مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن13%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265483 / تحميل: 6064
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

مخصوص ، أي : العلم المتعلّق بالذات المخصوصة المعينة يتوقّف تحصيله على جهة العلّة ويمتنع حصوله من المعلول. ولا ريب انّ العلم بالحقيقة المعينة المخصوصة أولى وأكمل من العلم بحقيقة ما ، فهذا هو الوجه في مزية البرهان اللمّي على الإنّي.

ولا ريب أيضا في انّ المقصود من البرهان في اثبات الواجب ـ تعالى شأنه ـ اثبات خصوصية العلّة للكلّ ـ اعني : الواجب بالذات ـ ، وبرهان الإنّ لا يفيد هذا الأمر ، فيجب المصير فيه إلى برهان اللمّ.

والجواب : انّ هذا مجرّد دعوى لا دليل عليه ، والفرق غير ظاهر عند التأمّل. فانّ العلم بالعلّة إن لم يكن تامّا ـ أي : لم يعلم العلّة بحقيقتها ولوازمها وخواصّها وما لها بالقياس إلى نفسها وما لها بالقياس إلى غيرها ـ لم يفد العلم بخصوصية المعلول اصلا ، لأنّه لم يعلم صفاتها وخواصّها ليعلم انّ معلولها يلزم أن يكون على صفة كذا وخصوصيّة كذا. ولو افاد مجرد ذلك العلم بخصوصية المعلول لقلنا : العلم بالمعلول أيضا يوجب العلم بخصوصية العلّة وإن لم يكن تامّا ، لعدم تعقّل الفرق أصلا. ولو كان العلم بها تامّا ـ أي : علمت العلّة بحقيقتها المخصوصة وصفاتها المعينة وخواصّها اللازمة ـ فلا ريب في أنّه يفيد العلم بخصوصية المعلول بمعنى انّه بعد ما علم انّ العلّة حقيقتها كذا وصفاتها وخواصّها كذا يحكم العقل بانّ معلول مثل هذه العلة يجب أن يكون على صفة كذا أو خصوصية كذا ـ للزوم المناسبة بين العلّة والمعلول ـ. إلاّ أنّ المعلول أيضا إذا علم بهذا الوجه علمت العلّة أيضا بالتعيّن(١) والخصوصية ، فانّه إذا علم أنّ المعلول على حقيقة كذا وخواصّه وآثاره كذا وكذا ، يحكم العقل بانّ علّته يلزم أن يكون على صفات مخصوصة وخصوصيات معينة ـ لوجوب المناسبة بين العلة والمعلول ـ فانّا كما إذا تعقّلنا الواجب ـ تعالى شأنه ـ بصفاته المعيّنة من بساطته وتجرّده نحكم بأنّه / ٢٢ DB / يجب أن يكون معلوله الأوّل جوهرا بسيطا مجرّدا وهو العقل الاوّل ، كذلك إذا تعقّلنا العقل الأوّل ببساطته وتجرّده وامكانه نحكم بانّ علّته يجب أن تكون بسيطا مجرّدا واجبا ، وقس عليه أمثال ذلك. فانّا كما إذا تعقّلنا تعفّن(٢) مطلق خلط علمنا حصول

__________________

(١) الاصل : باليقين.

(٢) الاصل : تعقل.

١٠١

مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى ، وإذا علمنا تعفّن خلط صفراويّ علمنا حصول حمى صفراويّ ، فكذلك إذا علمنا حصول مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى علمنا تعفّن مطلق خلط من دون حصول العلم بخصوصية هذا الوسط ، ولو علمنا خصوصية الحمى من كونه حمّى صفراويا أو بلغميا علمنا خصوصية الخلط أيضا من كونه صفراء أو بلغما ؛ هذا.

وقال بعض الأفاضل : انّه لا ريب في انّ العلم الحاصل من البرهان سواء كان لمّيا أو إنّيا انّما هو العلم التصديقيّ ـ أي : المتعلّق بثبوت النسبة الخبريّة ـ دون العلم التصوريّ الّذي هو تصوّر الأشياء بالحدّ أو الرسم ، فانّ العلّية والمعلولية اللّتين اعتبرنا بين حدود البرهان ـ أعني : الأوسط والأكبر والأصغر ـ ليستا معتبرتين بين ذوات تلك الحدود ، بل بين أوصافها العنوانية باعتبار ثبوت تلك الاوصاف لذوات تلك الحدود أو نفيها عنها. فقولهم : الأوسط إذا كان علّة للحكم فالبرهان لمّي وإلاّ فإنّي ؛ فيه مسامحة واعتماد على الظهور ، ومعناه انّ وصف الأوسط باعتبار ثبوته للأصغر أو نفيه عنه إن كان علّة لثبوت وصف الأكبر للأصغر أو نفيه عنه فالبرهان لمّى ، وإلاّ فإنّي. فاذا قيل : العالم متغير وكلّ متغير حادث فالعالم حادث ، برهان لمّي أريد به انّ ثبوت الأوسط / ٢٣ MA / ـ أعني : التغيّر ـ للعالم علّة لثبوت الحدوث له ، وهو الحكم المطلوب. بمعنى انّه متقدّم عليه بالذات بحسب نفس الأمر ، وما لم يثبت للعالم وصف التغيّر في الواقع لم يثبت له وصف الحدوث. وإذا قيل : زيد محموم وكل محموم متعفّن الاخلاط ، برهان انّي أريد به انّ ثبوت الأوسط ـ أعني : المحموم ـ لزيد معلول لثبوت تعفّن الاخلاط له وهو الحكم المطلوب ؛ يعنى انّه متأخّر عنه بحسب نفس الأمر. وما لم يثبت لزيد وصف بعض الاخلاط ـ أي : الحكم المطلوب ـ لم يثبت له وصف الحمى ـ أي : الأوسط ـ. فظهر انّ العلّية والمعلولية المأخوذتين في مطلق البرهان انّما ترجعان إلى ثبوت النسبة الّذي هو من العلوم التصديقية.

وإذا كان الحاصل من البرهان هو العلم التصديقي دون التصوريّ نقول : لا يجوز التفاوت بالكمال والنقصان في العلم التصديقى سواء حصل من برهان اللمّ أو الإنّ ، إذ

١٠٢

لا فرق في كيفية العلم الحاصل منهما لعدم التشكيك فيه ـ كما بيّن في موضعه ـ ، ولا في متعلّق التصديق ـ إذا لتصديق المنتج من ايّهما متعلّق بحقيقة النسبة الخبرية المطلوبة ـ ، فالعلم الّذي يمكن أن يتفاوت بالكمال والنقصان انّما هو العلم التصوريّ من حيث المتعلّق ، فانّ العلم التصوريّ الحاصل من الحدّ يكون متعلّقا بحقيقة الشيء ، والحاصل من الرسم يكون متعلّقا بخواصّه ولوازمه. وتفاوت هذا العلم لا مدخلية له فيما نحن فيه ، فانّ قولنا : العالم حادث متعلّق العلم ثبوت الحدوث للعالم أعمّ من أن يكتسب من جهة علّيته أو من جهة معلوليّته ، ولا يتصوّر التفاوت فيه من هذه الجهة. نعم! يمكن التفاوت في تصوّر الحدوث أو العالم بالكنه أو الوجه ، إلاّ انّه لا مدخلية له في نفس التصديق بثبوت الحدوث للعالم.

فان قيل : يجوز أن يختلف العلم بالنسبة الخبرية باختلاف تصور الاطراف بالكنه أو بالوجه ؛

قلنا : التفاوت فيه على هذا التقدير ليس من حيث انّه(١) مستفاد من البرهان ، بل من حيث تصوّر بعض الاطراف بالكنه وبعضها بالوجه ، فبالحقيقة يكون التفاوت في العلم التصوري ؛ وبواسطته يحصل تفاوت ما في العلم التصديقى أيضا. ولكن ذلك لا يفيد التفاوت في المقصود ، لأنّه ليس من حيث انّه مستنتج من البرهان ، بل من حيث تصوّر الاطراف ؛ إلاّ أن يقال : انّ مقصود القائل انّ البرهان اللمّي لا ينفكّ عن تصوّر الاطراف على وجه اتمّ واكمل ، بخلاف الإنّي ، لا أنّ العلم الحاصل بالمطلوب من اللمّي من حيث انّه حاصل منه يكون اتمّ من العلم الحاصل به من الإنّي من حيث انّه حاصل منه ، وهذا القدر يكفي لمزية اللمّ على الإن.

وغير خفيّ إنّا نلتزم مثل هذه المزية ولا ننكره! ، إلاّ أنّ مبنى هذا الكلام على لزوم تصوّر الاطراف في اللمّي بالحدّ والكنه وفي الإنّي بالرسم وبالوجه ، وعلى جعل حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه من اللمّ وإن لم يكن علّة فاعلية له ، بل يكفى كونه جزء العلّة ومن مقوّماته. والظاهر أنّ مجرّد حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه وأن

__________________

(١) الاصل : ـ انه.

١٠٣

يكن علّة فاعلية من اللمّ بشرط كونه تصديقا ، لأنّ المراد بالعلّة هاهنا يجب ان يكون ما يتوقّف عليه الشيء مطلقا لا العلّة التامّة ولا خصوص إحدى العلل الاربع ، فانّ الاستدلال / ٢٣ DA / من المعلول على أيّ جزء من العلّة التامة برهان انّي ، والاستدلال من الجزء الأخير للعلّة التامة أو يستلزم الجزء الاخير له على المعلول برهان لمّي.

وأمّا لزوم كون تصور الاطراف ممّا يتوقّف هذه الاطراف عليه ـ أعني : بالحدّ والكنه في اللمّ ـ فغير معلوم ، لانّه من العلوم التصورية الّتي لا مدخل لها في البرهان الّذي هو من العلوم التصديقية ـ ، فلا معنى لاشتراطه في البرهان اللمّي.

وأنت خبير بانّ اتمام أصل الجواب المنقول عن بعض الأفاضل يتوقّف على عدم التشكيك في حقيقة العلم المتعلق بالنسبة الخبريّة ، وهو محلّ كلام ؛ والنزاع في مثله مشهور.

وقد تلخّص ممّا ذكر انّ ما ذكروه في بيان الأمر الاوّل ـ أعني : اوثقية اللمّي من الإنّي ـ غير تمام ، ولا تفاوت بينهما إلاّ في أنّه يعلم المطلوب في اللمّي من جهة ما يوجبه من لمّه وسببه ، بخلاف الإنّي ؛ هذا.

وذكروا في بيان الوجه الثاني ـ أعني : لميه منهج الإلهيين ـ وجوها :

منها : انّه استدلال بحال من مفهوم الوجود ـ أعني : احتياج فرده الممكن إلى العلّة أو كونه ذا تقرّر أو ذا فرد في نفس الأمر ـ على حال اخرى منه ، / ٢٣ MB / وهي اتّصافه بكون بعضه واجبا لا على ذات الواجب في نفسه ، فانّ كون طبيعة الوجود مشتملة على فرد هو الواجب لذاته حال من أحوال تلك الطبيعة ، فالاستدلال بحال من تلك الطبيعة على حال أخرى لها معلولة للحال الاولى.

وفيه : انّ الحالة الّتي يستدلّ بها ـ أعني : كون الوجود ذا تقرّر أو ذا فرد أو احتياج فرده الممكن إلى علّة ـ إنّما هي معلومة ومستفادة من الوجودات الامكانية ، وهي معلولة للواجب الحقّ ـ تعالى شأنه ـ ، فكيف يكون علّة له في الخارج حتّى يكون الاستدلال بها عليه لمّيا؟!. كيف ولو كان الاستدلال بالوجود المطلق على الواجب بأيّ طريق كان استدلالا بالعلّة على المعلول لكان للواجب علّة؟!

١٠٤

وبما ذكر يظهر ضعف ما ذكره بعض المشاهير المعتقدين للمّية هذا الوجه حيث قال : إن قيل : الاستدلال بالوجود على الواجب ليس استدلالا بالعلّة على المعلول ، وإلاّ لزم أن يكون الواجب معلولا ؛ قلنا : الاستدلال بالعلّة على المعلول هو الاستدلال من واجب الوجود على معلولاته. فانّا في الطريقة المختارة نثبت واجب الوجود أوّلا ثمّ نستدلّ به على ساير الموجودات بان نقول : لمّا كان الواجب في غاية البساطة والتجرد يجب أن يصدر عنه أوّلا امر بسيط مجرّد عن الموادّ وبعد فتح ابواب الكثرة يصدر منه ـ تعالى ـ بطريق التناوب الاشياء الأخر ، ولمّا كان غنيا عن كلّ شيء يجب أن لا يكون فعله معلّلا بالاغراض ، وإن كانت المنافع لازمة لفعله ـ تعالى ـ على وجه لا يكون غرضا له وعائدا إليه. ولمّا كان جوادا مطلقا فيجب أن لا ينقطع منه الفيض ، ولمّا كان مجرّدا يجب أن لا يسنح له شيء بعد ما لم يكن ، وغير ذلك من الخواصّ المثبتة بمجرّد ملاحظة وجوب الوجود. وأمّا القوم فيثبتون ساير الموجودات ويستدلّون بها على وجود واجب الوجود. وبعبارة اخرى : نحن نثبت الحقّ ونستدلّ به على الخلق ، وامّا هم فيثبتون الخلق ويستدلّون به على الحقّ ، فطريقتنا أوثق وأشرف. انتهى ما ذكره مع تفصيل وتوضيح.

ووجه ضعفه : انّ استدلالكم على الواجب انّما هو بافراد الوجودات المعلولة أو بالوجود المطلق من حيث أنّه في ضمن الافراد الممكنة المعلولة ، فهو استدلال من المعلول على العلّة دون العكس ، فلا فرق بين طريقتكم وطريقة غيركم.

وأمّا ثبوت اللوازم والخواصّ المذكورة للواجب بعد اثباته فهو امر آخر يتأتّى على جميع الطرق بعد أن يثبت الواجب بأيّ منها.

ومنها : انّ كون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكون الواجب صانعا للعالم ، أي : هو علّة لهذا الوجود الرابطي الاضافي للواجب ـ تعالى ـ لا لوجوده في نفسه ، لانّ وجوده في نفسه ليس معلولا لشيء ، فوجود العالم في نفسه معلول للواجب ـ تعالى شأنه ـ. والوجود الرابطي للواجب ـ تعالى ـ وهو كونه صانع العالم معلول للعالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته ، فكون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكونه ذا جاعل واجب

١٠٥

بالذات. ولا استبعاد في ذلك كما ذكره الشيخ في المؤلّفية وذوي المؤلّفية ، فانه قال : انّ قولنا كلّ جسم مؤلّف وكلّ مؤلّف فله مؤلّف برهان لمّي ، لانّ المؤلّف ـ بالفتح ـ وإن كان معلولا للمؤلّف ـ بالكسر ـ بحسب الخارج والواقع ، لكن ذا المؤلّف ـ أعني : مفهوم ٢٣ DB / قولنا : له مؤلّف ـ هو الحدّ الأكبر ، والوجود الرابطي للمؤلّف ـ بالكسر ـ معلول للمؤلّف ـ بالفتح ـ. وأيّد ذلك بعضهم بانّه لا يثبت من هذه الدلائل إلاّ وجود علّة ما لجميع الممكنات خارجة عنها ـ أي : غير ممكنة ـ ، ولا يثبت بها خصوص وجود الذات المقدّسة الالهية. والشيخ قد صرّح بانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود علّة ما في الحقيقة استدلال من العلّة على المعلول ، لأنّ ثبوت علّة ما لشيء يكون في الحقيقة معلّلا بمعلولها ، فيكون لمّيا.

قيل : وبهذا الوجه ـ أي : بجعل المعلولية راجعة إلى الوجود الاضافي الرابطي لا إلى الوجود الحقيقي الخارجى ـ يندفع الايراد المشهور ؛ وهو انّه لا يمكن الاستدلال اللمّى على وجود الواجب لان كلّ شيء سوى الواجب ـ تعالى ـ معلول له ـ تعالى ـ إمّا بواسطة أو بدونها ، وليس الواجب معلولا لشيء ؛ فلا يمكن الاستدلال على وجوده بطريق / ٢٤ MA / اللمّ.

وأيضا : كلّ ما يحصل في اذهاننا ونتعقّله فهو ممكن ، وكلّ ممكن معلول له ، فانحصر طريق اثباته في الإنّي.

ووجه الدفع : انّ ما يثبت بالبرهان اللمّي هو الوجود الاضافي الرابطي للواجب ـ تعالى ـ وهو يجوز أن يكون معلولا ، وعدم معلوليته انّما هو باعتبار وجوده في نفسه. ولا امتناع في كون الواجب معلولا باعتبار الوجود الرابطي ، فانّ الشيء قد يكون علّة بحسب الذات ومعلولا بحسب الوجود الاضافى الرابطي ، فانّ ثبوت رازقية زيد للواجب ـ تعالى ـ يتوقّف على وجود زيد المرزوق ولا يمكن ثبوتها له بدونه ، بل يحتاج هذا الثبوت إلى وجود زيد مع انّه موجد زيد وغني عن كلّ شيء.

وغير خفيّ انّ هذا الوجه في غاية السقوط ولا يسمن ولا يغني من جوع! ، كيف وهو يجري في جميع ادلّة اثبات الواجب من أيّ منهج كان ولا اختصاص له بمنهج

١٠٦

الإلهيين ، بل يجري في جميع الأدلّة الآتية في أيّ مطلب كان ولا اختصاص له بادلّة اثبات الواجب! ؛ فأيّ مزية تثبت بهذا التكلّف والتعمّل لمنهج الإلهيين؟!.

مع انّه لو سلّم عدم جريانه في غيره نقول : انّ مطلوب القوم من ردّ أدلّة اثبات الواجب إلى اللمّي انّما هو لأن يكون أوثق وأحكم ، ولا ريب في أن مثل هذا التعمّل والتغيّر في بعض العبارات لا يصير سببا لتفاوت الدليل في الواقع ونفس الأمر حتّى يصير لأجله أوثق ، بل انّما هو تكلّف لا يرجع إلى فائدة وتحصيل. فالفرق بين منهجي الالهيين والمتكلّمين بلمّية الأوّل وإنّية الثاني تحكّم بحت!.

ولو قيل بعكس ذلك لكان له وجه في الجملة ، لأنّ المتكلّمين يجعلون الوسط في براهين اثبات الواجب هو الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، وهم يعتقدون انّ علّة الحاجة إلى المؤثّر هي الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، فالاستدلال على الواجب به استدلال لمّي وإن كان ما اعتقدوه من علّة الحاجة باطلا عندنا. وأمّا الإلهيون فلمّا جعلوا الوسط في البراهين هو الوجود فلا يمكنهم القول باللمّية ، لأنّ الوجود ليس عندهم علّة الحاجة بل علّتها عندهم هي الامكان البحث. نعم ؛ لو جعلوا الوسط في البراهين هو الامكان فقط واستدلّوا على الواجب ـ تعالى ـ بمجرّده لكان للقول بلمّية طريقتهم وجه ، إلاّ أنّ الاستدلال بمجرّد الامكان من غير التمسّك بالوجود أو الحدوث غير ممكن.

وبذلك يندفع ضعف ما افتخر به بعض الفضلاء بالتفطّن به ، وقال : أمّا اثبات الواجب فظاهر النظر يقتضي أن يكون دليله على الطريقين إنّيا ، والنظر الصائب يفضي إلى أنّ الّذي لهم من الدعوى على الطريقين يثبت ببرهان لمّي ، فانّ دعواهم انّ الممكنات منتهية إلى الواجب أو انّ الممكن له موجود واجب أو انّ العالم له خالق صانع لا مجرّد انّ الواجب موجود ، بل هو لازم ثانيا من دليلهم ، وبين هذا وما قدمنا من الدعوى فرق ؛ انتهى.

ووجه الدفع : انّ الممكن ما لم يؤخذ منه الوجود أو الحدوث أو ما يرجع إليهما لم يدلّ على احتياجه إلى المؤثّر ، ووجهه ظاهر.

١٠٧

وبما ذكر يظهر فساد ما قيل : انّ جميع براهين اثبات الواجب لمّية بحسب الحقيقة ـ بناء على ما نقل عن الشيخ من حديث المؤلّف وذي المؤلّف ـ ، إلاّ أنّ صورة ساير الطرق شبيهة بصورة الإنّ لانّها بظاهرها انتقال من المعلول إلى العلّة ، لانّ الممكن والمحدث والحركة ـ الّتي ينتقل منها إلى الواجب تعالى ـ معلولة له. بخلاف منهج الالهيين ، فانّه انتقال من الموجود إلى الواجب ، وهو بظاهره لا يشبه إلاّ انّ الموجود ليس معلولا للواجب مطلقا وإن كان بعض افراده معلولة له ، بخلاف الممكن والحادث والحركة.

ووجه الفساد : أمّا أوّلا فبأنّه أيّ فائدة في التفاوت في / ٢٤ DA / الصورة مع عدم الفرق الواقعي في الوثوق؟! ؛

وأمّا ثانيا : فبانّه تخصيص لادلّة اثبات الواجب مع جريان ما ذكره الشيخ في جميع ما يتصوّر دليلا.

وأمّا ثالثا : فبانّ الموجود الّذي يقع به الانتقال إلى الواجب انّما هو افراده الّتي هي معلولة ، والفرد الّذي هو غير معلول لم يقع به انتقال. ولا فرق بينه وبين الممكن والحادث.

ثمّ التأييد الّذي نقلناه عن بعضهم للوجه المذكور ـ : من كون / ٢٤ MB / الاستدلال لوجود المعلول على وجود علّة ما استدلالا لمّيا ـ لا يخفى فساده وضعفه وان نسبه الأكثرون إلى الشيخ ؛ لأنّ القريحة السليمة حاكمة بانّه لا فرق بين علّة ما والعلّة المعينة ، فانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلّة لمّي سواء كانت العلّة علّة ما أو علّة معينة ، وأيّ باعث للفرق؟!. والظاهر انّ نسبته إلى الشيخ فرية. وصرّح بعضهم بانّه ليس في كلمات الشيخ ما يدلّ عليه.

وأورد على الوجه المذكور : بانّه إذا كان العالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته علّة لكون الواجب صانعا للعالم لزم أن لا يثبت للواجب ـ تعالى ـ صانعية العالم لذاته ، بل يتوقّف على ملاحظة حال العالم ، لأنّ صانعيته ـ تعالى ـ حينئذ معلولة لمصنوعية العالم كما هو شأن البرهان اللمّي. فلو قطع النظر عن مصنوعية العالم لم يثبت له صانعية(١)

__________________

(١) الاصل : لم يثبت لصانعه.

١٠٨

في ذاته ، فلا يجوز أن تكون مصنوعية العالم علّة لهذا الوجود الرابطي ـ وهو كون الواجب صانعا للعالم ـ.

وأجاب عنه بعض الأفاضل : بانّ صانعية العالم يمكن اعتبارها من وجهين :

أحدهما : بحيث يكون وصفا للعالم ومعناها كون العالم بحيث يكون له صانع واجب الوجود بالذات ؛ وثانيهما : أن يكون وصفا لواجب ـ تعالى شأنه ـ. ومعناها حينئذ كون الواجب بحيث يكون صانعا للعالم ؛ وللعالم وصفان : أحدهما : المصنوعية والمجعولية ، والآخر : كونه ذا صانع جاعل ؛ والأوّل علّة للثاني والنتيجة هي كون العالم ذا صانع واجب الوجود بالذات ، لا كون الواجب صانع العالم ، فصورة القياس هكذا : العالم مصنوع ومجعول ، وكلّ مصنوع ومجعول ذو جاعل صانع واجب بذاته ، فالعالم ذو جاعل صانع واجب بالذات. وكون الواجب صانع العالم يظهر وينكشف بعد حقّية تلك النتيجة من غير احتياج إلى كسب ونظر ، وهذا الظهور بطريق الاتّفاق. فثبوت صانعية العالم للواجب انّما هو بالنظر إلى ذاته لا بواسطة أمر ؛ غاية ما فى الباب انّه ينكشف عندنا بعد حقّية ذلك القياس. ونظير هذا انّ التصديق قد يكون خفيا وبعد تصوّر الطرفين يصير بديهيا ، إلاّ أنّ تصوّر الطرفين كاسب له لأنّ التصديق لا يكون مكتسبا من التصوّر ، فحقّية كون الواجب صانع العالم لازمة لحقّية ذلك القياس ، لكن هذا اللزوم ليس لزوما اصطلاحيا بأن يكون حقّية القياس المذكور ملزومة لحقّية كون الواجب صانع العالم وعلّة بالقياس إليه ، لأنّ كلّ ملزوم اصطلاحي علّة للازمه ، وثبوت صانعية العالم له ـ تعالى ـ ليس معلّلا بغير ذاته أصلا ، فاللزوم فيها بالمعنى اللغوي ـ يعني : انّه لا ينفكّ أحد العلمين عن الآخر ـ. لانّه إذا ثبت القياس المذكور يصير كون الواجب صانع العالم بديهيا لا يحتاج إلى فكر ونظر اصلا ، فكون(١) الواجب صانع العالم ثابت له باعتبار ذاته بلا علّة غير ذاته.

ويمكن أن يقال : كون الواجب صانع العالم قد ظهر حقّيته بصحابة اللمّ إلاّ أنّ له دليلا لمّيا ؛ انتهى.

__________________

(١) الاصل : فيكون.

١٠٩

واقول : هذا الجواب بطوله ممّا لا يجدي طائلا ، بل هو فاسد! ، لأنّ القول بانّ ظهور كون الواجب صانع العالم انّما هو بطريق الاتفاق ممّا لا معنى له ، والقرائح السليمة لا تقبله ؛ فانّه لا ريب في أنّ صانعيته ـ تعالى ـ للعالم انّما يعلم من مصنوعية للعالم ، ولولاها لم يكن لنا إليها سبيل. بل لو لم يتحقّق المصنوعية في الخارج لم تتحقّق صانعية فيه. نعم! ، يمكن القول بانّ الانتقال من هذا الوجود الرابطي ـ أعني : كونه صانعا ـ إلى الوجود الحقيقيّ انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، لانّ تحقّق الوجود الارتباطى لا يمكن إلاّ بعد تحقّق الوجود في نفسه.

فالحقّ في الجواب عن الشبهة أن يقال : لا مانع من توقّف هذا الوجود الاضافي الارتباطى ـ أعني : ثبوت صانعية العالم للواجب تعالى شأنه ـ على غيره ـ أعني : مصنوعية العالم وعدم ثبوتها له في ذاته ـ ، فانّ المصنوعية والصانعية متضايفتان وتوقّف ثبوت أحد المتضايفين على الآخر ذهنا وخارجا ممّا لا ينكر. وهل هذا مثل الرّازقية والمرزوقية؟ ، فانّه لا ريب في انّه لا يثبت للواجب ـ تعالى ـ رازقية / ٢٤ DB / زيد بدون وجود زيد المرزوق ، بل هي موقوفة عليه. والسرّ انّ مثل الصانعيّة والخالقيّة والرازقيّة وأمثالها من صفات الفعل الّتي لا تتحقّق بدون متعلّقاتها. والحاصل : انّ عدم ثبوت الوجود الرابطي للواجب بالنظر إلى ذاته وتوقّفه على غيره لا منع فيه ، إلاّ أنّ ارجاع البراهين إلى اثبات مثل هذا الوجود ليصير لمّية ممّا لا فائدة / ٢٥ MA / فيه ولا يجدي طائلا ـ كما عرفت ـ.

ثمّ لا يخفى بأنّ مثل هذه الشبهة جارية في الوجه الأوّل أيضا ، بان يقال : إذا كان اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن علّة لاشتماله على الفرد الواجب لزم أن يكون كون الواجب فردا للموجود المطلق معلولا لكون الممكن فردا للموجود المطلق ، فيلزم أن لا يثبت للواجب ـ جلّ وعزّ ـ كونه فردا للموجود المطلق باعتبار ذاته ، بل بملاحظة علته ؛ وهي اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن واحتياجه إلى العلّة. فمع قطع النظر عن هذه العلّة في نفس الأمر يلزم عدم معلولها في نفس الأمر فيلزم أن لا يكون الواجب فردا للموجود المطلق في ذاته ؛ وهو باطل. لأنّ كون الواجب فردا للموجود

١١٠

ثابت له ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته وإن قطع النظر عن جميع ما عداه.

والجواب على النحو الّذي نقلناه عن بعض الأفاضل(١) مع ما يرد عليه يعلم ممّا مرّ ، وعلى ما ذكرناه ظاهر ؛ فلا نطيل الكلام بالاعادة.

ومنها : ما ذكره بعض الأفاضل ، وهو أنّ طبيعة الوجوب لمّا كانت طبيعة ناعتية لطبيعة الوجود عارضة لها فهي متأخّرة بالذات عنها ـ كما يظهر من تتبع عبارات الشفا وغيره ـ ، فيكون الموجود بما هو موجود متقدما بالذات على الموجود بما هو واجب والواجب بما هو واجب ، وهذا لا ينافى ما هو المشهور من « أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد » ، لأنّ المراد منه انّ الماهية ما لم يتصف في مرتبة العقل وجودها بصفة الوجوب لم يمكن أن يوجد ، لأنّ اتصاف الشيء في الخارج بصفة الوجوب متقدّم على تحقّقه فيه ، اذ اتصافه بها في الذهن متقدّم على ثبوته فيه. إذا تمهّد هذا فلا يخفى عليك : انّ الاستدلال بالموجود بما هو موجود وانّ له فردا في الخارج على الواجب بما هو واجب وانّ له فردا خارجيا برهان لمّي بلا تعمّل وتكلّف لا انّي ، لأنّ ثبوت الفرد الخارجي

للموجود بما هو موجود متقدّم بالذات والطبع على ثبوت الفرد الخارجى للواجب بما هو واجب. ولا يتوهّم انّه يلزم على هذا أن يكون الواجب بما هو واجب معلولا لشيء ، إذ اللازم تقدّم اعتبار الوجود على اعتبار الوجوب ، وهو ليس بمستنكر ، إذ ذاته ـ تعالى ـ من جهة انّه مبدأ للآثار فرد للموجود ، والوجود من جهة انّه مبدأ لوثاقة الوجود فرد للواجب والوجوب ، والاعتبار الاوّل متقدّم بالذات على اعتبار الثاني ـ كما يقال في تقدّم وجوب الوجوب على ساير الصفات ، وفي تقدّم العلم والقدرة على الإرادة ـ. وطبيعة الوجود والموجود بما هو موجود متقدم على جميع الاشياء ، بل جميع الاعتبارات بالذات ، ولهذا جعل موضوعا للفلسفة الأولى. والمراد بما قال الشيخ وغيره : « انّه لا برهان عليه ـ تعالى ـ بل هو البرهان على كلّ شيء » : انّه لا برهان على ذاته من غيره ، لانّ ذاته باعتبار وملاحظة ليس ببرهان على نفسه باعتبار آخر ، أو بعض صفاته ليس برهانا على بعض آخر ؛ بل هو الشهيد عليه كما على غيره. ولهذا

__________________

(١) الاصل : + ظاهر.

١١١

بعينه صار هذا المنهج أشرف وأخصر من غيره المأخوذ فيه وجود الممكن أو الحادث أو المتحرّك شاهدا عليه ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه في غاية الفساد ، ولا يقبل الاصلاح بوجه. لانّ الوجود الّذي يمكن أن يتوهّم تقدّمه على الوجوب وعلّيته له انّما هو الوجود الخاصّ الواجبي والاستدلال لم يقع به ، لانّه عين المطلوب ، بل الاستدلال انّما وقع من الموجود المشاهد المعيّن أو من طبيعة الموجود باعتبار تحقّقها في ضمن موجود معيّن مشاهد ، والبديهة قاضية بانّه ليس متقدّما على الموجود بما هو واجب ولا علّة للواجب بما هو واجب ، كيف وجميع الموجودات المعلومة المشاهدة وطبيعة الموجود من حيث تحقّقها في ضمنها معلولة للواجب ومتأخّرة عن تحقّقه؟! ؛ فكيف يجوز أن تكون متقدّمة عليه وعلة له؟!. على أنّ تأخّر الوجوب لذاته عن الوجود الواجبي وتأخّر الوجوب لغيره عن ساير الوجودات غير مسلّم ، لانّ كلّ وجود ما لم ينسدّ عنه جميع انحاء العدم ولم يصل حدّ الوجوب لم يتحقّق في الخارج ، فالوجوب في مرتبة نفس الأمر ـ أي : العقل الفعّال ـ أو الحال الّذي للشيء في حدّ ذاته بلا تعمّل ـ أي : الّذي يكون / ٢٥ DA / بحيث إذا لاحظه العقل السليم حكم به بالبديهة أو البرهان ـ مقدّم على الوجود.

وما ذكره هذا الفاضل في بيان معنى المقدّمة المشهورة كلام خال عن التحصيل ، لانّه لا شكّ أنّ اتصاف الشيء بالوجود ليس له توقّف على أن يلاحظ العقل اتصافه بالوجوب ، وليس دليل يدلّ عليه ، بل / ٢٥ MB / الدليل انّما يدلّ على انّه يتوقّف على اتصافه به في نفس الأمر. على انّه إذا لم يكن له اتصاف بالوجوب قبل الوجود في نفس الأمر ولم يتحقّق حينئذ وجوب لكونه نفيا لما لم يتحقّق بعد ـ أعني : الوجود ـ لم يمكن للعقل أن يصفه به إلاّ بتعمّل ؛ وكيف يمكن للعقل الصحيح أن يحكم بما ليس له تحقّق في الواقع ونفس الأمر؟! ؛ ولو حكم به تعمّلا لم يكن فيه فائدة ، لأنّ الأمور النفس الأمرية لا تختلف ولا تتفاوت بمجرّد فرض العقل خلافه.

فان قيل : مراد هذا الفاضل بمرتبة العقل هو نفس الأمر ، فيكون مراده انّ الوجوب متقدّم على الوجود في نفس الأمر ؛

١١٢

قلنا : فيصير حينئذ حكمه بتقدّم الوجود على الوجوب وكونه نعتا للوجود باطلا ، لأنّه إذا كان الوجوب مقدّما على الوجود في نفس الأمر فالوجود في أيّ مرتبة يكون مقدّما على الوجود ، إذ لا يتصوّر حينئذ مرتبة وطرف يثبت فيه تأخّر الوجوب عن الوجود ، لانّ الاتصاف بالوجوب قبل الوجود وبعده ليس إلاّ بمعنى واحد ووجه واحد. فاذا كان هو متقدّما على الوجود في نفس الأمر فان فرض تأخّره أيضا لزم تأخّره في نفس الأمر ، وهو تناقض.

قيل : انّ الوجوب إمّا نعت للوجود أو كيفية للنسبة ، وعلى التقديرين يلزم تأخّره عن الوجود ؛ أمّا على التقدير الأوّل فظاهر ، إذ تأخّر الوصف عن الموصوف لا يقبل المنع ، وأمّا على التقدير الثاني فلأنّ النسبة الّتي بين الطرفين ـ أعني : الذات والوجود ـ متأخّرة عن الطرفين ، فيكون متأخّرة عن أحد الطرفين الّذي هو الوجود ، ولا ريب أنّ كيفية النسبة متأخّرة عن نفس النسبة المتأخّرة عن الوجود ، فيكون تلك الكيفية ـ أعني : الوجوب ـ متأخرة عن الوجود بمرتبتين. وحينئذ ينبغي إمّا أن يقال : الوجود مقدّم على الوجوب في نفس الأمر وتأوّل المقدّمة المشهورة ، أو يقال : يتقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وتحمل المقدّمة المشهورة عليه ويلتزم تأخّر الوجوب عن الوجود في الخارج لتصحّ الوصفية ، أو كونه كيفية للنسبة.

وأجاب بعضهم : أمّا أوّلا : باختيار الشقّ الثاني وادعاء كون الوجوب وصفا لنفس النسبة ومنع كون نفس النسبة متأخّرة عن الطرفين ، إذ المتأخّر عن الطرفين انّما هو وجود النسبة ـ لأنّه الفرع لوجود الطرفين دون نفسها ـ ، فلا يلزم تأخّر الوجوب عن الوجود ؛

وأمّا ثانيا : باختيار الأوّل ومنع لزوم تأخّر مثل هذا النعت عن الموصوف ـ أعني : الوجود ـ ، لانّه إن ادّعى انّ الثبوت الرابطي من الوجوب للوجود متأخّر عن ثبوت الوجود في نفسه فغير مسلّم ، بل ثبوت الشيء للشيء مستلزم لثبوته في نفسه لا فرع له ـ على ما هو التحقيق ـ ، وإن ادّعى انّ الثبوت في نفسه للوجوب متأخّر عن الثبوت في نفسه للوجود فغير مسلّم أيضا ، إذ الثبوت في نفسه للوجوب انّما هو بمعنى

١١٣

ثبوت ما ينتزع منه إلى موصوفه ، فإذا كان موصوفه الوجود فهو أيضا ثبوته كثبوت الوجود ، فرجع معنى ثبوت الوجوب في نفسه إلى ثبوت الذات المتّصفة بوجوب الوجود في نفسه ، فلا يكون متأخّرا عن ثبوت الوجود ؛ انتهى.

وأنت تعلم إنّ الجواب الّذي ذكره هذا البعض على اختيار الشق الثاني في غاية السقوط! ، لأنّ نفس النسبة أيضا متأخّرة عن الطرفين ، لكونها فرعا لوجود الطرفين ـ لأنّه ما لم يتحقّق الطرفان لم تتصوّر نسبة بينهما ـ. ولو سلّم عدم تأخّرها عنهما وعدم كونها فرعا لوجودهما فلا ريب في أنّها لا تكون متقدّمة عليهما ، بل تكون في مرتبتهما ، فالوجوب الّذي وصف لهما يجب أن يكون متأخّرا عنها ، وإذا كان متأخّرا عنها يكون متأخّرا عما هو في مرتبتها(١) ـ أعني : أحد الطرفين الّذي هو الوجود ـ.

امّا الجواب الّذي ذكره على اختيار الشقّ الأوّل فما ذكره أوّلا من حديث الاستلزام وانكار القاعدة الفرعية للجواب عن صورة ادّعاء تاخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه محلّ الكلام ، وكونه أصحّ القولين غير معلوم ، وتحقيق القول فيه لا يليق بهذا المقام ؛

وما ذكره ثانيا للجواب عن صورة ادّعاء تأخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه ، فحاصله : انّ الوجوب لمّا كان امرا اعتباريا انتزاعيا فليس له ثبوت على حدة كالصفات الحقيقية ، بل ثبوته انّما هو بمعنى ثبوت ما ينتزع عنه ـ كما هو الشأن في جميع الصفات الاعتبارية الانتزاعية ـ ، فمعنى ثبوت الوجوب في نفسه كمعنى ثبوت ساير الصفات الانتزاعية / ٢٥ DB / يرجع إلى ثبوت الذات المتّصفة به. ولمّا كان الوجود هنا هو الموصوف فمعنى ثبوته هو ثبوت الوجود في نفسه. وتلخيص الجواب على تقدير الادعاء الأوّل والثاني : انّ الوجود ليس إلاّ ذاتا بسيطة واحدة هي حقيقة الوجود الخاصّ ، والوجوب أمر انتزاعي له ، حمله عليه لا يقتضي / ٢٦ MA / التأخّر للاستلزام ، وليس له ثبوت في نفسه حتّى يلزم تأخّره للتعينية.

وأنت تعلم انّه يلزم على هذا أن لا يكون لشيء من الوجود والوجوب ـ سواء

__________________

(١) الاصل : ـ فالوجوب مرتبتها.

١١٤

كان لذاته أو لغيره ـ تقدّم وتأخّر على الآخر ، مع انّه هنا دلالتان متنافيتان إحداهما ـ وهي المقدّمة المشهورة ـ تدلّ على تقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وأخراهما ـ وهي كون الوجوب نعتا ـ تدل على العكس. وما ذكره هذا القائل يدلّ على أنّ كون الشيء نعتا ـ إذا كان انتزاعيا ـ لا يوجب تأخّره ، وبذلك يثبت التلازم والاتحاد في الوجود بين الوصف والموصوف. ولا ريب أنّه مخالف للدلالة الأولى ـ أعني : المقدّمة المشهورة ـ ، لاقتضائها تقدّم الوجوب ، وما ذكره لا يدفعها ولا يتخرّج منه جواب عنه.

فالحقّ في الجواب أن يقال : للموجود وجوبان : وجوب سابق ، ووجوب لاحق ، فالوجوب المقدّم على الوجود هو الوجوب السابق ، وليس هو نعتا للوجود لتقدّمه عليه وعلّيته له ـ وهو المراد من المقدّمة المشهورة ـ ، والوجوب الّذي هو نعت للوجود ومتأخّر عنه هو الوجوب اللاّحق. وإذا ثبت ذلك نقول : لا ريب في أنّ تقدّم الوجوب السابق على الوجود وتأخّر الوجوب اللاّحق عنه إنّما هو في الوجودات الامكانية ، ولا يتصوّر ذلك في واجب الوجود ، فانّ الوجوب فيه عين ذاته لا يتصوّر له تقدّم وتأخّر ، فالاستدلال بطبيعة الوجود على طبيعة الوجوب لو سلّم انّه استدلال من المتقدّم ـ أعني : الوجود ـ على المتأخّر ـ أعني : الوجوب ـ انّما يصحّ في الوجود والوجوب اللّذين للممكن دون الواجب ، لأنّ الاستدلال من وجود الواجب على وجوبه ليس استدلالا من المتقدّم على المتأخّر ، لأنّ الوجوب عين ذاته. مع أنّه وقع الاستدلال من الوجودات الامكانية ـ الّتي هي معلولات للواجب ـ على وجوب الوجود الّذي هو عين الواجب ، فأين ذلك من اللمّ؟!.

وبما ذكرنا ثبت وتحقّق انّ جميع براهين اثبات الواجب إنّية ولا يمكن الاستدلال عليه باللمّ.

ولكن هنا دقيقة لا بدّ أن يشار إليها ، وهو أن الأكثر علّلوا انتفاء طريق اللمّ في اثباته ـ تعالى ـ بانّه ـ تعالى ـ علّة لكلّ شيء بواسطة أو بدونها ، فبأيّ شيء استدلّ به عليه كان استدلالا من المعلول على العلّة ، فيكون إنّيا ولا يتصوّر طريق اللمّ.

١١٥

ويرد على هذا التعليل : انّ الثابت بالبرهان ليس إلاّ الوجود الرابطي لا الوجود الأصيل ، لانّ ما ثبت بالبرهان مطلقا يكون لا محالة مفادّا لقضية المستنتجة من مقدّماته ـ أعني : الحكم المطلوب ـ ، وحاصله إمّا ثبوت شيء لشيء أو نفيه عنه ـ أي : ثبوت الأكبر للأصغر أو نفيه عنه ـ ؛ ويقال لهذا الثبوت والنفي « الوجود والعدم الرابطيان » ، وأمّا ثبوت الأكبر في نفسه ـ أي : الوجود الأصيل ـ فليس مستفادا من القضية المذكورة ولا مستنتجا من البرهان.

وإذا كان الثابت بالبرهان هو وجوده الرابطي دون وجوده الأصيل ـ تعالى شأنه ـ فنقول : ما هو علّة لكلّ شيء انّما هو وجوده الأصيل ـ عزّ شأنه ـ لا وجوده الرابطي ، فيجوز أن يكون وجوده الرابطي معلولا لبعض الاشياء مع كون وجوده الأصيل علّة للجميع ؛ فتعليل الأكثر في إنّية هذه البراهين دون لمّيتها عليل ، لأنّ جميع هذه البراهين ـ سواء كان الربط فيها هو الموجود كما هو منهج الإلهيين ، أو المتحرّك كما هو طريقة الطبيعيين ، أو الحادث أو الممكن بشرط الحدوث كما هو مسلك المتكلّمين ـ لا يثبت منها إلاّ الوجودات الرابطية ـ أي : وجود موجد واجب بالذات للموجودات ومحرّك غير متحرّك للمتحرّكات ومحدث صانع للعالم ـ ، ولا دلالة لشيء منها على وجود اصيل بواحد من الموجد والمتحرّك والمحدث ، ولا يثبت برهان وجود أصيل لشيء مطلقا. فالعلّة في انية بعض البراهين ولمّية بعض آخر انّ الاوساط الّتي تؤخذ في البراهين إن كانت باعتبار النسبة الّتي بينها وبين الأصغر علّة للوجودات الرابطية الّتي هي مفاد البرهان في الواقع كما هي علّة لها(١) الذهن كانت البراهين لمّية ، وإلاّ كانت انية. والتحقيق أنّ شيئا من الأوساط المأخوذة في براهين اثبات الواجب باعتبار ثبوتها لموضوعاتها ليست علّة للوجودات الرابطية للواجب ـ تعالى ـ في الواقع ـ أعني : وجود موجد بالذات أو محرّك غير متحرّك أو محدث صانع للعالم ـ ، اذ لا تقدّم ذاتيا لكون الممكن موجودا أو متحرّكا أو حادثا على كونه ذا موجد أو ذا محرّك أو ذا محدث ، بل علّيتها له منحصرة في الذهن ؛ فلا ينعقد البرهان اللمّي على شيء من تلك المناهج.

__________________

(١) الاصل : كما هي عليها.

١١٦

فان قلت : إذا كان الحاصل من البراهين هو العلم بوجوده / ٢٦ MB / الرابطي ، فمن أين يحصل العلم بوجود الاصيل ـ تعالى شأنه ـ؟ ، مع انّا بعد تمام البرهان نقطع بوجوده الأصيل كما نقطع بوجوده الرابطي ؛

قلت : العلم بالوجود الأصيل بعد حصول العلم بالوجود الرابطي الّذي هو مقتضى البرهان انّما يحصل من انضمام مقدّمة خفية بديهية مركوزة في العقول إلى مقتضى البرهان ، فيترتّب معها ترتيبا سريعا خفيا يكون منتجا لهذا العلم ـ أي : العلم بوجوده الاصيل ـ. والظاهر انّ تلك المقدّمة / ٢٦ DA / الخفية هي ما ارتكز في العقول من أنّ الأمور العينية الّتي وجودها في أنفسها ممكن بالامكان العام إذا كانت معدومة في انفسها لا يمكن أن تكون موجودة لغيرها ، فاذا ثبت بالبرهان وجودها لغيرها انتقل الذهن بمعاونة هذه المقدّمة إلى وجودها في أنفسها أيضا من غير افتقار إلى تجشّم ترتيب المقدمات والاستنتاج. والظاهر انّ نظر من قال : الانتقال إلى الوجود الحقيقي انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، إلى ما قلناه ؛ وكذا نظر من قال : انّ الترتّب والانتاج لحصول هذا العلم انّما هو من قضايا قياساتها معها إلى ما ذكرناه ؛ لأنّ هذه القضايا هي القضايا المسمّاة « بالفطريات » ، المعرّفة « بقضايا يحكم بها العقل بواسطة لا يعزب عن العقل عند تصور الطرفين » ، كالحكم بأنّ الأربعة زوج ، لانقسامها بمتساويين ؛ هذا.

وقيل : حصول هذا العلم بعد حصول النتيجة من البرهان إنّما هو بطريق الاتّفاق كحصول التصديق بعد تصور الطرفين ؛ وهو كما ترى.

المنهج الثاني

منهج بعض الحكماء

وهو الاستدلال بمجرّد الامكان الوقوعي

والمراد به أن يكون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محال ؛ والممكن بالامكان الذاتى اعمّ من أن يلزم من فرض وقوعه محال أم لا. وأنت خبير بأنّ ما مرّ من أدلّة الالهيين كانت مبتنية على اخذ الوجود بالفعل والاستدلال به على الواجب ؛

١١٧

والغرض من هذا المنهج أنّه يكفي الامكان الوقوعي والاستدلال عليه باجراء البراهين المذكورة من دون التمسّك بالوجود بالفعل(١) .

وتقريره : انّه لا شكّ في انّه يمكن أن يقع ممكن ما موجودا في الخارج ، وهذا الفرض لا يصحّ إلاّ مع وجود الواجب ـ تعالى شأنه ـ ، اذ لولاه لزم من فرض وجوده محال ، وهو الدور ـ إذ امكان وقوع موجود ما على هذا التقدير يتوقّف على امكان وقوع ايجاد ما وبالعكس ـ. أو نقول : وقوع طبيعة الموجود بما هو موجود يجب أن يكون بلا مبدأ وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ووقوع طبيعة الممكن بما هو ممكن لا بدّ له من مبدأ ، فلو انحصر الموجود الممكن الوقوع في الممكن لزم التناقض. أو نقول : مجموع الأفراد الّتي يمكن وقوعها لا بدّ له من علّة ولا يمكن أن تكون العلّة هي المجموع ولا جزئه ، بل يكون أمرا خارجا عنه ، فعلى فرض عدم الواجب يلزم أن لا يكون ذلك المجموع ممكنا بالامكان الوقوعي ، وقس على ما ذكر ساير البراهين.

قال بعض الافاضل : ولا يخفى عليك سخافة هذا المنهج ، اذ لا يمكن دعوى الامكان الوقوعي لممكن إلاّ من جهة العلم بوجوده ، إذ ما لم يعلم ذلك احتمل عند العقل أن يكون وقوعه مستلزما لمحال ، سيّما مع ما يتراءى من لزوم الدور وغيره من المفاسد. وإذا كان العلم من جهة العلم بوجوده فالتمسّك به لا بالوجود من قبيل ما اشتهر من الظرافات : انّ رجلا من المستظرفين هيّأ مجمعا من الرجال وقال : إنّي أعددت لكم دواء نافعا جدّا لاجل البراغيث أمنّ عليكم ببيعه منكم ؛ فبعد ما اشتروه منه بالالتماس والمنّة سألوه عن كيفية حاله وطريقة استعماله؟ ؛

فقال : طريقه أن يؤخذ البرغوث ويذر الدواء في عينه حتّى يصير أعمى! ؛

قالوا : انّا إذا أخذنا البرغوث فلم لم نقتله ونسترح من هذه الزحمة؟ ،

فقال : هذا أيضا يكون ، انتهى.

وما ذكره جيّد.

__________________

(١) راجع : المباحث المشرقية ج ٢ ص ٤٤٨. حيث اخذ الامام في طريقة الامكان ـ التى هي عنده معتمد الحكماء ـ وجود الموجودات بالفعل.

١١٨

المنهج الثالث

من مناهج الحكماء ، منهج الطبيعيّين منهم

وهو النظر في طبيعة الحركة

والمنقول عنهم في اثبات الواجب على هذا المنهج طريقان :

الطريقة الأولى : هي أنّ كلّ متحرّك سواء كانت الحركة في ذاته ـ كالممكنات المنتقلة من الليسية الذاتية إلى الايسية ـ أو في صفاته ـ كالمتحرّكات في الوضع والأين وغيرهما من المقولات ـ يحتاج إلى محرّك ، لأنّ الحركة أمر حادث لا بدّ له من علّة ، واستناد كلّ حركة إلى محرّك من البديهيات العقلية. ولا يجوز أن يكون المحرّك عين المتحرّك ، لأنّ الشيء لا يجوز أن يكون محرّكا لنفسه ، فلا بدّ أن يكون المحرّك غير المتحرّك ويمتنع ذهاب سلسلة المحرّكات إلى غير النهاية ، فلا بدّ أن تنتهى سلسلة المحرّكات إلى محرّك أوّل غير متغيّر في صفاته / ٢٧ MA / ـ كالمتحرّك في المقولات المشهورة ـ ، ولا في ذاته ـ كالممكن المنتقل من الليس إلى الايس ـ. والمحرّك الأوّل الثابت الذات والصفات هو الواجب الحقّ ـ تعالى شأنه(١) ـ.

وأورد عليه : بانّ الانتقال من الليس إلى الأيس إن اريد به الانتقال من العدم الممتدّ الوجود ـ أي : الحدوث الزماني ـ ؛ ففيه : انّ ذلك الانتقال ليس بحركة حقيقية ، إذ لا يوجد فيه التدريج المعتبر في الحركة ولو اصطلحوا على تسمية ذلك الانتقال مع كونه دفعيا حركة فلا مشاحة فيه ، إلاّ انّه بعينه هو / ٢٦ DB / الحدوث الّذي اعتبره المتكلّمون في طريقتهم ، فيرجع منهجهم إلى منهجهم. وإن اريد به الانتقال من العدم الصرف إلى الوجود ـ أي : الحدوث الدهري ـ أو الانتقال ممّا ثبت للممكن بالذات ـ أعني : عدم اقتضاء الوجود ـ إلى ما ثبت له بالغير ـ أعني : اقتضاء الوجود ـ ؛ ففيه : مع عدم كونه

__________________

(١) راجع : المباحث المشرقية ، ج ٢ ص ٤٥١ ؛ شوارق الالهام ، ج ٢ ص ٤٩٥ ؛ الحكمة المتعالية ، ج ٦ ص ٤٢.

١١٩

حركة أنّه يرجع إلى الايجاد الّذي اعتبره الالهيون ، فيرجع طريقة النظر في الحركة إلى طريقة النظر في الوجود ، ومجرّد تغيّر الألفاظ لا توجب الاختلاف في المعنى. وحينئذ فتتميم الحركة المأخوذة في الدليل بحيث يتناول الانتقال من الليس إلى الايس غير صحيح ، بل اللازم أن يحذف ذلك ويخصّ الحركة بالحركة في المقولات المشهورة ؛

وحينئذ يرد عليه : انّا لا نسلّم انّ ما ينتهى إليه سلسلة الحركات ـ أعني : المحرّك الأوّل ـ يجب أن يكون واجب الوجود بالذات وثابت الذات والصفات ، لجواز أن يكون ذلك المحرّك قديما آخر غير الواجب لم تكن له الحركة في المقولات الّتي سمّوها الحركة في الصفات ، وإن كان من العدم إلى الوجود لجسم أو جسماني ساكن غير متحرّك في مقولة أو نفس أو عقل ، فالحركة الأولى الكلّية أنّى تنتهي إليها سلسلة الحركات ـ أعني : الحركة الفلكية ـ يجوز أن يكون محرّكها هو طبيعة الفلك أو النفس الفلكية أو واحد من العقول. والحقّ أنّه لا يجوز أن تكون الحركة الفلكية طبيعية ولا مستندة إلى جسم ـ لما يأتي في طريقتهم الثانية ـ ، ولكن استنادها إلى النفوس الفلكية غير بعيد على ما ذهب إليه الحكماء ، إلاّ انّه يمكن أن يثبت المطلوب به ولكنّه يرجع إلى طريقتهم الثانية ، ويعرف حقيقتها.

الطريقة الثانية للطبيعيّين : إنّ حركات الأفلاك ليست مستندة إلى اجسامها ـ لامتناع كون الشيء محرّكا لنفسه ، نظرا إلى استحالة كون الشيء فاعلا وقابلا من جهة واحدة ، كما بيّن في موضعه ـ ، ولا يجوز أن تكون تلك الحركات قسرية ـ إذ الحركة القسرية إنّما تكون إلى الجهة المخالفة لمقتضى الطبع فحيث لا طبع ، كما يأتي ، فلا قسر ـ.

وأيضا : الحركة القسرية لا تكون إلاّ إلى الوسط أو من الوسط ويمتنع أن يتحرّك الفلك إلى الوسط أو إلى الفوق لكونه محدّدا لهما بمركزه ومحيطه ، بل حركته إنّما هو على الوسط ـ كما هو المشاهد المحسوس ـ ، فلا يكون قسرية. وأيضا : الحركة الأولى يجب أن تكون مبدعة لا بحركة ولا في زمان متقدّمة على جميع الحركات والحوادث بالطبع ، ولأجل ذلك لا يجوز أن تكون قديمة بالزمان ، لأنّ القديم بالزمان وان لم يسبقه العدم

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

ثُمَّ إنّه سبحانه يبيح لهم ـ رحمة منه ـ ما تسلّط عليه المسلمون من أموال المشركين، وما أخذوا من الأسرى للفداء، ويقول:( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) وحاصل مضمون الآيات الثلاث عبارة عن:

١ ـ إنّ أخذ الأسرى قبل الاثخان غير مشروع في الشرائع السماويّة.

٢ ـ لولا كتابٌ من الله سبق، لمسّ المسلمين في أخذ الأسرى قبل الاثخان عذاب عظيم.

٣ ـ لقد أباح الله سبحانه الجميع من الأموال والأسرى رحمة منه.

الوعد الجميل للأسرى

إنّ فداء كل رجل من المشركين يوم بدر كان أربعين أوقية والأوقية أربعون مثقالاً، إلّا العبّاس فإنّ فداءه كان مائة مثقال، وكان اُخذ منه حين اُسر عشرون أوقية ذهباً، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ذلك غنيمة ففاد نفسك، وابني أخيك نوفلاً وعقيلاً. فقال: ليس معي شيء. فقال: أين الذّهب الّذي سلّمته إلى أم الفضل وقلت: إن حدث بي حدث فهو لك وللفضل وعبد الله وقثم ؟ فقال: من أخبرك بهذا ؟ قال: الله تعالى. فقال: أشهد أنّك رسول الله، والله ما اطّلع على هذا إلّا الله.

ثمّ إنّه سبحانه ـ رحمة منه ـ يعد الأسرى بأنّهم إن آمنوا، واتبّعوا الحق، يؤتهم خيراً ممّا اُخذ منهم، ويغفر لهم، ولكنّهم إن أرادوا خيانتك بعد اطلاق سراحهم بالفداء، والعود إلى ما كانوا عليه من العناد والفساد، فقد خانوا الله من قبل، فأمكنك منهم، وأقدرك عليهم، وهو قادر على أن يفعل بهم ذلك ثانياً، كما يقول سبحانه:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال / ٧٠ ـ ٧١ ).

٣٤١

وروي أنّه قدم مال من البحرين يقدر بــــ « ثمانين » ألفاً، وقد توضّأ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لصلاة الظهر، فما صلّى يومئذ حتّى فرّقه، وأمر العباس أن يأخذ منه، ويحثي، فأخذ، فكان العبّاس يقول: هذا خير ممّا اُخذ منّا، وأرجو المغفرة(١) .

__________________

(١) لاحظ مجمع البيان: ج ٢ ص ٥٥٧ ـ ٥٦٠، والميزان: ج ٩ ص ١٣٦ ـ ١٤٠.

٣٤٢

٢ ـ غزوة أحد(١)

لقد كانت لغزوة « بدر » أصداء في عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وما بعده، وقد أوجد انتصار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها خوفاً ووجلاً في قلوب المشركين، خصوصاً بعد ما شاع خبر أنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله طرح أجساد قتلىٰ المشركين في القليب، ووقف عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخاطبهم بقوله: يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً، فإنّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً. فلمّا قيل لرسول الله: أتكلّم قوماً موتى، أو أتنادي قوماً قد جيفوا ؟ فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني.

فلمّا بلغ خبر انتصار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهزيمة المشركين إلى مكّة، ناحت قريش على قتلاها، ثمّ منعت النياحة بتاتاً في مكّة ونواحيها حذراً من شماتة المسلمين أوّلاً، واستنهاضاً لعزائمهم لأخذ الثأر ثانياً، فإنّ النياحة والبكاء وسكب الدّموع تهبّط العزائم، وتثبّط الهمم.

وكان الأسود بن عبد المطلب قد اُصيب له ثلاثة من ولده، وكان يحب أن يبكي على بنيه، ولكنّه كان يكبح جماح مشاعره حذراً من نقمة قريش، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة في الليل، فقال لغلام له وقد ذهب بصره: انظر هل اُحلّ النحب لعلّي أبكي على أولادي، فإنّ جوفي قد احترق، فرجع الغلام وقال: إنّما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلّته.

__________________

(١) وقعت غزوة اُحد يوم السبت لسبع خلون من شوّال في السنة الثالثة من الهجرة.

٣٤٣

فعند ذلك أنشأ يقول:

أتبكي أن يضل لها بعير

ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر ولكن

على بدر تقاصرت الجدود(١)

باتت قريش على تلك الحالة وصدورهم مليئة بالغيظ والحقد، وهم بصدد العزم على أخذ الثأر، وتحيّن الفرصة المناسبة لذلك.

ولأجل ذلك مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن اُميّة، في رجال من قريش ممّن اُصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلّموا أباسفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إنّ محمّداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال ( اشارة إلى العير الّتي أقبل بها أبوسفيان من الشام إلى مكّة ) على حربه، فلعلّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا، ففعلوا، وفي ذلك نزل قوله سبحانه:

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) ( الأنفال / ٣٦ )(٢) .

فاجتمعت قريش لحرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن أطاعهم من قبائل كنانة، وأهل تهامة. وكان أبو عزّة عمرو بن عبد الله الجمحي قد منّ عليه رسول الله يوم بدر، وكان فقيراً، ذا عيال وحاجة، وكان في الأسارى، فقال: إنّي ذو عيال وحاجة، فامنن عليّ صلّى الله عليك ؛ فمنّ عليه رسول الله. فقال له صفوان ابن اُميّة: يا أبا عزّة إنّك إمرؤٌ شاعر، فأعنّا بلسانك، فاخرج معنا ؛ فقال: إنّ محمداً قد منّ عليّ، فلا اُريد أن أظاهر عليه. قال: بلىٰ، فاعنا بنفسك، فلك الله عليّ إنْ رجعت أنْ أغنيك، وإن أصبتَ أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهنَّ ما أصابهنَّ من عسر ويسر. فخرج أبو عزّة في تهامة.

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٦٤٨.

(٢) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٦٠، ومجمع البيان: ج ٢ ص ٨٣٢، نقلاً عن أبي إسحاق.

٣٤٤

خرجت قريش بحدّها وجدّها، وحديدها وأحابيشها(١) ومن تابعها من بني كنانة، وأهل تهامة، وخرجت معهم النساء في الهوادج التماس الحفيظة وألّا يفرّوا. فخرج أبوسفيان بهند بنت عتبة، وخرج عكرمة بأمّ حكيم، وهكذا.

فخرجوا حتّى نزلوا على شفير الوادي مقابل المدينة، وهم ثلاثة آلاف بمن انضم إليهم، وكان فيهم من ثقيف مائة رجل، وخرجوا بعدّة وسلاح كثير، وقادوا مائتي فرس، وكان فيهم سبعمائة دارع، وثلاثة آلاف بعير.

ثمّ إنّ العباس بن عبد المطّلب أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بنيّة القوم، ومسيرهم نحو المدينة وعددهم وعُدّتهم، فكتب كتاباً وختمه، واستأجر رجلاً من بني غفار، واشترط عليه أن يسير ثلاثاً، فوجد رسول الله بقباء، فدفع إليه الكتاب، فقرأه عليهم اُبيّ بن كعب، واستكتم اُبيّاً ما فيه. فدخل منزل سعد بن الربيع، فأخبره بكتاب العباس، وجعل سعد يقول: يا رسول الله إنّي لأرجو أن يكون في ذلك خير.

فلمّا سمع رسول الله نزولهم على شفير الوادي، شاور قومه في الخروج عن المدينة، أو البقاء فيها، فاختلفت آراء أصحابه، فكان عبد الله بن اُبيّ وأصحابه يكرهون الخروج، فقالوا: يا رسول الله أقم بالمدينة لاتخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قطّ إلّا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلّا أصبنا منه.

وكان الشّباب من أصحاب الرّسول يصرّون على الخروج، ويقولون: « أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنّا جبنا عنهم وضعفنا ».

فلمّا رآى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اصرار هم على الخروج. وهم يقولون: ( هي إحدى الحُسنيين إمّا الشهادة وإمّا الغنيمة )، صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الجمعة بالنّاس، ثمّ وعظهم، وأمرهم بالجد والجهاد، ثمّ صلّى العصر، وصفّ النّاس له ما بين منبره وحجرته، فجاء هم سعد بن معاذ، وأسيد بن

__________________

(١) الأحابيش من اجتمع إلى العرب وانضمّ إليهم من غيرهم.

٣٤٥

حضير، فقالا للنّاس: قلتم لرسول الله ما قلتم، واستكرهتموه على الخروج، فردّوا الأمر إليه، فما أمركم فافعلوه، فبينا القوم على ذلك، إذ خرج رسول الله قد لبس لامّته ودرعه، وحزم وسطها بمنطقة من حمائل سيف من أدم، فقالوا يا رسول الله: استكرهناك، ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلّى الله عليك، فقال رسول الله: ما ينبغى لنبيّ إذا لبس لامّته أن يضعها حتّى يقاتل، فخرج في ألف من أصحابه(١) .

عودة المنافقين القهقرى إلى المدينة:

كان عبد الله بن اُبيّ ممّن أبدى الإصرار على الإقامة في المدينة والتحصّن بها فلمّا رأى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ترك رأيه وأخذ برأي الآخرين، فقال: أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا، فرجع بمن اتّبعه من قومه من أهل النفاق والريب، وهم ثلث النّاس، واتّبعهم عبد الله بن عمرو، فقال: ياقوم اُذكّركم الله إلّا تخذلوا قومكم ونبيّكم عندما حضر من عدوّهم ؛ قال عبد الله بن اُبىّ: لو نعلم أنّكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنّا لا نرى أنّه يكون قتال.

فلمّا استعصوا عليه وأبوا إلّا الإنصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيّه.

وفي ذلك نزل قوله سبحانه:( وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) ( آل عمران / ١٦٧ ).

وقد أوجد رجوع رئيس النفاق في أثناء الطريق شقاقاً وخلافاً بين أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على نحوين:

١ ـ فقال قوم من المسلمين: نقاتل قريشاً، وقال آخرون: لا نقاتلهم، وفي ذلك نزل قوله سبحانه( فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ

__________________

(١) المغازي للواقدي: ج ١ ص ٢١٣، والسيرة النبويّة: ج ٢ ص ٦٣.

٣٤٦

أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ) ( النساء / ٨٨ ).

فالآية تشير إلى أنّ المسلمين صاروا في أمر ما صار إليه المنافقون فرقتين مختلفتين، فمنهم من مال إلى مقالتهم ومنهم من يخالفهم في الرأي.

٢ ـ همّت طائفتان من المسلمين أن تأخذ برأي رئيس النفاق، ويرجعا في أثناء الطريق، وهما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار، وإليه يشير قوله سبحانه:

( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران / ١٢١ و ١٢٢ ).

نزول رسول الله أرض أحد:

لـمـّا انتهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أحد، جعل جبل اُحد خلف ظهره، واستقبل المدينة، وجعل عينين عن يساره، وجعل الرماة وهم خمسون رجلاً على عينين(١) عليهم عبد الله بن جبير، فقال لرئيسهم: انضح الخيل عنّا بالنّبل لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فأثبت مكانك لا نؤتين من قبلك.

ثمّ قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخطب النّاس وقال: إنّ جهاد العدو شديد، شديد كربه، قليل من يصبر عليه، إلّا من عزم الله رشده، فإنّ الله مع من أطاعه، وإنّ الشيطان مع من عصاه، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله(٢) .

وكان للمشركين كتيبتان ميمنة عليها خالد بن الوليد، وميسرة عليها عكرمة بن أبي جهل. وجعل رسول الله ميمنة، وميسرة، ودفع لواءه الأعظم إلى مصعب بن

__________________

(١) جبل باُحد له هضبتان بينهما معبر ينتهي إلى ساحة القتال.

(٢) راجع المغازي للواقدي: ج ١ ص ٢٢٢، وللخطبة صلة.

٣٤٧

عمير، ودفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج إلى سعد أو حباب بن المنذر، والرماة يحمون ظهورهم يرشقون خيل المشركين بالنّبل.

وعند ذلك دنا القوم بعضهم من بعض فقدّمت قريش صاحب لوائهم طلحة بن أبي طلحة، وصفّوا صفوفهم، وأقاموا النساء خلف الرجال بالأكبار والدفوف، وهند وصواحبها يحرّضن ويَذْمُرن(١) الرجال ويذكرن من اُصيب ببدر.

وصاح طلحة بن أبي طلحة: مَن لبني عبد الدار ؟ وكانت راية قريش يوم ذلك بأيدي هؤلاء، فقال عليٌّعليه‌السلام : هل لك في البراز ؟ قال طلحة: نعم، فبرزا بين الصفين، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جالس تحت الراية عليه درعان ومغفر وبيضة، فالتقيا، فبدره عليٌّ، فضربه على رأسه، فمضى السيف حتّى فلق هامته حتّى انتهى إلى لحيته، فوقع طلحة، وانصرف عليٌّ(٢) .

ثمّ أخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة، فقتله عليٌّ وسقطت الراية، فأخذها مسافع بن أبي طلحة، فقتله عليٌّ. حتّى قتل تسعة نفر من بني عبد الدار، حتّى صار لواؤهم إلى عبد لهم أسود يقال له: صوأب، فانتهى إليه عليٌّ، فقطع يده اليمنى، فأخذ اللواء باليسرىٰ، فضرب يسراه فقطعها، فاعتنقها باليدين المقطوعتين، فضربه على رأسه فقتله، فسقط اللواء، فأخذته عمرة بنت علقمة الكنانية، فرفعتها(٣) .

وقد كان لعليٍّعليه‌السلام مواقف مشهودة كما كان لأبي دجانة، والزبير بن العوّام، وفي ظل بطولة هؤلاء، ولفيف من غيرهم انهزمت قريش هزيمة نكراء لايلوون، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف، فلمّا انهزم المشركون تبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حتّى أخرجوهم عن الساحة ثمّ اشتغلوا بعد وضع سيوفهم على الأرض بنهب ما استولوا عليه في معسكرهم.

__________________

(١) أي يحضضن الرجال باللوم على الفرار.

(٢) المغازي للواقدي: ج ١ ص ٢٢٦.

(٣) مجمع البيان: ج ١ ص ٨٢٥.

٣٤٨

وعند ذلك قال بعض الرماة لبعض: لِمَ تقيمون ههنا في غير شيء ؟ قد هزم الله العدو، وهؤلاء إخوانكم ينهبون معسكرهم، فادخلوا معسكر المشركين، فاغنموا مع إخوانكم. فقال بعض الرماة لبعض: ألم تعلموا أنّ رسول الله قال لكم: « إحموا ظهورنا، فلا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل، فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا غنمنا، فلا تشركونا » فقال الآخر: لم يرد رسول الله هذا، وقد أذلّ الله المشركين وهزمهم، فادخلوا المعسكر، فانتهبوا مع إخوانكم، فلمّا اختلفوا خطبهم أميرهم عبد الله بن الجبير، وأمرهم بأن لايخالفوا لرسول الله أمراً، فعصوا، فانطلقوا فلم يبق من الرماة مع أميرهم عبد الله بن الجبير إلّا نفراً ما يبلغون العشرة، واشترك المنطلقون في النهب، واشتغلوا بما إشتغل به سائر المسلمين.

الهزيمة بعد الإنتصار:

قد كان الإنتصار حليف المسلمين في الغزوة، ولكن لـمّا خالف الرماة أمر رسول الله، وأخلوا مكانهم، رأى العدو أنّ جبل العينين قد أضحى خالياً من الرماة والمدافعين، وكان جبل العينين يقع على ضفّتين يتخللهما معبر، وينتهي مداه إلى المعسكر، وقد أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بوقوف الرماة على الضفّتين حتّى يمنعوا من دخول العدو من هذا المعبر على ساحة القتال، والحيلولة دون هجومه عليهم من خلفهم، ولـمـّا خالف الرماة باخلائهما، رأى العدو أنّ الفرصة مساعدة لمباغتة المسلمين، فأدار خالد بن الوليد ومن معه من وراء المسلمين(١) فورد المعسكر من هذا المعبر على حين غفلة من المسلمين بعد ما قتل من بقي من الرماة فوق الهضبة، وعند ذلك أثخنوا المسلمين ضرباً وقتلاً، فألقى كل مسلم ما كان بيده مما انتهب، وعاد إلى سيفه يسلّه ليقاتل به ولكنّ هيهات هيهات لقد تفرّقت الصفوف، وتمزّقت الوحدة، بعد أن كانت تقاتل تحت لواء قيادة قويّة حازمة حكيمة، وهي الآن أصبحت تقاتل ولا قيادة لها، فلم يكن عجباً أن ترى مسلماً يضرب مسلماً بسيفه، وهو لا يكاد يعرفه.

__________________

(١) ولعلّه نجح لذلك بإدارتهم على ظهر جبل اُحد حتّى دخل المعسكر من هذا المعبر.

٣٤٩

النداء بنعي النّبي:

والذي زاد في الطّين بلّة وأعان على تمّزق الصفوف، وتفرّق المسلمين عن ساحة الحرب، ولجوئهم إلى مخابئ الجبل وثناياه، سماعهم خبراً مكذوباً يهتف بموت النّبي، إذ نادى أحد المشركين أنّ محمّداً قد قتل، فعند ذلك سقط ما في أيدي المسلمين، وتفرّقوا في كل وجه، وصعدوا الجبل، والتجاؤا إلى المخابئ، فلم يبق إلّا الأقل القليل من أصحابه.

هذه هي الحالة التّي صار إليها المسلمون. وأمّا المشركون، فقد امتلأوا فرحاً وطرباً، واستنهضت هممهم كل يريد أن يشفي غليله بالمساعدة على الإجهاز على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفي هذه المرحلة الرهيبة كيف يتصوّر حال النبيّ ؟ فهو بين تجرّع مرارة جلاء أصحابه من ساحة القتال، وبين مضض هجوم عدوّه بشراسة وحماسة تجاه موقعه وموضعه الّذي ربض فيه.

فلم يصمد معه في ساحة المعركة إلّا شرذمة قليلة، وعلى رأسهم ابن عمّه عليِّ بن أبي طالب، وأبو دجانة سمّاك بن خرشة، وكلّما حملت طائفة على رسول الله استقبلهم عليٌّعليه‌السلام ، فدفعهم عنه حتّى تقطّع سيفه، فدفع إليه رسول الله سيفه ذا الفقار، وانحاز رسول الله إلى ناحية جبل اُحد، فصار القتال من وجه واحد، فلم يزل عليٌّ يقاتلهم حتّى أصابه في رأسه ووجهه ويديه سبعون جراحاً. كان عليٌّ يدافع عن ساحة النّبي، والنّبي يريد اللجوء إلى جانب الجبل، كان النّبي على هذه الحالة إذ عرفه أحد أصحابه وهو كعب بن مالك، عرفه من عينيه وهما تزهران من تحت المغفر، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . فأشار إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أن أنصت(١) وإذا أردت أن تقف عن كثب على حقيقة الحال، وعلى ما حاق

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٨٣، والمغازي للواقدي: ج ١ ص ٢٣٦.

٣٥٠

بالمسلمين من محنة وبلاء، وتقرّق وتشتّت، وهبوط معنويّاتهم، وخوار عزائمهم، فاستمع إلى هذا النص الّذي يرويه لنا ابن هشام حيث يقول:

انتهى أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيدالله، في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: مايجلسكم ؟ قالوا: قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ استقبل القوم، فقاتل حتّى قتل، وبه سمّي أنس بن مالك(١) .

قد كان يوم أحد يوم بلاء ومحنة وتمحيص. أكرم الله تعالى فيه من أكرم بالشّهادة، ومحص فيه من لم يكن له ثبات عزم، وقوّة شكيمة في الدّفاع عن حريم الإسلام.

ولأجل فرار المسلمين، وجلائهم ساحة المعركة رشق العدو بالحجارة وجه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فاثقلوه جراحاً، فشجوا وجهه، وكسروا رباعيته، ولولا أنّ هنالك رجلاً مخلصين لنجدته، لقضي الأمر، ولكنّه سبحانه كتب على نفسه نصر المؤمنين، وإعزاز الرّسول، وتمكين دعوته.

إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مشى وحوله لفيف من أصحابه إلى فم الشعب، فلمّا استقرّ به الحال جاء عليٌّ بماء غسل عن وجه النبيّ الدّم، وصبَّ على رأسه وكان النبيّ يقول: اشتدّ غضب الله على من أدمى وجه نبيّه، ونزع أبو عبيدة بن الجراح حلقتي المغفر من وجه الرّسول، فسقطت ثنيّتاه. ولـمـّا وقف المسلمون على أمر النبيّ، وعلموا موضعه تقاطروا عليه تترى من كل جانب، والتفّوا حوله.

وأمّا قريش فطارت بنصرها سروراً، وحسبت نفسها أنّها انتقمت لبدر أشدّ الإنتقام، حتّى بعد ما وقفوا على أنّ النبيّ حي لم يقتل، وحينما أراد أبوسفيان الإنصراف أشرف على الجبل ثمَّ صرخ بأعلى صوته فقال: إنّ الحرب سجال يوم بيوم

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٨٣.

٣٥١

أعل هبل ـ أي أظهر دينك ـ فأمر رسول الله أصحابه أن يقولواً: الله أعلى وأجلّ لا سواه، قتلانا في الجنّة، وقتلاكم في النار.

وقال أبوسفيان: « إنّ لنا العزّى ولا عزّى لكم ».

فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجيب أصحابه ويقولوا: « الله مولانا ولا مولى لكم ».

ثُمَّ رجعت قريش إلى أثقالهم، وركّبوا الأثقال، فتركوا ساحة المعركة. فخرج المسلمون يتبّعون قتلاهم، فلم يجدوا قتيلاً إلّا مثلوا به، إلّا حنظلة كان أبوه مع المشركين فترك له، ووجدوا حمزة بن عبد المطلب عم النبيّ قد بقر بطنه، وحملت كبده، احتملها وحشي، وهو قتله، يذهب بكبده إلى هند بنت عتبة في نذر نذرته حين قتل أباها يوم بدر. وأقبل المسلمون على قتلاهم يدفنونهم ثُمَّ رجعوا إلى المدينة. فلمّا دخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أزقّتها إذا النوح والبكاء في الدور. فقال: ما هذا ؟ قالوا: هذه نساء الأنصار يبكين على قتلاهنّ. وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين سمع البكاء: لكنّ حمزة لا بواكي له، واستغفر له. فسمع ذلك سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن رواحة، فمشوا في دورهم، فجمعوا كل نائحة وباكية كانت بالمدينة للبكاء على حمزة.

وعند ذلك بدت شماتة اليهود وقالوا: لو كان نبيّاً ما ظهروا عليه، ولا اُصيب منه ما اُصيب. وقال المنافقون للمسلمين: لو كنتم أطعتمونا ما أصاب الذي أصابوا منكم.

ثُمَّ قدم رجل من أهل مكّة على رسول الله، فاستخبرهم عن أبي سفيان وأصحابه، فقال: نازلتهم، فسمعتهم يتلاومون يقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئاً أصبتم شوكة القوم وحدّهم، ثمّ تركتموهم ولم تبروهم، فقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فلمّا كان الغد من يوم اُحد أذّن مؤذّن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في المسلمين بطلب العدو، واستنفرهم لمطاردته على أن لايخرج إلّا من حضر الغزوة، وخرج المسلمون، فوقع في روع أبي سفيان أنّ أعداءه جاءوا من المدينة بمدد

٣٥٢

جديد، فخاف لقاءهم، وبلغ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حمراء الأسد(١) فأقام بها ثلاثة أيّام. فكان أبوسفيان وأصحابه بالروحاء، فمرّ به معبد الخزاعي، وكان قد مرّ بالنبيّ ومن معه، فسأل عن شأنهم، فقال: إنّ محمداً قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرّقون عليكم تحرّقاً، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق شيء لم أر مثله.فلمّا سمع أبو سفيان مقالة معبد، خاف على نفسه وأصحابه، فشدّ عزيمته على الرجوع قول صفوان بن اُميّة حيث قال: إنّ محمداً واصحابه قد غضبوا، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان، فارجعوا، فرجعوا إلى مكّة.

وقد قتل من المسلمين في ساحة اُحد تسعة وأربعون رجلاً، وقتل من المشركين ستّة عشر رجلاً(٢) .

هذه إطلالة سريعة على غزوة اُحد تعرّضنا لذكرها ليكون معيناً على فهم ما ورد حول هذه الغزوة من آيات الذكر الحكيم، فانّ ما ورد في المغازي والسّيرة بمثابة القرائن التي يستعان بها على رفع إجمال الآيات وما اُبهم معناه منها. وإليك إستعراض ما ورد في الذكر الحكيم مع الاشارة إلى ما يستفاد منها من عبر وعظات:

١ ـ حنكة النبيّ العسكريّة:

قد أوضحت الخاتمة التي آل إليها مصير المسلمين قيمة ما ألزم به النبيّ الرماة حيث قال: « إحموا لنا ظهورنا فإنّا نخاف أن نؤتى من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه وإن رأيتمونا نهزمهم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا، ولا تدفعوا عنّا، أللّهم إنّي اُشهدك عليهم، واُرشقوا خيلهم بالنّبل ».

__________________

(١) موضع على ثمانية أميال من المدينة.

(٢) لاحظ السيرة النبويّة لابن هشام: ج ١ ص ٨٥ ـ ١٠٥، ومغازي الواقدي: ج ١، ٢٣٩ ـ ٢٤٩، ودلائل النبوة: ص ٢١٢ ـ ٢١٩ وغيرها.

٣٥٣

ولكنّ ياللأسف إنّ الرماة خالفوا الرّسول وعصوه، فبقيت ثلّة منهم في موقفهم، ونزل كثير منهم من الجبل للنّهب وجمع الثروة، حتّى جاء خالد بن الوليد، فقتل من بقي منهم، ثّم دخل ساحة المعركة من دون مقاومة تذكر، فأعمل السيف فيهم.

وهذا إن دَلّ على شيء فإنّما يدلّ على حنكة النبيّ العسكريّة أوّلاً، وعلى وجود حالة عدم الرضوخ التامّ بين أصحابه لأوامره ثانياً، حيث أوّلوا أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بتأويلات لغاية إشباع نهم شهواتهم بجمع المال، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:

( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / ١٥٢ ).

وإليك تحليل ما تضمّنته هذه الآية:

أقوله سبحانه:( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ) يدل على أنّه سبحانه وعدهم بالنصر، ولعلّ النصر هو ما ورد في قوله سبحانه:

( بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) ( آل عمران / ١٢٥ ).

نعم وعد سبحانه بالإنتصار بشرطين لا مطلقاً، وقد ألمحت الآية إليهما في قوله:

١ ـ( إِن تَصْبِرُوا ) .

٢ ـ( وَتَتَّقُوا ) .

ولكنّ الرماة المستقرّين على الهضبة لم يصبروا، ولم يتّقوا مغبّة مخالفة الرّسول، فآثروا حطام الدّنيا على الآخرة.

٣٥٤

ب ـ قوله سبحانه:( حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ) يدلّ على أنّه طرأ الفشل عليهم، وتنازعوا في أمر البقاء والمغادرة، وعصوا أمر الرّسول، وكان منهم من يطمح في نيل حطام الدّنيا، ومنهم من آثر الآخرة وطاعة الرّسول على نيل شهوات الدّنيا.

ج ـ ولكنّ رحمته الواسعة شملتكم، فكفّكم عن المشركين بعد ظهور الفشل والتّنازع والمعصية، وعفى عن عصيانكم كما يدلّ عليه قوله:

( ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ) .

د ـ ليبتليكم: أي كان هذا الخلاف مَحَكّاً قَويّاً لتمييز الطالب للدّنيا عن طالب الآخرة، بل لتمييز المؤمن عن المنافق، والمؤمن الراسخ في إيمانه الثّابت على عزيمته، من المتلوّن السريع الزوال، ومع ذلك فإنّ الله سبحانه عفا عنهم بفضله كما قال:

( وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ ) .

٢ ـ تصدّع جيش المسلمين وإنحلال زمامه:

لقد مَرَّ بك أنّ خالد بن الوليد باغت المسلمين من ورائهم، وقد وضعوا سيوفهم على الأرض، والتهوا بجمع الغنائم، فعند ما رأوا سيوف العدو على رؤوسهم، وبريق أسنّة رماحهم أصابهم الذهول، وتفرّقوا في كلّ حدب وصوب، فتركوا ما كان بأيديهم، وصعدوا الجبل من دون أن يلتفتوا ورائهم إلى النبيّ والمؤمنين، وأنّهم تركوه أثناء المعركة الطاحنة، مع أنّ النبيّ كان يدعوهم بقوله: إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، وهم لا يلتفتون، فعند ذلك ملأت قلوبهم الهموم بعضها أشّد من بعض، همّ الإنتكاسة الغير المرتقبة، ثمّ همّ فقد الأحبّة والأعزّة، ثمّ تعالى صوت الناعي بقتل النبيّ الأكرم، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:

( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا

٣٥٥

بِغَمٍّ لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / ١٥٣ ) وإليك تحليل ما تضمّنته الآية:

في قوله سبحانه:( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ ) تلويح بفرارهم عن ساحة الحرب كما أنّ قوله:( وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ) إشارَة إلى النداءات الّتي تعالت من فم النبيّ في تلك الأثناء، تدعوهم للصمود والثّبات في المعركة:

وقوله:( فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ) إشارة إلى تراكم الغموم والهموم والآلام على قلوب المسلمين، وقوله:( لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ ) إشعار بأنّ الغموم بلغت حدّاً نسوا معه ما فاتهم من الغنائم.

٣ ـ على أعتاب الردّة

لم تكن زلّة القوم منحصرة بالفرار وإخلاء ساحة المعركة، وترك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بين يدي المشركين، ومخالفة الرماة أوامره، بل بلغ أمرهم إلى أبعد من ذلك غوراً، حيث طرأ على قلوبهم ظنون أهل الجاهليّة، فظنّوا من الظنون الّتي لا يليق بتصوّرها إلّا أهل الجاهلية، حيث انتابتهم حالة من الشكّ، وإلى ذلك ونحوه يشير قوله سبحانه:( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( آل عمران / ١٥٤ ).

ولأجل الوقوف على المزيد ممّا تضمّنته الآية الشريفة السابقة نتناول التعرّض لها جملة بعد جملة.

١ ـ( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ) .

٣٥٦

النّعاس ما يسبق النوم من فتور واسترخاء، وربّما يسمّى بالنّوم الخفيف، وقد نزل النّعاس، وغشى طائفة من القوم ولم يعمّ الجميع بقرينة قوله:( يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ) ، وكان هذا النّعاس بمثابة الرحمة بعد الغمّ الذي اعتراهم، فأزال عنهم الخوف بغلبة النوم ليستردّوا ما فقدوا من القوّة، وما عرض لهم من الإرهاق والتّعب والضعف.

وكلمة( نُّعَاسًا ) يدلّ من قوله( أَمَنَةً ) للملازمة بين الأمنة والنوم، وقد قيل: الأمن منوّم والخوف مسهّر، وأمّا من هؤلاء الّذين غشيهم النّعاس دون غيرهم ؟ فيحتمل أن يكونوا هم الّذين رجعوا إلى رسول الله بعد الإنهزام والانكسار لـمّا ندموا وتحسّروا، فهؤلاء بعض القوم، وهم النادمون على ما فعلوا، الراجعون إلى النبيّ، المحتفّون به، وكان ذلك حينما وصل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى فم الشعب، ووقفت تلك الطائفة على أنّ النبيّ لا زال على قيد الحياة لم يقتل، فرجعوا إليه يتقاطرون تترىٰ.

٢ ـ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ) وهذه طائفة اُخرىٰ من المؤمنين لا من المنافقين، فإنّهم فارقوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن معه في أثناء الطريق وانخذلوا، ولهم شأن آخر سينبّئ الله سبحانه بهم بعد ذلك، وهذه الطائفة الثانية الموصوفة بـ( أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ) لم يكرمهم الله بما أكرم به الطائفة الاُولى من العفو، وإثابة الغمّ ثمّ الأمنه والنّعاس، بل وكّلهم إلى أنفسهم، ونسوا كلّ شيء، ولم يهتمّوا إلّا بأنفسهم.

وهذه الطائفة قد استولى عليهم الخوف، وذهلوا عن كلّ شيء سواهم، ولـمـّا لم يكن الوثوق بالله ووعده رسوله وصل إلى قرارة أنفسهم، لأنّهم كانوا مكذّبين للرّسول في قلوبهم لا جرم عظّم الخوف لديهم، وحقّ عليهم ما وصفهم الله به:

أ ـ( يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) فكانوا يبطنون في قرارة أنفسهم: « لو كان محمد نبيّاً حقّاً ما سلّط الله عليه الكفّار » وهذه مقالة لا يتفوّه بها إلّا من دان بالكفر.

٣٥٧

ب ـ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ) والظّاهر أنّ المراد من الأمر هو الظّفر والنّصر في كلا الموردين، والمقصود من الضمير في( لَنَا ) هؤلاء بما أنّهم يشكّلون جزءاً من المسلمين وإن لم يكونوا منهم حقيقة، والمعنى:

يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار والإستهجان: « هَلْ لَنَا مِنَ النَّصْرِ وَالفَتْحِ والظّفر نصيب » ؟! يعنون أنّه ليس للمسلمين ( لنا ) من ذلك شيء، وإنّ الله سبحانه لا ينصر محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله وبما أنّ النّصر وكون الدّين حقّاً كانا متلازمين عندهم، فاستنتجوا أنّ الدعوة المحمّديّة ليست حقّاً.

ثمّ إنّه سبحانه أجابهم في معرض تناول ذكرهم بقوله:

( إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ ) أي كلّ الاُمور بيده سبحانه حتّى النّصر والهزيمة، وإليه دعى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو معتقد المسلمين، ولكن بمقتضىٰ حكمته وسننه الّتي وضعها لتسيير شؤون الخلق، وربط فيها الأسباب بالمسبّبات، فهو وإن وعد رسله بقوله:

( كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( المجادلة / ٢١ ).

وقال:( وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) ( الصافّات / ١٧٣ ).

ولكنّ تحقّق هذا الوعد مرهون بتوفّر الأسباب الكفيلة بالنصر، فإنّه سبحانه هو الذي وضع سنّة الأسباب والمسبّبات، فما كان سببه أقوى كان وقوعه أرجح سواء في ذلك الحقّ والباطل والخير والشر والهداية والضلالة والعدل والظلم، ولا فرق فيه بين المؤمن والكافر، والمحبوب والمبغوض، ومحمد وأبي سفيان، ولأجل ذلك كلّما توافقت الأسباب العاديّة على تقدّم هذا الدين وظهور المؤمنين كان النصر حليفهم، وحيث لم تتوافق الأسباب كتحقّق نفاق أو معصية لأمر النبيّ أو فشل أو جزع كانت الغلبة والظهور للمشركين على المؤمنين، وكذلك الحال في أمر سائر الأنبياء مع النّاس.

وإنّكم أيّها المنضوون تحت لواء المسلمين قد عصيتم أمر الرسول،

٣٥٨

ولم تأتمروا بأمره، فأخليتم مواقعكم عاصين لأمره وآثرتم حطام الدّنيا والأدنى الخسيس، ومع ذلك تترقّبون النصر لكم والهزيمة للعدو ! فكيف يقتطف الثمرة من لم يغرس شجرتها أو غرسها ولم يقم بأمرها ؟

ثم إنّه سبحانه بعد هذه الإجابة يأخذ بتبيين ما كان يخامرهم من الأفكار الفاسدة.

ج ـ( يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) .

الظّاهر أنّ قولهم:( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ ) تفسير للموصول في( مَّا لا يُبْدُونَ ) والفرق بين ما كانوا يظهرونه وما يضمرونه واضح، فقد كانوا يتظاهرون بالاستفسار في قولهم: « هل لنا من الأمر شيء » لغاية التشكيك، وهي وإن كانت فكرة خاطئة ولكن لـمّا غلّفت بطابع الإستفسار لم تكن ذات بأس شديد.

ولكنّهم كانوا يخفون قولهم:( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) يريدون بذلك الاستدلال على بطلان الدعوة المحمّدية بحجّة الانكسار لأنّ النبيّ الأكرم كان يقول: الأمر بيد الله وأنا رسوله، فلو كان ما يدّعيه حقّاً بأنّ الأمر كان بيد الله لا بيد الآلهة والأرباب المعبودة بين الناس وكان محمّد من جانبه لعمّنا النصر، ولكنّه النهاية كانت على العكس من ذلك، فكيف يمكن أن يكون الأمر بيد الله غير مقسّم على الآلهة والأرباب المدبّرة للاُمور بزعمهم.

ولأجل أنّ تلك الفكرة كانت فكرة أهل الشرك والوثنيّة سمّاها سبحانه( ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) .

ولكنّهم تناسوا ما جرت عليه سنّته الحكيمة، فإنّ الأمر بيد الله ولكنّها تجري وفق الأسباب والمسبّبات، فمن لم يأخذ بأسباب النصر لم يكن حليفه.

ثمّ إنّه سبحانه أجاب عن تلك الفكرة بوجوه ثلاثة:

٣٥٩

الأوّل: ( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ) فالآجال محدودة والأعمار مؤقتّة بوقت لا تتعدّاه، فإن قتل من قتل منكم في المعركة ليس دليلاً على عدم كون الأمر بيد الله أو أنّ الدعوة المحمّديّة ليست على حق، بل لأجل القضاء الإلهي الّذي لا مناص من الوقوع في نفوذه وامضائه، فقد كان في قضائه اضطجاع هؤلاء في هذه المضاجع، فلو لم تكونوا خرجتم إلى القتال لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فلا مفرّ من الأجل المسمّى الّذي إذا حان لا يتقدّم ساعة ولا يتأخّر.

الثاني والثالث: ( وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ) أي وقع ما وقع في غزوة اُحد لظهور ما انطوت عليه سريرة كلّ نفس حتّى يتميّز المؤمن من المنافق والمجاهد من المتقاعد، وقد جرت سنّة الله على عموم الابتلاء والتمحيص وهي حاكمة على جميع الاُمم لغاية التمحيص.

نعم ليست الغاية من ابتلائه سبحانه لعباده هو التعرّف لما يكمن في ضمائرهم فإنّه سبحانه عليم بالسرائر مطّلع على الضمائر لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، بل الغاية هي الإبتلاء والتمحيص ووصول كلّ ما بالقوّة إلى الفعل من الكفر والإيمان، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) .

وحصيلة البحث: انّ هذه الآية تشير إلى فريقين من المسلمين والمؤمنين الملتفّين حول الرسول المتنكّبين عَن المنافقين.

( أحدهما ): طائفة وهبهم الله عزّ وجلّ بعد الغمّ نعاساً أمنة منه لإزالة ما انتابهم من الروع والخوف والتفّوا حول الرسول بعد الندم.

( ثانيهما ): طائفة شغلتهم أنفسهم لا يتجاوز تفكيرهم نطاق ذاتهم من دون أن يتوجّهوا قيد طرفة صوبَ قائدهم ونبيّهم، وقد اعترتهم هواجس الجاهليّة الاُولى، فتارة يتفوّهون بها علانية بنحو من الشك والترديد والاستفسار بقولهم:( هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْء ) واُخرى بصورة الجزم والقطع واليقين بنحو الاخفاء والاسرار

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581