مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265888 / تحميل: 6072
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

(الأغناء المترفين) وتقريبه للمجموعة الثّانية (الفقراء المؤمنين) شكّل مجتمعا توحيديا بمعنى الكلمة ، مجتمعا تفجّرت فيه الطاقات الكامنة ، وأصبحت فيه معايير الشخصية والقيم والنبوغ ، هي التقوى والعلم والإيمان والجهاد والعمل الصالح.

واليوم ما لم نسع لبناء مثل هذا المجتمع والاقتداء بالنموذج الإسلامي الذي شيّده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهده ، وبدون نبذ الفكر الطبقي من العقول عن طريق التعليم والتربية وتدوين القوانين الصحيحة والسهر على تنفيذها بدقّة ـ بالرغم من رفض الاستكبار العالمي وتعويقه لذلك ـ فسوف لن نملك مجتمعا إنسانيا سليما أبدا.

2 ـ المقارنة بين الحياة في هذا العالم وعالم الآخرة :

لقد قلنا مرارا : إنّ تجسّد الأعمال هو من أهم القضايا المرتبطة بالمعاد. يجب أن نعلم أنّ ما هو موجود في ذلك العالم هو انعكاس واسع ومتكامل لهذا العالم ، فأعمالنا وأفكارنا وأساليبنا الاجتماعية وصفاتنا الأخلاقية المختلفة سوف تتجسّم وتتجسّد أمامنا في ذلك العالم وستبقى قرينة لنا دائما.

الآيات ـ أعلاه ـ دليل حي على هذه الحقيقة ، فالمترفون الظالمون الذين كانوا يعيشون في هذه الدنيا في ظل سرادق عالية ، وكانوا سكارى بهواهم ، وسعوا إلى فصل كل شيء يخصّهم عن المؤمنين الفقراء ، هؤلاء يملكون في ذلك العالم أيضا (سرادق) ولكنّها من النار الحارقة ، لأنّ الظلم في حقيقته نار حارقة تحرق الحياة وتذروا آمال المستضعفين المظلومين.

هناك يشربون من شراب يجسّد باطن شراب الدنيا ، وهو بالنسبة للظالمين الطغاة شراب من دماء قلوب المحرومين ، ومثل هذا الشراب يقدّم للظالمين في ذلك العالم ، وهو لا يحرق أمعاءهم وأحشاءهم فحسب ، بل يكون كالمعدن

٢٦١

المذاب الذي يشوي الوجوه قبل شربه من شدّة حرارته.

وعلى العكس من ذلك أولئك الذين تركوا الشهوات في سبيل حفظ طهارة وجودهم ورعاية أصول العدالة ، والذين اقتنعوا بحياة بسيطة ، وتحمّلوا كل الصعوبات والمنغصات في هذه الدنيا من أجل تنفيذ أصول العدالة هؤلاء تنتظرهم هناك بساتين الجنّة مع الأنهار الجارية ، وأفضل أنواع الزينة وأفخر الألبسة ، وأحبّ المجالس. وهذا في الواقع تجسيد لنياتهم النزيهة حيث كانوا يريدون كل الخير لجميع عباد الله.

3 ـ العلاقة بين عبادة الهوى والغفلة عن الله

الروح الإنسانية تخضع إمّا لله تعالى أو للأهواء ، حيث لا يمكن الجمع بين الإثنين ، فعبادة الأهواء أساس الغفلة عن الله وعبادة الله ، عبادة الهوى هي سبب الابتعاد عن جميع الأصول الأخلاقية ؛ وأخيرا فإنّ عبادة الهوى تدخل الإنسان في ذاته وتبعده عن جميع حقائق العالم.

إنّ الإنسان الذي يعبد هواه لا يفكّر إلّا في إشباع شهواته ، ولا يوجد لديه معنى للفتوّة والعفو والإيثار والتضحية والشيم المعنوية الأخرى.

وقد أوضحت الآيات محل البحت الربط والعلاقة بين الإثنين بشكل جلي في قوله تعالى :( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) .

لقد طرحت الآية أوّلا (الغفلة) عن الله تعالى ، ثمّ ذكرت بعدها (أتباع الهوى) ، والطريف أنّ نتيجة هذا الأمر هو الإفراط وبالشكل المطلق الذي ذكرته الآية.

لماذا يكون عابد الهوى مصابا بالإفراط دائما؟

قد يكون السبب أنّ الطبيعة الإنسانية تتجه في الملذات المادية نحو الزيادة دوما ، فالذي كان يشعر بالنشوة بمقدار معين من المخدرات ، لا يكفيه نفس

٢٦٢

المقدار في اليوم التالي لبلوغ نفس درجة النشوة ، بل عليه زيادة الكمية بالتدريج ، والشخص الذي كان يكفيه في السابق قصر واحد مجهّز بجميع الإمكانات وبمساحه عدة آلاف بين الأمتار ، يصبح اليوم إحساسه بهذا القصر عاديا ، فينشد الزيادة. وهكذا في جميع مصاديق الهوى والشهوة حيث أنّها دائما تنشد الزيادة حتى تهلك الإنسان نفسه.

4 ـ ملابس الزينة في العالم الآخر

قد يطرح البعض هذا السؤال : لقد ذمّ الله تعالى الزينة والتزيّن في القرآن بالنسبة لهذه الحياة ، إلّا أنّه يعد المؤمنين بمثل هذه الأمور في ذلك العالم ، إذ تنص الآيات على الذهب وملابس الحرير والإستبرق والسرر المساند الجميلة؟

قبل الإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نوضّح بأنّنا لا نوافق على توجيه هذه الكلمات على أنّها كناية عن مفاهيم معنوية ويفسّرون الآيات على هذا الأساس ، لقد تعلمنا من القرآن الكريم أنّ المعاد ذو جانبين : معاد روحاني ومعاد جسماني.

وعلى هذا الأساس ، فإنّ لذات ذلك العالم يجب أن تكون موجودة في المجالين ، واللذات الروحية ـ طبعا ـ لا يمكن مقايستها باللذات الجسمية. ولكن لا بدّ من الاعتراف بأنّنا لا نعرف من نعم ذلك العالم سوى أشباح بعيدة ، ونسمع كلاما يشير إليها.

لماذا؟ لأنّ نسبة ذلك العالم إلى عالمنا هذا كنسبة عالمنا إلى عالم الجنين في بطن الأم ، فإذا قدّر للأم أن تقيم رابطة بينها وبين الجنين ، فلا يسعها إلّا أن توضح للجنين بالإشارات جمال هذه الدنيا بشمسها الساطعة وقمرها المنير ، والعيون الفوّارة ، والبساتين والورود وما شابهها ، حيث لا توجد ألفاظ كافية لتبيان كل هذه المفاهيم للجنين في رحم الأم كي يفهمها ويستوعبها.

كذلك فإنّ النعم المادية والمعنوية لعالم الآخرة لا يمكن توضيحها لنا بشكل

٢٦٣

كامل ونحن محاصرون في أبعاد رحم هذه الدنيا.

ومع وضوح هذه المقدمة نجيب على السؤال ونقول : إن ذم الله عز اسمه لحياة الزينة والترف في هذه الدنيا يعود إلى أن محدودية هذا العالم تسبب أن تقترن الزينة والترف مع أنواع الظلم والانحراف الذي يكون بدوره سببا للغفلة والانقطاع عن الله.

إنّ الاختلافات التي تبرز خلال هذا الطريق ستكون سببا للحقد والحسد والعداوة والبغضاء ، وأخيرا إراقة الدماء والحروب.

أمّا في ذلك العالم اللامحدود من جميع الجهات ، فإنّ الحصول على هذه الزينة لا يسبّب مشكلة ولا يكون سببا للتمييز والحرمان ، ولا للحقد والنفرة ، ولا يبعد الإنسان عن الله في ذلك المحيط المملوء بالمعنويات حيث لا حسد ولا تنافس ولا كبر ولا غرور تؤدي ابتعاد خلق الله عن الله ، كما في زينة الحياة الدنيا.

فإذا كان الحال كذلك فلما ذا يحرم أهل الجنة من هذه المواهب والعطايا الإلهية التي هي لذّات جسمية إلى جانب كونها مواهب معنوية كبيرة!

5 ـ الاقتراب من الأثرياء بسبب ثروتهم :

الدرس الآخر الذي نتعلمه من الآيات الآنفة ، هو أنّه يجب علينا أن لا نمتنع عن إرشاد وتوجيه هذه المجموعة ـ أو تلك ـ بسبب كونها ثرية أو ذات حياة مرّفهة ، بل إنّ الشيء المذموم هو أن نذهب لهؤلاء لأجل ثروتهم ودنياهم المادية ، ونصبح مصداقا لقوله تعالى :( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) أمّا إذا كان الهدف هو الهداية والإرشاد ، أو حتى الاستفادة من إمكانياتهم من أجل تنفيذ النشاطات الإيجابية والمهمّة اجتماعيا ، فانّ مثل هذا الهدف لا يعتبر غير مذموم وحسب ، بل هو واجب.

* * *

٢٦٤

الآيات

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) )

التّفسير

تجسيد لموقف المستكبرين من المستضعفين :

في الآيات السابقة رأينا كيف أنّ عبيد الدنيا كانوا يحاولون الابتعاد في كل شيء عن رجال الحق وأهله المستضعفين ، ثمّ عرّفتنا الآيات جزاءهم في الحياة الأخرى.

الآيات التي نبحثها تشير إلى حادثة اثنين من الأصدقاء أو الإخوة الذين

٢٦٥

يعتبر كل واحد منهم نموذجا لإحدى المجموعتين ، ويوضحان طريقة تفكير وقول وعمل هاتين المجموعتين.

في البداية تخاطب الآيات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول :( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً ) .

البستان والمزرعة كان فيهما كل شيء : العنب والتمر والحنطة وباقي الحبوب ، لقد كانت مزرعة كاملة ومكفية من كل شيء :( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ) .

والأهم من ذلك هو توفّر الماء الذي يعتبر سر الحياة ، وأمرا مهمّا لا غنى للبستان والمزرعة عنه ، وقد كان الماء بقدر كاف :( وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً ) .

على هذا الأساس كانت لصاحب البستان كل أنواع الثمار :( وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ ) .

ولأنّ الدنيا قد استهوته فقد أصيب بالغرور لضعف شخصيته ورأي أن الإحساس العميق بالأفضلية والتعالي على الآخرين ، حيث التفت وهو بهذه الحالة إلى صاحبه :( فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) .

بناء على هذا فأنا أملك قوّة إنسانية كبيرة وعندي مال وثروة ، وأنا أملك ـ أيضا ـ نفوذا وموقعا اجتماعيا ، أمّا أنت (والخطاب لصاحبه) فما ذا تستطيع أن تقول ، وهل لديك ما تتكلم عنه؟!

لقد تضخّم هذا الإحساس ونما تدريجيا ـ كما هو حاله ـ ووصل صاحب البستان إلى حالة بدأ يظن معها أنّ هذه الثروة والمال والجاه والنفوذ إنّما هي أمور أبديّة ، فدخل بغرور إلى بستانه (في حين أنّه لا يعلم بأنّه يظلم نفسه) ونظر إلى أشجاره الخضراء التي كادت أغصانها أن تنحني من شدّة ثقل الثمر ، وسمع صوت الماء الذي يجري في النهر القريب من البستان والذي كان يسقي أشجاره ، وبغفلة قال : لا أظن أن يفنى هذا البستان ، وبلسان الآية وتصوير القرآن الكريم :( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) .

٢٦٦

بل عمد إلى ما هو أكثر من هذا ، إذ بما أنّ الخلود في هذا العالم بتعارض مع البعث والمعاد ، لذا فقد فكّر في إنكار القيامة وقال :( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) وهذا كلام يعكس وهم قائلة وتمنياته!

ثمّ أضاف! حتى لو فرضنا وجود القيامة فإنّي بموقعي ووجاهتي سأحصل عند ربّي ـ إذا ذهبت إليه ـ على مقام وموقع أفضل. لقد كان غارقا في أوهامه( وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) .

لقد أخذ صاحب البستان ضمن الحالة النفسية التي يعيشها والتي صورها القرآن الكريم ، يضيف إلى نفسه في كل فترة وهما بعد آخر من أمثال ما حكت عنه الآيات آنفا ، وعند هذا الحد انبرى له صديقه المؤمن وأجابه بكلمات يشرحهما لنا القرآن الكريم.

* * *

٢٦٧

الآيات

( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) )

التّفسير

جواب المؤمن :

هذه الآيات هي ردّ على ما نسجه من أوهام ذلك الغني المغرور العديم الإيمان ، نسمعها تجري على لسان صاحبه المؤمن.

لقد بدأ الكلام بعد أن ظلّ صامتا يستمع إلى كلام ذلك الرجل ذي الأفق الضيق والفكر المحدود ، حتى ينتهي من كلامه ، ثمّ قال له :( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ

٢٦٨

يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) .

وهنا قد يثار هذا السؤال ، وهو : إنّ كلام ذلك الرجل المغرور المتكبر الذي مرّ ذكره في الآيات الآنفة ، لم يصرّح فيه بإنكار الحق جلّ وعلا ، في حين أنّ جواب الإنسان المؤمن ركزّ فيه أوّلا على إنكاره للخالق!؟ لذلك فإنّه وجّه نظره أوّلا إلى قضية خلق الإنسان التي هي من أبرز أدلة التوحيد والتوجّه نحو الخالق العالم القادر. الله الذي خلق الإنسان من تراب ، حيث امتصت جذور الأشجار المواد الغذائية الموجودة في الأرض ، والأشجار بدورها أصبحت طعاما للحيوانات ، والإنسان استفاد من هذا النبات ولحم الحيوان ، وانعقدت نطفته من هذه المواد ، ثمّ سلكت النطفة طريق التكامل في رحم الأم حتى تحوّلت إلى إنسان كامل ، الإنسان الذي هو أفضل من جميع موجودات الأرض ، فهو يفكّر ويصمّم ويسخّر كلّ شيء لأجله.

نعم ، إنّ هذا التراب عديم الأهمية يتحوّل إلى هذا الموجود العجيب ، مع هذه الأجهزة المعقدة الموجودة في جسم الإنسان وروحه ، وهذا من الدلائل العظيمة على التوحيد.

وفي الجواب على السؤال المثار ذكر المفسّرون تفاسير معتدّدة نجملها فيما يلي :

1 ـ قالت مجموعة منهم : بما أنّ هذا الرجل المغرور أنكر بصراحة المعاد والبعث أو شكك فيه ، فإنّه يلزم من ذلك إنكار الخالق ، لأنّ منكر المعاد الجسماني ينكر في الواقع قدرة الله ، ولا يصدّق بأنّ هذا التراب المتلاشي سوف تعود له الحياة مرّة أخرى ، لذا فإنّ الرجل المؤمن مع ذكره للخلق الأوّل من تراب ، ثمّ من نطفة ، ثمّ بإشارته للمراحل الأخرى ـ أراد أن يلفت نظره إلى القدرة غير المتناهية للخالق حتى يعلم بأنّ قضية المعاد يمكن مشاهدتها هنا وتمثّلها بأعيننا في واقع هذه الأرض.

٢٦٩

2 ـ وقال آخرون : إنّ شركه وكفره كانا بسبب ما رآه لنفسه من استقلال في المالكية وما تصوره من دوام وأبدية هذه الملكية.

3 ـ الاحتمال الثّالث أنّه لا يبعد أن يكون الرجل قد أنكر الخالق في بعض كلامه ولم يذكر القرآن هذا المقطع من كلامه. وقد يتوضح الأمر بقرينة جواب الرجل المؤمن ، لذا نرى في الآية التي بعدها أنّ الرجل المؤمن قال لصاحب البستان ما مضمونه : إن كنت أنكرت وجود خالقك وسلكت طريق الشرك ، إلّا أنّني لا أفعل ذلك أبدا.

على أي حال ، ثمّة علاقة واضحة تربط بين الاحتمالات الثلاثة ، ويمكن أن يكون كلام الرجل المؤمن الموحّد إشارة الى هذه الاحتمالات جميعا.

ثمّ عمد الرجل الموحّد المؤمن إلى تحطيم كفر وغرور ذلك الرجل (صاحب البستان) فقال :( لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي ) (1) . وإنّي أفتخر بهذا الإعتقاد وأتباهى به ، إنّك تفتخر بأنّك تملك بستانا ومزرعة وفواكه وماءا كثيرا ؛ إلّا أنّني أفتخر بأنّ الله ربّي ، إنّه خالقي ورازقي؛إنّك تتباهى بدنياك وأنا أفتخر بعقيدتي وإيماني وتوحيدي :( وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ) .

وبعد أن أشار إلى قضية التوحيد والشرك اللذين يعتبران من أهم المسائل المصيرية ، جدّد لومه لصاحبه قائلا :( وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ ) (2) .

فلما ذا لا تعتبر كل هذه النعم من الخالق جلّ وعلا ، ولماذا لم تشكره عليها. ولماذا لم تقل :( لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ ) .

فإذا كنت قد هيّأت الأرض وبذرت البذور وزرعت الغرس وربيت الأشجار ، وفعلت كلّ شيء في وقته المناسب حتى وصل الأمر إلى ما وصل إليه ؛

__________________

(1) كلمة (لكنّا) في الأصل كانت (لكن إنّ) ثمّ دمجت وأصبحت هكذا.

(2) جمله( ما شاءَ اللهُ ) لها محذوف إذ تكون مع التقدير : ما شاء الله كان ، أو : ما شاء الله ، فإنّ هذا هو الشيء الذي يريده الله.

٢٧٠

فإنّ كل هذه الأمور هي من قدرة الخالق جلّ وعلا ، وقد وضع سبحانه وتعالى الوسائل والإمكانات تحت تصرفك ، حيث أنّك لا تملك شيئا من عندك ، وبدونه تكون لا شيء!

ثمّ يقول له : ليس من المهم أن أكون أقل منك مالا وولدا :( إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً ) .

( فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ) .

وليس فقط أن يعطيني أفضل ممّا عندك ، بل ويرسل صاعقة من السماء على بستانك، فتصبح الأرض الخضراء أرض محروقة جرداء :( وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً ) .

أو أنّه سبحانه وتعالى يعطي أوامره إلى الأرض كي تمنعك الماء :( أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ) .

«حسبان» على وزن «لقمان» وهي في الأصل مأخوذة من كلمة «حساب» ، ثمّ وردت بعد ذلك بمعنى السهام التي تحسب عند رميها ، وتأتي أيضا بمعنى الجزاء المرتبط بحساب الأشخاص ، وهذا هو ما تشير إليه الآية أعلاه.

«صعيد» تعني القشرة التي فوق الأرض. وهي في الأصل مأخوذة من كلمة صعود.

«زلق» بمعنى الأرض الملساء بدون أي نباتات بحيث أنّ قدم الإنسان تنزلق عليها (الطريف ما يقوم به الإنسان اليوم حيث تتمّ عملية تثبيت الأرض والرمال المتحركة ، ومنع القرى من الاندثار تحت هذه الرمال عند هبوب العواصف الرملية ، وذلك من خلال زراعتها بالنباتات والأشجار ، أو ـ كما يصطلح عليه ـ إخراجها من حال الزلق والانزلاق).

في الواقع ، إنّ الرجل المؤمن والموحّد حذّر صديقه المغرور أن لا يطمأن لهذه النعم ، لأنّها جميعا في طريقها إلى الزوال وهي غير قابلة للاعتماد.

٢٧١

إنّه أراد أن يقول لصاحبه : لقد رأيت بعينيك ـ أو على الأقل سمعت بأذنك ـ كيف أنّ الصواعق السماوية جعلت من البساتين والبيوت والمزروعات ـ وخلال لحظة واحدة ـ تلّا من التراب والدمار وأصبحت أرضهم يابسة عديمة الماء والكلأ.

وأيضا سمعت أو رأيت بقيام هزة أرضية تطمس الأنهار وتجفّف العيون ، بحيث تكون غير قابلة للإصلاح والترميم.

وبمعرفتك لكل هذ الأمور فلم هذا الغرور؟!

أنت الذي شاهدت أو سمعت كل هذا، فلم هذا الانشداد للأرض والهوى؟

ثمّ لماذا تقول : لا أعتقد أن تزول هذه النعم وأنّها باقية وخالدة ؛ فلما ذا هذا الجهل والبلاهة!!!؟

* * *

٢٧٢

الآيات

( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) )

التّفسير

العاقبة السوداء :

أخيرا انتهى الحوار بين الرجلين دون أن يؤثر الشخص الموحّد المؤمن في أعماق الغني المغرور ، الذين رجع إلى بيته وهو يعيش نفس الحالة الروحية والفكرية ، وغافل أنّ الأوامر الإلهية قد صدرت بإبادة بساتينه ومزروعاته الخضراء ، وأنّه وجب أن ينال جزاء غروره وشركه في هذه الدنيا ، لتكون عاقبته عبرة للآخرين.

ويحتمل أنّ العذاب الإلهي قد نزل في تلك اللحظة من الليل عند ما خيّم الظلام ، على شكل صاعقة مميتة أو عاصفة هو جاء مخيفة ، أو على شكل زلزال مخرّب ومدمّر. وأيّا كان فقد دمّرت هذه البساتين الجميلة والأشجار العالية

٢٧٣

والزرع المثمر ، حيث أحاط العذاب الإلهي بتلك المحصولات من كل جانب :( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ) .

«أحيط» مشتقّة من «إحاطة» وهي في هذه الموارد تأتي بمعنى (العذاب الشامل) الذي تكون نتيجته الإبادة الكاملة.

وعند الصباح جاء صاحب البستان وتدور في رأسه الأحلام العديدة ليتفقد ويستفيد من محصولات البستان ، ولكنّه قبل أن يقترب منه واجهه منظر مدهش وموحش ، بحيث أنّ فمه بقي مفتوحا من شدة التعجّب ، وعيناه توقفتا عن الحركة والاستدارة.

لم يكن يعلم بأنّ هذا المنظر يشاهده في النوم أم في اليقظة! الأشجار جميعها ساقطة على التراب ، النباتات مدمّرة ، وليس ثمّة أي أثر للحياة هناك!

كان الأمر بشكل وكأنّه لم يكن هناك بستان ولا أراضي مزروعة ، كانت أصوات (البوم) ـ فقط ـ تدوي في هذه الخرائب ، قلبه بدأ ينبض بقوّة ، بهت لونه ، يبس الماء في فمه ، وتحطّم الكبرياء والغرور اللذان كانا يثقلان نفسه وعقله.

كأنّه صحا من نوم عميق :( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ) .

وفي هذه اللحظة ندم على أقواله وأفكاره الباطلة :( وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) .

والأكثر حزنا وأسفا بالنسبة له هو ما أصبح عليه من الوحدة في مقابل كل هذه المصائب والابتلاءات :( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

ولأنّه فقد ما كان يملكه من رأس المال ولم يبقي لديه شيء آخر ، فإنّ مصيره :( وَما كانَ مُنْتَصِراً ) .

لقد انهارت جميع آماله وظنونه الممزوجة بالغرور ، لقد أدت الحادثة إلى انتهاء كل شيء ، فهو من جانب كان يقول : إنّي لا أصدق بأنّ هذه الثروة العظيمة

٢٧٤

من الممكن أن تفنى ، إلّا أنّني رأيت فناءها بعيني!

ومن جانب آخر فقد كان يتعامل مع رفيقه المؤمن بكبر ويقول : إنّني أقوى منك وأكثر أنصارا ومالا ، ولكنّه بعد هذه الحادثة اكتشف أن لا أحد ينصره!

ومن جانب ثالث فإنّه كان يعتمد على قوته وقدرته الذاتية ، ويعتقد بأنّ غير قدرته محدودة ، لكنّه بعد هذه الحادثة ، وبعد أن لم يكن بمقدوره الحصول على شيء ، انتبه إلى خطئه الكبير ، لأنّه لم يعد يتملك شيئا يعوضه جانبا من تلك الخسارة الكبرى.

وعادة ، فإنّ الأصدقاء الذين يلتفون حول الإنسان لأجل المال والثروة مثلهم كمثل الذباب حول الحلوى ، وقد يفكّر الإنسان أحيانا بالاعتماد عليهم في الأيّام الصعبة ، ولكن عند ما يصاب فيما يملك يتفرق هؤلاء الخلّان من حوله ، لأنّ صداقتهم له لم تكن لرابط معنوي ، بل كانت لأسباب مادية ، فإذا زالت هذه الأسباب انتفت الرفقة!

وهكذا انتهي كل شيء ولا ينفع الندم ، لأنّ مثل هذه اليقظة الإجبارية التي تحدث عند نزول الابتلاءات العظيمة يمكن ملاحظتها حتى عند أمثال فرعون ونمرود ، وهي بلا قيمة ، لهذا فإنّها لا تؤثّر على حال من ينتبه.

صحيح أنّه ذكر عبارة( لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) وهي نفس الجملة التي كان قد قالها له صديقه المؤمن ، إلّا أنّ المؤمن قالها في حالة السلامة وعدم الابتلاء ، بينما ردّدها صاحب البستان في وقت الضيق والبلاء.

( هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ ) نعم ، لقد اتضح أنّ جميع النعم منه تعالى ، وأنّ كل ما يريده تعالى يكون طوع إرادته ، وأنّه بدون الاعتماد على لطفه لا يمكن إنجاز عمل :( هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً ) .

إذن ، لو أراد الإنسان أن يحب أحدا ويعتمد على شيء ما ، أو يأمل بهديه من

٢٧٥

شخص ما ، فمن الأفضل أن يكون الله سبحانه محط أنظاره ، وموقع آماله ، ومن الأفضل أن يتعلق بلطفه تعالى وإحسانه.

* * *

بحثان

1 ـ غرور الثروة

في هذه القصّة نشاهد تجسيدا حيا لما نطلق عليه اسم غرور الثروة ، وقد عرفنا أنّ هذا الغرور ينتهي أخيرا إلى الشرك والكفر. فعند ما يصل الأفراد الذين يعيشون حياتهم بلا غاية وهدف إيماني إلى منزلة معينة من القدرة المالية أو الوجاهة الاجتماعية ، فإنّهم في الغالب يصابون بالغرور. وفي البداية يسعون إلى التفاخر بإمكاناتهم على الآخرين ويعتبرونها وسيلة تفوّق ، ويرون من التفاف أصحاب المصالح حولهم دليلا على محبوبيتهم ، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله :( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) .

ويتبدّل حبّ هؤلاء للدنيا تدريجيا بفكرة الخلود فيها :( ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) .

إنّ ظنّهم بخلود ثرواتهم المادية يجعلهم ينكرون المعاد للتضاد الواضح بين ما هم فيه وبين مبدأ البعث والمعاد ، فيكون لسان حالهم :( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) .

والأنكى من ذلك هو أنّهم يعتبرون مقامهم ووجاهتهم في هذه الدنيا دليلا على قرب مقامهم من محضر القدس الإلهي ، فيقولون :( وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) .

هذه المراحل الأربع نجدها واضحة في حياة أصحاب القدرة من عبيد الدنيا ، مع فوارق نسبية فيما بينهم ، فيبدأ مسيرهم الانحرافي من الاغترار بما

٢٧٦

لديهم من قوة وقدرة ، ويتصاعد انحرافهم إلى الشرك وعبادة الأصنام والكفر وإنكار المعاد ، لأنّهم يعبدون القدرة المادية ويجعلونها صنما دون سواها.

2 ـ دروس وعبر

هذا المصير المقترن بالعبرة والذي ذكر هنا بشكل سريع يتضمّن بالإضافة إلى الدرس الآنف ، دروسا أخرى ينبغي أن نتعلمها ، وهذه الدروس هي :

أ: مهما كانت نعم الدنيا المادية كبيرة وواسعة ، فإنّها غير مطمئنة وغير ثابتة ، فصاعقة واحدة تستطيع في ليلة أو في لحظات معدودة أن تبيد البساتين والمزارع التي يكمن فيها جهد سنين طويلة من عمر الإنسان ، وتحيلها إلى تل من تراب ورماد وأرض يابسة زلقة.

إنّ زلزلة واحدة خفيفة يمكن أن تقضي على العيون الفّوارة التي هي الأصل في هذه الحياة ، بالشكل الذي لا يمكن معه ترميمها أبدا.

ب : إنّ الأصدقاء الذين يلتفون حول الإنسان بغرض الإفادة من إمكاناته المادية هم بدرجة من اللامبالاة وعلى قدر من الغدر والخيانة بحيث أنّهم يتخلّون عنه في نفس اللحظة التي تزول فيها إمكاناته المادية ويتركونه وحيدا لهمومه :( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

هذا النوع من الأحداث الذي طالما سمعنا ورأينا له نماذج تبرهن على أنّ الإنسان لا يملك سوى التعلق بالله وحده ، وأنّ الأصدقاء الحقيقيين والأوفياء للإنسان هم الذين تصنعهم الروابط والعلائق المعنوية ، إذ يستمر ودّ هؤلاء في حال الفقر والثروة ، في الشباب والشيبة ، في الصحة والمرض ، في العز والذلة ، بل وتستمر مودّة هؤلاء إلى ما بعد الموت!

ج : لا فائدة من الصحوة بعد نزول البلاء :

لقد أشرنا مرارا إلىّ أنّ اليقظة الإجبارية لدى الإنسان ليست دليلا على يقظة

٢٧٧

داخلية حقيقية هادية ، وليست علامة على تغيير مسير الإنسان ، أو ندمه على أعماله السابقة وعلى ما كان فيها من معصية وانحراف ، بل كل ما في الأمر هو أنّ الإنسان عند ما ينزل بساحته البلاء أو يرى عمود المشنقة ، أو تحيط به أمواج البلاء والعواصف ، فهو يتأثر للحظات لا تتعدى مدة البلاء ويتخذ قرارا بتغيير مصيره ، ولكن لأنّه لا يملك أساسا متينا في أعماقه ، فإنّه بانتهاء البلاء يغفل عن صحوته هذه ويعود إلى خطّة ومسيره الأوّل.

لو تأملنا الآية (18) من سورة النساء لرأينا من خلالها أنّ أبواب التوبة تغلق أمام الإنسان عند رؤية علائم الموت ، وسبب هذا الأمر هو ما ذكرناه أعلاه.

وفي الآيات (90 ـ 91) من سورة يونس يقول القرآن حول فرعون عند ما صار مصيره إلى الغرق وعصفت به الأمواج ، فإذا به يصرخ ويقول :( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ ) إلّا أنّ هذه التوبة ترد عليه ولا تقبل منه :( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ ) !

د : لا الفقر دليل الذلة ولا الثروة دليل العزة :

وهذا درس آخر نتعلمه من الآيات أعلاه ، طبيعي أنّ المجتمعات المادية والمذاهب النفعية غالبا ما تتوهم بأنّ الفقر والثروة هما دليل الذلة والعزة ، لهذا السبب لاحظنا أنّ مشركي العصر الجاهلي يعجبون من يتمّ رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفقره ويقولون :( وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (1) .

ه : أسلوب تحطيم الغرور :

عند ما تبدأ بواعث الغرور تقترب من الإنسان وتناجي أعماقه بسبب المال والمنصب، فيجب عليه أن يقطع تلك الوسوسة من جذورها ، عليه أن يتذكر ذلك اليوم الذي كان فيه ترابا لا قيمة له ، وذلك اليوم الذي كان فيه نطفة لا قيمة لها ، عليه أن يعي اللحظة التي كان فيها وليدا ضعيفا لا يقدر على الحركة.

__________________

(1) الزخرف ، 31.

٢٧٨

لاحظنا القرآن في الآيات الآنفة كيف يعيد من خلال خطاب الرجل المؤمن ، صاحب البستان إلى وضعه العادي :( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) .

و: درس من عالم الطبيعة :

القرآن عند ما يصف البساتين المثمرة يقول :( وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ) ولكنّه عند ما يتحدث عن صاحب البستان يقول :( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ) .

يعني : أيّها الإنسان ، أنظر إلى الوجود من حولك ، ولا حظ أنّ هذه الأشجار المثمرة والزراعة المباركة كيف آتت كل ما عندها بأمانة وقدمته لك ، فلا مجال عندها للاحتكار والحسد والبخل ، فعالم الوجود هو ساحة للإيثار والبذل والعفو ، فما تمتلكه الأرض تقدمه بإيثار إلى الحيوانات والنباتات ، وتضع الأشجار والنباتات كل ثمارها ومواهبها في إختيار الإنسان والأحياء الأخرى ، وقرص الشمس يضعف يوما بعد آخر وهو يشع النور والدفء والحرارة ، الغيوم تمطر والرياح تهب ، لتتسع أمواج الحياة في كل مكان.

هذا هو نظام الوجود ، ولكنّك أيّها الإنسان تريد أن تكون سيد الوجود ومع ذلك تسحق قوانينه الثابتة البيّنة. فتكون رقعة نشاز غير متناسقة في عالم الوجود تريد أن تستحوذ على كل شيء وتصادر حقوق الآخرين!

* * *

٢٧٩

الآيتان

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) )

التّفسير

بداية ونهاية الحياة في لوحة حيّة :

الآيات السابقة تحدّثت عن عدم دوام نعم الدنيا ، ولأنّ إدراك هذه الحقيقة لعمر بطول (60 ـ 80) سنة يعتبر أمرا صعبا بالنسبة للأفراد العاديين ، لذا فإنّ القرآن قد جسّد هذه الحقيقة من خلال مثال حي ومعبّر كي يستيقظ الغافلون المغرورون من غفلتهم ونومهم عند ما يشاهدون تكرار هذا الأمر عدّة مرّات خلال عمرهم.

يقول تعالى :( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ) هذه القطرات الواهبة للحياة تسقط على الجبال والصحراء ، وتعيد الحياة للبذور

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

ثُمَّ إنّه سبحانه يبيح لهم ـ رحمة منه ـ ما تسلّط عليه المسلمون من أموال المشركين، وما أخذوا من الأسرى للفداء، ويقول:( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) وحاصل مضمون الآيات الثلاث عبارة عن:

١ ـ إنّ أخذ الأسرى قبل الاثخان غير مشروع في الشرائع السماويّة.

٢ ـ لولا كتابٌ من الله سبق، لمسّ المسلمين في أخذ الأسرى قبل الاثخان عذاب عظيم.

٣ ـ لقد أباح الله سبحانه الجميع من الأموال والأسرى رحمة منه.

الوعد الجميل للأسرى

إنّ فداء كل رجل من المشركين يوم بدر كان أربعين أوقية والأوقية أربعون مثقالاً، إلّا العبّاس فإنّ فداءه كان مائة مثقال، وكان اُخذ منه حين اُسر عشرون أوقية ذهباً، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ذلك غنيمة ففاد نفسك، وابني أخيك نوفلاً وعقيلاً. فقال: ليس معي شيء. فقال: أين الذّهب الّذي سلّمته إلى أم الفضل وقلت: إن حدث بي حدث فهو لك وللفضل وعبد الله وقثم ؟ فقال: من أخبرك بهذا ؟ قال: الله تعالى. فقال: أشهد أنّك رسول الله، والله ما اطّلع على هذا إلّا الله.

ثمّ إنّه سبحانه ـ رحمة منه ـ يعد الأسرى بأنّهم إن آمنوا، واتبّعوا الحق، يؤتهم خيراً ممّا اُخذ منهم، ويغفر لهم، ولكنّهم إن أرادوا خيانتك بعد اطلاق سراحهم بالفداء، والعود إلى ما كانوا عليه من العناد والفساد، فقد خانوا الله من قبل، فأمكنك منهم، وأقدرك عليهم، وهو قادر على أن يفعل بهم ذلك ثانياً، كما يقول سبحانه:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال / ٧٠ ـ ٧١ ).

٣٤١

وروي أنّه قدم مال من البحرين يقدر بــــ « ثمانين » ألفاً، وقد توضّأ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لصلاة الظهر، فما صلّى يومئذ حتّى فرّقه، وأمر العباس أن يأخذ منه، ويحثي، فأخذ، فكان العبّاس يقول: هذا خير ممّا اُخذ منّا، وأرجو المغفرة(١) .

__________________

(١) لاحظ مجمع البيان: ج ٢ ص ٥٥٧ ـ ٥٦٠، والميزان: ج ٩ ص ١٣٦ ـ ١٤٠.

٣٤٢

٢ ـ غزوة أحد(١)

لقد كانت لغزوة « بدر » أصداء في عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وما بعده، وقد أوجد انتصار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها خوفاً ووجلاً في قلوب المشركين، خصوصاً بعد ما شاع خبر أنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله طرح أجساد قتلىٰ المشركين في القليب، ووقف عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخاطبهم بقوله: يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً، فإنّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً. فلمّا قيل لرسول الله: أتكلّم قوماً موتى، أو أتنادي قوماً قد جيفوا ؟ فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني.

فلمّا بلغ خبر انتصار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهزيمة المشركين إلى مكّة، ناحت قريش على قتلاها، ثمّ منعت النياحة بتاتاً في مكّة ونواحيها حذراً من شماتة المسلمين أوّلاً، واستنهاضاً لعزائمهم لأخذ الثأر ثانياً، فإنّ النياحة والبكاء وسكب الدّموع تهبّط العزائم، وتثبّط الهمم.

وكان الأسود بن عبد المطلب قد اُصيب له ثلاثة من ولده، وكان يحب أن يبكي على بنيه، ولكنّه كان يكبح جماح مشاعره حذراً من نقمة قريش، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة في الليل، فقال لغلام له وقد ذهب بصره: انظر هل اُحلّ النحب لعلّي أبكي على أولادي، فإنّ جوفي قد احترق، فرجع الغلام وقال: إنّما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلّته.

__________________

(١) وقعت غزوة اُحد يوم السبت لسبع خلون من شوّال في السنة الثالثة من الهجرة.

٣٤٣

فعند ذلك أنشأ يقول:

أتبكي أن يضل لها بعير

ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر ولكن

على بدر تقاصرت الجدود(١)

باتت قريش على تلك الحالة وصدورهم مليئة بالغيظ والحقد، وهم بصدد العزم على أخذ الثأر، وتحيّن الفرصة المناسبة لذلك.

ولأجل ذلك مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن اُميّة، في رجال من قريش ممّن اُصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلّموا أباسفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إنّ محمّداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال ( اشارة إلى العير الّتي أقبل بها أبوسفيان من الشام إلى مكّة ) على حربه، فلعلّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا، ففعلوا، وفي ذلك نزل قوله سبحانه:

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) ( الأنفال / ٣٦ )(٢) .

فاجتمعت قريش لحرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن أطاعهم من قبائل كنانة، وأهل تهامة. وكان أبو عزّة عمرو بن عبد الله الجمحي قد منّ عليه رسول الله يوم بدر، وكان فقيراً، ذا عيال وحاجة، وكان في الأسارى، فقال: إنّي ذو عيال وحاجة، فامنن عليّ صلّى الله عليك ؛ فمنّ عليه رسول الله. فقال له صفوان ابن اُميّة: يا أبا عزّة إنّك إمرؤٌ شاعر، فأعنّا بلسانك، فاخرج معنا ؛ فقال: إنّ محمداً قد منّ عليّ، فلا اُريد أن أظاهر عليه. قال: بلىٰ، فاعنا بنفسك، فلك الله عليّ إنْ رجعت أنْ أغنيك، وإن أصبتَ أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهنَّ ما أصابهنَّ من عسر ويسر. فخرج أبو عزّة في تهامة.

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٦٤٨.

(٢) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٦٠، ومجمع البيان: ج ٢ ص ٨٣٢، نقلاً عن أبي إسحاق.

٣٤٤

خرجت قريش بحدّها وجدّها، وحديدها وأحابيشها(١) ومن تابعها من بني كنانة، وأهل تهامة، وخرجت معهم النساء في الهوادج التماس الحفيظة وألّا يفرّوا. فخرج أبوسفيان بهند بنت عتبة، وخرج عكرمة بأمّ حكيم، وهكذا.

فخرجوا حتّى نزلوا على شفير الوادي مقابل المدينة، وهم ثلاثة آلاف بمن انضم إليهم، وكان فيهم من ثقيف مائة رجل، وخرجوا بعدّة وسلاح كثير، وقادوا مائتي فرس، وكان فيهم سبعمائة دارع، وثلاثة آلاف بعير.

ثمّ إنّ العباس بن عبد المطّلب أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بنيّة القوم، ومسيرهم نحو المدينة وعددهم وعُدّتهم، فكتب كتاباً وختمه، واستأجر رجلاً من بني غفار، واشترط عليه أن يسير ثلاثاً، فوجد رسول الله بقباء، فدفع إليه الكتاب، فقرأه عليهم اُبيّ بن كعب، واستكتم اُبيّاً ما فيه. فدخل منزل سعد بن الربيع، فأخبره بكتاب العباس، وجعل سعد يقول: يا رسول الله إنّي لأرجو أن يكون في ذلك خير.

فلمّا سمع رسول الله نزولهم على شفير الوادي، شاور قومه في الخروج عن المدينة، أو البقاء فيها، فاختلفت آراء أصحابه، فكان عبد الله بن اُبيّ وأصحابه يكرهون الخروج، فقالوا: يا رسول الله أقم بالمدينة لاتخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قطّ إلّا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلّا أصبنا منه.

وكان الشّباب من أصحاب الرّسول يصرّون على الخروج، ويقولون: « أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنّا جبنا عنهم وضعفنا ».

فلمّا رآى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اصرار هم على الخروج. وهم يقولون: ( هي إحدى الحُسنيين إمّا الشهادة وإمّا الغنيمة )، صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الجمعة بالنّاس، ثمّ وعظهم، وأمرهم بالجد والجهاد، ثمّ صلّى العصر، وصفّ النّاس له ما بين منبره وحجرته، فجاء هم سعد بن معاذ، وأسيد بن

__________________

(١) الأحابيش من اجتمع إلى العرب وانضمّ إليهم من غيرهم.

٣٤٥

حضير، فقالا للنّاس: قلتم لرسول الله ما قلتم، واستكرهتموه على الخروج، فردّوا الأمر إليه، فما أمركم فافعلوه، فبينا القوم على ذلك، إذ خرج رسول الله قد لبس لامّته ودرعه، وحزم وسطها بمنطقة من حمائل سيف من أدم، فقالوا يا رسول الله: استكرهناك، ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلّى الله عليك، فقال رسول الله: ما ينبغى لنبيّ إذا لبس لامّته أن يضعها حتّى يقاتل، فخرج في ألف من أصحابه(١) .

عودة المنافقين القهقرى إلى المدينة:

كان عبد الله بن اُبيّ ممّن أبدى الإصرار على الإقامة في المدينة والتحصّن بها فلمّا رأى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ترك رأيه وأخذ برأي الآخرين، فقال: أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا، فرجع بمن اتّبعه من قومه من أهل النفاق والريب، وهم ثلث النّاس، واتّبعهم عبد الله بن عمرو، فقال: ياقوم اُذكّركم الله إلّا تخذلوا قومكم ونبيّكم عندما حضر من عدوّهم ؛ قال عبد الله بن اُبىّ: لو نعلم أنّكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنّا لا نرى أنّه يكون قتال.

فلمّا استعصوا عليه وأبوا إلّا الإنصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيّه.

وفي ذلك نزل قوله سبحانه:( وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) ( آل عمران / ١٦٧ ).

وقد أوجد رجوع رئيس النفاق في أثناء الطريق شقاقاً وخلافاً بين أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على نحوين:

١ ـ فقال قوم من المسلمين: نقاتل قريشاً، وقال آخرون: لا نقاتلهم، وفي ذلك نزل قوله سبحانه( فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ

__________________

(١) المغازي للواقدي: ج ١ ص ٢١٣، والسيرة النبويّة: ج ٢ ص ٦٣.

٣٤٦

أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ) ( النساء / ٨٨ ).

فالآية تشير إلى أنّ المسلمين صاروا في أمر ما صار إليه المنافقون فرقتين مختلفتين، فمنهم من مال إلى مقالتهم ومنهم من يخالفهم في الرأي.

٢ ـ همّت طائفتان من المسلمين أن تأخذ برأي رئيس النفاق، ويرجعا في أثناء الطريق، وهما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار، وإليه يشير قوله سبحانه:

( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران / ١٢١ و ١٢٢ ).

نزول رسول الله أرض أحد:

لـمـّا انتهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أحد، جعل جبل اُحد خلف ظهره، واستقبل المدينة، وجعل عينين عن يساره، وجعل الرماة وهم خمسون رجلاً على عينين(١) عليهم عبد الله بن جبير، فقال لرئيسهم: انضح الخيل عنّا بالنّبل لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فأثبت مكانك لا نؤتين من قبلك.

ثمّ قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخطب النّاس وقال: إنّ جهاد العدو شديد، شديد كربه، قليل من يصبر عليه، إلّا من عزم الله رشده، فإنّ الله مع من أطاعه، وإنّ الشيطان مع من عصاه، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله(٢) .

وكان للمشركين كتيبتان ميمنة عليها خالد بن الوليد، وميسرة عليها عكرمة بن أبي جهل. وجعل رسول الله ميمنة، وميسرة، ودفع لواءه الأعظم إلى مصعب بن

__________________

(١) جبل باُحد له هضبتان بينهما معبر ينتهي إلى ساحة القتال.

(٢) راجع المغازي للواقدي: ج ١ ص ٢٢٢، وللخطبة صلة.

٣٤٧

عمير، ودفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج إلى سعد أو حباب بن المنذر، والرماة يحمون ظهورهم يرشقون خيل المشركين بالنّبل.

وعند ذلك دنا القوم بعضهم من بعض فقدّمت قريش صاحب لوائهم طلحة بن أبي طلحة، وصفّوا صفوفهم، وأقاموا النساء خلف الرجال بالأكبار والدفوف، وهند وصواحبها يحرّضن ويَذْمُرن(١) الرجال ويذكرن من اُصيب ببدر.

وصاح طلحة بن أبي طلحة: مَن لبني عبد الدار ؟ وكانت راية قريش يوم ذلك بأيدي هؤلاء، فقال عليٌّعليه‌السلام : هل لك في البراز ؟ قال طلحة: نعم، فبرزا بين الصفين، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جالس تحت الراية عليه درعان ومغفر وبيضة، فالتقيا، فبدره عليٌّ، فضربه على رأسه، فمضى السيف حتّى فلق هامته حتّى انتهى إلى لحيته، فوقع طلحة، وانصرف عليٌّ(٢) .

ثمّ أخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة، فقتله عليٌّ وسقطت الراية، فأخذها مسافع بن أبي طلحة، فقتله عليٌّ. حتّى قتل تسعة نفر من بني عبد الدار، حتّى صار لواؤهم إلى عبد لهم أسود يقال له: صوأب، فانتهى إليه عليٌّ، فقطع يده اليمنى، فأخذ اللواء باليسرىٰ، فضرب يسراه فقطعها، فاعتنقها باليدين المقطوعتين، فضربه على رأسه فقتله، فسقط اللواء، فأخذته عمرة بنت علقمة الكنانية، فرفعتها(٣) .

وقد كان لعليٍّعليه‌السلام مواقف مشهودة كما كان لأبي دجانة، والزبير بن العوّام، وفي ظل بطولة هؤلاء، ولفيف من غيرهم انهزمت قريش هزيمة نكراء لايلوون، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف، فلمّا انهزم المشركون تبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حتّى أخرجوهم عن الساحة ثمّ اشتغلوا بعد وضع سيوفهم على الأرض بنهب ما استولوا عليه في معسكرهم.

__________________

(١) أي يحضضن الرجال باللوم على الفرار.

(٢) المغازي للواقدي: ج ١ ص ٢٢٦.

(٣) مجمع البيان: ج ١ ص ٨٢٥.

٣٤٨

وعند ذلك قال بعض الرماة لبعض: لِمَ تقيمون ههنا في غير شيء ؟ قد هزم الله العدو، وهؤلاء إخوانكم ينهبون معسكرهم، فادخلوا معسكر المشركين، فاغنموا مع إخوانكم. فقال بعض الرماة لبعض: ألم تعلموا أنّ رسول الله قال لكم: « إحموا ظهورنا، فلا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل، فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا غنمنا، فلا تشركونا » فقال الآخر: لم يرد رسول الله هذا، وقد أذلّ الله المشركين وهزمهم، فادخلوا المعسكر، فانتهبوا مع إخوانكم، فلمّا اختلفوا خطبهم أميرهم عبد الله بن الجبير، وأمرهم بأن لايخالفوا لرسول الله أمراً، فعصوا، فانطلقوا فلم يبق من الرماة مع أميرهم عبد الله بن الجبير إلّا نفراً ما يبلغون العشرة، واشترك المنطلقون في النهب، واشتغلوا بما إشتغل به سائر المسلمين.

الهزيمة بعد الإنتصار:

قد كان الإنتصار حليف المسلمين في الغزوة، ولكن لـمّا خالف الرماة أمر رسول الله، وأخلوا مكانهم، رأى العدو أنّ جبل العينين قد أضحى خالياً من الرماة والمدافعين، وكان جبل العينين يقع على ضفّتين يتخللهما معبر، وينتهي مداه إلى المعسكر، وقد أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بوقوف الرماة على الضفّتين حتّى يمنعوا من دخول العدو من هذا المعبر على ساحة القتال، والحيلولة دون هجومه عليهم من خلفهم، ولـمـّا خالف الرماة باخلائهما، رأى العدو أنّ الفرصة مساعدة لمباغتة المسلمين، فأدار خالد بن الوليد ومن معه من وراء المسلمين(١) فورد المعسكر من هذا المعبر على حين غفلة من المسلمين بعد ما قتل من بقي من الرماة فوق الهضبة، وعند ذلك أثخنوا المسلمين ضرباً وقتلاً، فألقى كل مسلم ما كان بيده مما انتهب، وعاد إلى سيفه يسلّه ليقاتل به ولكنّ هيهات هيهات لقد تفرّقت الصفوف، وتمزّقت الوحدة، بعد أن كانت تقاتل تحت لواء قيادة قويّة حازمة حكيمة، وهي الآن أصبحت تقاتل ولا قيادة لها، فلم يكن عجباً أن ترى مسلماً يضرب مسلماً بسيفه، وهو لا يكاد يعرفه.

__________________

(١) ولعلّه نجح لذلك بإدارتهم على ظهر جبل اُحد حتّى دخل المعسكر من هذا المعبر.

٣٤٩

النداء بنعي النّبي:

والذي زاد في الطّين بلّة وأعان على تمّزق الصفوف، وتفرّق المسلمين عن ساحة الحرب، ولجوئهم إلى مخابئ الجبل وثناياه، سماعهم خبراً مكذوباً يهتف بموت النّبي، إذ نادى أحد المشركين أنّ محمّداً قد قتل، فعند ذلك سقط ما في أيدي المسلمين، وتفرّقوا في كل وجه، وصعدوا الجبل، والتجاؤا إلى المخابئ، فلم يبق إلّا الأقل القليل من أصحابه.

هذه هي الحالة التّي صار إليها المسلمون. وأمّا المشركون، فقد امتلأوا فرحاً وطرباً، واستنهضت هممهم كل يريد أن يشفي غليله بالمساعدة على الإجهاز على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفي هذه المرحلة الرهيبة كيف يتصوّر حال النبيّ ؟ فهو بين تجرّع مرارة جلاء أصحابه من ساحة القتال، وبين مضض هجوم عدوّه بشراسة وحماسة تجاه موقعه وموضعه الّذي ربض فيه.

فلم يصمد معه في ساحة المعركة إلّا شرذمة قليلة، وعلى رأسهم ابن عمّه عليِّ بن أبي طالب، وأبو دجانة سمّاك بن خرشة، وكلّما حملت طائفة على رسول الله استقبلهم عليٌّعليه‌السلام ، فدفعهم عنه حتّى تقطّع سيفه، فدفع إليه رسول الله سيفه ذا الفقار، وانحاز رسول الله إلى ناحية جبل اُحد، فصار القتال من وجه واحد، فلم يزل عليٌّ يقاتلهم حتّى أصابه في رأسه ووجهه ويديه سبعون جراحاً. كان عليٌّ يدافع عن ساحة النّبي، والنّبي يريد اللجوء إلى جانب الجبل، كان النّبي على هذه الحالة إذ عرفه أحد أصحابه وهو كعب بن مالك، عرفه من عينيه وهما تزهران من تحت المغفر، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . فأشار إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أن أنصت(١) وإذا أردت أن تقف عن كثب على حقيقة الحال، وعلى ما حاق

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٨٣، والمغازي للواقدي: ج ١ ص ٢٣٦.

٣٥٠

بالمسلمين من محنة وبلاء، وتقرّق وتشتّت، وهبوط معنويّاتهم، وخوار عزائمهم، فاستمع إلى هذا النص الّذي يرويه لنا ابن هشام حيث يقول:

انتهى أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيدالله، في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: مايجلسكم ؟ قالوا: قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ استقبل القوم، فقاتل حتّى قتل، وبه سمّي أنس بن مالك(١) .

قد كان يوم أحد يوم بلاء ومحنة وتمحيص. أكرم الله تعالى فيه من أكرم بالشّهادة، ومحص فيه من لم يكن له ثبات عزم، وقوّة شكيمة في الدّفاع عن حريم الإسلام.

ولأجل فرار المسلمين، وجلائهم ساحة المعركة رشق العدو بالحجارة وجه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فاثقلوه جراحاً، فشجوا وجهه، وكسروا رباعيته، ولولا أنّ هنالك رجلاً مخلصين لنجدته، لقضي الأمر، ولكنّه سبحانه كتب على نفسه نصر المؤمنين، وإعزاز الرّسول، وتمكين دعوته.

إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مشى وحوله لفيف من أصحابه إلى فم الشعب، فلمّا استقرّ به الحال جاء عليٌّ بماء غسل عن وجه النبيّ الدّم، وصبَّ على رأسه وكان النبيّ يقول: اشتدّ غضب الله على من أدمى وجه نبيّه، ونزع أبو عبيدة بن الجراح حلقتي المغفر من وجه الرّسول، فسقطت ثنيّتاه. ولـمـّا وقف المسلمون على أمر النبيّ، وعلموا موضعه تقاطروا عليه تترى من كل جانب، والتفّوا حوله.

وأمّا قريش فطارت بنصرها سروراً، وحسبت نفسها أنّها انتقمت لبدر أشدّ الإنتقام، حتّى بعد ما وقفوا على أنّ النبيّ حي لم يقتل، وحينما أراد أبوسفيان الإنصراف أشرف على الجبل ثمَّ صرخ بأعلى صوته فقال: إنّ الحرب سجال يوم بيوم

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٨٣.

٣٥١

أعل هبل ـ أي أظهر دينك ـ فأمر رسول الله أصحابه أن يقولواً: الله أعلى وأجلّ لا سواه، قتلانا في الجنّة، وقتلاكم في النار.

وقال أبوسفيان: « إنّ لنا العزّى ولا عزّى لكم ».

فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجيب أصحابه ويقولوا: « الله مولانا ولا مولى لكم ».

ثُمَّ رجعت قريش إلى أثقالهم، وركّبوا الأثقال، فتركوا ساحة المعركة. فخرج المسلمون يتبّعون قتلاهم، فلم يجدوا قتيلاً إلّا مثلوا به، إلّا حنظلة كان أبوه مع المشركين فترك له، ووجدوا حمزة بن عبد المطلب عم النبيّ قد بقر بطنه، وحملت كبده، احتملها وحشي، وهو قتله، يذهب بكبده إلى هند بنت عتبة في نذر نذرته حين قتل أباها يوم بدر. وأقبل المسلمون على قتلاهم يدفنونهم ثُمَّ رجعوا إلى المدينة. فلمّا دخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أزقّتها إذا النوح والبكاء في الدور. فقال: ما هذا ؟ قالوا: هذه نساء الأنصار يبكين على قتلاهنّ. وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين سمع البكاء: لكنّ حمزة لا بواكي له، واستغفر له. فسمع ذلك سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن رواحة، فمشوا في دورهم، فجمعوا كل نائحة وباكية كانت بالمدينة للبكاء على حمزة.

وعند ذلك بدت شماتة اليهود وقالوا: لو كان نبيّاً ما ظهروا عليه، ولا اُصيب منه ما اُصيب. وقال المنافقون للمسلمين: لو كنتم أطعتمونا ما أصاب الذي أصابوا منكم.

ثُمَّ قدم رجل من أهل مكّة على رسول الله، فاستخبرهم عن أبي سفيان وأصحابه، فقال: نازلتهم، فسمعتهم يتلاومون يقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئاً أصبتم شوكة القوم وحدّهم، ثمّ تركتموهم ولم تبروهم، فقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فلمّا كان الغد من يوم اُحد أذّن مؤذّن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في المسلمين بطلب العدو، واستنفرهم لمطاردته على أن لايخرج إلّا من حضر الغزوة، وخرج المسلمون، فوقع في روع أبي سفيان أنّ أعداءه جاءوا من المدينة بمدد

٣٥٢

جديد، فخاف لقاءهم، وبلغ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حمراء الأسد(١) فأقام بها ثلاثة أيّام. فكان أبوسفيان وأصحابه بالروحاء، فمرّ به معبد الخزاعي، وكان قد مرّ بالنبيّ ومن معه، فسأل عن شأنهم، فقال: إنّ محمداً قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرّقون عليكم تحرّقاً، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق شيء لم أر مثله.فلمّا سمع أبو سفيان مقالة معبد، خاف على نفسه وأصحابه، فشدّ عزيمته على الرجوع قول صفوان بن اُميّة حيث قال: إنّ محمداً واصحابه قد غضبوا، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان، فارجعوا، فرجعوا إلى مكّة.

وقد قتل من المسلمين في ساحة اُحد تسعة وأربعون رجلاً، وقتل من المشركين ستّة عشر رجلاً(٢) .

هذه إطلالة سريعة على غزوة اُحد تعرّضنا لذكرها ليكون معيناً على فهم ما ورد حول هذه الغزوة من آيات الذكر الحكيم، فانّ ما ورد في المغازي والسّيرة بمثابة القرائن التي يستعان بها على رفع إجمال الآيات وما اُبهم معناه منها. وإليك إستعراض ما ورد في الذكر الحكيم مع الاشارة إلى ما يستفاد منها من عبر وعظات:

١ ـ حنكة النبيّ العسكريّة:

قد أوضحت الخاتمة التي آل إليها مصير المسلمين قيمة ما ألزم به النبيّ الرماة حيث قال: « إحموا لنا ظهورنا فإنّا نخاف أن نؤتى من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه وإن رأيتمونا نهزمهم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا، ولا تدفعوا عنّا، أللّهم إنّي اُشهدك عليهم، واُرشقوا خيلهم بالنّبل ».

__________________

(١) موضع على ثمانية أميال من المدينة.

(٢) لاحظ السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٨٥ ـ ١٠٥، ومغازي الواقدي: ج ١، ٢٣٩ ـ ٢٤٩، ودلائل النبوة: ص ٢١٢ ـ ٢١٩ وغيرها.

٣٥٣

ولكنّ ياللأسف إنّ الرماة خالفوا الرّسول وعصوه، فبقيت ثلّة منهم في موقفهم، ونزل كثير منهم من الجبل للنّهب وجمع الثروة، حتّى جاء خالد بن الوليد، فقتل من بقي منهم، ثّم دخل ساحة المعركة من دون مقاومة تذكر، فأعمل السيف فيهم.

وهذا إن دَلّ على شيء فإنّما يدلّ على حنكة النبيّ العسكريّة أوّلاً، وعلى وجود حالة عدم الرضوخ التامّ بين أصحابه لأوامره ثانياً، حيث أوّلوا أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بتأويلات لغاية إشباع نهم شهواتهم بجمع المال، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:

( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / ١٥٢ ).

وإليك تحليل ما تضمّنته هذه الآية:

أقوله سبحانه:( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ) يدل على أنّه سبحانه وعدهم بالنصر، ولعلّ النصر هو ما ورد في قوله سبحانه:

( بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) ( آل عمران / ١٢٥ ).

نعم وعد سبحانه بالإنتصار بشرطين لا مطلقاً، وقد ألمحت الآية إليهما في قوله:

١ ـ( إِن تَصْبِرُوا ) .

٢ ـ( وَتَتَّقُوا ) .

ولكنّ الرماة المستقرّين على الهضبة لم يصبروا، ولم يتّقوا مغبّة مخالفة الرّسول، فآثروا حطام الدّنيا على الآخرة.

٣٥٤

ب ـ قوله سبحانه:( حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ) يدلّ على أنّه طرأ الفشل عليهم، وتنازعوا في أمر البقاء والمغادرة، وعصوا أمر الرّسول، وكان منهم من يطمح في نيل حطام الدّنيا، ومنهم من آثر الآخرة وطاعة الرّسول على نيل شهوات الدّنيا.

ج ـ ولكنّ رحمته الواسعة شملتكم، فكفّكم عن المشركين بعد ظهور الفشل والتّنازع والمعصية، وعفى عن عصيانكم كما يدلّ عليه قوله:

( ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ) .

د ـ ليبتليكم: أي كان هذا الخلاف مَحَكّاً قَويّاً لتمييز الطالب للدّنيا عن طالب الآخرة، بل لتمييز المؤمن عن المنافق، والمؤمن الراسخ في إيمانه الثّابت على عزيمته، من المتلوّن السريع الزوال، ومع ذلك فإنّ الله سبحانه عفا عنهم بفضله كما قال:

( وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ ) .

٢ ـ تصدّع جيش المسلمين وإنحلال زمامه:

لقد مَرَّ بك أنّ خالد بن الوليد باغت المسلمين من ورائهم، وقد وضعوا سيوفهم على الأرض، والتهوا بجمع الغنائم، فعند ما رأوا سيوف العدو على رؤوسهم، وبريق أسنّة رماحهم أصابهم الذهول، وتفرّقوا في كلّ حدب وصوب، فتركوا ما كان بأيديهم، وصعدوا الجبل من دون أن يلتفتوا ورائهم إلى النبيّ والمؤمنين، وأنّهم تركوه أثناء المعركة الطاحنة، مع أنّ النبيّ كان يدعوهم بقوله: إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، وهم لا يلتفتون، فعند ذلك ملأت قلوبهم الهموم بعضها أشّد من بعض، همّ الإنتكاسة الغير المرتقبة، ثمّ همّ فقد الأحبّة والأعزّة، ثمّ تعالى صوت الناعي بقتل النبيّ الأكرم، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:

( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا

٣٥٥

بِغَمٍّ لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / ١٥٣ ) وإليك تحليل ما تضمّنته الآية:

في قوله سبحانه:( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ ) تلويح بفرارهم عن ساحة الحرب كما أنّ قوله:( وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ) إشارَة إلى النداءات الّتي تعالت من فم النبيّ في تلك الأثناء، تدعوهم للصمود والثّبات في المعركة:

وقوله:( فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ) إشارة إلى تراكم الغموم والهموم والآلام على قلوب المسلمين، وقوله:( لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ ) إشعار بأنّ الغموم بلغت حدّاً نسوا معه ما فاتهم من الغنائم.

٣ ـ على أعتاب الردّة

لم تكن زلّة القوم منحصرة بالفرار وإخلاء ساحة المعركة، وترك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بين يدي المشركين، ومخالفة الرماة أوامره، بل بلغ أمرهم إلى أبعد من ذلك غوراً، حيث طرأ على قلوبهم ظنون أهل الجاهليّة، فظنّوا من الظنون الّتي لا يليق بتصوّرها إلّا أهل الجاهلية، حيث انتابتهم حالة من الشكّ، وإلى ذلك ونحوه يشير قوله سبحانه:( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( آل عمران / ١٥٤ ).

ولأجل الوقوف على المزيد ممّا تضمّنته الآية الشريفة السابقة نتناول التعرّض لها جملة بعد جملة.

١ ـ( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ) .

٣٥٦

النّعاس ما يسبق النوم من فتور واسترخاء، وربّما يسمّى بالنّوم الخفيف، وقد نزل النّعاس، وغشى طائفة من القوم ولم يعمّ الجميع بقرينة قوله:( يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ) ، وكان هذا النّعاس بمثابة الرحمة بعد الغمّ الذي اعتراهم، فأزال عنهم الخوف بغلبة النوم ليستردّوا ما فقدوا من القوّة، وما عرض لهم من الإرهاق والتّعب والضعف.

وكلمة( نُّعَاسًا ) يدلّ من قوله( أَمَنَةً ) للملازمة بين الأمنة والنوم، وقد قيل: الأمن منوّم والخوف مسهّر، وأمّا من هؤلاء الّذين غشيهم النّعاس دون غيرهم ؟ فيحتمل أن يكونوا هم الّذين رجعوا إلى رسول الله بعد الإنهزام والانكسار لـمّا ندموا وتحسّروا، فهؤلاء بعض القوم، وهم النادمون على ما فعلوا، الراجعون إلى النبيّ، المحتفّون به، وكان ذلك حينما وصل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى فم الشعب، ووقفت تلك الطائفة على أنّ النبيّ لا زال على قيد الحياة لم يقتل، فرجعوا إليه يتقاطرون تترىٰ.

٢ ـ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ) وهذه طائفة اُخرىٰ من المؤمنين لا من المنافقين، فإنّهم فارقوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن معه في أثناء الطريق وانخذلوا، ولهم شأن آخر سينبّئ الله سبحانه بهم بعد ذلك، وهذه الطائفة الثانية الموصوفة بـ( أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ) لم يكرمهم الله بما أكرم به الطائفة الاُولى من العفو، وإثابة الغمّ ثمّ الأمنه والنّعاس، بل وكّلهم إلى أنفسهم، ونسوا كلّ شيء، ولم يهتمّوا إلّا بأنفسهم.

وهذه الطائفة قد استولى عليهم الخوف، وذهلوا عن كلّ شيء سواهم، ولـمـّا لم يكن الوثوق بالله ووعده رسوله وصل إلى قرارة أنفسهم، لأنّهم كانوا مكذّبين للرّسول في قلوبهم لا جرم عظّم الخوف لديهم، وحقّ عليهم ما وصفهم الله به:

أ ـ( يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) فكانوا يبطنون في قرارة أنفسهم: « لو كان محمد نبيّاً حقّاً ما سلّط الله عليه الكفّار » وهذه مقالة لا يتفوّه بها إلّا من دان بالكفر.

٣٥٧

ب ـ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ) والظّاهر أنّ المراد من الأمر هو الظّفر والنّصر في كلا الموردين، والمقصود من الضمير في( لَنَا ) هؤلاء بما أنّهم يشكّلون جزءاً من المسلمين وإن لم يكونوا منهم حقيقة، والمعنى:

يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار والإستهجان: « هَلْ لَنَا مِنَ النَّصْرِ وَالفَتْحِ والظّفر نصيب » ؟! يعنون أنّه ليس للمسلمين ( لنا ) من ذلك شيء، وإنّ الله سبحانه لا ينصر محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله وبما أنّ النّصر وكون الدّين حقّاً كانا متلازمين عندهم، فاستنتجوا أنّ الدعوة المحمّديّة ليست حقّاً.

ثمّ إنّه سبحانه أجابهم في معرض تناول ذكرهم بقوله:

( إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ ) أي كلّ الاُمور بيده سبحانه حتّى النّصر والهزيمة، وإليه دعى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو معتقد المسلمين، ولكن بمقتضىٰ حكمته وسننه الّتي وضعها لتسيير شؤون الخلق، وربط فيها الأسباب بالمسبّبات، فهو وإن وعد رسله بقوله:

( كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( المجادلة / ٢١ ).

وقال:( وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) ( الصافّات / ١٧٣ ).

ولكنّ تحقّق هذا الوعد مرهون بتوفّر الأسباب الكفيلة بالنصر، فإنّه سبحانه هو الذي وضع سنّة الأسباب والمسبّبات، فما كان سببه أقوى كان وقوعه أرجح سواء في ذلك الحقّ والباطل والخير والشر والهداية والضلالة والعدل والظلم، ولا فرق فيه بين المؤمن والكافر، والمحبوب والمبغوض، ومحمد وأبي سفيان، ولأجل ذلك كلّما توافقت الأسباب العاديّة على تقدّم هذا الدين وظهور المؤمنين كان النصر حليفهم، وحيث لم تتوافق الأسباب كتحقّق نفاق أو معصية لأمر النبيّ أو فشل أو جزع كانت الغلبة والظهور للمشركين على المؤمنين، وكذلك الحال في أمر سائر الأنبياء مع النّاس.

وإنّكم أيّها المنضوون تحت لواء المسلمين قد عصيتم أمر الرسول،

٣٥٨

ولم تأتمروا بأمره، فأخليتم مواقعكم عاصين لأمره وآثرتم حطام الدّنيا والأدنى الخسيس، ومع ذلك تترقّبون النصر لكم والهزيمة للعدو ! فكيف يقتطف الثمرة من لم يغرس شجرتها أو غرسها ولم يقم بأمرها ؟

ثم إنّه سبحانه بعد هذه الإجابة يأخذ بتبيين ما كان يخامرهم من الأفكار الفاسدة.

ج ـ( يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) .

الظّاهر أنّ قولهم:( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ ) تفسير للموصول في( مَّا لا يُبْدُونَ ) والفرق بين ما كانوا يظهرونه وما يضمرونه واضح، فقد كانوا يتظاهرون بالاستفسار في قولهم: « هل لنا من الأمر شيء » لغاية التشكيك، وهي وإن كانت فكرة خاطئة ولكن لـمّا غلّفت بطابع الإستفسار لم تكن ذات بأس شديد.

ولكنّهم كانوا يخفون قولهم:( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) يريدون بذلك الاستدلال على بطلان الدعوة المحمّدية بحجّة الانكسار لأنّ النبيّ الأكرم كان يقول: الأمر بيد الله وأنا رسوله، فلو كان ما يدّعيه حقّاً بأنّ الأمر كان بيد الله لا بيد الآلهة والأرباب المعبودة بين الناس وكان محمّد من جانبه لعمّنا النصر، ولكنّه النهاية كانت على العكس من ذلك، فكيف يمكن أن يكون الأمر بيد الله غير مقسّم على الآلهة والأرباب المدبّرة للاُمور بزعمهم.

ولأجل أنّ تلك الفكرة كانت فكرة أهل الشرك والوثنيّة سمّاها سبحانه( ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) .

ولكنّهم تناسوا ما جرت عليه سنّته الحكيمة، فإنّ الأمر بيد الله ولكنّها تجري وفق الأسباب والمسبّبات، فمن لم يأخذ بأسباب النصر لم يكن حليفه.

ثمّ إنّه سبحانه أجاب عن تلك الفكرة بوجوه ثلاثة:

٣٥٩

الأوّل: ( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ) فالآجال محدودة والأعمار مؤقتّة بوقت لا تتعدّاه، فإن قتل من قتل منكم في المعركة ليس دليلاً على عدم كون الأمر بيد الله أو أنّ الدعوة المحمّديّة ليست على حق، بل لأجل القضاء الإلهي الّذي لا مناص من الوقوع في نفوذه وامضائه، فقد كان في قضائه اضطجاع هؤلاء في هذه المضاجع، فلو لم تكونوا خرجتم إلى القتال لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فلا مفرّ من الأجل المسمّى الّذي إذا حان لا يتقدّم ساعة ولا يتأخّر.

الثاني والثالث: ( وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ) أي وقع ما وقع في غزوة اُحد لظهور ما انطوت عليه سريرة كلّ نفس حتّى يتميّز المؤمن من المنافق والمجاهد من المتقاعد، وقد جرت سنّة الله على عموم الابتلاء والتمحيص وهي حاكمة على جميع الاُمم لغاية التمحيص.

نعم ليست الغاية من ابتلائه سبحانه لعباده هو التعرّف لما يكمن في ضمائرهم فإنّه سبحانه عليم بالسرائر مطّلع على الضمائر لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، بل الغاية هي الإبتلاء والتمحيص ووصول كلّ ما بالقوّة إلى الفعل من الكفر والإيمان، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) .

وحصيلة البحث: انّ هذه الآية تشير إلى فريقين من المسلمين والمؤمنين الملتفّين حول الرسول المتنكّبين عَن المنافقين.

( أحدهما ): طائفة وهبهم الله عزّ وجلّ بعد الغمّ نعاساً أمنة منه لإزالة ما انتابهم من الروع والخوف والتفّوا حول الرسول بعد الندم.

( ثانيهما ): طائفة شغلتهم أنفسهم لا يتجاوز تفكيرهم نطاق ذاتهم من دون أن يتوجّهوا قيد طرفة صوبَ قائدهم ونبيّهم، وقد اعترتهم هواجس الجاهليّة الاُولى، فتارة يتفوّهون بها علانية بنحو من الشك والترديد والاستفسار بقولهم:( هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْء ) واُخرى بصورة الجزم والقطع واليقين بنحو الاخفاء والاسرار

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581