجاه موقعه وموضعه الّذي ربض فيه.

فلم يصمد معه في ساحة المعركة إلّا شرذمة قليلة، وعلى رأسهم ابن عمّه عليِّ بن أبي طالب، وأبو دجانة سمّاك بن خرشة، وكلّما حملت طائفة على رسول الله استقبلهم عليٌّعليه‌السلام ، فدفعهم عنه حتّى تقطّع سيفه، فدفع إليه رسول الله سيفه ذا الفقار، وانحاز رسول الله إلى ناحية جبل اُحد، فصار القتال من وجه واحد، فلم يزل عليٌّ يقاتلهم حتّى أصابه في رأسه ووجهه ويديه سبعون جراحاً. كان عليٌّ يدافع عن ساحة النّبي، والنّبي يريد اللجوء إلى جانب الجبل، كان النّبي على هذه الحالة إذ عرفه أحد أصحابه وهو كعب بن مالك، عرفه من عينيه وهما تزهران من تحت المغفر، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . فأشار إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أن أنصت(١) وإذا أردت أن تقف عن كثب على حقيقة الحال، وعلى ما حاق

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٨٣، والمغازي للواقدي: ج ١ ص ٢٣٦.

٣٥٠

بالمسلمين من محنة وبلاء، وتقرّق وتشتّت، وهبوط معنويّاتهم، وخوار عزائمهم، فاستمع إلى هذا النص الّذي يرويه لنا ابن هشام حيث يقول:

انتهى أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيدالله، في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: مايجلسكم ؟ قالوا: قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ استقبل القوم، فقاتل حتّى قتل، وبه سمّي أنس بن مالك(١) .

قد كان يوم أحد يوم بلاء ومحنة وتمحيص. أكرم الله تعالى فيه من أكرم بالشّهادة، ومحص فيه من لم يكن له ثبات عزم، وقوّة شكيمة في الدّفاع عن حريم الإسلام.

ولأجل فرار المسلمين، وجلائهم ساحة المعركة رشق العدو بالحجارة وجه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فاثقلوه جراحاً، فشجوا وجهه، وكسروا رباعيته، ولولا أنّ هنالك رجلاً مخلصين لنجدته، لقضي الأمر، ولكنّه سبحانه كتب على نفسه نصر المؤمنين، وإعزاز الرّسول، وتمكين دعوته.

إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مشى وحوله لفيف من أصحابه إلى فم الشعب، فلمّا استقرّ به الحال جاء عليٌّ بماء غسل عن وجه النبيّ الدّم، وصبَّ على رأسه وكان النبيّ يقول: اشتدّ غضب الله على من أدمى وجه نبيّه، ونزع أبو عبيدة بن الجراح حلقتي المغفر من وجه الرّسول، فسقطت ثنيّتاه. ولـمـّا وقف المسلمون على أمر النبيّ، وعلموا موضعه تقاطروا عليه تترى من كل جانب، والتفّوا حوله.

وأمّا قريش فطارت بنصرها سروراً، وحسبت نفسها أنّها انتقمت لبدر أشدّ الإنتقام، حتّى بعد ما وقفوا على أنّ النبيّ حي لم يقتل، وحينما أراد أبوسفيان الإنصراف أشرف على الجبل ثمَّ صرخ بأعلى صوته فقال: إنّ الحرب سجال يوم بيوم

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٨٣.

٣٥١

أعل هبل ـ أي أظهر دينك ـ فأمر رسول الله أصحابه أن يقولواً: الله أعلى وأجلّ لا سواه، قتلانا في الجنّة، وقتلاكم في النار.

وقال أبوسفيان: « إنّ لنا العزّى ولا عزّى لكم ».

فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجيب أصحابه ويقولوا: « الله مولانا ولا مولى لكم ».

ثُمَّ رجعت قريش إلى أثقالهم، وركّبوا الأثقال، فتركوا ساحة المعركة. فخرج المسلمون يتبّعون قتلاهم، فلم يجدوا قتيلاً إلّا مثلوا به، إلّا حنظلة كان أبوه مع المشركين فترك له، ووجدوا حمزة بن عبد المطلب عم النبيّ قد بقر بطنه، وحملت كبده، احتملها وحشي، وهو قتله، يذهب بكبده إلى هند بنت عتبة في نذر نذرته حين قتل أباها يوم بدر. وأقبل المسلمون على قتلاهم يدفنونهم ثُمَّ رجعوا إلى المدينة. فلمّا دخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أزقّتها إذا النوح والبكاء في الدور. فقال: ما هذا ؟ قالوا: هذه نساء الأنصار يبكين على قتلاهنّ. وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين سمع البكاء: لكنّ حمزة لا بواكي له، واستغفر له. فسمع ذلك سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن رواحة، فمشوا في دورهم، فجمعوا كل نائحة وباكية كانت بالمدينة للبكاء على حمزة.

وعند ذلك بدت شماتة اليهود وقالوا: لو كان نبيّاً ما ظهروا عليه، ولا اُصيب منه ما اُصيب. وقال المنافقون للمسلمين: لو كنتم أطعتمونا ما أصاب الذي أصابوا منكم.

ثُمَّ قدم رجل من أهل مكّة على رسول الله، فاستخبرهم عن أبي سفيان وأصحابه، فقال: نازلتهم، فسمعتهم يتلاومون يقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئاً أصبتم شوكة القوم وحدّهم، ثمّ تركتموهم ولم تبروهم، فقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فلمّا كان الغد من يوم اُحد أذّن مؤذّن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في المسلمين بطلب العدو، واستنفرهم لمطاردته على أن لايخرج إلّا من حضر الغزوة، وخرج المسلمون، فوقع في روع أبي سفيان أنّ أعداءه جاءوا من المدينة بمدد

٣٥٢

جديد، فخاف لقاءهم، وبلغ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حمراء الأسد(١) فأقام بها ثلاثة أيّام. فكان أبوسفيان وأصحابه بالروحاء، فمرّ به معبد الخزاعي، وكان قد مرّ بالنبيّ ومن معه، فسأل عن شأنهم، فقال: إنّ محمداً قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرّقون عليكم تحرّقاً، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق شيء لم أر مثله.فلمّا سمع أبو سفيان مقالة معبد، خاف على نفسه وأصحابه، فشدّ عزيمته على الرجوع قول صفوان بن اُميّة حيث قال: إنّ محمداً واصحابه قد غضبوا، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان، فارجعوا، فرجعوا إلى مكّة.

وقد قتل من المسلمين في ساحة اُحد تسعة وأربعون رجلاً، وقتل من المشركين ستّة عشر رجلاً(٢) .

هذه إطلالة سريعة على غزوة اُحد تعرّضنا لذكرها ليكون معيناً على فهم ما ورد حول هذه الغزوة من آيات الذكر الحكيم، فانّ ما ورد في المغازي والسّيرة بمثابة القرائن التي يستعان بها على رفع إجمال الآيات وما اُبهم معناه منها. وإليك إستعراض ما ورد في الذكر الحكيم مع الاشارة إلى ما يستفاد منها من عبر وعظات:

١ ـ حنكة النبيّ العسكريّة:

قد أوضحت الخاتمة التي آل إليها مصير المسلمين قيمة ما ألزم به النبيّ الرماة حيث قال: « إحموا لنا ظهورنا فإنّا نخاف أن نؤتى من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه وإن رأيتمونا نهزمهم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا، ولا تدفعوا عنّا، أللّهم إنّي اُشهدك عليهم، واُرشقوا خيلهم بالنّبل ».

__________________

(١) موضع على ثمانية أميال من المدينة.

(٢) لاحظ السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٨٥ ـ ١٠٥، ومغازي الواقدي: ج ١، ٢٣٩ ـ ٢٤٩، ودلائل النبوة: ص ٢١٢ ـ ٢١٩ وغيرها.

٣٥٣

ولكنّ ياللأسف إنّ الرماة خالفوا الرّسول وعصوه، فبقيت ثلّة منهم في موقفهم، ونزل كثير منهم من الجبل للنّهب وجمع الثروة، حتّى جاء خالد بن الوليد، فقتل من بقي منهم، ثّم دخل ساحة المعركة من دون مقاومة تذكر، فأعمل السيف فيهم.

وهذا إن دَلّ على شيء فإنّما يدلّ على حنكة النبيّ العسكريّة أوّلاً، وعلى وجود حالة عدم الرضوخ التامّ بين أصحابه لأوامره ثانياً، حيث أوّلوا أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بتأويلات لغاية إشباع نهم شهواتهم بجمع المال، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:

( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / ١٥٢ ).

وإليك تحليل ما تضمّنته هذه الآية:

أقوله سبحانه:( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ) يدل على أنّه سبحانه وعدهم بالنصر، ولعلّ النصر هو ما ورد في قوله سبحانه:

( بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) ( آل عمران / ١٢٥ ).

نعم وعد سبحانه بالإنتصار بشرطين لا مطلقاً، وقد ألمحت الآية إليهما في قوله:

١ ـ( إِن تَصْبِرُوا ) .

٢ ـ( وَتَتَّقُوا ) .

ولكنّ الرماة المستقرّين على الهضبة لم يصبروا، ولم يتّقوا مغبّة مخالفة الرّسول، فآثروا حطام الدّنيا على الآخرة.

٣٥٤

ب ـ قوله سبحانه:( حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ) يدلّ على أنّه طرأ الفشل عليهم، وتنازعوا في أمر البقاء والمغادرة، وعصوا أمر الرّسول، وكان منهم من يطمح في نيل حطام الدّنيا، ومنهم من آثر الآخرة وطاعة الرّسول على نيل شهوات الدّنيا.

ج ـ ولكنّ رحمته الواسعة شملتكم، فكفّكم عن المشركين بعد ظهور الفشل والتّنازع والمعصية، وعفى عن عصيانكم كما يدلّ عليه قوله:

( ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ) .

د ـ ليبتليكم: أي كان هذا الخلاف مَحَكّاً قَويّاً لتمييز الطالب للدّنيا عن طالب الآخرة، بل لتمييز المؤمن عن المنافق، والمؤمن الراسخ في إيمانه الثّابت على عزيمته، من المتلوّن السريع الزوال، ومع ذلك فإنّ الله سبحانه عفا عنهم بفضله كما قال:

( وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ ) .

٢ ـ تصدّع جيش المسلمين وإنحلال زمامه:

لقد مَرَّ بك أنّ خالد بن الوليد باغت المسلمين من ورائهم، وقد وضعوا سيوفهم على الأرض، والتهوا بجمع الغنائم، فعند ما رأوا سيوف العدو على رؤوسهم، وبريق أسنّة رماحهم أصابهم الذهول، وتفرّقوا في كلّ حدب وصوب، فتركوا ما كان بأيديهم، وصعدوا الجبل من دون أن يلتفتوا ورائهم إلى النبيّ والمؤمنين، وأنّهم تركوه أثناء المعركة الطاحنة، مع أنّ النبيّ كان يدعوهم بقوله: إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، وهم لا يلتفتون، فعند ذلك ملأت قلوبهم الهموم بعضها أشّد من بعض، همّ الإنتكاسة الغير المرتقبة، ثمّ همّ فقد الأحبّة والأعزّة، ثمّ تعالى صوت الناعي بقتل النبيّ الأكرم، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:

( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا

٣٥٥

بِغَمٍّ لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / ١٥٣ ) وإليك تحليل ما تضمّنته الآية:

في قوله سبحانه:( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ ) تلويح بفرارهم عن ساحة الحرب كما أنّ قوله:( وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ) إشارَة إلى النداءات الّتي تعالت من فم النبيّ في تلك الأثناء، تدعوهم للصمود والثّبات في المعركة:

وقوله:( فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ) إشارة إلى تراكم الغموم والهموم والآلام على قلوب المسلمين، وقوله:( لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ ) إشعار بأنّ الغموم بلغت حدّاً نسوا معه ما فاتهم من الغنائم.

٣ ـ على أعتاب الردّة

لم تكن زلّة القوم منحصرة بالفرار وإخلاء ساحة المعركة، وترك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بين يدي المشركين، ومخالفة الرماة أوامره، بل بلغ أمرهم إلى أبعد من ذلك غوراً، حيث طرأ على قلوبهم ظنون أهل الجاهليّة، فظنّوا من الظنون الّتي لا يليق بتصوّرها إلّا أهل الجاهلية، حيث انتابتهم حالة من الشكّ، وإلى ذلك ونحوه يشير قوله سبحانه:( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( آل عمران / ١٥٤ ).

ولأجل الوقوف على المزيد ممّا تضمّنته الآية الشريفة السابقة نتناول التعرّض لها جملة بعد جملة.

١ ـ( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ) .

٣٥٦

النّعاس ما يسبق النوم من فتور واسترخاء، وربّما يسمّى بالنّوم الخفيف، وقد نزل النّعاس، وغشى طائفة من القوم ولم يعمّ الجميع بقرينة قوله:( يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ) ، وكان هذا النّعاس بمثابة الرحمة بعد الغمّ الذي اعتراهم، فأزال عنهم الخوف بغلبة النوم ليستردّوا ما فقدوا من القوّة، وما عرض لهم من الإرهاق والتّعب والضعف.

وكلمة( نُّعَاسًا ) يدلّ من قوله( أَمَنَةً ) للملازمة بين الأمنة والنوم، وقد قيل: الأمن منوّم والخوف مسهّر، وأمّا من هؤلاء الّذين غشيهم النّعاس دون غيرهم ؟ فيحتمل أن يكونوا هم الّذين رجعوا إلى رسول الله بعد الإنهزام والانكسار لـمّا ندموا وتحسّروا، فهؤلاء بعض القوم، وهم النادمون على ما فعلوا، الراجعون إلى النبيّ، المحتفّون به، وكان ذلك حينما وصل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى فم الشعب، ووقفت تلك الطائفة على أنّ النبيّ لا زال على قيد الحياة لم يقتل، فرجعوا إليه يتقاطرون تترىٰ.

٢ ـ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ) وهذه طائفة اُخرىٰ من المؤمنين لا من المنافقين، فإنّهم فارقوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن معه في أثناء الطريق وانخذلوا، ولهم شأن آخر سينبّئ الله سبحانه بهم بعد ذلك، وهذه الطائفة الثانية الموصوفة بـ( أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ) لم يكرمهم الله بما أكرم به الطائفة الاُولى من العفو، وإثابة الغمّ ثمّ الأمنه والنّعاس، بل وكّلهم إلى أنفسهم، ونسوا كلّ شيء، ولم يهتمّوا إلّا بأنفسهم.

وهذه الطائفة قد استولى عليهم الخوف، وذهلوا عن كلّ شيء سواهم، ولـمـّا لم يكن الوثوق بالله ووعده رسوله وصل إلى قرارة أنفسهم، لأنّهم كانوا مكذّبين للرّسول في قلوبهم لا جرم عظّم الخوف لديهم، وحقّ عليهم ما وصفهم الله به:

أ ـ( يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) فكانوا يبطنون في قرارة أنفسهم: « لو كان محمد نبيّاً حقّاً ما سلّط الله عليه الكفّار » وهذه مقالة لا يتفوّه بها إلّا من دان بالكفر.

٣٥٧

ب ـ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ) والظّاهر أنّ المراد من الأمر هو الظّفر والنّصر في كلا الموردين، والمقصود من الضمير في( لَنَا ) هؤلاء بما أنّهم يشكّلون جزءاً من المسلمين وإن لم يكونوا منهم حقيقة، والمعنى:

يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار والإستهجان: « هَلْ لَنَا مِنَ النَّصْرِ وَالفَتْحِ والظّفر نصيب » ؟! يعنون أنّه ليس للمسلمين ( لنا ) من ذلك شيء، وإنّ الله سبحانه لا ينصر محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله وبما أنّ النّصر وكون الدّين حقّاً كانا متلازمين عندهم، فاستنتجوا أنّ الدعوة المحمّديّة ليست حقّاً.

ثمّ إنّه سبحانه أجابهم في معرض تناول ذكرهم بقوله:

( إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ ) أي كلّ الاُمور بيده سبحانه حتّى النّصر والهزيمة، وإليه دعى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو معتقد المسلمين، ولكن بمقتضىٰ حكمته وسننه الّتي وضعها لتسيير شؤون الخلق، وربط فيها الأسباب بالمسبّبات، فهو وإن وعد رسله بقوله:

( كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( المجادلة / ٢١ ).

وقال:( وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) ( الصافّات / ١٧٣ ).

ولكنّ تحقّق هذا الوعد مرهون بتوفّر الأسباب الكفيلة بالنصر، فإنّه سبحانه هو الذي وضع سنّة الأسباب والمسبّبات، فما كان سببه أقوى كان وقوعه أرجح سواء في ذلك الحقّ والباطل والخير والشر والهداية والضلالة والعدل والظلم، ولا فرق فيه بين المؤمن والكافر، والمحبوب والمبغوض، ومحمد وأبي سفيان، ولأجل ذلك كلّما توافقت الأسباب العاديّة على تقدّم هذا الدين وظهور المؤمنين كان النصر حليفهم، وحيث لم تتوافق الأسباب كتحقّق نفاق أو معصية لأمر النبيّ أو فشل أو جزع كانت الغلبة والظهور للمشركين على المؤمنين، وكذلك الحال في أمر سائر الأنبياء مع النّاس.

وإنّكم أيّها المنضوون تحت لواء المسلمين قد عصيتم أمر الرسول،

٣٥٨

ولم تأتمروا بأمره، فأخليتم مواقعكم عاصين لأمره وآثرتم حطام الدّنيا والأدنى الخسيس، ومع ذلك تترقّبون النصر لكم والهزيمة للعدو ! فكيف يقتطف الثمرة من لم يغرس شجرتها أو غرسها ولم يقم بأمرها ؟

ثم إنّه سبحانه بعد هذه الإجابة يأخذ بتبيين ما كان يخامرهم من الأفكار الفاسدة.

ج ـ( يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) .

الظّاهر أنّ قولهم:( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ ) تفسير للموصول في( مَّا لا يُبْدُونَ ) والفرق بين ما كانوا يظهرونه وما يضمرونه واضح، فقد كانوا يتظاهرون بالاستفسار في قولهم: « هل لنا من الأمر شيء » لغاية التشكيك، وهي وإن كانت فكرة خاطئة ولكن لـمّا غلّفت بطابع الإستفسار لم تكن ذات بأس شديد.

ولكنّهم كانوا يخفون قولهم:( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) يريدون بذلك الاستدلال على بطلان الدعوة المحمّدية بحجّة الانكسار لأنّ النبيّ الأكرم كان يقول: الأمر بيد الله وأنا رسوله، فلو كان ما يدّعيه حقّاً بأنّ الأمر كان بيد الله لا بيد الآلهة والأرباب المعبودة بين الناس وكان محمّد من جانبه لعمّنا النصر، ولكنّه النهاية كانت على العكس من ذلك، فكيف يمكن أن يكون الأمر بيد الله غير مقسّم على الآلهة والأرباب المدبّرة للاُمور بزعمهم.

ولأجل أنّ تلك الفكرة كانت فكرة أهل الشرك والوثنيّة سمّاها سبحانه( ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) .

ولكنّهم تناسوا ما جرت عليه سنّته الحكيمة، فإنّ الأمر بيد الله ولكنّها تجري وفق الأسباب والمسبّبات، فمن لم يأخذ بأسباب النصر لم يكن حليفه.

ثمّ إنّه سبحانه أجاب عن تلك الفكرة بوجوه ثلاثة:

٣٥٩

الأوّل: ( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ) فالآجال محدودة والأعمار مؤقتّة بوقت لا تتعدّاه، فإن قتل من قتل منكم في المعركة ليس دليلاً على عدم كون الأمر بيد الله أو أنّ الدعوة المحمّديّة ليست على حق، بل لأجل القضاء الإلهي الّذي لا مناص من الوقوع في نفوذه وامضائه، فقد كان في قضائه اضطجاع هؤلاء في هذه المضاجع، فلو لم تكونوا خرجتم إلى القتال لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فلا مفرّ من الأجل المسمّى الّذي إذا حان لا يتقدّم ساعة ولا يتأخّر.

الثاني والثالث: ( وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ) أي وقع ما وقع في غزوة اُحد لظهور ما انطوت عليه سريرة كلّ نفس حتّى يتميّز المؤمن من المنافق والمجاهد من المتقاعد، وقد جرت سنّة الله على عموم الابتلاء والتمحيص وهي حاكمة على جميع الاُمم لغاية التمحيص.

نعم ليست الغاية من ابتلائه سبحانه لعباده هو التعرّف لما يكمن في ضمائرهم فإنّه سبحانه عليم بالسرائر مطّلع على الضمائر لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، بل الغاية هي الإبتلاء والتمحيص ووصول كلّ ما بالقوّة إلى الفعل من الكفر والإيمان، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) .

وحصيلة البحث: انّ هذه الآية تشير إلى فريقين من المسلمين والمؤمنين الملتفّين حول الرسول المتنكّبين عَن المنافقين.

( أحدهما ): طائفة وهبهم الله عزّ وجلّ بعد الغمّ نعاساً أمنة منه لإزالة ما انتابهم من الروع والخوف والتفّوا حول الرسول بعد الندم.

( ثانيهما ): طائفة شغلتهم أنفسهم لا يتجاوز تفكيرهم نطاق ذاتهم من دون أن يتوجّهوا قيد طرفة صوبَ قائدهم ونبيّهم، وقد اعترتهم هواجس الجاهليّة الاُولى، فتارة يتفوّهون بها علانية بنحو من الشك والترديد والاستفسار بقولهم:( هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْء ) واُخرى بصورة الجزم والقطع واليقين بنحو الاخفاء والاسرار

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581