مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265487 / تحميل: 6064
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

١ ـ إستحواذ القلق عند مرابطة الأحزاب:

إنّ الآية الاُولى ترسم لنا كيفيّة نزول الأحزاب على المدينة وأنّهم جاءوها من أعاليها وأسافلها، فقد جاءت قبيلة غطفان وبني النضير من الجانب الشرقي للمدينة وهي الجهة العليا وجاءت قريش ومن انضم إليهم من الأحابيش وكنانة من الجانب الغربي وهي الجهة السفلى، وإليه يشير قوله سبحانه:( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) .

كما أنّها تعكس الحالة النفسية التي عايشها المسلمون أثناء تطويق المدينة وهم على طوائف:

١ ـ من مالت أبصارهم عن كل شيء فلم تنظر إلّا إلى عدوّهم مقبلين من كل جانب.

٢ ـ من شخّصت قلوبهم من مكانها ولولا أنّه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت.

٣ ـ من ظنّ بالله ظنّ الجاهلية متقوّلين بأنّ الكفّار سيغلبون وسيستولون على المدينة وبالتالي ينمحق الدين وتعود الجاهلية أدراجها الاُولىٰ.

وإلى هذه الحالات الثلاث أشارت الآية بجملها الثلاث:

أ ـ( وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ ) .

ب ـ( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ ) .

ج ـ( وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ) .

والجملتان الأوّليتان كناية عن مبلغ استحواذ الخوف والهلع عليهم حتى انتقل بهم إلى حالة شبيهة بالإحتضار التي يزيغ فيها البصر وتبلغ القلوب الحناجر.

وأمّا الجملة الثالثة: فلم تكن تشير إلى عموم المسلمين بل تستعرض حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض، فهؤلاء ظنّوا بالله ظنّ الجاهلية، كما يدل عليه

٣٨١

صريح لفظها حيث تضمّنت ما لفظه:

( وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلّا غُرُورًا ) .

والمراد من قوله:( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) ضعفاء الإيمان من المسلمين وهم غير طائفة المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر والشرك وإنّما يسمّون محمّداً رسولاً لمكان اظهارهم الإسلام.

وأمّا الوعد الذي وعدهم الله ورسوله به هو أنّه كان يكرّر قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( التوبة / ٣٣ ).

ولو افترضنا نزول الآية بعد غزوة الخندق فقد كان النبي يعدهم أنّه يفتح مدائن كسرى وقيصر خصوصاً عند حفر الخندق على ما في كتب السير والتواريخ(١) .

قال ابن هشام:

وعظم عند ذلك البلاء، واشتدّ الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتّى ظنّ المسلمون كلّ ظنّ ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال بعضهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب للتخلّي.

وأيم الله كانت هذه الغزوة كاُختها أي غزوة اُحد تمحيصاً وغربلة وتمييزاً للمؤمن الواقعي عن المنافق المتظاهر بالإيمان كما تشير إليه الآية الثانية.

( هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا ) وإنّما استعمل كلمة هنالك مع أنّها يشارُ بها إلى البعيد لأنّ الآية نزلت بعد جلاء المعركة وأشار بها إلى زمان مجيء الجنود المتأخّر عن نزولها.

__________________

(١) السيرة النبويّة لإبن هشام: ج ٢ ص ٢١٩، لاحظ محادثة النبي لسلمان عند حفر الخندق.

٣٨٢

٢ ـ حياكة الدسائس لفتح الثغرات:

لم يكن عمل المنافقين منحصراً بإثارة القلاقل والارهاصات النفسية على ما مرّ بيانه في كلماتهم بل كان دورهم أوسع من ذلك، فقد كانوا يقومون بشن حرب نفسيّة تهدف إلى تفريق المسلمين عن الدفاع عن الخندق وكانوا يقولون للمسلمين لا وجه لإقامتكم هاهنا قبال جنود المشركين فالغلبة لهم لا محالة ولا مناص من الفرار.

وكان لفيف منهم يتذرّعون بقولهم( إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ) أي لا يؤمن عليها من السارق وزحف العدو عليها، حتّى يتملّصون ويتخلّصون من الخطر الذي يحدق بهم في ساحة المعركة. وكان هذا الكلام واجهة للفرار، وإليه يشير قوله سبحانه:

( وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إلّا فِرَارًا ) .

٣ ـ المشارفة على أعتاب الردّة:

ولقد بلغ الحال بالمنافقين والذين في قلوبهم مرض في تهاونهم بأمر التمسّك بالدين أنّه لو رجع إليهم العدو مرّة ثانية ودخل المدينة من أقطارها وأطرافها ونواحيها ثمّ سألوهم الرجوع إلى الشرك لأجابوا مسرعين ولم يتوانوا ولم يلبثوا في الاجابة إلّا زماناً يسيراً بمقدار الطلب والسؤال منهم، فالمنافقون ومن تبعهم من مرضى القلوب يتظاهرون بالإسلام مادام الرخاء سائداً والأمن حالًّا فإذا خيّمت الشدّة وحاق بهم البأس لم يلبثوا إلّا قليلاً دون الرجوع والردّة.

وهذا يعطي لنا درساً إضافيّاً بأنّ النظام الإسلامي يجب أن يرتكز في دعوته وكافّة اُموره السياسية والإجتماعية والروحية على المؤمنين الصادقين، والمعتنقين لمبادئه وأحكامه بصدق ويقين وتفان وإخلاص، يتحاشىٰ عن الركون والإعتماد على المنافقين بل يحذر منهم دائماً، ويطلب نبذهم من الحياة فإنّهم يَعِدون ولا يوفون، يبايعون وينقضون، ويحالفون ويغدرون، وهذه سجيّتهم وديدنهم، وإليه يشير

٣٨٣

قوله سبحانه:

( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً ) .

وأمّا أنّهم في أي مكان وزمان بايعوا النبى فغير معلوم، ولعلّ إيمانهم بالله ورسوله وبما جاء به من الجهاد وحرمة الفرار منه، نوع عهد لله ورسوله أن لا يولّوا الأدبار، وعلى كل تقدير فهؤلاء لا يتحمّلون المسؤولية وإن تحمّلوها بادئ بدء، رفضوها في خاتمة المطاف.

٤ ـ عدم جدوىٰ الفرار:

هؤلاء يتركون ساحة القتال وأطراف الخندق، لأجل الفرار من خطر الموت والقتل، غير أنّهم قد جهلوا سنّة الله الحكيمة القاضية بأنّه:( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف / ٣٤ ).

وقد ردّت هذه النظرية ( الفرار سبيل النجاة ) في غير واحد من الآيات، قال سبحانه:( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إلّا بِإِذْنِ اللهِ ) ( آل عمران / ١٤٥ ).

وقال سبحانه:( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ) ( آل عمران / ١٥٤ ).

ويقول في شأن أولئك الذين نكصوا على أعقابهم في معركة الخندق من المسلمين:( قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلاً ) وما ذلك إلّا لأنّ لكل نفس أجلاً، مقضيّاً ومحتوماً لا يتأخّر عنه ساعة ولا يتقدّم عنه، فالفرار على فرض التأثير لا يؤثّر إلّا قليلاً، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلاً ) .

كيف وأنّ الخير والشر تابعان لإرادته سبحانه، ولا يحول دون نفوذ إرادته شيء، فإذاً الأولى إيكال الأمر إلى إرادته والتوكّل عليه، قال سبحانه:( قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ

٣٨٤

وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) .

٥ ـ سعة علمه:

إنّ المنافقين ومن في قلبه مرض من المسلمين، ما عرفوا الله حقّ قدره، وما عرفوا أسماءه وصفاته، وأنّه عالم بكل شيء، ما تكنّه صدورهم وتضمره قلوبهم وتوحيه نفوسهم، فكيف كلامهم وأعمالهم العلنية، فقد كانوا يعيقون غيرهم من جنود المسلمين عن الجهاد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويثبّطونهم ويشغلونهم ليعرضوا عن نصرته وينصرفوا عن القتال، وكانت اليهود تساندهم في هذا الأمر ويقولون مع نظرائهم من المنافقين: لا تحاربوا وخلّوا محمداً فإنّا نخاف عليكم الهلاك، ولأجل ذلك ما كانوا يحضرون القتال إلّا رياءً أو سمعة قدر ما يوهمون أنّهم مع المسلمين ولكنّهم كانوا كارهين لكون قلوبهم مع المشركين، وإليه يشير قوله سبحانه:

( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلّا قَلِيلاً ) ( الأحزاب / ١٨ ).

٦ ـ جبناء حين البأس، شجعان حين الأمن

عجيب أمر هؤلاء ومن حذىٰ حذوهم:

فهم حين البأس جبناء، تدور أعينهم في رؤوسهم وجلاً وخوفاً، كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيته أسبابه، فعند ذاك يعذّب لبّه ويشخص بصره فلا يتحرّك طرفه.

وحين اقتسام الغنيمة أشحّاء إذا ظفر بها المؤمنون لا يريدون أن يفوتهم شيء ممّا وصل إلى أيديهم، وكان الشاعر يشير إليهم:

وفي السلم أعيار جفاءً وغلظة

وفي الحرب أمثال النساء العواتك

٣٨٥

ولهم مع ذلك كذب في القول ومراء في الكلام، فإذا كان الأمن والرخاء مخيِّما فخروا بمقاماتهم المصطنعة من النجدة والشجاعة والبأس، وإلى هذه الحالات الثلاثه يشير قوله تعالى:

( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا ) .

إلى الحالة الأولى ـ أي جبنهم في الحرب ـ يشير قوله:( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ) أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة، فهم لا يودّون مساعدتكم ولا نصرتكم لا بنفس ولا نفيس.

وإلى الحاله الثانية يشير قوله:( أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ ) أي الغنائم.

وإلى الحالة الثالثة يشير قوله:( فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ) .

وفي النهاية كتب على أعمالهم الضئيلة بالإحباط كما في قوله:( أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ ) .

وفي نهاية المطاف يتناول سبحانه هؤلاء ما هو مفاده: إنّ مقدار الجبن والهلع الذي لحق بهم، وعظيم الدهشة والحيرة التي أحاطت بهم، بلغ إلى حدٍ أنّهم يظنّون أنّ الأحزاب ما زالت مرابطة في ثكنات معسكرهم في الوقت الذي رحلوا فيه.

والذي يعرب عن عظم ما انتابهم من الوجل، أنّه لو رجعت الأحزاب تمنّوا أن لو كانوا مقيمين في البادية بعيدين عن المدينة حتّى لا ينالهم أذىٰ أو مكروه ويكتفون بالسؤال عن أخبار من قاوم من جانب المدينة، وإليه يشير قوله سبحانه:

( يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إلّا قَلِيلاً ) .

إنّه سبحانه بعد أن فصّل أحوالهم، وكشف عّما كنّته صدورهم وما أضمروه ،

٣٨٦

أبان لهم طريق الهداية مرّة اُخرى وانّهم لو راموا النجاة والسعادة فليقتدوا برسول الله وليجعلوه اُسوة لهم، قال سبحانه:

( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا ) .

* * *

حال المؤمنين الصادقين في غزوة الأحزاب

ثمّ إنّه سبحانه لما بيّن حال المنافقين ومن في قلبه مرض، ذكر حال المؤمنين الواقعيين الذين كانوا في الرعيل الأوّل في سوح الجهاد، وكيف أنّهم كانوا على طرفي نقيض من المنافقين، حيث قال سبحانه:( وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا *مِّنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً *لِّيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الأحزاب / ٢٢ ـ ٢٤ ).

إنّ قوله سبحانه( هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ ) إشارة إلى ما وعدهم النبي بأنّ الأحزاب ستجتمع شوكتهم عليهم، فلمّا شاهدوهم تبيّن لهم أنّ ذلك هو الذي وعدهم، وربّما يقال بأنّ المراد ما وعده الله ورسوله من الابتلاء والإمتحان في الآيات التي نزلت في غزوة اُحد في قوله سبحانه( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) ( البقرة / ٢١٤ ).

فتحقّقوا من ذلك أنّه سيصيبهم ما أصاب الأنبياء والمؤمنين بهم من الشدّة والمحنة التي تزلزل القلوب، وتدهش النفوس، فلمّا رأوا الأحزاب أيقنوا أنّه من الوعد الموعود وأنّ الله سينصرهم على عدوّهم.

ثمّ إنّه سبحانه وصف الكاملين من المؤمنين الذين ثبتوا عند اللقاء، واحتملوا

٣٨٧

البأساء والضرّاء في هذه الغزوة وما قبلها من الغزوات، بأنّ بعضهم استشهد يوم بدر ويوم اُحد، وبعض منهم يترقّب أجله، وإليه يشير قوله سبحانه:( مِّنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) .

والنحب: النذر المحكوم بوجوبه، يقال قضىٰ فلان نحبه، أي وفى بنذره، ويعبّر به عمّا انقضىٰ أجله، ثم إنّه سبحانه يقول: إنّ كلاًّ من المؤمن والمنافق مجزى بأعماله، قال سبحانه:( لِّيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) .

وهو سبحانه استعرض جزاء عمل الصادقين بنحو القطع والجزم بقوله:( لِّيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ ) في الوقت الذي نجد فيه أنّه تناول جزاء المنافقين بقوله:( وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ ) بالتعليق على المشيئة، وما ذلك إلّا لبيان سعة رحمته وفضله، وأنّه فسح المجال لتوبة من عصاه، وعلى ذلك يكون معنى الآية يعذّب المنافقين لو شاء تعذيبهم، فيما لم يتوبوا أو يتوب الله عليهم إن تابوا.

خاتمه المطاف:

وفى ختام الآيات يقول أنّه سبحانه: قد صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، وردّ المشركين على أدبارهم، خائبين مخذولين تختنقهم الغصّة وتؤلمهم الحسرة، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) .

النتائج التي تمخّض عنها هذا البحث فهي:

أ ـ إنّ في هذه الغزوة تحالفت الوثنية مع اليهود على أن يكون تحمّل أعباء نفقات الحرب على عاتق اليهود وكاهلهم، ويكون القتال والاصطكاك في ساحة المعركة من نصيب المشركين، وليس هذا التآمر المشترك هو الأوّل من نوعه بل له

٣٨٨

نظائر متعدّدة على امتداد التاريخ الإسلامي، فقد تحالفت الوثنية مع النصرانية في القرن السادس والسابع الهجريين، فشنّوا الغارات الشرسة على العالم الإسلامي، ومزّقوه شر ممزّق، فقد جاء التتار وهم الوثنية من الجهة الشرقية، بينما جاءت النصرانية من جانب الغرب فهجموا على البلاد، وفتكوا بأهلها فتكاً ذريعاً لم يذكر التاريخ له مثيلاً.

ب ـ إنّ الإنتصار رهن عاملين قويين: أحدها بشري والآخر غيبي.

فأمّا الأوّل وهو القيام بالتخطيط العسكري، وحفر الخندق، وحشد القوى بتمام طاقاتها، وبذل كل ما كانوا يملكونه لصدّ هجوم العدو ولم يكن التخطيط العسكري الذي انتخبه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله منحصراً بحفر الخندق، بل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في كسر جبهة الأعداء استعان بالجواسيس وبث العيون وقد كان لنعيم بن مسعود في الفتك بوحدتهم دور هام، على ما مر بيانه وربّما يوازي عمله عمل أدهى أجهزة الإستخبارات العالمية.

وأمّا الثاني وهو الغيبي فقد سلط الله عليهم الريح والبرد القارس، حتى سلبت عنهم الراحة والاستقرار والقدرة على البقاء، فهذا حذيفة بن اليمان الذى أرسله الرسول جاسوساً إلى القوم حيث قال له: اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يصنعون ولا تحدثن شيئاً، حتىٰ تأتينا، قال فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقرّ لهم قِدْراً ولا ناراً ولا بناءً، فقام أبو سفيان فقال: إحذروا الجواسيس والعيون ولينظر كل رجل جليسه، قال حذيفه فالتفتّ إلى عمرو بن العاص فقلت: من أنت، وهو عن يمينى فقال: عمرو بن العاص، والتفتّ إلى معاوية بن أبى سفيان فقلت: من أنت فقال: معاوية بن أبى سفيان، ثمّ قال أبو سفيان: إنّكم والله لستم بدار مقام، لقد هلك الخف والكراع ( إلى أن قال حذيفه ) فقام أبو سفيان وجلس على بعيره، وهو معقول ثمّ ضربه فوثب على ثلاث قوائمه فما اطلق عقاله إلّا بعد ما قام(١) .

__________________

(١) المغازي: ج ٢ ص ٤٨٩ و ٤٩٠، والسيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٢٣٢.

٣٨٩

٤ ـ غزوة بني المصطلق

بلغ رسول الله أنّ بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم « الحارث بن أبي ضرار ». فلمّا سمع بهم خرج إليهم، حتّى لقيهم على ماء لهم، يقال له: ( الـمــُــرَيسيع ) فتزاحف الناس، واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، وسبي من سبي، وقد قتل من أصحاب رسول الله رجل اسمه « هشام بن صبابة » قتله رجل من الأنصار خطأً.

فبينا رسول الله على ذلك الماء، وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له جَهْجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جَهْجاه مع رجل من الأنصار على الماء، فاقتتلا، فصرخ الأنصاري: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين. فلمّا سمع رسول الله صرختهما قال: دعوها فإنّها منتنة ـ يعني إنّها كلمة خبيثة ـ لأنّها من دعوى الجاهلية، فإنّ الله جعل المؤمنين اُخوة وحزباً واحداً، فمن دعا في الإسلام بدعوة الجاهليّة يعزّر.

ثمّ لـمّا بلغ الأمر إلى عبد الله بن اُبيّ بن سلول، وعنده رهط من قومه، فيهم: زيد بن أرقم، وهو غلام حدث، فقال ابن اُبيّ: أوَقد فعلوها، وقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش إلّا كما قال الأوّل: سَمِّن كلبك يأكلك ! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل. ثمّ أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم. فسمع ذلك

٣٩٠

زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك عند فراغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عدوّه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال: مُرْ به عبّاد بن بشر فليقتله. فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه !

وقد مشى عبد الله بن اُبيّ بن سلول إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين بلغه أنّ زيد بن أرقم قد بلّغه ما سمع منه، فحلف بالله: ما قلت ما قال ولا تكلمّت به ـ وكان في قومه شريفاً عظيماً ـ فقال من حضر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسىٰ أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، حَدَباً على ابن اُبيّ بن سلول ودفعاً عنه.

ولكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقف على أنّه إن لم يتّخذ خطة حازمة فقد يستفحل الأمر، لذلك أمر أن يؤذّن بين الناس بالرحيل في ساعة لم يكن يرتحل المسلمون فيها، وعند ذلك جاء أسيد بن حضير وقال: يا نبي الله لقد رحلت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ قال: وأي صاحب يا رسول الله ؟ قال: عبد الله بن اُبيّ قال: وما قال ؟ قال: زعم أنّه إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل، قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز. ثمّ قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله فقد جاءنا الله بك، وإنّ قومه لينظمون له الخَرز ليتوّجوه، فإنّه ليرى أنّك قد أستلبته مُلكاً.

ثمّ مشى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالناس يومهم ذلك حتّى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتّى آذتهم الشمس، ثمّ نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياماً، وإنّما فعل ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن اُبيّ.

حطّ المسلمون رحالهم بالمدينة، وفي تلك الأثناء نزلت آيات تصدّق زيداً ،

٣٩١

وتكذّب عبد الله بن اُبي، حيث قال سبحانه:

( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَٰكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ *يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( المنافقون / ٧ و ٨ ).

فلمّا نزلت هذه الآيات حسب قوم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله آمر بقتله لا محالة، فعند ذلك ذهب ابنه عبد الله ـ وكان مسلماً حسن الإسلام ـ فقال: يا رسول الله إنّه بلغني أنّك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بد فاعلاً فمرْني به، فأنا اَحمِلُ إليك راَسه، فواللهِ لقد علمتْ الخزرجُ ما كان لها من رجل أبرّ بوالده منّي، وإني أخشىٰ أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي اَنْظُر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر، فأدخل النار. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : بل نترفّق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.

تولّي قوم ابنُ اُبيّ مجازاته:

وبعد ذلك كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنِّفونه. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف ترىٰ يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قُلتَ لي اقتله، لاُرعِدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال: قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم بركة من أمري(١) .

وقال الطبرسي: وكان عبد الله بن اُبيّ بقرب المدينة، فلمّا أراد أن يدخلها جاء ابنه عبد الله بن عبد الله حتّى أناخ على مجامع طرق المدينة. فقال: مالك ويلك ؟ قال: والله لا تدخلها إلّا بإذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولتعلمنّ اليوم

__________________

(١) السيرة النبويّة لإبن هشام: ج ٢ ص ٢٨٩ ـ ٢٩٣.

٣٩٢

مَنْ الأعزّ ومن الأذلّ، فشكا عبد الله ابنه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأرسل إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن خلّ عنه يدخل، فقال: أمّا إذا جاء أمرَ رسول الله فنعم(١) .

ولـمـّا نزلت الآيات المتقدّمة وبان كذب عبد الله قيل له: إنّه نزل فيك آي شداد، فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك، فلوى رأسه ثمّ قال: آمرتموني أن اُؤمن فقد آمنت، وآمرتموني أن اُعطي زكاة مالي فقد أعطيت، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمّد، فعند ذلك نزلت الآيتان التالية:

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ *سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( المنافقون / ٥ و ٦ ).

هذه قصة غزوة بني المصطلق، وقد رواها أهل السير والمغازي والمفسّرون(٢) .

والذي يهمّنا من استعراض تلك الغزوة هو الدروس والعظات التي يمكننا أن نستخلصها، ونستفيدها منها من خلال سيرة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإليك عرض تلك النتائج:

١ ـ التخطيط للإجلاء والمقاطعة الاقتصادية:

لم يكن التخطيط لإجلاء المسلمين عن أوطانهم وأماكنهم والمقاطعة الاقتصادية شيئاً حديث النشأة في القرن العشرين، وإنّما له جذور تمتد علىٰ مرّ التاريخ، فهذا عبد الله بن اُبيّ رئيس المنافقين يعد العدّة للتآمر على المسلمين، ويسعى جاهداً لإجلائهم، وفرض مقاطعة إقتصادية عليهم، فلو شاهدنا ما يفعل بنا

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١٠ ص ٤٤٤ ( طبع بيروت ).

(٢) لاحظ تفسير الطبري: ج ٢٨ ص ٧٠ ـ ٧٥، والدر المنثور: ج ٥ ص ٢٢٢ ـ ٢٢٦، إلى غير ذلك من المصادر.

٣٩٣

نحن معاشر المسلمين على أيدى المستعمرين في بيت المقدس، وسائر بقاع المسلمين الاُخرى في أيّامنا هذه، فليس هناك محلًّا للإستغراب والدهشة والتعجّب، ولكنّ الله سبحانه وتعالى أدحض تآمرهم وأبطل أحدوثتهم وردّ كيدهم إلى نحورهم فانقلبوا خاسئين.

قال سبحانه:( وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( المنافقون / ٧ ) وقال سبحانه:( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) ( المنافقون / ٨ ).

ولكنّ ذلك مشروط بالتمسّك بعرىٰ الإيمان، والإنقطاع الكامل لله عزّ وجل، والإنقياد المطلق لأوامره ونواهيه.

قال سبحانه:( وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / ١٣٩ ) وقال عزّ اسمه:( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ إلّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) ( فصّلت / ٣٠ ).

٢ ـ تشتيت الشمل وبثّ التفرقة بين المسلمين:

إنّ عبد الله بن اُبيّ ذلك العدو اللدود للمسلمين، أراد تشتيت شمل المسلمين، بإثارة ظغائن طائفة من المسلمين على طائفة اُخرى، حتّى يشتعل فتيل الفتنة، ويحرق المسلمون بعضهم دمَ بعض بأيديهم، وتكون الخاتمة لصالح أعدائهم، حيث قال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم .

غير أنّ هذا النهج التآمري لا زال معمولاً به إلىٰ يومنا هذا، وما انفكّ عنه أعداء الإسلام طرفة عين أبداً، ومن الصور الجليّة الواضحة لهذا النهج العدائي في يومنا هذا، بثّ السموم الفكرية في أذهان أبناء الشعوب الإسلامية، وتأليب بعضهم على بعض، تحت شعارات قوميّة ووطنيّة وعرقيّة، فيحفّزون الجذور القومية للترك في قبال الجذور القومية العرقية العربية، وهكذا بالنسبة لسائر القوميات المتعدّدة التي تدين

٣٩٤

بالإسلام علىٰ امتداد رقعته الشاسعة.

وبذلك تمكّنوا من الفتك والإجهاز علىٰ الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف، والتي تمكّنت من الظهور بالمسلمين كدولة عظمى في العالم لها سيادتها، وثقلها في تقرير الأوضاع السياسية في العالم.

٣ ـ حنكة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في اجتياز الأزمة:

في خضمّ ذلك الموقف الحرِج، أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يؤذّن في الناس بالرحيل في ساعة لم يألفوا الرحيل فيها، مع أنّ ابن اُبيّ أسرع بالمثول أمام يديه، والتنكّر ممّا بدر منه ونسب إليه، ولكن ذلك لم يؤثّر على قرار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرحيل شيئاً، بل انطلق بالناس يجوب الفيافي والقفار، طيلة يومهم حتّى أمسوا، وطيلة ليلتهم حتّى أصبحوا، وصدر يومهم الثاني حتّى آذتهم الشمس، فلمّا نزل الناس لم يلبثوا حتّى غلبهم النعاس، ونسوا حديث ابن اُبيّ، وهذا يعطي لكل قائد محنّك درساً من لزوم امتصاص ما انتاب نفوسهم من أفكار خاطئة، واجتثاث جذورها بصرفها إلىٰ اُمور اُخرى، تستولي علىٰ منافذ فكرهم، فتشذَّ أذهانهم عنهم إلىٰ التشاغل باُمور اُخرىٰ، ولو لم يقم بذلك لبقيت آثار تلك الرواسب الفكرية في أذهانهم، ولأثرّت على مستقبل الدعوة، ووحدة صف المسلمين.

٤ ـ سعة صدر النبي وتريّثه وتلبّثه:

لـمـّا أطلع زيد بن أرقم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ما قاله عبد الله بن اُبيّ، صدّقه في نقله، ولـمـّا مثل ابن اُبيّ بين يديه، وأنكر ما أبلغه زيد بن أرقم، فلم يكذّبه، وربّما كانت هذا الظاهرة التي تمثّل بها النبي في ذلك الموقف، أمراً مثيراً للتساؤل، ولأجل ذلك انتهز المنافقون الفرصة لانتقاد النبي، واتهامه بالتساهل والتواني في القضاء علىٰ خصومه، ولكنّ المنافقين قد غفلوا عن أصل رصين، واُسّ مكين تبتني عليه الحنكة القياديّة، وقد قال أمير المؤمنينعليه‌السلام بهذا

٣٩٥

الصدد: « آلة الرئاسة سعة الصدر »(١) .

وإنّ التسرّع في الحكم والقضاء، وإن أصاب الواقع لا يخلو من نتائج غير محمودة، خصوصاً إذا لم يتّضح الأمر بعد لعموم المسلمين، فقد اختار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التريّث حتّى تنكشف حقيقة المسألة للجميع، فيكون النبي معذوراً ومحقّاً إذا أخذ في حق ابن اُبيّ حكماً حاسماً.

٥ ـ مقابلة الإساءة بالإحسان:

لـمـّا أخبر زيد بن أرقم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بما تقوَّل به عبد الله ابن اُبيّ، اقترح عمر بن الخطاب على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقتله ولكنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أجابه بقوله: « فكيف يا عمر، إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه »، فقد أبدىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في جوابه هذا حنكة وسياسة رصينة أدحض بذلك المقولة التي تنصّ علىٰ « أنّ كل ثورة ستجتثّ جذور أبطالها ». وعدوّ الله عبد الله بن اُبيّ وإن لم يكن في واقع أمره مسلماً واقعيّاً، ولكنّه كان معدوداً منهم، ومن أشرافهم، فلو قتله النبي لتسرّب الريب إلى سائر نفوس المسلمين.

وقد جازىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الإساءة بالإحسان، عند ما جاء ابنه إلى النبي، وقال: « إنّه بلغني أنّك تريد قتل عبد الله بن اُبيّ، فإن كنت لا بدّ فاعلاً فامرني به ».

ولكنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أجابه بقوله: بل نترفّق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا.

اُنظر إلى هذه السماحة النبويّة، وروعة عفوها وجلالها، فهو يترفّق بمن ناصبه العداء، وأَلّب قلوب أهل المدينة عليه، فيكون رفقه وعفوه أبعد أثراً عن عقوبته، لو أنه

__________________

(١) نهج البلاغة قسم الحكم برقم ١٧٦.

٣٩٦

عاقبها به، وعند ذلك توجّه النبي إلى عمر بن الخطاب: كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لاُرعِدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.

قال عمر: والله علمت لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم بركة من أمري.

وفي الختام انظر إلى كلام ابن عبد الله، فهو على ايجازه يعبّر عن حالة نفسية اصطدمت فيها روح الإنشداد إلى الدين، والذوبان في كيانه العظيم، مع وشائج الارتباط العاطفي بوالده، فلا يمكن له الجمع بينهما، ولكنّه يعلم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يصدر إلّا عن الوحي، ولا يأمر إلّا بالحق، وعند ذلك طلب من النبي أن يقوم بنفسه بقتله لو استحقّ القتل، ولا يفوّض القيام به إلى الغير، خوفاً من أن تحمله العواطف، والوشائج إلى قتل قاتل أبيه، وفي قتل المسلم دخول النار والعذاب المقيم.

٦ ـ العزّة لله ولرسوله:

إنّ عبد الله بن اُبيّ أوهم الناس بأنّ العزّة للمشركين والمنافقين، والذل والهوان للمسلمين والمؤمنين، ولكنّ الوحي أبطل أوهامه تلك، بقوله:

( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .

فصدق الخبر المخبر، حتّى وقف ابن عبد الله بن اُبيّ على باب المدينة، فقال لأبيه: والله لا تدخلها إلّا بإذن رسول الله ولتعلمنّ اليوم من الأعزّ، ومن الأذلّ، فشكى عبد الله ابنه إلى رسول الله، فأرسل إليه رسول الله: أن خلّي عنه يدخل فقال: أمّا إذا جاء أمر رسول الله فنعم.

هذه هي الدروس التي نتلقّاها من وحي سيرة الرسول على ضوء ما ورد في القرآن الكريم.

٣٩٧

خاتمة المطاف:

ثمّ إنّ بني المصطلق أسلموا، فبعث إليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حتّى يأخذ الصدقات منهم، فلمّا سمعوا به ركبوا إليه، فلمّا سمع بهم هابهم، فرجع إلىٰ رسول الله، فأخبره: انّ القوم قد همّوا بقتله، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم. فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتّى همَّ رسول الله بأن يغزوهم، فبينماهم علىٰ ذلك قدم وفدهم علىٰ رسول الله، فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة، فانشمر راجعاً، فبلغنا انّه زعم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّا خرجنا إليه لنقتله، ووالله ما جئنا لذلك، فأنزل الله تعالى فيه وفيهم:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ *وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ) ( الحجرات / ٦ و ٧ )(١) .

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٢٩٦، وتفسير الطبري: ج ٢٦ ص ٧٩، والدر المنثور: ج ٧ ص ٥٥٦ ـ ٥٥٨.

٣٩٨

٥ ـ صلح الحديبيّة

إنّ الله تعالى أرى نبيّه في المنام بالمدينة أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام، فأخبر بذلك أصحابه، ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلوا مكّة عامهم ذلك، وهي السنة السادسة من الهجرة. ثمّ استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معهم لإداء فريضة العمرة، لزيارة بيت الله، وتعظيماً له، لا لقتال أو جهاد، فساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وكانت الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة نفرات.

خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى إذا كان بعسفان(١) لقيه « بشر بن سفيان الكعبي » فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك، ولقد لبسوا جلود النمور، ونزلوا بذي طوى(٢) يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً، وهذا « خالد بن الوليد » في خيلهم قد قدّموها إلى كراع الغميم(٣) ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن اظهر نبي الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة، فما تظن قريش ؟ فو الله لا أزال اُجاهد على الذي بعثني الله به، حتّى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة(٤) .

ثمّ قال: مَنْ رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟

__________________

(١) عسفان، منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكّة، وهي من مكّة على مرحلتين.

(٢) موضع قرب مكّة.

(٣) واد أمام عسفان بثمانية أميال.

(٤) صفحة العنق، وكنى بإنفرادها عن الموت.

٣٩٩

فعندئذ قال رجل من « أسلم »: أنا يا رسول الله. فسلك بهم طريقاً وعراً كثير الحجارة بين شعاب، فلمّا خرجوا منه، وقد شقّ ذلك على المسلمين، وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي. أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: اسلكوا ذات اليمين في طريق، وقد أدّى بهم ذلك الطريق إلى مهبط الحديبيّة. فلما رأت خيل قريش غبار جيش الإسلام، قد خالفوا عن طريقهم، رجعوا راكضين إلى قريش. وخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسلك حتّى بركت ناقته، فقالت الناس: خلأت الناقة. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكّة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلّا أعطيتهم إيّاها، ثمّ أمر الناس بالإنزال. قيل: يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما بالوادي ماء ننزل عليه. فأخرج سهماً من كنانته، فأعطاه رجلاً من أصحابه، فنزل به في قليب من تلك القلب، فغرزه في جوفه حتّى ارتفع بالرواء.

١ ـ رجال خزاعة بين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقريش

نزل رسول الله أرض الحديبيّة، وبينما هو فيها إذ أتاه « بديل بن ورقاء الخزاعي » في رجال من خزاعة، فكلّموا النبي وسألوه. فقال: إنّه لم يأت يريد حرباً، وإنّما جاء زائراً للبيت، ومعظّماً لحرمته، ثمّ قال لهم نحواً ممّا قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش، إنّكم تعجلون على محمد، إنّ محمداً لم يأت لقتال، وإنّما جاء زائراً لهذا البيت، فاتهموهم وأهانوهم. وقالوا: وإن كان جاء ولا يريد قتالاً، فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبداً، ولا تحدّث بذلك عنّا العرب.

٢ ـ مكرز رسول قريش إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

ثمّ بعثت قريش إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكرز بن حفص، فلمّا رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: هذا رجل غادر، فلمّا انتهى إلى

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

المعروف له الطلب إليهم و حظر عليهم قضاءه كما يحرّم الغيث على الأرض المجدبة ليهلكها و يهلك أهلها(١) .

و قال ابن أبي الحديد رأى العباس بن مأمون يوما بحضرة المعتصم خاتما في يد إبراهيم بن المهدي ، فاستحسنه فقال له : ما فص هذا الخاتم و من أين حصلته ؟ قال : هذا خاتم رهنته في دولة أبيك و افتككته في دولة الخليفة .

فقال له العباس : إن لم تشكر أبي على حقنه دمك ، فأنت لا تشكر الخليفة على فكّه خاتمك و قال الشاعر :

لعمرك ما المعروف في غير أهله

و في أهله إلاّ كبعض الودائع

فمستودع ضاع الذي كان عنده

و مستودع ما عنده غير ضائع

و ما النّاس في شكر الصنيعة عندهم

و في كفرها إلاّ كبعض المزارع

فمزرعة طابت و أضعف نبتها

و مزرعة أكدت على كلّ زارع(٢)

٥٩ الحكمة ( ٢٠٨ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ وَ مَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ وَ مَنْ خَافَ أَمِنَ وَ مَنِ اِعْتَبَرَ أَبْصَرَ وَ مَنْ أَبْصَرَ فَهِمَ وَ مَنْ فَهِمَ عَلِمَ « من حاسب نفسه ربح » في ( الكافي ) عن الكاظمعليه‌السلام : ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم ، فإن عمل حسنة استزاد اللَّه تعالى ، و إن عمل سيّئة استغفر اللَّه منها و تاب إليه(٣) .

____________________

( ١ ) الكافي للكليني ٤ : ٢٥ ح ٢ ، عن أبي حمزة الثمالي .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ٢٤ .

( ٣ ) الكافي للكليني ٢ : ٤٥٣ .

٥٤١

« و من غفل عنها خسر » عن الباقرعليه‌السلام : لا يغرّنّك الناس من نفسك ، فإنّ الأمر يصل إليك دونهم ، و لا تقطع نهارك بكذا و كذا ، فإنّ معك من يحفظ عليك عملك .(١) .

« و من خاف أمن » و أمّا من خافَ مقامَ ربِّه و نهى النّفس عن الهوى .

( فإنّ الجنَّةَ هي المأوى ) (٢) .

« و من اعتبر أبصر » الاعتبار سبب لابصار جديد ، و إن كان هو بإبصار تليد ، قال تعالى :( فاعتبروا يا اُولي الأَبصار ) (٣) .

« و من أبصر فهم و من فهم علم » حمل الفهم على معرفة المقدّمات ، و العلم على معرفة النتيجة الّتي هي الثمرة الشريفة .

٦٠ الحكمة ( ٢٤٠ ) و قالعليه‌السلام :

اَلْحَجَرُ اَلْغَصِيبُ فِي اَلدَّارِ رَهْنٌ عَلَى خَرَابِهَا أقول هكذا في ( الطبعة المصرية ) بلفظ « الغصيب »(٤) و الصواب :

( الغصب ) كما في ابن أبي الحديد(٥) و ابن ميثم(٦) و النسخة الخطية(٧) ، و الغصب هنا بمعنى المغصوب كما في قولهم : « شي‏ء غصب » .

____________________

( ١ ) الاختصاص للمفيد : ٢٣١ .

( ٢ ) النازعات : ٤٠ ٤١ .

( ٣ ) الحشر : ٢ .

( ٤ ) النسخة المصرية شرح محمّد عبده : ٧١٠ رقم ( ٢٤٢ ) .

( ٥ ) في شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ٧٢ رقم ( ٢٣٧ ) بلفظ « الغصب » .

( ٦ ) شرح ابن ميثم النسخة المنقحة ٥ : ٣٦١ رقم ( ٢٢٦ ) بلفظ « الغصيب » .

( ٧ ) سقط النصّ من النسخة الخطية ( المرعشي ) .

٥٤٢

في ( كامل الجزري ) : و في سنة ( ٥٠٠ ) عزل الوزير أبو القاسم عليّ بن جهير و أمر الخليفة بنقض داره التي بباب العامّة و فيها عبرة ، فإنّ أباه أبا نصر بن جهير بناها بأنقاض أملاك الناس و أخذ بسببها أكثر ما دخل فيها فخربت عن قريب(١) .

و قال ابن أبي الحديد : قال ابن بسّام لابن مقلة لمّا بنى داره بالزاهر ببغداد من الغصب و ظلم الرعية :

بجنبك داران مهدومتان

و دارك ثالثة تهدم

و أشار بالدارين المهدومتين إلى دار ابن الفرات و دار ابن الجرّاح أي :

الوزيرين و قال أيضا :

قل لابن مقلة مهلا لا تكن عجلا

فإنّما أنت في أضغاث أحلام

تبني بأنقاض دور النّاس مجتهدا

دارا ستنقض أيضا بعد أيّام

و صار كما قال ، فنقضت داره في أيام الراضي حتى سوّيت بالأرض(٢) .

« قال الرضي و يروى هذا الكلام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله » هكذا في ( الطبعة المصرية )(٣) لكن في ابن أبي الحديد « قال الرضي : و قد روي ما يناسب هذا الكلام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله »(٤) و في ابن ميثم : « و نحو هذا الكلام قول الرسول : اتقوا الحرام في البنيان فإنّه أسباب الخراب »(٥) .

« و لا عجب أن يشتبه الكلامان لأن مستقاهما من قليب » أي : بئر واحدة ، قال أبو عبيد « قليب » البئر العادية القديمة .

____________________

( ١ ) الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري ١٠ : ٤٣٨ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ٧٢ .

( ٣ ) النسخة المصرية المنقحة : ٧١٠ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ٧٢ ٧٣ .

( ٥ ) شرح ابن ميثم ٥ : ٣٦٢ .

٥٤٣

« و مفرغهما » من فرغ الماء بالكسر ، أي : انصبّ « من ذنوب » بالفتح ، قال ابن السّكّيت : ذنوب ، دلو فيها ماء قريب من الملا تؤنث و تذكر(١) ، و لا يقال لها ذنوب و هي فارغة .

و في معنى قول المصنف قول البحتري :

عودهما من نبعة و ثراهما

من تربة و صفاهما من مقطع(٢)

٦١ الحكمة ( ٢٤١ ) و قالعليه‌السلام :

إِذَا كَثُرَتِ اَلْمَقْدِرَةُ قَلَّتِ اَلشَّهْوَةُ عشق رجل جارية و كان يتحرّق في ذلك ، فقيل له : لم لا تشتريها فإنّها ليست كالحرّة عسرة المطلب ؟ قال : إنّي إن ملكتها تذهب شهوتها و في ذلك أجد لذّة .

٦٢ الحكمة ( ٢٤٧ ) و قالعليه‌السلام :

اَلْكَرَمُ أَعْطَفُ مِنَ اَلرَّحِمِ قال البحتري في إبراهيم بن الحسن بن سهل :

بنعمتكم يا آل سهل تسهّلت

عليّ نواحي دهري المتوعّر

شكرتكم حتى استكان عدوّكم

و من يول ما أوليتموني يشكر

____________________

( ١ ) اصلاح المنطق لابن السكيت : ١٦٤ .

( ٢ ) ديوان البحتري ٢ : ٢١٩ .

٥٤٤

ألست ابنكم دون البنين و أنتم

أحباء أهلي دون معن و بحتر(١)

و كانت خنساء إلى أخيها من أبيها صخر أعطف منها إلى أخيها من أبويها معاوية لكرم صخر إليها(٢) .

و في ( شعراء ابن قتيبة ) : لم تزل خنساء تبكي صخرا حتى عميت و دخلت على عائشة و عليها صدار من شعر ، فقالت لها : ما هذا فو اللَّه لقد مات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فلم ألبس عليه صدارا قالت لها : إن له حديثا ، إنّ أبي زوّجني سيّدا من سادات قومي متلافا معطافا ، فأنفد ماله فقال لي : إلى أين يا خنساء ، فقلت :

إلى أخي صخر ، فأتيناه فقاسمنا ماله و أعطانا خير النصفين ، فأقبل زوجي يعطي و يهب و يحمل حتى أنفده ثم قال لي : إلى أين يا خنساء ؟ قلت : إلى أخي صخر ، فأتيناه و قاسمنا ماله و أعطانا خير النصفين إلى الثالثة ، فقالت له امرأته : أما ترضى أن تقاسمهم مالك حتى تعطيهم خير النصفين فقال لها :

و اللَّه لا أمنحها شرارها

و لو هلكت قدّدت خمارها

و اتّخذت من شعرها صدارها

فذلك الّذي دعاني إلى لبس الصدار(٣) .

ثم كما أن الكرم أعطف من الرحم كذلك المودّة أعطف منها ، قال العتابي :

إنّي بلوت الناس في حالاتهم

و خبرت ما وصلوا من الأسباب

فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا

و إذا المودة أقرب الأنساب(٤)

____________________

( ١ ) ديوان البحتري ١ : ١٨٥ .

( ٢ ) أعلام النساء لعمر رضا كحالة : ٣٦٥ .

( ٣ ) الشعر و الشعراء لابن قتيبة : ١٢٤ ١٢٥ .

( ٤ ) الأغاني للأصفهاني ١٧ : ١١٧ .

٥٤٥

٦٣ الحكمة ( ٢٥٤ ) و قالعليه‌السلام :

يَا اِبْنَ آدَمَ كُنْ وَصِيَّ نَفْسِكَ فِي مَالِكَ وَ اِعْمَلْ فِيهِ مَا تُؤْثِرُ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ مِنْ بَعْدِكَ هكذا في ( الطبعة المصرية )(١) ، و لفظ « في مالك » زائدة ، فليس في ابن أبي الحديد(٢) و ابن ميثم(٣) و النسخة الخطية(٤) ، و لا يحتاج المعنى إليه .

« و اعمل فيه ما تؤثر أن يعمل فيه من بعدك » هكذا في ( الطبعة المصرية )(٥) و الصواب ما في الثلاثة ( و اعمل في مالك ما تؤثر أن يعمل فيه من بعدك ) فبعد عدم وجود « في مالك » أوّلا كما عرفت ، لا بدّ من ذكره هنا ، يعني أن أغلب الأوصياء لا يعملون و يبدلون ، فإن كنت ناصح نفسك فكن أنت المتصدّي لنفسك .

و في ( سبب وقف غيبة الشيخ ) عن الحسين بن أحمد بن فضّال قال :

كنت أرى عند عمّي علي بن فضّال شيخا من أهل بغداد و كان يهازل عمي فقال له يوما : ليس شرّا منكم يا معشر الشيعة قال له : لم لعنك اللَّه ؟ قال : أنا زوج بنت أحمد بن أبي بشر السرّاج قال لي لمّا حضرته الوفاة : كان عندي عشرة آلاف دينار وديعة لموسى بن جعفرعليه‌السلام فدفعت ابنه عنها بعد موته و شهدت أنّه لم يمت ، فاللَّه اللَّه خلّصوني من النار و سلّموها إلى الرّضا قال :

____________________

( ١ ) النسخة المصرية : ٧١٣ رقم ( ٢٥٦ ) .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ٩٥ .

( ٣ ) شرح ابن ميثم ٥ : ٥٦٣ رقم ( ٢٤٠ ) النسخة المنقحة مطابقة للنسخة المصرية : ٧١٣ رقم ( ٢٥٦ ) .

( ٤ ) سقط النصّ من النسخة الخطية ( المرعشي ) .

( ٥ ) راجع المصدرين السابقين فهما متطابقين أيضا في التكملة .

٥٤٦

فو اللَّه ما أخرجنا حبة و لقد تركناه يصلى في نار جهنم(١) .

و كان السجادعليه‌السلام : كلّما مرض أوصى بوصية فإذا برى‏ء أجرىعليه‌السلام بنفسه ما أوصى به(٢) .

هذا ، و في كنز الكراجكي قال المفيد : دخل رجل صحيح على مريض فقال له : أوص فقال له : بم أوصي و انّما يرثني زوجتاك و اختاك و خالتاك و عمتاك و جدتاك .

و قال في شرح الكلام : إنّ ذاك المريض كان تزوج جدّتي ذاك الصحيح امّ أمّه و امّ أبيه ، فأولد كلّ واحدة منهما ابنتين فابنتاه من جدته امّ أمّه خالتا ذاك الصحيح و ابنتاه من جدّته امّ أبيه عمتا ذاك ، و تزوج الصحيح جدتي المريض و تزوج أبو المريض ام الصحيح فأولدها ابنتين ، و حينئذ فقد ترك المريض إذا مات أربع بنات هما عمتا الصحيح و خالتاه و ترك جدتيه زوجتي الصحيح و ترك زوجتيه جدتي الصحيح و ترك اختيه لأبيه و هما اختا الصحيح لامه ، فلبناته الثلثان و لزوجتيه الثمن و لجدتيه السدس و لاختيه لأبيه ما بقي .

و هذه القسمة على مذهب العامة دون الخاصة(٣) .

____________________

( ١ ) الغيبة للطوسي : ٦٦ و ٦٧ ، و نقله عنه المجلسي في بحار الأنوار ٤٨ : ٢٥٥ ح ٩ .

( ٢ ) ورد في وسائل الشيعة ٦ : ٣٨٥ في باب جواز رجوع الموصي في الوصية قال علي بن الحسين : لرجل ان يغير وصيته فيعتق من كان أمر بملكه و يملك من كان أمر بعتقه و يعطي من كان حرمه ، و يحرم من كان اعطاء ما لم يمت ، لم نعثر على ما ذكر المؤلف في تراجم الإمام السجادعليه‌السلام .

( ٣ ) كنز الفوائد للكراجكي ١ : ١٠٢ ١٠٣ ، لم يورد العلاّمة التستري الأبيات الشعرية على لسان المريض و هي :

٥٤٧

اتيت الوليد ضحى عائدا

و قد خامر اللكب منه السقاما

فقلت له أوحي فيما تركت

فقال الا قد كفيت الكلاما

ففي عمتيك و في جدتيك

و في خالتيك تركت السواما

و زوجاك حقهما ثابت

و اختاك منه تجوز التماما

هنالك يا ابن أبي خالد

ظفرت بعشر حديث السهاما

٥٤٨

و في ( شعراء القتيبي ) : قيل للحطيئة حين احتضاره : أوص ، فقال : مالي للذكور من ولدي دون الإناث قالوا : فإنّ اللَّه لم يأمر بذلك قال : فإنّي آمر به .

قيل له : قل « لا إله إلاّ اللَّه » قال : ويل للشعر من راوية السوء قيل له : ألا توصي بشي‏ء للمساكين قال : أوصيهم بالمسألة ما عاشوا فإنّها تجارة لن تبور قيل له : أعتق عبدك يسارا قال : هو مملوك ما بقي عبسي قيل له : فلان اليتيم ما توصي له بشي‏ء ؟ قال : أوصيكم أن تأخذوا ماله و تنيكوا امه قيل له : ليس إلاّ هذا قال : إحملوني على حمار فإنّه لم يمت عليه كريم لعلّي أنجو ، ثم قال :

لكلّ جديد لذّة غير أنّني

وجدت جديد الموت غير لذيذ

له خبطة في الحلق ليس بسكّر

و لا طعم راح يشتهى و نبيذ

و مات مكانه(١) .

٦٤ من غريب كلامه رقم ( ٢ ) و في حديثهعليه‌السلام :

هَذَا اَلْخَطِيبُ اَلشَّحْشَحُ أقول : قال ابن أبي الحديد(٢) قال ابن ميثم(٣) : هذه الكلمة لصعصعة بن صوحان العبدي ، و كفى صعصعة بها فخرا أن يكون مثل عليعليه‌السلام يثني عليه بالمهارة و فصاحة اللسان ، و كان صعصعة من أفصح الناس ذكر ذلك الجاحظ(٤) .

____________________

( ١ ) الشعر و الشعراء لابن قتيبة : ١١٠ ١١١ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ١٠٦ .

( ٣ ) شرح ابن ميثم ٥ : ٣٧١ رقم « ٢ » .

( ٤ ) نقل الجاحظ في البيان و التبيين ١ : ٣٢٧ قول عبيد اللَّه بن زياد بن ظبيان لأشيم بن شقيق بن ثور : أنت يوم القيامة أخطب من صعصعة بن صوحان إذا تكلمت الخوارج ، ثم يقول الجاحظ : فما ظنك ببلاغة رجل عبيد اللَّه بن زياد

٥٤٩

قلت : بل قالعليه‌السلام هذه الكلمة ان صح كونها كلامهعليه‌السلام في شاب من قيس غير معروف ، ففي تاريخ الطبري بعد ذكره خبرا عن كليب الجرمي في أصحاب الجمل إلى أن قال قال كليب و نادىعليه‌السلام بعد ظفره : ألا لا تتبعوا مدبرا و لا تجهزوا على جريح و لا تدخلوا الدور ثم بعث إليهم ان أخرجوا للبيعة ، فبايعهم على الرايات و قال : من عرف شيئا فليأخذه حتى ما بقي في العسكرين شي‏ء إلاّ قبض ، فانتهى إليه قوم من قيس شبان فخطب خطيبهم فقال عليعليه‌السلام :

أين امراؤكم ؟ فقال الخطيب : أصيبوا تحت نظار الجمل ثم أخذ في خطبته فقال عليعليه‌السلام أما ان هذا لهو الخطيب الشحشح .(١) .

و ممّا يشهد انّهعليه‌السلام قال ذلك في خطيب غير معروف الاسم ان الجاحظ قال في الجزء الثاني من بيانه : في حديث عليعليه‌السلام حين رأى فلانا يخطب قال هذا الخطيب الشحشح(٢) .

و قال ابن الأثير في نهايته : في حديث عليعليه‌السلام انّه رأى رجلا يخطب فقال « هذا الخطيب الشحشح » أي : الماهر الماضي في الكلام .(٣) .

و لو كانعليه‌السلام قال هذا الكلام في معروف مثل صعصعة لقالا : رأى صعصعة ، و ابن الأثير رأى كتب جميع من صنف في الغريب و ذكر هذا الحديث فيه فيعلم انّه لم يعينه أحد .

و أما ما قاله ابن أبي الحديد من قوله « ذكر ذلك الجاحظ » مشيرا إلى يضرب به المثل ، ثم قال : و إنّما أردنا بهذا الحديث خاصة ، الدلالة على تقديم صعصعة بن صوحان في الخطب .

____________________

( ١ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري : كان في سيرة على أن لا يقتل مدبرا و لا يذفف على جريح و لا يكشف سترا و لا يأخذ مالا . إلى آخره ٣ : ٢٢٣ ، و ذكر في ٣ : ٢٢٢ قول الإمام عليعليه‌السلام أن من عرف شيئا فليأخذه الاّ سلاحا . إلى آخره أما بقية ما أورده العلاّمة التستري فهو زيادة على النصّ المذكور راجع الطبري ٣ : ٢٢٢ ٢٢٣ .

( ٢ ) لم يوجد في الهوامش يراجع : ٢٦٧ في الأصل .

( ٣ ) نهاية ابن الأثير ٢ : ٤٤٩ .

٥٥٠

جميع ما قاله(١) ، فإنّما يصح منه ان الجاحظ قال : ان صعصعة كان من أفصح الناس و كفاه فخرا ان يكون مثل عليعليه‌السلام يثنى عليه بالمهارة ، دون كون الجاحظ قال إنّهعليه‌السلام قال تلك الكلمة لصعصعة ، و هذا نص الجاحظ في بيانه في الجزء الأول : قال أشيم بن شقيق بن ثور لعبيد اللَّه بن زياد بن ظبيان : ما أنت قائل لربّك و قد حملت رأس مصعب إلى عبد الملك ؟ قال : اسكت فأنت يوم القيامة أخطب من صعصعة إذا تكلمت الخوارج ، فما ظنّك ببلاغة رجل مثل عبيد اللَّه بن زياد بن ظبيان يضرب به المثل(٢) ، و إنّما أردنا بهذا الحديث خاصة الدلالة على تقديم صعصعة في الخطب ، و أولى من كلّ دلالة استنطاق عليعليه‌السلام له .

فترى الجاحظ إنّما قال : إن قاتل مصعب ضرب المثل بخطيبية صعصعة ثم قال أولى من كلّ دلالة على خطيبية صعصعة استنطاقهعليه‌السلام له لا أنّهعليه‌السلام قال فيه « هو خطيب شحشح » ، و قد روى قول قاتل مصعب ( الأغاني ) أيضا فقال : قال رجل لعبيد اللَّه : بما ذا تحتجّ عند ربك من قتلك لمصعب فقال :

ان تركت أحتجّ رجوت أن أكون أخطب من صعصعة بن صوحان(٣) .

ثم الظاهر أصحية رواية ( الأغاني ) أن يكون قاتل مصعب قال : أنا أخطب من صعصعة ، من رواية البيان : أنت أخطب من صعصعة ، بشهادة السياق .

ثم الظاهر أن مراد الجاحظ من قوله : « و أولى من كلّ دلالة استنطاق عليعليه‌السلام له » ما رواه ( المروج ) أنّهعليه‌السلام بعد الجمل قال لصعصعة و نفرين

____________________

( ١ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٩ : ١٠٦ .

( ٢ ) البيان و التبيين للجاحظ ١ : ٣٢٧ .

( ٣ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٣٨ .

٥٥١

آخرين معه : أشيروا عليّ في أمر معاوية فقال صعصعة : الرأي أن ترسل إليه عينا من عيونك وثقة من ثقاتك بكتاب تدعوه إلى بيعتك ، فإن أجاب و إلاّ جاهدته فقال عليعليه‌السلام : عزمت عليك يا صعصعة إلاّ كتبت الكتاب بيدك و توجّهت به إلى معاوية و اجعل صدر الكتاب تحذيرا و تخويفا و عجزه استتابة و استنابة إلى أن قال ثم اكتب ما أشرت به عليّ و اجعل عنوان الكتاب( ألا إلى اللَّه تصير الاُمور ) (١) قال : اعفني من ذلك قال : عزمت عليك لتفعلن قال : أفعل ، فخرج بالكتاب إلى أن قال فقال معاوية لشي‏ء ما سوّده قومه ، وددت و اللَّه أنّي من صلبه ثم التفت إلى بني اميّة فقال هكذا فلتكن الرجال(٢) .

و بالجملة لا ريب في أنّ هذا الكلام إنّما قالهعليه‌السلام إن ثبت صحّة نسبته إليهعليه‌السلام في خطيب من أعدائه من أصحاب الجمل كما عرفت ، كما لا ريب في أنّ الجاحظ إنّما قال بتقديم صعصعة في الخطب لضرب المثل به و لأنّهعليه‌السلام استنطقه و استكتبه دون أن يقول : إنّهعليه‌السلام قال ذلك الكلام فيه .

و ممّا يشهد لمسلّميّة مقام صعصعة في الخطابة ما في ( الطبري ) في قصة خروج المستورد الخارجي على المغيرة أيام امارته على الكوفة من قبل معاوية و تعيين المغيرة أوّلا معقل بن قيس من الشيعة لحربه قال مرّة بن منقذ فقال صعصعة بعد معقل و قال : إبعثني إليهم أيّها الأمير فأنا و اللَّه لدمائهم مستحل و بحملها مستقل فقال المغيرة : إجلس فإنّما أنت خطيب فكان أحفظه ذلك و إنّما قال المغيرة ذلك لأنّه بلغه أن صعصعة يعيب عثمان و يكثر ذكر عليعليه‌السلام و يفضّله و قد كان دعاه و قال له : إيّاك أن يبلغني عنك أنّك تعيب

____________________

( ١ ) الشورى : ٥٣ .

( ٢ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٣٨ .

٥٥٢

عثمان عند أحد من الناس ، و إيّاك أن يبلغني عنك أنّك تظهر شيئا من فضل علي علانية ، فإنّك لست بذاكر من فضل عليّ شيئا أجهله بل أنا أعلم بذلك ، و لكن هذا السلطان قد ظهر و قد أخذنا بإظهار عيبه للناس فنحن ندع كثيرا ممّا أمرنا به و نذكر الشي‏ء الذي لا نجد بدا منه ندفع هؤلاء القوم عن أنفسنا تقيّة ، فإن كنت ذاكرا فضله فاذكره بينك و بين أصحابك و في منازلكم سرّا ، و أمّا علانية في المسجد فإنّ هذا لا يحتمله الخليفة لنا و لا يعذرنا فيه .

فكان صعصعة يقول : نعم افعل ، ثم يبلغه أنّه قد عاد إلى ما نهاه عنه ، فلمّا قام إليه و قال له : إبعثني إليهم ، و جد المغيرة قد حقد عليه خلافه إيّاه ، فقال له ما قال « إجلس ، فإنّما أنت خطيب » فقال له صعصعة : أو ما أنا إلاّ خطيب ، أجل و اللَّه أنا الخطيب الصليب الرئيس ، أما و اللَّه لو شهدتني تحت راية عبد القيس يوم الجمل حيث اختلف القنا فشؤن تفرى و هامة تختلى لعلمت أنّي أنا اللّيث الهزبر فقال له المغيرة : حسبك الآن ، لعمري لقد أوتيت لسانا فصيحا(١) .

و في ( ديوان معاني العسكري ) : تكلّم صعصعة عند معاوية بكلام أحسن فيه ، فحسده عمرو بن العاص فقال : هذا بالتمر أبصر منه بالكلام فقال صعصعة ، أجل أجوده ما دق نواه و رق سحاؤه و عظم لحاؤه و الريح تنفجه و الشمس تنضجه و البرد يدمجه ، و لكنك يابن العاص لا تمرا تصف و لا الخير تعرف بل تحسد فتقرف(٢) فقال معاوية لعمرو : رغما لك فقال عمرو :

و أضعاف الرغم لك و ما بي إلاّ بعض ما بك(٣) .

و في ( عقد ابن عبد ربه ) : قال عبد الملك في عبد القيس : أشد الناس

____________________

( ١ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٤ : ١٤٤ .

( ٢ ) أي تقذف .

( ٣ ) ديوان المعاني للعسكري ٢ : ٤١ .

٥٥٣

و أسخى الناس و أطوع الناس في قومه و أحلم الناس و أحضرهم جوابا و أخطب الناس ، أمّا أحضرهم جوابا فصعصعة .(١) .

و فيه دخل صعصعة على معاوية و ابن العاص جالس معه على سريره فقال له : وسع له على ترابيّة فيه فقال صعصعة : إني و اللَّه لترابي ، منه خلقت و إليه أعود و منه ابعث ، و إنّك لمارج من نار فقال له معاوية : إنّما أنت هاتف بلسانك لا تنظر في أود الكلام و استقامته ، فإن كنت تنظر في ذلك فأخبرني عن أفضل المال ، فقال : و اللَّه إنّي لأدع الكلام حتى يختمر في صدري ثم أذهب و لا أهتف به حتى أقيم أوده و اجيز متنه ، و ان أفضل المال لبرة سمراء في برية غبراء ، أو نعجة صفراء في نبعة خضراء ، أو عين فوّارة في أرض خوّارة فقال معاوية : للَّه أنت فأين الذهب و الفضة ؟ قال : حجران يصطكّان ، إن أقبلت عليهما نفدا و إن تركتهما لم يزيدا(٢) .

و في ( المروج ) : حبس معاوية صعصعة و ابن الكوّاء و رجالا من أصحاب عليعليه‌السلام مع رجال من قريش ، فدخل عليهم يوما فقال : نشدتكم باللَّه إلاّ ما قلتم حقّا و صدقا ، أيّ الخلفاء رأيتموني إلى أن قال فقال صعصعة :

تكلّمت يا ابن أبي سفيان فأبلغت و لم تقصر عمّا أردت و ليس الأمر على ما ذكرت ، أنّى يكون خليفة من ملك الناس قهرا و دانهم كبرا و استولى بأسباب الباطل كذبا و مكرا ، أما و اللَّه مالك في يوم بدر مضرب و لا مرمى ، و ما كنت فيه إلاّ كما قال القائل « لا حلّي و لا سيري » ، و لقد كنت و أبوك في العير و النفير ممّن أجلب على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، و إنّما أنت طليق ابن طليق أطلقكما الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

( ١ ) العقد الفريد لابن عبد ربه ٤ : ٣٦٧ ، أما أشد الناس فحكم بن جبل ، و أمّا أسخى الناس فعبد اللَّه بن سوار و أمّا أطوع الناس فالجارود بشر بن العلاء .

( ٢ ) العقد الفريد لابن عبد ربه ٥ : ١١٥ ( دار الكتب العلمية ) .

٥٥٤

و أنّى تصلح الخلافة لطليق(١) .

( و فيه ) قال معاوية يوما و عنده صعصعة و كان قدم عليه بكتاب عليعليه‌السلام و عنده وجوه الناس : الأرض للَّه و أنا خليفة اللَّه ، فما آخذ من مال اللَّه فهو لي و ما تركت منه كان جايزا لي فقال صعصعة :

تمنيّك نفسك ما لا يكون

جهلا معاوي لا تأثم

فقال معاوية : يا صعصعة تعلمت الكلام قال صعصعة : العلم بالتعلّم و من لا يعلم يجهل قال معاوية : ما أحوجك إلى أن اذيقك و بال أمرك قال : ليس ذلك بيدك ، ذاك بيد الذي لا يؤخّر نفسا إذا جاء أجلها قال : و من يحول بيني و بينك ؟ قال : الذي يحول بين المرء و قلبه قال معاوية : إتّسع بطنك للكلام كما اتّسع بطن البعير للشعير قال صعصعة : إتّسع بطن من لا يشبع و دعا عليه من لا يجمع(٢) .

( و فيه ) إن معاوية قال لابن عباس : ميّز لي أصحاب عليّعليه‌السلام و ابدأ بآل صوحان فإنّهم مخاريق الكلام قال : أمّا صعصعة فعظيم الشأن عضب اللّسان قائد فرسان قاتل أقران ، يرتق ما فتق و يفتق ما رتق قليل النظير(٣) .

و يكفيه أنّ مثل ابن عباس مع مقامه في الخطابة و الأدب كان يسأله عن أمور كثيرة و يجيبه ، فقال له : أنت يا ابن صوحان باقر علم العرب و لمّا سأله عن السؤدد و المروة فأجابه و أنشده أبياتا في ذلك من مرّة بن ذهل بن شيبان قال ابن عباس : لو أنّ رجلا ضرب آباط الإبل مشرقا و مغربا لفائدة هذه الأبيات ما عنّقته(٤) .

____________________

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٥٠ .

( ٢ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٥٠ .

( ٣ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٤٦ .

( ٤ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٤٦ .

٥٥٥

هذا و في ( بيان الجاحظ ) ذكر عليعليه‌السلام أكتل(١) فقال : « الصبيح الفصيح »(٢) .

و في ( الاستيعاب ) : أكتل من شماخ ، نسبه ابن الكلبي إلى عوف بن عبد مناة بن طابخة ، و قال : كان عليعليه‌السلام إذا نظر إليه قال : من أحبّ أن ينظر إلى الصبيح الفصيح فلينظر إلى أكتل بن شماخ(٣) .

قال المصنف ( يريد : الماهر بالخطبة الماضي فيها ، و كل ماض في كلام أو سير فهو شحشح ) قلت : أو في طيران فيقال قطاة شحشح أي سريع الطيران .

( و الشحشح في غير هذا الموضع البخيل الممسك ) .

قلت : و الفيروز آبادي ذكر للشحشح غير ما ذكر معاني اخر ، فقال :

الشحشح الفلاة الواسعة و السيّ‏ء الخلق و الشجاع و الغيور ، و من الغربان :

الكثير الصوت ، و من الأرض : ما لا تسيل إلاّ من مطر كثير و التي تسيل من أدنى مطر ضد ، و من الحمير : الخفيف ، و من القطا السريعة و الطويل(٤) .

٦٥ من غريب كلامه رقم ( ٣ ) و في حديثهعليه‌السلام :

إِنَّ لِلْخُصُومَةِ قُحَماً أقول : قال ابن أبي الحديد : هذه الكلمة قالهاعليه‌السلام حين وكّل عبد اللَّه بن

____________________

( ١ ) و هو أكتل بن شماخ بن زيد بن شداد العكلي ، شهد الجسر مع أبي عبيدة ، و أسر يومئذ و ضرب عنقه ، و شهد القادسية ، الإصابة في تمييز الصحابة ١ : ٤٨١ .

( ٢ ) البيان و التبيين للجاحظ ٢ : ١٧٢ .

( ٣ ) الاستيعاب لابن عبد البرّ ١ : ٤٣ ، الترجمة رقم ( ١٥٨ ) .

( ٤ ) القاموس المحيط للفيروز آبادي ١ : ٢٣٠ .

٥٥٦

جعفر في الخصومة عنه(١) .

و قال ابن ميثم : يروى أنّهعليه‌السلام وكّل أخاه في خصومة و قال : إن لها تقحّما و إنّ الشيطان يحضرها(٢) .

و في ( المستجاد ) دخل عمارة بن حمزة على المنصور فقعد في مجلسه ، فقام رجل فقال للمنصور : مظلوم قال : من ظلمك قال عمارة :

غصبني ضيعتي فقال المنصور : قم يا عمارة فاقعد مع خصمك فقال : ما هو لي بخصم قال : و كيف ذلك ؟ قال : ان كانت الضيعة له فلست انازعه و ان كانت لي فهي له ، و لا أقوم من مجلس قد شرّفني به الخليفة أمير المؤمنين و أقعد في أدنى منه بسبب ضيعة(٣) .

قال المصنف : ( يريد بالقحم المهالك لأنّها تقحم أصحابها في المهالك و المتالف في الأكثر ) في ( النهاية ) : اقتحم الأمر العظيم و تقحّمه ، إذا رمى نفسه فيه من غير رويّة ، و القحمة الورطة و الهلكه ، و منه حديث عليعليه‌السلام « ان للخصومة قحما »(٤) .

« و من ذلك قحمة الاعراب و هو ان تصيبهم السنة » أي : سنة القحط .

« فتتعرق أموالهم » هكذا في ( الطبعة المصرية )(٥) و الصواب ما في ابن أبي الحديد(٦) و ابن ميثم(٧) ( فتتقرف أموالهم ) .

____________________

( ١ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٩ : ١٠٧ .

( ٢ ) شرح نهج البلاغة لابن ميثم ٥ : ٣٧٢ .

( ٣ ) المستجاد للتنوخي : ١٩٣ ١٩٤ .

( ٤ ) النهاية لابن الأثير ١ : ١٨ .

( ٥ ) النسخة المصرية : ٧١٥ شرح محمّد عبده .

( ٦ ) في شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ١٠٧ بلفظ « فتتفرق » .

( ٧ ) نسخة ابن ميثم المنقحة مطابقة للنسخة المصرية ٥ : ٣٧٢ .

٥٥٧

« فذلك تقحمها » أي : تقحّم السنة .

« فيهم » أي : في الاعراب .

« و قيل فيه » أي : في قول قحمة الاعراب .

« وجه آخر و هو أنّها تقحمهم » أي : تدخلهم .

« بلاد الريف » أي : الخصب .

« أي تحوجهم إلى دخول الحضر عند محول البدو » أي : قحط البادية .

قلت : و يشهد لكونه هو الوجه قولهم : « أقحمت السنة نابغة بني جعدة » أي : أخرجته من البادية و أدخلته الحضر .

٦٦ الحكمة ( ٢٩٨ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ بَالَغَ فِي اَلْخُصُومَةِ أَثِمَ وَ مَنْ قَصَّرَ فِيهَا ظُلِمَ وَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَّقِيَ اَللَّهَ مَنْ خَاصَمَ أقول : قال ابن أبي الحديد هذا مثل قولهعليه‌السلام في موضع آخر : « الغالب بالشرّ مغلوب »(١) و كان يقال : ما تسابّ اثنان إلاّ غلب ألامهما(٢) .

قلت : و أين ما ذكره ممّا قالهعليه‌السلام و إنّما كلامه هنا مثل قوله قبل : « إنّ للخصومة قحما » ، و كأنّ هذا تفصيل لإجمال ذاك ، و المراد بالخصومات التي ترفع إلى القضاة لا التسابّ الخارجي و يصير الرجل في خصومات القضاة موهونا اضافة إلى ما ذكره ، و لذا كان بعض الشرفاء يتركون حقّهم مع كون ادعائهم حقّا و يخسرون مع كون الادعاء باطلا حتى يخلصوا من الخصومة .

____________________

( ١ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٩ : ٢٠٤ ، و هو من الكلمات القصار .

( ٢ ) المصدر نفسه .

٥٥٨

٦٧ الحكمة ( ٢٦٥ ) و قالعليه‌السلام :

إِنَّ كَلاَمَ اَلْحُكَمَاءِ إِذَا كَانَ صَوَاباً كَانَ دَوَاءً وَ إِذَا كَانَ خَطَأً كَانَ دَاءً أي : إن صواب كلامهم دواء لباقي الناس من أمراضهم الباطنية ، كما أنّ خطأ كلامهم يولّد فيهم أمراضا حادثة ، فإنّ عامة الناس ينظرون إلى القائل و ليسوا هم أهل التمييز .

و مثل قول الحكماء علم العلماء ، فإنّه إذا كان مقرونا بالعمل يكون دواء و إذا كان عاريا عنه كان داء(١) .

و في ( الكافي ) قال عيسىعليه‌السلام للحواريين : بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبّر ، و كذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل(٢) ، و قالت الحواريون لعيسىعليه‌السلام : من نجالس ؟ قال : من يذكّركم اللَّه رؤيته و يزيدكم في علمكم منطقه ، و يرغّبكم في الآخرة عمله(٣) .

و أوحى اللَّه تعالى إلى داودعليه‌السلام : لا تجعل بيني و بينك عالما مفتونا بالدنيا فيصدّك عن طريق محبتي ، فإنّ اولئك قطّاع طريق عبادي المريدين ، إنّ أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم(٤) .

و عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدّنيا باتّباع السلطان ، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم(٥) .

____________________

( ١ ) ذكر ابن أبي الحديد في شرحه ١٩ : ٢٠٤ ما يشابه ذلك .

( ٢ ) الكافي للكليني ١ : ٣٧ ح ٦ .

( ٣ ) الكافي للكليني ١ : ٣٩ ح ٣ و هو عن أبي عبد اللَّه عن الرسول صلّى اللَّه عليه و آله .

( ٤ ) الكافي للكليني ١ : ٤٦ ح ٤ .

( ٥ ) الكافي للكليني ١ : ٤٦ ح ١ .

٥٥٩

و عن الصادقعليه‌السلام : إنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزل المطر عن الصفا(١) .

٦٨ الحكمة ( ٢٩٦ ) وَ قَالَ ع لِرَجُلٍ يَسْعَى

 عَلَى عَدُوٍّ لَهُ بِمَا فِيهِ إِضْرَارٌ بِنَفْسِهِ إِنَّمَا أَنْتَ كَالطَّاعِنِ نَفْسَهُ لِيَقْتُلَ رِدْفَهُ أقول : الظاهر أنّ الأصل في هذا الكلام ما رواه الطبري عن سيف باسناده : أنّ الناس كانوا في الوليد فرقتين : العامة معه و الخاصة عليه ، حتى كانت صفّين فولّى معاوية فجعلوا يقولون : عيب عثمان بالباطل ، فقال لهم علي : إنّكم و ما تعيّرون به عثمان كالطّاعن نفسه ليقتل ردفه ، و ما ذنب عثمان في رجل قد ضربه بقوله و عزله عن عمله ، و ما ذنب عثمان فيما صنع عن أمرنا(٢) .

و الخبر كما ترى محرّف لا يفهم منه محصل ، ثم جميع ما يرويه الطبري عن سيف أمور منكرة خلاف ما يرويه الخاصة و العامّة(٣) ، و منها هذا الخبر فإنّ ضرب عثمان الوليد بن عقبة أخاه الرضاعي لمّا شكا أهل الكوفة صلاته بهم سكران و صلاته بهم الصبح أربعا و تغنّيه في الصّلاة إنّما كان بإجبار أمير المؤمنينعليه‌السلام له ، و كيف يعقل أن يعيب أحد عثمان بضربه الحدّ حتى ينكرعليه‌السلام ذلك ، و إنّما عابوا عثمان بتوليته مثل الوليد و آبائه عن إجراء الحد عليه حتى أنّبهعليه‌السلام بتضييعه حد اللَّه ، و تصدّىعليه‌السلام لضربه رغما لعثمان

____________________

( ١ ) الكافي للكليني ١ : ٤٤ ح ٣ .

( ٢ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٢ : ٦١٢ .

( ٣ ) للسيد مرتضى العسكري بحث مطولة في هذا المضمار راجع كتابه « عبد اللَّه بن سبأ » .

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581