مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن6%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265913 / تحميل: 6072
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

١ ـ إستحواذ القلق عند مرابطة الأحزاب:

إنّ الآية الاُولى ترسم لنا كيفيّة نزول الأحزاب على المدينة وأنّهم جاءوها من أعاليها وأسافلها، فقد جاءت قبيلة غطفان وبني النضير من الجانب الشرقي للمدينة وهي الجهة العليا وجاءت قريش ومن انضم إليهم من الأحابيش وكنانة من الجانب الغربي وهي الجهة السفلى، وإليه يشير قوله سبحانه:( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) .

كما أنّها تعكس الحالة النفسية التي عايشها المسلمون أثناء تطويق المدينة وهم على طوائف:

١ ـ من مالت أبصارهم عن كل شيء فلم تنظر إلّا إلى عدوّهم مقبلين من كل جانب.

٢ ـ من شخّصت قلوبهم من مكانها ولولا أنّه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت.

٣ ـ من ظنّ بالله ظنّ الجاهلية متقوّلين بأنّ الكفّار سيغلبون وسيستولون على المدينة وبالتالي ينمحق الدين وتعود الجاهلية أدراجها الاُولىٰ.

وإلى هذه الحالات الثلاث أشارت الآية بجملها الثلاث:

أ ـ( وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ ) .

ب ـ( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ ) .

ج ـ( وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ) .

والجملتان الأوّليتان كناية عن مبلغ استحواذ الخوف والهلع عليهم حتى انتقل بهم إلى حالة شبيهة بالإحتضار التي يزيغ فيها البصر وتبلغ القلوب الحناجر.

وأمّا الجملة الثالثة: فلم تكن تشير إلى عموم المسلمين بل تستعرض حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض، فهؤلاء ظنّوا بالله ظنّ الجاهلية، كما يدل عليه

٣٨١

صريح لفظها حيث تضمّنت ما لفظه:

( وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلّا غُرُورًا ) .

والمراد من قوله:( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) ضعفاء الإيمان من المسلمين وهم غير طائفة المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر والشرك وإنّما يسمّون محمّداً رسولاً لمكان اظهارهم الإسلام.

وأمّا الوعد الذي وعدهم الله ورسوله به هو أنّه كان يكرّر قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( التوبة / ٣٣ ).

ولو افترضنا نزول الآية بعد غزوة الخندق فقد كان النبي يعدهم أنّه يفتح مدائن كسرى وقيصر خصوصاً عند حفر الخندق على ما في كتب السير والتواريخ(١) .

قال ابن هشام:

وعظم عند ذلك البلاء، واشتدّ الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتّى ظنّ المسلمون كلّ ظنّ ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال بعضهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب للتخلّي.

وأيم الله كانت هذه الغزوة كاُختها أي غزوة اُحد تمحيصاً وغربلة وتمييزاً للمؤمن الواقعي عن المنافق المتظاهر بالإيمان كما تشير إليه الآية الثانية.

( هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا ) وإنّما استعمل كلمة هنالك مع أنّها يشارُ بها إلى البعيد لأنّ الآية نزلت بعد جلاء المعركة وأشار بها إلى زمان مجيء الجنود المتأخّر عن نزولها.

__________________

(١) السيرة النبويّة لإبن هشام: ج ٢ ص ٢١٩، لاحظ محادثة النبي لسلمان عند حفر الخندق.

٣٨٢

٢ ـ حياكة الدسائس لفتح الثغرات:

لم يكن عمل المنافقين منحصراً بإثارة القلاقل والارهاصات النفسية على ما مرّ بيانه في كلماتهم بل كان دورهم أوسع من ذلك، فقد كانوا يقومون بشن حرب نفسيّة تهدف إلى تفريق المسلمين عن الدفاع عن الخندق وكانوا يقولون للمسلمين لا وجه لإقامتكم هاهنا قبال جنود المشركين فالغلبة لهم لا محالة ولا مناص من الفرار.

وكان لفيف منهم يتذرّعون بقولهم( إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ) أي لا يؤمن عليها من السارق وزحف العدو عليها، حتّى يتملّصون ويتخلّصون من الخطر الذي يحدق بهم في ساحة المعركة. وكان هذا الكلام واجهة للفرار، وإليه يشير قوله سبحانه:

( وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إلّا فِرَارًا ) .

٣ ـ المشارفة على أعتاب الردّة:

ولقد بلغ الحال بالمنافقين والذين في قلوبهم مرض في تهاونهم بأمر التمسّك بالدين أنّه لو رجع إليهم العدو مرّة ثانية ودخل المدينة من أقطارها وأطرافها ونواحيها ثمّ سألوهم الرجوع إلى الشرك لأجابوا مسرعين ولم يتوانوا ولم يلبثوا في الاجابة إلّا زماناً يسيراً بمقدار الطلب والسؤال منهم، فالمنافقون ومن تبعهم من مرضى القلوب يتظاهرون بالإسلام مادام الرخاء سائداً والأمن حالًّا فإذا خيّمت الشدّة وحاق بهم البأس لم يلبثوا إلّا قليلاً دون الرجوع والردّة.

وهذا يعطي لنا درساً إضافيّاً بأنّ النظام الإسلامي يجب أن يرتكز في دعوته وكافّة اُموره السياسية والإجتماعية والروحية على المؤمنين الصادقين، والمعتنقين لمبادئه وأحكامه بصدق ويقين وتفان وإخلاص، يتحاشىٰ عن الركون والإعتماد على المنافقين بل يحذر منهم دائماً، ويطلب نبذهم من الحياة فإنّهم يَعِدون ولا يوفون، يبايعون وينقضون، ويحالفون ويغدرون، وهذه سجيّتهم وديدنهم، وإليه يشير

٣٨٣

قوله سبحانه:

( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً ) .

وأمّا أنّهم في أي مكان وزمان بايعوا النبى فغير معلوم، ولعلّ إيمانهم بالله ورسوله وبما جاء به من الجهاد وحرمة الفرار منه، نوع عهد لله ورسوله أن لا يولّوا الأدبار، وعلى كل تقدير فهؤلاء لا يتحمّلون المسؤولية وإن تحمّلوها بادئ بدء، رفضوها في خاتمة المطاف.

٤ ـ عدم جدوىٰ الفرار:

هؤلاء يتركون ساحة القتال وأطراف الخندق، لأجل الفرار من خطر الموت والقتل، غير أنّهم قد جهلوا سنّة الله الحكيمة القاضية بأنّه:( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف / ٣٤ ).

وقد ردّت هذه النظرية ( الفرار سبيل النجاة ) في غير واحد من الآيات، قال سبحانه:( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إلّا بِإِذْنِ اللهِ ) ( آل عمران / ١٤٥ ).

وقال سبحانه:( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ) ( آل عمران / ١٥٤ ).

ويقول في شأن أولئك الذين نكصوا على أعقابهم في معركة الخندق من المسلمين:( قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلاً ) وما ذلك إلّا لأنّ لكل نفس أجلاً، مقضيّاً ومحتوماً لا يتأخّر عنه ساعة ولا يتقدّم عنه، فالفرار على فرض التأثير لا يؤثّر إلّا قليلاً، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلاً ) .

كيف وأنّ الخير والشر تابعان لإرادته سبحانه، ولا يحول دون نفوذ إرادته شيء، فإذاً الأولى إيكال الأمر إلى إرادته والتوكّل عليه، قال سبحانه:( قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ

٣٨٤

وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) .

٥ ـ سعة علمه:

إنّ المنافقين ومن في قلبه مرض من المسلمين، ما عرفوا الله حقّ قدره، وما عرفوا أسماءه وصفاته، وأنّه عالم بكل شيء، ما تكنّه صدورهم وتضمره قلوبهم وتوحيه نفوسهم، فكيف كلامهم وأعمالهم العلنية، فقد كانوا يعيقون غيرهم من جنود المسلمين عن الجهاد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويثبّطونهم ويشغلونهم ليعرضوا عن نصرته وينصرفوا عن القتال، وكانت اليهود تساندهم في هذا الأمر ويقولون مع نظرائهم من المنافقين: لا تحاربوا وخلّوا محمداً فإنّا نخاف عليكم الهلاك، ولأجل ذلك ما كانوا يحضرون القتال إلّا رياءً أو سمعة قدر ما يوهمون أنّهم مع المسلمين ولكنّهم كانوا كارهين لكون قلوبهم مع المشركين، وإليه يشير قوله سبحانه:

( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلّا قَلِيلاً ) ( الأحزاب / ١٨ ).

٦ ـ جبناء حين البأس، شجعان حين الأمن

عجيب أمر هؤلاء ومن حذىٰ حذوهم:

فهم حين البأس جبناء، تدور أعينهم في رؤوسهم وجلاً وخوفاً، كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيته أسبابه، فعند ذاك يعذّب لبّه ويشخص بصره فلا يتحرّك طرفه.

وحين اقتسام الغنيمة أشحّاء إذا ظفر بها المؤمنون لا يريدون أن يفوتهم شيء ممّا وصل إلى أيديهم، وكان الشاعر يشير إليهم:

وفي السلم أعيار جفاءً وغلظة

وفي الحرب أمثال النساء العواتك

٣٨٥

ولهم مع ذلك كذب في القول ومراء في الكلام، فإذا كان الأمن والرخاء مخيِّما فخروا بمقاماتهم المصطنعة من النجدة والشجاعة والبأس، وإلى هذه الحالات الثلاثه يشير قوله تعالى:

( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا ) .

إلى الحالة الأولى ـ أي جبنهم في الحرب ـ يشير قوله:( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ) أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة، فهم لا يودّون مساعدتكم ولا نصرتكم لا بنفس ولا نفيس.

وإلى الحاله الثانية يشير قوله:( أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ ) أي الغنائم.

وإلى الحالة الثالثة يشير قوله:( فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ) .

وفي النهاية كتب على أعمالهم الضئيلة بالإحباط كما في قوله:( أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ ) .

وفي نهاية المطاف يتناول سبحانه هؤلاء ما هو مفاده: إنّ مقدار الجبن والهلع الذي لحق بهم، وعظيم الدهشة والحيرة التي أحاطت بهم، بلغ إلى حدٍ أنّهم يظنّون أنّ الأحزاب ما زالت مرابطة في ثكنات معسكرهم في الوقت الذي رحلوا فيه.

والذي يعرب عن عظم ما انتابهم من الوجل، أنّه لو رجعت الأحزاب تمنّوا أن لو كانوا مقيمين في البادية بعيدين عن المدينة حتّى لا ينالهم أذىٰ أو مكروه ويكتفون بالسؤال عن أخبار من قاوم من جانب المدينة، وإليه يشير قوله سبحانه:

( يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إلّا قَلِيلاً ) .

إنّه سبحانه بعد أن فصّل أحوالهم، وكشف عّما كنّته صدورهم وما أضمروه ،

٣٨٦

أبان لهم طريق الهداية مرّة اُخرى وانّهم لو راموا النجاة والسعادة فليقتدوا برسول الله وليجعلوه اُسوة لهم، قال سبحانه:

( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا ) .

* * *

حال المؤمنين الصادقين في غزوة الأحزاب

ثمّ إنّه سبحانه لما بيّن حال المنافقين ومن في قلبه مرض، ذكر حال المؤمنين الواقعيين الذين كانوا في الرعيل الأوّل في سوح الجهاد، وكيف أنّهم كانوا على طرفي نقيض من المنافقين، حيث قال سبحانه:( وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا *مِّنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً *لِّيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الأحزاب / ٢٢ ـ ٢٤ ).

إنّ قوله سبحانه( هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ ) إشارة إلى ما وعدهم النبي بأنّ الأحزاب ستجتمع شوكتهم عليهم، فلمّا شاهدوهم تبيّن لهم أنّ ذلك هو الذي وعدهم، وربّما يقال بأنّ المراد ما وعده الله ورسوله من الابتلاء والإمتحان في الآيات التي نزلت في غزوة اُحد في قوله سبحانه( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) ( البقرة / ٢١٤ ).

فتحقّقوا من ذلك أنّه سيصيبهم ما أصاب الأنبياء والمؤمنين بهم من الشدّة والمحنة التي تزلزل القلوب، وتدهش النفوس، فلمّا رأوا الأحزاب أيقنوا أنّه من الوعد الموعود وأنّ الله سينصرهم على عدوّهم.

ثمّ إنّه سبحانه وصف الكاملين من المؤمنين الذين ثبتوا عند اللقاء، واحتملوا

٣٨٧

البأساء والضرّاء في هذه الغزوة وما قبلها من الغزوات، بأنّ بعضهم استشهد يوم بدر ويوم اُحد، وبعض منهم يترقّب أجله، وإليه يشير قوله سبحانه:( مِّنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) .

والنحب: النذر المحكوم بوجوبه، يقال قضىٰ فلان نحبه، أي وفى بنذره، ويعبّر به عمّا انقضىٰ أجله، ثم إنّه سبحانه يقول: إنّ كلاًّ من المؤمن والمنافق مجزى بأعماله، قال سبحانه:( لِّيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) .

وهو سبحانه استعرض جزاء عمل الصادقين بنحو القطع والجزم بقوله:( لِّيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ ) في الوقت الذي نجد فيه أنّه تناول جزاء المنافقين بقوله:( وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ ) بالتعليق على المشيئة، وما ذلك إلّا لبيان سعة رحمته وفضله، وأنّه فسح المجال لتوبة من عصاه، وعلى ذلك يكون معنى الآية يعذّب المنافقين لو شاء تعذيبهم، فيما لم يتوبوا أو يتوب الله عليهم إن تابوا.

خاتمه المطاف:

وفى ختام الآيات يقول أنّه سبحانه: قد صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، وردّ المشركين على أدبارهم، خائبين مخذولين تختنقهم الغصّة وتؤلمهم الحسرة، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) .

النتائج التي تمخّض عنها هذا البحث فهي:

أ ـ إنّ في هذه الغزوة تحالفت الوثنية مع اليهود على أن يكون تحمّل أعباء نفقات الحرب على عاتق اليهود وكاهلهم، ويكون القتال والاصطكاك في ساحة المعركة من نصيب المشركين، وليس هذا التآمر المشترك هو الأوّل من نوعه بل له

٣٨٨

نظائر متعدّدة على امتداد التاريخ الإسلامي، فقد تحالفت الوثنية مع النصرانية في القرن السادس والسابع الهجريين، فشنّوا الغارات الشرسة على العالم الإسلامي، ومزّقوه شر ممزّق، فقد جاء التتار وهم الوثنية من الجهة الشرقية، بينما جاءت النصرانية من جانب الغرب فهجموا على البلاد، وفتكوا بأهلها فتكاً ذريعاً لم يذكر التاريخ له مثيلاً.

ب ـ إنّ الإنتصار رهن عاملين قويين: أحدها بشري والآخر غيبي.

فأمّا الأوّل وهو القيام بالتخطيط العسكري، وحفر الخندق، وحشد القوى بتمام طاقاتها، وبذل كل ما كانوا يملكونه لصدّ هجوم العدو ولم يكن التخطيط العسكري الذي انتخبه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله منحصراً بحفر الخندق، بل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في كسر جبهة الأعداء استعان بالجواسيس وبث العيون وقد كان لنعيم بن مسعود في الفتك بوحدتهم دور هام، على ما مر بيانه وربّما يوازي عمله عمل أدهى أجهزة الإستخبارات العالمية.

وأمّا الثاني وهو الغيبي فقد سلط الله عليهم الريح والبرد القارس، حتى سلبت عنهم الراحة والاستقرار والقدرة على البقاء، فهذا حذيفة بن اليمان الذى أرسله الرسول جاسوساً إلى القوم حيث قال له: اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يصنعون ولا تحدثن شيئاً، حتىٰ تأتينا، قال فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقرّ لهم قِدْراً ولا ناراً ولا بناءً، فقام أبو سفيان فقال: إحذروا الجواسيس والعيون ولينظر كل رجل جليسه، قال حذيفه فالتفتّ إلى عمرو بن العاص فقلت: من أنت، وهو عن يمينى فقال: عمرو بن العاص، والتفتّ إلى معاوية بن أبى سفيان فقلت: من أنت فقال: معاوية بن أبى سفيان، ثمّ قال أبو سفيان: إنّكم والله لستم بدار مقام، لقد هلك الخف والكراع ( إلى أن قال حذيفه ) فقام أبو سفيان وجلس على بعيره، وهو معقول ثمّ ضربه فوثب على ثلاث قوائمه فما اطلق عقاله إلّا بعد ما قام(١) .

__________________

(١) المغازي: ج ٢ ص ٤٨٩ و ٤٩٠، والسيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٢٣٢.

٣٨٩

٤ ـ غزوة بني المصطلق

بلغ رسول الله أنّ بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم « الحارث بن أبي ضرار ». فلمّا سمع بهم خرج إليهم، حتّى لقيهم على ماء لهم، يقال له: ( الـمــُــرَيسيع ) فتزاحف الناس، واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، وسبي من سبي، وقد قتل من أصحاب رسول الله رجل اسمه « هشام بن صبابة » قتله رجل من الأنصار خطأً.

فبينا رسول الله على ذلك الماء، وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له جَهْجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جَهْجاه مع رجل من الأنصار على الماء، فاقتتلا، فصرخ الأنصاري: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين. فلمّا سمع رسول الله صرختهما قال: دعوها فإنّها منتنة ـ يعني إنّها كلمة خبيثة ـ لأنّها من دعوى الجاهلية، فإنّ الله جعل المؤمنين اُخوة وحزباً واحداً، فمن دعا في الإسلام بدعوة الجاهليّة يعزّر.

ثمّ لـمّا بلغ الأمر إلى عبد الله بن اُبيّ بن سلول، وعنده رهط من قومه، فيهم: زيد بن أرقم، وهو غلام حدث، فقال ابن اُبيّ: أوَقد فعلوها، وقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش إلّا كما قال الأوّل: سَمِّن كلبك يأكلك ! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل. ثمّ أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم. فسمع ذلك

٣٩٠

زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك عند فراغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عدوّه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال: مُرْ به عبّاد بن بشر فليقتله. فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه !

وقد مشى عبد الله بن اُبيّ بن سلول إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين بلغه أنّ زيد بن أرقم قد بلّغه ما سمع منه، فحلف بالله: ما قلت ما قال ولا تكلمّت به ـ وكان في قومه شريفاً عظيماً ـ فقال من حضر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسىٰ أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، حَدَباً على ابن اُبيّ بن سلول ودفعاً عنه.

ولكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقف على أنّه إن لم يتّخذ خطة حازمة فقد يستفحل الأمر، لذلك أمر أن يؤذّن بين الناس بالرحيل في ساعة لم يكن يرتحل المسلمون فيها، وعند ذلك جاء أسيد بن حضير وقال: يا نبي الله لقد رحلت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ قال: وأي صاحب يا رسول الله ؟ قال: عبد الله بن اُبيّ قال: وما قال ؟ قال: زعم أنّه إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل، قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز. ثمّ قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله فقد جاءنا الله بك، وإنّ قومه لينظمون له الخَرز ليتوّجوه، فإنّه ليرى أنّك قد أستلبته مُلكاً.

ثمّ مشى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالناس يومهم ذلك حتّى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتّى آذتهم الشمس، ثمّ نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياماً، وإنّما فعل ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن اُبيّ.

حطّ المسلمون رحالهم بالمدينة، وفي تلك الأثناء نزلت آيات تصدّق زيداً ،

٣٩١

وتكذّب عبد الله بن اُبي، حيث قال سبحانه:

( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَٰكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ *يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( المنافقون / ٧ و ٨ ).

فلمّا نزلت هذه الآيات حسب قوم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله آمر بقتله لا محالة، فعند ذلك ذهب ابنه عبد الله ـ وكان مسلماً حسن الإسلام ـ فقال: يا رسول الله إنّه بلغني أنّك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بد فاعلاً فمرْني به، فأنا اَحمِلُ إليك راَسه، فواللهِ لقد علمتْ الخزرجُ ما كان لها من رجل أبرّ بوالده منّي، وإني أخشىٰ أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي اَنْظُر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر، فأدخل النار. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : بل نترفّق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.

تولّي قوم ابنُ اُبيّ مجازاته:

وبعد ذلك كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنِّفونه. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف ترىٰ يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قُلتَ لي اقتله، لاُرعِدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال: قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم بركة من أمري(١) .

وقال الطبرسي: وكان عبد الله بن اُبيّ بقرب المدينة، فلمّا أراد أن يدخلها جاء ابنه عبد الله بن عبد الله حتّى أناخ على مجامع طرق المدينة. فقال: مالك ويلك ؟ قال: والله لا تدخلها إلّا بإذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولتعلمنّ اليوم

__________________

(١) السيرة النبويّة لإبن هشام: ج ٢ ص ٢٨٩ ـ ٢٩٣.

٣٩٢

مَنْ الأعزّ ومن الأذلّ، فشكا عبد الله ابنه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأرسل إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن خلّ عنه يدخل، فقال: أمّا إذا جاء أمرَ رسول الله فنعم(١) .

ولـمـّا نزلت الآيات المتقدّمة وبان كذب عبد الله قيل له: إنّه نزل فيك آي شداد، فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك، فلوى رأسه ثمّ قال: آمرتموني أن اُؤمن فقد آمنت، وآمرتموني أن اُعطي زكاة مالي فقد أعطيت، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمّد، فعند ذلك نزلت الآيتان التالية:

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ *سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( المنافقون / ٥ و ٦ ).

هذه قصة غزوة بني المصطلق، وقد رواها أهل السير والمغازي والمفسّرون(٢) .

والذي يهمّنا من استعراض تلك الغزوة هو الدروس والعظات التي يمكننا أن نستخلصها، ونستفيدها منها من خلال سيرة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإليك عرض تلك النتائج:

١ ـ التخطيط للإجلاء والمقاطعة الاقتصادية:

لم يكن التخطيط لإجلاء المسلمين عن أوطانهم وأماكنهم والمقاطعة الاقتصادية شيئاً حديث النشأة في القرن العشرين، وإنّما له جذور تمتد علىٰ مرّ التاريخ، فهذا عبد الله بن اُبيّ رئيس المنافقين يعد العدّة للتآمر على المسلمين، ويسعى جاهداً لإجلائهم، وفرض مقاطعة إقتصادية عليهم، فلو شاهدنا ما يفعل بنا

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١٠ ص ٤٤٤ ( طبع بيروت ).

(٢) لاحظ تفسير الطبري: ج ٢٨ ص ٧٠ ـ ٧٥، والدر المنثور: ج ٥ ص ٢٢٢ ـ ٢٢٦، إلى غير ذلك من المصادر.

٣٩٣

نحن معاشر المسلمين على أيدى المستعمرين في بيت المقدس، وسائر بقاع المسلمين الاُخرى في أيّامنا هذه، فليس هناك محلًّا للإستغراب والدهشة والتعجّب، ولكنّ الله سبحانه وتعالى أدحض تآمرهم وأبطل أحدوثتهم وردّ كيدهم إلى نحورهم فانقلبوا خاسئين.

قال سبحانه:( وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( المنافقون / ٧ ) وقال سبحانه:( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) ( المنافقون / ٨ ).

ولكنّ ذلك مشروط بالتمسّك بعرىٰ الإيمان، والإنقطاع الكامل لله عزّ وجل، والإنقياد المطلق لأوامره ونواهيه.

قال سبحانه:( وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / ١٣٩ ) وقال عزّ اسمه:( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ إلّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) ( فصّلت / ٣٠ ).

٢ ـ تشتيت الشمل وبثّ التفرقة بين المسلمين:

إنّ عبد الله بن اُبيّ ذلك العدو اللدود للمسلمين، أراد تشتيت شمل المسلمين، بإثارة ظغائن طائفة من المسلمين على طائفة اُخرى، حتّى يشتعل فتيل الفتنة، ويحرق المسلمون بعضهم دمَ بعض بأيديهم، وتكون الخاتمة لصالح أعدائهم، حيث قال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم .

غير أنّ هذا النهج التآمري لا زال معمولاً به إلىٰ يومنا هذا، وما انفكّ عنه أعداء الإسلام طرفة عين أبداً، ومن الصور الجليّة الواضحة لهذا النهج العدائي في يومنا هذا، بثّ السموم الفكرية في أذهان أبناء الشعوب الإسلامية، وتأليب بعضهم على بعض، تحت شعارات قوميّة ووطنيّة وعرقيّة، فيحفّزون الجذور القومية للترك في قبال الجذور القومية العرقية العربية، وهكذا بالنسبة لسائر القوميات المتعدّدة التي تدين

٣٩٤

بالإسلام علىٰ امتداد رقعته الشاسعة.

وبذلك تمكّنوا من الفتك والإجهاز علىٰ الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف، والتي تمكّنت من الظهور بالمسلمين كدولة عظمى في العالم لها سيادتها، وثقلها في تقرير الأوضاع السياسية في العالم.

٣ ـ حنكة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في اجتياز الأزمة:

في خضمّ ذلك الموقف الحرِج، أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يؤذّن في الناس بالرحيل في ساعة لم يألفوا الرحيل فيها، مع أنّ ابن اُبيّ أسرع بالمثول أمام يديه، والتنكّر ممّا بدر منه ونسب إليه، ولكن ذلك لم يؤثّر على قرار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرحيل شيئاً، بل انطلق بالناس يجوب الفيافي والقفار، طيلة يومهم حتّى أمسوا، وطيلة ليلتهم حتّى أصبحوا، وصدر يومهم الثاني حتّى آذتهم الشمس، فلمّا نزل الناس لم يلبثوا حتّى غلبهم النعاس، ونسوا حديث ابن اُبيّ، وهذا يعطي لكل قائد محنّك درساً من لزوم امتصاص ما انتاب نفوسهم من أفكار خاطئة، واجتثاث جذورها بصرفها إلىٰ اُمور اُخرى، تستولي علىٰ منافذ فكرهم، فتشذَّ أذهانهم عنهم إلىٰ التشاغل باُمور اُخرىٰ، ولو لم يقم بذلك لبقيت آثار تلك الرواسب الفكرية في أذهانهم، ولأثرّت على مستقبل الدعوة، ووحدة صف المسلمين.

٤ ـ سعة صدر النبي وتريّثه وتلبّثه:

لـمـّا أطلع زيد بن أرقم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ما قاله عبد الله بن اُبيّ، صدّقه في نقله، ولـمـّا مثل ابن اُبيّ بين يديه، وأنكر ما أبلغه زيد بن أرقم، فلم يكذّبه، وربّما كانت هذا الظاهرة التي تمثّل بها النبي في ذلك الموقف، أمراً مثيراً للتساؤل، ولأجل ذلك انتهز المنافقون الفرصة لانتقاد النبي، واتهامه بالتساهل والتواني في القضاء علىٰ خصومه، ولكنّ المنافقين قد غفلوا عن أصل رصين، واُسّ مكين تبتني عليه الحنكة القياديّة، وقد قال أمير المؤمنينعليه‌السلام بهذا

٣٩٥

الصدد: « آلة الرئاسة سعة الصدر »(١) .

وإنّ التسرّع في الحكم والقضاء، وإن أصاب الواقع لا يخلو من نتائج غير محمودة، خصوصاً إذا لم يتّضح الأمر بعد لعموم المسلمين، فقد اختار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التريّث حتّى تنكشف حقيقة المسألة للجميع، فيكون النبي معذوراً ومحقّاً إذا أخذ في حق ابن اُبيّ حكماً حاسماً.

٥ ـ مقابلة الإساءة بالإحسان:

لـمـّا أخبر زيد بن أرقم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بما تقوَّل به عبد الله ابن اُبيّ، اقترح عمر بن الخطاب على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقتله ولكنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أجابه بقوله: « فكيف يا عمر، إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه »، فقد أبدىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في جوابه هذا حنكة وسياسة رصينة أدحض بذلك المقولة التي تنصّ علىٰ « أنّ كل ثورة ستجتثّ جذور أبطالها ». وعدوّ الله عبد الله بن اُبيّ وإن لم يكن في واقع أمره مسلماً واقعيّاً، ولكنّه كان معدوداً منهم، ومن أشرافهم، فلو قتله النبي لتسرّب الريب إلى سائر نفوس المسلمين.

وقد جازىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الإساءة بالإحسان، عند ما جاء ابنه إلى النبي، وقال: « إنّه بلغني أنّك تريد قتل عبد الله بن اُبيّ، فإن كنت لا بدّ فاعلاً فامرني به ».

ولكنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أجابه بقوله: بل نترفّق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا.

اُنظر إلى هذه السماحة النبويّة، وروعة عفوها وجلالها، فهو يترفّق بمن ناصبه العداء، وأَلّب قلوب أهل المدينة عليه، فيكون رفقه وعفوه أبعد أثراً عن عقوبته، لو أنه

__________________

(١) نهج البلاغة قسم الحكم برقم ١٧٦.

٣٩٦

عاقبها به، وعند ذلك توجّه النبي إلى عمر بن الخطاب: كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لاُرعِدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.

قال عمر: والله علمت لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم بركة من أمري.

وفي الختام انظر إلى كلام ابن عبد الله، فهو على ايجازه يعبّر عن حالة نفسية اصطدمت فيها روح الإنشداد إلى الدين، والذوبان في كيانه العظيم، مع وشائج الارتباط العاطفي بوالده، فلا يمكن له الجمع بينهما، ولكنّه يعلم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يصدر إلّا عن الوحي، ولا يأمر إلّا بالحق، وعند ذلك طلب من النبي أن يقوم بنفسه بقتله لو استحقّ القتل، ولا يفوّض القيام به إلى الغير، خوفاً من أن تحمله العواطف، والوشائج إلى قتل قاتل أبيه، وفي قتل المسلم دخول النار والعذاب المقيم.

٦ ـ العزّة لله ولرسوله:

إنّ عبد الله بن اُبيّ أوهم الناس بأنّ العزّة للمشركين والمنافقين، والذل والهوان للمسلمين والمؤمنين، ولكنّ الوحي أبطل أوهامه تلك، بقوله:

( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .

فصدق الخبر المخبر، حتّى وقف ابن عبد الله بن اُبيّ على باب المدينة، فقال لأبيه: والله لا تدخلها إلّا بإذن رسول الله ولتعلمنّ اليوم من الأعزّ، ومن الأذلّ، فشكى عبد الله ابنه إلى رسول الله، فأرسل إليه رسول الله: أن خلّي عنه يدخل فقال: أمّا إذا جاء أمر رسول الله فنعم.

هذه هي الدروس التي نتلقّاها من وحي سيرة الرسول على ضوء ما ورد في القرآن الكريم.

٣٩٧

خاتمة المطاف:

ثمّ إنّ بني المصطلق أسلموا، فبعث إليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حتّى يأخذ الصدقات منهم، فلمّا سمعوا به ركبوا إليه، فلمّا سمع بهم هابهم، فرجع إلىٰ رسول الله، فأخبره: انّ القوم قد همّوا بقتله، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم. فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتّى همَّ رسول الله بأن يغزوهم، فبينماهم علىٰ ذلك قدم وفدهم علىٰ رسول الله، فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة، فانشمر راجعاً، فبلغنا انّه زعم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّا خرجنا إليه لنقتله، ووالله ما جئنا لذلك، فأنزل الله تعالى فيه وفيهم:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ *وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ) ( الحجرات / ٦ و ٧ )(١) .

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٢٩٦، وتفسير الطبري: ج ٢٦ ص ٧٩، والدر المنثور: ج ٧ ص ٥٥٦ ـ ٥٥٨.

٣٩٨

٥ ـ صلح الحديبيّة

إنّ الله تعالى أرى نبيّه في المنام بالمدينة أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام، فأخبر بذلك أصحابه، ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلوا مكّة عامهم ذلك، وهي السنة السادسة من الهجرة. ثمّ استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معهم لإداء فريضة العمرة، لزيارة بيت الله، وتعظيماً له، لا لقتال أو جهاد، فساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وكانت الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة نفرات.

خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى إذا كان بعسفان(١) لقيه « بشر بن سفيان الكعبي » فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك، ولقد لبسوا جلود النمور، ونزلوا بذي طوى(٢) يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً، وهذا « خالد بن الوليد » في خيلهم قد قدّموها إلى كراع الغميم(٣) ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن اظهر نبي الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة، فما تظن قريش ؟ فو الله لا أزال اُجاهد على الذي بعثني الله به، حتّى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة(٤) .

ثمّ قال: مَنْ رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟

__________________

(١) عسفان، منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكّة، وهي من مكّة على مرحلتين.

(٢) موضع قرب مكّة.

(٣) واد أمام عسفان بثمانية أميال.

(٤) صفحة العنق، وكنى بإنفرادها عن الموت.

٣٩٩

فعندئذ قال رجل من « أسلم »: أنا يا رسول الله. فسلك بهم طريقاً وعراً كثير الحجارة بين شعاب، فلمّا خرجوا منه، وقد شقّ ذلك على المسلمين، وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي. أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: اسلكوا ذات اليمين في طريق، وقد أدّى بهم ذلك الطريق إلى مهبط الحديبيّة. فلما رأت خيل قريش غبار جيش الإسلام، قد خالفوا عن طريقهم، رجعوا راكضين إلى قريش. وخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسلك حتّى بركت ناقته، فقالت الناس: خلأت الناقة. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكّة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلّا أعطيتهم إيّاها، ثمّ أمر الناس بالإنزال. قيل: يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما بالوادي ماء ننزل عليه. فأخرج سهماً من كنانته، فأعطاه رجلاً من أصحابه، فنزل به في قليب من تلك القلب، فغرزه في جوفه حتّى ارتفع بالرواء.

١ ـ رجال خزاعة بين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقريش

نزل رسول الله أرض الحديبيّة، وبينما هو فيها إذ أتاه « بديل بن ورقاء الخزاعي » في رجال من خزاعة، فكلّموا النبي وسألوه. فقال: إنّه لم يأت يريد حرباً، وإنّما جاء زائراً للبيت، ومعظّماً لحرمته، ثمّ قال لهم نحواً ممّا قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش، إنّكم تعجلون على محمد، إنّ محمداً لم يأت لقتال، وإنّما جاء زائراً لهذا البيت، فاتهموهم وأهانوهم. وقالوا: وإن كان جاء ولا يريد قتالاً، فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبداً، ولا تحدّث بذلك عنّا العرب.

٢ ـ مكرز رسول قريش إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

ثمّ بعثت قريش إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكرز بن حفص، فلمّا رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: هذا رجل غادر، فلمّا انتهى إلى

٤٠٠

رسول الله وكلّمه. قال له رسول الله مثل ما قاله لرجال خزاعة، فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال.

٣ ـ الحليس رسول ثالث لقريش

ثمّ بعثت قريش رسولاً ثالثاً، وهو الحليس، وكان يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: إنّ هذا من قوم يتألّهون(١) ، فابعثوا الهدي في وجهه حتّى يراه، فلما رأى الهدي، وقد أكل أوباره من طول الحبس، رجع إلى قريش، ولم يصل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إعظاماً لما رآى، فقال لهم ذلك. فقالوا له: إجلس فإنّما أنت أعرابي لا علم لك.

فقال الحليس مغضباً: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظّماً له ؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لاُنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا له: مه، كف عنّا يا حليس حتّى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

٤ ـ عروة بن مسعود رسول قريش

وفي المرة الرابعة بعثت قريش عروة بن مسعود الثقفي، فخرج حتّى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجلس بين يديه ثمّ قال: يا محمد، أجمعت أوباش الناس، ثمّ جئت بهم إلى بيضتك لتفضّها بهم، إنّها قريش قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبداً.

وكلّمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنحو ممّا كلّم به الآخرين، وأخبره أنّه لم يأت يريد حرباً. فقام من عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) يتعبّدون ويعظّمون أمر الإله.

٤٠١

وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضّأ إلّا ابتدروا وضوءه، ولا يسقط من شعره شيء إلّا أخذوه. فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش إنّي قد رأيت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإنّي والله ما رأيت ملكاً في قومه قطّ مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلّمونه بشيء أبداً، فَرَوْا رَأيَكُمْ.

٥ ـ رسول النبي إلى قريش

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا خراش بن اُميّة الخزاعي، فبعثه إلى قريش، وحمله على بعير له ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأرادوا قتله، فمنعتهم الأحابيش، فخلّوا سبيله حتّى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ إنّ قريشاً بعثوا أربعين أو خمسين رجلاً، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً، فبينماهم بهذا الصدد، اُخذوا أخذاً، فأتى بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعفى عنهم، وخلّى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحجارة والنبل.

٦ ـ عثمان رسول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قريش

إنّ النبي دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى قريش حتّى يبلّغ عنه أشرافها ما جاء له، فامتنع من قبوله خوفاً على نفسه، واقترح على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عثمان بن عفّان، وهو رجل أعزّ بين قريش. فبعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أبي سفيان، وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب، وإنّما جاء زائراً لهذا البيت ومعظّماً لحرمته، فانطلق عثمان حتّى أتاهم، فبلّغهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما أرسله به. فقالوا لعثمان حين فرغ من الرسالة: إن

٤٠٢

شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتّى يطوف به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين أنّ عثمان قد قتل.

بيعة الرضوان

لـمـّا بلغه خبر قتل عثمان، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا نبرح حتّى نناجز القوم، فدعى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، ولقد اختلفوا فمن قائل: بأنّهم بايعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الموت، وآخر: على أن لا يفرّوا.

سهيل بن عمرو رسول قريش إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

بعثت قريش سهيل بن عمرو إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقالوا له: ائت محمداً فصالحه، ولا يكن في صلحه إلّا أن يرجع عنّا عامه هذا، فوالله لا تحدّث العرب عنّا أنّه دخلها ( مكة ) علينا عنوة أبداً. فأتاه سهيل بن عمرو، فلمّا رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مقبلاً، قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فلمّا انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تكلّم، فأطال الكلام، وتراجع ثمّ جرى بينهما الصلح.

عمر ينكر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الصلح

فلمّا التأم الأمر، ولم يبق إلّا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب، فأتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله ؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين ؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنيّة في ديننا ؟ فلمّا بلغ

٤٠٣

كلامه رسول الله قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا عبد الله ورسوله لن اُخالف أمره، ولن يضيّعني ! قال: فكان عمر يقول: ما زلت أتصدّق وأصوم واُصلّي وأعتق، من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلّمت به حتّى رجوت أن يكون خيراً.

بنود الصلح

دعى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ بن أبي طالب (رض) فقال: اُكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اُكتب « باسمك اللّهمّ ». فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : اُكتب « باسمك اللّهمّ »، فكتبها.

ثمّ قال: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.

فقال سهيل: لو شهدت أنّك رسول الله لم اُقاتلك، ولكن اُكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليٍّ: أكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو.

فقال عليٌّ: ما أمحُو اسمك من النبوّة أبداً. فمحاه رسول الله بيده.

ثمّ كتب عليٌّ بنود الصلح، وتمّ الإتفاق على اُمور:

١ ـ وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكفّ بعضهم عن بعض.

٢ ـ من أتى محمداً من قريش ولجأ إليه بغير إذن ردّه عليهم، ومن جاء قريشاً ممن كان مع محمد لم يردّوه عليه.

٣ ـ تخيير الناس كافة، فمن أحبّ أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

٤ ـ أن يكون الإسلام ظاهراً في مكّه، لا يكره أحد على دينه، ولا يؤذىٰ ولا يعيّر.

٤٠٤

٥ ـ إنّ محمداً وأصحابه يرجع عنهم عامه هذا، ثمّ يدخل عليهم في العام القابل مكّة، فيقيم فيها ثلاثة أيام، ولا يدخل عليهم بسلاح إلّا سلاح المسافر، السيوف في القرب.

التاريخ يعيد نفسه:

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليٍّعليه‌السلام ـ بعد ما كتب الكتاب وشهد عليه المهاجرون والأنصار ـ: « يا عليُّ إنّك أبيت أن تمحو النبوّة من اسمي، فو الذي بعثني بالحق نبيّاً، لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها، وأنت مضيض مضطهد » فلمّا كان يوم صفين، ورضوا بالحكمين كُتِبَ: « هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان » فقال عمرو بن العاص: لو علمنا أنّك أمير المؤمنين ما حاربناك، ولكن أكتب هذا ما اصطلح عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « صدق الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أخبرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك » ثمّ كتب الكتاب(١) .

قال ابن الأثير في وقعة صفين:

حضر عمرو بن العاص عند عليٍّ ليكتب الكتاب، فكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين، فقال عمرو: اُكتب اسمه واسم أبيه هو أميركم، وأمّا أميرنا فلا، فقال الأحنف: لا تمح اسم أمير المؤمنين، فإنّي أخاف إنْ محوتها أنْ لا ترجع إليك أبداً لا تمحها وإنْ قتل الناس بعضهم بعضاً، فأبى ذلك عليٌّ مليّاً من النهار.

ثمّ إنّ الأشعث قال: امح هذا الإسم، فمحاه. فقال عليٌّ: الله أكبر سنّة بسنّة، والله إنّي لكاتب رسول الله يوم الحديبيّة، فكتبت رسول الله، فقالوا: لست

__________________

(١) تفسير القمي: ج ٢ ص ٣١٣ و ٣١٤.

٤٠٥

برسول الله، ولكن اُكتب اسمَك واسم أبيك، فأمرني رسول الله بمحوه. فقلت: لا أستطيع.

فقال: أرنيه، فأريته، فمحاه بيده، وقال: إنّك ستدعىٰ إلى مثلها فتجيب. فقال عمرو: سبحان الله أنشبّه بالكفّار ونحن مؤمنون.

فقال عليٌّ: يا ابن النابغة، ومتى لم تكن للفاسقين وليّاً، وللمؤمنين عدوّاً ؟ فقال عمرو: والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبداً. فقال عليٌّ: إنّي لأرجو أن يطهّر الله مجلسي منك، ومن أشباهك. فكتب هذا ما تقاظى عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان(١) .

* * *

فبينما رسول الله يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، جاء « أبو جندل » ابن سهيل بن عمرو، يرسف في الحديد، قد انفلت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد كان أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خرجوا وهم لا يشكّون في الفتح لرؤيا رآها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا رأوْا مارأوْا من الصلح والرجوع، وما تحمل عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في نفسه، دخل على الناس من ذلك أمر عظيم، حتّى كادوا يهلكون، فلمّا رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه، وأخذ بتلبيبه ثمّ قال: يا محمد قد لجّت القضية بينى وببينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت. فجعل ينتره بتلبيبه، ويجرّه ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أاُرد إلى المشركين، يفتنوني في ديني ؟ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على

__________________

(١) الكامل لابن الأثير: ج ٣ ص ١٦٢.

٤٠٦

ذلك، وأعطونا عهد الله، وإنّا لا نغدر بهم(١) .

فلمّا فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين، ورجالاً من المشركين وهم: أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمان بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص وهو يومئد مشرك، وعليّ بن أبي طالب وكتب، وكان هو كاتب الصحيفة.

نحر الرسول وحلقه:

فلمّا فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الصلح قدم إلى هَدْيِه فنحره، ثمّ جلس فحلق رأسه، فلمّا رأى الناس أنّ رسول الله قد نحر وحلق، تواثبوا ينحرون ويحلقون، غير أنّ بعض الصحابة، تخلّف عن الحلق والتقصير، ولأجل الإيعاز إلى أنّ عملهم إنّما هو بمثابة تجاسر على مقام النبوّة، قال رسول الله: رحم الله المحلقين. مومياً بذلك على نحو الازدراء بالمتخلفين.

ثمّ إنّ رسول الله رجع إلى المدينة فقال الناس: ألم تقل أنّك تدخل مكّة آمناً ؟ قال: بلى، أفقلت من عامي هذا ؟ قالوا: لا. قال: فهو كما قال لي جبرئيلعليه‌السلام (٢) .

دروس وعبر:

١ ـ كانت سفرة النبي سفرة سياسيّة هادفة تطمح بالدرجة الاُولى إلى قلب الرأي العام المتأجج ناراً ضد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واتباعه، ودعوته في نفوس مشركي قريش، ومن ناحية اُخرى كانت تهدف لإزاحة الستار الذي وضعه رؤوس

__________________

(١) وسنوافيك الخاتمة التي آل إليها أمر أبي جندل في آخر الفصل فترقب.

(٢) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٣١٨ ـ ٣١٩.

٤٠٧

المشركين على بصائر الناس، والذي صوّر النبي، وأتباعه مَردَة على شريعة إبراهيم الحنيفّية، وأعداء القبلة التي بناها للعبادة.

٢ ـ إنّ النبي أثبت في عقد الصلح مع قريش براعته السياسيّة، وحنكته القياديّة الفذّة، حيث أظهر مرونةً لا نظير لها، حتّى أنّه قبل أن يكتب « باسمك اللّهمّ » مكان « بسم الله الرحمن الرحيم »، وأن يحذف مقام الرسالة والنبوّة عن اسمه، وذلك يُنبئ عن أنّه كان مهتمّاً على حفظ الدماء والأنفس، وإقرار مبادئ الصلح والسلام على ربوع المنطقة، وإشاعة الأمن في السبل والقفار، حتّى يتمكّن في ظل تلك الاُمور من بثّ الدعوة الإسلامية، فإنّه في ظل تحكيم مبادئ السّلام يكون أكثر قدرة وفاعلية لنشر المبادئ السامية.

٣ ـ إعطاء صورة بديعة رائعة لمبدأ الحرية في الإسلام للبرهنة على أنّه لم يقم على أساس الجبر والإلزام، بشهادة أنّه قبل بالبند الذي ينص على أنّ من فرّ من المسلمين إلى جانب مكّة، وارتدّ عن الإسلام أن لا يستردّه.

٤ ـ إنّ المستقبل أثبت أنّ المرونة التي أظهرها في القبول بأحد البنود الناصّة على لزوم ردّ من فرّ من مكّة إلى المدينة، ولو اعتنق الإسلام كانت صائبة، وإن أثارت حفائظ بعض الصحابة، ودفعهم إلى القول بأنّه من قبيل تقبّل الدنيّة في طريق الدين(١) ، ولكن المستقبل أثبت خلاف ما خطر في أذهانهم من تصوّرات، وإليك نص ما صرّح به أهل السير والتاريخ في ذلك:

« لـمّا قدم رسول الله المدينة فرّ أبو بصير من مكّة إلى المدينة. فقال رسول الله: يا أبا بصير، إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، فانطلق إلى قومك. قال: يا رسول الله أتردّني إلى المشركين يفتنوني في ديني ؟ قال: يا أبا بصير انطلق، فإنّ الله تعالى سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً.

__________________

(١) تعرفت على قائله.

٤٠٨

وقد بعثت قريش أزهر بن عبد عوف، والأخنس إلى رسول الله، وبعث رجلاً من بني عامر، ومعه مولى لهم ليردّا أبا بصير إلى مكّة.

فانطلق أبو بصير معهما حتّى إذا كان بذي الحليفة(١) جلس إلى جدار، وجلس معه صاحباه، فقال أبو بصير: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر ؟ فقال: نعم. قال: أنظر إليه ؟ قال: أنظر إن شئت. قال: فاستلّه أبو بصير ثمّ علاه به حتّى قتله، وخرج المولى سريعاً حتّى أتى رسول الله قال: ويحك ما لك ؟ قال: قتل صاحبكم صاحبي، فو الله ما برح حتّى طلع أبو بصير متوشّحاً بالسيف، حتّى وقف على رسول الله. فقال: يا رسول الله وفت ذمتك وأدّى الله عنك، أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعت بديني أن أفتن فيّ، أو يُعبث بي، ثمّ خرج أبو بصير حتّى نزل العيس على ساحل البحر بطريق قريش، التي كانوا يسلكونها إلى الشام، فبلغ المسلمين الذين كانوا أحتبسوا بمكّة عمل أبي بصير وموقفه، فخرجوا إلى أبي بصير، فاجتمعوا إليه منهم قريب من سبعين رجلاً، وكانوا قد ضيّقوا على قريش لا يظفرون بأحد منهم إلّا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلّا أقتطعوها، حتّى كتبت قريش إلى رسول الله تسأل بأرحامها إلّا آواهم، فلا حاجة لهم بهم، فآواهم رسول الله، فقدموا على المدينة، فاُلغي ذلك البند.

٥ ـ كشف مخالفة بعض الصحابة أمر الرسول في الحلق والتقصير، عن أنّ اُناساً منهم كانوا يتوانون عن امتثال أمر النبي ويقدّمون آراءهم على التشريع الإلهي الذي كان ينطق به النبي الأكرم.

٦ ـ إنّ عقد الصلح بين النبي وقريش، أتاح لهم فرصة ثمينة لنشر الإسلام في الجزيرة العربية، وإرسال الرسل إلى الملوك، والسلاطين في أطراف العالم، كدولة الروم والفرس وغيرهما من رؤساء القبائل والبلدان، حتّى بلغت رسائلهم التبليغيّة إلى تسع وعشرين رسالة أثبتها التاريخ.

__________________

(١) ذو الحليفة قرية، بينها وبين المدينة أميال قليلة، ومنها ميقات أهل المدينة وفيها مسجد الشجرة.

٤٠٩

٧ ـ لـمّا عقد الرسول الصلح، اطمأنّ من جانب المشركين في الجهة الجنوبيّة، وبذلك تمكّن من التفرّغ للجبهة الشماليّة، فأمر بمحاصرة خيبر، فاجتث اليهود القاطنين فيها عن بكرة أبيهم.

كل تلك الثمرات التي اجتناها النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت نتيجة عقد الصلح مع المشركين، وقد أشار الإمام الصادق إلى ذلك بقوله:

« ما كان قضية أعظم بركة منها ».

هذه بعض الدروس والعبر التي نستفيدها من سيرة النبي الأكرم، وإليك نص ما يتحفنا به كتاب الله عزّ وجل بشأن تلك الحادثة التاريخيّة المهمّة حيث صرّح بما نصّه في سورة الفتح(١) ولأجل سهولة التفسير نأتي بالآيات نجوما.

وقعة الحديبيّة في الذكر الحكيم

( سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا *بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا *وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا *وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا *سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إلّا قَلِيلاً *قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ

__________________

(١) أكثر المفسّرين على أنّ سورة الفتح نزلت حين منصرفه من الحديبية، ونحن نفسّر ما يمت بهذه الوقعة على وجه الصراحة، ولأجل ذلك شرعنا بالتفسير من الآية ١١ فلاحظ.

٤١٠

تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ) ( الفتح / ١١ ـ ١٧ ).

نزلت هذه السورة الكريمة حين منصرفهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الحديبيّة في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، لـمّا صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام، وحالوا بينه وبين قضاء عمرته، ثمّ مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا ثمّ يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك على كراهة جماعة من الصحابة، فلمّا نحر هَدْيه حيث أحصر ورجع، أنزل الله تعالى هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل هذا الصلح فتحاً لما فيه من المصلحة، كما سيجي التصريح في قوله سبحانه:( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ ) .

وقد تخلّف عن هذه الغزوة المنافقون، ولـمـّا عاد المسلمون إلى المدينة، أخذوا يعتذرون وإليك تحليل معذرتهم.

إعتذار المنافقين عن عدم الحضور

إنّ هذه الآيات تتعرّض لحال الأعراب الذين قعدوا عن المشاركة ولم ينفروا إذ استنفرهم الرسول، وهم أعراب نواحي المدينة، وما قعدوا عن المشاركة إلّا لأنّهم كان يخالون أنّ محمداً وأصحابه لا يرجعون أدراجهم في هذه السفرة، لأنّهم يذهبون لغزو قريش الذين قتلوا المسلمين قتلاً ذريعاً، ونكّلوا بهم في عقر دارهم « غزوة اُحد » ولـمـّا رجع رسول الله وأصحابه سالمين، أخذوا باختلاق المعاذير بقولهم:

( شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) .

إنّه سبحانه يردّ عليهم، بأنّ الضر والنفع بيد الله سبحانه، حيث ظنّوا أنّ التخلّف عن النبي يدفع عنهم الضر أو يعجّل لهم النفع، والسلامة في الأنفس والأموال، فقال سبحانه:( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) .

٤١١

ثمّ إنّه سبحانه صرّح بالسبب الواقعي لتخلّفهم فقال:( بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا ) ولأجل أنّهم قوم غير مؤمنين، فسوف يعذّبون في السعير لقاء ما يرتكبونه في دنياهم، فقال سبحانه( وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا *وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) .

إنّ النبي لـمّا عقد الصلح مع قريش، وعد المؤمنين بالغنائم الكثيرة في المستقبل ( غنائم خيبر ) ولـمـّا وصل خبر ذلك إلى المنافقين، طلبوا من المؤمنين المشاركة لهم في هذه السفرة كما ينص عليه قوله سبحانه:( سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ) .

والباعث لهم إلى الإصرار من المشاركة، هو أنّ النبي الأكرم عندما وعد المؤمنين بالغنائم الكثيرة أخبر بعدم مشاركة غيرهم فيها، فهؤلاء حاولوا بإصرارهم إبطال كلام الله ونبيّه كما يقول سبحانه:( يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ ) .

ثم إنّهم لـمّا سمعوا ذلك الجواب اتّهموا المؤمنين بأنهم يحسدونهم كما يحكي ذلك قوله سبحانه:( فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ) ولكنّ الحق أنّ اتّهام المؤمنين والنبي بهذه التهمة كلام من لا يعي ما يقول، والرسول أجلّ من أن يستشعر حسداً تجاه أحد، كما يقول سبحانه:( بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إلّا قَلِيلاً ) .

إنّه سبحانه وإن حرمهم من غنائم خيبر ولكنّه لسعة رحمته، وعَدَهُم بأنّ المسلمين سيواجهون قوماً اُولي بأس شديد، فإن شارك القاعدون منهم، فإنّه سيكون لهم ما للمسلمين كما يقول:

( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ( أى يقرّون بالإسلام )فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) .

٤١٢

وهذا أيضاً من عظيم فضل الله سبحانه وجزيل كرمه، فما صدّ عليهم باباً حتّى فتح لهم باباً لأخذ الغنائم وكسب رضاه سبحانه.

وهو أنّهم لو رجعوا عن تخلّفهم، فإنه سبحانه سيغفر لهم.

وهذه الآيات تشتمل على تنبّؤات غيبيّة نشير إليها:

١ ـسَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ

٢ ـيُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ

٣ ـقُل لَّن تَتَّبِعُونَا

٤ ـفَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا

٥ ـسَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ

وستجي تنبّوآت غيبيّة اُخرى نشير إليها في محلها.

بيعة الرضوان

إنّه سبحانه يشير إلى حادثة بيعة الرضوان التي عرفت تفصيلها في أثناء ذكر قصة صلح الحديبيّة ويقول سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح / ١٠ ).

ويقول سبحانه:( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / ١٨ ).

نعم رضىٰ الله عن المؤمنين عند المبايعة، ولكن الرضىٰ إنّما ينتج ويثمر إذا لم يحيدوا عن نهج الصراط السوي، فثواب كل ما يقوم به المسلم من أعمال حسنة

٤١٣

مشروط بحسن العاقبة، فلو ارتدّ أو اقترف ما يوجب سخط الله عزّ وجل فلا ينفعه عمله.

الوعد بفتحين

إنّه سبحانه وعد المؤمنين بفتحين: فتح قريب، وفتح مبين.

أمّا الأوّل: فهو ما ذكره في الآية المتقدّمة أعني قوله:( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / ١٨ ). وقال:( فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / ٢٧ ).

وأمّا الثاني: فقد أشار إليه في صدر الآية بقوله:( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ) .

والظاهر أنّ المراد من الأوّل هو فتح خيبر لأنّه كان أقرب الفتوحات بعد الحديبيّة.

وأمّا الثاني فالمراد منه هو فتح مكّة، والظاهر من سياق الآيات، وكلمات المفسّرين أنّ ما يرجع إلى الفتح القريب من الآيات نزل بعد صلح الحديبيّة.

الوعد بمغانم ثلاث:

إنّه سبحانه قد وعد المؤمنين بمغانم ثلاث وإليك الآيات الواردة في هذا الشأن:

١ ـ( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) ( الفتح / ١٩ ).

( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً ) .

٢ ـ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) ( الفتح / ٢٠ ).

٣ ـ( وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الفتح / ٢١ ).

٤١٤

أمّا المغانم الاُولى: فالمراد منها فتح خيبر بقرينة إتّصاله بقوله:( وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) .

وأمّا قوله:( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً ) فأيضاً انّه تأكيد لما تقدّم أعني قوله سبحانه:( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً ) وإنّما ذكره مقدّمة لقوله:( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ ) .

وأمّا الثانية: أعني ما أشار إليه بقوله سبحانه:( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ ) ، فالمراد منه نفس صلح الحديبيّة، فعدّها سبحانه غنيمة للمسلمين لما ترتّب عليه من الفوائد.

وهذا ظاهر على القول بأنّ الآية نزلت في أثناء عودة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الحديبيّة إلى المدينة، والمسلمون وإن لم يستولوا فيها على غنائم مادّية، لكنّ اكتسبوا غنائم معنويّة أشرنا إليها ولأجله جعل صلح الحديبيّة في عداد الغنائم.

وأمّا قوله:( وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ ) فالمراد الجماعة التي بعثوا ليطيفوا بعسكر رسول الله ليصيبوا لقريش من أصحابه أحداً، فاُخذوا فاُوتي بهم رسول الله، فعفىٰ عنهم، وخلّى سبيلهم، وقد كانو رموا في عسكر رسول الله الحجارة والنبل(١) .

وأمّا الثالثة: فهي ما أشار إليه بقوله:( وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الفتح / ٢١ ).

فالظاهر أنّ:( اُخْرَى ) صفة لموصوف محذوف وهو( مَغَانِمَ ) والجملة منصوبة على المحل لكونها مفعولة للفعل المتقدّم ( وعدكم الله )، والتقدير « وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ اُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا بَعْدُ وَلَكِن الله اَحَاطَ بِهَا » فما هو المراد من هذه الغنائم، فلعلّ المراد غنائم قبيلة هوازن، أو كل الغنائم التي يغنمها المسلمون طيلة جهاد هم في حياة النبي أو بعدها.

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٣١٤، وستجيء الإشارة إليه في الآية ٢٤ أعني قوله:( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ) .

٤١٥

نبوءة غيبيّة:

( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا *سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً *وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) ( الفتح / ٢٢ ـ ٢٤ ).

إنّ سورة الفتح اشتملت على أنباء غيبيّة مضى ذكر أكثرها، والآية الاُولى تتضمن الإشارة إلى واقعة غيبيّة، فالله سبحانه يبشّر عباده المؤمنين بأنّه لو ناجزهم المشركون لولّوا فراراً مهزومين على أعقابهم لا يجدون وليّاً يأخذ بأيديهم، ويذود عنهم.

ثمّ الآية الثانية تشير إلى سنّة الله سبحانه في حق أنبيائه وأوليائه، وهي أنّ نصرتهم هي سنّة الله تبارك وتعالى في أنبيائه والمؤمنين بهم إذا صدقوا وأخلصوا نيّاتهم، فيظهرهم على أعدائهم، قال سبحانه:( كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) ( المجادلة / ٢١ ).

ولأجل أنّ سنّة الله سبحانه تقتضي اظهار الأنبياء بمظهر القوّة والغلبة، فقد كفّ أيدي المشركين عن المؤمنين في معسكر الحديبيّة قبل انعقاد الصلح، كما كفّ أيدي المؤمنين عنهم بعد أن أظفرهم بهم، ولعلّ الآية الثالثة تتضمّن الإشارة إلى أنّ قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين رجلاً، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً، فاُخذوا أخذاً، فأتي بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحجارة والنبل »(١) .

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٣١٤، مضت هذه الرواية في تفسير الآية:( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ) والفرق بين الآيتين، انّه يذكر هناك كف أيدي الكفار عن المؤمنين، وفي المقام يذكر كف كلاً من الطائفتين عن الاُخرى.

٤١٦

الأخذ بالحائطة للحفاظ على دماء المؤمنين:

( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) ( الفتح / ٢٥ ـ ٢٦ ).

الآية الاُولى تشير إلى أمرين:

١ ـ شدّة قساوة قلوب الكافرين على المؤمنين، حيث منعوا النبي وأصحابه من المؤمنين عن الدخول إلى المسجد الحرام، والطواف بالبيت، ومنع الهَدْيَ أن يبلغ محلّه، وقد عرفت أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ساق بدنه وكذا المؤمنون حتى بلغ هديهم سبعين بدناً، ولـمـّا بلغوا « ذا الحليفة »، قلّدوا البدنة التي ساقوها واشعروها، وأحرموا بالعمرة حتى نزلوا بالحديبية، ومنعهم المشركون، فلمّا تمّ الصلح نحروا البدن فيها، مكان نحره في مكّة لأنّ هَدْيَ العمرة لا يذبح إلّا بمكة كما أنّ هَدْيَ الحج لا يذبح إلّا بمنى، وإلى هذا المعنى أشار قوله سبحانه بقوله:( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) .

والمراد من قوله( مَعْكُوفًا ) كونه محبوساً من أن يبلغ مَنحره بالقرب من مكّة.

٢ ـ الإشارة إلى أحد أسباب الصلح مضافاً إلى ما عرفت، وهو أنّه كان بين الكفّار رجال مؤمنون ونساء مؤمنات كانوا يخفون أمرهم، وما كان جيش المؤمنين يعرفونهم، فلو اشتبكت الأسنّة لقتلوا بأيدي المسلمين لمحلّ الجهالة بحالهم ،

٤١٧

وبذلك تصيب المسلمين معرّة ومكروه، وهو قتل المسلم بيد المسلم، وبالتالي يعيب المشركون المسلمين بأنّهم قتلوا أهل دينهم، مضافاً إلى أنّه كان يجب عليهم الكفّارة والديّة، ولأجل هذه الاُمور مجتمعة، كفّ أيدي المؤمنين عن المشركين، وانتهى الأمر بالصلح، لولا ذلك لأمركم بالجهاد، وإليه الإشارة في قوله تعالى:( وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) .

نعم قضت حكمته بذلك ليدخل في رحمته أُولئك المؤمنين غير المتميّزين، وينجو بهم من القتل، ويحفظ جيش المسلمين من لحوق المعرّة والندامة بهم.

ولو كان المؤمنون مميّزين عن الكفّار، لعذّب الذين كفروا من أهل مكّة، ولكن لم يعذّبهم ( بأيديكم ) رعاية لحرمة من اختلط بهم من المؤمنين وإليه يشير قوله:( لِّيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) ( الفتح / ٢٥ ). ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى جهة استحقاقهم العذاب، وهي رسوخ حمّية الجاهلية، واَنَفَتِها وعاداتها في قلوبهم، والمراد منها التشبّث، والتمسّك بما كان عليه آباؤهم، فقد كانت عادة آبائهم في الجاهلية أن لا يذعنوا لأحد ولا ينقادوا له، وعلى ذلك أصبحوا بعد ظهور الإسلام، فكانوا يقولون:

« قد قتل محمد وأصحابه آبائنا وإخواننا، فلو دخل علينا في منازلنا لتحدّثت العرب إنّهم دخلوا علينا على رغم أنفنا »، وهذا هو الذي سمّاه تعالى الحميّة الجاهلية، أي أنفتهم من الإقرار لمحمّد بالرسالة، وحتى الاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم، وإليه يشير قوله سبحانه:( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ ) .

ولكنّه سبحانه لا يترك المؤمنين وأنفسهم( فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ ) .

٤١٨

استفسارهم عن علّة عدم تحقّق الرؤيا:

قد حدّث رسول الله قومه عندما عزم الرحيل لأداء فرض العمرة بأنّه رأى رؤيا انّهم دخلوا المسجد الحرام وحلقوا روؤسهم، ولكنّهم لـمّا رجعوا من الحديبية بعد أن منعوا من زيارة البيت والإطافة به، قال بعض أصحابه: ألم تقل يا رسول الله انّك تدخل مكّة آمنا ؟ قال: بلى، اَفَقلت لكم من عامي هذا ؟ قالوا: لا. قال: فهو كما قال لي جبرئيل، وإليه أشار سبحانه بقوله:

( لَّقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / ٢٧ ).

والآية تشير إلى عمرة القضاء التي أتى بها رسول الله في السنة التالية للحديبية، وهي سنة سبع من الهجرة في ذي القعدة الحرام، وهو الشهر الذي صدّه فيه المشركون عن المسجد الحرام، فخرج النبي، ودخل مكّة مع أصحابه معتمرين، فأقاموا بمكّة ثلاثة أيام، ثم رجعوا إلى المدينة، فلمّا قدم رسول الله مكة أمر أصحابه، فقال: اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف، ليرى المشركون جلدهم وقوّتهم، وكان أهل مكّة من النساء والصبيان ينظرون إليهم، وهم يطوفون بالبيت، وكان عبد الله بن رواحة يرتجز بين يدي رسول الله متوشّحاً سيفه، ويقول:

خلوا بني الكفّار عن سبيله

قد أنزل الرحمن في تنزيله

في صحف تتلى على رسوله

اليوم نضربكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

يا رب إنّي مؤمن لقيله

إنّي رأيت الحق في قبوله(١)

         

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٣٧٠ ـ ٣٧٢، ومجمع البيان: ج ٩ ص ١٩١ ( طبع بيروت ).

٤١٩

والمراد من قوله:( فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) هو فتح خيبر، وتقدمت الإشارة إليه في قوله:( فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) .

التنبّوء بظهور الإسلام على الدين كلّه:

ثم إنّه سبحانه توطيداً لقلوب المسلمين وطمأنتهم، تنبّأ لهم بأنّ رسالة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ستنتشر في أرجاء العالم وستظهر على الدين كلّه قال سبحانه:( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا ) ( الفتح / ٢٨ ).

وقد جاء هذا التنبّوء في غير موضع من القرآن(١) وهل المراد من ظهوره، هو ظهوره بالحجّة والبرهان، وسطوع الدليل، أو المراد ظهوره بالقهر والغلبة والقوّة، أو الأعم منهما، ولعلّ الثالث أوفق، وذلك كلّما ازدادت المدنيّة، وتطورت وسائل الإرتباط العالمي بين الشعوب بعضها ببعض، تجلّت تلك الحقيقة بنحو أكثر وضوحاً، وهذا يؤيّد دعوى ظهوره بالحجّة والبرهان.

وأمّا ظهوره بالقوّة والقهر مضافاً إلى ذلك، فهو مرهون بظهور طلائع وتباشير الدولة الحقّة العالمية، التي وعدت بها رسالة السماء الخاتمة، وأسمتها بالدولة المهديّة، وقال الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية: « والله ما نزل تأويلها بعد ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم فإذا خرج القائم لم يبق كافر بالله العظيم »(٢) .

__________________

(١) لاحظ سورة التوبة الآية ـ ٣٣، والصف الآية ـ ٩.

(٢) نور الثقلين: ج ٢ ص ٢١٢.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581