مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265463 / تحميل: 6062
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

الحذر الحذر. (فما نزل حتّى دخلت النظارة المسجد من قبل باب التمّارين يشتدون ويقولون : قد جاء مسلم بن عقيل). فنزل عن المنبر مسرعا وبادر حتّى دخل القصر وأغلق الأبواب.

نهضة مسلم بن عقيلعليه‌السلام

٥٥٤ ـ خروج مسلم بن عقيل للقتال :(لواعج الأشجان ، ص ٤٧)

قال عبد الله بن حازم : أنا والله رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر ما فعل هانئ.فلما ضرب وحبس ، ركبت فرسي فكنت أول داخل الدار على مسلم بن عقيل بالخبر. فإذا نسوة من (مراد) مجتمعات ينادين : يا عبرتاه يا ثكلاه!.

فدخلت على مسلم فأخبرته الخبر ، فأمرني أنادي في أصحابه ، وقد ملأ به الدور حولهم ، وكانوا فيها أربعة آلاف. فقال لمناديه ناد : يا منصور أمت! وكان ذلك شعارهم. (وكان قد بايعه ثمانية عشر ألفا). فتنادى أهل الكوفة واجتمعوا عليه.

فاجتمع إليه أربعة آلاف ، فعقد لعبد الله بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة ، وقال : سر أمامي في الخيل. وعقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج وأسد ، وقال : انزل في الرجال. وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان. وعقد للعباس بن جعدة [بن هبيرة] الجدلي على ربع المدينة. وعبأ ميمنته وميسرته ووقف هو في القلب.

٥٥٥ ـ زحف مسلم إلى القصر ، لقتال ابن زياد المتحصّن فيه :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٦ ؛ ولواعج الأشجان ص ٤٧)

وأقبل مسلم بن عقيل في وقته ذلك ، ومعه ثمانية عشر ألفا أو يزيدون ، وبين يديه الأعلام والسلاح الشاك. وهم في ذلك يشتمون ابن زياد ويلعنون أباه. وأقبل مسلم يسير حتّى خرج في بني الحرث بن كعب ، ثم خرج على مسجد الأنصار ، حتّى أحاط بالقصر.

(قال عبد الله بن حازم : وتداعى الناس واجتمعوا. فما لبثنا إلا قليلا حتّى امتلأ المسجد من الناس والسّوقة. وما زالوا يتوثّبون حتّى المساء.

وبعث عبيد الله إلى وجوه أهل الكوفة ، فجمعهم عنده في القصر. وأحاط مسلم بالقصر فضايق بعبيد الله أمره. وكان أكثر عمله أن يمسك باب القصر ، وليس معه إلا

٤٨١

ثلاثون رجلا من الشرطة وعشرون رجلا من أشراف الناس ، وأهل بيته وخاصته.وأقبل من نأى عنه من أشراف الناس يأتونه من قبل الباب الّذي يلي دار الروميين).

وركب أصحاب ابن زياد ، واختلط القوم فاقتتلوا قتالا شديدا ، وابن زياد في جماعة من الأشراف قد وقفوا على جدار القصر ينظرون إلى محاربة الناس (وأصحاب مسلم يرمونهم بالحجارة ، ويشتمونهم ويفترون على عبيد الله وعلى أمه وأبيه).

٥٥٦ ـ تخذيل الناس عن مسلم :(مثير الأحزان للجواهري ، ص ٢٣)

فدعا ابن زياد كثير بن شهاب ، وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج ، فيسير في الكوفة ويخذّل الناس ويخوّفهم من الحرب ، ويحذّرهم عقوبة السلطان. وأمر محمّد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة ، فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس. وقال لشبث بن ربعي وحجّار بن أبجر وشمر بن ذي الجوشن مثل ذلك.

فخرجوا يردّون الناس عن مسلم ويخوّفونهم السلطان ، حتّى اجتمع إليهم عدد كثير من قومهم وغيرهم ، فصاروا إلى ابن زياد.

فقال كثير بن شهاب : أصلح الله الأمير ، معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس وغيرهم!. فبعث عبيد الله إلى الأشراف فجمعهم ، ثم أشرفوا على الناس (من فوق القصر) فمنّوا أهل الطاعة بالزيادة والكرامة ، وخوّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة وأهل الشام.

٥٥٧ ـ ابن زياد يخذّل الناس عن مسلم ، ويخوّفهم بمجيء جند الشام :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٦)

قال : وجعل رجل من أصحاب ابن زياد يقال له : كثير بن شهاب ، ومحمد بن الأشعث ، والقعقاع بن شور ، وشبث بن ربعي ، ينادون فوق القصر بأعلى أصواتهم : ألا يا شيعة مسلم بن عقيل ، ألا يا شيعة الحسين بن علي ، الله الله في أنفسكم وأهليكم وأولادكم ، فإن جنود أهل الشام قد أقبلت ، وإن الأمير عبيد الله قد عاهد الله ، لئن أنتم أقمتم على حربكم ولم تنصرفوا من يومكم هذا ، ليحرمنّكم العطاء ، وليفرّقنّ مقاتلتكم في مغازي أهل الشام ، وليأخذن البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، حتّى لا يبقى منكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال أمرها.

٤٨٢

٥٥٨ ـ تفرّق الناس إلى بيوتهم :(المصدر السابق ، ص ٢٠٧)

فلما سمع الناس مقالة أشرافهم أخذوا يتفرقون ويتخاذلون عن مسلم بن عقيل ، ويقول بعضهم لبعض : ما نصنع بتعجيل الفتنة ، وغدا تأتينا جموع أهل الشام!.فينبغي أن نقعد في منازلنا وندع هؤلاء القوم حتّى يصلح الله ذات بينهم.

قال : وكانت المرأة تأتي أخاها وأباها أو زوجها أو بنيها فتشرده. ثم جعل القوم يتسللون ، والنهار يمضي حتّى غربت الشمس.

٥٥٩ ـ تفرّق الناس عن مسلم حتّى بقي وحيدا :

(لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٤٩ ط نجف)

فلما سمع الناس مقالتهم أخذوا يتفرقون. وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها فتقول : انصرف ، الناس يكفونك. ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول : غدا يأتيك أهل الشام ، فما تصنع بالحرب والشر ، انصرف. فيذهب به فينصرف. فما زالوا يتفرقون حتّى أمسى ابن عقيل في خمسمائة.

فلما اختلط الظلام جعلوا يتفرقون (فدخل مسلم المسجد الأعظم) فصلى المغرب وما معه إلا ثلاثون نفسا في المسجد. فلما رأى أنه قد أمسى وليس معه إلا أولئك النفر ، خرج متوجها إلى أبواب كندة. فلم يبلغ الأبواب إلا ومعه عشرة. ثم خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان!.

فالتفت فإذا هو لا يحسّ أحدا يدله على الطريق ولا يدله على منزله ، ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو. فمضى على وجهه متحيّرا في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب ، حتّى خرج إلى دور بني جبلة من كندة (انظر الشكل ٦ ـ مخطط الكوفة القديمة ، حيث تظهر منازل كندة في جنوبي الكوفة ، وأبواب كندة) صفحة ٥٦٠.

٥٦٠ ـ كيف عمل ابن زياد على تخذيل الناس :

(مثير الأحزان للجواهري ، ص ٢٣)

لما أحيط بابن زياد وهو في القصر ، فكّر بتخذيل الناس عن مسلم ، واستخدم لذلك عدة طرق منها :

١ ـ التخويف من الحرب والتحذير من عقوبة السلطان.

٢ ـ إغراء الناس بإعطاء الأمان لمن يأتيه.

٤٨٣

٣ ـ إغراء المطيع بزيادة العطاء ، وحرمان العاصي من العطاء.

٤ ـ تخويف الناس بأن جيش الشام زاحف إليهم ، وأنهم لا يقدرون عليه.

٥ ـ بعث رجال يشيعون الإنهزامية في نفوس الناس ، حتّى يقول كل واحد : لا علاقة لي بهذا الأمر!.

٥٦١ ـ ابن زياد يصلي العشاء بالناس ويحذّرهم :

(مقتل الحسين للمقرّم ، ص ١٨١)

ولما تفرّق الناس عن مسلم وسكن لغطهم ولم يسمع ابن زياد أصوات الرجال ، أمر من معه في القصر أن يشرفوا على ظلال المسجد لينظروا هل كمنوا فيها ، فكانوا يدلون القناديل ويشعلون النار في القصب ويدلونها بالحبال إلى أن تصل إلى صحن الجامع ، فلم يروا أحدا ، فأعلموا ابن زياد.

فنزل إلى المسجد قبل العتمة [أي وقت صلاة العشاء] وأجلس أصحابه حول المنبر. وأمر فنودي في الكوفة : برئت الذمة من رجل من الشرطة والعرفاء والمقاتلة ، صلى العتمة إلا في المسجد.

فامتلأ المسجد ، ثم صلى بالناس. وقام فحمد الله ، ثم قال : أما بعد ، فإن ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشقاق ، فبرئت الذمة من رجل وجدناه في داره ، ومن أتانا به فله ديّته. فاتقوا الله عباد الله ، والزموا طاعتكم وبيعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا.

ثم أمر صاحب شرطته الحصين بن تميم أن يفتش الدور والسكك ، وحذّره بالفتك به إن أفلت مسلم ، وخرج من الكوفة.

فوضع الحصين الحرس على أفواه السكك ، وتتبع الأشراف الناهضين مع مسلم ، فقبض على عبد الأعلى بن يزيد الكلبي ، وعمارة بن صلخب الأزدي ، فحبسهما ثم قتلهما.

٥٦٢ ـ صفة أهل العراق والكوفيين خاصة :

(مختصر تاريخ العرب لسيد أمير علي [١٨٤٩ ـ ١٩٢٨ م] ، ص ٧٢)

يقول سيد أمير علي : كان أهل العراق والكوفة ، أنصار علي والحسن والحسينعليهم‌السلام ، وهم وإن كانوا متحلّين بالحماسة وشدة البأس ، إلا أنهم قوم

٤٨٤

قلبّ يعوزهم الثبات والحزم. فبينما تراهم يوما شديدي الحماسة لعقيدة يدينون بها ، أو متفانين في الإخلاص لشخص يعضدونه ، إذ بهم في اليوم التالي قد أعرضوا عن العقيدة التي آمنوا بها ، وخذلوا الشخص الّذي أجمعوا على نصرته بالأمس.ولقد قرّحوا قلب الإمام عليعليه‌السلام ، ثم خذلوا الإمام الحسنعليه‌السلام ، ثم قتلوا الإمام الحسينعليه‌السلام .

٥٦٣ ـ التجاء مسلم إلى دار طوعة :(مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٧)

فلما رأى مسلم ذلك استوى على فرسه ومضى في بعض أزقة الكوفة ، وقد أثخن بالجراحات ، لا يدري أين يذهب. حتّى صار إلى امرأة يقال لها (طوعة) ، وقد كانت قبل ذلك أم ولد للأشعث بن قيس ، فتزوجها رجل من حضرموت يقال له أسيد الحضرمي ، فولدت له (بلال) بن أسيد [وهي امرأة عربية موالية لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لها شأن كبير في نساء الكوفة].

وكانت المرأة واقفة على باب دارها تنتظر ابنها. فسلّم عليها مسلم فردّتعليه‌السلام . فقال: يا أمّة الله اسقيني ماء ، فسقته فجلس على بابها.

(ودخلت ثم خرجت) فقالت له : يا عبد الله ، ما شأنك أليس قد شربت؟!. قال :بلى.

(وفي مثير الأحزان للجواهري ، ص ٢٤) : «قالت : فاذهب إلى أهلك ، فسكت.ثم أعادت مثل ذلك فسكت. ثم قالت في الثالثة : يا سبحان الله يا عبد الله ، قم إلى أهلك عافاك الله ، فإنه لا يصلح لك الجلوس على باب داري ولا أحلّه لك. فقام مسلم وقال : يا أمة الله ما لي في هذا المصر أهل ولا عشيرة ، فهل لك في أجر ومعروف ، ولعلي مكافيك بعد اليوم. قالت :

يا عبد الله وما ذاك؟. قال : أنا مسلم بن عقيل ، كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني وأخرجوني».

قال السيد أسد حيدر في كتابه (مع الحسين في نهضته) ص ١١٢ :

«وكانت طوعة امرأة عربية موالية لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شأنها شأن كبير ، من نساء الكوفة اللواتي أثبت التاريخ مواقفهن الحاسمة في مناصرة أهل البيتعليهم‌السلام . ولكن الإطار الّذي برزت فيه صورتها في هذا الحادث هو غير إطارها الواقعي».

قالت : أنت مسلم؟. قال : نعم. قالت : ادخل ، فدخل إلى بيت [أي غرفة] في

٤٨٥

دارها غير البيت الّذي تكون فيه ، وفرشت له (وجاءته بمصباح) وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ.

٥٦٤ ـ بلال بن طوعة يفشي أمر مسلم بن عقيل :

(مثير الأحزان للجواهري ، ص ٢٤)

ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها [بلال] فرآها تكثر الدخول والخروج إلى ذلك البيت (وهي باكية). فألحّ عليها ، فأعلمته بعد أن أخذت عليه العهود بالكتمان.(فسكت الغلام ولم يقل شيئا. ثم أخذ مضجعه ونام).

(وفي مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٨) :

«فلما أصبح ابن زياد ، نادى في الناس أن اجتمعوا. ثم خرج من القصر فدخل المسجد ، ثم صعد المنبر فقال : أيها الناس ، إن مسلم بن عقيل السفيه الجاهل ، أتى هذا البلد وأظهر الخلاف وشق عصا المسلمين ، وقد برئت الذمة من رجل أصبناه في داره. ومن جاء به فله ديته ، والمنزلة الرفيعة من أمير المؤمنين ، وله كل يوم حاجة مقضيّة

وأقبل محمّد بن الأشعث حتّى دخل على عبيد الله بن زياد. فلما رآه قال : مرحبا بمن لا يتّهم في مشورة. وأقبل [بلال] إلى عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث فأخبره بمكان مسلم. فقال : اسكت إذن ولا تخبر أحدا. وأقبل عبد الرحمن إلى أبيه فسارّه في أذنه بأن مسلما في منزل طوعة. ثم تنحّى ، فقال ابن زياد : ما الّذي قال لك عبد الرحمن؟. فقال : أصلح الله الأمير ، البشارة الكبرى. قال : وما تلك فمثلك من يبشّر بخير؟. فأخبره بذلك ، فسرّ عدوّ الله ، وقال له : قم فأتني به ولك ما بذلت من الجائزة الكبرى والحظ الأوفى».

٥٦٥ ـ مهاجمة مسلم وإمساكه بعد تمنيته بالأمان الخادع :

(مقتل المقرّم ، ص ١٨٣)

وعند الصباح أعلم ابن زياد بمكان مسلم ، فأرسل ابن الأشعث (ومعه عبيد الله بن العباس السلمي) ليقبض عليه. ولما سمع مسلم وقع حوافر الخيل عرف أنه قد أتي. فعجّل دعاءه الّذي كان مشغولا به بعد صلاة الصبح. ثم لبس لامته [أي درعه] وقال لطوعة : قد أدّيت ما عليك من البرّ ، وأخذت نصيبك من شفاعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ولقد رأيت البارحة عمي أمير المؤمنينعليه‌السلام في المنام ، وهو يقول لي : أنت معي غدا.

٤٨٦

٥٦٦ ـ البسالة الهاشمية :(المصدر السابق)

ثم بادر مسرعا إلى فرسه فأسرجه وألجمه ، وصبّ عليه درعه واعتجر بعمامته وتقلّد سيفه.

وخرج إليهم بسيفه وقد اقتحموا عليه الدار ، فشدّ عليهم يضربهم بسيفه ، حتّى أخرجهم من الدار. ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك ، فأخرجهم مرارا من الدار ، وهو يقول:

هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع

فأنت بكأس الموت لا شكّ جارع

فصبرا لأمر الله جلّ جلاله

فحكم قضاء الله في الخلق ذائع

فقتل منهم واحدا وأربعين رجلا.

(وفي مثير الأحزان للجواهري ، ص ٢٥) :

فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت ، وأخذوا يرمونه بالحجارة ، ويلهبون النار في أطنان القصب [جمع طنّ : وهي حزمة القصب] ثم يرمونها عليه من فوق البيت. فلما رأى ذلك خرج إليهم مصلتا سيفه في السكّة ، وكان من قوّته أنه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت.

(وفي كتاب : مع الحسين في نهضته ، ص ١٠٧) :

وقد اشترك في حربه الرجال والنساء والأطفال ؛ فالرجال بالسيوف والرماح والنبال ، والنساء بالنار في أطنان القصب ، تلهب نارا فترميه بها من أعلى السطوح(١) ، والأطفال يرمونه بالحجارة ، وهو يقابل ذلك بشجاعة وبسالة وثبات.

٥٦٧ ـ ابن الأشعث يطلب المدد :

(مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٩)

وخرج مسلم في وجوه القوم كالأسد المغضب يضاربهم بسيفه ، حتّى قتل جماعة. وبلغ ذلك ابن زياد ، فأرسل إلى محمّد بن الأشعث : سبحان الله

أبا عبد الرحمن ، بعثناك إلى رجل واحد لتأتينا به ، فثلم في أصحابك ثلمة عظيمة (فكيف إذا أرسلناك إلى غيره؟).

فأرسل إليه محمّد بن الأشعث : أيها الأمير ، أتظن أنك بعثتني إلى بقّال من

__________________

(١) مروج الذهب للمسعودي ، ج ٣ ص ٦٨.

٤٨٧

بقّالي الكوفة ، أو جرمقاني من جرامقة الحيرة(١) . أفلا تعلم أيها الأمير أنك بعثتني إلى أسد ضرغام ، وبطل همام ، في كفّه سيف حسام ، يقطر منه الموت الزّؤام؟!.

٥٦٨ ـ الأمان الكاذب :

(المصدر السابق)

فأرسل إليه ابن زياد أن أعطه الأمان ، فإنك لن تقدر عليه إلا بالأمان المؤكد بالأيمان. فجعل محمّد بن الأشعث يناديه : ويحك يابن عقيل لا تقتل نفسك ، لك الأمان. فيقول مسلم : لا حاجة لي في أمان الغدرة الفجرة ، وينشد :

أقسمت لا أقتل إلا حرّا

وإن رأيت الموت شيئا نكرا

كل امرئ يوما ملاق شرّا

ردّ شعاع النفس فاستقرّا

أضربكم ولا أخاف ضرّا

ضرب همام يستهين الدهرا

ويخلط البارد سخنا مرّا

ولا أقيم للأمان قدرا

أخاف أن أخدع أو أغرّا

والأبيات لحمران بن مالك الخثعمي قالها يوم القرن.

٥٦٩ ـ مقاومة حتّى النهاية :(مقتل الحسين للمقرّم ، ص ١٨٤)

واشتدّ القتال ، فاختلف مسلم مع بكير بن حمران الأحمري بضربتين ، فضرب بكير فم مسلم فقطع شفته العليا ، وأسرع السيف إلى السفلى ، وفصلت له ثنيّتاه [الثنايا : هي الأسنان الأمامية من الفم]. وضربه مسلم على رأسه ضربة منكرة ، وأخرى على حبل العاتق ، حتّى كادت أن تطلع إلى جوفه.

وأثخنت مسلم الجراحات وأعياه نزف الدم ، فاستند إلى جنب تلك الدار ، فتحاملوا عليه يرمونه بالسهام (والنبل) والحجارة. فقال :

(ويلكم) ما لكم ترموني بالحجارة كما ترمى الكفار ، وأنا من أهل بيت النبي المختار!.(ويلكم) أما ترعون حق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عترته؟!.

فقال له ابن الأشعث : لا تقتل نفسك وأنت في ذمتي. قال مسلم : أؤسر وبي طاقة؟. لا والله لا يكون ذلك أبدا. وحمل على ابن الأشعث فهرب منه.

__________________

(١) الجرامقة : جماعة من العجم سكنوا أول الإسلام في الموصل.

٤٨٨

ثم حملوا عليه من كل جانب وقد اشتدّ به العطش ، فطعنه رجل من خلفه ، فسقط إلى الأرض وأسر.

٥٧٠ ـ كيف احتالوا على مسلم وأمسكوه :

(المنتخب للطريحي ، ص ٤٢٧)

وقيل : إنهم احتالوا عليه ، وحفروا له حفرة عميقة في وسط الطريق ، وأخفوا رأسها بالدغل والتراب ، ثم انطردوا بين يديه ، فوقع بتلك الحفرة ، وأحاطوا به ، فضربه ابن الأشعث على محاسن وجهه ، فلعب السيف في عرنين أنفه ومحاجر عينيه ، حتّى بقيت أضراسه تلعب في فمه. فأوثقوه وأخذوه أسيرا إلى ابن زياد.

٥٧١ ـ مسلم بن عقيل يبكي لقدوم الحسينعليه‌السلام :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ٢١١)

(وفي رواية) : إن محمّد بن الأشعث لما أعطى مسلما الأمان ، رمى بسيفه ، فأخذوه وحملوه على بغلة ، فدمعت عيناه. فقال محمّد : إني لأرجو أن لا بأس عليك.فقال : ويحك ما هو إلا الرجاء ، فأين أمانكم؟. إنا لله وإنا إليه راجعون ، وبكى.

فقال عبيد الله بن العباس السلمي : من يطلب مثل الّذي طلبت لا يبكي. فقال مسلم : إني والله ما على نفسي أبكي ، لكني أبكي على أهلي المقبلين إليكم ، أبكي على الحسين وآل الحسينعليه‌السلام .

ولما ركب على البغلة ونزع منه السيف ، استرجع وقال : هذا أول الغدر ، وأيس من نفسه ، وعلم أن لا أمان له من القوم.

فقال لمحمد بن الأشعث : إني لأظنك تعجز عن أماني ، أفتستطيع أن تبعث رجلا عن لساني يبلّغ حسينا ، فإني لا أراه إلا قد خرج إلى ما قبلكم ، هو وأهل بيته ، فيقول له : إن مسلما بعثني إليك ، وهو أسير في يد العدو ، يذهبون به إلى القتل ، فارجع بأهلك ، ولا يغرّنّك أهل الكوفة ، فإنهم أصحاب أبيك الّذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل. إن أهل الكوفة قد كذّبوني ، فكتبت إليك وليس لمكذوب رأي.

فقال محمّد : والله لأفعلن. ودعا بإياس الطائي ، وكتب معه إلى الحسينعليه‌السلام ما قاله مسلم عن لسان مسلم. وأعطاه راحلة وزادا. فذهب فاستقبل الحسينعليه‌السلام في (زبالة).

٤٨٩

٥٧٢ ـ مسلم يطلب شربة من الماء :

(الكامل في التاريخ لابن الأثير ، ج ٣ ص ٣٦٦)

(وجيء به إلى ابن زياد) فلما جلس مسلم على باب القصر رأى جرة فيها ماء بارد (وكان له يومان ما شرب الماء) ، فقال : اسقوني من هذا الماء. فقال له مسلم بن عمرو الباهلي : أتراها ما أبردها ، والله لا تذوق منها قطرة ، حتّى تذوق الحميم في نار جهنم. فقال له ابن عقيل : من أنت؟. قال : أنا من عرف الحق إذ تركته ، ونصح الأمة والإمام إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته ، أنا مسلم بن عمرو. فقال له ابن عقيل : لأمك الثكل ، ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك وأغلظك. أنت يابن باهلة أولى بالحميم ، والخلود في نار جهنم مني. (ثم جلس وتساند إلى حائط القصر).

(وفي مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ٢١٠) :

ثم قال : ويحكم يا أهل الكوفة ، اسقوني شربة من ماء. فأتاه غلام لعمرو ابن حريث المخزومي بقلّة فيها ماء ، وقدح من قوارير [أي زجاج] ، فصبّ القلّة في القدح وناوله ، فأخذ مسلم القدح بيده. فكلما أراد أن يشرب امتلأ القدح دما ، فلم يقدر أن يشرب من كثرة الدم ، وسقطت ثنيّتاه في القدح ، فامتنع من شرب ذلك الماء (وقال : لو كان من الرزق المقسوم لشربته).

(وفي كتاب المحن لمحمد بن أحمد التميمي ، ص ١٤٥) :

فلما أسر مسلم لغب ، فقال : اسقوني ماء. ومعه رجل من آل أبي معيط (هو عمارة بن عقبة بن أبي معيط) وشمر بن ذي الجوشن. فقال له شمر :

لا نسقيك إلا من النّيل!. فقال المعيطي : والله لا نسقيه إلا من الفرات!. قال :فأمر غلاما له ، فأتاه بإبريق ماء وقدح من قوارير ومنديل. قال : فسقاه ، وتمضمض وخرج الدم ، فما زال يمجّ الدم ولا يسيغ شيئا ، حتّى قال : أخّروه عني.

٥٧٣ ـ ما قاله مسلم بن عقيل لعبيد الله بن زياد حين أدخل عليه وأيقن بالهلاك:

(مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ٢١١)

ثم أتي بمسلم رضي الله عنه فأدخل على ابن زياد فأوقف ولم يسلّم عليه. فقال له الحرسي : سلّم على الأمير. فقال له مسلم : اسكت لا أم لك ، ما لك والكلام ، ما

٤٩٠

هو لي بأمير فأسلّم عليه(١) .(وفي مقتل المقرم ص ١٨٧ أنه قال) : «السلام على من اتّبع الهدى ، وخشي عواقب الردى ، وأطاع الملك الأعلى». فقال ابن زياد : لا عليك سلّمت أو لم تسلّم ، فإنك مقتول(٢) . فقال مسلم : إن قتلتني فلقد قتل من هو شرّ منك من هو خير مني.

(وفي رواية لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٥٧ ط نجف) :

«فقال له ابن زياد : قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام. فقال له مسلم : أما إنك أحقّ من أحدث في الإسلام ما لم يكن. وإنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك».

ثم قال لمسلم : يا شاقّ يا عاقّ ، خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين وألقحت الفتنة!. فقال : كذبت يابن زياد ، إنما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وإنما ألقح القتنة أنت وأبوك زياد بن عبيد ابن بني علاج من ثقيف. وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريّته(٣) فوالله ما خلعت وما غيرت ، وإنما أنا في طاعة الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد. فقال له ابن زياد : يا فاسق ألم تكن تشرب الخمر بالمدينة!.فقال مسلم : الله يعلم أني ما شربتها قط ، وأحقّ مني بشرب الخمر من يقتل النفس الحرام ويقتل على الغضب والعداوة والظنّ ، وهو في ذلك يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئا.

فقال له ابن زياد : يا فاسق منتّك نفسك أمرا حال الله دونه وجعله لأهله. فقال له مسلم : ومن أهله يابن مرجانة؟. فقال له : يزيد بن معاوية. فقال مسلم : الحمد لله (على كل حال) رضينا بالله حكما بيننا وبينكم. فقال له ابن زياد : أتظن أن لك في الأمر شيئا؟. فقال : لا والله ، ما هو بالظن ولكنه اليقين.

فقال ابن زياد له : قتلني الله إن لم أقتلك شرّ قتلة فقال له مسلم : والله لو كان معي عشرة ممن أثق بهم ، وقدرت على شربة ماء ، لطال عليك أن تراني في هذا

__________________

(١) اللهوف ، ص ٣٠ ؛ وتاريخ الطبري ، ج ٦ ص ٢١٢.

(٢) المنتخب للطريحي ، ص ٢٠٠ ؛ ومقتل أبي مخنف ، ص ٣٦.

(٣) مثير الأحزان لابن نما الحلي ، ص ١٧.

٤٩١

القصر. ولكن إن كنت قد عزمت على قتلي فأقم لي رجلا من قريش حتّى أوصي إليه بما أريد.

٥٧٤ ـ وصية مسلم بن عقيلعليه‌السلام :(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ٢١٢)

ثم نظر مسلم إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص ، فقال له : إن بيني وبينك قرابة ، فاسمع مني ، فامتنع. فقال له ابن زياد : ما يمنعك من الاستماع لابن عمك؟. فقام عمر بن سعد إليه. فقال له مسلم : أوصيك بتقوى الله ، فإن التقوى درك كل خير.ولي إليك حاجة. فقال عمر : قل ما أحببت. فقال : حاجتي إليك أن تستردّ فرسي وسلاحي من هؤلاء القوم ، فتبيعه وتقضي عني سبعمائة درهم استدنتها في مصركم هذا ، وأن تستوهب جثتي إن قتلني هذا الفاسق ، فتواريني التراب ، وأن تكتب للحسينعليه‌السلام أن لا يقدم ، فينزل به ما نزل بي.

فقال عمر بن سعد : أيها الأمير ، إنه يقول كذا وكذا. فقال ابن زياد : يابن عقيل ، أمّا ما ذكرت من دينك فإنما هو مالك تقضي به دينك ، ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت. وأما جسدك فإنا إذا قتلناك فالخيار لنا ، ولسنا نبالي ما صنع الله بجثتك.وأما الحسين فلا ، ولا كرامة.

٥٧٥ ـ (رواية أخرى) لوصية مسلمعليه‌السلام :(العقد الفريد ج ٤ ص ٣٠٧)

فنظر مسلم في وجوه الناس ، فقال لعمرو بن سعيد (لعله تصحيف : عمر ابن سعد) : ما أرى قرشيا هنا غيرك ، فادن مني حتّى أكلمك. فدنا منه ، فقال له :

هل لك أن تكون سيد قريش ما كانت قريش؟. إن حسينا ومن معه ـ وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة ـ في الطريق ، فارددهم واكتب لهم بما أصابني.

وقال عمرو لابن زياد : أتدري ما قال لي؟. قال ابن زياد : اكتم على ابن عمك.قال : هو أعظم من ذلك. قال : وما هو؟. قال : قال لي إن حسينا ومن معه أقبل ، وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة ، فارددهم واكتب إليه بما أصابني.

فقال له ابن زياد : أما والله إذ دللت عليه ، لا يقاتله أحد غيرك.

٥٧٦ ـ محاورة مسلم بن عقيل مع عبيد الله بن زياد وقد اتّهم مسلما بالفرقة بين المسلمين ، ومصرع مسلمعليه‌السلام :(مقتل الخوارزمي ج ١ ص ٢١٣)

ثم قال ابن زياد : ولكن أريد أن تخبرني يابن عقيل لماذا أتيت أهل هذا البلد ،

٤٩٢

وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة ، فأردت أن تفرّق عليهم أمرهم وتحمل بعضهم على بعض. فقال له مسلم : ليس لذلك أتيت ، ولكنّ أهل هذا المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم ، وأن معاوية حكم فيها ظلما بغير رضى منهم ، وغلبهم على ثغورهم التي أفاء الله بها عليهم ، وأن عاملهم يتجبّر ويعمل أعمال كسرى وقيصر ، فأتينا لنأمر بالعدل ، وندعو إلى الحكم بكتاب الله إذ كنا أهله ، ولم تزل الخلافة لنا ـ وإن قهرنا عليها ـ رضيتم بذلك أم كرهتم ، لأنكم أول من خرج على إمام هدى وشقّ عصا المسلمين ، ولا نعلم لنا ولكم مثلا ، إلا قول الله تعالى :( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) [الشعراء : ٢٢٧].

(وفي مقتل الحسين للمقرّم ، ص ١٨٩ تتمة الكلام) : «قال ابن زياد : ما أنت وذاك ، أولم نكن نعمل فيهم بالعدل!. قال مسلم : إن الله يعلم أنك غير صادق ، وأنك لتقتل على الغضب والعداوة وسوء الظن. فشتمه ابن زياد وشتم عليا وعقيلا والحسين(١) . فقال مسلم : أنت وأبوك أحقّ بالشتم ، فاقض ما أنت قاض يا عدوّ الله(٢) . فنحن أهل بيت موكّل بنا البلاء(٣) ».

شهادة مسلم بن عقيلعليه‌السلام

فقال ابن زياد : اصعدوا به إلى أعلى القصر واضربوا عنقه ، وأتبعوا رأسه جسده.فقال مسلم : أما والله يابن زياد ، لو كنت من قريش أو كان بيني وبينك رحم لما قتلتني ، ولكنك ابن أبيك. فازداد ابن زياد غضبا. (قيل : إنه يشير بهذا الكلام إلى أن عبيد الله مثل أبيه زياد ، دعيّان وليسا من قريش).

ودعا ابن زياد برجل من أهل الشام قد كان مسلم ضربه على رأسه ضربة منكرة (وهو بكر بن حمران) فقال له : خذ مسلما إليك وأصعده إلى أعلى القصر واضرب

__________________

(١) كامل ابن الأثير ، ج ٤ ص ١٤ ؛ وتاريخ الطبري ، ج ٦ ص ٢١٣.

(٢) اللهوف على قتلى الطفوف ، ص ٣١.

(٣) مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ٢١٣.

٤٩٣

أنت عنقه بيدك ، ليكون ذلك أشفى لصدرك. قال : فأصعد مسلم إلى أعلى القصر وهو يسبّح الله ويستغفره ويهلله ويكبّره(١) ويقول : الله م احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا وكذّبونا. وتوجه نحو المدينة وسلّم على الحسينعليه‌السلام (٢) .

وأشرف به الشامي على موضع الحذّائين ، وضرب عنقه ، ورمى برأسه وجسده إلى الأرض(٣) .

٥٧٧ ـ تاريخ خروج مسلم وقتلهعليه‌السلام :

(في تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ، ص ٢٥٦ ط ٢ نجف) :

قال هشام : وخرج الحسينعليه‌السلام من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة. وكان يوم التروية في اليوم الّذي خرج فيه مسلم بن عقيل بالكوفة.

(وفي لواعج الأشجان ، ص ٧٠) : أن استشهاد مسلم كان يوم عرفة ، لتسع خلون من ذي الحجة على رواية المفيد ، (وفي رواية) يوم التروية(٤) لثمان مضين منه.

ترجمة مسلم بن عقيلعليه‌السلام

هو ابن عقيل بن أبي طالب. كان شجاعا باسلا وهماما حازما. صدق فيه قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لله درّ أبي طالب لو ولد الناس كلهم لكانوا شجعانا».وقال فيه الحسينعليه‌السلام يخاطب أهل الكوفة : «وأنا باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل». وما يمنعه أن يكون كذلك وإنه في الصميم من هاشم ، والذروة من بني عمرو العلى ، والقلب من آل عبد مناف؟!.

__________________

(١) تاريخ الطبري ، ج ٦ ص ٢١٣.

(٢) أسرار الشهادة للفاضل الدربندي ، ص ٢٥٩.

(٣) مثير الأحزان لابن نما ، ص ١٨.

(٤) سمّي اليوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء من منى ، ويخرجون إلى عرفات.

٤٩٤

تابع : ترجمة مسلم بن عقيل

وقال السيد الميانجي في (العيون العبرى) ص ٤٦ و ٤٧ :

كان خروج مسلم بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مضين من ذي الحجة ، وقتل يوم الأربعاء يوم عرفة لتسع خلون منه سنة ستين. وكان له من العمر يوم استشهد ما يناهض الستين. وما في بعض الكتب من أنهعليه‌السلام كان يوم قتل ابن ثمانية وعشرين ليس في محله كما هو واضح.

وقال : أمه أم ولد تسمى (عليّة) اشتراها عقيل من الشام ، وكان مسلم صهرا لأمير المؤمنينعليه‌السلام لبنته (رقيّة).

وكفى في فضله وجلالته إرسال الحسينعليه‌السلام إياه سفيرا ورسولا إلى أهل الكوفة.

وفي (أمالي الصدوق) عن ابن عباس ، قال عليعليه‌السلام : يا رسول الله ، إنك لتحبّ عقيلا؟. قال : إي والله ، إني لأحبه حبّين : حبا له ، وحبا لحب أبي طالب له ، وإن ولده لمقتول في محبة ولدك ، فتدمع عليه عيون المؤمنين ، وتصلي عليه الملائكة المقربون. ثم بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى جرت دموعه على صدره. ثم قال : إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي.

ولم أعثر تحقيقا لعدد أولاده ، والذي ثبت منهم : عبد الله بن مسلم قتل في الطف ، ومحمد بن مسلم أمه أم ولد قتل بعد أخيه عبد الله ، وبنت لها إحدى عشرة أو ثلاث عشرة سنة ، كانت مع أهلالبيت ومع بنات الحسينعليهم‌السلام في سفر كربلاء.

وأما الغلامان الصغيران اللذان قتلا في الكوفة بعد الوقعة ، فقد ذهب بعض أرباب المقاتل إلى أنهما كانا من ولد مسلم بن عقيل ، وأنهما بقيا سنة في السجن ثم قتلا (نقلا عن أمالي الشيخ الصدوق) لكنه مما لا يساعده الاعتبار. والذي ذهب إليه العلامة المجلسي في (البحار) أنهما من ولد جعفر الطيارعليه‌السلام .

٤٩٥

٥٧٨ ـ قصة إنجاب عقيل لمسلم بن عقيل من (عليّة):

(إبصار العين للشيخ السماوي ، ص ٤٠)

روى المدائني (قال) قال معاوية بن أبي سفيان لعقيل بن أبي طالب يوما : هل من حاجة فأقضيها لك؟. قال : نعم ، جارية عرضت عليّ ، وأبى أصحابها أن يبيعوها إلا بأربعين ألفا.

فأحبّ معاوية أن يمازحه ، فقال : وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفا وأنت أعمى؟!. تجتزئ بجارية قيمتها أربعون درهما!. فقال عقيل : أرجو أن أطأها فتلد لي غلاما ، إذا أغضبته ضرب عنقك بالسيف!. فضحك معاوية ، وقال : مازحناك يا أبا يزيد. وأمر فابتيعت له الجارية ، التي أولد منها مسلما.

ولما مات عقيل تخاصم مسلم مع معاوية في أرض بالمدينة ، فامتنع معاوية عن ردّها ، فقال له مسلم : أما دون أن أضرب رأسك بالسيف فلا. فاستلقى معاوية ضاحكا يضرب برجليه ، ويقول له : يا بني ، هذا والله ما قاله لي أبوك حين ابتاع أمّك!.

شهادة هانئ بن عروة (رض)

٥٧٩ ـ إخراج هانئ بن عروة رضي الله عنه للقتل :

(لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٥٩ ط نجف)

ثم أمر ابن زياد بهانئ بن عروة أن يخرج فيلحق بمسلم بن عقيل. فقام محمّد بن الأشعث إلى عبيد الله بن زياد فكلمه في شأن هانئ بن عروة ، فقال : إنك قد عرفت منزلة هانئ في المصر وبيته في العشيرة ، وقد علم قومه أني وصاحبي سقناه إليك ، وأنشدك الله لما وهبته لي ، فإني أكره عداوة المصر وأهله. فوعده أن يفعل.

ثم بدا له [أي بدا له شيء جعله يغيّر رأيه] وأمر بهانئ في الحال ، وقال : أخرجوه إلى السوق ، فاضربوا عنقه.

٤٩٦

٥٨٠ ـ مصرع هانئ بن عروة رضي الله عنه :

(مقتل المقرم ، ص ١٩٠)

ثم أخرج هانئ إلى مكان من السوق يباع فيه الغنم وهو مكتوف ، فجعل يصيح :وامذحجاه ولا مذحج لي اليوم ، واين مني مذحج (يستغيث بقبيلته). فلما رأى أن أحدا لا ينصره جذب يده ونزعها من الكتاف ، وقال : أما من عصا أو سكين أو حجر أو عظم يدافع رجل عن نفسه!. ووثبوا عليه وأوثقوه كتافا. وقيل له : مدّ عنقك ، فقال : ما أنا بها سخيّ ، وما أنا بمعينكم على نفسي ، فضربه بالسيف مولى لعبيد الله بن زياد تركي اسمه (رشيد) فقتله ، وهو يقول : إلى الله المعاد ، الله م إلى رحمتك ورضوانك.

٥٨١ ـ سحل جثتي مسلم وهانئرحمهما‌الله :

(المصدر السابق)

وأمر ابن زياد بسحب مسلم وهانئ بالحبال من أرجلهما في الأسواق(١) وصلبهما بالكناسة منكوسين(٢) . وأنفذ الرأسين إلى يزيد فنصبهما في درب من دمشق(٣) .

وفي مسلم وهانئرحمهما‌الله يقول عبد الله بن الزبير الأسدي :

فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري

إلى هانئ في السوق وابن عقيل

إلى بطل قد هشّم السيف وجهه

وآخر يهوي من طمار قتيل

تري جسدا قد غيّر الموت لونه

ونضح دم قد سال كل مسيل

أصابهما أمر اللعين فأصبحا

أحاديث من يسعى بكل سبيل

شرح : الطمار : بفتح الطاء وكسرها ، المكان المرتفع.

__________________

(١) المنتخب للطريحي ، ص ٣٠١.

(٢) مناقب ابن شهراشوب ، ج ٣ ص ٢١٢ ط إيران ؛ ومقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ٢١٥.والكناسة : ضاحية مندرسة ، كانت كناسة لبني أسد ، أي محل رمي الأنقاض لهذه القبيلة ، عند مخرج الكوفة من الغرب ، ثم أصبحت فيها تجارة النقليات وصناعتها (انظر الشكل ٦) ص ٥٦٠.

(٣) تاريخ أبي الفداء ، ج ١ ص ١٩٠ ؛ والبداية والنهاية لابن كثير ، ج ٨ ص ١٥٧.

٤٩٧

ترجمة هانئ بن عروة رضي الله عنه

كان هانئ بن عروة هو وأبوه من وجوه الشيعة في الكوفة. ويروى أنه كان صحابيا كأبيه. وحضر مع أمير المؤمنين عليعليه‌السلام حروبه الثلاث. وكان من أركان حركة حجر بن عديّ الكندي ضد زياد بن أبيه.

وروى المسعودي أنه كان شيخ مراد وزعيمها ، وكان معمّرا ، ذكر بعضهم أنه عاش ٨٣ سنة ، وقيل بضعا وتسعين سنة. وكان يتوكأ على عصا بها زجّ ، وهي التي ضربه ابن زياد بها لما أحضر عنده ، حتّى هشّم أنفه وجبينه. وكان مقتله يوم التروية سنة ٦٠ ه‍ ، في نفس اليوم الّذي قتل فيه مسلم بن عقيل رضوان الله عليهما.

٥٨٢ ـ دفن جثتي مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة رضي الله عنهما :

(وسيلة الدارين في أنصار الحسين لابراهيم الزنجاني ، ص ٢٠٩)

قال الثعلبي : بقيت تلك الجثة الطاهرة على وجه الأرض من غير غسل ولا كفن.ولما دجى الليل ونامت كل عين ، شدّت زوجة ميثم التمّار على نفسها ، وخرجت إلى الكنائس ، وحملت مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وحنظلة بن مرة إلى دارها.ولما انتصف الليل ونامت كل عين حملتهم إلى جنب المسجد الأعظم [مسجد الكوفة] ودفنتهم بدمائهم ، ولم يعلم بها أحد إلا زوجة هانئ ابن عروة ، لأنها كانت في جوارها.

٥٨٣ ـ كتاب من ابن زياد إلى يزيد مع رأسي مسلم وهانئ رضي الله عنهما :

(مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم ، ص ١٩١ ط ٣ نجف)

وبعث ابن زياد برأس مسلم بن عقيل إلى يزيد ، وهو أول رأس حمل من رؤوس بني هاشم ، وجثة مسلم أول جثة صلبت منهم.

وكتب إليه : أما بعد ، فالحمد لله الّذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه ، وكفاه مؤونة عدوه. أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله : أن مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي ، وأني جعلت عليهما العيون ودسست إليهما الرجال ، وكدتهما حتّى

٤٩٨

استخرجتهما ، وأمكن الله منهما ، فقدمتهما فضربت أعناقهما. وقد بعثت إليك برأسيهما والسلام.

٥٨٤ ـ ردّ يزيد على كتاب ابن زياد ، وشكره على صنيعه :

(تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ، ص ٥٢٦)

فكتب إليه يزيد يشكره ويقول : قد عملت عمل الحازم ، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش. وقد صدق ظني فيك. وبلغني أن الحسين قد توجه إلى العراق ، فضع له المناظر والمسالح ، واحترس منه ، واحبس على الظنّة ، وخذ على التهمة.واكتب إليّ في كل ما يحدث من خير وشر ، والسلام.

مصرع عبد الأعلى ابن يزيد الكلبيرحمه‌الله

٥٨٥ ـ مقتل عبد الله بن يزيد الكلبي :

(أنصار الحسين للشيخ محمّد مهدي شمس الدين ، ص ١٢٢ ط ٢)

عبد الأعلى الكلبي شاب كوفي ، ممن بايعوا مسلم بن عقيل. لبس سلاحه حين أعلن مسلم تحركه ، بعد القبض على هانئ بن عروة ، وخرج من منزله ليلحق بمسلم في محلة بني فتيان ، فقبض عليه كثير بن شهاب بن الحصين الحارثي من مذحج.وكان كثير قد استجاب لعبيد الله بن زياد حين أمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج ، فيخذّل الناس عن مسلم بن عقيل.

فأخذ كثير بن شهاب الشابّ عبد الأعلى بن يزيد الكلبي ، فأدخله على عبيد الله بن زياد. فقال عبد الأعلى لابن زياد : إنما أردتك ، فلم يصدّقه. وأمر به فحبس (راجع تاريخ الطبري ، ج ٥ ص ٣٦٩).

ثم إن عبيد الله بن زياد لما قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، دعا بعبد الأعلى الكلبي ، فأتي به. فقال له : أخبرني بأمرك. فقال : أصلحك الله ، خرجت لأنظر ما يصنع الناس ، فأخذني كثير بن شهاب. فقال له : فعليك وعليك من الأيمان المغلظة ، إن كان أخرجك إلا ما زعمت!. فأبى أن يحلف. فقال عبيد الله : انطلقوا

٤٩٩

بهذا إلى جبانة السبيع فاضربوا عنقه بها. فانطلقوا به فضربت عنقهرحمه‌الله (راجع تاريخ الطبري ، ج ٥ ص ٣٧٩).

مصرع عمارة ابن صلخب الأزديرحمه‌الله

٥٨٦ ـ مقتل عمارة بن صلخب الأزدي :(المصدر السابق)

عمارة بن صلخب شاب كوفي ، كان قد خرج لنصرة مسلم بن عقيل حين بدأ تحركه ، فقبض عليه وحبس. ثم دعا به عبيد الله بن زياد بعد أن قتل مسلم ابن عقيل وهانئ بن عروة ، فأرسله إلى قبيلته من الأزد (وهم من أكبر أنصاره) فقتله في قومه رضوان الله عليه.

(أقول) : هذان نموذجان حيّان من شبان كثيرين من أهل الكوفة ، قاموا بدافع من شبابهم الغض لينصروا الحق ، فأخذهم ابن زياد اللعين وأعدمهم ، دون أن تصلنا أخبارهم.

٥٨٧ ـ حبس المختار بن أبي عبيدة الثقفي :

(مقتل المقرم ص ١٨١)

وفي يوم مقتل مسلمعليه‌السلام حبس ابن زياد المختار بن أبي عبيدة الثقفي لخروجه مع مسلم(١) .

وكان المختار عند خروج مسلم في قرية له تدعى خطوانية (وهي ناحية في بابل العراق) فجاء بمواليه يحمل راية خضراء ، ويحمل عبد الله بن الحارث راية حمراء ، وركز المختار رايته على باب عمرو بن حريث ، وقال : أردت أن أمنع عمرو(٢) .

ووضح لهما قتل مسلم وهانئ ، وأشير عليهما بالدخول تحت راية الأمان عند عمرو بن حريث ، ففعلا. وشهد لهما ابن حريث باجتنابهما مسلم بن عقيل. وأمر

__________________

(١) الكامل في التاريخ لابن الأثير ، ج ٣ ص ٣٦٨.

(٢) تاريخ الطبري ، ج ٦ ص ٢١٥.

٥٠٠

عامّة فقال سبحانه:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ إلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة / ٨ ).

هذا وقد دلّت ـ على تشريع هذا الجهاد ـ مضافاً إلى ما ذكر من الآيات، أحاديث وروايات متضافرة نأتي ببعضها:

قال الإمام عليٌّعليه‌السلام :

« الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه

هو لباس التقوى ودرع الله الحصينة، وجنّته الوثيقة »(١) .

وقال الإمام أبو جعفر الباقرعليه‌السلام :

« الجهاد الذي فضّله الله على الأعمال وفضّل عامله على العمّال تفضيلاً في الدرجات والمغفرة لأنّه ظهر به الدين، وبه يدفع عن الدين »(٢) .

إلى غير ذلك من الأحاديث المذكورة في المصادر المعتبرة.

ثمّ إنّ من يجب جهادهم على نحو الدفاع ثلاث طوائف:

١ ـ البغاة على الإمام من المسلمين، كالخوارج الذين خرجوا على الإمام عليّعليه‌السلام مثلاً.

٢ ـ أهل الذمّة، وهم اليهود والنصارى والمجوس إذا أخلّوا بشرائط الذمّة.

٣ ـ من ليس لهم كتاب إذا قاموا بمؤامرة ضد المسلمين.

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ٢٧.

(٢) في هذا الحديث إشارة إلى كلا النوعين من الجهاد ( الدفاعي والتحريري ) فقولهعليه‌السلام : لأنّه ظهر به الدين، إشارة إلى الثاني، وقولهعليه‌السلام : وبه يدفع عن الدين، إشارة إلى الأوّل.

٥٠١

هذه هي لمحةٌ خاطفة عن حقيقة الجهاد الدفاعي ودوافعه وخصائصه، وأمّا معرفة مسائله وفروعه وأحكامه التفصيليّة فمتروكة إلى الكتب الفقهية المفصّلة(١) .

* * *

الجهاد التحريري ( الإبتدائي )

لقد شرع الإسلام ـ إلى جانب الجهاد الدفاعي ـ نوعاً آخر من الجهاد، هو الجهاد الإبتدائي الذي يجدر أن يسمّى بالجهاد التحريري.

وتتلخّص دوافع هذا النوع من الجهاد في اُمور عديدة نشير إلى ثلاثة منها، تاركين للقارئ الكريم مراجعة الكتب الفقهية المطوّلة المفصّلة لمعرفة بقيّة هذه الدوافع، والأسباب.

١ ـ تحرير البشريه من الشرك

إنّ أهم دوافع الجهاد التحريري هو محاربة الوثنيّة والشرك، وتحرير البشريّة من إتّخاذ أي معبود سوى الله.

فالإسلام يأمر بعبادة الله وحده، وينهي عن اتّخاذ أي معبود سواه.

يقول الله سبحانه:

( وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَٰهًا آخَرَ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ ) ( القصص / ٨٨ ).

وهي حقيقة تدركها الفطرة البشرية السليمة ولكن هذه الفطرة قد تنحرف وتحيد عن مسيرها الصحيح بفعل المؤثّرات والدعايات وتضليل المضلّلين.

وهنا يفرض الدين على أتباعه أن يجاهدوا لتحرير العقول من قيودها، وتخليص الفطرة الإنسانية المنحرفة من براثن الوثنيّة بكل وسيلة ممكنة.

__________________

(١) شرائع الإسلام، كتاب الجهاد، الركن الثاني ـ مع شروحه ‍.

٥٠٢

وليس هذا ممّا يخالف حرية الإنسان في اتّخاذ المعتقد الذي يريد، لأنّ الحرية ليست مطلوبة على إطلاقها.

ثمّ إنّ تخليص البشرية من براثن الوثنية إنّما هو خدمة للبشرية وإحياء لها، وإنقاذاً لشخصيّتها من ذلّ الخضوع تجاه الموجودات الحقيرة.

وهذا أمر ضروري حتّى إذا لم يدرك البشر أهمّيته، أو امتنع من قبوله تمشّياً مع هواه.

فلو أنّ وزارة الصحّة ـ مثلاً ـ أرادت تلقيح الناس باللقاح الصحّي ضد مرض داهم، أو وباء قادم، لزم على الجميع قبول هذا الأمر، ولم يكن لأحد الامتناع عن ذلك بحجّة أنّه حرّ لا يجوز إكراهه على شيء.

فلا تسمع منه هذه الحجّة، ولا يقبل منه هذا الرفض، حفاظاً على الصحّة العامّة وصيانة للمجتمع من العدوى.

ويعتبر هذا الإكراه والإلزام بهذا الأمر العقلائي رحمة له، ولطفاً به لا ظلماً وعدواناً.

إنّ عبادة الوثن تجعل عابد الوثن أذل من الصنم الذي نحته بيديه وإلى ذلك يشير سبحانه ـ مستنكراً ـ:( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) ؟ ( الصافّات / ٩٥ ).

ثمّ إنّ الخضوع للوثن يوجب إنحطاط الفكر الإنساني ووقوعه في الخرافات التي هي بمثابة القيود والأغلال للفكر البشري، تمنعه عن الانطلاق في مدارج الرقي والتكامل، وتحجز النفس الإنسانية من نموّ الفضائل والسجايا الخلقية الكريمة.

هذا مضافاً إلى أنّ عبادة الأوثان والأصنام توجد اختلافاً وتحزّباً بين البشر، وتفرّق وحدته، وتمزّق صفّه إذ كل جماعة تتّخذ وثناً خاصّاً تعبده وتتمسّك به، وتنفي سواه، وفي ذلك ضرر عظيم على حياة البشرية لا يقلّ عن خطر الطاعون والوباء، وفي ذلك يقول الله حاكياً عن لسان يوسف:

( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف / ٣٩ ).

٥٠٣

ولهذا يرى الإسلام محاربة هذا الوباء الفكري، واقتلاعه من الجذور.

ومن هنا أقدم الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عند فتحه « مكّة » على كسر الأصنام الموضوعة في البيت الحرام، وأمر كل صاحب وثن أن يحطّم وثنه، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يفعل ذلك كلّما فتح منطقة من مناطق الجزيرة(١) .

نعم صحيح أنّ للتبليغ والدعوة أثراً لا ينكر في إيقاظ الأفكار، وفكّها من أسارها، بيد أنّه أثر محدود لا يعرفه إلّا الزمر الواعية، المثقّفة، القادرة على إستيعاب التوجيهات والمواعظ.

ولأجل ذلك يجب على إمام المسلمين قبل نشوب الحرب بين المسلمين وأعدائهم أن يدعو الكفّار والأعداء إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ويبالغ في إيقاظهم وتوعيتهم ودعوتهم وإتمام الحجّة عليهم.

قال صاحب شرائع الإسلام:

« ولا يبدأون إلّا بعد الدعاء إلى محاسن الإسلام ويكون الداعي الإمام أو من نصّبه »(٢) .

وقد دلّت على ذلك من السنّة روايات متضافرة منها ما ورد عن السكوني عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : قال: قال أمير المؤمنينعليه‌السلام :

بعثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليمن فقال: يا عليُّ لا تقاتلنّ أحداً حتّى تدعوه إلى الإسلام، والله لئن يهدينّ الله على يديك رجلاً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا عليّ »(٣) .

وعن عليٍّعليه‌السلام أنّه قال:

__________________

(١) سيرة ابن هشام: ج ٢ ص ١٤٣.

(٢) شرائع الإسلام، كتاب الجهاد، الركن الثاني.

(٣) مستدرك الوسائل: ج ١١ الباب ٩ من أبواب جهاد العدو الحديث ١.

٥٠٤

« لا يغزَ قوم حتّى يدعوا »(١) .

وعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال:

« لا تقاتل الكفّار إلّا بعد الدعاء »(٢) .

وقد سئل الإمام زين العابدين عليّ بن الحسينعليهما‌السلام عن كيفيّة الدعوة إلى الدين:

فقال: تقول: « بسم الله الرحمن الرحيم ـ أدعوك إلى الله عزّ وجلّ وإلى دينه وجماعه أمران: أحدهما: معرفة الله عزّ وجلّ والآخر: العمل برضوانه، وإنّ معرفة الله عزّ وجلّ أن يعرف بالوحدانية والرأفة والرحمة والعزّة، والعلم والقدرة والعلوّ على كل شيء، وأنّه النافع الضار القاهر لكل شيء الذي لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وإنّ ما جاء به هو الحق من عند الله عزّ وجلّ وما سواه هو الباطل ».

فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين(٣) .

وعن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال:

« أوّل حدود الجهاد الدعاء إلى طاعة الله من طاعة العباد، وإلى عبادة الله من عبادة العباد وإلى ولاية الله من ولاية العباد »(٤) .

بل ولو أنّ أحداً من المشركين إستأمن وأراد أن يسمع كلام الله اُعطي الأمان، ثمّ اُعيد إلى مأمنه، سواء كان قبل نشوب الحرب أو في أثنائه.

قال الله سبحانه:

( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ

__________________

(١) و (٢) مستدرك الوسائل: ج ١١ الباب ٩ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢، ٣.

(٣) وسائل الشيعة: ج ١١ ص ٣١، باب كيفية الدعاء إلى الإسلام من أبواب الجهاد.

(٤) وسائل الشيعة: ج ١١ ص ٧.

٥٠٥

ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ) ( التوبة / ٦ ).

غير أنّ الدعوة والتبليغ ربّما تؤثّر في بعض الأشخاص ولا تؤثّر في آخرين، خصوصاً إذا كان الدين يهدّد مصالحهم ومطامعهم ولذلك وجبت محاربتهم إذ لا يكون الخير والإصلاح حينئذٍ إلّا بالسيف، ومنطق القوّة:

وإلى هذا أشار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله:

« الخير كلّه في السيف، وتحت ظلال السيف، ولا يقيم الناس إلّا السيف »(١) .

فرض العقيدة ممنوع

قد يتوهّم الجاهل بمعالم الدين الإسلامي وأحكامه أنّ الهدف من الجهاد التحريري إنّما هو فرض العقيدة الإسلامية على الناس فرضاً.

ولكن هذا ظنّ واضح البطلان معلوم الضعف لمن له معرفة بطبيعة الدعوة الإسلامية.

فإنّ الإسلام الذي يشجب ويستنكر على بعض الناس اتّباعهم لعقائد آبائهم وأجدادهم الباطلة، كيف يجوّز لأتباعه أن يحملوا الناس على العقيدة الإسلامية دون أن يسمحوا لهم بأن يفكّروا ويحقّقوا ويفتّشوا عن المعتقد الحق، ليعتنقوه بالبرهان والدليل ؟

إنّ اعتناق العقيدة أي عقيدة يجب أن يكون حسب نظر الإسلام قائماً على أساس البحث والفحص والتحقيق ومرتكزاً على البرهان والدليل، ولذلك فهو يقبح اتّباع السلف دون مراجعة لعقائدهم، وتحقيق في صحّتها أو بطلانها إذ قال سبحانه:

( وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا

__________________

(١) وسائل الشيعة: ج ١١ ص ٥.

٥٠٦

عَلَىٰ أُمَّةٍ ( أي طريقة )وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ *قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ *فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ) ( الزخرف / ٢٣ ـ ٢٥ ).

وقال سبحانه:

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ) ( البقرة / ١٧٠ ).

وبتعبير آخر: إنّ الإسلام ذمّ التقليد في الاُصول والعقائد والجري على سنن الآباء والأجداد بلا تأمّل ولا تدبّر، وطالب بالتفكّر والتعقّل فكيف يأمر أتباعه بأن يفرضوا العقيدة الإسلامية على الآخرين بقوّة النار والحديد.

كيف وقد صرّح بحرية الإعتقاد بقوله سبحانه:

( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) ( البقرة / ٢٥٦ ).

إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ الإختلاف الفكري، والتنافس الإيديولوجي أمر غريزي طبيعي، ولذلك فهو باق إلى يوم القيامة ولا يمكن إزالته من رأس، ولا يصحّ إلغاؤه بالمرّة.

قال سبحانه:

( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ( هود / ١١٨ ).

إنّ القرآن الكريم ينهي الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عن فرض العقيدة الإسلامية على الناس لأنّ الله شاء لهم أن يكونوا أحراراً في ذلك وهو في الوقت نفسه يعطينا درساً في مجال التبليغ والدعوة يجب أن نسير على ضوئه، فيقول:

( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( يونس / ٩٩ ).

٥٠٧

إذن فلم يكن الجهاد التحريري في مجال ( تحرير البشريّة من الشرك ) بفرض العقيدة على الناس أو حملهم على الخضوع لمنهج الدين دون اختيار منهم أو إرادة حرّة، بل هناك دواع وعلل للجهاد التحريري وهي التي نتلوها عليك.

٢ ـ كسر الموانع المفروضة على الشعوب

إنّ هناك داعياً آخر لتشريع عنوان الجهاد التحريري وهو وضع الاغلاق المفروضة على الشعوب، وإسقاط الحكومات التي تمنع من وصول الإسلام إلى الناس وتقيم سدوداً بينهم وبين العقيدة الحقّة وتسلب حريّاتهم، وتكرههم على اتّخاذ عقيدة خاصّة، والمشي على حسب منهج خاص وإن كانوا لا يرتضونه.

وبهذا يكون الجهاد التحريري لرفع الموانع والحواجز المانعة عن وصول العقيدة الحقّة إلى الناس، وتحريرهم من تلك القيود حتى يمكنهم اختيار الدين الإسلامي بعد الاطّلاع على محاسنه، وتبليغ معالمه إليهم.

٣ ـ تخليص المستضعفين من الظالمين:

إنّ الهدف الثالث من أهداف الجهاد التحريري هو إنقاذ الشعوب من اضطهاد الحكّام الجائرين، واستبدادهم وظلمهم.

فهو إذن شُرّع لتحرير المستضعفين وتخليصهم من عسف الحكّام، وكبتهم، وحيث إنّ هذا الهدف لا يتحقّق إلّا باستخدام القوّة وحمل السلاح والمقاتلة والغزو إتّخذ الإسلام طريق الجهاد، فقال القرآن الكريم:

( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ) ( النساء / ٧٥ ).

٥٠٨

وقد وردت الإشارة إلى هذا الهدف في تصريحات بعض المسلمين الذين خرجوا لفتح البلاد وإنقاذ المستضعفين من حكّامهم الجائرين قال: إنّ سعد بن أبي وقاص أرسل ربعي بن عامر ليكلّم قائد القوات الفارسية فلمّا دنا من « رستم » جلس على الارض وركّز رمحه على البسط فقال له: ما حملك على هذا ؟ قال: إنّا لا نستحب القعود على زينتكم، فقال له ترجمان رستم واسمه « عبود » من أهل الحيرة: ما جاء بكم ؟ قال: الله جاء بنا وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الاسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه، فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه دوننا، ومن أبىٰ قاتلناه حتى نفضي إلى الجنّة أو الظفر(١) .

إذن لم يكن تشريع هذا الجهاد لفرض الاستيلاء على الأراضي، أو بهدف السيطرة على منابع الثروة، أو استعمار الشعوب كما هو هدف الحروب غير الإسلامية في الماضي والحاضر.

كما أنّ الإسلام ينهي عن العدوان لبعض الأسباب التي تعود إلى المسائل الشخصية، والقضايا الفردية، التي لا تنطوي على مصلحة الإسلام والمسلمين الكلّية ...، وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم:

( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ) ( المائدة / ٢ ).

وبما أنّ الجهاد التحريري ينطوي على أحكام دقيقة، وظرفية، لا يعرفها إلّا الإمام العادل العارف بالدين، والعالم بالظروف لم يجز أن يقوم المسلمون بهذا الجهاد إلّا بقيادة ( إمام معصوم ) أو من ينوب منابه في السلطة الدينية والزمنية، نعم في مشروعية الجهاد التحريري في غياب الإمام المعصوم بحث مفصّل، فلاحظ الكتب الفقهية.

__________________

(١) الكامل لابن الأثير: ج ٢ ص ٣٢٠ حوادث عام ١٤ من الهجرة النبوية.

٥٠٩

وإلى هذا أشار الإمام الصادقعليه‌السلام بقوله:

« والجهاد واجب مع إمام عادل »(١) .

نعم هناك كلمة أخيرة على هامش كلا الجهادين وهي:

إنّه يجب على الدولة الإسلامية ـ قبل نشوب أيّة حرب ـ إعداد المسلمين وتجهيزهم بكل ما تستطيع من أنواع القوّة الحربية في كل زمان بحسبه، على أن يكون القصد الأوّل من ذلك هو إرهاب العدو، وإخافته من عاقبة التعدّي على بلاد الاُمَّة الإسلامية أو مصالحها، أو على أفراد منها، أو متاع لها حتى في غير بلادها، لأجل أن تكون آمنة في عقر دارها مطمئنّة على أهلها ومصالحها وأموالها، ولكي تحظىٰ بالإحترام اللائق بها في الساحة الدولية، إذ يقول القرآن الكريم:

( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ) ( الأنفال / ٦٠ ).

ويبقى أن نقول: إنّ القتال والنضال بما هو هو ليس أمراً قبيحاً وإنّما يصطبغ بالحسن أو القبح بالغايات المحدّدة للقتال والنضال.

فلو كان القتال والنضال بهدف الاعتداء والتجاوز على النفوس والأعراض والأموال والحرمات فيكون القتال أمراً منكراً، ويعد وحشيّة همجيّة، ويكون المباشر له حيواناً ضارياً تلبّس بالإنسانية.

وإذا كان القتال لحفظ الشرف والإنسانية ومنع المعتدين عن الإعتداء، وغير ذلك من الأهداف المشروعة المذكورة سلفاً، فلا يكون قبيحاً بل يعتبر وظيفة إنسانية.

هذه دراسة عابرة عن الجهاد التحريري حقيقة وأهدافاً وفلسفة، والتفصيل موكول إلى محلّه في الكتب الفقهية المفصّلة. وأمّا الأدب فإليك البيان.

__________________

(١) وسائل الشيعة: ج ١١ ص ٣٥.

٥١٠

رعاية الأخلاق في الحرب

إنّ وقائع الحروب تشهد بأنّ الجبابرة والطواغيت ينسون ـ عند نشوب الحروب ـ كل القيم الإنسانية، والاُصول الأخلاقية، فيرتكبون كل جريمة، ويقترفون كل جناية دون أن يردعهم عن ذلك رادع، أو يتقيّدوا في القتال بقانون.

وليس هذا أمر يتّصل بالماضي، فساحات المعارك اليوم، وما تشهده من فظائع، خير دليل على ما ذكرناه.

صحيح أنّ هناك أعرافاً دولية، وقوانين عالمية للحروب، ولكن من الصحيح أيضاً أنّ رعاية هذه القوانين والأعراف ضئيلة، أو كادت أن تكون مفقودة أصلاً.

هذا مضافاً إلى أنّ هذه القوانين والأعراف لا تكون ـ في الأغلب ـ شاملة، أو كافية.

غير أنّ الإسلام سنّ للحرب والقتال حدوداً دقيقة من شأنها أن تجعل الحرب في إطار الأخلاق والقواعد الإنسانية ولم يكتف بمجرّد تشريعها ووضعها، بل عمل بها في كافة حروبه ووقائعه.

من هنا يجب علينا أن نقف على هذه الحدود، لنتعرّف على مدى رحمة الإسلام وإنسانيّته، وعدالته، حتى في الحروب حيث يفقد المقاتلون توازنهم عادة، فلا يتورّعون عن ارتكاب كل كبيرة وصغيرة، وتشهد على ذلك الحروب العالميّة وخاصّة ( الاُولى والثانية )، وكذا الحروب التي شنّها الغرب على الشرق في مختلف المناطق في القرن الحاضر، ونخصّ بالذكر المعارك الدامية بين الإستعمار الفرنسي، والشعب الجزائري البطل، والإستعمار الأمريكي والشعب الفيتنامي، والإستعمار الإسرائيلي والشعب الفلسطيني، وما جرى في هذه الحروب من الممارسات الوحشيّة المروّعة على يد هذه القوى الإستعمارية.

٥١١

١ ـ الآمنون في الحرب

لـمّا كانت العدالة الإجتماعية هي المطلب الأقصى للإسلام، ولم تكن للحرب أصالة في منطقه، ولم تكن بنفسها هدفاً بل شرّعت لدفع المعتدين وإزالتهم عن طريق الدعوة الحقّة، اقتضى ذلك كلّه أن لا يهاجم إلّا على الظالمين ولذا قال القرآن الكريم:

( فَلا عُدْوَانَ إلّا عَلَى الظَّالِمِينَ ) ( البقرة / ١٩٣ ).

ولأجل ذلك نهى الإسلام عن قتل طائفة من الناس إذا لم يكونوا يساندون الأعداء الظالمين ولا يقاتلون، وهؤلاء هم:

١ ـ النساء.

٢ ـ الولدان.

٣ ـ المجانين.

٤ ـ الأعمى.

٥ ـ الشيخ الفاني.

٦ ـ المقعد.

وقد دلّت على ذلك أحاديث متضافرة منها ما عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال:

« نهى رسول الله عن قتل المقعد والأعمى والشيخ الفاني والمرأة والولدان في دار الحرب »(١) .

٢ ـ تمالك النفس

لا ريب أنّ الحرب سبب قوي لغليان المشاعر وارتفاع سورة الغضب إلى

__________________

(١) فروع الكافي: ج ٥ ص ٢٨ ح ٦.

٥١٢

أقصاه ولهذا ربّما يؤدّي إلى ارتكاب أقسى ألوان الجريمة في حقّ الخصم.

ومن هنا يجب أن يعطى زمام الحرب للعقل لا للمشاعر الملتهبة، والأحاسيس المشتعلة.

ولقد أعطى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تعاليم كلّية في الحرب، كان يوصي بها كل جيش يبعثه، وكل سرية يرسلها.

وإليك فيما يأتي نموذجاً من الأحاديث التي أدّب فيها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام المجاهدين والمقاتلين بآداب، وتعاليم خاصة، تكفل إنسانية الحروب وعدالتها.

عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّه قال:

« كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثمّ يقول:

سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، لا تغلوا، ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلّا أن تضطرّوا إليها.

وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار، حتّى يسمع كلام الله فإن تبعكم، فأخوكم في الدين، وإن أبىٰ فابلغوه مأمنه، واستعينوا بالله »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنّه قال:

إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا بعث أميراً له على سرية أمره بتقوى الله عزّ وجل في خاصّة نفسه، ثمّ في أصحابه عامّة، ثمّ يقول:

اُغز باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً، ولا متبتّلًا في شاهق، ولا تحرقوا النخل ولا تغرقوه بالماء ،

__________________

(١) وسائل الشيعة: ج ١١ ص ٤٣.

٥١٣

ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعاً لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه. ولا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلّا ما لابدّ لكم من أكله، وإذا لقيتم عدوّاً للمسلمين فادعوهم الخ الحديث »(١) .

بل ونص بعض الفقهاء على أنّ المرأة لا تقتل حتّى لو كانت تعاون الأعداء، لأنّ النساء مستضعفات غالباً، وهنّ يرغمن على القيام بمثل هذا التعاون إرغاماً.

قال المحقّق الحلّي في المختصر النافع:

« ولا تقتل نساؤهم ولو عاون إلّا مع الإضطرار »(٢) .

وهذا يجسّد منتهى الرحمة والإنسانية التي يتحلّى بها الدين الإسلامي.

وقد جاء في غزوة بدر أنّ عمر بن الخطاب قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

يا رسول الله دعني أنزع ( أقلع ) ثنيّتي سهيل بن عمرو، ويدلع لسانه ( وكان سهيل خطيباً يهرّج ضد النبي ) فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« لا اُمثّل به فيمثّل الله بي وإن كنت نبيّاً »(٣) .

إنّ المقارنة بين هذه التعاليم والمواقف الإسلامية والجنايات والجرائم الوحشية التي ارتكبتها الدول الكبرى في مستعمراتها كالجزائر وفيتنام وغيرهما، توقفنا على إنسانيّة الدين الإسلامي ورحمته في الحرب.

__________________

(١) وسائل الشيعة: ج ١١ ص ٤٤.

(٢) المختصر النافع، كتاب الجهاد ص ١١٢ طبع القاهرة.

(٣) سيرة ابن هشام: ج ٢ ص ٦٤٢.

٥١٤

٣ ـ منع ممارسة الأساليب الوحشية

إنّ الإسلام يحرّم إهلاك العدو بالطرق غير الإنسانية مثل إلقاء السم في الماء أو قطعه عنهم، أو إرساله على مُخيّمهم لغرقهم، أو حرقهم بالنار.

وفي ذلك يقول المحقّق الحلّي في المختصر النافع:

« ويجوز المحاربة بكل ما يرجى به الفتح »(١) .

ثمّ قال:

« ويكره يإلقاء النار، ويحرم بإلقاء السم »(٢) .

وقال العلّامة الحلّي في تبصرة المتعلّمين:

« ويجوز المحاربة بسائر أنواع الحرب، إلّا إلقاء السم في بلادهم »(٣) .

ثمّ ها هو الإمام عليٌّعليه‌السلام في صفّين بعد الإستيلاء على الشريعة لا يمنع جيش معاوية عن الماء، وإن كان معاوية قد فعل ذلك من قبل(٤) .

إلى هذه الدرجة الرفيعة من الرحمة والشفقة تبلغ رحمة الإسلام، بينما لا تتورّع الدول الكبرى عن قصف الشعوب المقهورة بقنابل النابالم، وغيرها من الوسائل والأدوات الحربية الفتّاكة المروّعة.

ومن الذي لا يمكن أن ينسىٰ ما فعلته الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية حينما قصفت هيروشيما، وناكازاكي بالقنابل الذريّة، فأبادت ما يقارب نصف مليون، وحذف ذينك البلدين من الخريطة الجغرافية بحجّة التعجيل في إنهاء الحرب، كما قال ترومن رئيس الجمهوريّة الأمريكي الأسبق عام ١٩٤٥ م ؟

__________________

(١) و (٢) المختصر النافع، كتاب الجهاد: ص ١١٢.

(٣) تبصرة المتعلّمين: كتاب الجهاد ص ٨١.

(٤) راجع وَقْعة صفّين لابن مزاحم: ص ١٦٦ ـ ١٦٧ ( طبعة مصر ).

٥١٥

٤ ـ أمان الكفّار:

إنّ الإسلام ـ بحكم كونه رسالة إلهية ودعوة سماويّة لهداية الإنسان ـ يحرص على دخول الأفراد في صفوف أتباعه، والإنضواء تحت لوائه عن رغبة وإرادة.

ولتحقيق هذا الهدف الأسمى نجد الإسلام يسمح بإعطاء الأمان لكلّ من يطلب ذلك من الكفّار لكي يسمع منطق الإسلام، ويتعرّف على تعاليمه، سواء كان ذلك عند نشوب الحرب، أو في غير الحرب.

بل إنّ الإسلام يعطي الحق لكلّ مسلم أن يمنح الأمان لمن شاء، ولو كان لغير الهدف المذكور.

قال المحقّق الحلّي في الشرائع:

« ويجوز أن يذمَّ الواحدُ من المسلمين لآحاد من أهل الحرب »(١) .

وقال في المختصر النافع:

« ويذم الواحد من المسلمين للواحد، ويمضي ذمامه على الجماعة ولو كان أدونهم »(٢) .

ثمّ إنّ ما يدلّ على مدى عناية الإسلام وحرصه على الدماء أنّه يجير حتّى من دخل في حوزة المسلمين بشبهة الأمان وظنّه فهو مأمون حتّى يرد إلى مأمنه دون أن يصيبه أذى.

قال المحقّق في الشرائع:

« وكذا كلّ حربي دخل في دار الإسلام بشبهة الأمان كان يسمع لفظاً فيعتقده أماناً، أو يصحب رفقة فيتوهّمها أماناً »(٣) .

__________________

(١) شرائع الإسلام، كتاب الجهاد في الذمام، وراجع الجواهر: ج ٢١ ص ٩٦.

(٢) المختصر النافع، كتاب الجهاد: ص ١١٢.

(٣) الشرائع، كتاب الجهاد: ج ١ ص ٣١٣ ـ ٣١٤.

٥١٦

وقال في المختصر النافع:

« ومن دخل بشبهة الأمان فهو آمن حتّى يردّ إلى مأمنه »(١) .

وتدلّ على هذا أحاديث منها عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال:

« لو أنّ قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان، فقالوا: لا، فظنّوا أنّهم قالوا: نعم، فنزلوا إليهم كانوا آمنين »(٢) .

ومن مظاهر العدل والمساواة أنّ الإسلام يجيز أمان العبد المسلم كما يجيز أمان الحر المسلم سواء بسواء.

ويدلّ على هذا الحكم الإسلامي العظيم روايات عديدة منها ما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام لـمّا سأله السكوني عن معنى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يسعى بذمّتهم أدناهم » قالعليه‌السلام :

« لو أنّ جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين فأشرف رجل، فقال: اعطوني الأمان حتّى ألقى صاحبكم واُناظره فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به »(٣) .

وعن الصادقعليه‌السلام أيضاً أنّه قال:

إنّ عليّاًعليه‌السلام أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون وقال:

« هو من المؤمنين »(٤) .

ولقد روى الجزري في تاريخه الكامل: « إنّ المسلمين نزلوا بجنديسابور فأقاموا عليها يقاتلونهم، فرمي إلى من بها من عسكر المسلمين بالأمان. فلم يفجأ المسلمين إلّا وقد فتحت أبوابها، وأخرجوا أسواقهم، وخرج أهلها، فسألهم المسلمون، فقالوا: رميتم بالأمان، فقبلناه، وأقررنا بالجزية على أن تمنعونا.

__________________

(١) المختصر النافع، كتاب الجهاد: ص ١١٢.

(٢) وسائل الشيعة: ج ١٥ ص ٥٠.

(٣) و (٤) وسائل الشيعة: ج ١٥ ص ٤٩ و ٥٠.

٥١٧

فقال المسلمون: ما فعلنا .

وسأل المسلمون فيما بينهم، فإذا عبد يدعىٰ « مكثفاً » كان أصله منها، فعل هذا.

فقالوا: هو عبد.

فقال أهلها: لا نعرف العبد من الحر، وقد قبلنا الجزية، وما بدّلنا، فان شئتم فاغدروا. فكتبوا لعمر فأجاز أمانهم، فأمّنوهم وانصرفوا عنهم »(١) .

وهذا هو نموذج واحد من سلوك المسلمين في هذا المجال يجد نظائره كل من راجع التاريخ الإسلامي.

__________________

(١) الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري: ج ٢ ص ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

٥١٨

(١٣)

واقعة الغدير

لا شكَّ في أنّ الدين الإسلامي دين عالمي، وشريعة خاتمة، وقد كانت قيادة الاُمّة الإسلامية من شؤون النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مادام على قيد الحياة، وكان عليه أن يوكل مقام القيادة من بعده إلى أفضل أفراد الاُمّة وأكملهم.

إنّ في هذه المسألة وهي أنّ منصب القيادة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هل هو منصب تنصيصي تعييني أو أنّه منصب انتخابي ؟ هناك اتّجاهين:

فالشيعة ترى أنّ مقام القيادة منصب تنصيصي، ولابد أن ينصّ على خليفة النبي من السماء، بينما يرى أهل السنّة أنّ هذا المنصب انتخابي جمهوري، أي أنّ على الأمّة أن تقوم بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لإدارة البلاد.

إنّ لكل من الاتّجاهين المذكورين دلائل، ذكرها أصحابهما في الكتب العقائدية، إلّا أنّ ما يمكن طرحه هنا هو تقييم ودراسة المسألة في ضوء دراسة وتقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة، فانّ هذه الدراسة كفيلة باثبات صحّة أحد الاتّجاهين.

إنّ تقييم الأوضاع السياسية داخل المنطقة الاسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأنّ خليفة النبي لابد أن يعيَّن من جانب الله تعالى، ولا يصحّ أن يوكل هذا إلى الأمّة، فانّ المجتمع الإسلامي كان مهدّداً على الدوام بالخطر الثلاثي ( الروم ـ الفرس ـ المنافقين ) بشنّ الهجوم الكاسح، وإلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.

كما أنّ مصالح الأمّة كانت توجب أن يوحّد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده، وبذلك يسد الطريق على

٥١٩

نفوذ العدو في جسم الاُمّة الإسلامية والسيطرة عليها، وعلى مصيرها.

وإليك بيان وتوضيح هذا المطلب:

لقد كانت الامبراطورية الرومانية أحد أضلاع الخطر المثلث الذى يحيط بالكيان الإسلامي، ويهدّده من الخارج والداخل.

وكانت هذه القوة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغل بال النبي القائد على الدوام، حتى أنّ التفكير في أمر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتى لحظة الوفاة، والالتحاق بالرفيق الأعلى.

وكانت أول مواجهة عسكرية بين المسلمين، والجيش المسيحي الرومي وقعت في السنة الثامنة من الهجرة في أرض فلسطين، وقد أدّت هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم « جعفر الطيار » و « زيد بن حارثة » و « عبد الله بن حارثة ».

ولقد تسبّب انسحاب الجيش الإسلامى بعد مقتل القادة المذكورين إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي، فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرّض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في السنة التاسعة للهجرة على رأس جيش كبير جداً إلى حدود الشام ليقود بنفسه أيّة مواجهة عسكرية، وقد استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد هيبته الغابرة، ويجدد حياته السياسية.

غير أنّ هذا الانتصار المحدود لم يقنع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأعدّ قُبيل مرضه جيشاً كبيراً من المسلمين، وأمّر عليهم « اُسامة بن زيد »، وكلّفهم بالتوجّه إلى حدود الشام، والحضور في تلك الجبهة.

أمّا الضلع الثاني من المثلث الخطير الذي كان يهدد الكيان الإسلامي، فكان

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581