مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581
المشاهدات: 251978
تحميل: 5317


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 251978 / تحميل: 5317
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 7

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-223-4
العربية

١ ـ إستحواذ القلق عند مرابطة الأحزاب:

إنّ الآية الاُولى ترسم لنا كيفيّة نزول الأحزاب على المدينة وأنّهم جاءوها من أعاليها وأسافلها، فقد جاءت قبيلة غطفان وبني النضير من الجانب الشرقي للمدينة وهي الجهة العليا وجاءت قريش ومن انضم إليهم من الأحابيش وكنانة من الجانب الغربي وهي الجهة السفلى، وإليه يشير قوله سبحانه:( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) .

كما أنّها تعكس الحالة النفسية التي عايشها المسلمون أثناء تطويق المدينة وهم على طوائف:

١ ـ من مالت أبصارهم عن كل شيء فلم تنظر إلّا إلى عدوّهم مقبلين من كل جانب.

٢ ـ من شخّصت قلوبهم من مكانها ولولا أنّه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت.

٣ ـ من ظنّ بالله ظنّ الجاهلية متقوّلين بأنّ الكفّار سيغلبون وسيستولون على المدينة وبالتالي ينمحق الدين وتعود الجاهلية أدراجها الاُولىٰ.

وإلى هذه الحالات الثلاث أشارت الآية بجملها الثلاث:

أ ـ( وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ ) .

ب ـ( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ ) .

ج ـ( وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ) .

والجملتان الأوّليتان كناية عن مبلغ استحواذ الخوف والهلع عليهم حتى انتقل بهم إلى حالة شبيهة بالإحتضار التي يزيغ فيها البصر وتبلغ القلوب الحناجر.

وأمّا الجملة الثالثة: فلم تكن تشير إلى عموم المسلمين بل تستعرض حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض، فهؤلاء ظنّوا بالله ظنّ الجاهلية، كما يدل عليه

٣٨١

صريح لفظها حيث تضمّنت ما لفظه:

( وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلّا غُرُورًا ) .

والمراد من قوله:( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) ضعفاء الإيمان من المسلمين وهم غير طائفة المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر والشرك وإنّما يسمّون محمّداً رسولاً لمكان اظهارهم الإسلام.

وأمّا الوعد الذي وعدهم الله ورسوله به هو أنّه كان يكرّر قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( التوبة / ٣٣ ).

ولو افترضنا نزول الآية بعد غزوة الخندق فقد كان النبي يعدهم أنّه يفتح مدائن كسرى وقيصر خصوصاً عند حفر الخندق على ما في كتب السير والتواريخ(١) .

قال ابن هشام:

وعظم عند ذلك البلاء، واشتدّ الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتّى ظنّ المسلمون كلّ ظنّ ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال بعضهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب للتخلّي.

وأيم الله كانت هذه الغزوة كاُختها أي غزوة اُحد تمحيصاً وغربلة وتمييزاً للمؤمن الواقعي عن المنافق المتظاهر بالإيمان كما تشير إليه الآية الثانية.

( هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا ) وإنّما استعمل كلمة هنالك مع أنّها يشارُ بها إلى البعيد لأنّ الآية نزلت بعد جلاء المعركة وأشار بها إلى زمان مجيء الجنود المتأخّر عن نزولها.

__________________

(١) السيرة النبويّة لإبن هشام: ج ٢ ص ٢١٩، لاحظ محادثة النبي لسلمان عند حفر الخندق.

٣٨٢

٢ ـ حياكة الدسائس لفتح الثغرات:

لم يكن عمل المنافقين منحصراً بإثارة القلاقل والارهاصات النفسية على ما مرّ بيانه في كلماتهم بل كان دورهم أوسع من ذلك، فقد كانوا يقومون بشن حرب نفسيّة تهدف إلى تفريق المسلمين عن الدفاع عن الخندق وكانوا يقولون للمسلمين لا وجه لإقامتكم هاهنا قبال جنود المشركين فالغلبة لهم لا محالة ولا مناص من الفرار.

وكان لفيف منهم يتذرّعون بقولهم( إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ) أي لا يؤمن عليها من السارق وزحف العدو عليها، حتّى يتملّصون ويتخلّصون من الخطر الذي يحدق بهم في ساحة المعركة. وكان هذا الكلام واجهة للفرار، وإليه يشير قوله سبحانه:

( وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إلّا فِرَارًا ) .

٣ ـ المشارفة على أعتاب الردّة:

ولقد بلغ الحال بالمنافقين والذين في قلوبهم مرض في تهاونهم بأمر التمسّك بالدين أنّه لو رجع إليهم العدو مرّة ثانية ودخل المدينة من أقطارها وأطرافها ونواحيها ثمّ سألوهم الرجوع إلى الشرك لأجابوا مسرعين ولم يتوانوا ولم يلبثوا في الاجابة إلّا زماناً يسيراً بمقدار الطلب والسؤال منهم، فالمنافقون ومن تبعهم من مرضى القلوب يتظاهرون بالإسلام مادام الرخاء سائداً والأمن حالًّا فإذا خيّمت الشدّة وحاق بهم البأس لم يلبثوا إلّا قليلاً دون الرجوع والردّة.

وهذا يعطي لنا درساً إضافيّاً بأنّ النظام الإسلامي يجب أن يرتكز في دعوته وكافّة اُموره السياسية والإجتماعية والروحية على المؤمنين الصادقين، والمعتنقين لمبادئه وأحكامه بصدق ويقين وتفان وإخلاص، يتحاشىٰ عن الركون والإعتماد على المنافقين بل يحذر منهم دائماً، ويطلب نبذهم من الحياة فإنّهم يَعِدون ولا يوفون، يبايعون وينقضون، ويحالفون ويغدرون، وهذه سجيّتهم وديدنهم، وإليه يشير

٣٨٣

قوله سبحانه:

( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً ) .

وأمّا أنّهم في أي مكان وزمان بايعوا النبى فغير معلوم، ولعلّ إيمانهم بالله ورسوله وبما جاء به من الجهاد وحرمة الفرار منه، نوع عهد لله ورسوله أن لا يولّوا الأدبار، وعلى كل تقدير فهؤلاء لا يتحمّلون المسؤولية وإن تحمّلوها بادئ بدء، رفضوها في خاتمة المطاف.

٤ ـ عدم جدوىٰ الفرار:

هؤلاء يتركون ساحة القتال وأطراف الخندق، لأجل الفرار من خطر الموت والقتل، غير أنّهم قد جهلوا سنّة الله الحكيمة القاضية بأنّه:( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف / ٣٤ ).

وقد ردّت هذه النظرية ( الفرار سبيل النجاة ) في غير واحد من الآيات، قال سبحانه:( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إلّا بِإِذْنِ اللهِ ) ( آل عمران / ١٤٥ ).

وقال سبحانه:( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ) ( آل عمران / ١٥٤ ).

ويقول في شأن أولئك الذين نكصوا على أعقابهم في معركة الخندق من المسلمين:( قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلاً ) وما ذلك إلّا لأنّ لكل نفس أجلاً، مقضيّاً ومحتوماً لا يتأخّر عنه ساعة ولا يتقدّم عنه، فالفرار على فرض التأثير لا يؤثّر إلّا قليلاً، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلاً ) .

كيف وأنّ الخير والشر تابعان لإرادته سبحانه، ولا يحول دون نفوذ إرادته شيء، فإذاً الأولى إيكال الأمر إلى إرادته والتوكّل عليه، قال سبحانه:( قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ

٣٨٤

وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) .

٥ ـ سعة علمه:

إنّ المنافقين ومن في قلبه مرض من المسلمين، ما عرفوا الله حقّ قدره، وما عرفوا أسماءه وصفاته، وأنّه عالم بكل شيء، ما تكنّه صدورهم وتضمره قلوبهم وتوحيه نفوسهم، فكيف كلامهم وأعمالهم العلنية، فقد كانوا يعيقون غيرهم من جنود المسلمين عن الجهاد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويثبّطونهم ويشغلونهم ليعرضوا عن نصرته وينصرفوا عن القتال، وكانت اليهود تساندهم في هذا الأمر ويقولون مع نظرائهم من المنافقين: لا تحاربوا وخلّوا محمداً فإنّا نخاف عليكم الهلاك، ولأجل ذلك ما كانوا يحضرون القتال إلّا رياءً أو سمعة قدر ما يوهمون أنّهم مع المسلمين ولكنّهم كانوا كارهين لكون قلوبهم مع المشركين، وإليه يشير قوله سبحانه:

( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلّا قَلِيلاً ) ( الأحزاب / ١٨ ).

٦ ـ جبناء حين البأس، شجعان حين الأمن

عجيب أمر هؤلاء ومن حذىٰ حذوهم:

فهم حين البأس جبناء، تدور أعينهم في رؤوسهم وجلاً وخوفاً، كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيته أسبابه، فعند ذاك يعذّب لبّه ويشخص بصره فلا يتحرّك طرفه.

وحين اقتسام الغنيمة أشحّاء إذا ظفر بها المؤمنون لا يريدون أن يفوتهم شيء ممّا وصل إلى أيديهم، وكان الشاعر يشير إليهم:

وفي السلم أعيار جفاءً وغلظة

وفي الحرب أمثال النساء العواتك

٣٨٥

ولهم مع ذلك كذب في القول ومراء في الكلام، فإذا كان الأمن والرخاء مخيِّما فخروا بمقاماتهم المصطنعة من النجدة والشجاعة والبأس، وإلى هذه الحالات الثلاثه يشير قوله تعالى:

( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا ) .

إلى الحالة الأولى ـ أي جبنهم في الحرب ـ يشير قوله:( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ) أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة، فهم لا يودّون مساعدتكم ولا نصرتكم لا بنفس ولا نفيس.

وإلى الحاله الثانية يشير قوله:( أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ ) أي الغنائم.

وإلى الحالة الثالثة يشير قوله:( فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ) .

وفي النهاية كتب على أعمالهم الضئيلة بالإحباط كما في قوله:( أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ ) .

وفي نهاية المطاف يتناول سبحانه هؤلاء ما هو مفاده: إنّ مقدار الجبن والهلع الذي لحق بهم، وعظيم الدهشة والحيرة التي أحاطت بهم، بلغ إلى حدٍ أنّهم يظنّون أنّ الأحزاب ما زالت مرابطة في ثكنات معسكرهم في الوقت الذي رحلوا فيه.

والذي يعرب عن عظم ما انتابهم من الوجل، أنّه لو رجعت الأحزاب تمنّوا أن لو كانوا مقيمين في البادية بعيدين عن المدينة حتّى لا ينالهم أذىٰ أو مكروه ويكتفون بالسؤال عن أخبار من قاوم من جانب المدينة، وإليه يشير قوله سبحانه:

( يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إلّا قَلِيلاً ) .

إنّه سبحانه بعد أن فصّل أحوالهم، وكشف عّما كنّته صدورهم وما أضمروه ،

٣٨٦

أبان لهم طريق الهداية مرّة اُخرى وانّهم لو راموا النجاة والسعادة فليقتدوا برسول الله وليجعلوه اُسوة لهم، قال سبحانه:

( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا ) .

* * *

حال المؤمنين الصادقين في غزوة الأحزاب

ثمّ إنّه سبحانه لما بيّن حال المنافقين ومن في قلبه مرض، ذكر حال المؤمنين الواقعيين الذين كانوا في الرعيل الأوّل في سوح الجهاد، وكيف أنّهم كانوا على طرفي نقيض من المنافقين، حيث قال سبحانه:( وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا *مِّنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً *لِّيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الأحزاب / ٢٢ ـ ٢٤ ).

إنّ قوله سبحانه( هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ ) إشارة إلى ما وعدهم النبي بأنّ الأحزاب ستجتمع شوكتهم عليهم، فلمّا شاهدوهم تبيّن لهم أنّ ذلك هو الذي وعدهم، وربّما يقال بأنّ المراد ما وعده الله ورسوله من الابتلاء والإمتحان في الآيات التي نزلت في غزوة اُحد في قوله سبحانه( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) ( البقرة / ٢١٤ ).

فتحقّقوا من ذلك أنّه سيصيبهم ما أصاب الأنبياء والمؤمنين بهم من الشدّة والمحنة التي تزلزل القلوب، وتدهش النفوس، فلمّا رأوا الأحزاب أيقنوا أنّه من الوعد الموعود وأنّ الله سينصرهم على عدوّهم.

ثمّ إنّه سبحانه وصف الكاملين من المؤمنين الذين ثبتوا عند اللقاء، واحتملوا

٣٨٧

البأساء والضرّاء في هذه الغزوة وما قبلها من الغزوات، بأنّ بعضهم استشهد يوم بدر ويوم اُحد، وبعض منهم يترقّب أجله، وإليه يشير قوله سبحانه:( مِّنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) .

والنحب: النذر المحكوم بوجوبه، يقال قضىٰ فلان نحبه، أي وفى بنذره، ويعبّر به عمّا انقضىٰ أجله، ثم إنّه سبحانه يقول: إنّ كلاًّ من المؤمن والمنافق مجزى بأعماله، قال سبحانه:( لِّيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) .

وهو سبحانه استعرض جزاء عمل الصادقين بنحو القطع والجزم بقوله:( لِّيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ ) في الوقت الذي نجد فيه أنّه تناول جزاء المنافقين بقوله:( وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ ) بالتعليق على المشيئة، وما ذلك إلّا لبيان سعة رحمته وفضله، وأنّه فسح المجال لتوبة من عصاه، وعلى ذلك يكون معنى الآية يعذّب المنافقين لو شاء تعذيبهم، فيما لم يتوبوا أو يتوب الله عليهم إن تابوا.

خاتمه المطاف:

وفى ختام الآيات يقول أنّه سبحانه: قد صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، وردّ المشركين على أدبارهم، خائبين مخذولين تختنقهم الغصّة وتؤلمهم الحسرة، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) .

النتائج التي تمخّض عنها هذا البحث فهي:

أ ـ إنّ في هذه الغزوة تحالفت الوثنية مع اليهود على أن يكون تحمّل أعباء نفقات الحرب على عاتق اليهود وكاهلهم، ويكون القتال والاصطكاك في ساحة المعركة من نصيب المشركين، وليس هذا التآمر المشترك هو الأوّل من نوعه بل له

٣٨٨

نظائر متعدّدة على امتداد التاريخ الإسلامي، فقد تحالفت الوثنية مع النصرانية في القرن السادس والسابع الهجريين، فشنّوا الغارات الشرسة على العالم الإسلامي، ومزّقوه شر ممزّق، فقد جاء التتار وهم الوثنية من الجهة الشرقية، بينما جاءت النصرانية من جانب الغرب فهجموا على البلاد، وفتكوا بأهلها فتكاً ذريعاً لم يذكر التاريخ له مثيلاً.

ب ـ إنّ الإنتصار رهن عاملين قويين: أحدها بشري والآخر غيبي.

فأمّا الأوّل وهو القيام بالتخطيط العسكري، وحفر الخندق، وحشد القوى بتمام طاقاتها، وبذل كل ما كانوا يملكونه لصدّ هجوم العدو ولم يكن التخطيط العسكري الذي انتخبه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله منحصراً بحفر الخندق، بل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في كسر جبهة الأعداء استعان بالجواسيس وبث العيون وقد كان لنعيم بن مسعود في الفتك بوحدتهم دور هام، على ما مر بيانه وربّما يوازي عمله عمل أدهى أجهزة الإستخبارات العالمية.

وأمّا الثاني وهو الغيبي فقد سلط الله عليهم الريح والبرد القارس، حتى سلبت عنهم الراحة والاستقرار والقدرة على البقاء، فهذا حذيفة بن اليمان الذى أرسله الرسول جاسوساً إلى القوم حيث قال له: اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يصنعون ولا تحدثن شيئاً، حتىٰ تأتينا، قال فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقرّ لهم قِدْراً ولا ناراً ولا بناءً، فقام أبو سفيان فقال: إحذروا الجواسيس والعيون ولينظر كل رجل جليسه، قال حذيفه فالتفتّ إلى عمرو بن العاص فقلت: من أنت، وهو عن يمينى فقال: عمرو بن العاص، والتفتّ إلى معاوية بن أبى سفيان فقلت: من أنت فقال: معاوية بن أبى سفيان، ثمّ قال أبو سفيان: إنّكم والله لستم بدار مقام، لقد هلك الخف والكراع ( إلى أن قال حذيفه ) فقام أبو سفيان وجلس على بعيره، وهو معقول ثمّ ضربه فوثب على ثلاث قوائمه فما اطلق عقاله إلّا بعد ما قام(١) .

__________________

(١) المغازي: ج ٢ ص ٤٨٩ و ٤٩٠، والسيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٢٣٢.

٣٨٩

٤ ـ غزوة بني المصطلق

بلغ رسول الله أنّ بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم « الحارث بن أبي ضرار ». فلمّا سمع بهم خرج إليهم، حتّى لقيهم على ماء لهم، يقال له: ( الـمــُــرَيسيع ) فتزاحف الناس، واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، وسبي من سبي، وقد قتل من أصحاب رسول الله رجل اسمه « هشام بن صبابة » قتله رجل من الأنصار خطأً.

فبينا رسول الله على ذلك الماء، وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له جَهْجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جَهْجاه مع رجل من الأنصار على الماء، فاقتتلا، فصرخ الأنصاري: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين. فلمّا سمع رسول الله صرختهما قال: دعوها فإنّها منتنة ـ يعني إنّها كلمة خبيثة ـ لأنّها من دعوى الجاهلية، فإنّ الله جعل المؤمنين اُخوة وحزباً واحداً، فمن دعا في الإسلام بدعوة الجاهليّة يعزّر.

ثمّ لـمّا بلغ الأمر إلى عبد الله بن اُبيّ بن سلول، وعنده رهط من قومه، فيهم: زيد بن أرقم، وهو غلام حدث، فقال ابن اُبيّ: أوَقد فعلوها، وقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش إلّا كما قال الأوّل: سَمِّن كلبك يأكلك ! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل. ثمّ أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم. فسمع ذلك

٣٩٠

زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك عند فراغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عدوّه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال: مُرْ به عبّاد بن بشر فليقتله. فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه !

وقد مشى عبد الله بن اُبيّ بن سلول إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين بلغه أنّ زيد بن أرقم قد بلّغه ما سمع منه، فحلف بالله: ما قلت ما قال ولا تكلمّت به ـ وكان في قومه شريفاً عظيماً ـ فقال من حضر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسىٰ أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، حَدَباً على ابن اُبيّ بن سلول ودفعاً عنه.

ولكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقف على أنّه إن لم يتّخذ خطة حازمة فقد يستفحل الأمر، لذلك أمر أن يؤذّن بين الناس بالرحيل في ساعة لم يكن يرتحل المسلمون فيها، وعند ذلك جاء أسيد بن حضير وقال: يا نبي الله لقد رحلت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ قال: وأي صاحب يا رسول الله ؟ قال: عبد الله بن اُبيّ قال: وما قال ؟ قال: زعم أنّه إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل، قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز. ثمّ قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله فقد جاءنا الله بك، وإنّ قومه لينظمون له الخَرز ليتوّجوه، فإنّه ليرى أنّك قد أستلبته مُلكاً.

ثمّ مشى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالناس يومهم ذلك حتّى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتّى آذتهم الشمس، ثمّ نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياماً، وإنّما فعل ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن اُبيّ.

حطّ المسلمون رحالهم بالمدينة، وفي تلك الأثناء نزلت آيات تصدّق زيداً ،

٣٩١

وتكذّب عبد الله بن اُبي، حيث قال سبحانه:

( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَٰكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ *يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( المنافقون / ٧ و ٨ ).

فلمّا نزلت هذه الآيات حسب قوم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله آمر بقتله لا محالة، فعند ذلك ذهب ابنه عبد الله ـ وكان مسلماً حسن الإسلام ـ فقال: يا رسول الله إنّه بلغني أنّك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بد فاعلاً فمرْني به، فأنا اَحمِلُ إليك راَسه، فواللهِ لقد علمتْ الخزرجُ ما كان لها من رجل أبرّ بوالده منّي، وإني أخشىٰ أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي اَنْظُر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر، فأدخل النار. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : بل نترفّق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.

تولّي قوم ابنُ اُبيّ مجازاته:

وبعد ذلك كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنِّفونه. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف ترىٰ يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قُلتَ لي اقتله، لاُرعِدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال: قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم بركة من أمري(١) .

وقال الطبرسي: وكان عبد الله بن اُبيّ بقرب المدينة، فلمّا أراد أن يدخلها جاء ابنه عبد الله بن عبد الله حتّى أناخ على مجامع طرق المدينة. فقال: مالك ويلك ؟ قال: والله لا تدخلها إلّا بإذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولتعلمنّ اليوم

__________________

(١) السيرة النبويّة لإبن هشام: ج ٢ ص ٢٨٩ ـ ٢٩٣.

٣٩٢

مَنْ الأعزّ ومن الأذلّ، فشكا عبد الله ابنه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأرسل إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن خلّ عنه يدخل، فقال: أمّا إذا جاء أمرَ رسول الله فنعم(١) .

ولـمـّا نزلت الآيات المتقدّمة وبان كذب عبد الله قيل له: إنّه نزل فيك آي شداد، فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك، فلوى رأسه ثمّ قال: آمرتموني أن اُؤمن فقد آمنت، وآمرتموني أن اُعطي زكاة مالي فقد أعطيت، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمّد، فعند ذلك نزلت الآيتان التالية:

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ *سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( المنافقون / ٥ و ٦ ).

هذه قصة غزوة بني المصطلق، وقد رواها أهل السير والمغازي والمفسّرون(٢) .

والذي يهمّنا من استعراض تلك الغزوة هو الدروس والعظات التي يمكننا أن نستخلصها، ونستفيدها منها من خلال سيرة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإليك عرض تلك النتائج:

١ ـ التخطيط للإجلاء والمقاطعة الاقتصادية:

لم يكن التخطيط لإجلاء المسلمين عن أوطانهم وأماكنهم والمقاطعة الاقتصادية شيئاً حديث النشأة في القرن العشرين، وإنّما له جذور تمتد علىٰ مرّ التاريخ، فهذا عبد الله بن اُبيّ رئيس المنافقين يعد العدّة للتآمر على المسلمين، ويسعى جاهداً لإجلائهم، وفرض مقاطعة إقتصادية عليهم، فلو شاهدنا ما يفعل بنا

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١٠ ص ٤٤٤ ( طبع بيروت ).

(٢) لاحظ تفسير الطبري: ج ٢٨ ص ٧٠ ـ ٧٥، والدر المنثور: ج ٥ ص ٢٢٢ ـ ٢٢٦، إلى غير ذلك من المصادر.

٣٩٣

نحن معاشر المسلمين على أيدى المستعمرين في بيت المقدس، وسائر بقاع المسلمين الاُخرى في أيّامنا هذه، فليس هناك محلًّا للإستغراب والدهشة والتعجّب، ولكنّ الله سبحانه وتعالى أدحض تآمرهم وأبطل أحدوثتهم وردّ كيدهم إلى نحورهم فانقلبوا خاسئين.

قال سبحانه:( وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( المنافقون / ٧ ) وقال سبحانه:( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) ( المنافقون / ٨ ).

ولكنّ ذلك مشروط بالتمسّك بعرىٰ الإيمان، والإنقطاع الكامل لله عزّ وجل، والإنقياد المطلق لأوامره ونواهيه.

قال سبحانه:( وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / ١٣٩ ) وقال عزّ اسمه:( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ إلّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) ( فصّلت / ٣٠ ).

٢ ـ تشتيت الشمل وبثّ التفرقة بين المسلمين:

إنّ عبد الله بن اُبيّ ذلك العدو اللدود للمسلمين، أراد تشتيت شمل المسلمين، بإثارة ظغائن طائفة من المسلمين على طائفة اُخرى، حتّى يشتعل فتيل الفتنة، ويحرق المسلمون بعضهم دمَ بعض بأيديهم، وتكون الخاتمة لصالح أعدائهم، حيث قال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم .

غير أنّ هذا النهج التآمري لا زال معمولاً به إلىٰ يومنا هذا، وما انفكّ عنه أعداء الإسلام طرفة عين أبداً، ومن الصور الجليّة الواضحة لهذا النهج العدائي في يومنا هذا، بثّ السموم الفكرية في أذهان أبناء الشعوب الإسلامية، وتأليب بعضهم على بعض، تحت شعارات قوميّة ووطنيّة وعرقيّة، فيحفّزون الجذور القومية للترك في قبال الجذور القومية العرقية العربية، وهكذا بالنسبة لسائر القوميات المتعدّدة التي تدين

٣٩٤

بالإسلام علىٰ امتداد رقعته الشاسعة.

وبذلك تمكّنوا من الفتك والإجهاز علىٰ الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف، والتي تمكّنت من الظهور بالمسلمين كدولة عظمى في العالم لها سيادتها، وثقلها في تقرير الأوضاع السياسية في العالم.

٣ ـ حنكة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في اجتياز الأزمة:

في خضمّ ذلك الموقف الحرِج، أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يؤذّن في الناس بالرحيل في ساعة لم يألفوا الرحيل فيها، مع أنّ ابن اُبيّ أسرع بالمثول أمام يديه، والتنكّر ممّا بدر منه ونسب إليه، ولكن ذلك لم يؤثّر على قرار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرحيل شيئاً، بل انطلق بالناس يجوب الفيافي والقفار، طيلة يومهم حتّى أمسوا، وطيلة ليلتهم حتّى أصبحوا، وصدر يومهم الثاني حتّى آذتهم الشمس، فلمّا نزل الناس لم يلبثوا حتّى غلبهم النعاس، ونسوا حديث ابن اُبيّ، وهذا يعطي لكل قائد محنّك درساً من لزوم امتصاص ما انتاب نفوسهم من أفكار خاطئة، واجتثاث جذورها بصرفها إلىٰ اُمور اُخرى، تستولي علىٰ منافذ فكرهم، فتشذَّ أذهانهم عنهم إلىٰ التشاغل باُمور اُخرىٰ، ولو لم يقم بذلك لبقيت آثار تلك الرواسب الفكرية في أذهانهم، ولأثرّت على مستقبل الدعوة، ووحدة صف المسلمين.

٤ ـ سعة صدر النبي وتريّثه وتلبّثه:

لـمـّا أطلع زيد بن أرقم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ما قاله عبد الله بن اُبيّ، صدّقه في نقله، ولـمـّا مثل ابن اُبيّ بين يديه، وأنكر ما أبلغه زيد بن أرقم، فلم يكذّبه، وربّما كانت هذا الظاهرة التي تمثّل بها النبي في ذلك الموقف، أمراً مثيراً للتساؤل، ولأجل ذلك انتهز المنافقون الفرصة لانتقاد النبي، واتهامه بالتساهل والتواني في القضاء علىٰ خصومه، ولكنّ المنافقين قد غفلوا عن أصل رصين، واُسّ مكين تبتني عليه الحنكة القياديّة، وقد قال أمير المؤمنينعليه‌السلام بهذا

٣٩٥

الصدد: « آلة الرئاسة سعة الصدر »(١) .

وإنّ التسرّع في الحكم والقضاء، وإن أصاب الواقع لا يخلو من نتائج غير محمودة، خصوصاً إذا لم يتّضح الأمر بعد لعموم المسلمين، فقد اختار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التريّث حتّى تنكشف حقيقة المسألة للجميع، فيكون النبي معذوراً ومحقّاً إذا أخذ في حق ابن اُبيّ حكماً حاسماً.

٥ ـ مقابلة الإساءة بالإحسان:

لـمـّا أخبر زيد بن أرقم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بما تقوَّل به عبد الله ابن اُبيّ، اقترح عمر بن الخطاب على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقتله ولكنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أجابه بقوله: « فكيف يا عمر، إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه »، فقد أبدىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في جوابه هذا حنكة وسياسة رصينة أدحض بذلك المقولة التي تنصّ علىٰ « أنّ كل ثورة ستجتثّ جذور أبطالها ». وعدوّ الله عبد الله بن اُبيّ وإن لم يكن في واقع أمره مسلماً واقعيّاً، ولكنّه كان معدوداً منهم، ومن أشرافهم، فلو قتله النبي لتسرّب الريب إلى سائر نفوس المسلمين.

وقد جازىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الإساءة بالإحسان، عند ما جاء ابنه إلى النبي، وقال: « إنّه بلغني أنّك تريد قتل عبد الله بن اُبيّ، فإن كنت لا بدّ فاعلاً فامرني به ».

ولكنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أجابه بقوله: بل نترفّق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا.

اُنظر إلى هذه السماحة النبويّة، وروعة عفوها وجلالها، فهو يترفّق بمن ناصبه العداء، وأَلّب قلوب أهل المدينة عليه، فيكون رفقه وعفوه أبعد أثراً عن عقوبته، لو أنه

__________________

(١) نهج البلاغة قسم الحكم برقم ١٧٦.

٣٩٦

عاقبها به، وعند ذلك توجّه النبي إلى عمر بن الخطاب: كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لاُرعِدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.

قال عمر: والله علمت لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم بركة من أمري.

وفي الختام انظر إلى كلام ابن عبد الله، فهو على ايجازه يعبّر عن حالة نفسية اصطدمت فيها روح الإنشداد إلى الدين، والذوبان في كيانه العظيم، مع وشائج الارتباط العاطفي بوالده، فلا يمكن له الجمع بينهما، ولكنّه يعلم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يصدر إلّا عن الوحي، ولا يأمر إلّا بالحق، وعند ذلك طلب من النبي أن يقوم بنفسه بقتله لو استحقّ القتل، ولا يفوّض القيام به إلى الغير، خوفاً من أن تحمله العواطف، والوشائج إلى قتل قاتل أبيه، وفي قتل المسلم دخول النار والعذاب المقيم.

٦ ـ العزّة لله ولرسوله:

إنّ عبد الله بن اُبيّ أوهم الناس بأنّ العزّة للمشركين والمنافقين، والذل والهوان للمسلمين والمؤمنين، ولكنّ الوحي أبطل أوهامه تلك، بقوله:

( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .

فصدق الخبر المخبر، حتّى وقف ابن عبد الله بن اُبيّ على باب المدينة، فقال لأبيه: والله لا تدخلها إلّا بإذن رسول الله ولتعلمنّ اليوم من الأعزّ، ومن الأذلّ، فشكى عبد الله ابنه إلى رسول الله، فأرسل إليه رسول الله: أن خلّي عنه يدخل فقال: أمّا إذا جاء أمر رسول الله فنعم.

هذه هي الدروس التي نتلقّاها من وحي سيرة الرسول على ضوء ما ورد في القرآن الكريم.

٣٩٧

خاتمة المطاف:

ثمّ إنّ بني المصطلق أسلموا، فبعث إليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حتّى يأخذ الصدقات منهم، فلمّا سمعوا به ركبوا إليه، فلمّا سمع بهم هابهم، فرجع إلىٰ رسول الله، فأخبره: انّ القوم قد همّوا بقتله، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم. فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتّى همَّ رسول الله بأن يغزوهم، فبينماهم علىٰ ذلك قدم وفدهم علىٰ رسول الله، فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة، فانشمر راجعاً، فبلغنا انّه زعم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّا خرجنا إليه لنقتله، ووالله ما جئنا لذلك، فأنزل الله تعالى فيه وفيهم:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ *وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ) ( الحجرات / ٦ و ٧ )(١) .

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٢٩٦، وتفسير الطبري: ج ٢٦ ص ٧٩، والدر المنثور: ج ٧ ص ٥٥٦ ـ ٥٥٨.

٣٩٨

٥ ـ صلح الحديبيّة

إنّ الله تعالى أرى نبيّه في المنام بالمدينة أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام، فأخبر بذلك أصحابه، ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلوا مكّة عامهم ذلك، وهي السنة السادسة من الهجرة. ثمّ استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معهم لإداء فريضة العمرة، لزيارة بيت الله، وتعظيماً له، لا لقتال أو جهاد، فساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وكانت الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة نفرات.

خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى إذا كان بعسفان(١) لقيه « بشر بن سفيان الكعبي » فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك، ولقد لبسوا جلود النمور، ونزلوا بذي طوى(٢) يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً، وهذا « خالد بن الوليد » في خيلهم قد قدّموها إلى كراع الغميم(٣) ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن اظهر نبي الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة، فما تظن قريش ؟ فو الله لا أزال اُجاهد على الذي بعثني الله به، حتّى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة(٤) .

ثمّ قال: مَنْ رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟

__________________

(١) عسفان، منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكّة، وهي من مكّة على مرحلتين.

(٢) موضع قرب مكّة.

(٣) واد أمام عسفان بثمانية أميال.

(٤) صفحة العنق، وكنى بإنفرادها عن الموت.

٣٩٩

فعندئذ قال رجل من « أسلم »: أنا يا رسول الله. فسلك بهم طريقاً وعراً كثير الحجارة بين شعاب، فلمّا خرجوا منه، وقد شقّ ذلك على المسلمين، وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي. أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: اسلكوا ذات اليمين في طريق، وقد أدّى بهم ذلك الطريق إلى مهبط الحديبيّة. فلما رأت خيل قريش غبار جيش الإسلام، قد خالفوا عن طريقهم، رجعوا راكضين إلى قريش. وخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسلك حتّى بركت ناقته، فقالت الناس: خلأت الناقة. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكّة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلّا أعطيتهم إيّاها، ثمّ أمر الناس بالإنزال. قيل: يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما بالوادي ماء ننزل عليه. فأخرج سهماً من كنانته، فأعطاه رجلاً من أصحابه، فنزل به في قليب من تلك القلب، فغرزه في جوفه حتّى ارتفع بالرواء.

١ ـ رجال خزاعة بين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقريش

نزل رسول الله أرض الحديبيّة، وبينما هو فيها إذ أتاه « بديل بن ورقاء الخزاعي » في رجال من خزاعة، فكلّموا النبي وسألوه. فقال: إنّه لم يأت يريد حرباً، وإنّما جاء زائراً للبيت، ومعظّماً لحرمته، ثمّ قال لهم نحواً ممّا قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش، إنّكم تعجلون على محمد، إنّ محمداً لم يأت لقتال، وإنّما جاء زائراً لهذا البيت، فاتهموهم وأهانوهم. وقالوا: وإن كان جاء ولا يريد قتالاً، فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبداً، ولا تحدّث بذلك عنّا العرب.

٢ ـ مكرز رسول قريش إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

ثمّ بعثت قريش إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكرز بن حفص، فلمّا رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: هذا رجل غادر، فلمّا انتهى إلى

٤٠٠