مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265857 / تحميل: 6070
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

(٥)

بعثته ونزول الوحي إليه

«بَعَثَ اللهُ سُبْحانَهُ نَبِيَّهُ الأَكْرَم عَلَى حِينِ فَتَرةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ هَجعَةٍ مِنَ الاُمَمِ، وَاعْتِزَام مِنَ الفِتَنِ وَانتِشَارٍ مِنَ الأُمُورِ، وَتَلَظٍّ مِنَ الحُروبِ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرةُ الغُرورِ، عَلى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، وإياسٍ مِن ثَمرِهَا، وَاغوِرَار مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ مَنَار الهُدى، وَظَهَرتْ اَعلامُ الرَّدى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأَهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبَها، ثَمَرُهَا الفِتْنَةُ، وَطَعَامُهَا الجِيفَةُ، وَشِعارُهَا الخَوْفُ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ » (١) .

بعث على رأس الأربعين من عمره، وبُشّر بالنبوّة والرسالة، وأمّا الشهر الذي بعث فيه، ففيه أقوال وآراء، فالشيعة الإمامية تبعاً لأئمّة أهل البيت: على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث في سبع وعشرين من رجب.

روى الكليني عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: لا تدع صيام يوم سبع وعشرين من رجب فإنّه اليوم الذي نزلت فيه النبوّة على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وروى أيضاً عن الإمام الكاظمعليه‌السلام أنّه قال: بعث الله عزّ وجلّ محمّداً رحمة للعالمين في سبع وعشرين من رجب(٣) .

روى المفيد عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: في اليوم السابع والعشرين من رحب نزلت النبوّة على رسول الله، إلى غير ذلك من الروايات(٤) .

وأمّا غيرهم فمن قائل بأنّه بعث في سبعة عشر من شهر رمضان أو ثمانية عشر أو أربع وعشرين من هذا الشهر أو في الثاني عشر من ربيع الأوّل.

__________________

(١) إقتباس من كلام الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة الخطبة ٨٥، طبعة عبده.

(٢) و (٣) البحار: ج ١٨ ص ١٨٩ ـ نقلاً عن الكافي وأمالي ابن الشيخ.

(٤) البحار: ج ١٨ ص ١٨٩ ـ نقلاً عن الكافي وأمالي ابن الشيخ.

١٠١

وبما أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت، كيف وهم نجوم الهدى ومصابيح الدجى وأحد الثقلين الذين تركهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعده، فيجب علينا الوقوف دون نظرهم ولا نجتازه، نعم دلّ الذكر الحكيم على أنّ القرآن نزل في شهر رمضان قال سبحانه:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) ( البقرة / ١٨٥ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ( القدر / ١ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) ( الدخان / ٣ ).

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على نزوله في شهر رمضان.

والإستدلال بهذه الآيات على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث في شهر رمضان مبني على إقتران البشارة بالنبوّة، بنزول القرآن وهو بعد غير ثابت، فلو قلنا بالتفكيك وأنّه بعث في شهر رجب، وبشّر بالنبوّة فيه، ونزل القرآن في شهر رمضان، لما كان هناك منافاة بين بعثته في رجب، ونزول القرآن في شهر رمضان.

ويؤيّد ذلك أي عدم اقتران النبوّة بنزول القرآن ما نقله غير واحد عن عائشة: إنّ أوّل ما بدء به رسول الله من النبوّة حين أراد الله كرامته، الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رؤيا في نومه إلّا جاءت كفلق الصبح، قالت: وحبّب الله تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحبّ إليه من أن يخلو وحده(١) .

لكن الظاهر من ذيل ما روته عائشة أنّ النبوّة كانت مقترنة بنزول الوحي والقرآن الكريم، ولنذكر نص الحديث بتمامه ثمّ نذيّله ببيان بعض الملاحظات حوله.روى البخاري: « كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يخلو بغار حراء، فيتحنّث فيه وهو التعبّد في الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاء الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد ثمّ أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني

__________________

(١) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣، السيرة النبوية: ج ١ ص ٣٣٤.

١٠٢

فقال: إقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثالثة ثمّ أرسلني، فقال:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) (١) .

وفي هذه الرواية تأمّلات واضحة:

١ ـ ما هو المبرّر لجبرئيل أن يروّع النبي الأعظم، وأن يؤذيه بالعصر إلى حدٍّ أنّه يظن انّه الموت ؟ يفعل به ذلك وهو يراه عاجزاً عن القيام بما يأمره به، ولا يرحمه ولا يلين معه ؟

٢ ـ لماذا يفعل ذلك ثلاث مرات لا أكثر ولا أقل ؟

٣ ـ لماذا صدّقه في الثالثة، لا في المرّة الاُولى ولا الثانية مع أنّه يعلم أنّ النبي لا يكذب ؟

٤ ـ هل السند الذي روى به البخاري قابل للإحتجاج مع أنّ فيه الزهري وعروة.

أمّا الزهري فهو الذي عرف بعمالته للحكام، وإرتزاقه من موائدهم، وكان كاتباً لهشام بن عبد الملك ومعلّماً لأولاده، وجلس هو وعروة في مسجد المدينة فنالا من عليٍّ، فبلغ ذلك السجادعليه‌السلام حتى وقف عليهما فقال: أمّا أنت يا عروة فإنّ أبي حاكم أباك، فحُكِم لأبي على أبيك، وأمّا أنت يا زهري فلو كنت أنا وأنت بمكّة لأريتك كن أبيك(٢) .

أمّا عروة بن الزبير الذي حكم عليه ابن عمر بالنفاق وعدّه الاسكافي من التابعيين الذين يضعون أخباراً قبيحة في عليّعليه‌السلام (٣) .

نعم رواه ابن هشام والطبري في تفسيره وتاريخه(٤) بسند آخر ينتهي إلى

__________________

(١) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣.

(٢) أي بيت أبيك.

(٣) الصحيح من سيرة النبي الأعظم: ص ٢٢٣.

(٤) السيرة النبوية: ج ١ ص ٢٣٥، تفسير الطبري: ج ٣٠ ص ١٦٢، وتاريخه: ج ٣ ص ٣٥٣.

١٠٣

أشخاص يستبعد سماعهم الحديث عن نفس الرسول الأكرم ودونك أسماؤهم:

١ ـ عبيد بن عمير، ترجمه ابن الاثير، قال: ذكر البخاري أنّه رأى النبي وذكر مسلم أنّه ولد على عهد النبي وهو معدود من كبار التابعين يروي عن عمر وغيره(١) .

٢ ـ عبد الله بن شداد، ترجمه ابن الأثير وقال: ولد على عهد النبي، روى عن أبيه وعن عمر وعليّ(٢) .

٣ ـ عائشة، زوجة النبي، حيث تفرّدت بنقل هذا الحديث ومن المستبعد جداً أن لا يحدّث النبي هذا الحديث غيرها مع تلهف غيرها إلى سماع أمثال هذا الحديث.

نعم ورد مضمون الحديث في تفسير الإمام العسكريعليه‌السلام ونقله من أعلام الطائفة ابن شهر آشوب في مناقبه(٣) أو المجلسي في بحاره(٤) .

لكن الكلام في صحّة نسبة التفسير الموجود إلى الإمام العسكريعليه‌السلام وأمّا المناقب فإنّه يورد الأحاديث والتواريخ مرسلة لا مسندة، والمجلسي اعتمد على هذه المصادر التي عرفت حالها.

وبذلك يظهر أنّه لا دليل على أنّ البشارة بالنبوّة كانت مقترنة بنزول القرآن، وبذلك ينسجم نزول القرآن في شهر رمضان مع كون البعثة في شهر رجب، نعم أورد العلّامة الطباطبائي على هذه النظرية بقوله: إذا بعث النبي في اليوم الثاني والعشرين من شهر رجب وبينه وبين شهر رمضان أكثر من ثلاثين يوماً فكيف تخلو البعثة في هذه المدّة من نزول القرآن ؟ على أنّ سورة العلق أوّل سورة نزلت على رسول الله وأنّها

__________________

(١) اُسد الغابة: ج ٣ ص ٣٥٣.

(٢) نفس المصدر: ج ٤ ص ١٨٣.

(٣) مناقب آل أبي طالب: ج ١ ص ٤٠ ـ ٤٤.

(٤) بحار الأنوار: ج ١٨ ص ١٩٦.

١٠٤

نزلت بمصاحبة البعثة(١) .

يلاحظ على ما ذكر:

١ ـ انّ الوجه الأوّل من كلامه مجرّد استبعاد، فأيّ إشكال في أن يكون النبي قد بشّر بالنبوّة ونزِّل القرآن بعد شهر وبضعة أيام.

٢ ـ وأمّا الوجه الثاني فلأنّ الروايات نطقت بأنّها أوّل سورة نزلت وليس فيها ما يدلّ على اقتران نزولها بأوّل عهد البعثة.

سؤال وإجابة:

إذا كان القرآن نازلاً في شهر رمضان فإنّ معناه أنّ مجموعه نزل في هذا الشهر مع أنّه نزل قرابة مدّة ثلاثة وعشرين سنة فكيف التوفيق بين هذين الأمرين ؟

وأمّا الإجابة فقد اُجيب عنه بأجوبة نذكرها واحداً تلو الآخر.

الأوّل: إنّ للقرآن نزولين: نزول دفعي وقد عبّر عنه بلفظ الإنزال الدال على الدفعة، ونزول تدريجي وهو الذي يعبّر عنه بالتنزيل. قال سبحانه:( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) ( هود / ١ ) فإنّ هذا الإحكام في مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً، وقطعة قطعة، والإحكام كونه على وجه لا يتفصّل فيه جزء من جزء ولا يتميّز بعض من بعض، لرجوعه إلى معنى واحد، لا أجزاء ولا فصول فيه، فعلى ذلك فالقرآن نزل دفعة واحدة على قلب النبي الأعظم، ثمّ صار ينزل تدريجياً حسب المناسبات والوقائع والأحداث(٢) .

وعلى ذلك فلا مانع من نزول جميع القرآن في شهر رمضان نزولاً دفعياً، ثمّ نزوله نحو ما في بضعة وعشرين سنة.

__________________

(١) تفسير الميزان: ج ٢ ص ١٣.

(٢) الميزان: ج ٢ ص ١٤ ـ ١٦.

١٠٥

ويلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مبني على الفرق بين « الإنزال » و « التنزيل »، وأنّ الأوّل عبارة عن النزول الدفعي، والثاني عن النزول التدريجي مع أنّه لا دليل عليه، فإنّ الثاني أيضاً استعمل في النزول الدفعي. قال تعالى حاكياً عن المشركين:( وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) ( الاسراء / ٩٣ ).

وقال تعالى:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ( الفرقان / ٣٢ ) فلو كان التنزيل هو النزول التدريجي فلماذا وصفه بقوله: « جملة واحدة ».

الثاني: إنّ القرآن نزل دفعة واحدة إلى البيت المعمور حسب ما نطقت به الروايات الكثيرة ثمّ صار ينزل تدريجياً على الرسول الأعظم.

روى حفص بن غياث عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال سألته عن قول الله عزّ وجلّ:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) وإنّما اُنزل في عشرين بين أوّله وآخره، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام « نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثمّ نزل في طول عشرين سنة »(١) .

ولو صحّت الرواية يجب التعبّد بها، وإلّا فما معنى نزول القرآن الذي هو هدى للناس إلى البيت المعمور، وأيّ صلة بهذا النزول بهداية الناس الذي يتكلّم عنه القرآن ويقول:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) ؟

قال الشيخ المفيد:

« الذي ذهب إليه أبو جعفر(٢) حديث واحد لا يوجب علماً ولا عملاً ونزول

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن: ج ١ ص ١٨٢، والدر المنثور: ج ٦ ص ٣٧٠.

(٢) مراده الصدوق، وقد ذهب إلى أنّ القرآن قد نزل في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلى البيت المعمور، ثمّ انزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة.

١٠٦

القرآن على الأسباب الحادثة حالاً لا يدلّ على خلاف ما تضمّنه الحديث، وذلك أنّه قد تضمّن حكم ما حدث، وذكر ما جرى على وجهه، وذلك لا يكون على الحقيقة إلّا لحدوثه عند السبب، الخ.

ثمّ استعرض آيات كثيرة نزلت لحوادث متجددة(١) .

الثالث: إنّ القرآن يطلق على الكلّ والجزء، فمن الممكن أن يكون المراد بنزول القرآن في شهر رمضان هو شروع نزوله في ليلة مباركة وهي ليلة القدر، فكما يصحّ نسبة النزول إليه في شهر رمضان إذا نزل جملة واحدة، تصحّ نسبتة إليه إذا نزل أوّل جزء منه في شهر رمضان واستمرّ نزوله في الأشهر القادمة طيلة حياة النبي.

فيقال: نزل القرآن في شهر رمضان أي بدأ نزوله في هذا الشهر، وله نظائر في العرف، فلو بدأ فيضان الماء في المسيل يقال جرى السيل في يوم كذا وإن استمرّ جريانه وفيضانه عدّة أيام.

وهذا هو الظاهر من صاحب « المنار » حيث يقول: وأمّا معنى إنزال القرآن في رمضان مع أنّ المعروف باليقين أنّ القرآن نزل منجّماً في مدّة البعثة كلّها، فهو أنّ إبتداء نزوله كان في رمضان، ذلك في ليلة منه سمّيت ليلة القدر أي الشرف، والليلة المباركة كما في آيات اُخرى. وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه، على أنّ لفظ القرآن يطلق على هذا الكتاب كلّه ويطلق على بعضه.

الرابع: إنّ جملة القرآن وإن لم تنزل في تلك الليلة، لكن لـمّا نزلت سورة الحمد بها وهي تشتمل على جلِّ معارف القرآن، فكأنّ القرآن اُنزل فيه جميعاً فصحّ أن يقال: إنّا اَنزلناه في ليلة القدر.

يلاحظ عليه: أنّه لو كانت سورة الحمد أوّل سورة نزلت على رسول الله لكان حق الكلام أن يقال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، أو يقال:

__________________

(١) تصحيح الإعتقاد: ص ٥٨.

١٠٧

بسم الله الرحمن الرحيم، قل: الحمد لله ربّ العالمين(١) .

وهذا يعرب عن أنّ سورة الحمد ليست أوّل سورة نزلت على النبي.

هذه هي الوجوه التي ذكرها المفسّرون المحقّقون والثالث هو الأقوى.

أوّل ما نزل على رسول الله:

ذكر أكثر المفسّرين أنّ أوّل سورة نزلت على رسول الله هي سورة العلق، وتدل عليه روايات أئمّة أهل البيت. روى الكليني عن الصادقعليه‌السلام قال: أوّل ما نزل على رسول الله( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) وآخر سورة هو قوله:( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ) ومثله عن الإمام الرضاعليه‌السلام (٢) .

ولعلّ المراد نزول آيات خمس من أوّلها لا جميع السورة.

لأنّ قوله سبحانه في نفس تلك السورة:( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ *عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ ) لا يناسب أن تكون أوّل ما نزل، بل هو حاك عن وجود تشريع للصلاة، ووجود من يقيمها حتّى واجه نهي بعض المشركين، وهذا لا يتّفق مع كونه أوّل ما نزل.

أساطير وخرافات

دلّت الأدلة العقلية والآيات القرآنية على أنّ الأنبياء مصونون عن الخطأ والإشتباه في تلقّي الوحي أوّلاً، وضبطه ثانياً، وإبلاغه ثالثاً وأنّهم لا يشكّون فيما يلقى في روعهم من أنّه ربّ العالمين وأنّ ما يعاينونه رسول إله العالمين، والكلام كلامه، لا يشكّون في ذلك طرفة عين ولا يتردّدون بل يتلقّونه بنفس مطمئنة.

__________________

(١) الميزان: ج ٢ ص ٢١ ـ ٢٢.

(٢) البرهان في تفسير القرآن: ج ١ المقدّمة الباب الخامس عشر ص ٢٩، وتاريخ القرآن للزنجاني: ص ٣٠.

١٠٨

هذا هو القرآن الكريم يذكر كيفيّة بدء نزول الوحي إلى موسى وأنّه تلقّاه بلا تردّد ولا تريّث. بذكره في سور مختلفة:

يقول:( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ *إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى *وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ *إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَٰهَ إلّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي *إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ *اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ *قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي *وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي *وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي *يَفْقَهُوا قَوْلِي *وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي *هَارُونَ أَخِي *اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي *وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي *كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا *وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا *إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا ) ( طه / ١١ ـ ٣٥ ).

ترى أنّ الكليم عندما فُوجئ بنزول الوحي، تلقّاه بصدر رحب، ولم يتردّد في أنّه وحيه سبحانه وأمره، ولذلك سأل سبحانه أن يشرح له صدره، وييسر له أمره، ويحلّ العقدة التي في لسانه، ويجعل له وزيراً من أهله، يشدّ به أزره ويشركه في أمره.

يقول سبحانه:( فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *يَا مُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( النحل / ٨ ـ ٩ ).

وجاءت هذه القصة في سورة القصص على وفق ما وردت في السورتين(١) .

ومن لاحظ هذه الآيات يقف على أنّ موقف الأنبياء من الوحي هو موقف الإنسان المتيقّن المطمئنّ إليه، وهذه خاصّة تعمّ جميع الأنبياء:

نرى أنّه سبحانه يذكر رؤية النبي الأكرم، ومواجهته لمعلّمه الذي وصفه القرآن بـ « شديد القوى ».

يقول:( إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحَىٰ *عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ *ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ *وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَىٰ *ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ *فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ

__________________

(١) القصص: ٢٩ ـ ٣٥.

١٠٩

مَا أَوْحَىٰ *مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ *أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ) ( النجم / ٤ ـ ١٢ ).

فأي كلمة أصرح في توصيف إيمان النبي واذعانه في مجال الوحي ومواجهة أمينه من قوله سبحانه:( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) أي صدق القلب عمل العين. ويحتمل أن يكون المراد، ما رآه الفؤاد.

قال العلّامة الطباطبائي:

فالمراد بالفؤاد، فؤاد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وضمير الفاعل في « ما رأى » راجع إلى الفؤاد، والرؤيا رؤيته ولابدع في نسبة الرؤية وهي مشاهدة العيان إلى الفؤاد، فإنّ للإنسان نوعاً من الإدراك الشهودي وراء الإدراك بإحدى الحواسّ الظاهرة، والتخيّل والتفكّر بالقوى الباطنة كما أنّنا نشاهد من أنفسنا أنّنا نرى وليست هذه المشاهدة العيانية رؤية بالبصر ولا معلوماً بالفكر، وكذا نرى من أنفسنا أنّنا نسمع ونشمّ ونذوق ونلمس، ونشاهد أنّنا نتخيّل ونتفكّر، وليست هذه الرؤية ببصر أو بشيء من الحواسّ الظاهرة أو الباطنة(١) .

فالله سبحانه يؤيّد صدق النبي فيما يدّعيه من الوحي ورؤية آيات الله الكبرى، سواء كانت بالعين أو بالفؤاد.

وعلى كل تقدير فهذه الآيات وغيرها تدلّ على أنّ الأنبياء وغيرهم لا يشكّون ولا يتردّدون فيما يواجهون من الاُمور الغيبيّة.

وعلى ضوء ذلك تقف على أنّ ما ملأ كتب السيرة وبعض التفاسير في مجال بدء الوحي وأنّه تردّد النبي وشكّ عندما بشّر بالنبوّة وشاهد ملك الوحي وامتلأ روعاً وخوفاً إلى حدّ حاول أن يلقي نفسه من شاهق، وعاد إلى البيت فكلّم زوجته فيما واجهه، وعادت زوجته تسلّيه وتقنعه بأنّه رسول ربّ العالمين، وأنّ ما رآه ليس إلّا أمراً حقّاً.

إذ كل ذلك أساطير وخرافات، تناقض البراهين العقليّة وما يتلقّاه الإنسان

__________________

(١) الميزان: ج ١٩ ص ٣٠.

١١٠

من قصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم، وقد دسّها الأحبار والرهبان وسماسرة الحديث والقصّاصون في كتب القصص والسير والحديث، ونحن نكتفي في المقام بما ذكره البخاري في صحيحه وابن هشام في سيرته، فإنّ استقصاء كل ما ورد حول هذا الموضوع من الروايات المدسوسة يدفع بنا إلى تأليف رسالة مفردة، ولكن فيما ذكرنا غنىً وكفاية. قال البخاري:

( بعد ذكر نزول أمين الوحي عليه في جبل حراء ) « فرجع بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد ( رضي الله عنها ) فقال: زمّلوني زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة ـ واخبرها الخبر ـ لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلاّ والله ما يخزيك الله أبداً إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكل وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عمّ خديجة، وكان أمرئً تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعاً ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمخرجي هم ؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل قطّ بمثل ما جئت به إلّا عودي، وان يدركني يومك، أنصرك نصراً مؤزّراً ثمّ لم ينشب(١) ورقة أن توفّي وفتر الوحي »(٢) .

هذا ما لدى البخاري، وأمّا صاحب السيرة النبوية فبعدما ذكر مسألة الغتّ ينقل عن النبي أنّه قال:

« فخرجت حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول:

__________________

(١) أي لم يلبث.

(٢) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣.

١١١

يا محمّد، أنت رسول الله وأنا جبرئيل، قال: فوقفت أنظر إليه، فما أتقدّم وما أتأخّر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، قال: فلا أنظر في ناحية منها إلّا رأيته كذلك، فما زلت واقفاً، ما أتقدّم أمامي، وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا على مكّة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك، ثمّ انصرف عنّي وانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها، فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت ؟ فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكّة ورجعوا إليّ، ثمّ حدّثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عمّ واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده إنّي لأرجو أن تكون نبيّ هذه الاُمّة ».

ثمّ يذكر انطلاق خديجة إلى ورقة بن نوفل، وما أجابها به ورقة بنفس النص الذي ذكره البخاري ثمّ يذكر لقاء النبي ورقة بن نوفل، وهو يطوف بالكعبة، فسأله ورقة بما رأى وسمع، فأخبره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنّك لنبيّ هذه الاُمّة.

ثمّ عقبه بذكر ما قامت به خديجة من إمتحان صدق نبوّته فذكر أنّها قالت لرسول الله: أي ابن عمّ، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا إذا جاءك ؟ قال: نعم. قالت: فإذا جاءك فاخبرني به، فجاءه جبرئيل، فقال رسول الله لخديجة: هذا جبرئيل قد جائني، قالت: قم يا بن عمّ فاجلس على فخذي اليسرى، قال: فقام رسول الله فجلس عليها، قالت: هل ترى ؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل فاجلس على فخذي اليمنى، فجلس على فخذها اليمنى، فقالت: هل تراه ؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل واجلس في حجري، فتحوّل فجلس في حجرها، قالت هل تراه، قال: نعم، فتحسّرت وألقت خمارها ورسول الله جالس في حجرها، ثم قالت له: هل تراه ؟ قال: لا.

قالت: يا ابن عم أثبت وابشر، فو الله هذا ملك وما هذا بشيطان(١) .

وقال الطبري ـ بعد ما ذكر نزول جبرئيل إليه وتعليم آيات من سورة العلق ـ

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٢٣٧ ـ ٢٣٩، وتاريخ الطبري: ج ٢ ص ٤٩ ـ ٥٠.

١١٢

ثمّ دخلت على خديجة وقلت: زمّلوني زمّلوني حتى ذهب عنّي الروع، ثمّ أتاني وقال: يا محمّد، أنت رسول الله.

قال: لقد هممت أن أطرح نفسي من حالق من جبل فتبدّى لي حين هممت بذلك، فقال: يا محمّد، أنا جبرئيل وأنت رسول الله، ثمّ قال: إقرأ، قلت: ما اقرأ ؟ قال: فأخذني فغتني ثلاث مرات حتّى بلغ منّي الجهد ثمّ قال: اقرأ باسم ربّك الذي خلق، فقرأت فأتيت خديجة، فقلت: لقد أشفقت على نفسي، فأخبرتها خبري فقالت: أبشر فو الله لا يخزيك الله أبداً، ووالله إنّك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدّي الأمانة، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ، ثمّ انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل بن أسد، فقالت: اسمع من ابن أخيك، فسألني فأخبرته خبري، فقال: هذا الناموس الذي اُنزل على موسى بن عمران .

نظرة تحليلية حول هذه النصوص:

إنّ هذه النصوص التاريخية التي نقلها المشايخ كالبخاري وابن هشام والطبري، وتلقّاها الآخرون من بعدهم على أنّها حادثة متسالم عليها تضاد ما يستشفه الإنسان من التدبّر في حالات الأنبياء في القرآن الكريم وتناقض البديهة العقلية، وإليك بيان ما فيها من نقاط الضعف وعلائم الجعل والتهافت:

١ ـ إنّ النبوّة كما عرفت منصب إلهي لا يفيضه الله إلّا على من امتلك زخماً هائلاً من القدرات الروحية والقوى النفسية العالية حتّى يقوى على معاينة الوحي، ومشاهدة الملائكة، فعندئذٍ فلا معنى لما ذكره البخاري: « لقد خشيت على نفسي » أفيمكن أن ينزل الوحي الإلهي على من لا يفرّق بين لقاء الملك، ولقاء الجنّ ومكالمتهما حتى يخشى على نفسه الجنون أو الموت ؟

٢ ـ وأسوأ منه ما ذكره الطبري من أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله همّ أن يرمي بنفسه من شاهق من جبل، فندم عليه ورجع عنه حين سمع كلام جبرئيل يا محمّد أنا جبرئيل.

١١٣

إنّ هذا الكلام يعرب من أنّ نفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن نفساً مستعدّة لتحمّل الوحي على حدٍّ، همّ أن يقتل نفسه بالإلقاء من حالق، وهل هذا هو إلّا نفس الجنون الذي كان المشركون يصفونه به طيلة بعثته، فوا عجباً نسمعه من أعوانه وأنصاره ومن لسان زوجته.

٣ ـ إنّ قول خديجة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّا والله ما يخزيك الله أبداً، تعرب من أنّها كانت أوثق إيماناً بنبوّته من نفس الرسول. فهل يمكن التفوّه بذلك، وما حاجة النبي الأعظم الذي قال تعالى في حقّه:( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) ( النساء / ١١٣ ) إلى هذا التسلّي ؟

وهل يصحّ ويتعقّل للنبيّ أنّ يشكّ في رسالة نفسه حتى يستفتي زوجته فيزول شكّه بتصديقها ؟

٤ ـ ذكر البخاري: أنّ خديجة انطلقت مع رسول الله إلى ورقة، فأخبره رسول الله بما وقع، فأجاب ورقة بما ذكره، وأنّ ما نزل عليه هو الناموس الذي نزّله الله على موسى.

ومعنى هذا أن يكون ورقة أعلم بالسرّ المودع في قلب رسول الله من نفسه، كما أنّ معنى ذلك أنّ كلاًّ من الزوجين كانا شاكّين في صحّة الرسالة، فانطلقا إلى متنصّر وقرأ وريقات من العهدين حتى يستفتياه ليزيل عنهما حجاب الشكّ وغشاوة الريب.

٥ ـ إنّ معنى ما ذكره البخاري من أنّ ورقة أخبر النبي بأنّه: يسخر منك قومك، وتعجّب الرسول من هذا الكلام وقال: أوَ مخرجي هم ؟ كون المرسل إليه أعلم من الرسول وأفضل منه.

٦ ـ إنّ ما ذكره ابن هشام من « أنّ الرسول كلّما رفع رأسه إلى السماء لينظر ما رأى إلّا رجلاً صافّاً قدميه في اُفق السماء، فلا ينظر في ناحية من السماء إلّا رآه فيها » يشبه كلام المصابين في عقولهم وشعورهم، والمختلّين في أفكارهم، فلا يرون في

١١٤

كل جهة إلّا الصورة المتخيّلة، لطغيانها على مخيّلتهم وشعورهم، أعاذنا الله من إكالة الشنائع بمقام النبوّة، بنحو لا يليق بساحة العاديين من الناس فضلاً عن النبي الأكرم خاتم النبّيين.

٧ ـ انظر إلى امتحان خديجة لبرهان النبوّة فإنّ ظاهرها أنّها كانت شاكّة في نبوّة زوجها، ولكنّها استحصلت اليقين على الوجه الذي سمعته في كلام ابن هشام والطبري، ولكن أيّ صلة بين رفع الخمار وإلقائه وعدم رؤية جبرئيل، وهل لرفع الخمار وتعرية شعر الرأس تأثير في غياب أمين الوحي عن البيت ؟

نرى أنّه سبحانه ينقل في غير سورة من سور القرآن الكريم مكالمة الملائكة زوجة الخليل وتبشيرها بالولد. فهل يمكن لنا أن نقول بعد ذلك: إنّ زوجة الخليل لو كانت مكشوفة الرأس لامتنعت الملائكة من دخول بيت الخليلعليه‌السلام (١) .

٨ ـ إنّ ورقة بن نوفل على حدّ تصريح نصّ الرواية كان بادي بدئه نصرانيّاً بعد ما كان مشركاً، فمقتضى الحال أن يشبّه الرسول الأعظم بالمسيح الذي كان يعتقد بنبوّته، لا بالكليم. أو ليس هذا يعرب عن لعب يد الأحبار في الخفاء في اصطناع هذه الأحاديث ودورهم في تشويش صفاء رسالة الرسول الأعظم بأمثال هذه الأساطير والمهاترات والخرافات ؟

٩ ـ نحن على ثقة ويقين بأنّ النبوّة منصب إلهي لا يتحمّله إلّا الأمثل والأكمل فالأكمل من الناس، ولا يقوم بأعباء مهامّها إلّا من امتلك قدرة روحيّة خاصّة تبعث في نفسه الإذعان والتسليم، والإنقياد حينما يتمثّل له رسول ربّه وأمين وحيه، فلا تأخذه المسكنة ولا يستولي عليه الخوف عند سماع كلامه ووحيه، وقد درسنا وضع الكليم عندما فوجئ بالوحي فما حاق به الروع ولا أحاط به الخوف، ولا همّ بإلقاء نفسه إلى غير ذلك ممّا ورد في هذه الروايات، وبما أنّ القرآن هو المرجع الفصل في تمييز الصحيح من الزائف في جملة هذه الروايات، يحتّم علينا إعراض

__________________

(١) لاحظ هود / ٧١ ـ ٧٣، الذاريات / ٢٩.

١١٥

الصفح عنها، وضربها عرض الجدار، مضافاً إلى ما فيها من التناقض والإختلاف في حكاية القصّة كما هو معلوم لمن تدبّر فيها وتأمّل نصّها.

فرية إنقطاع الوحي وفتوره

وقفت على ما في الروايات السابقة من الوضع والدسّ بهدف تشويه صفاء صورة رسالة النبي الأكرم فهلمّ معي نتناول فريّة اُخرىٰ حيكت على المنوال السابق، وللغاية نفسها، وهي مسألة إنقطاع الوحي بعد نزول آيات من سورة العلق، أو سورة المدّثّر، أو سورة الحمد على إختلاف في أوّل سورة نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد حازت هذه الفريّة على نصيب من الإهتمام والتقدير في كتب السيرة والتفسير حتى أنّ الدكتور محمد حسنين هيكل، أرسلها إرسال المسلّمات في كتابه بقوله: « انتظر هداية الوحي إيّاه في أمره، وإنارة سبيله، فإذا الوحي يفتر، واذا جبرئيل لا ينزل عليه، إلى أن قال: وقد روي أنّ خديجة قالت له: ما أرىٰ ربّك إلّا قد قلاك، وتولّاه الخوف والوجل، فهما يبعثانه من جديد، يطوي الجبال وينقطع في حراء يرتفع بكل نفسه ابتغاء وجه ربّه، يسأله: لم قلاه بعد أن اصطفاه، ولم تكن خديجة بأقلّ منه إشفاقاً ووجلاً ويتمنّى الموت صادقاً لولا أنّه كان يشعر بما اُمر به، فيرجع إلى نفسه، ثمّ إلى ربّه، ولقد قيل: إنّه فكّر في أن يلقي بنفسه من أعلى حراء أو أبي قبيس وأيّ خير في الحياة، وهذا أكبر عمله فيها يدوي وينقضي، وأنّه لذلك تساور هذه المخاوف، إذ جاءه الوحي بعد طول فتوره إذ نزل عليه بقوله تعالى:( وَالضُّحَىٰ *وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ *مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ *وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَىٰ *وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ *أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ *وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَىٰ *وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ *فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ *وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ *وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) ( سورة الضحى )(١) .

هذا ما يذكره رجل مثقّف في القرن العشرين في حقّ النبي الأكرم، فما ظنّك

__________________

(١) حياة محمد:صلى‌الله‌عليه‌وآله ص ١٣٨.

١١٦

بغيره ممّن سبقه من الذين يتعبّدون بالروايات ولا يحيدون عن شاذّها وسقيمها قيد أنملة وقدر شعرة، وأصل هذه الفرية يرجع إلى كتب السيرة والتفسير، وإليك ما يذكره واحد من اُولئك من أمثال الطبري حيث يصرّح في تفسيره بما نصّه:

١ ـ عن ابن زيد: إنّ هذه السورة نزلت على رسول الله تكذيباً من الله قريشاً في قيلهم لرسول الله لـمّا أبطأ عليه الوحي: « قد ودّع محمّداً ربّه وقلاه ».

٢ ـ عن ابن عبد الله: لـمّا أبطأ جبرئيل على رسول الله، فقالت امرأة من أهله أو من قومه: ودّع الشيطان محمّداً، فأنزل الله عليه:( وَالضُّحَىٰ ـ إلى قوله ـمَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ) .

٣ ـ عن جندب البجلي: أبطأ جبرئيل على النبي حتّى قال المشركون ودّع محمّداً ربّه، فأنزل الله:( وَالضُّحَىٰ ) ، وعنه قالت امرأة لرسول الله: ما أرى صاحبك إلّا قد أبطأ عنك، فنزلت هذه الآية.

وفي رواية اُخرى عنه: ما أرى شيطانك إلّا قد تركك.

٤ ـ عن عبد الله بن شدّاد: إنّ خديجة قالت للنبي: ما أرىٰ ربّك إلّا قد قَلاك، فأنزل الله( وَالضُّحَىٰ ) .

٥ ـ وعن قتادة: إنّ جبرئيل أبطأ عليه بالوحي، فقال ناس من الناس: ما نرى صاحبك إلّا قد قلاك فودّعك، فأنزل الله:( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ) .

٦ ـ عن ضحّاك: مكث جبرئيل عن محمّد، فقال المشركون: قد ودّعه ربّه.

٧ ـ عن ابن عروة، عن أبيه قال: أبطأ جبرئيل على النبي، فجزع جزعاً شديداً، وقالت خديجة: أرىٰ ربّك قد قلاك، ممّا نرى من جزعك، قالت: فنزلت( وَالضُّحَىٰ ) (١) .

يلاحظ على هذه الروايات وعلى فرية فترة إنقطاع الوحي عدّة اُمور:

١ ـ إنّ هذه الروايات التي ملأت التفاسير وكتب السير، رويت عن اُناس

__________________

(١) تفسير الطبري: ج ٣٠ ص ١٤٨.

١١٧

لا يركن إليهم كقتادة والضحّاك فإنّهما كانا يأخذان تفسير القرآن عن أهل الكتاب(١) . وجلّها بل كلّها مرسلة غير مسندة إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ ـ إنّها اختلفت في القائل الذي شَمِت برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: « ودّعك ربّك » فربّما يسند إلى امرأة من أهله أو قومه وأخرى إلى المشركين، وثالثة إلى طائفة من الناس، ورابعة إلى زوجته خديجة.

إنّ نسبة هذا القول إلى زوجته الطاهرة التي آمنت به يوم بعثته، وقد عرفت فضائله وملكاته النفسيّة عن كثب، بعيداً جداً.

٣ ـ إنّها إختلفت في مدة الفترة. قال ابن جريج: احتبس عنه الوحي إثنى عشر يوماً، وقال ابن عباس: خمسة عشر يوماً، وقيل: خمسة وعشرين يوماً، وقال مقاتل: أربعين يوماً(٢) ، وفي فتح الباري: أنّه كان ثلاث سنين(٣) كما في السيرة الحلبية وفيها أيضاً: إنّها كانت سنتين ونصفاً، وعلى قول: سنتين، إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة التي تحكي عن اضطراب في الرواية والنقل.

٤ ـ إختلفت الرواية في سبب الفترة وانقطاع الوحي.فتارة زعموا أنّ سببها هو أنّ اليهود سألوا رسول الله عن مسائل ثلاث: عن أصحاب الكهف وعن الروح وعن قصّة ذي القرنين، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : سأخبركم غداً ولم يستثنِ، فاحتبس عنه الوحي، فقال المشركون ما قالوا، فنزلت(٤) .

واُخرى قالوا: إنّ عثمان أهدى إليه عنقود عنب، وقيل: عذق تمر، فجاء سائل فأعطاه، ثمّ اشتراه عثمان بدرهم، فقدّمه إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) لاحظ آلاء الرحمن في تفسير القرآن: ج ١، ص ٤٦، يقول: إنّ الضحّاك بن مزاحم فقد ضعّفه يحيى بن سعيد، وكان يروي عن ابن عباس، وأنكر ملاقاته له حتى قيل: إنّه ما رآه قط، وأمّا قتادة فقد ذكروا: أنّه مدلّس.

(٢) تفسير القرطبي: ج ٢٠ ص ٩٢.

(٣) السيرة الحلبية: ج ١ ص ٢٦٢.

(٤) روح المعاني: ج ١٠ ص ١٥٧، نقله عن جمع من المفسّرين.

١١٨

ثانياً، ثمّ عاد السائل فأعطى وهكذا ثلاث مرّات، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله ملاطفاً لا غضبان: أسائل أنت يا فلان أم تاجر ؟ فتأخّر الوحي أيّاماً فاستوحش فنزلت.

وثالثة: رووا عن ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني وابن مردويه من حديث خولة، وكانت تخدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ جرواً دخل تحت سرير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمات ولم تشعر به، فمكث رسول الله أربعة أيّام لا ينزل عليه الوحي، فقال: يا خولة ! ما حدث في بيت رسول الله ؟ جبرئيل لا يأتيني ! فقلت يا نبي الله ما أتى علينا يوم خير من هذا اليوم، فأخذ برده فلبسها وخرج، فقلت في نفسي لو هيّأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا بشيء ثقيل فلم أزل به حتى بدا لي الجرو ميّتاً، فأخذته بيدي فألقيته خلف الدار، فجاء النبي ترعد لحيته، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة، فقال يا خولة دثّريني، فأنزل الله تعالى:( وَالضُّحَىٰ *وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ ) (١) .

ورابعة: انّ المسلمين قالوا: يا رسول الله مالك لا ينزل عليك الوحي ؟ فقال: وكيف ينزل عليّ وأنتم لا تنقّون رواجبكم، وفي رواية: براجمكم، ولا تقصّون أظفاركم، ولا تأخذون من شواربكم، فنزل جبرئيل بهذه السورة، فقال النبي: ما جئت حتى اشتقت إليك، فقال جبرئيل: وأنا كنت أشدّ إليك شوقاً، ولكنّي عبد مأمور، ثمّ أنزل عليه:( وَمَا نَتَنَزَّلُ إلّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) ( مريم / ٦٤ )(٢) .

إنّ الإضطراب في أسباب فتور الوحي يعرب عن عدم صحّة الرواية.

أمّا الأوّل: فلو صحّ فيلزم كون زمان إنقطاع الوحي في العام السابع من البعثة لأنّ قريشاً أرسلت النضر بن الحارث وابن أبي معيط إلى أحبار اليهود يسألانهم عن النبي الأكرم، وقالا لهم: إنّكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهم أحبار اليهود: سلوهُ عن ثلاث نأمركم بهنّ، فجاؤوا إلى رسول الله، وقالوا: يا محمّد أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل، قد كانت لهم قصّة عجب ،

__________________

(١) روح المعاني: ج ١٠ ص ١٥٧.

(٢) تفسير القرطبي: ج ٢٠ ص ٩٣، ومجمع البيان: ج ١٠ ص ٥٥ ( طبع صيدا ).

١١٩

وعن رجل كان طوّافاً قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي ؟ فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أخبركم بما سألتم عنه غداً ولم يستثن، فانصرفوا عنه(١) .

نحن ننزّه ساحة النبي الأكرم الذي نشأ نشأة الأنبياء في عالم مليء بالطهر والقداسة، أن يخبرهم على وجه قاطع بأنّه سيجيبهم غداً على أسئلتهم تلك فمن أين علم أنّه سبحانه ينزل الوحي عليه غداً ؟ أو أنّه سبحانه يجيب عن أسئلتهم عن طريق الوحي ؟

وأمّا الثاني: فهو أشبه بالقصص الموضوعة، فهل من المعتاد أن يباع عنقود عنب ثلاث مرّات في السوق، ومثله عذق تمر ؟ ولعلّ الجاعل كان يهدف إلى إختلاق الفضائل لعثمان فحسب أنّ هذا الموضع مناسب له.

وأمّا الثالث: فبعيد جدّاً، إذ كيف يمكن أن يموت الجرو تحت سرير النبي أو في زاوية من البيت ولا يلتفت إليه ؟ على أنّ ظاهر الرواية أنّ إنقطاع الوحي كان بعد تلقّي النبي لنزول الوحي مدّة مديدة حيث إنّ خولة قالت: « وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة » فإنّ ذلك يعرب عن أنّ الحادثة كانت في أزمنة متأخّرة من بدء البعثة، مع أنّ المشهور أنّها كانت في بدء البعثة ـ أي بعد نزول سورة العلق أو آيات منها ـ.

وأمّا الرابع: فهو أشبه بحمل النبي وزر الغير، فإنّ عدم قصّ المسلمين شواربهم، أو عدم تنظيف رواجبهم لا يكون سبباً لإنقطاع الوحي، قال سبحانه:( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) ( الأنعام / ١٦٤ ).

هذه الوجوه كلّها تدفع بنا إلى القول: بأنّ مسألة انقطاع الوحي فرية تاريخيّة صنعتها يد الجعل والوضع لغاية أو غايات خاصّة، ولم يكن هناك أيّة فترة، وإنّما المسألة كانت بصورة اُخرى:

__________________

(١) السيرة النبويّة لإبن هشام: ج ١، ص ٣٠١.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

١ ـ إستحواذ القلق عند مرابطة الأحزاب:

إنّ الآية الاُولى ترسم لنا كيفيّة نزول الأحزاب على المدينة وأنّهم جاءوها من أعاليها وأسافلها، فقد جاءت قبيلة غطفان وبني النضير من الجانب الشرقي للمدينة وهي الجهة العليا وجاءت قريش ومن انضم إليهم من الأحابيش وكنانة من الجانب الغربي وهي الجهة السفلى، وإليه يشير قوله سبحانه:( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) .

كما أنّها تعكس الحالة النفسية التي عايشها المسلمون أثناء تطويق المدينة وهم على طوائف:

١ ـ من مالت أبصارهم عن كل شيء فلم تنظر إلّا إلى عدوّهم مقبلين من كل جانب.

٢ ـ من شخّصت قلوبهم من مكانها ولولا أنّه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت.

٣ ـ من ظنّ بالله ظنّ الجاهلية متقوّلين بأنّ الكفّار سيغلبون وسيستولون على المدينة وبالتالي ينمحق الدين وتعود الجاهلية أدراجها الاُولىٰ.

وإلى هذه الحالات الثلاث أشارت الآية بجملها الثلاث:

أ ـ( وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ ) .

ب ـ( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ ) .

ج ـ( وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ) .

والجملتان الأوّليتان كناية عن مبلغ استحواذ الخوف والهلع عليهم حتى انتقل بهم إلى حالة شبيهة بالإحتضار التي يزيغ فيها البصر وتبلغ القلوب الحناجر.

وأمّا الجملة الثالثة: فلم تكن تشير إلى عموم المسلمين بل تستعرض حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض، فهؤلاء ظنّوا بالله ظنّ الجاهلية، كما يدل عليه

٣٨١

صريح لفظها حيث تضمّنت ما لفظه:

( وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلّا غُرُورًا ) .

والمراد من قوله:( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) ضعفاء الإيمان من المسلمين وهم غير طائفة المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر والشرك وإنّما يسمّون محمّداً رسولاً لمكان اظهارهم الإسلام.

وأمّا الوعد الذي وعدهم الله ورسوله به هو أنّه كان يكرّر قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( التوبة / ٣٣ ).

ولو افترضنا نزول الآية بعد غزوة الخندق فقد كان النبي يعدهم أنّه يفتح مدائن كسرى وقيصر خصوصاً عند حفر الخندق على ما في كتب السير والتواريخ(١) .

قال ابن هشام:

وعظم عند ذلك البلاء، واشتدّ الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتّى ظنّ المسلمون كلّ ظنّ ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال بعضهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب للتخلّي.

وأيم الله كانت هذه الغزوة كاُختها أي غزوة اُحد تمحيصاً وغربلة وتمييزاً للمؤمن الواقعي عن المنافق المتظاهر بالإيمان كما تشير إليه الآية الثانية.

( هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا ) وإنّما استعمل كلمة هنالك مع أنّها يشارُ بها إلى البعيد لأنّ الآية نزلت بعد جلاء المعركة وأشار بها إلى زمان مجيء الجنود المتأخّر عن نزولها.

__________________

(١) السيرة النبويّة لإبن هشام: ج ٢ ص ٢١٩، لاحظ محادثة النبي لسلمان عند حفر الخندق.

٣٨٢

٢ ـ حياكة الدسائس لفتح الثغرات:

لم يكن عمل المنافقين منحصراً بإثارة القلاقل والارهاصات النفسية على ما مرّ بيانه في كلماتهم بل كان دورهم أوسع من ذلك، فقد كانوا يقومون بشن حرب نفسيّة تهدف إلى تفريق المسلمين عن الدفاع عن الخندق وكانوا يقولون للمسلمين لا وجه لإقامتكم هاهنا قبال جنود المشركين فالغلبة لهم لا محالة ولا مناص من الفرار.

وكان لفيف منهم يتذرّعون بقولهم( إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ) أي لا يؤمن عليها من السارق وزحف العدو عليها، حتّى يتملّصون ويتخلّصون من الخطر الذي يحدق بهم في ساحة المعركة. وكان هذا الكلام واجهة للفرار، وإليه يشير قوله سبحانه:

( وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إلّا فِرَارًا ) .

٣ ـ المشارفة على أعتاب الردّة:

ولقد بلغ الحال بالمنافقين والذين في قلوبهم مرض في تهاونهم بأمر التمسّك بالدين أنّه لو رجع إليهم العدو مرّة ثانية ودخل المدينة من أقطارها وأطرافها ونواحيها ثمّ سألوهم الرجوع إلى الشرك لأجابوا مسرعين ولم يتوانوا ولم يلبثوا في الاجابة إلّا زماناً يسيراً بمقدار الطلب والسؤال منهم، فالمنافقون ومن تبعهم من مرضى القلوب يتظاهرون بالإسلام مادام الرخاء سائداً والأمن حالًّا فإذا خيّمت الشدّة وحاق بهم البأس لم يلبثوا إلّا قليلاً دون الرجوع والردّة.

وهذا يعطي لنا درساً إضافيّاً بأنّ النظام الإسلامي يجب أن يرتكز في دعوته وكافّة اُموره السياسية والإجتماعية والروحية على المؤمنين الصادقين، والمعتنقين لمبادئه وأحكامه بصدق ويقين وتفان وإخلاص، يتحاشىٰ عن الركون والإعتماد على المنافقين بل يحذر منهم دائماً، ويطلب نبذهم من الحياة فإنّهم يَعِدون ولا يوفون، يبايعون وينقضون، ويحالفون ويغدرون، وهذه سجيّتهم وديدنهم، وإليه يشير

٣٨٣

قوله سبحانه:

( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً ) .

وأمّا أنّهم في أي مكان وزمان بايعوا النبى فغير معلوم، ولعلّ إيمانهم بالله ورسوله وبما جاء به من الجهاد وحرمة الفرار منه، نوع عهد لله ورسوله أن لا يولّوا الأدبار، وعلى كل تقدير فهؤلاء لا يتحمّلون المسؤولية وإن تحمّلوها بادئ بدء، رفضوها في خاتمة المطاف.

٤ ـ عدم جدوىٰ الفرار:

هؤلاء يتركون ساحة القتال وأطراف الخندق، لأجل الفرار من خطر الموت والقتل، غير أنّهم قد جهلوا سنّة الله الحكيمة القاضية بأنّه:( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف / ٣٤ ).

وقد ردّت هذه النظرية ( الفرار سبيل النجاة ) في غير واحد من الآيات، قال سبحانه:( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إلّا بِإِذْنِ اللهِ ) ( آل عمران / ١٤٥ ).

وقال سبحانه:( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ) ( آل عمران / ١٥٤ ).

ويقول في شأن أولئك الذين نكصوا على أعقابهم في معركة الخندق من المسلمين:( قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلاً ) وما ذلك إلّا لأنّ لكل نفس أجلاً، مقضيّاً ومحتوماً لا يتأخّر عنه ساعة ولا يتقدّم عنه، فالفرار على فرض التأثير لا يؤثّر إلّا قليلاً، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلاً ) .

كيف وأنّ الخير والشر تابعان لإرادته سبحانه، ولا يحول دون نفوذ إرادته شيء، فإذاً الأولى إيكال الأمر إلى إرادته والتوكّل عليه، قال سبحانه:( قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ

٣٨٤

وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) .

٥ ـ سعة علمه:

إنّ المنافقين ومن في قلبه مرض من المسلمين، ما عرفوا الله حقّ قدره، وما عرفوا أسماءه وصفاته، وأنّه عالم بكل شيء، ما تكنّه صدورهم وتضمره قلوبهم وتوحيه نفوسهم، فكيف كلامهم وأعمالهم العلنية، فقد كانوا يعيقون غيرهم من جنود المسلمين عن الجهاد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويثبّطونهم ويشغلونهم ليعرضوا عن نصرته وينصرفوا عن القتال، وكانت اليهود تساندهم في هذا الأمر ويقولون مع نظرائهم من المنافقين: لا تحاربوا وخلّوا محمداً فإنّا نخاف عليكم الهلاك، ولأجل ذلك ما كانوا يحضرون القتال إلّا رياءً أو سمعة قدر ما يوهمون أنّهم مع المسلمين ولكنّهم كانوا كارهين لكون قلوبهم مع المشركين، وإليه يشير قوله سبحانه:

( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلّا قَلِيلاً ) ( الأحزاب / ١٨ ).

٦ ـ جبناء حين البأس، شجعان حين الأمن

عجيب أمر هؤلاء ومن حذىٰ حذوهم:

فهم حين البأس جبناء، تدور أعينهم في رؤوسهم وجلاً وخوفاً، كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيته أسبابه، فعند ذاك يعذّب لبّه ويشخص بصره فلا يتحرّك طرفه.

وحين اقتسام الغنيمة أشحّاء إذا ظفر بها المؤمنون لا يريدون أن يفوتهم شيء ممّا وصل إلى أيديهم، وكان الشاعر يشير إليهم:

وفي السلم أعيار جفاءً وغلظة

وفي الحرب أمثال النساء العواتك

٣٨٥

ولهم مع ذلك كذب في القول ومراء في الكلام، فإذا كان الأمن والرخاء مخيِّما فخروا بمقاماتهم المصطنعة من النجدة والشجاعة والبأس، وإلى هذه الحالات الثلاثه يشير قوله تعالى:

( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا ) .

إلى الحالة الأولى ـ أي جبنهم في الحرب ـ يشير قوله:( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ) أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة، فهم لا يودّون مساعدتكم ولا نصرتكم لا بنفس ولا نفيس.

وإلى الحاله الثانية يشير قوله:( أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ ) أي الغنائم.

وإلى الحالة الثالثة يشير قوله:( فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ) .

وفي النهاية كتب على أعمالهم الضئيلة بالإحباط كما في قوله:( أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ ) .

وفي نهاية المطاف يتناول سبحانه هؤلاء ما هو مفاده: إنّ مقدار الجبن والهلع الذي لحق بهم، وعظيم الدهشة والحيرة التي أحاطت بهم، بلغ إلى حدٍ أنّهم يظنّون أنّ الأحزاب ما زالت مرابطة في ثكنات معسكرهم في الوقت الذي رحلوا فيه.

والذي يعرب عن عظم ما انتابهم من الوجل، أنّه لو رجعت الأحزاب تمنّوا أن لو كانوا مقيمين في البادية بعيدين عن المدينة حتّى لا ينالهم أذىٰ أو مكروه ويكتفون بالسؤال عن أخبار من قاوم من جانب المدينة، وإليه يشير قوله سبحانه:

( يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إلّا قَلِيلاً ) .

إنّه سبحانه بعد أن فصّل أحوالهم، وكشف عّما كنّته صدورهم وما أضمروه ،

٣٨٦

أبان لهم طريق الهداية مرّة اُخرى وانّهم لو راموا النجاة والسعادة فليقتدوا برسول الله وليجعلوه اُسوة لهم، قال سبحانه:

( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا ) .

* * *

حال المؤمنين الصادقين في غزوة الأحزاب

ثمّ إنّه سبحانه لما بيّن حال المنافقين ومن في قلبه مرض، ذكر حال المؤمنين الواقعيين الذين كانوا في الرعيل الأوّل في سوح الجهاد، وكيف أنّهم كانوا على طرفي نقيض من المنافقين، حيث قال سبحانه:( وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا *مِّنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً *لِّيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الأحزاب / ٢٢ ـ ٢٤ ).

إنّ قوله سبحانه( هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ ) إشارة إلى ما وعدهم النبي بأنّ الأحزاب ستجتمع شوكتهم عليهم، فلمّا شاهدوهم تبيّن لهم أنّ ذلك هو الذي وعدهم، وربّما يقال بأنّ المراد ما وعده الله ورسوله من الابتلاء والإمتحان في الآيات التي نزلت في غزوة اُحد في قوله سبحانه( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) ( البقرة / ٢١٤ ).

فتحقّقوا من ذلك أنّه سيصيبهم ما أصاب الأنبياء والمؤمنين بهم من الشدّة والمحنة التي تزلزل القلوب، وتدهش النفوس، فلمّا رأوا الأحزاب أيقنوا أنّه من الوعد الموعود وأنّ الله سينصرهم على عدوّهم.

ثمّ إنّه سبحانه وصف الكاملين من المؤمنين الذين ثبتوا عند اللقاء، واحتملوا

٣٨٧

البأساء والضرّاء في هذه الغزوة وما قبلها من الغزوات، بأنّ بعضهم استشهد يوم بدر ويوم اُحد، وبعض منهم يترقّب أجله، وإليه يشير قوله سبحانه:( مِّنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) .

والنحب: النذر المحكوم بوجوبه، يقال قضىٰ فلان نحبه، أي وفى بنذره، ويعبّر به عمّا انقضىٰ أجله، ثم إنّه سبحانه يقول: إنّ كلاًّ من المؤمن والمنافق مجزى بأعماله، قال سبحانه:( لِّيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) .

وهو سبحانه استعرض جزاء عمل الصادقين بنحو القطع والجزم بقوله:( لِّيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ ) في الوقت الذي نجد فيه أنّه تناول جزاء المنافقين بقوله:( وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ ) بالتعليق على المشيئة، وما ذلك إلّا لبيان سعة رحمته وفضله، وأنّه فسح المجال لتوبة من عصاه، وعلى ذلك يكون معنى الآية يعذّب المنافقين لو شاء تعذيبهم، فيما لم يتوبوا أو يتوب الله عليهم إن تابوا.

خاتمه المطاف:

وفى ختام الآيات يقول أنّه سبحانه: قد صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، وردّ المشركين على أدبارهم، خائبين مخذولين تختنقهم الغصّة وتؤلمهم الحسرة، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) .

النتائج التي تمخّض عنها هذا البحث فهي:

أ ـ إنّ في هذه الغزوة تحالفت الوثنية مع اليهود على أن يكون تحمّل أعباء نفقات الحرب على عاتق اليهود وكاهلهم، ويكون القتال والاصطكاك في ساحة المعركة من نصيب المشركين، وليس هذا التآمر المشترك هو الأوّل من نوعه بل له

٣٨٨

نظائر متعدّدة على امتداد التاريخ الإسلامي، فقد تحالفت الوثنية مع النصرانية في القرن السادس والسابع الهجريين، فشنّوا الغارات الشرسة على العالم الإسلامي، ومزّقوه شر ممزّق، فقد جاء التتار وهم الوثنية من الجهة الشرقية، بينما جاءت النصرانية من جانب الغرب فهجموا على البلاد، وفتكوا بأهلها فتكاً ذريعاً لم يذكر التاريخ له مثيلاً.

ب ـ إنّ الإنتصار رهن عاملين قويين: أحدها بشري والآخر غيبي.

فأمّا الأوّل وهو القيام بالتخطيط العسكري، وحفر الخندق، وحشد القوى بتمام طاقاتها، وبذل كل ما كانوا يملكونه لصدّ هجوم العدو ولم يكن التخطيط العسكري الذي انتخبه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله منحصراً بحفر الخندق، بل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في كسر جبهة الأعداء استعان بالجواسيس وبث العيون وقد كان لنعيم بن مسعود في الفتك بوحدتهم دور هام، على ما مر بيانه وربّما يوازي عمله عمل أدهى أجهزة الإستخبارات العالمية.

وأمّا الثاني وهو الغيبي فقد سلط الله عليهم الريح والبرد القارس، حتى سلبت عنهم الراحة والاستقرار والقدرة على البقاء، فهذا حذيفة بن اليمان الذى أرسله الرسول جاسوساً إلى القوم حيث قال له: اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يصنعون ولا تحدثن شيئاً، حتىٰ تأتينا، قال فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقرّ لهم قِدْراً ولا ناراً ولا بناءً، فقام أبو سفيان فقال: إحذروا الجواسيس والعيون ولينظر كل رجل جليسه، قال حذيفه فالتفتّ إلى عمرو بن العاص فقلت: من أنت، وهو عن يمينى فقال: عمرو بن العاص، والتفتّ إلى معاوية بن أبى سفيان فقلت: من أنت فقال: معاوية بن أبى سفيان، ثمّ قال أبو سفيان: إنّكم والله لستم بدار مقام، لقد هلك الخف والكراع ( إلى أن قال حذيفه ) فقام أبو سفيان وجلس على بعيره، وهو معقول ثمّ ضربه فوثب على ثلاث قوائمه فما اطلق عقاله إلّا بعد ما قام(١) .

__________________

(١) المغازي: ج ٢ ص ٤٨٩ و ٤٩٠، والسيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٢٣٢.

٣٨٩

٤ ـ غزوة بني المصطلق

بلغ رسول الله أنّ بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم « الحارث بن أبي ضرار ». فلمّا سمع بهم خرج إليهم، حتّى لقيهم على ماء لهم، يقال له: ( الـمــُــرَيسيع ) فتزاحف الناس، واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، وسبي من سبي، وقد قتل من أصحاب رسول الله رجل اسمه « هشام بن صبابة » قتله رجل من الأنصار خطأً.

فبينا رسول الله على ذلك الماء، وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له جَهْجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جَهْجاه مع رجل من الأنصار على الماء، فاقتتلا، فصرخ الأنصاري: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين. فلمّا سمع رسول الله صرختهما قال: دعوها فإنّها منتنة ـ يعني إنّها كلمة خبيثة ـ لأنّها من دعوى الجاهلية، فإنّ الله جعل المؤمنين اُخوة وحزباً واحداً، فمن دعا في الإسلام بدعوة الجاهليّة يعزّر.

ثمّ لـمّا بلغ الأمر إلى عبد الله بن اُبيّ بن سلول، وعنده رهط من قومه، فيهم: زيد بن أرقم، وهو غلام حدث، فقال ابن اُبيّ: أوَقد فعلوها، وقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش إلّا كما قال الأوّل: سَمِّن كلبك يأكلك ! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل. ثمّ أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم. فسمع ذلك

٣٩٠

زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك عند فراغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عدوّه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال: مُرْ به عبّاد بن بشر فليقتله. فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه !

وقد مشى عبد الله بن اُبيّ بن سلول إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين بلغه أنّ زيد بن أرقم قد بلّغه ما سمع منه، فحلف بالله: ما قلت ما قال ولا تكلمّت به ـ وكان في قومه شريفاً عظيماً ـ فقال من حضر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسىٰ أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، حَدَباً على ابن اُبيّ بن سلول ودفعاً عنه.

ولكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقف على أنّه إن لم يتّخذ خطة حازمة فقد يستفحل الأمر، لذلك أمر أن يؤذّن بين الناس بالرحيل في ساعة لم يكن يرتحل المسلمون فيها، وعند ذلك جاء أسيد بن حضير وقال: يا نبي الله لقد رحلت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ قال: وأي صاحب يا رسول الله ؟ قال: عبد الله بن اُبيّ قال: وما قال ؟ قال: زعم أنّه إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل، قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز. ثمّ قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله فقد جاءنا الله بك، وإنّ قومه لينظمون له الخَرز ليتوّجوه، فإنّه ليرى أنّك قد أستلبته مُلكاً.

ثمّ مشى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالناس يومهم ذلك حتّى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتّى آذتهم الشمس، ثمّ نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياماً، وإنّما فعل ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن اُبيّ.

حطّ المسلمون رحالهم بالمدينة، وفي تلك الأثناء نزلت آيات تصدّق زيداً ،

٣٩١

وتكذّب عبد الله بن اُبي، حيث قال سبحانه:

( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَٰكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ *يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( المنافقون / ٧ و ٨ ).

فلمّا نزلت هذه الآيات حسب قوم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله آمر بقتله لا محالة، فعند ذلك ذهب ابنه عبد الله ـ وكان مسلماً حسن الإسلام ـ فقال: يا رسول الله إنّه بلغني أنّك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بد فاعلاً فمرْني به، فأنا اَحمِلُ إليك راَسه، فواللهِ لقد علمتْ الخزرجُ ما كان لها من رجل أبرّ بوالده منّي، وإني أخشىٰ أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي اَنْظُر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر، فأدخل النار. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : بل نترفّق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.

تولّي قوم ابنُ اُبيّ مجازاته:

وبعد ذلك كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنِّفونه. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف ترىٰ يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قُلتَ لي اقتله، لاُرعِدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال: قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم بركة من أمري(١) .

وقال الطبرسي: وكان عبد الله بن اُبيّ بقرب المدينة، فلمّا أراد أن يدخلها جاء ابنه عبد الله بن عبد الله حتّى أناخ على مجامع طرق المدينة. فقال: مالك ويلك ؟ قال: والله لا تدخلها إلّا بإذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولتعلمنّ اليوم

__________________

(١) السيرة النبويّة لإبن هشام: ج ٢ ص ٢٨٩ ـ ٢٩٣.

٣٩٢

مَنْ الأعزّ ومن الأذلّ، فشكا عبد الله ابنه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأرسل إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن خلّ عنه يدخل، فقال: أمّا إذا جاء أمرَ رسول الله فنعم(١) .

ولـمـّا نزلت الآيات المتقدّمة وبان كذب عبد الله قيل له: إنّه نزل فيك آي شداد، فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك، فلوى رأسه ثمّ قال: آمرتموني أن اُؤمن فقد آمنت، وآمرتموني أن اُعطي زكاة مالي فقد أعطيت، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمّد، فعند ذلك نزلت الآيتان التالية:

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ *سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( المنافقون / ٥ و ٦ ).

هذه قصة غزوة بني المصطلق، وقد رواها أهل السير والمغازي والمفسّرون(٢) .

والذي يهمّنا من استعراض تلك الغزوة هو الدروس والعظات التي يمكننا أن نستخلصها، ونستفيدها منها من خلال سيرة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإليك عرض تلك النتائج:

١ ـ التخطيط للإجلاء والمقاطعة الاقتصادية:

لم يكن التخطيط لإجلاء المسلمين عن أوطانهم وأماكنهم والمقاطعة الاقتصادية شيئاً حديث النشأة في القرن العشرين، وإنّما له جذور تمتد علىٰ مرّ التاريخ، فهذا عبد الله بن اُبيّ رئيس المنافقين يعد العدّة للتآمر على المسلمين، ويسعى جاهداً لإجلائهم، وفرض مقاطعة إقتصادية عليهم، فلو شاهدنا ما يفعل بنا

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١٠ ص ٤٤٤ ( طبع بيروت ).

(٢) لاحظ تفسير الطبري: ج ٢٨ ص ٧٠ ـ ٧٥، والدر المنثور: ج ٥ ص ٢٢٢ ـ ٢٢٦، إلى غير ذلك من المصادر.

٣٩٣

نحن معاشر المسلمين على أيدى المستعمرين في بيت المقدس، وسائر بقاع المسلمين الاُخرى في أيّامنا هذه، فليس هناك محلًّا للإستغراب والدهشة والتعجّب، ولكنّ الله سبحانه وتعالى أدحض تآمرهم وأبطل أحدوثتهم وردّ كيدهم إلى نحورهم فانقلبوا خاسئين.

قال سبحانه:( وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( المنافقون / ٧ ) وقال سبحانه:( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) ( المنافقون / ٨ ).

ولكنّ ذلك مشروط بالتمسّك بعرىٰ الإيمان، والإنقطاع الكامل لله عزّ وجل، والإنقياد المطلق لأوامره ونواهيه.

قال سبحانه:( وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / ١٣٩ ) وقال عزّ اسمه:( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ إلّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) ( فصّلت / ٣٠ ).

٢ ـ تشتيت الشمل وبثّ التفرقة بين المسلمين:

إنّ عبد الله بن اُبيّ ذلك العدو اللدود للمسلمين، أراد تشتيت شمل المسلمين، بإثارة ظغائن طائفة من المسلمين على طائفة اُخرى، حتّى يشتعل فتيل الفتنة، ويحرق المسلمون بعضهم دمَ بعض بأيديهم، وتكون الخاتمة لصالح أعدائهم، حيث قال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم .

غير أنّ هذا النهج التآمري لا زال معمولاً به إلىٰ يومنا هذا، وما انفكّ عنه أعداء الإسلام طرفة عين أبداً، ومن الصور الجليّة الواضحة لهذا النهج العدائي في يومنا هذا، بثّ السموم الفكرية في أذهان أبناء الشعوب الإسلامية، وتأليب بعضهم على بعض، تحت شعارات قوميّة ووطنيّة وعرقيّة، فيحفّزون الجذور القومية للترك في قبال الجذور القومية العرقية العربية، وهكذا بالنسبة لسائر القوميات المتعدّدة التي تدين

٣٩٤

بالإسلام علىٰ امتداد رقعته الشاسعة.

وبذلك تمكّنوا من الفتك والإجهاز علىٰ الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف، والتي تمكّنت من الظهور بالمسلمين كدولة عظمى في العالم لها سيادتها، وثقلها في تقرير الأوضاع السياسية في العالم.

٣ ـ حنكة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في اجتياز الأزمة:

في خضمّ ذلك الموقف الحرِج، أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يؤذّن في الناس بالرحيل في ساعة لم يألفوا الرحيل فيها، مع أنّ ابن اُبيّ أسرع بالمثول أمام يديه، والتنكّر ممّا بدر منه ونسب إليه، ولكن ذلك لم يؤثّر على قرار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرحيل شيئاً، بل انطلق بالناس يجوب الفيافي والقفار، طيلة يومهم حتّى أمسوا، وطيلة ليلتهم حتّى أصبحوا، وصدر يومهم الثاني حتّى آذتهم الشمس، فلمّا نزل الناس لم يلبثوا حتّى غلبهم النعاس، ونسوا حديث ابن اُبيّ، وهذا يعطي لكل قائد محنّك درساً من لزوم امتصاص ما انتاب نفوسهم من أفكار خاطئة، واجتثاث جذورها بصرفها إلىٰ اُمور اُخرى، تستولي علىٰ منافذ فكرهم، فتشذَّ أذهانهم عنهم إلىٰ التشاغل باُمور اُخرىٰ، ولو لم يقم بذلك لبقيت آثار تلك الرواسب الفكرية في أذهانهم، ولأثرّت على مستقبل الدعوة، ووحدة صف المسلمين.

٤ ـ سعة صدر النبي وتريّثه وتلبّثه:

لـمـّا أطلع زيد بن أرقم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ما قاله عبد الله بن اُبيّ، صدّقه في نقله، ولـمـّا مثل ابن اُبيّ بين يديه، وأنكر ما أبلغه زيد بن أرقم، فلم يكذّبه، وربّما كانت هذا الظاهرة التي تمثّل بها النبي في ذلك الموقف، أمراً مثيراً للتساؤل، ولأجل ذلك انتهز المنافقون الفرصة لانتقاد النبي، واتهامه بالتساهل والتواني في القضاء علىٰ خصومه، ولكنّ المنافقين قد غفلوا عن أصل رصين، واُسّ مكين تبتني عليه الحنكة القياديّة، وقد قال أمير المؤمنينعليه‌السلام بهذا

٣٩٥

الصدد: « آلة الرئاسة سعة الصدر »(١) .

وإنّ التسرّع في الحكم والقضاء، وإن أصاب الواقع لا يخلو من نتائج غير محمودة، خصوصاً إذا لم يتّضح الأمر بعد لعموم المسلمين، فقد اختار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التريّث حتّى تنكشف حقيقة المسألة للجميع، فيكون النبي معذوراً ومحقّاً إذا أخذ في حق ابن اُبيّ حكماً حاسماً.

٥ ـ مقابلة الإساءة بالإحسان:

لـمـّا أخبر زيد بن أرقم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بما تقوَّل به عبد الله ابن اُبيّ، اقترح عمر بن الخطاب على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقتله ولكنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أجابه بقوله: « فكيف يا عمر، إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه »، فقد أبدىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في جوابه هذا حنكة وسياسة رصينة أدحض بذلك المقولة التي تنصّ علىٰ « أنّ كل ثورة ستجتثّ جذور أبطالها ». وعدوّ الله عبد الله بن اُبيّ وإن لم يكن في واقع أمره مسلماً واقعيّاً، ولكنّه كان معدوداً منهم، ومن أشرافهم، فلو قتله النبي لتسرّب الريب إلى سائر نفوس المسلمين.

وقد جازىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الإساءة بالإحسان، عند ما جاء ابنه إلى النبي، وقال: « إنّه بلغني أنّك تريد قتل عبد الله بن اُبيّ، فإن كنت لا بدّ فاعلاً فامرني به ».

ولكنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أجابه بقوله: بل نترفّق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا.

اُنظر إلى هذه السماحة النبويّة، وروعة عفوها وجلالها، فهو يترفّق بمن ناصبه العداء، وأَلّب قلوب أهل المدينة عليه، فيكون رفقه وعفوه أبعد أثراً عن عقوبته، لو أنه

__________________

(١) نهج البلاغة قسم الحكم برقم ١٧٦.

٣٩٦

عاقبها به، وعند ذلك توجّه النبي إلى عمر بن الخطاب: كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لاُرعِدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.

قال عمر: والله علمت لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم بركة من أمري.

وفي الختام انظر إلى كلام ابن عبد الله، فهو على ايجازه يعبّر عن حالة نفسية اصطدمت فيها روح الإنشداد إلى الدين، والذوبان في كيانه العظيم، مع وشائج الارتباط العاطفي بوالده، فلا يمكن له الجمع بينهما، ولكنّه يعلم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يصدر إلّا عن الوحي، ولا يأمر إلّا بالحق، وعند ذلك طلب من النبي أن يقوم بنفسه بقتله لو استحقّ القتل، ولا يفوّض القيام به إلى الغير، خوفاً من أن تحمله العواطف، والوشائج إلى قتل قاتل أبيه، وفي قتل المسلم دخول النار والعذاب المقيم.

٦ ـ العزّة لله ولرسوله:

إنّ عبد الله بن اُبيّ أوهم الناس بأنّ العزّة للمشركين والمنافقين، والذل والهوان للمسلمين والمؤمنين، ولكنّ الوحي أبطل أوهامه تلك، بقوله:

( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .

فصدق الخبر المخبر، حتّى وقف ابن عبد الله بن اُبيّ على باب المدينة، فقال لأبيه: والله لا تدخلها إلّا بإذن رسول الله ولتعلمنّ اليوم من الأعزّ، ومن الأذلّ، فشكى عبد الله ابنه إلى رسول الله، فأرسل إليه رسول الله: أن خلّي عنه يدخل فقال: أمّا إذا جاء أمر رسول الله فنعم.

هذه هي الدروس التي نتلقّاها من وحي سيرة الرسول على ضوء ما ورد في القرآن الكريم.

٣٩٧

خاتمة المطاف:

ثمّ إنّ بني المصطلق أسلموا، فبعث إليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حتّى يأخذ الصدقات منهم، فلمّا سمعوا به ركبوا إليه، فلمّا سمع بهم هابهم، فرجع إلىٰ رسول الله، فأخبره: انّ القوم قد همّوا بقتله، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم. فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتّى همَّ رسول الله بأن يغزوهم، فبينماهم علىٰ ذلك قدم وفدهم علىٰ رسول الله، فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة، فانشمر راجعاً، فبلغنا انّه زعم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّا خرجنا إليه لنقتله، ووالله ما جئنا لذلك، فأنزل الله تعالى فيه وفيهم:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ *وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ) ( الحجرات / ٦ و ٧ )(١) .

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٢٩٦، وتفسير الطبري: ج ٢٦ ص ٧٩، والدر المنثور: ج ٧ ص ٥٥٦ ـ ٥٥٨.

٣٩٨

٥ ـ صلح الحديبيّة

إنّ الله تعالى أرى نبيّه في المنام بالمدينة أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام، فأخبر بذلك أصحابه، ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلوا مكّة عامهم ذلك، وهي السنة السادسة من الهجرة. ثمّ استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معهم لإداء فريضة العمرة، لزيارة بيت الله، وتعظيماً له، لا لقتال أو جهاد، فساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وكانت الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة نفرات.

خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى إذا كان بعسفان(١) لقيه « بشر بن سفيان الكعبي » فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك، ولقد لبسوا جلود النمور، ونزلوا بذي طوى(٢) يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً، وهذا « خالد بن الوليد » في خيلهم قد قدّموها إلى كراع الغميم(٣) ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن اظهر نبي الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة، فما تظن قريش ؟ فو الله لا أزال اُجاهد على الذي بعثني الله به، حتّى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة(٤) .

ثمّ قال: مَنْ رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟

__________________

(١) عسفان، منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكّة، وهي من مكّة على مرحلتين.

(٢) موضع قرب مكّة.

(٣) واد أمام عسفان بثمانية أميال.

(٤) صفحة العنق، وكنى بإنفرادها عن الموت.

٣٩٩

فعندئذ قال رجل من « أسلم »: أنا يا رسول الله. فسلك بهم طريقاً وعراً كثير الحجارة بين شعاب، فلمّا خرجوا منه، وقد شقّ ذلك على المسلمين، وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي. أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: اسلكوا ذات اليمين في طريق، وقد أدّى بهم ذلك الطريق إلى مهبط الحديبيّة. فلما رأت خيل قريش غبار جيش الإسلام، قد خالفوا عن طريقهم، رجعوا راكضين إلى قريش. وخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسلك حتّى بركت ناقته، فقالت الناس: خلأت الناقة. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكّة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلّا أعطيتهم إيّاها، ثمّ أمر الناس بالإنزال. قيل: يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما بالوادي ماء ننزل عليه. فأخرج سهماً من كنانته، فأعطاه رجلاً من أصحابه، فنزل به في قليب من تلك القلب، فغرزه في جوفه حتّى ارتفع بالرواء.

١ ـ رجال خزاعة بين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقريش

نزل رسول الله أرض الحديبيّة، وبينما هو فيها إذ أتاه « بديل بن ورقاء الخزاعي » في رجال من خزاعة، فكلّموا النبي وسألوه. فقال: إنّه لم يأت يريد حرباً، وإنّما جاء زائراً للبيت، ومعظّماً لحرمته، ثمّ قال لهم نحواً ممّا قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش، إنّكم تعجلون على محمد، إنّ محمداً لم يأت لقتال، وإنّما جاء زائراً لهذا البيت، فاتهموهم وأهانوهم. وقالوا: وإن كان جاء ولا يريد قتالاً، فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبداً، ولا تحدّث بذلك عنّا العرب.

٢ ـ مكرز رسول قريش إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

ثمّ بعثت قريش إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكرز بن حفص، فلمّا رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: هذا رجل غادر، فلمّا انتهى إلى

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581