مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265566 / تحميل: 6065
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

لا يقول به إلاّ شرذمة من القائلين بالقدم ؛ قال صدر المحقّقين في رسالة اثبات الواجب : وأمّا نسبة التزام هذه التسلسل إلى الحكماء فافتراء ؛ وقال ولده غياث المدقّقين في شرحه : اي قدماء الحكماء المحقّقين ، فانّهم انكروا ذلك كما لا يخفى على من تصفّح الصحف الموروثة عنهم ، وانّما التزمه قوم من المتفلسفين المتأخّرين ممّن لا اعتماد على كلامهم. والمنكرون للتسلسل في الشروط الحادثة بيّنوا كيفية حدوث الحوادث اليومية بوجه آخر ، وهو انّهم اثبتوا حركة سرمدية وهي أمر واحد متّصل وله اجزاء فرضية فكلّ فرد من الحوادث مستند إلى بعض معيّن من تلك الحركة الواحدة ؛(١) انتهى.

وذلك لأنّ التصفّح يعطي بأنّ الفلاسفة متّفقون على التزام التسلسل في الشروط الحادثة ؛ واذعانهم بوجود الحركة السرمدية دليل قاطع على ذلك ، لأنّ الحركة القديمة ذو اجزاء كلّ جزء منها متوقّف على جزء سابق عليه ، فيلزم التسلسل في الأمور المتعاقبة. فجعل استناد الحوادث اليومية إلى الحركة السرمدية دليلا على عدم توقّف الحادث على الشروط الحادثة الغير المتناهية أمر غريب.

وقال بعض أهل التحقيق : انكار كون هذه المقدّمة مسلّمة عند الحكماء غريب جدا ، إذ لا ريب لمن تصفّح كتبهم في انّهم يقولون بها.

وما تخيّله من أنّهم قالوا باستناد الحوادث إلى الحركة وهي موجود واحد قديم بلا توقّف على شرط فلم تكن المقدّمة مسلّمة عندهم ، ففيه : انّ نظرهم إلى انّ الحركة لها أجزاء غير متناهية يتوقّف كلّ جزء منها على سابقه. وحينئذ لا بأس باستناد الحوادث إليها ، إذ توقّف كلّ حادث على شرط حادث على سبيل التسلسل على التعاقب ، فليس في ذلك دلالة على تجويزهم استناد الحادث بالقديم بلا توقّف على شرط حادث. كيف ولو جوّزوا ذلك فما بالهم ارتكبوا تلك الحركة وتورّطوا فيما تورطوا فيه؟!. فظهر انّ تعليل عدم امكان جعل الاستدلال المذكور جدليا والزاميا للحكماء لعدم كون المقدّمة(٢) المذكورة مسلّمة عندهم غير صحيح. فالصحيح تعليله

__________________

(١) ما عثرت على هاتين الرسالتين ، والظاهر انّهما لم تطبعا بعد.

(٢) الاصل : المسألة.

٢٦١

بما ذكروا بانّ الحكيم قائل بتوقّف الحادث على الشرط الحادث مطلقا ، سواء كان الفاعل مختارا أو موجبا ، فعلى تقدير جعله جدليا والزاميا للحكيم يتوجّه على المعتزلة النقض قطعا ؛ هذا.

وقيل في بيان عدم جواز استعمال الدليل المذكور لا برهانيا ولا جدليا من قبل المعتزلة وورود المعارضة عليهم مع انّهم يجوز لهم على الظاهر أن يقولوا ـ لم لا يجوز أن تكون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور وان اعتقدنا بطلانها في نفسها كما في كثير من توالي المتّصلات اللزومية ـ : انّ القول بالمقدمة المذكورة كما انّه لا يصحّ في نفسه عندهم كذلك ليس لازما لفرض الايجاب المذكور في الواقع حتّى يصحّ استعمال المعتزلة لها على فرضه ، وحينئذ لا يجوز لهم استعمالها أصلا.

بيان عدم اللزوم : انّ معنى الايجاب المذكور هو امتناع انفكاك الذات عن ايجاد العالم مطلقا في الازل ، فيلزمه حصول جميع شرائط التأثير فيه في الأزل وعدم توقّفه على شيء اصلا فلا يمكن مع استلزامه عدم التوقّف المذكور أن يستلزم أيضا توقّفه على الشروط للزوم اجتماع النقيضين ، وهو محال ؛ فثبت انّ توقّف العالم حال حدوثه على حادث آخر لا يمكن أن يكون لازما لفرض الايجاب المذكور ؛ انتهى.

وفيه : ما تقدم من انّ بناء الاستدلال على قطع النظر عن استحالة اجتماع الايجاب المذكور مع حدوث الأثر ، ولولاه لم يصحّ للأشعري أيضا نفي مطلق الايجاب. وإذا كان اجتماع هذين الأمرين ـ أعني : القدم والحدوث ـ محالا ومع ذلك فرض وقوعه واستدلّ على تقديره فلا مانع من لزوم محال آخر منه ـ أعني : اجتماع عدم التوقّف على شيء والتوقّف على الشرط ـ ، لأنّ المحال قد يستلزم فرضه محالا آخر والاستدلال بفرض وقوع محال وترتّب محال آخر عليه أمر شائع بينهم ، ولو منعه مانع محتجّا بعدم فائدة فيه وعدم الاحتياج إليه فهو كلام آخر. وسنذكر انّ من وجوه الاختلال في هذا الاستدلال عدم الاحتياج إليه ، للزوم القدم على فرض الايجاب المذكور ضرورة ، ونشير إلى / ٥٩ MB / أنّ من وجوه الاختلال فيه وان كان مندفعا بما ذكر من لزوم اجتماع النقيضين ـ أعني : الايجاب بالمعنى المذكور والحدوث ـ ، والمحال قد يستلزم المحال.

٢٦٢

فلقائل أن يقول : حينئذ لا مانع من لزوم التسلسل في الشروط المتعاقبة لامكان استلزام المحال المحال ، والمطلوب هاهنا انّه مع قطع النظر عن هذه الوجوه من الاختلال يلزم اختلال آخر أيضا ، وهو المعارضة من قبل الحكماء على المعتزلة.

الثاني : انّ المعارضة يرد على الأشعري أيضا. فان أجيب : بانّ للأشعرية الجواب بالتزام التخلّف والترجيح بلا مرجّح ويكون كلامه في الاستدلال على سبيل الجدل والالزام ؛

قلنا : للمعتزلة أيضا التزام عدم توقّف الحادث على شرط حادث ويكون كلامهم في الدليل على سبيل الجدل ؛ انتهى.

ولا يخفى ضعفه على ما بيّناه ، لأنّ الاستدلال المذكور على مذهب الاشعري برهاني لا يتوجّه عليه النقض مطلقا ، لأنّ في صورة الاختيار يجوز الترجيح بلا مرجّح عنده بخلاف صورة الايجاب. وما ذكره من امكان جعل الدليل المذكور جدليا من قبل المعتزلة فقد عرفت فساده.

وبذلك يندفع ما ذكره بعض آخر : انّ الدليل المذكور لا يمكن اجرائه من قبل الأشعري أيضا لا برهانيا / ٥٦ DA / ـ لتجويزه الترجيح بلا مرجّح ـ ولا جدليا ـ لابتنائه على استحالة التسلسل في الشروط المتعاقبة ـ ، مع أنّ الحكماء يجوّزوه ، فلا يصحّ استعماله الزاما عليهم. فالحقّ انّ هذا الدليل لا يصحّ اجرائه اصلا لا من قبل الأشعري ولا من قبل غيره ، لا برهانيا ـ لابتنائه على التوقّف على الشرط الحادث وهو غير ممنوع عند المتكلّمين ، أمّا عند الأشاعرة منهم فلتجويزهم الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا عند غيرهم فلأنّ المرجح عندهم إمّا علم الفاعل وإمّا ذات الوقت ـ ؛ ولا الزاميا ـ لابتنائه على استحالة جميع انحاء التسلسل ، وهو غير ممنوع عند الحكماء ـ أيضا ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع ما عرفت من صحّة جعله برهانيا من قبل الأشعري.

والحقّ انّه يمكن أن يكون من قبله جدلا والزاما على الحكماء أيضا. وما استدلّ به على عدم امكان جعله جدليا يرد عليه : انّه لا ريب في أنّ أحد مقدّمات هذا الدليل ـ وهو لزوم التسلسل في الشروط ـ جدليّ للزومه على مذهب الحكيم دون

٢٦٣

الأشعري ، وهو يكفي لكونه جدليا ، ولا يلزم أن يكون باقي مقدّماته أيضا جدليا. ولا يلزم من استعمال مقدّمة في الدليل جدلا أن يكون جميع مقدّماته ممّا يسلّمه الخصم ، بل يجوز أن يكون بعض مقدّماته ممّا يعتقد المستدلّ كونه برهانيا وإن لم يسلّمه الخصم فاذا كان لزوم التسلسل في الشروط مسلّما عند الحكيم لزم كونه جدليا وان كان بطلانه غير مسلّم عنده ، بل كان ممّا اعتقده الأشعري وثبت عنده بالبرهان ، هذا.

وقال بعض الفضلاء : انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة غير تامّ ، إذ هم يجوّزون تخلّف المعلول عن العلّة التامّة واستحالته مأخوذة في الدليل.

واجاب عنه بعض الأعلام : بانّ المذكور في الاستدلال هو التخلّف عن الموجب التامّ وهو باطل باتفاق العقلاء ، لكن الأشاعرة ينفون الموجب مطلقا لا أنّهم يجوّزون التخلّف ؛ كيف وهو في قوّة اجتماع النقيضين؟!. وأمّا تخلف المعلول عن العلّة التامة فهو وان كان جائزا عقلا عندهم لكنّه غير واقع ومستحيل عادة نعم! تخلّف العلّة التامة عن المعلول بمعنى انفكاك ذاته في الأزل عن ايجاد الفعل مطلقا جائز وواقع عند أكثر المتكلّمين ، لأنّ ذاته ـ تعالى ـ مع علمه وارادته علّة تامة في الأزل لوجود العالم عندهم ، بل موجب تامّ عند بعضهم ـ كالمحقق الطوسي واتباعه ـ ، والعالم غير موجود فيه وبناء تجويز ذلك عند كلّ طائفة أمر وعند المحقّق الطوسي هو العلم بالأصلح ؛ انتهى.

وحاصله : انّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ والكلام في الاستدلال انّما هو فيه ، وهو صحيح لا غبار عليه ، كما مرّ غير مرّة من أنّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ وإن جوّزوا التخلّف عن الفاعل المختار بسبب الإرادة ، لا بأن يكون التخلّف جائزا بعد تعلّق الإرادة بالفعل ـ لوجوبه حينئذ عندهم ـ ، بل قبل تعلّقها بمعنى انّ تعلّقها بالفعل ليس بواجب ، فيجوز للفاعل المستجمع لجميع الشرائط أن يريد الفعل وأن لا يريد ، لجواز الترجيح بلا مرجّح.

فالتخلّف الجائز عن الفاعل المختار هو التخلّف عن المختار المستجمع للشرائط من الدواعي وغيرها سوى الإرادة ، ومع الإرادة لا يجوّزون التخلّف. ولا ريب انّ الفاعل بدون تعلّق الإرادة ليس علّة تامّة وان حصل جميع ما سواه من شرائط

٢٦٤

التأثير. فما ذكره المجيب المذكور من أنّ التخلّف عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ليس على ما ينبغي!.

قال بعض أهل التحقيق : ان مذهب الاشاعرة في صدور الفعل عن الفاعل المختار انّه يصدر عنه بدون اللزوم والوجوب في الاختيار والإرادة ، كما هو زعم المعتزلة من انّه لا بدّ من مرجّح في الفعل يوجب تعلّق الإرادة مثل كونه أصلح للصدور ، لأنّ الاشاعرة قالوا : المختار مرجّح بإرادته من غير مرجّح يوجب تعلّق الإرادة وان كان صدور الأثر بعد تعلّق الإرادة واجبا. فلا يتوهّم أنّ الأشاعرة ينفون وجوب الفعل والأثر بعد تعلّق الإرادة ، بل القول بانّ الشيء ما لم يجب لم يوجد متّفق عليه بين الكلّ إلاّ شرذمة قليلة من المتكلّمين القائلين بالأولويّة / ٦٠ MA / الغيرية ، فالوجوب واللزوم اللذان ينفيهما الاشاعرة وجوب تعلّق الإرادة بسبب موجب له ـ كالأصلحية مثلا ـ ، لا وجوب الفعل بغير الإرادة. وقد اعترض عليهم : بانّ ما قيل في وجوب الفعل آت بعينه في تعلّق الإرادة أيضا ؛ انتهى. وقال بعض آخر من الأعاظم : انّ ما نسب إلى الأشعري من انّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ممّا لم أقف على مأخذه! ؛ بل ظاهر كلام المواقف وشرحه انّهم يقولون باستحالة التخلّف عقلا. قال في المواقف : الإرادة القديمة يوجب المراد ؛ وفي شرحه : اي : إذا تعلّقت إرادة الله ـ تعالى ـ بفعل من أفعال نفسه لزم وجود ذلك الفعل وامتنع تخلّفه عن ارادته ، اتفاقا من أهل الملّة والحكماء أيضا(١) ؛ انتهى.

وأيضا اورد في بحث الاختيار من جانب القائلين بايجاب السؤال : بأنّ قدرته ـ تعالى ـ متعلّقة في الأزل بهذا الطرف وبه يجب وجوده ، وحينئذ فما الفرق بين الموجب والمختار؟ ؛

وأجاب : بانّ الفرق انّه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن تعلّق قدرته يستوي إليه الطرفان ، ووجوب هذا الطرف وجوب بشرط تعلّق القدرة والإرادة به ، لا وجوب ذاتي كما في الموجب بالذات / ٥٦ DB / ؛ ولا يمتنع عقلا تعلّق قدرته بالفعل بدلا

__________________

(١) ما وجدت العبارة في المواقف وشرحه.

٢٦٥

من الترك وبالعكس. وأمّا الموجب فانّه يتعين تأثيره في أحدهما ويمتنع في الاخر عقلا ؛ انتهى.

وتوضيح المقام : انّ مذهب الأشاعرة هو أنّ الفعل بعد تعلّق الإرادة به يصير واجبا ، ومرادهم بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامة هو هذا ـ أي : يمتنع تخلّفه عن الفاعل بعد تعلّق الإرادة واستجماعه لسائر الشرائط ـ. ولكن تعلّق الإرادة به ليس بواجب ، لانّ الفاعل المستجمع لجميع الشرائط يمكن أن يريد الفعل وأن لا يريد ـ بناء على جواز الترجيح بلا مرجّح ـ. والمراد بنفيهم الايجاب هو هذا ؛ أي : ليس شيء من الأفعال ممّا يجب صدوره عن الفاعل ، فانّ عدم ارادته له ممكن وحينئذ لم يصدر ذلك وإن كان بعد تعلّق الإرادة يجب الصدور البتة. وعلى هذا فالوجه في تمشّى الاستدلال المذكور على مذهب الأشاعرة هو انّهم يقولون : إذا كان الفاعل موجبا لا بدّ أن تكون ارادته واجبة الصدور منه ، فحينئذ فجميع الشرائط ان كانت حاصلة في الأزل يجب القدم وإلاّ يتوقّف على شرط حادث ، وأمّا إذا لم يكن موجبا فيجوز أن يكون جميع الشرائط حاصلة في الأزل ، ولكن لم تتعلّق به الإرادة في الأزل ، فلم يوجد الفعل وتعلّقت به فيما لا يزال ، فوجد الفعل ؛ هذا.

وقد بقي في المقام اشتباه ربما يزلّ به بعض الاقدام لا بدّ من الاشارة إلى دفعه. وهو : انّكم قلتم في مقام الاستدلال : لو كان الفاعل موجبا بالمعنى المذكور وكان العالم حادثا لزم التوقّف على شرط حادث لازم لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ؛ فنقول : إن كانت المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور على الاطلاق كان الاستدلال حينئذ تامّا من قبل المعتزلة ولا يرد عليهم المعارضة ، كما انّه تامّ من قبل الأشاعرة. ولو لم تكن لازمة له على الاطلاق لم يكن الاستدلال المذكور تامّا من قبل الاشاعرة أيضا ، كما انّه ليس تامّا من قبل المعتزلة ، لأنّ المقدّمة المذكورة إذا لم تكن لازمة للايجاب بالمعنى المذكور كيف يجوز للأشعري أن يقول ـ على فرض الايجاب المذكور ـ : إذا كان العالم حادثا لزم التسلسل في الحوادث إن كان تأثيره ـ تعالى ـ في الحادث محتاجا إلى مرجّح غير الإرادة؟! ، وأنّى له أن يدّعى اللزوم بين غير المتلازمين؟!.

٢٦٦

ووجه الدفع فيه : انّ المراد بعدم كون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ـ أي : الايجاب بالمعنى الاخصّ المساوق للقدم في مقام المعارضة ـ انّها ليست لازمة لفرض هذا الايجاب المخصوص على أن يكون للخصوصية دخل في الاستلزام وإن كان لازما لمطلق الايجاب ـ أي : الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء ، وهو الايجاب الخاصّ المذكور المساوق للقدم ـ والايجاب بالاعتبار الّذي قال به المعتزلة ـ أي : وجوب الفعل في آن حدوثه بسبب الداعي ـ ، فالمراد بعدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب المذكور هو انّ تلك المقدمة ليست لازمة لفرض خصوص هذا الايجاب الّذي قصد هاهنا ابطاله ، فلا يمكن استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي قال به المعتزلة ، لأنّه لو كان لخصوصية الايجاب المذكور دخل في استلزام المقدّمة لامكن أن يبطل بها الايجاب المذكور ويثبت بها الايجاب الآخر ، ولكن لم يكن اللزوم لخصوصية الايجاب المذكور ، بل كان لمطلق الايجاب لم يمكن ابطال قسم منه واثبات قسم آخر.

والمراد بلزوم المقدّمة المذكورة للايجاب بالمعنى المذكور في الاستدلال هو لزومها له في ضمن مطلق الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء وايجاب المعتزلة ، وعلى هذا فالايجاب سواء كان بالمعنى المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع / ٦٠ MB / الانفكاك المساوق للقدم ـ أو بالمعنى الّذي اثبته المعتزلة ـ وهو الوجوب بالداعى في آن الحدوث المسمّى بالاختيار المقابل للايجاب المقصود هاهنا ـ مستلزم للمقدّمة المذكورة. فكما يرد حينئذ لزوم المقدّمة المذكورة على الحكيم يرد على المعتزلى أيضا ، فالمعارضة واردة على المعتزلة. ولو كانت المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص ايجاب الحكماء لزم ورودها عليهم فقط لا على المعتزلة ، وكان لهم أن يقولوا : الايجاب الّذي نحن نثبته غير مستلزم لتلك المقدمة ، فلم يتوجّه عليهم المعارضة.

ثمّ لمّا كانت تلك المقدّمة لازمة للايجاب المطلق فيمكن للأشعري ـ الّذي لا يقول بالايجاب اصلا ـ ابطال مطلق الايجاب بلزومها ؛ فانّ للأشاعرة في هذا المقام مطلوبين : أحدهما نفى الايجاب الخاصّ المستلزم للقدم المخصوص بالحكماء ؛ وثانيهما : نفى مطلق

٢٦٧

الايجاب المشترك بين الحكماء والمعتزلة ، بل اثبات الاختيار المستلزم لجواز الترجيح بلا مرجّح المختصّ بهم والمقدمة المذكورة وان كانت غير مسلّمة عندهم أيضا ولا لازمة لفرض الايجاب الأوّل لكنّها لازمة لفرض الايجاب الثاني على زعمهم ، بل لنفي الاختيار المخصوص بهم ، فيصحّ استعمالهم في اثبات المطلوب الثاني دون الأوّل. وعلى ما ذكر يندفع الاشتباه ولا تبقى شبهة أصلا.

والعجب انّ بعض الاعاظم بعد أن / ٥٧ DA / أورد في المقام حاصل ما ذكرناه قال : فان قيل : كيف يجوز عند الأشاعرة لزوم تلك المقدّمة لفرض الايجاب المطلق ولا يجوز للايجاب الخاصّ ؛ واجاب : بانّ عدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب الراجع إلى القدم من جهة انّ فرض الحدوث المذكور فيها مناف لفرض ذلك الايجاب ، إذ محصّل الكلام انّه على تقدير قدم العالم لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ، وبطلانه ظاهر. بخلاف الايجاب المطلق ، فانّه لا منافاة بين فرضه وفرض حدوث العالم ، فيحتمل لزوم تلك المقدّمة على فرضه دون الاول ؛ انتهى.

ووجه التعجّب : عدم توجّه السؤال وازالة الاشتباه بالكلّية بعد ذكر ما أوردناه ، لأنّا ذكرنا انّا لا نقول بعدم لزومها للايجاب الخاصّ ، بل نقول انّه ليس لخصوص ذلك الايجاب دخل في لزومها ، فلا يتمشّى استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي تجري المقدّمة المذكورة في ابطاله أيضا. نعم! يمكن استعماله في ابطال مطلق الايجاب كما هو رأي الأشعري ؛ وعلى هذا يتمّ المطلوب ولا يبقى مقام للاشتباه والسؤال ، فلا ايراد.

ثمّ ما ذكره في الجواب فلا يخفى وهنه! ، لانّا ذكرنا مرارا انّ بناء الاستدلال على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور وقطع النظر عن استحالته. على انّه على ما ذكره تكون المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص الايجاب الّذي يقول به المعتزلة لا ما يقول به الحكماء أيضا ، فلا يمكن للأشعري نفي مطلق الايجاب بلزومها ، مع انّه قد صرّح بلزومها للايجاب المطلق ؛ هذا.

وربما يتراءى في المقام أن يقال : انّ للايجاب المقصود هنا ـ أعني : ايجاب

٢٦٨

الحكماء ـ معنى آخر غير الايجاب الّذي يقول به الحكماء والمعتزلة ـ أي : صدور الشيء بالوجوب واللزوم ـ وهو المراد بالايجاب المطلق. وليس الايجاب الأوّل ـ أعني : ايجاب الحكيم ـ فرد ، فلا يلزم من لزوم تلك المقدّمة للايجاب الثاني لزومها للأوّل أيضا. وعلى هذا فلا تكون المقدّمة المذكورة لازمة للايجاب بالمعنى المقصود هاهنا ، لا بخصوصه ولا في ضمن مطلق الايجاب الّذي أثبته الحكيم والمعتزلي ؛ فلا يمكن ابطال الايجاب المذكور بلزومها اصلا.

وهو مردود بأنّ ايجاب الحكيم وإن كان معنى آخر لكن لا شكّ في انّه مستلزم للايجاب بالمعنى الثاني ، إذ امتناع انفكاك الأثر عن المؤثّر لا يكون إلاّ إذا كان صدوره عنه بالوجوب واللزوم ، وإذا كان مستلزما له فيكون مستلزما للازمه أيضا ؛ على انّه لو كان الأمر على ما توهّم لما كان للأشعري أيضا أن يبطل الايجاب المختصّ بالحكماء بلزوم المقدّمة المذكورة.

تنبيه

على ما ذكرنا من تمشّي الدليل المذكور من قبل الأشاعرة في نفي المرجّح ونفي الايجاب المطلق لا يتوهّم أحد منهم انّ كلامهم صحيح واستدلالهم في الواقع ونفس الأمر تامّ! ، بل هو عند التحقيق ساقط.

وتوضيح الكلام في هذا المقام : انّ الاشاعرة جوّزوا الترجيح بلا مرجّح ونفوا الاحتياج إلى المرجّح مطلقا وقالوا بجواز صدور الفعل عن الفاعل بدونه. وانّما أقاموا الدليل المذكور أوّلا على ذلك المطلوب ، وحاصله : انّه لو كان تأثير الواجب في الحادث يحتاج إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث. ولمّا كان هذا الدليل المذكور أوّلا على نفي الايجاب أيضا استعملوه فيه أيضا ، فان استعملوه في نفي الايجاب المطلق المقصود منه الايجاب بالاختيار أيضا ـ أي : الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة ـ كان حاصل كلامهم حينئذ انّ تأثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالايجاب بمعنى وجوب الفعل ولزومه ، بل بالاختيار بدون الوجوب واللزوم بأن يكون المرجّح نفس

٢٦٩

إرادة الفاعل المختار ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في / ٦١ MA / الحوادث ؛ وان استعملوه في نفي الايجاب المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع الانفكاك ـ كان حاصل كلامهم انّ تاثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالايجاب بمعنى امتناع الانفكاك ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في الحوادث. ولا ريب انّ قولهم بنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة انّما هو مبني على قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ ، إذ على تقدير جوازه لا يتحقّق لشيء من الفعل والترك وجوب ولا اولوية بالنسبة إلى الفاعل في شيء من الاوقات ، وانّما التعيين والتخصيص من جهة الإرادة من دون وجوب تعلّقها بشيء من الطرفين وإن وجب بعد تعلّقها.

ثمّ لا يخفى انّ قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ اصل من اصولهم وليس مبتنيا على أصل آخر مسلّم عندهم ، وهذا الأصل في غاية الفساد ، ودليلهم المذكور في اثباته في غاية الضعف والوهن ؛

أمّا أوّلا : فلأنّه لا يدلّ إلاّ على نفي المرجّح الحادث ، اذ القدم أو التسلسل في الحوادث انّما يلزم إذا كان التأثير في الحوادث موقوفا على مرجّح حادث ، وامّا إذا اكتفى بتوقّفه على مرجّح قديم يرجّح وجود الحادث على عدمه في وقت خاصّ ـ أعني : الداعي القديم ـ كالعلم بالأصلح على ما ذهب إليه جماعة من المعتزلة أو قلنا بانّ المرجّح هو ذات الوقت وعدم وقت قبل وقت الحدوث على ما هو الحقّ ، فلا يلزم قدم ولا تسلسل ، إذ كلّ واحد من الداعي وذات الوقت يكفي لتخصيص ايجاد الحادث.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الإرادة المجرّدة من دون انضمام المرجّح لتعلّقها بأحد الطرفين / ٥٧ DB / لا تكفي للترجيح ـ كما مرّ ـ ، فقولهم بنفي الايجاب الخاصّ صحيح على أصولهم.

وأمّا قولهم الثاني ـ أعني : نفي الايجاب الخاصّ ـ فهو مبني على قولهم الأوّل ، فانّه إن كان صحيحا مسلّما لكان هذا أيضا صحيحا ، إلاّ انّه لمّا كان اصلهم الّذي بنى عليه هذا القول فاسدا لكان هذا القول أيضا فاسدا في الواقع ونفس الأمر ، لأنّه إذا لم يجز الترجيح بلا مرجّح لم يجز صدور الفعل بدون الوجوب واللزوم ، فلا بدّ في صدور الفعل حينئذ من

٢٧٠

وجوبه. والوجوب في فعل الواجب يكون عند المليين إمّا بالداعى أو بذات الوقت ، فهما يكفيان لتصحيح الايجاب الخاصّ وتخصيص ايجاد الحادث بوقته لئلاّ يلزم قدم ولا تسلسل ، لأنّ الداعي القديم أو عدم وقت قبل وقت الحدوث اقتضى على سبيل الوجوب ايجاد الحادث في وقته المعين ، فهو كاف للترجيح ولا يفتقر إلى مرجّح آخر ؛ فمع حدوث الحادث بهذا المرجّح لا يلزم قدم ولا تسلسل. فلو استدل الأشعري بالحدوث وجعله وسطا لنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة فلنا أن نقول : الوسط في هذا الدليل يجمع مع الايجاب الخاصّ فلا يدلّ على نفيه ، وحينئذ فيمكن أن يمنع الشرطية القائلة بانّه لو كان حادثا لتوقّف المحال مستندا بانّه مع فرض الايجاب الخاصّ لا يتوقّف الحادث على شيء آخر ، بل يكفى الداعي أو ذات الوقت للتخصيص والترجيح. وحينئذ فيمكن أن يلتزم جواز التخلّف عن الموجب بهذا الايجاب. لانّه لا تخلّف حقيقة عن العلّة التامة حينئذ ، لأنّ العلّة التامة هي الواجب مع الداعي على نحو ما تعلّق. وأيضا لا يقتضي شيء من قواعد الأشاعرة لزوم التوقّف المذكور لفرض الايجاب بالاختيار ، إذ هما متنافيان ظاهرا ، إذ فرضه ـ أي : فرض الايجاب بالاختيار ـ في قوّة فرض عدم احتياج الحادث في التخصيص إلى حادث آخر ، فظهر انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة على جواز الترجيح بلا مرجّح وعلى نفي الايجاب بالاختيار في ضمن الايجاب المطلق غير تامّ. ولذا لم يتعرّض أكثرهم في اثبات جواز الترجيح بلا مرجّح لهذا الدليل ولم يذكر في الكتب الكلامية دليل من قبلهم على هذا المطلب ، بل ادّعوا فيه الضرورة ونبّهوا عليه ببعض الأمثلة كرغيفي الجائع وطريقي الهارب. وقد ظهر أيضا انّ القول بجواز الترجيح بلا مرجّح يستلزم القول بنفي الايجاب الخاصّ المعتبر عند المعتزلة. وأمّا العكس فغير ثابت ، لأنّ الحكماء قائلون بنفي الخاصّ لقولهم بامتناع الانفكاك المنافي للقول بالايجاب الخاصّ الّذي يعتبر فيه نحو من الانفكاك.

وأمّا القول بامتناع الترجيح بلا مرجّح فلا يستلزم القول بثبوت الايجاب الخاصّ ، لما مرّ من مذهب الحكماء ؛ ولما ذهب إليه محمود الخوارزمي كما نقل عنه فخر الدّين

٢٧١

الرازي في الاربعين بانّه قال : الترجيح يفيد الاولوية دون الوجوب(١) ، وأمّا عكسه فثابت لأنّ كلّ من قال بتحقيق الايجاب الخاصّ قال باستحالة الترجيح بلا مرجّح ، فالقول بنفي الايجاب الخاصّ يدور مع القول بجواز الترجيح بلا مرجّح وجودا لا عدما ، والقول بثبوته يدور مع القول بامتناعه عدما لا وجودا ، وامّا قولهم بنفي الايجاب بمعنى امتناع الانفكاك فهو يدور مع القول بالقدم وجودا وعدما وبالعكس ؛ ولذا جميع القائلين بالحدوث نفوه وبالعكس وجميع القائلين بالقدم اثبتوه وبالعكس. فقولهم بنفي هذا الايجاب صحيح على أصولهم وقواعدهم وصحيح في الواقع ونفس الأمر أيضا ، ودليلهم عليه تمام على الفلاسفة. ولا يمكن للفلاسفة أن يعارضوهم بصورة الاختيار بأنّه يلزم حينئذ أيضا امّا القدم أو التوقّف على الشروط الغير المتناهية ، لأنّهم لمّا جوّزوا الترجيح بلا مرجّح فيجوز لهم أن يقولوا لا يفتقر حدوث الحادث إلى مرجّح سوى الإرادة ليلزم أحد الأمرين ، ولا يمكن للفلاسفة أن يلتزموا مثل ذلك لتتمّ المعارضة ، فدليلهم تامّ على أصلهم هذا لا فى الواقع ونفس الأمر. وأمّا المعتزلة فلمّا لم يجوّزوا الترجيح بلا مرجّح فالدليل المذكور من قبلهم غير تامّ على أصولهم ، لأنّه إذا عارضهم الفلاسفة بصورة الاختيار فان أجابوا بعدم لزوم أحد الأمرين لكفاية الداعي فللفلاسفة أيضا أن يلتزموا مثل ذلك ـ كما تقدّم ـ ، فتتمّ المعارضة عليهم.

ومنها ـ أي : ومن وجوه الاختلال في الاستدلال المذكور / ٦١ MB / إذا جعل دليلا لنفي الايجاب المذكور ، أي : استحالة الانفكاك ـ : انّ المراد من استلزامه القدم انّه مستلزم للقدم بالنوع يعني قدم الفعل المطلق ـ أي : طبيعة الفعل أو الفرد المنتشر ـ ، لا قدم فرد شخصيّ أو جميع الاشخاص. وحينئذ فيرد انّ استلزام الايجاب بالمعنى المذكور لقدم الفعل المطلق بديهى ، لأنّ عدم انفكاك الواجب عن العالم اي فعل ما هو بعينه قدم فعل ، فانّ الاستدلال عليه باستلزام نقيضه التوقّف على الشرط الحادث لغو مستدرك. والمراد بنقيضه هو الحدوث بالنوع ـ أي : حدوث الفعل المطلق ـ ، إلاّ انّا لا نريد هنا بالحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق وأمثالهما حدوث فعل ما أو

__________________

(١) راجع : الاربعين ، ج ١ ، ص ٣٢٠ ، ٣٢١.

٢٧٢

حدوث طبيعة الفعل المتحقّق في ضمن فعل ما أو حدوث طبيعة الفعل / ٥٨ DA / المتحقّق في ضمن فعل ـ أعني : طبيعة ما ـ ، بل المراد حدوث مطلق النوع والطبيعة ـ أي : عموم هذا المفهوم المتحقّق في ضمن جميع الافراد بأن لا تكون طبيعة ما من طبيعة الفعل قديما أيضا ـ. فالمراد من الحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراد الفعل والسرّ في ذلك انّ المراد بقدم الفعل المطلق ما يطلق عليه الفعل ـ أعني : فردا ما ـ ، والمراد بحدوث الفعل المطلق نفي ذلك القدم ـ أعني : قدم فردا ما ـ ؛ والنفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فيكون المراد حدوث جميع الافراد.

ومنها : انّ التخلّف عن الموجب التامّ أو التسلسل في الشروط الحادثة وإن كان محالا لكن جاز أن يكون لازما ، لاجتماع المتنافيين وهما الموجب بالمعنى المذكور وحدوث أثره المطلق ، أي : عدم كون فعله المطلق قديما بان يكون مجموع افعاله وآثاره حادثا.

وأورد على هذا الوجه : بانّه خارج عن آداب المناظرة ، لانّه إذا سلّم محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور يثبت مطلوب المستدلّ ، إذ ليس غرضه إلاّ انّه على هذا التقدير يلزم القدم ، والمورد قد سلّمه ، فلا ايراد.

فان قيل : المقصود ليس إلاّ ابطال الاستدلال لا ابطال المدّعى ـ أعني : محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور ـ ، فلا يثبت انّ المدّعى ـ أعني : محالية حدوث الفعل المطلق على تقدير الايجاب بالمعنى المذكور ـ بديهي لا يحتاج إلى الاستدلال ، فالغرض هنا

ليس إلاّ التنبيه على فساد الاستدلال ، وهو يحصل بما ذكر ـ أعني : امكان استلزام المحال المحال ـ ؛

قلنا : للمستدلّ أن يقول : بناء الاستدلال على فرض جواز اجتماع الايجاب المذكور والحدوث ، فانّا فرضنا جواز الحدوث على هذا التقدير وأقمنا الاستدلال ، وليس بناء الاستدلال على فرض الايجاب المذكور ومحالية الحدوث ، فلا يرد علينا شيء إلاّ ما ارتكبنا من التطويل. وأمّا الايراد بانّ الحدوث على هذا التقدير محال فلا يتمّ استدلالكم ، فلا يضرّنا ، بل هو مدّعانا!. نعم! لو أجرينا الدليل على تقدير محالية هذا

٢٧٣

الحدوث لورد علينا مع ارتكاب هذا التطويل هذا الايراد ، لكن ليس كذلك ، بل أجرينا الدليل على فرض جواز الحدوث على ذلك التقدير ، فلا ايراد علينا.

ومنها : انّ توقّف حدوث الفعل المطلق على شرط حادث مستلزم للخلف. بيانه : انّه لو كان الفعل المطلق حادثا والفاعل موجبا فلا ريب في انّ أوّل ما يحدث عن ذلك الفاعل يجب أن يتوقّف على الشرط لئلاّ يلزم التخلّف المحال ، فيلزم أن يكون أوّل ما صدر عنه ذلك الشرط لا المشروط المفروض أوّلا ، هذا خلف!.

وانت تعلم انّ هذا أيضا نافع للمستدل وليس مضرّا له ـ كما لا يخفى ـ.

ومنها : انّ توقّف الحادث على تقدير الايجاب المذكور على شرط حادث مستلزم لتقدّم الشيء على نفسه. بيانه : انّا قلنا انّ المراد بلزوم قدم العالم على فرض الايجاب المذكور هو قدم الفعل المطلق ـ أي : ما يطلق عليه الفعل ، أعني : فردا ما ـ ، فاذا ورد عليه النفي كان المنفي مجموع الافراد ، لأنّ النفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فاذا لم يكن الفعل المطلق قديما يكون جميع الأفعال حادثة موقوفة على شرط حادث خارج عنها ، وذلك الشرط أيضا من جملة الافعال الّتي يتوقّف على الشرط المذكور ، فيكون ذلك الشرط موقوفا على نفسه ، فتصير صورة الاستدلال هكذا : لو كان الفاعل موجبا لزم أن يكون فعل ما قديما وإلاّ ـ أي : وإن لم يكن فعل ما قديما ـ يكون كلّ فعل حادثا ، وإذا كان كلّ فعل حادثا يلزم توقّف هذا الحدوث ـ أعني : حدوث المجموع ـ على شرط حادث هو أيضا فعله ـ تعالى ـ ، فذلك الشرط لكونه من الفعل المطلق يجب أن يكون داخلا فيه ، ولكونه شرطا له ـ أي : للفعل المطلق ـ يجب أن يكون مقدّما عليه ، فيلزم تقدّمه على نفسه. وعلى ما ذكر فلزوم توقّف الشيء على نفسه ـ أعني : الدور ـ ظاهر لا يقبل المنع ، لأنّه إذا كان المراد بحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراده ، والشرط المتوقّف عليه كان من جملة الافراد.

ثمّ ( ان )(١) توقّف مجموع الافراد على الشرط المذكور لكان الشرط المذكور أيضا يتوقّف على نفسه ، فيلزم توقّف شيء شخصى بعينه على نفسه ، وهو الدور.

__________________

(١) لفظة « ان » غير موجودة في النسختين ، ونحن اضفناها لمكان احتياج المعنى إليها.

٢٧٤

وبذلك يظهر ضعف ما أورده بعض الأفاضل : انّه على تقدير حدوث الفعل المطلق لا ريب في لزوم توقّفه على الشرط ، إلاّ انّ اللازم تقدّم فرد من العالم على فرد آخر لا تقدّم الشيء على نفسه.

والظاهر انّ هذا المورد حمل المطلق على الفعل العامّ المشترك بين جميع الافراد ، وفهم حينئذ وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ـ كما فهمه بعض آخر ـ : انّ الشرط الحادث الّذي يتوقّف عليه الفعل المطلق العامّ فرد من أفراد هذا العامّ ، فيكون الفعل العامّ متحقّقا فيه ، فاذا توقّف هذا العامّ المتحقّق في ضمن بعض الافراد على هذا العامّ المتحقّق في ضمن الشرط / ٦٢ MA / المذكور يلزم تحقّق الطبيعة قبل تحقّق الطبيعة ، وهو تقدم الشيء على نفسه ؛ فأورد : بانّ اللازم حينئذ تقدم فرد على فرد وهو كذلك ، فانّ غاية الأمر انّ تحقق هذا المطلق في ضمن فرد يتوقّف على تحقّقه في ضمن فرد آخر ، ولا مانع فيه ، لأنّ الطبيعة ليس لها تحقّق على حدة وتحقّقها انّما هو بتحقّق فرد منها ، فتقدّمها على نفسها بتقدّم فرد منها على فرد آخر إنّما هو في الحقيقة تقدّم فرد منها على فرد آخر ـ كما مرّ / ٥٨ DB / في مباحث اثبات الواجب ـ. فلا يلزم هنا على هذا من توقّف الفعل المطلق على ما حملوه عليه على الشرط إلاّ تقدّم الشرط من أفراد الفعل المطلق على المشروط به منها ، فالصحيح في وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ما ذكرناه. وحينئذ لا مجال للايراد اصلا.

ثمّ أنت تعلم انّ لزوم تقدّم الشيء على نفسه من فرض الحدوث لا يضرّ المستدلّ ، بل هو مؤكّد لمطلوبه. لأنّ غرضه انّ الحدوث مع فرض الايجاب المذكور يتضمّن مفسدة لزوم التسلسل ، فاذا أورد عليه بانّه يتضمّن تقدّم الشيء على نفسه أيضا ، فله أن يقول : ذلك يؤكّد مطلوبي ، فالواجب عدم حدوث العالم في صورة الايجاب المذكور بل اللازم حينئذ قدمه. وبالجملة هذا الايراد كسابقه خارج عن آداب المناظرة ، لانّ غرض المستدلّ ابطال التوقّف ، فبطلانه من جهة استلزام توقّف الشيء على نفسه أقوى دليل على مطلوبه.

ثمّ مع لزوم تقدّم الشيء على نفسه إن كان التسلسل أيضا لازما فيلزم فيه

٢٧٥

محذوران ، وأن منع لزوم التسلسل.

وقيل : انّ ذلك الشرط الحادث يتوقّف على نفسه لا على شرط حادث آخر ، فلا يلزم إلاّ تقدّم الشيء على نفسه دون التسلسل ، وحينئذ يلزم محذور واحد نعم! لو قيل في صورة التسلسل : لا يلزم تقدّم الشيء على نفسه ـ لأنّ التسلسل وتقدّم الشيء على نفسه لا يجتمعان ـ ، لكان له وجه ولم يكن لهذا الايراد مجال.

ومن الأفاضل من حكم بصحّة اجراء الدليل المذكور إن جعل المفسدة فيه لزوم تقدّم الشيء على نفسه لا لزوم التسلسل ، حيث قال بعد أن جزم بأنّ الاستدلال المذكور لا يصحّ اجرائه من قبل المعتزلة ولا من قبل الاشاعرة برهانيا ولا الزاميا لبعض الوجوه السابقة : نعم! يمكن اجرائه الزاميا على تقرير آخر على تقدير حدوث الفعل المطلق بأن يقال : لو كان الفاعل موجبا لزم قدم الفعل المطلق وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّه لو كان الفعل المطلق حادثا لتوقّف حدوثه على شرط هو أيضا فعله ـ تعالى ـ ، فهو من حيث انّه داخل في الفعل المطلق متأخّر ومن حيث انّه شرط لحدوث الفعل المطلق متقدّم ، فيلزم تقدّمه على نفسه ؛ انتهى.

وما ذكره من عدم صحّة اجرائه من قبل الأشاعرة قد علمت خلافه ممّا تقدّم ؛ هذا.

وقد بيّن بعض الأفاضل لزوم تقدّم الشيء على نفسه في الاستدلال المذكور بوجه آخر سوى ما ذكرناه ، وهو : انّ الحادث المذكور ـ أي : الّذي كلامنا فيه ـ بانه يتوقّف على شرط حادث هو أوّل الحوادث ، فالشرط الحادث إمّا أن يكون عينه أو متأخّرا عنه. وهذا على تقدير الحدوث بالنوع ـ بأن يكون الفعل المطلق حادثا لحدوث مجموع الأشخاص ـ ظاهر جدّا ، إذ لا يبقى شيء يكون خارجا عنها حتّى يكون شرطا لها متقدّما عليها ، وحينئذ يلزم إمّا تقدّم الشيء على نفسه أو على ما يتقدّم عليه.

وأورد عليه : بانّ الحادث المذكور لعلّه لا يكون أوّل حادث بل يوجد في مرتبة واحدة أمور غير متناهية على سبيل الاجتماع ، ويكون كلّ واحد منها موقوفا على واحد آخر ، وحينئذ فكلّ واحد حادث يتوقّف على شرط حادث آخر وهكذا ، و

٢٧٦

لا ينتهي إلى أمر يكون أوّل الحوادث ـ أعني : يكون متأخّرا عن نفسه أو عمّا يتأخّر عنه ـ ، فلا يلزم إلاّ التسلسل على سبيل الاجتماع ، لا توقّف الشيء على نفسه.

ومنها : انّه اذا كان أثر الموجب بالمعنى المذكور حادثا بشخصه أو بنوعه يلزم التخلّف البتة ـ سواء توقّف على الشرط أم لا ـ ، فلا حاجة إلى اعتبار توقّفه على شرط حادث والتزام التسلسل. وتوضيح ذلك : انّ الموجب إمّا تامّ أو ناقص ؛ والتامّ مشترك بين الموجبين : أحدهما ما هو معتبر عند الحكماء ـ وهو ما يمتنع انفكاك الفعل عنه ـ ، وثانيهما ما هو معتبر عند المعتزلة ـ وهو ما يوجب الفعل في وقته الّذي تعلّق ارادته به للعلم بالأصلح ـ. والناقص ما يتوقّف صدور الفعل منه على شرط. والموجب بالمعنى المشهور ـ أي : ما يجب صدور الفعل عنه ـ مشترك بين التامّ والناقص. ولا ريب أنّ الموجب المراد هنا هو الموجب التامّ المعتبر عند الحكيم ، والتخلّف عنه غير جائز مطلقا ، واذا توقّف فعله على شرط يتحقّق التخلف ويكون ناقصا لا تامّا.

واعترض بعض الأفاضل على ذلك بانّ الايجاب المقصود هنا لا ينافي عدم وقوع ما يقتضيه الفاعل الموجب بهذا الايجاب لمانع عائد إلى غيره ، إذ حاصل معنى هذا الايجاب هو اقتضاء الذات من جهة لزوم الداعي ، ونحوه امتناع الانفكاك عن الفعل وذلك لا ينافي جواز الانفكاك ، فلا مانع عائد إلى غير ذات الفاعل كعدم امكان الأثر وعدم وقت له قبل وقت حدوثه ، فيجوز أن يكون الموجب بهذا الايجاب غير مستجمع للشرائط المعتبرة في التأثير بحسب نفس الأمر ، فلا يكون تامّا. فلا يستحيل التخلّف عنه ، إذ المحال انّما هو التخلّف عن الموجب التامّ والموجب بهذا المعنى لوجود المانع عن التأثير ليس تامّا ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ الموجب / ٦٢ MB / بالمعنى المقصود هنا ـ أعني : ما يمتنع انفكاك الفعل عنه ـ هو الذي قال به الحكماء ، وصرّحوا بأنّه يلزمه قدم فعله وجزموا بانّ الايجاب بهذا المعنى مساوق للقدم ، فهو ما يستحيل انفكاك الفعل عنه بالنظر إلى الداعي مطلقا سواء كان عائدا إلى الذات أو إلى الغير. ومقابله ما لا يمتنع عنه الانفكاك ولو بالنظر إلى الداعي الخارجي كعدم امكان الأثر وعدم / ٥٩ DA / تحقّق وقت قبل وقت

٢٧٧

الحدوث ؛ كيف ولو كان الايجاب المقصود هنا غير مناف لعدم وقوع ما يقتضيه الفاعل لمانع عائد إلى الغير ـ كعدم الوقت وغيره ـ لكان هو بعينه الايجاب الّذي قال به المعتزلة! ، ـ كما اخترناه أيضا ـ.

* * *

( بيان حقيقة معنى الايجاب والموجب )

ولما بلغ الكلام إلى هنا فلا بأس بأن نشير إلى حقيقة معنى الايجاب والموجب.

فنقول : الموجب ـ بصيغة المفعول ـ يطلق على فاعل يجب عنه الفعل لا بقدرة واختيار ـ كلفظ المضطرّ ـ ، فلا يطلق إلاّ على الطبائع كالماء والنار بالنسبة إلى مقتضى طبائعها. والموجب ـ بصيغة الفاعل ـ يطلق على فاعل يجب عنه الفعل بقدرة واختيار.

وكلّ منهما قد يكون تامّا ويكون ناقصا. امّا الموجب ـ بالفتح ـ كالطبائع الّتي لا يتوقّف تاثيرها على حصول بعض الشرائط أو رفع بعض الموانع. وان توقّف وحصل الشرائط وارتفع الموانع تكون العلّة التامّة حينئذ هو الفاعل مع تلك الشروط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل فقط ناقص وناقصة ـ كالطبائع الّتي يتوقّف تأثيرها على أحدهما ـ. وأمّا الموجب ـ بالكسر ـ فتامّة كلّ فاعل يفعل بقدرة واختيار من دون توقّف فعله على شرط أو رفع مانع ؛ وناقصة ما توقّف فعله على أحدهما بعد حصول الشرط أو رفع المانع لا يخرج الفاعل عن النقصان ، لأنّ التمامية حينئذ للفاعل مع تلك الشرائط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل بمجرّده ناقص.

ثمّ الحكماء لمّا قالوا بوجوب الفعل عنه ـ تعالى ـ بقدرة وإرادة غير منفكّة عنه ـ تعالى ـ وغير زائدة على ذاته لزمهم القول بعدم انفكاكه ـ تعالى ـ عن الفعل ، فيكون الواجب عندهم فاعلا موجبا ـ بالكسر ـ تامّا.

وأمّا المتكلّمون ؛ فالأشاعرة منهم قالوا : انّ القدرة والاختيار والإرادة زائدة على الذات ومنفكّة عنها في الأزل. لا أنّ تلك الصفات منفكّة عنها. بل بمعنى أنّ متعلّقها منفكّ عنها وقتا ما ؛ والمعتزلة منهم قالوا : انّ تلك الصفات ليست زائدة على الذات بل

٢٧٨

هي عينها ، إلاّ أنّ متعلّقها منفك عنها في الأزل لتعلّقها في الأزل بحصول المتعلّق فيما لا يزال نظرا إلى العلم بالمصلحة ؛ فعلى هذين المذهبين ـ أي : مذهب الأشاعرة والمعتزلة ـ لا يكون الواجب موجبا تامّا ، لتحقق الانفكاك المستلزم لتوقّف فعله ـ تعالى ـ على أمر آخر سوى ذاته. إلاّ أنّ ذلك لا يصير منشئا لنقصانه وعدم تماميته ، لأنّ الاصطلاح على أنّ التمامية هنا بمعنى عدم انفكاك الأثر. والانفكاك هنا إمّا لمراعات الأصلح أو لعدم الكماليّة في الأثر ، فلا يتطرّق شوب نقص على حريم كبريائه ـ تعالى ـ.

ويمكن أن يقال : انّ التامّ ما كان صدور الفعل عنه غير متوقّف على شرط خارج عنه ولا يخرج عن التمامية بالتوقّف على أمر داخل ولو حصل به الانفكاك بينه وبين الأثر ؛ والناقص ما توقّف صدور الفعل عنه على شرط خارج. وعلى هذا يكون الواجب عند المعتزلة موجبا تامّا لا ناقصا ، لعدم توقّف فعله على شيء سوى العلم بالأصلح وهو ليس خارجا عن ذاته ، بل عين ذاته عندهم. وعلى مذهب الأشاعرة لا يكون موجبا تامّا ، لكون الصفات عندهم زائدة على الذات.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الأفاضل(١) حيث قال : الموجب ـ بصيغة المفعول ـ يكون معناه ما أثبت له الايجاب ، وهذا لا يكون إلاّ تامّا ؛ والموجب ـ بصيغة الفاعل ـ هو ما يفيض الوجوب إلى الغير ـ أي : إلى اثره ـ ، والموجب بهذا المعنى قد يكون تامّا وقد يكون ناقصا ؛ انتهى.

ووجه الضعف ما علمت من انّ كلاّ منهما يكون تامّا وناقصا.

ومن الفضلاء(٢) من أورد على ما نقلناه من بعض الأفاضل ، حيث قال : الظاهر من إطلاقاتهم أنّ لفظ الموجب انّما يطلق على كلّ فاعل مؤثّر في غيره ـ أي : باعتبار تأثيره في الغير لا باعتبار تأثيره عن الغير ـ. وعلى هذا لا يناسب اطلاق صيغة المفعول الّتي حاصل معناها ما اثبت له الايجاب على فاعل مؤثّر ، سواء كان من الطبائع أولا ؛

__________________

(١) هامش دال : هو ملاّ شمسا الجيلاني ـ ره ـ. منه.

(٢) هامش دال : آقا رضي القزويني ـ ره ـ. منه.

٢٧٩

اللهم إلاّ على المجاز.

وهو كما ترى.

ثمّ إنّ منشأ تكفير المتكلّمين للحكماء في الايجاب إمّا لزوم القدم لايجابهم ، وإمّا لزعمهم انّ الواجب ـ تعالى ـ عند الحكماء موجب بالفتح ـ وفاعليته ـ تعالى ـ عندهم كفاعلية النار في الاحراق والشمس في الإضاءة ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ. وهذا الزعم غلط. فانّ الحكماء لا يطلقون عليه ـ تعالى ـ لفظ الموجب ـ بالفتح ـ ، ولو اطلقوه عليه احيانا فالظاهر انّهم يريدون منه كون الفاعل محكوما عليه بوجوب الفعل عنه ، لا كونه مضطرّا ؛ بل هو عندهم موجب ـ بالكسر ـ بمعنى انّه يجب الفعل بالقدرة والاختيار ، فهو موجب ـ أي : مفيض لوجوب المانع قاهر لجميع انحاء عدمه حتّى يصير موجودا ـ ؛ هذا.

واعترض بعض الأعاظم على هذا الايراد أيضا : بانّه لم يثبت فيما سبق حدوث جميع ما سوى الله ـ تعالى ـ مطلقا وإن كان بالنوع ، بل ذلك ممّا لا سبيل إليه عقلا. ولو سلّم ذلك لا يلزم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة وان كان يلزم التخلّف ، وذلك غير المدّعى في الايراد. وأيضا بناء الاستدلال ليس على فرض الايجاب في الأزل ، بل على الايجاب مطلقا والتخلّف مطلقا إنّما يلزم على فرض الايجاب في الأزل ـ أي : الايجاب بمعنى / ٥٩ DB / امتناع الانفكاك مطلقا ـ ، دون الايجاب المطلوب الّذي يشمل الايجاب بالاختيار الّذي قال به المعتزلة ؛

وفيه : انّ حدوث الأجسام والأعراض ثابت بالفعل شخصا ونوعا ـ كما تقدّم ـ.

وأمّا المجرّدات وإن لم يثبت حدوثها بالفعل شخصا ونوعا ولكن العمدة في اثبات حدوثها هو الاجماع والنقل ، وهما كما يدلاّن على حدوثها شخصا فكذلك يدلاّن على حدوثها نوعا أيضا ؛ وقد تقدّم ذلك مفصّلا.

وما ذكره من عدم لزوم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة ـ نظرا إلى عدم صدق / ٦٣ MA / الانفكاك حينئذ لعدم تحقّق القدم بالنوع في الشروط المتعاقبة ـ ؛

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

فأقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى إذا حاذى رسول الله ناداه: يا رسول الله اُمرت بقتل قومك ؟ زعم سعد ومن معه حين مرّ بنا قال: يا أبا سفيان: « اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشاً » وإنّي انشدك الله في قومك فأنت أبّر الناس، وأرحم الناس، وأوصل الناس. قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: يا رسول الله ما نأمن سعداً أن يكون منه في قريش صولة. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ الله فيه قريشاً، ثمّ أمر بدفع الراية إلى عليّ بن أبي طالب فأخذ عليّ اللواء وذهب بها حتى دخل بها مكّة فغرزها عند الركن. وقال أبو سفيان: ما رأيت مثل هذه الكتيبة، ثمّ قال: لقد أصبح يا أبالفضل ملك ابن أخيك عظيماً. فقال العباس: ليس بملك ولكنّها نبوّة(١) .

ثمّ إنّ رسول الله لما نزل مكّة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت، فطاف ربّه سبعاً على راحلته. قال الواقدي: « طاف رسول الله بالبيت على راحلته، آخذ بزمامها، محمد بن مسلمة، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً مرصّصة بالرّصاص، وكان هبل أعظمها، وهو وُجاه الكعبة على بابها، وإيساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح، فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما مر بصنم منها، يشير بقضيب في يده ويقول:

« جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا » فيقع الصنم لوجهه(٢) .

فلمّا قضى طوافه وقف على باب الكعبة، وقد اجتمع له الناس في المسجد فقال: « لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب

__________________

(١) المغازي للواقدي: ج ٢ ص ٨١٩ ـ ٨٢٢، يعرب ذلك أنّه ما أسلم وانّما تفوّه بما تفوّه خوفاً على نفسه وحزبه وبقى على هذه الحالة إلى أن لفظت نفسه وهو ابن ثمانية وثمانين وله كلام عند ما أخذ عثمان بيده زمام الحكم. يعرب عن كفره المستتر. لاحظ تاريخ الخلفاء للسيوطي، وشرح النهج لابن ابي الحديد.

(٢) المغازي: ج ٢ ص ٨٣٢.

٤٤١

وحده، ألا كلّ مأثرة، أو دم، أو مال يدعى، فهو تحت قدميّ هاتين إلّا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وفي قتيل الخطأ شبه العمد، بالسوط والعصا، ففيه الديّة مغلّظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية. وتعظّمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات / ١٣ )، ثمّ قال: يا معشر قريش ما ترون إنّي فاعل فيكم ؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء.

ثمّ جلس رسول الله في المسجد فقال: أين عثمان بن طلحة، فدعى له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم برّ ووفاء، ثمّ دخل البيت فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم فرأى إبراهيمعليه‌السلام مصوّراً في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام، ما شأن إبراهيم والأزلام:( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران / ٦٧ )، ثمّ أمر بتلك الصور كلّها فطمست(١) .

مبايعة النساء للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

صالح رسول الله بالحديبية مشركي مكّة على أنّ من أتاه من أهل مكّة ردّه عليهم، فجاءت ( سبيعة ) بنت الحرث، مسلمة بعد الفراغ من الكتاب، والنبي بالحديبية.

فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم، وكان كافراً: يا محمد اُردد عليّ امرأتي، فإنّك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك، وهذه طينة الكتاب لم تجف، فنزل قوله سبحانه:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ٢ ص ٤١٣، والمغازي: ج ٢ ص ٨٣٥. وفي الأخير أورد صلة للخطبة.

٤٤٢

بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَٰلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الممتحنة / ١٠ ).

ويستفاد من الآية عدّة أحكام:

١ ـ حرمة إرجاع المؤمنات إلى أزواجهنّ الكافرين كما هو صريح الآية.

٢ ـ لزوم إعطاء مهورهنّ لأزواجهنّ كما هو مفاد قوله:( وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ) أي ما أنفقوا عليهنّ من المهر.

٣ ـ حرمة العقد على الكافرة كما هو مفاد قوله:( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) والقدر المتيقّن كما هو مورد الآية كونها عابدة الوثن.

٤ ـ جواز طلب المهور من الكفار إذا ارتدّت امرأة ورجعت إلى الكفّار، كما هو مفاده من قوله:( وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ ) أي إذا لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفّار مرتدّة، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر كما يسألونكم مهور نسائهم إذا هاجرن إليكم.

ثمّ إنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله لـمّا فرغ من بيعة الرجال وهو على الصفا جاءته النساء يبايعنه، فنزلت عليه الآية، فشرط الله تعالى في مبايعتهنّ أن يأخذ عليهنّ الشروط الستة المذكورة في الآية، قال سبحانه:

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ :

١ ـعَلَىٰ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا .

٢ ـوَلا يَسْرِقْنَ .

٣ ـوَلا يَزْنِينَ .

٤ ـوَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ .

٤٤٣

٥ ـوَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ .

٦ ـوَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ .

٧ ـفَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الممتحنة / ١٢ ).

روى المفسّرون: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بايعهنّ وكان على الصفا، وكان عمر أسفل منه، وهند بنت عتبة متنقّبة متنكّرة مع النساء خوفاً أن يعرفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: اُبايعكنّ على أن لا تشركن بالله شيئاً. فقالت هند: إنّك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال، وذلك انّه بايع الرجال يومئذٍ على الإسلام والجهاد فقط، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ولا تسرقن. فقالت هند: إنّ أبا سفيان رجل ممسك وإنّي أصبت من ماله هنات فلا أدري أيحلّ لي أم لا ؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من مالي فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال، فضحك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعرفها فقال لها: وإنّك لهند بنت عتبة. قالت: نعم فاعف عمّا سلف يا نبي الله عفا الله عنك. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ولا تزنين. فقالت هند: أوتزني الحرّة ؟. فتبسّم عمر لما جرى بينه وبينها في الجاهلية، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ولا تقتلن أولادكنّ. فقالت هند: ربيّناهم صغاراً، وقتلتموهم كباراً، وأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام يوم بدر، فضحك عمر حتى استلقى وتبسّم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولـمـّا قال: ولا تأتين ببهتان. فقالت هند: والله إنّ البهتان قبيح، وما تأمرنا إلّا بالرشد ومكارم الأخلاق، ولـمـّا قال: ولا يعصينك في معروف. فقالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء(١) .

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٥ ص ٢٧٦.

٤٤٤

٨ ـ غزوة حنين

لـمـّا فتح رسول الله مكّة سارت أشراف هوازن بعضها إلى بعض، وثقيف بعضها إلى بعض، وقالوا: والله ما لاقى محمد قوماً يحسنون القتال، فاجمعوا أمركم، فسيروا إليه قبل أن يسير إليكم، فأجمعت هوازن أمرها وتولّى قيادة حشودها « مالك بن عوف النصري » وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلمّا أجمع « مالك » المسير بالناس إلى رسول الله، أمر الناس أن يجيئوا بأموالهم ونسائهم وأبنائهم حتى نزلوا باوطاس، واجتمع الناس به، فعسكروا وأقاموا بها، والإمداد تأتيهم من كل ناحية.

فلمّا سمع بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث إليهم « عبد الله الأسلمي »، وأمره أن يدخل في الناس، فيقيم فيهم حتى يأتيه بخبرهم، فجاء الرجل بخبر اجتماعهم على حرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأجمع رسول الله السير إلى هوازن ليلقاهم، وذكر له أنّ عند صفوان بن اُميّة أدراعاً له وسلاحاً، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك، فاستعار منه مائة درع ليتقوّى بها على حرب الكفّار، فأجابه إلى ذلك.

ثمّ خرج رسول الله معه ألفان من أهل مكّة مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه، وفتح الله بهم مكّة فكانوا اثنى عشر ألفاً، واستعمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عتّاب بن اسيد على مكّة أميراً على من تخلّف عنه من الناس، ثمّ مضى رسول الله يريد لقاء هوازن، وصادف في الطريق شجرة عظيمة خضراء ذات أنواط يأتيها الناس كل سنة فيعلّقون أسلحتهم عليها، ويذبحون ويعكفون عندها، قال الرواي: فتنادينا من جنبات الطريق يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الله أكبر قلتم والذي نفس

٤٤٥

محمد بيده كما قال قوم موسى لموسى:( اجْعَلْ لَنَا إِلَهَاً كَمَا لَهُمْ إلَهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) إنّها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم.

يقول الواقدي: « خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في اثني عشر ألفاً من المسلمين عشرة آلاف من أهل المدينة، وألفين من أهل مكّة، فلمّا ابتعد عن مكّة، قال رجل من أصحابه: « لو لقينا بني شيبان ما بالينا ولا يغلبنا اليوم أحد من قلّة » ولكن لم تغن هذه الكثرة شيئاً، وهزم المسلمون وفرّوا عن ساحة المعركة، كما يوافيك ذكره عمّا قريب.

بعث مالك بن عوف عيوناً من هوازن إلى معسكر رسول الله، فأتوا بخبر كثرة جيش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأراد اصطناع خديعة تمكّنه منهم، فعبّأ أصحابه في وادي حنين، وهو واد أجوف ذو شعب ومضائق، وفرّق الناس فيه وأوعز إليهم أن يحملوا على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه حملة واحدة عند ما ينحدرون من مضيق الوادي.

يقول جابر بن عبد الله لـمّا استقبلنا وادي حنين، انحدرنا في واد من أودية تهامة في عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه ومضائقه، وقد أجمعوا وتهيّئوا فما عدوا فو الله ما راعنا ونحن إلّا الكتائب قد شدّوا علينا شدّة رجل واحد وانهزم الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد، وانطلق الناس وقد بقي مع النبيّ نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته.

بقى رسول الله على دابّته لم ينزل، إلّا أنّه جرّد سيفه، وقد ذكر التاريخ أسماء الذين صمدوا مع رسول الله، أمثال عليّ والعباس والفضل بن العباس وأبي سفيان ابن الحارث، وربيعة بن الحارث وأيمن بن عبيد الخزرجي، واُسامة بن زيد.

قال البرّاء بن عازب: والله الذي لا إله إلّا هو ما ولّى رسول الله ولكنّه وقف واستنصر ثمّ نزل وهو يقول:

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

٤٤٦

وكان رجل من هوازن على جمل أحمر بيده راية سوداء فيها رأس رمح له طويل أمام الناس إذا أدرك طعن، قد أكثر في المسلمين القتل، فشدّ عليه عليّ وأبو دجانة فقطع عليّ يده اليمنى، وأبو دجانة يده الاُخرى، واقبلا يضربانه بسيفيهما فسقط صريعاً.

وزاد الهول مصيبة شماتة أبي سفيان وغيره بالمسلمين، فقد تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغائن، فقال أبوسفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وانّ الأزلام لمعه في كنانته.

وصرخ في تلك الاثناء جبلة بن حنبل: ألا بطل السحر اليوم.

الانتصار بعد الهزيمة:

أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في تلك الآونة عمَّه العباس أن يصرخ ويقول: يا معشر الانصار يا معشر أصحاب السمرة(١) فصار ذلك سبباً لرجوع الفارين من أصحاب الرسول إليه والقتال بين يديه، فاجتمع جمع غفير حوله، حاموا رسول الله وقاتلوا العدو بضراوة، فنظر رسول الله إلى ساحة المعركة، وأصحابه يقاتلون، فقال: الآن حمى الوطيس، وصارت الحرب طاحنة حتى رأى العدو جمعاً غفيراً من الأسرى مكتّفين عند رسول الله، فعند ذلك انقلبت كفّة النصر لصالح المسلمين.

ومن لطيف ما قيل في تلك الفترة ما أنشدته امرأة مسلمة بقولها:

غلبت خيل الله خيل اللات

وخيله أحق بالثبات

ثمّ إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله طلب من العباس، ليناوله حفنة من الحصى، فألقى بها في وجوه العدو قائلاً: شاهت الوجوه، وقد استنهض بذلك

__________________

(١) السمرة: شجرة الرضوان.

٤٤٧

عزائم أصحابه إلى حد ما لبث هوازن ولا ثقيف حتى فرّوا منهزمين لا يلوون على شيء تاركين ورائهم نساءهم وأبناءهم غنيمة للمسلمين، وقد ذكر أصحاب السير احصاء الغنائم وعدّتها التي استولى عليها المسلمون، فمن الإبل اثنان وعشرون ألف بعير، ومن الشياء أربعون الفاً، ومن الفضة أربعة آلاف اُوقية، وقد بلغ عدد الأسرى ستة آلاف، وقد أمر رسول الله أن تنقل إلى وادي الجعرانة حتى يأمن المسلمون من مطاردة العدو لهم(١) .

نظرة تحليلية على انهزام المسلمين بادئ بدء:

إنّ انهزام المسلمين في بادئ الأمر كان ناجماً عن غرور المسلمين بكثرتهم أوّلاً، واسطحاب ألفين من المسلمين الجدد الذين أسلموا توّاً في فتح مكّة ولم يرسخ إيمانهم بعد، فانّ فرارهم عن ساحة الحرب ثبّط عزائم المسلمين القدامى.

أضف إلى ذلك انّهم لم يتّبعوا الخطط العسكرية من إرسال الطلائع والعيون مقدمة الزحف لاستطلاع أحوال العدو ومواقعه، كيف وهم دخلوا في مضيق حنين في غلس الصباح، والعدو ترصّد في ثكنات خاصة، ففاجأوهم بالهجوم عليهم من مكامنهم، وهم على غفلة من أمرهم، فلو كانوا قد استعانوا بالعيون والجواسيس لما وقعوا فيما وقعوا فيه، وكان ذلك ناتجاً عن تقصير من اُمراء السرايا، وحمَلَة اللواء، وقصور منهم في أداء وظائفهم التي أوكلها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم الذي كان يرقب الاُمور عن كثب في مؤخّرة الجند، وإلى ما أشرنا لك يشير قوله سبحانه:( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ *ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ *ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ

__________________

(١) المغازي: ج ٣ ص ٨٨٩ ـ ٨٩٩، البداية والنهاية: ج ٤ ص ٣٥٢.

٤٤٨

رَّحِيمٌ ) ( التوبة / ٢٥ ـ ٢٧ ).

محاصرة الطائف:

لـمـّا انهزم العدو بعد انتصار مؤقّت، التجأ البقية الباقية من جماعة مالك بن عوف إلى حصن لبني ثقيف بالطائف، وكان حصناً منيعاً يصعب اختراقه، فتعقّبهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى ذلك الحصن، وأحاط بهم غير أنّ رجال ثقيف المتحصّنين كانوا من مهرة الرماة، فتمكّنوا من إصابة جمع من المسلمين بلغ عددهم ثمانية عشر رجلاً، فأمر النبي قوّاته بالتراجع عن مرمى النبل، فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة، وقد أجهد النبي نفسه في خلال تلك المدة في اعمال فنون الحرب المختلفة لاختراق الحصن بالنحو التالي:

١ ـ أمر أصحابه نقب جدار الطائف بالاحتماء بالدبابات المصنوعة من جلود البقر، لكن تلك المحاولة لم تتكلّل بالنجاح، لأنّ ثقيف ألقت بحمم من الحديد على تلك الدبابات فأحرقتها، ففرّ من كان تحتها من المسلمين، فرشقتهم ثقيف بالنبل، فقتلوا منهم رجالاً.

٢ ـ نصب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المنجنيق بإشارة من سلمان الفارسي بقوله: يا رسول الله أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم، وقد عمل المنجنيق بيده، فنصبه النبي تجاه حصن الطائف، أو قدّم المنجنيق يزيد بن زمعة إلى النبي بعد مضي أربعة أيام من قبيلة بني دوس، إحدى القبائل المقيمة بأسفل مكّة، فرماهم من دون جدوى لأنّهم قد أعدّوا حصونهم إعداداً يقاوم كل أمثال تلك الأسلحة.

٣ ـ أمر رسول الله بقطع شجر الكروم ( العنب )، وقد كانت قبيلة ثقيف تفتخر بكروم أرضها على جميع العرب، فانّها جعلت الطائف واحة كأنّها الجنة وسط هذه الصحارى، كل ذلك رجاء أن يستسلموا ويتركوا التحصّن في حصونهم، فلمّا رأى ذلك رجال ثقيف نادوا: يا محمد لِمَ تقطع أموالنا، فإمّا أن تأخذها إن ظهرت علينا،

٤٤٩

وإمّا أن تدعها لله وللرحم، فتركهاصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٤ ـ نادى منادى رسول الله أيّما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ، فخرج من الحصن بضعة عشر رجلاً، وعلم منهم أنّ بالحصون من الذخيرة والمؤنة ما يكفل أمداً طويلاً، فاستشار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نوفل بن معاوية الديلي في المقام عليهم فقال: يا رسول الله: ثعلب في حجر، إنْ أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرّك، فأذن الرسول بالرحيل، وقيل: إنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله رأى أنّ الحصار سيطول أمده وانّ الجيوش تودّ الرجوع لاقتسام الفيء الذي كسبوه والذي تركوه في الجعرانة، والأشهر الحرم قد أذنت ولا يجوز فيها قتال، لذلك آثر أن يرفع الحصار بعد شهر من وقعه، وكان ذو القعدة قد هلّ، فرجع بجيشه معتمِراً وذكر انّه متجهّز إلى الطائف إذا انتهت الأشهر الحرم.

وفد هوازن في الجَعرِّانة

وأقفل راجعاً إلى مكّة حتى نزل هو والمسلمون الجَعرّانة لاقتسام الغنائم، وفي تلك الأثناء أتتهم وفد من هوازن وقد أسلموا فقالوا: إنّا أصل وعشيرة وقد أصابنا ما لم يخف عليك، فامنن علينا منّ الله عليك، وقال زهير: يا رسول الله إنّ بين الاُسارى عمّاتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنّ يكفلنك، ولو إنّا أرضعنا الحرث بن أبي شمر الغساني، أو النعمان بن المنذر ليرجونا عطفه وأنت خير المكفولين، فخيّرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بين نسائهم وأبنائهم، وبين أموالهم، فاختاروا نساءهم وأبناءهم.

فقال: أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فإذا أنا صلّيت بالناس، فقولوا: إنّا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله، في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم وأسأل فيكم، فلمّا صلّى الظهر فعلوا ما أمرهم به، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله، وقال الأقرع بن حابس: ما كان لي

٤٥٠

ولبني تميم فلا. وقال عيينة بن حصن: ما كان لي ولفزارة فلا، وقال عباس بن مرداس: ما كان لي ولسليم فلا، فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله فقال: وهّنتموني.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : من تمسّك بحقّه من السبي فله بكل إنسان ستّ فرائض من أوّل شيء نصيبه، فردّوا على الناس أبناءهم ونساءهم.

وسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن مالك بن عوف فقيل: إنّه بالطائف. فقال: أخبِروه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وما له وأعطيته مائة بعير، فاُخبر مالك بذلك، فخرج من الطائف سرّاً ولحق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأسلم وحسن إسلامه واستعمله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل التي حول الطائف، فأعطاه أهله وماله ومائة بعير، وكان يقاتل بمن أسلم معه من « ثمالة » و « فهم » و « سلمة »، فكان يقابل بهم ثقيفاً لا يخرج لهم سرح إلّا أغار عليه حتى ضيّق عليهم(١) .

لـمـّا فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من رد سبايا حنين إلى أهلها، ركب جواده واتّبعه الناس يقولون: يا رسول الله قسّم علينا فيأنا من الإبل والغنم، فقام رسول الله إلى جنب بعير، فاجتزّ وبرة من سنامه، فجعلها بين اصبعيه ثم رفعها قائلاً: والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدّوا الخياط والمخيط، فانّ الغلول يكون على أهله عاراً وناراً وشناراً يوم القيامة.

ثم إنّه أعطى المؤلّفة قلوبهم شيئاً كثيراً من الخمس المتعلّق به، فأعطى أبا سفيان ابن حرب وابنه معاوية لكلّ مائة بعير، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير، وهكذا وعندما فرغ من القسمة بينهم، جاء رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة، فوقف عليه، فقال: يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم. فقال رسول الله:

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٤٨٩ و ٤٩٠.

٤٥١

أجل فكيف رأيت ؟ فقال: لم أرك عدلت. فغضب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال: ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ؟ فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ألا أقتله ؟ فقال: لا، دعه فانّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية(١) .

وقد نزل بهذا الصدد عدة آيات منها:

( وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ *وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إلى اللهِ رَاغِبُونَ *إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ *وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة / ٥٨ ـ ٦٠ ).

وقد اختلف المفسّرون في سبب نزولها فمن قائل بأنّها نزلت في حقّ ذي الخويصره وأمثاله، إلى قائل من أنّها نزلت في حقّ المؤلّفة قلوبهم.

مشادة الأنصار مع النبي

ولـمّا أعطى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما أعطى من تلك العطايا لقريش ولقبائل العرب ولم يحظ الأنصار بمثل عطيّتهم وجد جمع من الأنصار في أنفسهم شيئاً، فأرسلوا منهم سعد بن عبادة إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يستطلع صدق الأمر، فقال: قسّمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: فأين أنت من ذلك يا سعد ؟

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٤٩٦، البداية والنهاية: ج ٤ ص ٣٣٦ وفيه: دعه فإنّ له أصحاباً يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.

٤٥٢

قال: يا رسول الله ما أنا إلّا من قومي، قال: فأجمع لي قومك في هذه الحظيرة، قال: فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردّهم فلمّا اجتمعوا له أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فحمد الله وأثنىٰ عليه بما هو أهله ثمّ قال: يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلّالاً فهداكم الله ؟ وعالة فأغناكم الله ؟ وأعداء فألّف الله بين قلوبكم ؟

قالوا: بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل، ثمّ قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار ؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المنّ والفضل.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدَقتم ولصدّقتم: أتيتنا مكذّباً فصدّقناك ومخذولاً فنصرناك وطريداً فآويناك وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم لعاعة من الدنيا تألّفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. أللّهم إرحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.

قال: فبكى القوم حتّى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظّاً ثم انصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتفرّقوا(١) .

إلى هنا تمّ الحديث عن فتح مكّة وما أعقبه من الأحداث وقد وصفه سبحانه هكذا:

( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا *لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا *وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا *هُوَ الَّذِي أَنزَلَ

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام: ج ٢ ص ٥٠٠، البداية والنهاية: ج ٤ ص ٣٥٨.

٤٥٣

السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) ( الفتح / ١ ـ ٤ ).

وفي الآيات سؤال يستحثّ الجواب عنه وهو أنّه سبحانه جعل فتح مكّة علّة لغفران ما تقدّم من ذنوب النبي وما تأخّر منها، فيقال:

١ ـ ما هي المناسبة بين العلّة والمعلول فتح مكّة وغفران الذنوب، مع أنّه يجب أن يكون بينهما مناسبة ذاتية أو اعتبارية ؟

٢ ـ إنّ النبي الأكرم معصوم من اجتراح الذنوب فما المراد من هذا الذنب ؟

ويجاب عنه: بأنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان متّهماً عند رجال قريش وحلفائها منذ سابق عهدهم به بالكهانة والسحر والجنون والألقاب المزرية المشينة الاُخرى، وقد سبق أن قلنا بأنّ هذه التهم كانت بمثابة الحرب النفسية لإظهار العداء المقيت بالرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان يصعب على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مجابهتها والقضاء عليها وكفّ ألسنة الناس عن التفوّه بها بأي نحو من أنحاء الإعلام المضادّ إلّا لمن عايشه عن قرب واختبره عن كثب.

ولكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد منحه الله سبحانه ببركة هذا الفتح المبين حيث تمكّن بعد هدم حصون الشرك والوثنية وتطهير الكعبة من آلهة المشركين والاستيلاء علىٰ مراكز قوّتهم من الظهور بمظهر العظمة إلى أن تلاشت معه جميع قلاع الشرك وخضعت له الرقاب التي تنصب غروراً وكبرياءً في وجهه.

فأثبت بذلك أنّه منزّه عن الكهانة والسحر والجنون لأنّ المنتسب إلى أحد تلك الأصناف أعجز من أن يقوىٰ على تدبير اُمور نفسه الخاصّة. فكيف يقوم بقيادة جيش جرّار عرمرم يخترق الفيافي والصحارى والقفار على الرغم من كثرة العيون والجواسيس المترصّدة في أنحاء الطرق والمعابر، ثمّ يباغت العدو في عقر داره وهو في غفلة من أمره فما يلبثوا إلّا يسيراً حتّى يسلّموا له وتذلّل له أعناق رؤسائهم، ويبلغ به الأمر إلى

٤٥٤

أكثر من ذلك فيواصل زحفه إلى ما وراء مكّة على ثبات من أمره وقوّة وشكيمة.

فالمتصدّي لقيادة تلك الجيوش والتسلّط على ما تمكّن منه بالنحو المتقدّم لابدّ وأن يعد من الرعيل الأوّل من قوّاد الجيوش في العالم وأشدّهم حنكة وحكمة، فكيف يتبادر إلى الأذهان أمثال تلك الأراجيف إذا كان حاله على ما شاهده الناس به من العظمة والبسالة والحكمة ؟

وتمكّن من خلال هذا الفتح من إزالة كل فرية وتهمة مشينة ألصقها كفّار قريش به أو يمكن أن توصف شخصيته بها في المستقبل، ولذلك وردت الإشارة إلى ذلك بقوله:( لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) .

وبذلك يندفع ما تمّ إيراده في السؤالين، وفي ذلك غنى عن المزيد من الإطالة حيث تبيّن وجود الصلة بين الفتح ومغفرة الذنوب، كما تبيّن عدم منافاة المغفرة مع العصمة، فلاحظ.

وفي الختام نقول: إنّه سبحانه قد بشّر النبي الأكرم بالنصر والفتح قبل وقوع الأمر بإنزال سورة النصر. قال سبحانه:( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) ( النصر / ١ ـ ٣ ).

لـمـّا فتح رسول الله مكّة قالت العرب: إنّما أظفر محمد بأهل الحرم وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل فليس لكم به طاقة، فكان يدخلون في دين الله أفواجاً واحداً واحداً، اثنين اثنين وربّما تدخل القبيلة بأسرها في الإسلام(١) .

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٥ ص ٥٥٣ ـ ٥٥٤.

٤٥٥

٩ ـ غزوة تبوك

كانت بلاد الشام في عصر الرسالة من المناطق التي تخضع لنفوذ إمبراطورية الروم، وكان شيوخ القبائل تدين بالمذهب المسيحي، وكانوا أداة طيّعة في أيديها، ولـمـّا بلغ أسماع أباطرة الروم خبر استيلاء المسلمين على مكّة ودخول المشركين في الدين الإسلامي أفواجاً، استشاطوا غضباً وعزموا على حربهم واطفاء نائرتهم، فأرسلوا إلى رؤساء قبائل « لخم » و « عامله » و « غسّان » و « جذام » يحثّونهم على تكثيف حشودهم وإعداد العدّة لحرب محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ومباغتته في عقر داره ليسهل عليهم إخماد أنفاس تلك الدولة الفتيّة، ولـمـّا وصل الخبر إلى النبي الأكرم عن طريق القوافل التجارية عزم على حربهم قبل أن يهاجموه، وكانت تلك الفترة فترة شاع فيها الفقر والشدّة والفاقة.

وقد أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرحيل في الفصل الذي كانت الثمار فيه على وشك الإيناع.

قال ابن هشام: إنّ رسول الله أمر أصحابه بالتهيّؤ وغزو الروم وذلك في زمان من عسرة الناس وشدّة من الحر وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار والناس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص على حال من الزمان الذي هم عليه وكان رسول الله قلّما يخرج لغزوة إلّا كنّى عنها وأخبر أنّه يريد غير الوجه الذي يقصده إلّا ما كان من غزوة تبوك، فإنّه بيّنها للناس لبعد الشقّة وشدّة الزمان، وكثرة العدو الذي يقصده ليتأهّب الناس لذلك اُهبتهم، فأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنّه يريد الروم.

ولـمـّا تفرّدت به تلك الغزوة عن سائر الغزوات ببعد الطريق، والاعتياز إلى مؤن

٤٥٦

تكفل حاجة الجند ذهاباً وإياباً، فقد صدرت الأوامر من النبي الأكرم بحشد جميع الإمكانات المتوفّرة لديهم بلا فرق بين الغني والفقير، ولأجل ذلك ساهم في تدعيم ذلك المجهود الحربي جميع الطبقات والفئات من الرجال والنساء وأصحاب الثروة والعمّال.

وممّن ساهم في تدعيم أمر الجيش عبد الرحمان بن عوف حيث جاء بصرّة من دراهم تملأ الكف، وفي قبال ذلك أتى من الضعفاء عتبة بن زيد الحارثي بصاع من تمر وقال يا رسول الله: عملت في النخل بصاعين فصاعاً تركته لأهلي وصاعاً أقرضته ربّي، وجاء زيد به أسلم بصدقة، فقال بعض الناس: إنّ عبد الرحمان رجل يحبّ الرياء، ويبتغي الذكر بذلك وإنّ الله غني عن الصاع من التمر، فعابوا كلتا الطائفتن: المكثر بالرياء والمقل بالإقلال، فنزل قوله سبحانه:

( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إلّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( التوبة / ٧٩ ـ ٨٠ ).

والحقّ إنّه يوجد في جميع المجتمعات رجال، لا يحبّون الخير ولا يساهمون فيه، بل لا يحبّون أن يساهم فيه أحد ويعيبونهم في المساهمة بأي شكل تحقّقت، فإن ساهم إنسان بالمال الكثير، يتّهمونه بأنّه يحب الرياء والذكر، وإن ساهم بمال قليل حقّروه وأهانوه، هذه شأن تلك الطبقة التي لا يريدون الخير ولا يطلبونه بتاتاً.

تخاذل بعض المؤمنين عن المناصرة

ـ ومع أنّ الظروف لم تكن مساعدة لحشد الناس بما يقتدر به على حرب العدو الشرس ـ فقد تمكّن النبي من حشد ثلاثين ألف مقاتل، ولم يكن لهذا النجاح ( في استنهاض عزائم العرب وجمع قواهم بهذه المثابة ) مثيل في تاريخ العرب، على

٤٥٧

الرغم من الجهود المكثّفة التي كانت يبذلها المنافقون في تثبيط العزائم وإخماد روح الشهادة والفداء في نفوس المسلمين.

وقد ألمح الذكر الحكيم إلى تثاقل جمع من الصحابة ( المؤمنين ) عن الإسهام والمشاركة. قال سبحانه:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلّا قَلِيلٌ *إلّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( التوبة / ٣٨ ـ ٣٩ ).

وما هو المراد من قوله سبحانه:( وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) وقد جاءت تلك الجملة في آيات اُخرى أيضاً ؟

قال سبحانه:( فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ( المائدة / ٥٤ ) وقال تعالى:( وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ) ( محمد / ٣٨ ).

وقد فسّرت الآية بأبناء فارس تارة وبأهل اليمن اُخرى وبالذين أسلموا ثالثة، والحق أنّ الآية تتمتّع عن سعة وعموم تعمّ الطوائف الذين جاءوا بعد نزول الآية، واتّسموا بما فيها من الصفات( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) .

نكوص المنافقين عن القتال

كانت وقعة تبوك محكّاً لتمحيص المسلمين، وثباتهم على الحق ومفاداتهم الرسول بأنفسهم وأموالهم. كيف وقد كانت المسافة بين المدينة وتبوك تقرب من ستمائة كيلومتراً، وكانت الركائب المعدّة للمسير تغطّي معشارهم، وكان زادهم الشعير المسوّس، والإهالة السخنة والتمر الزهيد، ففي خضمّ تلك الظروف

٤٥٨

العصيبة، سعى المنافقون لإخماد همم المسلمين، وكسر شوكتهم، فكشف الله عنهم لقاء تآمرهم على الإسلام، ما كانوا يبطنونه ويخفونه من ضغائن وأحقاد، وقد كرّست سورة التوبة ثقلها الأكبر على بيان تآمر اُولئك، وقد كانوا يتذرّعون بأعذار وترّهات خاوية، ويستأذنون من النبي للبقاء في المدينة وعدم المساهمة في الجهاد. نعم ما كانوا يعتذرون به لم يكن سبباً حقيقيّاً لتثاقلهم، وإنّما السبب فيه هو:

١ ـ علمهم بأنّ النبي لا يصيب غنيمة.

٢ ـ بعد الطريق.

٣ ـ شدّة الحر وحمّارة القيظ.

وقد كشف الوحي عن سرّ تثبّطهم وتثاقلهم وألمع إلى الوجهين الأوّلين بقوله:

( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) ( التوبة / ٤٢ ).

وفي هذه الآية إلماع إلى السببين الأوّلين اللّذين عاقاهم عن المساهمة:

١ ـ يريد أنّه لو كان في ما دعوتهم إليه منفعة قريبة المنال لم يكن في الوصول إليها عناء كبير لاتّبعوك كما يقول:( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا ) .

٢ ـ لو كان السفر سفراً هيّناً لا تعب فيه لأسرعوا بالنفر إليه إذ حبّ المال أمر طبيعي خصوصاً إذا كانت سهلة المأخذ قريبة المنال كما يقول:( سَفَرًا قَاصِدًا ) .

ولـمّا بعدت عليهم الشقّة أوّلاً ولم يكونوا مطمئنّين بالوصول إلى المال ثانياً انصرفوا عن المساهمة، ولكنّهم لحفظ مكانتهم بين المسلمين كانوا يحلفون للرسول بعدم استطاعتهم للخروج، وهم كاذبون في حلفهم كما يقول سبحانه:( وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) .

٤٥٩

وقد ألمع إلى السبب الثالث بقوله:( فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ) ( التوبة / ٨١ ).

كان المنافقون يقولون لإخوانهم لا تنفروا في حرّ الصيف والله سبحانه فنّد آراءهم وسفّه أحلامهم بأنّ نار جهنّم المعدّة للعصاة أشدّ حرّاً من تلك الأيّام، لأنّ ذلك الحرّ تحتمله الأجسام وأمّا نار جهنّم فتلفح الوجوه وتنضج الجلود، وعلى ذلك ينبغي عليهم أن يضحكوا قليلاً وبيكوا كثيراً.

هذه سيرة المنافقين وضعفاء الإيمان في كل عصر يعتذرون في الصيف بشدّة الحرّ، وفي الشتاء بشدّة البرد، ولكنّها أعذار ظاهريّة اتّخذوها واجهة لستر ما هو السبب الحقيقي لترك المساهمة.

والتاريخ يعيد نفسه. كان عليٌّعليه‌السلام يأمر أصحابه بالجهاد ضد العدو وهم يتثاقلون إلى الأرض، يعتذرون بمثل تلك الأعذار، يقول الإمام: « فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيّام الصيف، قلتم: هذه حمارة القيظ أمهلنا يُسَبَّخَ عنّا الحرّ، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء، قلتم: هذه صبارّة القرّ أمهلنا ينسلخ عنّا البرد، أكلّ هذا فراراً من الحرّ والقرّ، فإذا كنتم من الحرّ والقرّ تفرّون فأنتم والله من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال ! »(١) .

إلى هنا وقفنا على الأسباب الواقعيّة التي ثبّطت عزائم المنافقين عن المساهمة في الجهاد، ثمّ إنّهم كانوا ينتحلون الأعذار الواهية، ليستأذنوا النبي في القعود والتخلّف، وكان النبي يأذن لهم، فتزل الوحي وقال:( عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) ( التوبة / ٤٣ ).

وهل الآية تدلّ على أنّ إذنهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان على خلاف

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٢٧.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581