مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن6%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265532 / تحميل: 6065
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

عامّة فقال سبحانه:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ إلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة / ٨ ).

هذا وقد دلّت ـ على تشريع هذا الجهاد ـ مضافاً إلى ما ذكر من الآيات، أحاديث وروايات متضافرة نأتي ببعضها:

قال الإمام عليٌّعليه‌السلام :

« الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه

هو لباس التقوى ودرع الله الحصينة، وجنّته الوثيقة »(١) .

وقال الإمام أبو جعفر الباقرعليه‌السلام :

« الجهاد الذي فضّله الله على الأعمال وفضّل عامله على العمّال تفضيلاً في الدرجات والمغفرة لأنّه ظهر به الدين، وبه يدفع عن الدين »(٢) .

إلى غير ذلك من الأحاديث المذكورة في المصادر المعتبرة.

ثمّ إنّ من يجب جهادهم على نحو الدفاع ثلاث طوائف:

١ ـ البغاة على الإمام من المسلمين، كالخوارج الذين خرجوا على الإمام عليّعليه‌السلام مثلاً.

٢ ـ أهل الذمّة، وهم اليهود والنصارى والمجوس إذا أخلّوا بشرائط الذمّة.

٣ ـ من ليس لهم كتاب إذا قاموا بمؤامرة ضد المسلمين.

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ٢٧.

(٢) في هذا الحديث إشارة إلى كلا النوعين من الجهاد ( الدفاعي والتحريري ) فقولهعليه‌السلام : لأنّه ظهر به الدين، إشارة إلى الثاني، وقولهعليه‌السلام : وبه يدفع عن الدين، إشارة إلى الأوّل.

٥٠١

هذه هي لمحةٌ خاطفة عن حقيقة الجهاد الدفاعي ودوافعه وخصائصه، وأمّا معرفة مسائله وفروعه وأحكامه التفصيليّة فمتروكة إلى الكتب الفقهية المفصّلة(١) .

* * *

الجهاد التحريري ( الإبتدائي )

لقد شرع الإسلام ـ إلى جانب الجهاد الدفاعي ـ نوعاً آخر من الجهاد، هو الجهاد الإبتدائي الذي يجدر أن يسمّى بالجهاد التحريري.

وتتلخّص دوافع هذا النوع من الجهاد في اُمور عديدة نشير إلى ثلاثة منها، تاركين للقارئ الكريم مراجعة الكتب الفقهية المطوّلة المفصّلة لمعرفة بقيّة هذه الدوافع، والأسباب.

١ ـ تحرير البشريه من الشرك

إنّ أهم دوافع الجهاد التحريري هو محاربة الوثنيّة والشرك، وتحرير البشريّة من إتّخاذ أي معبود سوى الله.

فالإسلام يأمر بعبادة الله وحده، وينهي عن اتّخاذ أي معبود سواه.

يقول الله سبحانه:

( وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَٰهًا آخَرَ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ ) ( القصص / ٨٨ ).

وهي حقيقة تدركها الفطرة البشرية السليمة ولكن هذه الفطرة قد تنحرف وتحيد عن مسيرها الصحيح بفعل المؤثّرات والدعايات وتضليل المضلّلين.

وهنا يفرض الدين على أتباعه أن يجاهدوا لتحرير العقول من قيودها، وتخليص الفطرة الإنسانية المنحرفة من براثن الوثنيّة بكل وسيلة ممكنة.

__________________

(١) شرائع الإسلام، كتاب الجهاد، الركن الثاني ـ مع شروحه ‍.

٥٠٢

وليس هذا ممّا يخالف حرية الإنسان في اتّخاذ المعتقد الذي يريد، لأنّ الحرية ليست مطلوبة على إطلاقها.

ثمّ إنّ تخليص البشرية من براثن الوثنية إنّما هو خدمة للبشرية وإحياء لها، وإنقاذاً لشخصيّتها من ذلّ الخضوع تجاه الموجودات الحقيرة.

وهذا أمر ضروري حتّى إذا لم يدرك البشر أهمّيته، أو امتنع من قبوله تمشّياً مع هواه.

فلو أنّ وزارة الصحّة ـ مثلاً ـ أرادت تلقيح الناس باللقاح الصحّي ضد مرض داهم، أو وباء قادم، لزم على الجميع قبول هذا الأمر، ولم يكن لأحد الامتناع عن ذلك بحجّة أنّه حرّ لا يجوز إكراهه على شيء.

فلا تسمع منه هذه الحجّة، ولا يقبل منه هذا الرفض، حفاظاً على الصحّة العامّة وصيانة للمجتمع من العدوى.

ويعتبر هذا الإكراه والإلزام بهذا الأمر العقلائي رحمة له، ولطفاً به لا ظلماً وعدواناً.

إنّ عبادة الوثن تجعل عابد الوثن أذل من الصنم الذي نحته بيديه وإلى ذلك يشير سبحانه ـ مستنكراً ـ:( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) ؟ ( الصافّات / ٩٥ ).

ثمّ إنّ الخضوع للوثن يوجب إنحطاط الفكر الإنساني ووقوعه في الخرافات التي هي بمثابة القيود والأغلال للفكر البشري، تمنعه عن الانطلاق في مدارج الرقي والتكامل، وتحجز النفس الإنسانية من نموّ الفضائل والسجايا الخلقية الكريمة.

هذا مضافاً إلى أنّ عبادة الأوثان والأصنام توجد اختلافاً وتحزّباً بين البشر، وتفرّق وحدته، وتمزّق صفّه إذ كل جماعة تتّخذ وثناً خاصّاً تعبده وتتمسّك به، وتنفي سواه، وفي ذلك ضرر عظيم على حياة البشرية لا يقلّ عن خطر الطاعون والوباء، وفي ذلك يقول الله حاكياً عن لسان يوسف:

( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف / ٣٩ ).

٥٠٣

ولهذا يرى الإسلام محاربة هذا الوباء الفكري، واقتلاعه من الجذور.

ومن هنا أقدم الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عند فتحه « مكّة » على كسر الأصنام الموضوعة في البيت الحرام، وأمر كل صاحب وثن أن يحطّم وثنه، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يفعل ذلك كلّما فتح منطقة من مناطق الجزيرة(١) .

نعم صحيح أنّ للتبليغ والدعوة أثراً لا ينكر في إيقاظ الأفكار، وفكّها من أسارها، بيد أنّه أثر محدود لا يعرفه إلّا الزمر الواعية، المثقّفة، القادرة على إستيعاب التوجيهات والمواعظ.

ولأجل ذلك يجب على إمام المسلمين قبل نشوب الحرب بين المسلمين وأعدائهم أن يدعو الكفّار والأعداء إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ويبالغ في إيقاظهم وتوعيتهم ودعوتهم وإتمام الحجّة عليهم.

قال صاحب شرائع الإسلام:

« ولا يبدأون إلّا بعد الدعاء إلى محاسن الإسلام ويكون الداعي الإمام أو من نصّبه »(٢) .

وقد دلّت على ذلك من السنّة روايات متضافرة منها ما ورد عن السكوني عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : قال: قال أمير المؤمنينعليه‌السلام :

بعثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليمن فقال: يا عليُّ لا تقاتلنّ أحداً حتّى تدعوه إلى الإسلام، والله لئن يهدينّ الله على يديك رجلاً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا عليّ »(٣) .

وعن عليٍّعليه‌السلام أنّه قال:

__________________

(١) سيرة ابن هشام: ج ٢ ص ١٤٣.

(٢) شرائع الإسلام، كتاب الجهاد، الركن الثاني.

(٣) مستدرك الوسائل: ج ١١ الباب ٩ من أبواب جهاد العدو الحديث ١.

٥٠٤

« لا يغزَ قوم حتّى يدعوا »(١) .

وعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال:

« لا تقاتل الكفّار إلّا بعد الدعاء »(٢) .

وقد سئل الإمام زين العابدين عليّ بن الحسينعليهما‌السلام عن كيفيّة الدعوة إلى الدين:

فقال: تقول: « بسم الله الرحمن الرحيم ـ أدعوك إلى الله عزّ وجلّ وإلى دينه وجماعه أمران: أحدهما: معرفة الله عزّ وجلّ والآخر: العمل برضوانه، وإنّ معرفة الله عزّ وجلّ أن يعرف بالوحدانية والرأفة والرحمة والعزّة، والعلم والقدرة والعلوّ على كل شيء، وأنّه النافع الضار القاهر لكل شيء الذي لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وإنّ ما جاء به هو الحق من عند الله عزّ وجلّ وما سواه هو الباطل ».

فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين(٣) .

وعن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال:

« أوّل حدود الجهاد الدعاء إلى طاعة الله من طاعة العباد، وإلى عبادة الله من عبادة العباد وإلى ولاية الله من ولاية العباد »(٤) .

بل ولو أنّ أحداً من المشركين إستأمن وأراد أن يسمع كلام الله اُعطي الأمان، ثمّ اُعيد إلى مأمنه، سواء كان قبل نشوب الحرب أو في أثنائه.

قال الله سبحانه:

( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ

__________________

(١) و (٢) مستدرك الوسائل: ج ١١ الباب ٩ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢، ٣.

(٣) وسائل الشيعة: ج ١١ ص ٣١، باب كيفية الدعاء إلى الإسلام من أبواب الجهاد.

(٤) وسائل الشيعة: ج ١١ ص ٧.

٥٠٥

ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ) ( التوبة / ٦ ).

غير أنّ الدعوة والتبليغ ربّما تؤثّر في بعض الأشخاص ولا تؤثّر في آخرين، خصوصاً إذا كان الدين يهدّد مصالحهم ومطامعهم ولذلك وجبت محاربتهم إذ لا يكون الخير والإصلاح حينئذٍ إلّا بالسيف، ومنطق القوّة:

وإلى هذا أشار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله:

« الخير كلّه في السيف، وتحت ظلال السيف، ولا يقيم الناس إلّا السيف »(١) .

فرض العقيدة ممنوع

قد يتوهّم الجاهل بمعالم الدين الإسلامي وأحكامه أنّ الهدف من الجهاد التحريري إنّما هو فرض العقيدة الإسلامية على الناس فرضاً.

ولكن هذا ظنّ واضح البطلان معلوم الضعف لمن له معرفة بطبيعة الدعوة الإسلامية.

فإنّ الإسلام الذي يشجب ويستنكر على بعض الناس اتّباعهم لعقائد آبائهم وأجدادهم الباطلة، كيف يجوّز لأتباعه أن يحملوا الناس على العقيدة الإسلامية دون أن يسمحوا لهم بأن يفكّروا ويحقّقوا ويفتّشوا عن المعتقد الحق، ليعتنقوه بالبرهان والدليل ؟

إنّ اعتناق العقيدة أي عقيدة يجب أن يكون حسب نظر الإسلام قائماً على أساس البحث والفحص والتحقيق ومرتكزاً على البرهان والدليل، ولذلك فهو يقبح اتّباع السلف دون مراجعة لعقائدهم، وتحقيق في صحّتها أو بطلانها إذ قال سبحانه:

( وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا

__________________

(١) وسائل الشيعة: ج ١١ ص ٥.

٥٠٦

عَلَىٰ أُمَّةٍ ( أي طريقة )وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ *قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ *فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ) ( الزخرف / ٢٣ ـ ٢٥ ).

وقال سبحانه:

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ) ( البقرة / ١٧٠ ).

وبتعبير آخر: إنّ الإسلام ذمّ التقليد في الاُصول والعقائد والجري على سنن الآباء والأجداد بلا تأمّل ولا تدبّر، وطالب بالتفكّر والتعقّل فكيف يأمر أتباعه بأن يفرضوا العقيدة الإسلامية على الآخرين بقوّة النار والحديد.

كيف وقد صرّح بحرية الإعتقاد بقوله سبحانه:

( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) ( البقرة / ٢٥٦ ).

إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ الإختلاف الفكري، والتنافس الإيديولوجي أمر غريزي طبيعي، ولذلك فهو باق إلى يوم القيامة ولا يمكن إزالته من رأس، ولا يصحّ إلغاؤه بالمرّة.

قال سبحانه:

( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ( هود / ١١٨ ).

إنّ القرآن الكريم ينهي الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عن فرض العقيدة الإسلامية على الناس لأنّ الله شاء لهم أن يكونوا أحراراً في ذلك وهو في الوقت نفسه يعطينا درساً في مجال التبليغ والدعوة يجب أن نسير على ضوئه، فيقول:

( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( يونس / ٩٩ ).

٥٠٧

إذن فلم يكن الجهاد التحريري في مجال ( تحرير البشريّة من الشرك ) بفرض العقيدة على الناس أو حملهم على الخضوع لمنهج الدين دون اختيار منهم أو إرادة حرّة، بل هناك دواع وعلل للجهاد التحريري وهي التي نتلوها عليك.

٢ ـ كسر الموانع المفروضة على الشعوب

إنّ هناك داعياً آخر لتشريع عنوان الجهاد التحريري وهو وضع الاغلاق المفروضة على الشعوب، وإسقاط الحكومات التي تمنع من وصول الإسلام إلى الناس وتقيم سدوداً بينهم وبين العقيدة الحقّة وتسلب حريّاتهم، وتكرههم على اتّخاذ عقيدة خاصّة، والمشي على حسب منهج خاص وإن كانوا لا يرتضونه.

وبهذا يكون الجهاد التحريري لرفع الموانع والحواجز المانعة عن وصول العقيدة الحقّة إلى الناس، وتحريرهم من تلك القيود حتى يمكنهم اختيار الدين الإسلامي بعد الاطّلاع على محاسنه، وتبليغ معالمه إليهم.

٣ ـ تخليص المستضعفين من الظالمين:

إنّ الهدف الثالث من أهداف الجهاد التحريري هو إنقاذ الشعوب من اضطهاد الحكّام الجائرين، واستبدادهم وظلمهم.

فهو إذن شُرّع لتحرير المستضعفين وتخليصهم من عسف الحكّام، وكبتهم، وحيث إنّ هذا الهدف لا يتحقّق إلّا باستخدام القوّة وحمل السلاح والمقاتلة والغزو إتّخذ الإسلام طريق الجهاد، فقال القرآن الكريم:

( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ) ( النساء / ٧٥ ).

٥٠٨

وقد وردت الإشارة إلى هذا الهدف في تصريحات بعض المسلمين الذين خرجوا لفتح البلاد وإنقاذ المستضعفين من حكّامهم الجائرين قال: إنّ سعد بن أبي وقاص أرسل ربعي بن عامر ليكلّم قائد القوات الفارسية فلمّا دنا من « رستم » جلس على الارض وركّز رمحه على البسط فقال له: ما حملك على هذا ؟ قال: إنّا لا نستحب القعود على زينتكم، فقال له ترجمان رستم واسمه « عبود » من أهل الحيرة: ما جاء بكم ؟ قال: الله جاء بنا وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الاسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه، فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه دوننا، ومن أبىٰ قاتلناه حتى نفضي إلى الجنّة أو الظفر(١) .

إذن لم يكن تشريع هذا الجهاد لفرض الاستيلاء على الأراضي، أو بهدف السيطرة على منابع الثروة، أو استعمار الشعوب كما هو هدف الحروب غير الإسلامية في الماضي والحاضر.

كما أنّ الإسلام ينهي عن العدوان لبعض الأسباب التي تعود إلى المسائل الشخصية، والقضايا الفردية، التي لا تنطوي على مصلحة الإسلام والمسلمين الكلّية ...، وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم:

( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ) ( المائدة / ٢ ).

وبما أنّ الجهاد التحريري ينطوي على أحكام دقيقة، وظرفية، لا يعرفها إلّا الإمام العادل العارف بالدين، والعالم بالظروف لم يجز أن يقوم المسلمون بهذا الجهاد إلّا بقيادة ( إمام معصوم ) أو من ينوب منابه في السلطة الدينية والزمنية، نعم في مشروعية الجهاد التحريري في غياب الإمام المعصوم بحث مفصّل، فلاحظ الكتب الفقهية.

__________________

(١) الكامل لابن الأثير: ج ٢ ص ٣٢٠ حوادث عام ١٤ من الهجرة النبوية.

٥٠٩

وإلى هذا أشار الإمام الصادقعليه‌السلام بقوله:

« والجهاد واجب مع إمام عادل »(١) .

نعم هناك كلمة أخيرة على هامش كلا الجهادين وهي:

إنّه يجب على الدولة الإسلامية ـ قبل نشوب أيّة حرب ـ إعداد المسلمين وتجهيزهم بكل ما تستطيع من أنواع القوّة الحربية في كل زمان بحسبه، على أن يكون القصد الأوّل من ذلك هو إرهاب العدو، وإخافته من عاقبة التعدّي على بلاد الاُمَّة الإسلامية أو مصالحها، أو على أفراد منها، أو متاع لها حتى في غير بلادها، لأجل أن تكون آمنة في عقر دارها مطمئنّة على أهلها ومصالحها وأموالها، ولكي تحظىٰ بالإحترام اللائق بها في الساحة الدولية، إذ يقول القرآن الكريم:

( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ) ( الأنفال / ٦٠ ).

ويبقى أن نقول: إنّ القتال والنضال بما هو هو ليس أمراً قبيحاً وإنّما يصطبغ بالحسن أو القبح بالغايات المحدّدة للقتال والنضال.

فلو كان القتال والنضال بهدف الاعتداء والتجاوز على النفوس والأعراض والأموال والحرمات فيكون القتال أمراً منكراً، ويعد وحشيّة همجيّة، ويكون المباشر له حيواناً ضارياً تلبّس بالإنسانية.

وإذا كان القتال لحفظ الشرف والإنسانية ومنع المعتدين عن الإعتداء، وغير ذلك من الأهداف المشروعة المذكورة سلفاً، فلا يكون قبيحاً بل يعتبر وظيفة إنسانية.

هذه دراسة عابرة عن الجهاد التحريري حقيقة وأهدافاً وفلسفة، والتفصيل موكول إلى محلّه في الكتب الفقهية المفصّلة. وأمّا الأدب فإليك البيان.

__________________

(١) وسائل الشيعة: ج ١١ ص ٣٥.

٥١٠

رعاية الأخلاق في الحرب

إنّ وقائع الحروب تشهد بأنّ الجبابرة والطواغيت ينسون ـ عند نشوب الحروب ـ كل القيم الإنسانية، والاُصول الأخلاقية، فيرتكبون كل جريمة، ويقترفون كل جناية دون أن يردعهم عن ذلك رادع، أو يتقيّدوا في القتال بقانون.

وليس هذا أمر يتّصل بالماضي، فساحات المعارك اليوم، وما تشهده من فظائع، خير دليل على ما ذكرناه.

صحيح أنّ هناك أعرافاً دولية، وقوانين عالمية للحروب، ولكن من الصحيح أيضاً أنّ رعاية هذه القوانين والأعراف ضئيلة، أو كادت أن تكون مفقودة أصلاً.

هذا مضافاً إلى أنّ هذه القوانين والأعراف لا تكون ـ في الأغلب ـ شاملة، أو كافية.

غير أنّ الإسلام سنّ للحرب والقتال حدوداً دقيقة من شأنها أن تجعل الحرب في إطار الأخلاق والقواعد الإنسانية ولم يكتف بمجرّد تشريعها ووضعها، بل عمل بها في كافة حروبه ووقائعه.

من هنا يجب علينا أن نقف على هذه الحدود، لنتعرّف على مدى رحمة الإسلام وإنسانيّته، وعدالته، حتى في الحروب حيث يفقد المقاتلون توازنهم عادة، فلا يتورّعون عن ارتكاب كل كبيرة وصغيرة، وتشهد على ذلك الحروب العالميّة وخاصّة ( الاُولى والثانية )، وكذا الحروب التي شنّها الغرب على الشرق في مختلف المناطق في القرن الحاضر، ونخصّ بالذكر المعارك الدامية بين الإستعمار الفرنسي، والشعب الجزائري البطل، والإستعمار الأمريكي والشعب الفيتنامي، والإستعمار الإسرائيلي والشعب الفلسطيني، وما جرى في هذه الحروب من الممارسات الوحشيّة المروّعة على يد هذه القوى الإستعمارية.

٥١١

١ ـ الآمنون في الحرب

لـمّا كانت العدالة الإجتماعية هي المطلب الأقصى للإسلام، ولم تكن للحرب أصالة في منطقه، ولم تكن بنفسها هدفاً بل شرّعت لدفع المعتدين وإزالتهم عن طريق الدعوة الحقّة، اقتضى ذلك كلّه أن لا يهاجم إلّا على الظالمين ولذا قال القرآن الكريم:

( فَلا عُدْوَانَ إلّا عَلَى الظَّالِمِينَ ) ( البقرة / ١٩٣ ).

ولأجل ذلك نهى الإسلام عن قتل طائفة من الناس إذا لم يكونوا يساندون الأعداء الظالمين ولا يقاتلون، وهؤلاء هم:

١ ـ النساء.

٢ ـ الولدان.

٣ ـ المجانين.

٤ ـ الأعمى.

٥ ـ الشيخ الفاني.

٦ ـ المقعد.

وقد دلّت على ذلك أحاديث متضافرة منها ما عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال:

« نهى رسول الله عن قتل المقعد والأعمى والشيخ الفاني والمرأة والولدان في دار الحرب »(١) .

٢ ـ تمالك النفس

لا ريب أنّ الحرب سبب قوي لغليان المشاعر وارتفاع سورة الغضب إلى

__________________

(١) فروع الكافي: ج ٥ ص ٢٨ ح ٦.

٥١٢

أقصاه ولهذا ربّما يؤدّي إلى ارتكاب أقسى ألوان الجريمة في حقّ الخصم.

ومن هنا يجب أن يعطى زمام الحرب للعقل لا للمشاعر الملتهبة، والأحاسيس المشتعلة.

ولقد أعطى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تعاليم كلّية في الحرب، كان يوصي بها كل جيش يبعثه، وكل سرية يرسلها.

وإليك فيما يأتي نموذجاً من الأحاديث التي أدّب فيها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام المجاهدين والمقاتلين بآداب، وتعاليم خاصة، تكفل إنسانية الحروب وعدالتها.

عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّه قال:

« كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثمّ يقول:

سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، لا تغلوا، ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلّا أن تضطرّوا إليها.

وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار، حتّى يسمع كلام الله فإن تبعكم، فأخوكم في الدين، وإن أبىٰ فابلغوه مأمنه، واستعينوا بالله »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنّه قال:

إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا بعث أميراً له على سرية أمره بتقوى الله عزّ وجل في خاصّة نفسه، ثمّ في أصحابه عامّة، ثمّ يقول:

اُغز باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً، ولا متبتّلًا في شاهق، ولا تحرقوا النخل ولا تغرقوه بالماء ،

__________________

(١) وسائل الشيعة: ج ١١ ص ٤٣.

٥١٣

ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعاً لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه. ولا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلّا ما لابدّ لكم من أكله، وإذا لقيتم عدوّاً للمسلمين فادعوهم الخ الحديث »(١) .

بل ونص بعض الفقهاء على أنّ المرأة لا تقتل حتّى لو كانت تعاون الأعداء، لأنّ النساء مستضعفات غالباً، وهنّ يرغمن على القيام بمثل هذا التعاون إرغاماً.

قال المحقّق الحلّي في المختصر النافع:

« ولا تقتل نساؤهم ولو عاون إلّا مع الإضطرار »(٢) .

وهذا يجسّد منتهى الرحمة والإنسانية التي يتحلّى بها الدين الإسلامي.

وقد جاء في غزوة بدر أنّ عمر بن الخطاب قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

يا رسول الله دعني أنزع ( أقلع ) ثنيّتي سهيل بن عمرو، ويدلع لسانه ( وكان سهيل خطيباً يهرّج ضد النبي ) فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« لا اُمثّل به فيمثّل الله بي وإن كنت نبيّاً »(٣) .

إنّ المقارنة بين هذه التعاليم والمواقف الإسلامية والجنايات والجرائم الوحشية التي ارتكبتها الدول الكبرى في مستعمراتها كالجزائر وفيتنام وغيرهما، توقفنا على إنسانيّة الدين الإسلامي ورحمته في الحرب.

__________________

(١) وسائل الشيعة: ج ١١ ص ٤٤.

(٢) المختصر النافع، كتاب الجهاد ص ١١٢ طبع القاهرة.

(٣) سيرة ابن هشام: ج ٢ ص ٦٤٢.

٥١٤

٣ ـ منع ممارسة الأساليب الوحشية

إنّ الإسلام يحرّم إهلاك العدو بالطرق غير الإنسانية مثل إلقاء السم في الماء أو قطعه عنهم، أو إرساله على مُخيّمهم لغرقهم، أو حرقهم بالنار.

وفي ذلك يقول المحقّق الحلّي في المختصر النافع:

« ويجوز المحاربة بكل ما يرجى به الفتح »(١) .

ثمّ قال:

« ويكره يإلقاء النار، ويحرم بإلقاء السم »(٢) .

وقال العلّامة الحلّي في تبصرة المتعلّمين:

« ويجوز المحاربة بسائر أنواع الحرب، إلّا إلقاء السم في بلادهم »(٣) .

ثمّ ها هو الإمام عليٌّعليه‌السلام في صفّين بعد الإستيلاء على الشريعة لا يمنع جيش معاوية عن الماء، وإن كان معاوية قد فعل ذلك من قبل(٤) .

إلى هذه الدرجة الرفيعة من الرحمة والشفقة تبلغ رحمة الإسلام، بينما لا تتورّع الدول الكبرى عن قصف الشعوب المقهورة بقنابل النابالم، وغيرها من الوسائل والأدوات الحربية الفتّاكة المروّعة.

ومن الذي لا يمكن أن ينسىٰ ما فعلته الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية حينما قصفت هيروشيما، وناكازاكي بالقنابل الذريّة، فأبادت ما يقارب نصف مليون، وحذف ذينك البلدين من الخريطة الجغرافية بحجّة التعجيل في إنهاء الحرب، كما قال ترومن رئيس الجمهوريّة الأمريكي الأسبق عام ١٩٤٥ م ؟

__________________

(١) و (٢) المختصر النافع، كتاب الجهاد: ص ١١٢.

(٣) تبصرة المتعلّمين: كتاب الجهاد ص ٨١.

(٤) راجع وَقْعة صفّين لابن مزاحم: ص ١٦٦ ـ ١٦٧ ( طبعة مصر ).

٥١٥

٤ ـ أمان الكفّار:

إنّ الإسلام ـ بحكم كونه رسالة إلهية ودعوة سماويّة لهداية الإنسان ـ يحرص على دخول الأفراد في صفوف أتباعه، والإنضواء تحت لوائه عن رغبة وإرادة.

ولتحقيق هذا الهدف الأسمى نجد الإسلام يسمح بإعطاء الأمان لكلّ من يطلب ذلك من الكفّار لكي يسمع منطق الإسلام، ويتعرّف على تعاليمه، سواء كان ذلك عند نشوب الحرب، أو في غير الحرب.

بل إنّ الإسلام يعطي الحق لكلّ مسلم أن يمنح الأمان لمن شاء، ولو كان لغير الهدف المذكور.

قال المحقّق الحلّي في الشرائع:

« ويجوز أن يذمَّ الواحدُ من المسلمين لآحاد من أهل الحرب »(١) .

وقال في المختصر النافع:

« ويذم الواحد من المسلمين للواحد، ويمضي ذمامه على الجماعة ولو كان أدونهم »(٢) .

ثمّ إنّ ما يدلّ على مدى عناية الإسلام وحرصه على الدماء أنّه يجير حتّى من دخل في حوزة المسلمين بشبهة الأمان وظنّه فهو مأمون حتّى يرد إلى مأمنه دون أن يصيبه أذى.

قال المحقّق في الشرائع:

« وكذا كلّ حربي دخل في دار الإسلام بشبهة الأمان كان يسمع لفظاً فيعتقده أماناً، أو يصحب رفقة فيتوهّمها أماناً »(٣) .

__________________

(١) شرائع الإسلام، كتاب الجهاد في الذمام، وراجع الجواهر: ج ٢١ ص ٩٦.

(٢) المختصر النافع، كتاب الجهاد: ص ١١٢.

(٣) الشرائع، كتاب الجهاد: ج ١ ص ٣١٣ ـ ٣١٤.

٥١٦

وقال في المختصر النافع:

« ومن دخل بشبهة الأمان فهو آمن حتّى يردّ إلى مأمنه »(١) .

وتدلّ على هذا أحاديث منها عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال:

« لو أنّ قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان، فقالوا: لا، فظنّوا أنّهم قالوا: نعم، فنزلوا إليهم كانوا آمنين »(٢) .

ومن مظاهر العدل والمساواة أنّ الإسلام يجيز أمان العبد المسلم كما يجيز أمان الحر المسلم سواء بسواء.

ويدلّ على هذا الحكم الإسلامي العظيم روايات عديدة منها ما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام لـمّا سأله السكوني عن معنى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يسعى بذمّتهم أدناهم » قالعليه‌السلام :

« لو أنّ جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين فأشرف رجل، فقال: اعطوني الأمان حتّى ألقى صاحبكم واُناظره فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به »(٣) .

وعن الصادقعليه‌السلام أيضاً أنّه قال:

إنّ عليّاًعليه‌السلام أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون وقال:

« هو من المؤمنين »(٤) .

ولقد روى الجزري في تاريخه الكامل: « إنّ المسلمين نزلوا بجنديسابور فأقاموا عليها يقاتلونهم، فرمي إلى من بها من عسكر المسلمين بالأمان. فلم يفجأ المسلمين إلّا وقد فتحت أبوابها، وأخرجوا أسواقهم، وخرج أهلها، فسألهم المسلمون، فقالوا: رميتم بالأمان، فقبلناه، وأقررنا بالجزية على أن تمنعونا.

__________________

(١) المختصر النافع، كتاب الجهاد: ص ١١٢.

(٢) وسائل الشيعة: ج ١٥ ص ٥٠.

(٣) و (٤) وسائل الشيعة: ج ١٥ ص ٤٩ و ٥٠.

٥١٧

فقال المسلمون: ما فعلنا .

وسأل المسلمون فيما بينهم، فإذا عبد يدعىٰ « مكثفاً » كان أصله منها، فعل هذا.

فقالوا: هو عبد.

فقال أهلها: لا نعرف العبد من الحر، وقد قبلنا الجزية، وما بدّلنا، فان شئتم فاغدروا. فكتبوا لعمر فأجاز أمانهم، فأمّنوهم وانصرفوا عنهم »(١) .

وهذا هو نموذج واحد من سلوك المسلمين في هذا المجال يجد نظائره كل من راجع التاريخ الإسلامي.

__________________

(١) الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري: ج ٢ ص ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

٥١٨

(١٣)

واقعة الغدير

لا شكَّ في أنّ الدين الإسلامي دين عالمي، وشريعة خاتمة، وقد كانت قيادة الاُمّة الإسلامية من شؤون النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مادام على قيد الحياة، وكان عليه أن يوكل مقام القيادة من بعده إلى أفضل أفراد الاُمّة وأكملهم.

إنّ في هذه المسألة وهي أنّ منصب القيادة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هل هو منصب تنصيصي تعييني أو أنّه منصب انتخابي ؟ هناك اتّجاهين:

فالشيعة ترى أنّ مقام القيادة منصب تنصيصي، ولابد أن ينصّ على خليفة النبي من السماء، بينما يرى أهل السنّة أنّ هذا المنصب انتخابي جمهوري، أي أنّ على الأمّة أن تقوم بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لإدارة البلاد.

إنّ لكل من الاتّجاهين المذكورين دلائل، ذكرها أصحابهما في الكتب العقائدية، إلّا أنّ ما يمكن طرحه هنا هو تقييم ودراسة المسألة في ضوء دراسة وتقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة، فانّ هذه الدراسة كفيلة باثبات صحّة أحد الاتّجاهين.

إنّ تقييم الأوضاع السياسية داخل المنطقة الاسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأنّ خليفة النبي لابد أن يعيَّن من جانب الله تعالى، ولا يصحّ أن يوكل هذا إلى الأمّة، فانّ المجتمع الإسلامي كان مهدّداً على الدوام بالخطر الثلاثي ( الروم ـ الفرس ـ المنافقين ) بشنّ الهجوم الكاسح، وإلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.

كما أنّ مصالح الأمّة كانت توجب أن يوحّد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده، وبذلك يسد الطريق على

٥١٩

نفوذ العدو في جسم الاُمّة الإسلامية والسيطرة عليها، وعلى مصيرها.

وإليك بيان وتوضيح هذا المطلب:

لقد كانت الامبراطورية الرومانية أحد أضلاع الخطر المثلث الذى يحيط بالكيان الإسلامي، ويهدّده من الخارج والداخل.

وكانت هذه القوة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغل بال النبي القائد على الدوام، حتى أنّ التفكير في أمر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتى لحظة الوفاة، والالتحاق بالرفيق الأعلى.

وكانت أول مواجهة عسكرية بين المسلمين، والجيش المسيحي الرومي وقعت في السنة الثامنة من الهجرة في أرض فلسطين، وقد أدّت هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم « جعفر الطيار » و « زيد بن حارثة » و « عبد الله بن حارثة ».

ولقد تسبّب انسحاب الجيش الإسلامى بعد مقتل القادة المذكورين إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي، فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرّض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في السنة التاسعة للهجرة على رأس جيش كبير جداً إلى حدود الشام ليقود بنفسه أيّة مواجهة عسكرية، وقد استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد هيبته الغابرة، ويجدد حياته السياسية.

غير أنّ هذا الانتصار المحدود لم يقنع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأعدّ قُبيل مرضه جيشاً كبيراً من المسلمين، وأمّر عليهم « اُسامة بن زيد »، وكلّفهم بالتوجّه إلى حدود الشام، والحضور في تلك الجبهة.

أمّا الضلع الثاني من المثلث الخطير الذي كان يهدد الكيان الإسلامي، فكان

٥٢٠

الامبراطورية الايرانية ( الفارسية ) وقد بلغ من غضب هذه الامبراطورية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعاداتها لدعوته، أن أقدم امبراطور ايران « خسرو برويز » على تمزيق رسالة النبي، وتوجيه الإهانة إلى سفيره باخراجه من بلاطه، والكتابة إلى واليه وعميله باليمن بأن يوجّه إلى المدينة من يقبض على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو يقتله إن امتنع.

و « خسرو » هذا وإن قتل في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّ استقلال اليمن ـ التي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الايرانية ردحاً طويلاً من الزمان ـ لم يغب عن نظر ملوك ايران آنذاك، وكان غرور اُولئك الملوك وتجبّرهم وكبرياءهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة ( القوة الاسلامية ) لهم.

والخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين كالطابور الخامس وعلى تقويض دعائم الكيان الاسلامي من الداخل إلى درجة أنّهم قصدوا اغتيال رسول الله، في طريق العودة من تبوك إلى المدينة.

فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه: إنّ الحركة الاسلامية سينتهي أمرها بموت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ورحيله، وبذلك يستريح الجميع(١) .

ولقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمكيدة مشؤومة لتوجيه ضربة إلى الاُمّة الاسلامية من الداخل، وذلك عندما أتى عليّاًعليه‌السلام وعرض عليه أن يبايعه ضدّ من عيّنه رجال السقيفة، ليستطيع بذلك تشطير الاُمّة الاسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين، فيتمكّن من التصيّد في الماء العكر.

ولكنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام أدرك بذكائه البالغ نوايا أبي سفيان الخبيثة، فرفض مطلبه وقال له كاشفاً عن دوافعه ونواياه الشريرة:

__________________

(١) لاحظ: الطور / ٣٠.

٥٢١

« والله ما أردت بهذا إلّا الفتنة، وإنّك والله طالما بغيت للإسلام شراً. لا حاجة لنا في نصيحتك »(١) .

ولقد بلغ دور المنافقين التخريبي من الشدّة بحيث تعرّض القرآن لذكرهم في سور عديدة هي: سورة آل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والعنكبوت، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والمجادلة، والحديد، والمنافقين، والحشر.

فهل مع وجود مثل هؤلاء الأعداء الخطرين والأقوياء الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه، يصح أن يترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمّته الحديثة العهد بالإسلام، الجديدة التأسيس من دون أن يعيّن لهم قائداً دينياً سياسيا ؟

إنّ المحاسبات الاجتماعية تقول: إنّه كان من الواجب أن يمنع رسول الاسلام بتعيين قائد للاُمّة، من ظهور أيّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده، وأن يضمن استمرار وبقاء الوحدة الاسلامية بايجاد حصن قوي وسياج دفاعي متين حول تلك الاُمّة.

إنّ تحصين الاُمّة، وصيانتها من الحوادث المشؤومة، والحيلولة دون مطالبة كل فريق « الزعامة » لنفسه دون غيره، وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة، لم يكن ليتحقق، إلّا بتعيين قائد للاُمّة، وعدم ترك الاُمور للأقدار.

إنّ هذه المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحة نظرية « التنصيص على القائد بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله » ولعلّ لهذه الجهة، ولجهات اُخرى طرح رسول الإسلام مسألة الخلافة في الأيام الاُولى من ميلاد الرسالة الإسلامية، وظلّ يواصل طرحها والتذكير بها طوال حياته حتى الساعات الأخيرة منها، حيث عيّن خليفته ونصّ عليه بالنصّ القاطع الواضح الصريح في بدء دعوته، وفي نهايتها أيضاً.

وإليك بيان كلا هذين المقامين:

__________________

(١) الكامل في التاريخ: ج ٢ ص ٢٢٢، العقد الفريد: ج ٢ ص ٢٤٩.

٥٢٢

١ ـ النبوّة والامامة توأمان

بغضّ النظر عن الأدلّة العقلية والفلسفية التي تثبت صحّة الرأي الأول بصورة قطعية، هناك أخبار وروايات وردت في المصادر المعتبرة تثبت صحة الموقف والرأي الذي ذهب إليه علماء الشيعة وتصدّقه، فقد نصّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على خليفته من بعده في الفترة النبوية من حياته مراراً وتكراراً، وأخرج موضوع الإمامة من مجال الانتخاب الشعبي والرأي العام.

فهو لم يعيّن ( ولم ينص على ) خليفته ووصيه من بعده في اُخريات حياته فحسب، بل بادر إلى التعريف بخليفته ووصيه في بدء الدعوة يوم لم ينضو تحت راية رسالته بعد، سوى بضع عشرة من الأشخاص، وذلك يوم اُمر من جانب الله العلي القدير أن ينذر عشيرته الأقربين من العذاب الإلهي الأليم. وأن يدعوهم إلى عقيدة التوحيد قبل أن يصدع رسالته للجميع ويبدأ دعوته العامّة للناس كافة.

فجمع أربعين رجلاً من زعماء بني هاشم وبني المطّلب، ثمّ وقف فيهم خطيباً، فقال:

« أيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ »

فأحجم القوم، وقام عليٌّعليه‌السلام وأعلن مؤازرته وتأييده له، فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله برقبته، والتفت إلى الحاضرين، وقال:

« إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم » (١) .

وقد عرف هذا الحديث عند المفسِّرين والمحدِّثين: ب‍ـــ « حديث يوم الدار » و « حديث بدء الدعوة ».

على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكتف بالنص على خليفته في بدء رسالته، بل صرّح في مناسبات شتّى في السفر والحضر، بخلافة

__________________

(١) تاريخ الطبري: ج ٢ ص ٢١٦، الكامل في التاريخ: ج ٢ ص ٦٢ و ٦٣، وقد مرّ مفصّلاً في هذه الدراسة فراجع.

٥٢٣

عليّعليه‌السلام من بعده، ولكن لا يبلغ شيء من ذلك في الأهمية والظهور والصراحة والحسم ما بلغه حديث الغدير.

٢ ـ قصة الغدير

لـمـّا انتهت مراسيم الحج، وتعلّم المسلمون مناسك الحجّ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قرر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الرحيل عن مكّة، والعودة إلى المدينة، فأصدر أمراً بذلك، ولـمـّا بلغ موكب الحجيج العظيم إلى منطقة « رابغ »(١) التي تبعد عن « الجحفة »(٢) بثلاثة أميال، نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمنطقة تدعى « غدير خم »، وخاطبه بالآية التالية:

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ( المائدة / ٦٧ ).

إنّ لسان الآية وظاهرها يكشف عن أنّ الله تعالى ألقى على عاتق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مسؤولية القيام بمهمة خطيرة، وأي أمر اكثر خطورة من أن ينصّب عليّاًعليه‌السلام لمقام الخلافة من بعده على مرأى ومسمع من مائة ألف شاهد ؟!

من هنا أصدر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمره بالتوقف، فتوقفت طلائع ذلك الموكب العظيم، والتحق بهم من تأخر.

لقد كان الوقت وقت الظهيرة، وكان المناخ حارّاً إلى درجة كبيرة جداً، وكان الشخص يضع قسماً من عباءته فوق رأسه والقسم الآخر منها تحت قدميه، وصنع للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مظلّة وكانت عبارة عن عباءة اُلقيت على أغصان

__________________

(١) رابغ تقع الآن على الطريق بين مكّة والمدينة.

(٢) من مواقيت الاحرام وتنشعب منها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين.

٥٢٤

شجرة ( سمرة )، وصلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحاضرين الظهر جماعة، وفيما كان الناس قد أحاطوا به صعدصلى‌الله‌عليه‌وآله على منبر اُعدّ من أحداج الإبل وأقتابها، وخطب في الناس رافعاً صوته، وهو يقول:

« الحمدلله ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا الذي لا هادي لمن أضلّ، ولا مضلّ لمن هدى، وأشهد أنّ لا إله إلّا هو، وأنّ محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: أيّها الناس إنّي اُوشك أن اُدعى فاُجيب، وأنّي مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون ؟ »

قالوا: « نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت، فجزاك الله خيراً ».

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور ؟ »

قالوا: بلى نشهد بذلك.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أللّهمّ اشهد ».

ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « وإنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا ».

فنادى مناد: « بأبي أنت واُمِّي يا رسول الله وما الثّقلان ؟ »

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « كتاب الله سبب طرف بيد الله، وطرف بأيديكم، فتمسّكوا به، والآخر عترتي، وانّ اللطيف الخبير نبّأني انّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ».

وهنا أخذ بيد « عليٍّ »عليه‌السلام ورفعها، حتى رؤي بياض اباطهما، وعرفه الناس أجمعون ثمّ قال:

« أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ »

٥٢٥

قالوا: « الله ورسوله أعلم ».

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه (١) .

أللّهمَّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأحب من أحبّه، وابغض من أبغضه، وأدر الحقّ معه حيث دار » (٢) .

فلمّا نزل من المنبر، استجاز حسّان بن ثابت شاعر عهد الرسالة في أنْ يفرغ ما نزل به الوحي في قالب الشعر، فأجازه الرسول، فقام وأنشد:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخمّ وأكرم بالنبي مناديا

يقول فمن مولاكمُ ووليّكم

فقالوا ولم يبدو هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت وليّنا

ولم تَرَ منّا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا عليّ فانّني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أنصار صدقٍ مواليا

هناك دعا: أللّهم ! وال وليّه

وكن للّذي عادا عليّاً معاديا

مصادر الواقعة

هذه هي واقعة الغدير استعرضناها لك على وجه الإجمال، وهي بحق واقعة لا يسوغ لأحد انكارها بأدنى مراتب التشكيك والقدح، فقد تناولها بالذكر أئمّة المؤرّخين أمثال: البلاذري، وابن قتيبة، والطبري، والخطيب البغدادي، وابن عبد البر، وابن عساكر، وياقوت الحموي، وابن الأثير، وابن أبي الحديد، وابن خلكان، واليافعي، وابن كثير، وابن خلدون، والذهبي، وابن حجر العسقلاني، وابن صباغ المالكي ،

__________________

(١) لقد كرّر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه العبارة ثلاث مرات دفعاً لأيّ إلتباس أو اشتباه.

(٢) راجع للوقوف على مصادر هذا الحديث المتواتر موسوعة الغدير للعلّامة الأميني ( ره ).

٥٢٦

والمقريزي، وجلال الدين السيوطي، ونور الدين الحلبي إلى غير ذلك من المؤرخين الذين جادت بهم القرون والأجيال.

كما ذكره أيضاً أئمة الحديث أمثال: الإمام الشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن ماجة، والترمذي، والنسائي، وأبو يعلى الموصلي، والبغوي، والطحاوي، والحاكم النيسابوري، وابن المغازلي، والخطيب الخوارزمي، والكنجي، ومحب الدين الطبري، والحمويني، والهيثمي، والجزري، والقسطلاني، والمتقي الهندي، وتاج الدين المناوي، وأبو عبد الله الزرقاني، وابن حمزة الدمشقي إلى غير ذلك من أعلام المحدّثين الذين يقصر المقال عن عدّهم وحصرهم.

كما تعرض له كبار المفسّرين، فقد ذكره: الطبري، والثعلبي، والواحدي في أسباب النزول. والقرطبي، وأبو السعود، والفخر الرازي، وابن كثير الشامي، والنيسابوري، وجلال الدين السيوطي، والآلوسي، والبغدادي.

وذكره من المتكلّمين طائفة جمّة في خاتمة مباحث الإمامة وإن ناقشوا نقضاً وابراماً في دلالته كالقاضي أبي بكر الباقلاني في تمهيده، والقاضي عبد الرحمن الايجي في مواقفه، والسيد الشريف الجرجاني في شرحه، وشمس الدين الاصفهاني في مطالع الأنوار، والتفتازاني في شرح المقاصد، والقوشجي في شرح التجريد إلى غير ذلك من المتكلّمين الذين تعرّضوا لحديث الغدير وبحثوا حول دلالته ووجه الحجّة فيه.

واقعة الغدير ورمز الخلود:

أراد المولى عزّ وجلّ أن يبقى حديث الغدير غضّاً طرياً على مر الأجيال لم يُكدّر صفاء حقيقته الناصعة تطاول الأحقاب، وكرّ الأزمان، وانصرام الأعوام، ويرجع ذلك إلى اُمور ثلاثة:

١ ـ إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد هتف به في مزدحم غفير يربو على

٥٢٧

عشرات الآلاف عند منصرفه من الحج الأكبر، فنهض بالدعوة والاعلان، وحوله جموع من وجوه الصحابه وأعيان الاُمة، وأمر بتبليغ الشاهد الغائب ليكونوا كافّة على علم وخبر بما تمّ ابلاغه.

٢ ـ إنّ الله سبحانه قد أنزل في تلك المناسبة آيات تلفت نظر القارئ إلى الواقعة عندما يتلوها وإليك الآيات:

أ ـ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ( المائدة / ٦٧ ).

وقد ذكر نزولها في واقعة الغدير لفيف من المفسِّرين يربو عددهم على الثلاثين، وقد ذكر العلّامة البحّاثة المحقق الأميني في كتاب الغدير نصوص عبارات هؤلاء، فمن أراد الاطّلاع عليها، فليرجع إليه.

ب ـ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة / ٣ ).

وقد نقل نزول الآية جماعة منهم يزيدون على ستة عشر.

ج ـ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ *لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ *مِّنَ اللهِ ذِي المَعَارِجِ ) ( المعارج / ١ ـ ٣ ).

وقد ذكر أيضاً نزول هذه الآية جماعة من المفسّرين ينوف على الثلاثين أضف إلى ذلك أنّ الشيعة عن بكرة أبيهم متّفقون على نزول هذه الآيات الثلاث في شأن هذه الواقعة(١) .

٣ ـ إنّ الحديث منذ صدوره من منبع الوحي تسابقت الشعراء والاُدباء على نظمه، وانشاده في أبيات وقصائد امتدّت وقعتها منذ عصر انبثاق ذلك النص في تلك المناسبة إلى عصرنا هذا، وبمختلف اللغات والثقافات، وقد تمكّن البحّاثة المتضلع العلّامة الأميني من استقصاء وجمع كل ما نظم باللغة العربية حول تلك

__________________

(١) راجع كتاب الغدير في شأن نزول هذه الآيات: ج ١ ص ٢١٤ و ٢١٧.

٥٢٨

الحادثة، والمؤمّل والمنتظر من كافة المحققين على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم استنهاض هممهم لجمع ما نظم واُنشد في أدبهم الخاص.

وحصيلة الكلام: قلّما نجد حادثة تاريخية حظيت في العالم البشري عامّة، وفي التاريخ الإسلامي والاُمة الإسلامية خاصة بمثل ما حظيت به واقعة الغدير، وقلّما استقطبت اهتمام الفئات المختلفة من المحدثين والمفسرين والكلاميين والفلاسفة والاُدباء والكتّاب والخطباء وأرباب السير والمؤرخين كما استقطبت هذه الحادثة، وقلّما اعتنوا بشيء مثلما اعتنوا به.

هذا ويستفاد من مراجعة التاريخ أنّ يوم الثامن عشر من شهر ذى الحجة الحرام كان معروفاً بين المسلمين بيوم عيد الغدير، وكانت هذه التسمية تحظى بشهرة كبيرة إلى درجة أنّ ابن خلكان يقول حول « المستعلى بن المستنصر »:

« فبويع في يوم غدير خم، وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة ٤٨٧ ه‍ »(١) .

وقال في ترجمة المستنصر بالله العبيدي: « وتوفّي ليلة الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، قلت: وهذه هي ليلة عيد الغدير أعني ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجة، وهو غدير خم »(٢) .

وقد عدّه أبو ريحان البيروني في كتابه الآثار الباقية « ممّا استعمله أهل الإسلام من الأعياد »(٣) .

وليس ابن خلكان، وأبو ريحان البيروني، هما الوحيدان اللذان صرّحا بكون هذا اليوم هو عيد من الأعياد، بل هذا الثعالبي قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين(٤) .

__________________

(١) و (٢) وفيات الأعيان: ج ١ ص ٦٠.

(٣) ترجمة الآثار الباقية: ص ٣٩٥، الغدير: ج ١ ص ٢٦٧.

(٤) ثمار القلوب: ص ٥١١.

٥٢٩

إنّ عهد هذا العيد الإسلامي، وجذوره ترجع إلى نفس يوم « الغدير » لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمر المهاجرين والأنصار، بل أمر زوجاته ونساءه في ذلك اليوم بالدخول على « عليّ »عليه‌السلام ، وتهنئته بهذه الفضيلة الكبرى.

يقول زيد بن أرقم: كان أوّل من صافح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّاً: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وباقي المهاجرين والأنصار، وباقي الناس(١) .

الحمد للّه الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

خاتمة المطاف

ما قدّمناه إليك في الفصول السابقة حول حياة النبي وشخصيته كان مقتبساً من الذكر الحكيم ومدعماً بالتاريخ والأحاديث الصحيحة، وكان الجدير بنا أن نجعجع بالقلم عن الإفاضة ونترك ما بقى من خصوصيات حياته وشخصيته إلى كتب السيرة لمن أراد التوسّع.

غير أنّا نحب أن نركّز في الخاتمة على أساليب دعوته في عصر الرسالة ليكون قدوة لنا في هذا السبيل، ونكتفي من الكثير بالقليل.

__________________

(١) راجع مصدره في الغدير: ج ١ ص ٢٧٠.

٥٣٠

(١٤)

الإعلام وأساليبه في عصر الرسالة

إنّ انتشار أي دين أو أيديولوجية ورسوخها في العقول والنفوس يتوقّف مضافاً إلى إتقان ذلك الدين في محتواه ومضامينه على الدعوة الصحيحة إليه، وعرضه عرضاً واسعاً وشاملاً.

وقد توفّر في الإسلام هذان الجانبان:

أمّا الأوّل: فإنّ الإسلام ذو اُصول، ومفاهيم تنطبق على الفطرة الإنسانية، فهو يدعو إلى العدل والإحسان، واجتناب البغي والعدوان، وإلى النظر في ملكوت السماوات والأرض، وإلى العلم والقراءة والكتابة، وإلى التعاون والتعاضد، وغير ذلك من الاُصول الاجتماعية والأخلاقية التي توافق فطرة البشر وتعضدها العقول بلا استثناء.

كما أنّ الإسلام لا يشتمل على أيّة عقيدة رمزية أو اُصول معقدة لا تقدر على حلّها الأفكار، ولا تستطيع على دركها العقول، كما هو الحال في « تثليث » البراهمة والمسيحيين.

وأمّا الثاني: فإنّ القرآن الكريم يسعى بكل قوّة ووسيلة ممكنة إلى نشر الاسلام، فيخاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويأمره بالإنذار والتبشير، والدعوة والتبليغ، والصدع والموعظة، والتذكير، والبيان، والتعليم، والانباء، إلى غير ذلك من الأساليب التي تعرب عن لزوم قيام النبي بتبليغ الرسالة الاسلامية إلى الناس، بكل صورة ممكنة، وإليك نماذج من تلك الخطابات.

٥٣١

ففي مجال الانذار يقول تعالى:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ( الشعراء / ٢١٤ ).

وفي مجال التبشير يقول تعالى:( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ) ( البقرة / ٢٥ ).

ويقول تعالى:( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) ( الفتح / ٨ ).

وفي مجال الدعوة يقول سبحانه:( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ ) ( النحل / ١٢٥ ).

وفي مجال الابلاغ يقول سبحانه:( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إلّا الْبَلاغُ ) ( الشورى / ٤٨ ).

وفي مجال الصدع يقول سبحانه:( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) ( الحجر / ٩٤ ).

وفي مجال الموعظة يقول تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ ) ( النساء / ٦٣ ).

وفي مجال التذكير يقول تعالى:( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ) ( ق / ٤٥ ).

وفي مجال البيان يقول سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل / ٤٤ ).

وفي مجال التعليم يقول سبحانه:( يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) ( البقرة / ١٥١ ).

وفي مجال التنبّؤ قال سبحانه:( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( الحجر / ٤٩ ).

وقد قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الأمر، وعرض الاسلام عرضاً كاملاً قويّاً، فدعا أهله وأقرباءه أوّلاً، ثم دعا قومه وأبناء جلدته ثانياً، ولـمـّا استتبّ له الأمر، واستقرّ به المقام في المدينة المنوّرة، وجّه دعاته إلى شتّى أقطار الأرض وكلّفهم بابلاغ دينه ومنهاجه إلى الملوك والاُمراء والشعوب والقبائل، وتحقّق هذا العمل بشكل واسع حتى لم يلبث أن بلغ نداء الاسلام إلى مسامع جميع المجتمعات البشرية، دانيها وقاصيها في مدة لا تتجاوز قرناً واحداً من الزمان.

٥٣٢

نماذج من الإعلام في العهد النبوي

وقد تمثّل الإعلام الإسلامي في العهد النبوي، في اُمور قام بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في مجال تبليغ الإسلام، وإيصال نداءه إلى مسامع البشرية في مختلف الأقطار والأصقاع وهذه الاُمور هي:

١ ـ البعثات الإعلامية

قد قام النبي الأكرم بارسال مبعوثين ومندوبين للدعوة والتبليغ، ونذكر على سبيل المثال مصعب بن عمير، الذي بعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة ليعلّم الناس القرآن، ويفقّههم في الدين، وكان شابّاً ذكياً أسلم عن رغبة وتفهّم وتعلّم من القرآن كثيراً، فأمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالخروج إلى المدينة مع بعض من آمن من أهلها برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليدعو أهل المدينة من الأوس والخزرج إلى الإسلام، فاستطاع بحسن تدبيره، وفضل حكمته في التبليغ والإرشاد أن يستقطب عدداً كبيراً من أهل المدينة شيباً وشباباً ورجالاً ونساءً إلى الإسلام حتى لم يلبث أن جعل من يثرب مدينة إسلامية تهيّأت لاستقبال رسول الله أكبر استقبال، وهو لم يملك إلّا إيماناً صادقاً وإخلاصاً في العمل(١) .

وبعدما هاجر إلى المدينة بعث مجموعات تبليغية لنشر الإسلام ودعوة الناس إليه، وأخصّ بالذكر مجموعتين تبليغيتين أرسلهما رسول الإسلام إلى بعض القبائل لتعليمها القرآن الكريم وأحكام الاسلام، وهاتان المجموعتان هما:

المجموعة الاُولى: التي بعثها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قبيلتي عضل وقارة.

فقد طلبت القبيلتان من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبعث إليهم من

__________________

(١) أعلام الورى: ص ٢٧.

٥٣٣

يعلّمهم القرآن، ويفقّههم في الاسلام.

فاستجاب النبي لهذا الطلب، وأرسل ستة أشخاص، وأمَّر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي، ولكن القوم غدروا باُولئك المبلغين الأبرياء، فقتلوا من قتلوا منهم، وأسروا رجلين منهم باعوهما لقريش، فصلبوهما انتقاماً لقتلى بدر من المشركين والقصة مفصلة(١) .

المجموعة الثانية: وهي المجموعة التبليغية التي أرسلها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قبيلة « بني عامر » لطلب أحد زعمائها الكبار، وذلك قبل أن يبلغه غدر عضل وقارة بالمجموعة الاُولى، وقد أرسلهم بعد أخذ مواثيق وضمانات من الطالب، ولكن هذه المجموعة التي كانت تتألّف من أربعين شخصاً من خيرة القرّاء قد واجهت نفس ما واجهت المجموعة التبليغية الاُولى، ولكن لا على أيدي القبيلة المبعوثين إليها، بل على يد آخرين من القبائل المشركة المعادية للإسلام، وقد وقع الغدر والفتك بهم في منطقة تدعى بئر معونة(٢) .

وقد أحزنت هاتان الفاجعتان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّهما لم يثنيا عزمه الشريف عن مواصلة التبليغ، بل واصل ارسال المبلّغين والرسل إلى مناطق اُخرى كما أرسل طائفة كبيرة إلى الملوك والاُمراء والقبائل وزعماء الجماعات داخل الجزيرة العربية وخارجها.

٢ ـ الرسائل الإعلامية

وإليك فيما يلي طائفة من الرسائل التي بعثها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو فيها رؤساء القبائل إلى الاسلام، ونخص بالذكر كتبه الاعلامية فقط:

__________________

(١) المغازي: ج ١ ص ٣٥٤ ـ ٣٦٢، والسيرة النبوية لابن هشام: ج ٢ ص ١٦٩.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام: ج ٢ ص ١٨٣ ـ ١٨٧.

٥٣٤

١ ـ كتابه إلى سمعان بن عمرو الكلابي.

٢ ـ كتابه إلى ورد بن مرداس أحد بني سعد هذيم.

٣ ـ كتابه إلى الاقيال من حضرموت.

٤ و ٥ ـ كتابان إلى أهل قريتين.

٦ ـ كتابه إلى بني حارثة بن عمرو بن قريط.

٧ ـ كتابه إلى عبد العزيز بن سيف بن ذي يزن.

٨ ـ كتابه إلى عمرو بن مالك بن عمير الأرحبي.

٩ ـ كتابه إلى عريب والحارث ابني عبد كلال.

١٠ ـ ١٦ ـ سبعة كتب إلى فهد وزرعة وبس وغيرهم من ملوك حمير.

١٧ ـ كتابه إلى جفينة النهدي.

١٨ ـ كتابه إلى ملك الروم.

١٩ ـ كتابه إلى عبد الله بن الحارث الأعرج الأزدي الغامدي.

٢٠ ـ كتابه إلى خراش بن جحش العبسي.

٢١ ـ كتابه إلى سرباتك ملك الهند.

٢٢ ـ كتابه إلى قيس بن عمر الهمداني.

٢٣ ـ كتابه إلى جبلّة بن الأيهم الغساني.

٢٤ ـ كتابه إلى بني معاوية من كندة.

٢٥ ـ كتابه إلى نفاثة بن فروة ملك السماوة.

٢٦ ـ كتابه إلى عذرة.

٢٧ ـ كتابه إلى ذي عمرو.

٢٨ ـ كتابه إلى ذي الكلاع.

٥٣٥

٢٩ ـ كتابه إلى اسيخب.

٣٠ ـ كتابه إلى حوشب ذي ظليم.

٣١ ـ كتابه إلى رعية السحيمي.

٣٢ ـ كتابه إلى قيس بن مالك(١) .

هذه كتاباته التبليغية التي وردت أسماؤها في الكتب، وإن ذهبت ألفاظها وعبارتها فلم يبق منها إلّا الإسم.

وهناك كتب تبليغية لهصلى‌الله‌عليه‌وآله موجودة بأعيانها وخصوصيّاتها في كتب السير والتاريخ والحديث، والكلّ يدلّ على أنّ الإسلام انتشر في العالم بفضل الدعوة الصحيحة وبعث الدعاة والرسل، ولو كان هناك سل السيف وسفك الدم، فإنّما كان لرفع الحواجز بين الرسول وتبليغه.

وإليك أسماء كتبه الموجودة التبليغيّة التي أرسلها إلى الملوك والاُمراء والشيوخ والقبائل على نحو الإيجاز والإيعاز والتفصيل يطلب من مظانّه(٢) .

مراسلة الملوك والاُمراء ورؤساء القبائل

إنّ أبرز كتبه في الدعوة إلى الاسلام هي:

١ ـ كتابه إلى كسرى ملك الفرس.

٢ ـ كتابه إلى قيصر عظيم الروم.

٣ ـ كتابه إلى النجاشي ملك الحبشة.

٤ ـ كتابه إلى المقوقس ملك مصر.

__________________

(١) لاحظ مكاتيب الرسول للعلّامة الأحمدي: ص ٣٥ ـ ٤٠.

(٢) راجع الوثائق السياسية ومكاتيب الرسول.

٥٣٦

٥ ـ كتابه إلى ملوك الشام واليمامة.

٦ ـ كتابه إلى الحارث بن أبي شمر.

٧ ـ كتابه إلى هوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة.

٨ ـ كتابه إلى المنذر بن ساوي.

٩ ـ كتابه لرفاعة بن زيد الجزامي.

١٠ ـ كتابه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي.

١١ ـ كتابه إلى فروة بن عمرو الجذابي.

١٢ ـ كتابه إلى أكثم بن صيفي.

١٣ ـ كتابه إلى اسيخب بن عبد الله.

١٤ ـ كتابه إلى يحنه بن رؤبة وسروات أهل أيلة.

١٥ ـ كتابه إلى زياد بن جهور.

١٦ ـ كتابه إلى بكر بن وائل.

١٧ ـ كتابه إلى مسيلمة الكذّاب.

١٨ ـ كتابه إلى ضغاطر الأسقف.

١٩ ـ كتابه إلى اليهود.

٢٠ ـ كتابه إلى يهود خيبر.

٢١ ـ كتابه إلى أسقف نجران.

٢٢ ـ كتابه إلى هرمزان عامل كسرى.

وقد دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الكتب التي سجّلها التاريخ وأثبت نصوصها كاملة، الملوك والاُمراء إلى الدين الإسلامي وشرح أهدافه وغاياته السامية.

٥٣٧

وقد حمل هذه الكتب رجالاً من أصحابه اتّسموا بالنباهة والذكاء، والشجاعة والحكمة.

ويذكر التاريخ أنّ بعضهم كان يعرف لغة القوم الذين اُرسل إليهم مع كتاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وكان هؤلاء الرسل يتمتّعون بإيمان قوي، وينطلقون من عقيدة راسخة بالدين وشجاعة، وهي الصفات التي يجب أن يتحلّىٰ بها المبلّغ، ولهذا كانوا في الأغلب يؤثرون في نفوس المرسل إليهم حتّى انّهم كانوا يقبلون دعوة النبي ولو آل إلى التضحية بحياتهم كما حدث لضغاطر الأسقف فإنّه لـمّا جاءه كتاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقرأه أخذ بمجامع قلبه واهتدى إلى الحق واعتنق الإسلام راغباً وقال لقومه من الروم:

« يا معشر الروم إنّي أشهد أن لا إلٰه إلّا الله وأنّ أحمد عبده ورسوله »، فوثبوا عليه وثبة رجل واحد وقتلوه »(١) .

٣ ـ التبليغ عن طريق الأدب والنظم

ولم يكتف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في تبليغ رسالته بالرسائل والكتب بل استعان بالشعر أيضاً ولهذا كان حسّان يخلّد الحوادث، بأبيات من الشعر، ويشجّعه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وربّما دافع حسّان وغيره عن حوزة الإسلام ونبيّه بهجاء من يعادونه أو يتعرّضون له أو يهجونه، وإليك نماذج من هذا الأمر.

١ ـ عندما هجا ابن الزبعريّ المسلمين يوم اُحد، قائلاً:

يا غراب البين اسمعت فقل

إنّما تنطق شيئاً قد فعل

__________________

(١) الطبري: ج ٢ ص ٣٩٢ و ٦٩٣.

٥٣٨

إلى أن قال:

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

فقتلنا الضِّعف من أشرافهم

وعدلنا ميل بدر فاعتدل

قال حسّان في الرد عليه:

ذهبت يا بن الزبعري وقعة

كان منّا الفضل فيها لو عدل

ولقد نلتم ونلنا منكم

وكذاك الحرب أحياناً دول

الى آخره .

٢ ـ لما قال عمرو بن العاص في هجاء المسلمين يوم اُحد:

خرجنا من الفيفا عليهم كأنّنا

مع الصبح من رضوىٰ الحبيك المـُنَطّق

أرادوا لكيما يستبيحوا قبابنا

ودون القباب اليوم ضرب محَرّق

قال كعب بن مالك في الردّ عليه:

ألا أبلغا فهراً على نأي دارها

وعندهم من علمنا اليوم مصدق

إلى أن قال:

لنا حومة لا تستطاع يقودها

نبيّ أتىٰ بالحقّ عف مصدّق

٣ ـ ما قاله هبيرة يوم اُحد أيضاً في هجاء المسلمين إذ قال فيما قال من الشعر:

كان هامهم عند الوغى فلق

من قيض رُبْدٍ نفته عن أداحيها

فأجاب حسّان بقوله:

ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت

أهل القليب ومن ألقينه فيها

٥٣٩

كم من أسير فككناه بلا ثمن

وجزّ ناصية كنّا مواليها(١)

وغير ذلك من الموارد التي قابل فيها حسّان وغيره من شعراء الإسلام الاول هجاء بهجاء، قارع قاصع.

٤ ـ إعلان البراءة من المشركين

وكان من أبرز مصاديق التبليغ والإعلام ما كلّف به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر من الله تعالى، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بتلاوة آيات من صدر سورة التوبة على مسامع المشركين وغيرهم في يوم الحج الأكبر والتي أعلن الله فيها براءته وبراءة نبيّه من الشرك والمشركين، وضرب لهم أجلاً ليبيّنوا موقف من الاسلام وأعلن أنّ المشركين لا يجوز لهم دخول مكّة بعد ذلك الوقت والأجل.

وقد كان لهذا الإعلان العام القوي أثر كبير في إسلام مجموعات كبيرة من القبائل المشركة، وتوافدها على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في العام المسمّى بعام الوفود.

٥ ـ شعار المسلمين في الهجمات العسكرية

ومن جملة أساليب التبليغ التي كان يتبعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إطلاق الشعارات المناسبة في المعارك فمثلاً لـمّا صاح أبو سفيان بعد إلحاق الهزيمة بالمسلمين: أعل هبل أعل هبل. أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يقابلوه بشعار:

الله أعلى وأجل.

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ٢ ص ٢ و ١٣١ ـ ١٣٢.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581