مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265839 / تحميل: 6065
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الفصل الثالث و الخمسون في الفتن و الشبه و البدع

١٦١

١ في أوّل الباب الثالث من النهج باب المختار

من حكم امير المؤمنينعليه‌السلام و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله و الكلام القصير الخارج في ساير أغراضه .

قالعليه‌السلام :

كُنْ فِي اَلْفِتْنَةِ كَابْنِ اَللَّبُونِ لاَ ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ وَ لاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ قول المصنّف : « باب المختار » هو القسم الأخير من كتابه « من حكم أمير المؤمنينعليه‌السلام » اقتصر عليه في ( المصرية ) و زاد ابن أبي الحديد و ابن ميثم : « و مواعظه » و هو الصحيح لأصحية نسختيهما لا سيما الأخير الذي نسخته بخط المصنف .

و لأنّ فيه مواعظ كثيرة و منها في العنوان ( ١٥٠ ) كلامهعليه‌السلام لرجل سأله أن يعظه الذي قال المصنف فيه « و لو لم يكن في هذا الكتاب إلاّ هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة » .

١٦٢

و وصف الشعبي كلامهعليه‌السلام في الحكم و غيرها فقال : تكلّم أمير المؤمنينعليه‌السلام بتسع كلمات ارتجلهن ارتجالا فقأن عيون البلاغة و أيتمن جواهر الحكمة و قطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهن ، ثلاث منهن في الحكمة و ثلاث في المناجاة و ثلاث في الأدب ، أما اللائي في الحكمة فقال : قيمة كلّ امرى‏ء ما يحسنه ، و ما هلك امرؤ عرف قدره ، و المرء مخبوء تحت لسانه .

و أما اللائي في المناجاة فقال : اللّهم كفى بي عزّا أن أكون لك عبدا ، و كفى بي فخرا أن تكون لي ربا ، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب و أما اللائي في الأدب فقال : امنن على من شئت تكن أميره ، و استغن عمّن شئت تكن نظيره و احتج إلى من شئت تكن أسيره(١) .

« و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسألته » ترى أجوبة مسألته في العناوين ( ١٦ ) ( ٣٠ ) ( ٩٤ ) ( ١٢٠ ) ( ١٥٠ ) ( ٢٢٧ ) ( ٢٢٩ ) ( ٢٣٥ ) ( ٢٦٦ ) ( ٢٨٧ ) ( ٢٩٤ ) ( ٣٠٠ ) ( ٣١٨ ) ( ٣٥٦ ) ( ٤٧٠ ) .

« و الكلام القصير » كان حاجب هشام بن عبد الملك يأمر منتجعيه بالإيجاز في الكلام ، فقام أعرابي فقال : إنّ اللَّه تعالى جعل العطاء محبة و المنع مبغضة فلأن نحبك خير من أن نبغضك فأعطاه و أجزل له .

« الخارج في سائر أغراضه » أي باقي مقاصده ، و الأصل في ( الغرض ) الهدف و ( سائر ) يأتي بمعنى الجميع و معنى الباقي ، و الأخير هو المراد هنا .

قوله « كن في الفتنة » الأصل في « الفتنة » قولهم « دينار مفتون » فتن بالنار ، و كلّ شي‏ء ادخل النار فقد فتن ، و قالوا « الناس عبيد الفتانين » أي الدرهم و الدينار .

« كابن اللبون » ابن اللبون : ولد الناقة الذكر إذا دخل في الثالثة ، لأن امّه

____________________

( ١ ) الخصال للصدوق : ١٨٦ .

١٦٣

وضعت غيره فصار لها لبن ، و الانثى بنت اللبون ، و يجمعان بنات اللبون .

« لا ظهر فيركب و لا ضرع فيحلب » نظيره قول حاجب بن زرارة في القعقاع :

ما هو رطب فيعصر و لا يابس فيكسر .

و في المثل : لا تكن حلوا فتزدرد و لا مرّا فتلفظ .

و من الأمثال في الاعتزال قولهم : لا ناقة لي في هذا و لا جمل و قالوا : ان كنت من أهل الفطن فلا تدر حول الفتن .

ثم كما لا ينتفع بابن اللبون لصغره كذلك بالثلب لكبره ، و هو الذي انكسرت أنيابه من شدّة هرمه ، و إنما الانتفاع الكامل بالناب الذي في وسط الشباب ، قال بعضهم :

ألم تر أن الناب يحلب علبة

و يترك ثلب لا ضراب و لا ظهر

قال ابن أبي الحديد : أيام الفتنة هي أيام الخصومة بين رئيسين ضالين يدعوان كلاهما إلى ضلالة ، كفتنة عبد الملك و ابن الزبير و فتنة مروان و الضحاك و فتنة الحجاج و ابن الأشعث ، و أما إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين(١) .

قلت : إن جانبوا العصبية و أرادوا فهم الحقيقة فأول أيام الفتنة أيام أوّلهم ، ففي ( الطبري ) : قال أبو مويهبة مولى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : بعث إليّ النبي من جوف الليل فقال : يا أبا مويهبة إنّي قد امرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال : السّلام عليكم أهل المقابر ، ليهن لكم ما أصبحتم ممّا أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها ، الآخرة شرّ من الاولى إلى أن قال ثم انصرف فبدأ

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨٢ .

١٦٤

بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعه الذي قبض فيه(١) .

و في ( بلاغات نساء أحمد بن أبي طاهر البغدادي ) من رجالهم في ذكره خطبة سيّدة نساء العالمين باتفاق فرق المسلمين لما منعها أبو بكر فدك و في الخطبة : فأنقذكم اللَّه برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد اللتيا و التي ، و بعد ما مني ببهم الرجال و ذؤبان العرب ، كلّما حشوا نارا للحرب أطفأها و نجم قرن للضلال و فغرت فاغرة من المشركين قذف بأخيه في لهواتها ، فلا ينكفي حتى يطأ صماخها بأخمصه و يخمد لهبها بحده ، مكدودا في ذات اللَّه قريبا من رسول اللَّه سيّدا في أولياء اللَّه ، و أنتم في بلهنية و ادعون آمنون ، حتى إذا اختار اللَّه تعالى لنبيه دار أنبيائه ظهرت خلّة النفاق و سمل جلباب الدين و نطق كاظم الغاوين و نبغ خامل الآفلين و هدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم و أطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخا بكم ، فوجدكم لدعائه مستجيبين و للغرة فيه ملاحظين ، فاستنهضكم فوجدكم خفافا و أحمشكم فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير أبلكم و أوردتموها غير شربكم ، هذا و العهد قريب و الكلم رحيب و الجراح لما يندمل ، بدارا زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا و إنّ جهنم لمحيطة بالكافرين(٢) .

و روى الإسكافي منهم في نقضه ( عثمانية الجاحظ ) عن أبي رافع قال :

أتيت أبا ذر بالربذة اودّعه ، فلما أردت الانصراف قال لي و لا ناس معي :

ستكون فتنة فاتقوا اللَّه و عليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه ، فإني سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول له : أنت أوّل من آمن بي و أوّل من يصافحني يوم القيامة ، و أنت الصدّيق الأكبر ، و أنت الفاروق الذي تفرّق بين الحق و الباطل ،

____________________

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ٤٣٢ .

( ٢ ) بلاغات النساء لابن طيفور : ١٣ ١٤ .

١٦٥

و أنت يعسوب المؤمنين و المال يعسوب الكافرين ، و أنت أخي و وزيري و خير من أترك بعدي(١) .

ثم ما قاله ابن أبي الحديد : من فتنة الحجاج و ابن الأشعث خلاف عقيدة أهل نحلته ، فإنّ عندهم كان قيام ابن الأشعث فتنة ، و أمّا الحجاج فكان عامل من بايعه جميع الناس و كان عندهم خليفة حقّا و أميرا للمؤمنين به .

و كذلك قوله « فتنة عبد الملك و ابن الزبير » غير صحيح عند أهل ملته ، فانّه عندهم كان ابتداء ابن الزبير ولي اللَّه و عبد الملك عدوّ اللَّه ، و لما غلب عبد الملك صار هو ولي اللَّه و ابن الزبير عدوّ اللَّه(٢) .

ففي ( كامل المبرد ) : خرج مصعب بن الزبير إلى باجميراء ، ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن و لم يأت المهلب و أصحابه ، فتواقفوا يوما على الخندق ، فناداهم الخوارج : ما تقولون في المصعب ؟ قالوا : إمام هدى قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : ضالّ مضل فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل صعب و إنّ أهل الشام اجتمعوا على عبد الملك ، و ورد عليه كتاب عبد الملك بولايته ، فلما تواقفوا ناداهم الخوارج : ما تقولون في مصعب ؟ قالوا : لا نخبركم قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : إمام هدى قالوا : يا أعداء اللَّه بالأمس ضال مضل و اليوم امام هدى ، يا عبيد الدّنيا عليكم لعنة اللَّه(٣) .

و الخوارج و إن طعنوا عليهم بكون ما عليهم خلاف العقل و خلاف الفطرة التي فطر الناس عليها ، إلاّ أنّه يقال لهم : إنّ ذلك لازم لكم أيضا بموافقة العامة في إمامة صديقهم و صديقه ، فلا يمكن القول بالملزوم و ترك اللازم .

____________________

( ١ ) نقض العثمانية لأبي جعفر الإسكافي : ٢٩٠ ملحقة بالعثمانية .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨٢ .

( ٣ ) الكامل في الأدب للمبرّد ٣ : ١١٠١ ١١٠٢ .

١٦٦

و أما قوله « إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين » فأيضا أهل ملّته غير معترفين به ، فهذا ابن عبد البر من أئمتهم قال في سعد بن أبي وقاص الذي لم يشهد الجمل و صفين مع أمير المؤمنينعليه‌السلام :

كان ممّن قعد و لزم بيته في الفتنة و أمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس بشي‏ء حتى تجتمع الامة على إمام(١) .

و قال في ترجمة ابن فاروقهم : قيل لنافع : ما بال ابن عمر بايع معاوية و لم يبايع عليّا ؟ فقال : كان ابن عمر لا يعطي يدا في فرقة و لا يمنعها من جماعة ، و لم يبايع معاوية حتى اجتمعوا عليه(٢) .

قبّح اللَّه هذا الدين الذي يصير معاوية الذي كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعنه في غير موطن و عدوّ الدين أولى بالإمامة من أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي جعله اللَّه تعالى في كتابه كنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله .( و أنفسنا و أنفسكم . ) (٣) و جعله النبي بمنزلة نفسه في المتواتر منه في قوله للناس : من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه .

لا يقال : انّما قال « من كنت مولاه فعلي مولاه » لا ما قلت قلت : ما ذكرته ان لم يكن لفظه هو معناه ، ألم يكن قال تلك الجملة بعد قوله للناس « ألست بكم أولى من أنفسكم » و قول الناس له « بلى أنت أولى بنا من أنفسنا » فهل يصير معناها غير ما قلناه .

قبّح اللَّه هذا الدين الذي هو خلاف ناموس الإنسانية ، حتى ان الحجاج الذي قال عمر بن عبد العزيز الذي هو أحد خلفائهم : لو أنّ جميع الامم جاءت

____________________

( ١ ) الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر ٢ : ٦٠٩ .

( ٢ ) المصدر نفسه ٣ : ٩٥٣ .

( ٣ ) آل عمران : ٦١ .

١٦٧

يوم القيامة كلّ واحدة منهم بشرارهم و جئناهم بالحجاج لغلبنا جميعهم لم يرضه ، فقال الاسكافي أحد أئمتهم في نقض ( عثمانيته ) : امتنع ابن عمر من بيعة عليعليه‌السلام و طرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام ، زعم لأنّه روي ان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال « من مات و لا إمام له مات ميتة جاهلية »(١) و حتى بلغ من احتقار الحجاج له و استرذاله حاله أن أخرج رجله من الفراش فقال : اصفق بيدك عليها قال و رواه بعضهم و زاد : و لما خرج قال الحجاج : ما أحمق هذا يترك بيعة علي و يأتيني مبايعا في ليله .

٢ الخطبة ( ٩١ ) إِنَّ اَلْفِتَنَ

إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ يَحُمْنَ حَوْلَ اَلرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً أقول : رواه الثقفي في أول ( غاراته ) باسنادين عن زر بن حبيش عنهعليه‌السلام : الأول عن إسماعيل بن ابان عن عبد الغفار بن القاسم عن المنصور بن عمرو عن ذر و الثاني عن أحمد بن عمران الأنصاري عن أبيه عن أبن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن زر قال : خطب عليعليه‌السلام بالنهروان إلى أن قال فقام إليه رجل آخر فقال لهعليه‌السلام : حدّثنا عن الفتن قال : ان الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت ، يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات ، ان الفتن تحوم كالرياح يصبن بلدا و يخطئن اخرى(٢) .

« ان الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت » في ( نهاية الجزري ) : التشابه قسمان ، قسم إذا ردّ إلى المحكم يفهم معناه ، و قسم لا سبيل إلى معرفة

____________________

( ١ ) نقض العثمانية : ٣٠١ .

( ٢ ) الغارات للثقفي : ٧ .

١٦٨

حقيقته ، فالمتتبع له متتبع للفتنة ، لأنّه لا يكاد ينتهي إلى شي‏ء تسكن إليه نفسه ، و منه حديث ذكر فيه فتنة « تشبه مقبلة و تبين مدبرة » أي أنّها إذا أقبلت شبهت على القوم و أرتهم أنّهم على الحق حتى يدخلوا فيها و يركبوا منها ما لا يجوز ، فإذا أدبرت بان أمرها فعلم من دخل فيها أنّه كان على الخطأ(١) .

« ينكرن مقبلات و يعرفن مدبرات » قد عرفت أنّ ( غارات الثقفي ) رواه « يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات » .

« يحمن حول الرياح » هكذا في ( المصرية )(٢) ، و الصواب : « حوم الرياح » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية )(٣) ، مع أنّه لا معنى لما في ( المصرية ) ، فالفتن لا يدرن حول الرياح بل يدرن حول الناس دور الرياح ، من قولهم « حام الطائر حول الشي‏ء حوما » أي دار .

« يصبن بلدا و يخطئن اخرى » أي كما أن الرياح الشديدة تصيب بلدا و تخطى‏ء بلدا كذلك الفتن يصبن بلدا فيبتلى الناس بوخامتهن و يخطئن بلدا فيسلمون منها .

٣ الحكمة ( ٧٦ ) و قالعليه‌السلام :

إِنَّ اَلْأُمُورَ إِذَا اِشْتَبَهَتْ اُعْتُبِرَ آخِرُهَا بِأَوَّلِهَا كان العباسيون يدّعون إجراء العدالة إذا ظهروا إلاّ انّه كان حالهم في الآخر معلومة من أوّلها .

____________________

( ١ ) النهاية لابن الأثير للجزري ٢ : ٤٤٢ .

( ٢ ) الطبعة المصرية : ٢٣٤ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٧ : ٤٤ الخطبة ( ١٩٢ ) ، أمّا شرح ابن ميثم ٢ : ٣٨٨ ، بلفظ « حول » ، أما الخطبة ٧٤ بلفظ « حوم » .

١٦٩

و لما بايعت الأوس أبا بكر لئلا يصير الأمر إلى الخزرج و كانت بينهما رقابة من الجاهلية ، قال لهم المنذر بن الحباب : فعلتموها أما و اللَّه لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم قد وقفوا يسألونهم بأكفّهم و لا يسقون الماء .

و صار كما قال(١) .

٤ الحكمة ( ٩٣ ) و قالعليه‌السلام :

لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ اَلْفِتْنَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ إِلاَّ وَ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ وَ لَكِنْ مَنِ اِسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ مُضِلاَّتِ اَلْفِتَنِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ١ ٧ ٨ : ٢٨ وَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَخْتَبِرُهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ لِيَتَبَيَّنَ اَلسَّاخِطَ لِرِزْقِهِ وَ اَلرَّاضِيَ بِقِسْمِهِ وَ إِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ لَكِنْ لِتَظْهَرَ اَلْأَفْعَالُ اَلَّتِي بِهَا يُسْتَحَقُّ اَلثَّوَابُ وَ اَلْعِقَابُ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ اَلذُّكُورَ وَ يَكْرَهُ اَلْإِنَاثَ وَ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ تَثْمِيرَ اَلْمَالِ وَ يَكْرَهُ اِنْثِلاَمَ اَلْحَالِ و هذا من غريب ما سمع منه في التفسير « لا يقولن أحدكم اللّهم اني أعوذ بك من الفتنة » قال ابن بابويه في ( توحيده ) :

الفتنة على عشرة أوجه : فوجه الضلال ، و الثاني : الاختبار و هو قوله تعالى .( و فتناك فتونا ) .(٢) ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون ) (٣) و الثالث : الحجّة و هو قوله تعالى( ثم لم تكن فتنتهم إلاّ أن قالوا

_ ___________________

( ١ ) التوحيد للصدوق : ٣٨٦ .

( ٢ ) طه : ٤٠ .

( ٣ ) العنكبوت : ١ ٢ .

١٧٠

 و اللَّه ربنا ما كنّا مشركين ) (١) و الرابع : الشرك و هو قوله تعالى .( و الفتنة أشدّ من القتل ) .(٢) و الخامس : الكفر و هو قوله تعالى .( ألا في الفتنة سقطوا ) .(٣) و السادس : الإحراق بالنار و هو قوله تعالى( إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ) . .(٤) و السابع : العذاب كقوله تعالى( يوم هم على النار يفتنون ) (٥) ( ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون ) (٦) .( و من يرد اللَّه فتنته فلن تملك له من اللَّه شيئا ) . .(٧) و الثامن : القتل كقوله تعالى .( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) .(٨) ( فما آمن لموسى إلاّ ذريّة من قومه على خوف من فرعون و ملئهم أن يفتنهم ) .(٩) و التاسع : الصدّ كقوله تعالى( و ان كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا اليك ) .(١٠) و العاشر : شدّة المحنة كقوله تعالى .( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) (١١) ، و قد زاد علي بن ابراهيم وجها آخر ، و هو المحبة كقوله تعالى .( انّما أموالكم و أولادكم فتنة ) .(١٢) و عندي أنّه المحنة بالنون لا المحبة بالباء لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله « الولد مجبنة مبخلة »(١٣) .

____________________

( ١ ) الأنعام : ٢٣ .

( ٢ ) البقرة : ١٩١ .

( ٣ ) التوبة : ٤٩ .

( ٤ ) البروج : ١٠ .

( ٥ ) الذاريات : ١٣ .

( ٦ ) الذاريات : ١٤ .

( ٧ ) المائدة : ٤١ .

( ٨ ) النساء : ١٠١ .

( ٩ ) يونس : ٨٣ .

( ١٠ ) الاسراء : ٧٣ .

( ١١ ) يونس : ٨٥ .

( ١٢ ) الأنفال : ٢٨ .

( ١٣ ) بحار الأنوار ١٠٤ : ٩٧ رواية ٦٠ ب ٢ .

١٧١

قلت : و المفهوم من الخليل أن الأصل في معناه الإحراق ، فقال : الفتن الإحراق(١) ، قال تعالى( يوم هم على النار يفتنون ) (٢) ، و ورق فتين أي فضة محرقة و يقال للحرة فتين كأن حجارتها محرقة .

هذا ، و عن الأصمعي لا يقال أفتنته بل فتنته ، ورد عليه بقول أعشى همدان في سعيد بن جبير :

لئن أفتنتني فهي بالأمس أفتنت سعيدا فأمسى قد قلى كلّ مسلم(٣) و عن ام عمرو بنت الأهتم : مررنا بمجلس فيه سعيد بن جبير و نحن جوار و معنا جارية تغني بدف معها و تنشد البيت « لئن أفتنتني . » ، فقال سعيد : كذبتن كذبتن .

« لأنّه ليس أحد إلاّ و هو مشتمل على فتنة » و لو بالمال أو الولد ، و لأنّ سنته تعالى فتن عباده و لن تجد لسنته تبديلا ، قال تعالى( أحسب الناس ان يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فَليعلمنَّ اللَّه الذين صدقوا و ليعلَمَنَّ الكاذبين ) (٤) .

« و لكن من استعاذ فليستعذ باللَّه من مضلاّت الفتن » كما في فتنة بني اسرائيل بالعجل الذي أضلّهم السامري به حتى تركوا هارون و أرادوا قتله .

و كما في فتنة المسلمين بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمثل فتنة بني اسرائيل بجعل الثاني الأول عجله حتى تركوا خليفة نبيّهم و أرادوا قتله ، و كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم في المتواتر : لتتبعن بني إسرائيل حذوا بحذو حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه .

____________________

( ١ ) العين لأحمد الفراهيدي ٨ : ١٢٧ مادة ( فتن ) .

( ٢ ) الذاريات : ١٣ .

( ٣ ) العين للفراهيدي ٨ : ١٢٨ مادة ( فتن ) .

( ٤ ) العنكبوت : ٢ ٣ .

١٧٢

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) في قصة السقيفة فأخرجوا عليّا فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع فقال : إن أنا لم أفعل فمه ؟ قالوا : إذن و اللَّه الذي لا إله إلاّ هو لضرب عنقك قال : إذن تقتلون عبد اللَّه و أخا رسوله قال عمر : أما عبد اللَّه فنعم و أما أخو رسوله فلا و أبو بكر ساكت لا يتكلّم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه ؟ فقال : لا اكرهه على شي‏ء ما كانت فاطمة إلى جنبه فلحق علي بقبر رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يصيح و يبكي و ينادي : يابن امّ إن القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني إلى آخر ما ذكر(١) .

هذا ، و روى ( توحيد الصدوق ) أنّه تعالى قال : إنّ من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده ، و إنّ منهم لمن لا يصلح ايمانه إلاّ بالفقر و لو أغنيته لأفسده ، و إنّ منهم لمن لا يصلح ايمانه إلاّ بالغنى و لو أفقرته لأفسده ، و ان منهم لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالسقم و لو صححت جسده لأفسده ذلك ، و إنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالصحّة و لو أسقمته لأفسده ، و إنّي ادبر عبادي بعلمي بقلوبهم فإنّي عليم خبير(٢) .

« فإنّ اللَّه سبحانه يقول( و اعلموا أنّما أموالكم و أولادكم فتنة و أن اللَّه عنده أجر عظيم ) (٣) .

« و معنى ذلك أنّه سبحانه » سقطت كلمة « سبحانه » من ( المصرية )(٤) مع وجودها في ( ابن ميثم و ابن أبي الحديد و الخطية )(٥) .

____________________

( ١ ) الخلفاء لابن قتيبة : ١٣ .

( ٢ ) التوحيد للصدوق : ٣٩٨ ح ١ .

( ٣ ) الأنفال : ٢٨ .

( ٤ ) الطبعة المصرية : ٦٧٧ .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٢٤٨ ، و ابن ميثم ٥ : ٢٨٧ .

١٧٣

« يختبرهم » أي : يمتحنهم .

« بالأموال و الأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه » في الأموال .

« و الراضي بقسمه » في الأولاد .

« و إن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم » .( فليعلمن اللَّه الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين ) (١) .

« و لكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب و العقاب » لأن الجزاء على العمل لا مجرّد النيّة و مقتضى الطوية ، و إن كان هو تعالى يثيب على مجردهما تفضلا و لا يؤاخذ على صرفهما تكرّما .

« لأنّ بعضهم يحب الذكور و يكره الاناث » حتى قال تعالى( في مثلهم و إذا بُشّر أحدهم بالانثى ظلّ وجهه مسودّا و هو كظيم يتوارى عن القوم من سوء ما بُشّر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون ) (٢) .

قالوا : و لحب الناس الذكور و كراهتم للإناث و كان الواجب عليهم التسليم لمشيته تعالى شأنه قدّم عز و جل هبة الإناث على الذكور فقال .( يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور ) (٣) .

« و بعضهم يحبّ تثمير المال و يكره انثلام الحال » أي وقوع الخلل فيه ، قال تعالى( و إنّه لحبّ الخير لشديد ) (٤) و فسر الخير هنا بالمال .

و قال تعالى في امتحان عبيده بالمال و الولد و غيرهما( و لنبلونكم بشي‏ء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثمرات

_ ___________________

( ١ ) العنكبوت : ٣ .

( ٢ ) النحل : ٥٨ ٥٩ .

( ٣ ) الشورى : ٤٩ .

( ٤ ) العاديات : ٨ .

١٧٤

 و بشّر الصابرين ) (١) .

« و هذا من غريب ما سمع منه في التفسير » و لو كان قال ما روي عنهعليه‌السلام بدل ما سمع منهعليه‌السلام كان أحسن .

جعله من غريب التفسير لأنّ المتبادر من كون الأموال فتنة أنّ الانسان يطغى أن رآه استغنى ، و أنّ كثيرا من الناس يميل المال بهم إلى الشهوات كما أنّ كثيرا منهم يصعب عليهم إخراج الحقوق التي أوجب اللَّه تعالى عليهم في المال فيهلكون كما ان المتبادر من كون الأولاد فتنة أنّهم يصيرون سببا للتخلّف عن الجهاد ، و البخل عن الزكاة ، و تحصيل المال لهم من غير طريق المشروع لو ضاق عليه المشروع و لموافقة الآباء غالبا أهواء أبنائهم المهوية ، كما اتفق للزبير مع ابنه ، فقالعليه‌السلام : ما زال الزبير منّا حتى نشأ ابنه الميشوم .

و روت العامة في تفسير الآية عن بريدة : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخطب فجاء الحسن و الحسينعليهما‌السلام و عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران ، فنزل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إليهما فأخذهما و وضعهما في حجره على المنبر و قال : صدق اللَّه تعالى( انّما أموالكم و أولادكم فتنة ) .(٢) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان و يعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي و رفعتهما(٣) .

هذا ، و مما روي عنهعليه‌السلام من غريب التفسير غير ما مرّ أنّهعليه‌السلام قال :

الاستثناء في اليمين متى ما ذكر و لو بعد أربعين صباحا ثم تلا هذه الآية . و اذكر ربّك إذا نسيت .(٤) .

و أنّهعليه‌السلام قال : تستحب المقاربة مع أهله ليلة أول شهر الصيام لقوله

____________________

( ١ ) البقرة : ١٥٥ .

( ٢ ) التغابن : ١٥ .

( ٣ ) سنن الترمذي ٥ : ٦١٦ ح ٣٧٧٤ .

( ٤ ) الكافي ٧ : ٤٤٨ الرواية ٦ ، و الآية ٢٤ من سورة الكهف .

١٧٥

تعالى( اُحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) . .(١) .

٥ في الخطبة ( ١٤٣ ) منها :

وَ مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ فَاتَّقُوا اَلْبِدَعَ وَ اِلْزَمُوا اَلْمَهْيَعَ إِنَّ عَوَازِمَ اَلْأُمُورِ أَفْضَلُهَا إِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا « و ما احدثت بدعة إلاّ ترك بها سنة » قال ابن أبي الحديد : البدعة كلّ ما لم يكن في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمنها الحسن كصلاة التراويح و منها القبيح كالمنكرات التي ظهرت أواخر الخلافة العثمانية و إن كانت قد تكلّفت الأعذار عنها(٢) .

قلت : صلاة التراويح أيضا من بدع ، قالعليه‌السلام ترك بها سنة ، و كيف تكون حسنة و كانت تشريعا في قبال الدين ، و إنما التشريع للَّه تعالى( ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون إنّ لكم فيه لما تخيرون ) (٣) .

ما كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يشرّع شيئا من قبل نفسه إلاّ بوحي منه تعالى إليه ، فكيف كان لعمر الذي أفحمته مرأة في أنفها فطس في حظره جعل الصداق أكثر من خمسمائة درهم بأنّه تعالى قال .( و آتيتم إحداهن قنطاراً ) .(٤) فقال : كل الناس أفقه من عمر .

و روى سليم بن قيس الهلالي في كتابه أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام خطب فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه

____________________

( ١ ) البقرة : ١٨٧ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٩٤ .

( ٣ ) القلم : ٣٦ ٣٨ .

( ٤ ) النساء : ٢٠ .

١٧٦

ناقضين لعهده مغيّرين لسنّته ، و لو حملت الناس على تركها تفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي و قليل من شيعتي ، و اللَّه لقد أمرت أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة و أعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي يا أهل الاسلام لقد غيرت سنّة عمر نهينا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا ، و قد خفت أن يثوروا في ناحية عسكري(١) .

و روى محمد بن علي بن بابويه عن الباقر و الصادقعليهما‌السلام : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان في جماعة بدعة ، و صلاة الضحى بدعة ، ألا و إنّ كلّ بدعة ضلالة و كلّ ضلالة سبيلها إلى النار(٢) .

و روى محمد بن يعقوب الكليني : إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام مر برجل يصلّي الضحى في مسجد الكوفة ، فغمز جنبه بالدرة و قال : نحرت صلاة الأوابين نحرك اللَّه(٣) .

و أما أعمال عثمان و لم قال كالمنكرات التي ظهرت أواخر الخلافة العثمانية كنفيه أبا ذر و ضربه عمارا و نهبه بيت المال لأقاربه و توليته لهم حتى يصلّوا بالناس سكارى و يصلّوا الصبح أربعا و يغنوا في الصلاة و غيرها من نظائرها فشنائع ينكرها الموحد و الملحد و المسلم و الكافر .

و أما ما قاله من تكلّف الأعذار الذي نوريهم ، فالتكلّف لعدم منكرية عداوة أبي جهل مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أقرب إلى العقول منه .

ثم جعلها في عداد البدع كصلاة التراويح في غير محله .

____________________

( ١ ) سليم بن قيس ، لا وجود له في الطبعة النجفية ، لعل المؤلف أخذه من البحار حيث ذكر المجلسي في ٩٦ : ٢٠٣ الرواية ٢١ باب ٢٤ .

( ٢ ) الفقيه للصدوق ٢ : ١٣٧ الرواية ١٩٦٤ باب ٢ .

( ٣ ) الكافي ٣ : ٤٥٢ رواية ٨ .

١٧٧

« فاتقوا البدع » روى ابن بابويه عن الصادقعليه‌السلام : من مشى إلى صاحب بدعة فوقرها فقد مشى في هدم الإسلام(١) .

« و الزموا المهيع » أي الطريق الواسع و هو طريق الاسلام ، قال تعالى( و إنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ) . .(٢) .

« إنّ عوازم الامور أفضلها » قال ابن أبي الحديد : عوازم ما تقادم منها من قولهم « عجوز عوزم » أي مسنّة ، و يجوز أن يكون جمع عازمة بمعنى مفعول أي معزوم عليها ، أي مقطوع معلوم بيقين صحتها ، و الأول أظهر لأن في مقابلته « و ان محدثاتها » و المحدث في مقابلة القدم(٣) .

قلت : بل الظاهر أن « عوازم » محرف « قدائم » جمع قديم للتشابه الخطي بينهما ، لأن العزم في مقابل الرخصة لا المحدث ، يقال عزائم القرآن و رخصه ، ثم جمع العوزم بالعوازم كما قاله غير معلوم .

٦ الخطبة ( ٥٠ ) و من كلام لهعليه‌السلام :

إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ اَلْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَ أَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اَللَّهِ وَ يَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً عَلَى غَيْرِ دِينِ اَللَّهِ فَلَوْ أَنَّ اَلْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ اَلْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى اَلْمُرْتَادِينَ وَ لَوْ أَنَّ اَلْحَقَّ خَلَصَ مِنْ اَلْبَاطِلِ اِنْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ اَلْمُعَانِدِينَ وَ لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا

____________________

( ١ ) الفقيه للصدوق ٣ : ٥٧٢ ح ٤٩٥٧ الباب ٢ .

( ٢ ) الأنعام : ١٥٣ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٩٤ .

١٧٨

ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي اَلشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَ يَنْجُو اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ ٢ ٤ ٢١ : ١٠١ مِنَ اَللَّهِ اَلْحُسْنى‏ ٦ ٦ ٢١ : ١٠١ أقول : رواه الكليني في ( بدع كافيه ) بإسنادين عن عاصم بن حميد عن محمد ابن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : خطب أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال : أيها الناس إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع و أحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب اللَّه ، يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا ، فهنا لك استحوذ الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم منه الحسنى(١) .

و رواه في ( روضته ) مع زيادات ، فروى عن سليم بن قيس قال : خطب عليعليه‌السلام فقال : إنّما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع و أحكام تبتدع ، يخالف فيها حكم اللَّه ، يتولى فيها رجال رجالا ، إنّ الحق لو خلص لم يكن اختلاف و لو أنّ الباطل خلص لم يخف على ذي حجى ، لكنّه يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجتمعان فيجللان معا ، فهنا لك يستولي الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم الحسنى ، إنّي سمعت رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

كيف أنتم إذا لبستكم فتنة تربو فيها الصغير و يهرم فيها الكبير يجري الناس عليها و يتخذونها سنة ، فإذا غيّر منها شي‏ء قيل قد غيّرت السنّة ، و قد أتى الناس منكرا ثم تشتدّ البلية و تسبى الذريّة و تدقهم الفتنة كما تدقّ النار الحطب و كما تدقّ الرحى بثفالها ، و يتفقهون لغير اللَّه و يتعلمون لغير العمل و يطلبون الدنيا بأعمال الآخرة .

ثم أقبل بوجهه و حوله ناس من أهل بيته و خاصته و شيعته فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه ناقضين بعهده مغيّرين لسنّته ، و لو حملت الناس على تركها و حوّلتها إلى مواضعها

____________________

( ١ ) الكافي ١ : ٥٤ رواية ١ و أيضا ٨ : ٥٨ الرواية ٢١ .

١٧٩

و الى ما كانت في عهد رسول اللَّه لتفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي أو مع قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي و فرض إمامتي من كتاب اللَّه و سنّة رسوله ، أرأيتم لو أمرت بمقام ابراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللَّه و رددت فدك إلى ذريّة فاطمة و رددت صاع رسول اللَّه كما كان و أمضيت قطائع أقطعها النبي لأقوام لم تمض لهم و لم تنفذ و رددت دار جعفر إلى ورثته و هدمتها من المسجد و رددت قضايا من الجور قضي بها و نزعت نساء تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن و استقبلت بهن الحكم ( في الفروج و الأحكام ) و سبيت ذراري بني تغلب و رددت ما قسم من أرض خيبر و محيت دواوين العطاء و أعطيت كما كان النبي يعطي بالسوية و لم أجعلها دولة بين الأغنياء و ألقيت المساحة و سويت بين المناكح و أنفذت خمس الرسول كما أنزل اللَّه عز و جل و فرضه و رددته إلى ما كان عليه و سددت ما فتح من الأبواب و فتحت ما سد منه و حرمت المسح على الخفين و حددت على النبيذ و أمرت باحلال المتعتين و أمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات و ألزمت الناس الجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم و أخرجت من ادخل مع رسول اللَّه في مسجده ممن كان رسول اللَّه أخرجه و أدخلت من اخرج بعد رسول اللَّه و حملت الناس على حكم القرآن ( في ) الطلاق على السنّة و أخذت الصدقات على أصنافها و حدودها و رددت الوضوء و الغسل و الصلاة إلى مواقيتها و شرائعها و حدودها و رددت أهل نجران إلى مواضعهم و رددت سبايا فارس و سائر الامم إلى كتاب اللَّه و سنّة نبيّه ، إذن لتفرّقوا عني ، و اللَّه لقد أمرت الناس ألا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة و أعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الاسلام غيّرت سنّة عمر نهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا ، و لقد خفت أن

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

الامبراطورية الايرانية ( الفارسية ) وقد بلغ من غضب هذه الامبراطورية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعاداتها لدعوته، أن أقدم امبراطور ايران « خسرو برويز » على تمزيق رسالة النبي، وتوجيه الإهانة إلى سفيره باخراجه من بلاطه، والكتابة إلى واليه وعميله باليمن بأن يوجّه إلى المدينة من يقبض على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو يقتله إن امتنع.

و « خسرو » هذا وإن قتل في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّ استقلال اليمن ـ التي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الايرانية ردحاً طويلاً من الزمان ـ لم يغب عن نظر ملوك ايران آنذاك، وكان غرور اُولئك الملوك وتجبّرهم وكبرياءهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة ( القوة الاسلامية ) لهم.

والخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين كالطابور الخامس وعلى تقويض دعائم الكيان الاسلامي من الداخل إلى درجة أنّهم قصدوا اغتيال رسول الله، في طريق العودة من تبوك إلى المدينة.

فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه: إنّ الحركة الاسلامية سينتهي أمرها بموت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ورحيله، وبذلك يستريح الجميع(١) .

ولقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمكيدة مشؤومة لتوجيه ضربة إلى الاُمّة الاسلامية من الداخل، وذلك عندما أتى عليّاًعليه‌السلام وعرض عليه أن يبايعه ضدّ من عيّنه رجال السقيفة، ليستطيع بذلك تشطير الاُمّة الاسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين، فيتمكّن من التصيّد في الماء العكر.

ولكنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام أدرك بذكائه البالغ نوايا أبي سفيان الخبيثة، فرفض مطلبه وقال له كاشفاً عن دوافعه ونواياه الشريرة:

__________________

(١) لاحظ: الطور / ٣٠.

٥٢١

« والله ما أردت بهذا إلّا الفتنة، وإنّك والله طالما بغيت للإسلام شراً. لا حاجة لنا في نصيحتك »(١) .

ولقد بلغ دور المنافقين التخريبي من الشدّة بحيث تعرّض القرآن لذكرهم في سور عديدة هي: سورة آل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والعنكبوت، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والمجادلة، والحديد، والمنافقين، والحشر.

فهل مع وجود مثل هؤلاء الأعداء الخطرين والأقوياء الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه، يصح أن يترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمّته الحديثة العهد بالإسلام، الجديدة التأسيس من دون أن يعيّن لهم قائداً دينياً سياسيا ؟

إنّ المحاسبات الاجتماعية تقول: إنّه كان من الواجب أن يمنع رسول الاسلام بتعيين قائد للاُمّة، من ظهور أيّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده، وأن يضمن استمرار وبقاء الوحدة الاسلامية بايجاد حصن قوي وسياج دفاعي متين حول تلك الاُمّة.

إنّ تحصين الاُمّة، وصيانتها من الحوادث المشؤومة، والحيلولة دون مطالبة كل فريق « الزعامة » لنفسه دون غيره، وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة، لم يكن ليتحقق، إلّا بتعيين قائد للاُمّة، وعدم ترك الاُمور للأقدار.

إنّ هذه المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحة نظرية « التنصيص على القائد بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله » ولعلّ لهذه الجهة، ولجهات اُخرى طرح رسول الإسلام مسألة الخلافة في الأيام الاُولى من ميلاد الرسالة الإسلامية، وظلّ يواصل طرحها والتذكير بها طوال حياته حتى الساعات الأخيرة منها، حيث عيّن خليفته ونصّ عليه بالنصّ القاطع الواضح الصريح في بدء دعوته، وفي نهايتها أيضاً.

وإليك بيان كلا هذين المقامين:

__________________

(١) الكامل في التاريخ: ج ٢ ص ٢٢٢، العقد الفريد: ج ٢ ص ٢٤٩.

٥٢٢

١ ـ النبوّة والامامة توأمان

بغضّ النظر عن الأدلّة العقلية والفلسفية التي تثبت صحّة الرأي الأول بصورة قطعية، هناك أخبار وروايات وردت في المصادر المعتبرة تثبت صحة الموقف والرأي الذي ذهب إليه علماء الشيعة وتصدّقه، فقد نصّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على خليفته من بعده في الفترة النبوية من حياته مراراً وتكراراً، وأخرج موضوع الإمامة من مجال الانتخاب الشعبي والرأي العام.

فهو لم يعيّن ( ولم ينص على ) خليفته ووصيه من بعده في اُخريات حياته فحسب، بل بادر إلى التعريف بخليفته ووصيه في بدء الدعوة يوم لم ينضو تحت راية رسالته بعد، سوى بضع عشرة من الأشخاص، وذلك يوم اُمر من جانب الله العلي القدير أن ينذر عشيرته الأقربين من العذاب الإلهي الأليم. وأن يدعوهم إلى عقيدة التوحيد قبل أن يصدع رسالته للجميع ويبدأ دعوته العامّة للناس كافة.

فجمع أربعين رجلاً من زعماء بني هاشم وبني المطّلب، ثمّ وقف فيهم خطيباً، فقال:

« أيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ »

فأحجم القوم، وقام عليٌّعليه‌السلام وأعلن مؤازرته وتأييده له، فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله برقبته، والتفت إلى الحاضرين، وقال:

« إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم » (١) .

وقد عرف هذا الحديث عند المفسِّرين والمحدِّثين: ب‍ـــ « حديث يوم الدار » و « حديث بدء الدعوة ».

على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكتف بالنص على خليفته في بدء رسالته، بل صرّح في مناسبات شتّى في السفر والحضر، بخلافة

__________________

(١) تاريخ الطبري: ج ٢ ص ٢١٦، الكامل في التاريخ: ج ٢ ص ٦٢ و ٦٣، وقد مرّ مفصّلاً في هذه الدراسة فراجع.

٥٢٣

عليّعليه‌السلام من بعده، ولكن لا يبلغ شيء من ذلك في الأهمية والظهور والصراحة والحسم ما بلغه حديث الغدير.

٢ ـ قصة الغدير

لـمـّا انتهت مراسيم الحج، وتعلّم المسلمون مناسك الحجّ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قرر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الرحيل عن مكّة، والعودة إلى المدينة، فأصدر أمراً بذلك، ولـمـّا بلغ موكب الحجيج العظيم إلى منطقة « رابغ »(١) التي تبعد عن « الجحفة »(٢) بثلاثة أميال، نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمنطقة تدعى « غدير خم »، وخاطبه بالآية التالية:

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ( المائدة / ٦٧ ).

إنّ لسان الآية وظاهرها يكشف عن أنّ الله تعالى ألقى على عاتق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مسؤولية القيام بمهمة خطيرة، وأي أمر اكثر خطورة من أن ينصّب عليّاًعليه‌السلام لمقام الخلافة من بعده على مرأى ومسمع من مائة ألف شاهد ؟!

من هنا أصدر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمره بالتوقف، فتوقفت طلائع ذلك الموكب العظيم، والتحق بهم من تأخر.

لقد كان الوقت وقت الظهيرة، وكان المناخ حارّاً إلى درجة كبيرة جداً، وكان الشخص يضع قسماً من عباءته فوق رأسه والقسم الآخر منها تحت قدميه، وصنع للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مظلّة وكانت عبارة عن عباءة اُلقيت على أغصان

__________________

(١) رابغ تقع الآن على الطريق بين مكّة والمدينة.

(٢) من مواقيت الاحرام وتنشعب منها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين.

٥٢٤

شجرة ( سمرة )، وصلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحاضرين الظهر جماعة، وفيما كان الناس قد أحاطوا به صعدصلى‌الله‌عليه‌وآله على منبر اُعدّ من أحداج الإبل وأقتابها، وخطب في الناس رافعاً صوته، وهو يقول:

« الحمدلله ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا الذي لا هادي لمن أضلّ، ولا مضلّ لمن هدى، وأشهد أنّ لا إله إلّا هو، وأنّ محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: أيّها الناس إنّي اُوشك أن اُدعى فاُجيب، وأنّي مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون ؟ »

قالوا: « نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت، فجزاك الله خيراً ».

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور ؟ »

قالوا: بلى نشهد بذلك.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أللّهمّ اشهد ».

ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « وإنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا ».

فنادى مناد: « بأبي أنت واُمِّي يا رسول الله وما الثّقلان ؟ »

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « كتاب الله سبب طرف بيد الله، وطرف بأيديكم، فتمسّكوا به، والآخر عترتي، وانّ اللطيف الخبير نبّأني انّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ».

وهنا أخذ بيد « عليٍّ »عليه‌السلام ورفعها، حتى رؤي بياض اباطهما، وعرفه الناس أجمعون ثمّ قال:

« أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ »

٥٢٥

قالوا: « الله ورسوله أعلم ».

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه (١) .

أللّهمَّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأحب من أحبّه، وابغض من أبغضه، وأدر الحقّ معه حيث دار » (٢) .

فلمّا نزل من المنبر، استجاز حسّان بن ثابت شاعر عهد الرسالة في أنْ يفرغ ما نزل به الوحي في قالب الشعر، فأجازه الرسول، فقام وأنشد:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخمّ وأكرم بالنبي مناديا

يقول فمن مولاكمُ ووليّكم

فقالوا ولم يبدو هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت وليّنا

ولم تَرَ منّا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا عليّ فانّني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أنصار صدقٍ مواليا

هناك دعا: أللّهم ! وال وليّه

وكن للّذي عادا عليّاً معاديا

مصادر الواقعة

هذه هي واقعة الغدير استعرضناها لك على وجه الإجمال، وهي بحق واقعة لا يسوغ لأحد انكارها بأدنى مراتب التشكيك والقدح، فقد تناولها بالذكر أئمّة المؤرّخين أمثال: البلاذري، وابن قتيبة، والطبري، والخطيب البغدادي، وابن عبد البر، وابن عساكر، وياقوت الحموي، وابن الأثير، وابن أبي الحديد، وابن خلكان، واليافعي، وابن كثير، وابن خلدون، والذهبي، وابن حجر العسقلاني، وابن صباغ المالكي ،

__________________

(١) لقد كرّر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه العبارة ثلاث مرات دفعاً لأيّ إلتباس أو اشتباه.

(٢) راجع للوقوف على مصادر هذا الحديث المتواتر موسوعة الغدير للعلّامة الأميني ( ره ).

٥٢٦

والمقريزي، وجلال الدين السيوطي، ونور الدين الحلبي إلى غير ذلك من المؤرخين الذين جادت بهم القرون والأجيال.

كما ذكره أيضاً أئمة الحديث أمثال: الإمام الشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن ماجة، والترمذي، والنسائي، وأبو يعلى الموصلي، والبغوي، والطحاوي، والحاكم النيسابوري، وابن المغازلي، والخطيب الخوارزمي، والكنجي، ومحب الدين الطبري، والحمويني، والهيثمي، والجزري، والقسطلاني، والمتقي الهندي، وتاج الدين المناوي، وأبو عبد الله الزرقاني، وابن حمزة الدمشقي إلى غير ذلك من أعلام المحدّثين الذين يقصر المقال عن عدّهم وحصرهم.

كما تعرض له كبار المفسّرين، فقد ذكره: الطبري، والثعلبي، والواحدي في أسباب النزول. والقرطبي، وأبو السعود، والفخر الرازي، وابن كثير الشامي، والنيسابوري، وجلال الدين السيوطي، والآلوسي، والبغدادي.

وذكره من المتكلّمين طائفة جمّة في خاتمة مباحث الإمامة وإن ناقشوا نقضاً وابراماً في دلالته كالقاضي أبي بكر الباقلاني في تمهيده، والقاضي عبد الرحمن الايجي في مواقفه، والسيد الشريف الجرجاني في شرحه، وشمس الدين الاصفهاني في مطالع الأنوار، والتفتازاني في شرح المقاصد، والقوشجي في شرح التجريد إلى غير ذلك من المتكلّمين الذين تعرّضوا لحديث الغدير وبحثوا حول دلالته ووجه الحجّة فيه.

واقعة الغدير ورمز الخلود:

أراد المولى عزّ وجلّ أن يبقى حديث الغدير غضّاً طرياً على مر الأجيال لم يُكدّر صفاء حقيقته الناصعة تطاول الأحقاب، وكرّ الأزمان، وانصرام الأعوام، ويرجع ذلك إلى اُمور ثلاثة:

١ ـ إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد هتف به في مزدحم غفير يربو على

٥٢٧

عشرات الآلاف عند منصرفه من الحج الأكبر، فنهض بالدعوة والاعلان، وحوله جموع من وجوه الصحابه وأعيان الاُمة، وأمر بتبليغ الشاهد الغائب ليكونوا كافّة على علم وخبر بما تمّ ابلاغه.

٢ ـ إنّ الله سبحانه قد أنزل في تلك المناسبة آيات تلفت نظر القارئ إلى الواقعة عندما يتلوها وإليك الآيات:

أ ـ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ( المائدة / ٦٧ ).

وقد ذكر نزولها في واقعة الغدير لفيف من المفسِّرين يربو عددهم على الثلاثين، وقد ذكر العلّامة البحّاثة المحقق الأميني في كتاب الغدير نصوص عبارات هؤلاء، فمن أراد الاطّلاع عليها، فليرجع إليه.

ب ـ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة / ٣ ).

وقد نقل نزول الآية جماعة منهم يزيدون على ستة عشر.

ج ـ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ *لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ *مِّنَ اللهِ ذِي المَعَارِجِ ) ( المعارج / ١ ـ ٣ ).

وقد ذكر أيضاً نزول هذه الآية جماعة من المفسّرين ينوف على الثلاثين أضف إلى ذلك أنّ الشيعة عن بكرة أبيهم متّفقون على نزول هذه الآيات الثلاث في شأن هذه الواقعة(١) .

٣ ـ إنّ الحديث منذ صدوره من منبع الوحي تسابقت الشعراء والاُدباء على نظمه، وانشاده في أبيات وقصائد امتدّت وقعتها منذ عصر انبثاق ذلك النص في تلك المناسبة إلى عصرنا هذا، وبمختلف اللغات والثقافات، وقد تمكّن البحّاثة المتضلع العلّامة الأميني من استقصاء وجمع كل ما نظم باللغة العربية حول تلك

__________________

(١) راجع كتاب الغدير في شأن نزول هذه الآيات: ج ١ ص ٢١٤ و ٢١٧.

٥٢٨

الحادثة، والمؤمّل والمنتظر من كافة المحققين على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم استنهاض هممهم لجمع ما نظم واُنشد في أدبهم الخاص.

وحصيلة الكلام: قلّما نجد حادثة تاريخية حظيت في العالم البشري عامّة، وفي التاريخ الإسلامي والاُمة الإسلامية خاصة بمثل ما حظيت به واقعة الغدير، وقلّما استقطبت اهتمام الفئات المختلفة من المحدثين والمفسرين والكلاميين والفلاسفة والاُدباء والكتّاب والخطباء وأرباب السير والمؤرخين كما استقطبت هذه الحادثة، وقلّما اعتنوا بشيء مثلما اعتنوا به.

هذا ويستفاد من مراجعة التاريخ أنّ يوم الثامن عشر من شهر ذى الحجة الحرام كان معروفاً بين المسلمين بيوم عيد الغدير، وكانت هذه التسمية تحظى بشهرة كبيرة إلى درجة أنّ ابن خلكان يقول حول « المستعلى بن المستنصر »:

« فبويع في يوم غدير خم، وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة ٤٨٧ ه‍ »(١) .

وقال في ترجمة المستنصر بالله العبيدي: « وتوفّي ليلة الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، قلت: وهذه هي ليلة عيد الغدير أعني ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجة، وهو غدير خم »(٢) .

وقد عدّه أبو ريحان البيروني في كتابه الآثار الباقية « ممّا استعمله أهل الإسلام من الأعياد »(٣) .

وليس ابن خلكان، وأبو ريحان البيروني، هما الوحيدان اللذان صرّحا بكون هذا اليوم هو عيد من الأعياد، بل هذا الثعالبي قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين(٤) .

__________________

(١) و (٢) وفيات الأعيان: ج ١ ص ٦٠.

(٣) ترجمة الآثار الباقية: ص ٣٩٥، الغدير: ج ١ ص ٢٦٧.

(٤) ثمار القلوب: ص ٥١١.

٥٢٩

إنّ عهد هذا العيد الإسلامي، وجذوره ترجع إلى نفس يوم « الغدير » لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمر المهاجرين والأنصار، بل أمر زوجاته ونساءه في ذلك اليوم بالدخول على « عليّ »عليه‌السلام ، وتهنئته بهذه الفضيلة الكبرى.

يقول زيد بن أرقم: كان أوّل من صافح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّاً: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وباقي المهاجرين والأنصار، وباقي الناس(١) .

الحمد للّه الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

خاتمة المطاف

ما قدّمناه إليك في الفصول السابقة حول حياة النبي وشخصيته كان مقتبساً من الذكر الحكيم ومدعماً بالتاريخ والأحاديث الصحيحة، وكان الجدير بنا أن نجعجع بالقلم عن الإفاضة ونترك ما بقى من خصوصيات حياته وشخصيته إلى كتب السيرة لمن أراد التوسّع.

غير أنّا نحب أن نركّز في الخاتمة على أساليب دعوته في عصر الرسالة ليكون قدوة لنا في هذا السبيل، ونكتفي من الكثير بالقليل.

__________________

(١) راجع مصدره في الغدير: ج ١ ص ٢٧٠.

٥٣٠

(١٤)

الإعلام وأساليبه في عصر الرسالة

إنّ انتشار أي دين أو أيديولوجية ورسوخها في العقول والنفوس يتوقّف مضافاً إلى إتقان ذلك الدين في محتواه ومضامينه على الدعوة الصحيحة إليه، وعرضه عرضاً واسعاً وشاملاً.

وقد توفّر في الإسلام هذان الجانبان:

أمّا الأوّل: فإنّ الإسلام ذو اُصول، ومفاهيم تنطبق على الفطرة الإنسانية، فهو يدعو إلى العدل والإحسان، واجتناب البغي والعدوان، وإلى النظر في ملكوت السماوات والأرض، وإلى العلم والقراءة والكتابة، وإلى التعاون والتعاضد، وغير ذلك من الاُصول الاجتماعية والأخلاقية التي توافق فطرة البشر وتعضدها العقول بلا استثناء.

كما أنّ الإسلام لا يشتمل على أيّة عقيدة رمزية أو اُصول معقدة لا تقدر على حلّها الأفكار، ولا تستطيع على دركها العقول، كما هو الحال في « تثليث » البراهمة والمسيحيين.

وأمّا الثاني: فإنّ القرآن الكريم يسعى بكل قوّة ووسيلة ممكنة إلى نشر الاسلام، فيخاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويأمره بالإنذار والتبشير، والدعوة والتبليغ، والصدع والموعظة، والتذكير، والبيان، والتعليم، والانباء، إلى غير ذلك من الأساليب التي تعرب عن لزوم قيام النبي بتبليغ الرسالة الاسلامية إلى الناس، بكل صورة ممكنة، وإليك نماذج من تلك الخطابات.

٥٣١

ففي مجال الانذار يقول تعالى:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ( الشعراء / ٢١٤ ).

وفي مجال التبشير يقول تعالى:( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ) ( البقرة / ٢٥ ).

ويقول تعالى:( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) ( الفتح / ٨ ).

وفي مجال الدعوة يقول سبحانه:( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ ) ( النحل / ١٢٥ ).

وفي مجال الابلاغ يقول سبحانه:( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إلّا الْبَلاغُ ) ( الشورى / ٤٨ ).

وفي مجال الصدع يقول سبحانه:( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) ( الحجر / ٩٤ ).

وفي مجال الموعظة يقول تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ ) ( النساء / ٦٣ ).

وفي مجال التذكير يقول تعالى:( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ) ( ق / ٤٥ ).

وفي مجال البيان يقول سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل / ٤٤ ).

وفي مجال التعليم يقول سبحانه:( يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) ( البقرة / ١٥١ ).

وفي مجال التنبّؤ قال سبحانه:( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( الحجر / ٤٩ ).

وقد قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الأمر، وعرض الاسلام عرضاً كاملاً قويّاً، فدعا أهله وأقرباءه أوّلاً، ثم دعا قومه وأبناء جلدته ثانياً، ولـمـّا استتبّ له الأمر، واستقرّ به المقام في المدينة المنوّرة، وجّه دعاته إلى شتّى أقطار الأرض وكلّفهم بابلاغ دينه ومنهاجه إلى الملوك والاُمراء والشعوب والقبائل، وتحقّق هذا العمل بشكل واسع حتى لم يلبث أن بلغ نداء الاسلام إلى مسامع جميع المجتمعات البشرية، دانيها وقاصيها في مدة لا تتجاوز قرناً واحداً من الزمان.

٥٣٢

نماذج من الإعلام في العهد النبوي

وقد تمثّل الإعلام الإسلامي في العهد النبوي، في اُمور قام بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في مجال تبليغ الإسلام، وإيصال نداءه إلى مسامع البشرية في مختلف الأقطار والأصقاع وهذه الاُمور هي:

١ ـ البعثات الإعلامية

قد قام النبي الأكرم بارسال مبعوثين ومندوبين للدعوة والتبليغ، ونذكر على سبيل المثال مصعب بن عمير، الذي بعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة ليعلّم الناس القرآن، ويفقّههم في الدين، وكان شابّاً ذكياً أسلم عن رغبة وتفهّم وتعلّم من القرآن كثيراً، فأمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالخروج إلى المدينة مع بعض من آمن من أهلها برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليدعو أهل المدينة من الأوس والخزرج إلى الإسلام، فاستطاع بحسن تدبيره، وفضل حكمته في التبليغ والإرشاد أن يستقطب عدداً كبيراً من أهل المدينة شيباً وشباباً ورجالاً ونساءً إلى الإسلام حتى لم يلبث أن جعل من يثرب مدينة إسلامية تهيّأت لاستقبال رسول الله أكبر استقبال، وهو لم يملك إلّا إيماناً صادقاً وإخلاصاً في العمل(١) .

وبعدما هاجر إلى المدينة بعث مجموعات تبليغية لنشر الإسلام ودعوة الناس إليه، وأخصّ بالذكر مجموعتين تبليغيتين أرسلهما رسول الإسلام إلى بعض القبائل لتعليمها القرآن الكريم وأحكام الاسلام، وهاتان المجموعتان هما:

المجموعة الاُولى: التي بعثها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قبيلتي عضل وقارة.

فقد طلبت القبيلتان من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبعث إليهم من

__________________

(١) أعلام الورى: ص ٢٧.

٥٣٣

يعلّمهم القرآن، ويفقّههم في الاسلام.

فاستجاب النبي لهذا الطلب، وأرسل ستة أشخاص، وأمَّر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي، ولكن القوم غدروا باُولئك المبلغين الأبرياء، فقتلوا من قتلوا منهم، وأسروا رجلين منهم باعوهما لقريش، فصلبوهما انتقاماً لقتلى بدر من المشركين والقصة مفصلة(١) .

المجموعة الثانية: وهي المجموعة التبليغية التي أرسلها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قبيلة « بني عامر » لطلب أحد زعمائها الكبار، وذلك قبل أن يبلغه غدر عضل وقارة بالمجموعة الاُولى، وقد أرسلهم بعد أخذ مواثيق وضمانات من الطالب، ولكن هذه المجموعة التي كانت تتألّف من أربعين شخصاً من خيرة القرّاء قد واجهت نفس ما واجهت المجموعة التبليغية الاُولى، ولكن لا على أيدي القبيلة المبعوثين إليها، بل على يد آخرين من القبائل المشركة المعادية للإسلام، وقد وقع الغدر والفتك بهم في منطقة تدعى بئر معونة(٢) .

وقد أحزنت هاتان الفاجعتان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّهما لم يثنيا عزمه الشريف عن مواصلة التبليغ، بل واصل ارسال المبلّغين والرسل إلى مناطق اُخرى كما أرسل طائفة كبيرة إلى الملوك والاُمراء والقبائل وزعماء الجماعات داخل الجزيرة العربية وخارجها.

٢ ـ الرسائل الإعلامية

وإليك فيما يلي طائفة من الرسائل التي بعثها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو فيها رؤساء القبائل إلى الاسلام، ونخص بالذكر كتبه الاعلامية فقط:

__________________

(١) المغازي: ج ١ ص ٣٥٤ ـ ٣٦٢، والسيرة النبوية لابن هشام: ج ٢ ص ١٦٩.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام: ج ٢ ص ١٨٣ ـ ١٨٧.

٥٣٤

١ ـ كتابه إلى سمعان بن عمرو الكلابي.

٢ ـ كتابه إلى ورد بن مرداس أحد بني سعد هذيم.

٣ ـ كتابه إلى الاقيال من حضرموت.

٤ و ٥ ـ كتابان إلى أهل قريتين.

٦ ـ كتابه إلى بني حارثة بن عمرو بن قريط.

٧ ـ كتابه إلى عبد العزيز بن سيف بن ذي يزن.

٨ ـ كتابه إلى عمرو بن مالك بن عمير الأرحبي.

٩ ـ كتابه إلى عريب والحارث ابني عبد كلال.

١٠ ـ ١٦ ـ سبعة كتب إلى فهد وزرعة وبس وغيرهم من ملوك حمير.

١٧ ـ كتابه إلى جفينة النهدي.

١٨ ـ كتابه إلى ملك الروم.

١٩ ـ كتابه إلى عبد الله بن الحارث الأعرج الأزدي الغامدي.

٢٠ ـ كتابه إلى خراش بن جحش العبسي.

٢١ ـ كتابه إلى سرباتك ملك الهند.

٢٢ ـ كتابه إلى قيس بن عمر الهمداني.

٢٣ ـ كتابه إلى جبلّة بن الأيهم الغساني.

٢٤ ـ كتابه إلى بني معاوية من كندة.

٢٥ ـ كتابه إلى نفاثة بن فروة ملك السماوة.

٢٦ ـ كتابه إلى عذرة.

٢٧ ـ كتابه إلى ذي عمرو.

٢٨ ـ كتابه إلى ذي الكلاع.

٥٣٥

٢٩ ـ كتابه إلى اسيخب.

٣٠ ـ كتابه إلى حوشب ذي ظليم.

٣١ ـ كتابه إلى رعية السحيمي.

٣٢ ـ كتابه إلى قيس بن مالك(١) .

هذه كتاباته التبليغية التي وردت أسماؤها في الكتب، وإن ذهبت ألفاظها وعبارتها فلم يبق منها إلّا الإسم.

وهناك كتب تبليغية لهصلى‌الله‌عليه‌وآله موجودة بأعيانها وخصوصيّاتها في كتب السير والتاريخ والحديث، والكلّ يدلّ على أنّ الإسلام انتشر في العالم بفضل الدعوة الصحيحة وبعث الدعاة والرسل، ولو كان هناك سل السيف وسفك الدم، فإنّما كان لرفع الحواجز بين الرسول وتبليغه.

وإليك أسماء كتبه الموجودة التبليغيّة التي أرسلها إلى الملوك والاُمراء والشيوخ والقبائل على نحو الإيجاز والإيعاز والتفصيل يطلب من مظانّه(٢) .

مراسلة الملوك والاُمراء ورؤساء القبائل

إنّ أبرز كتبه في الدعوة إلى الاسلام هي:

١ ـ كتابه إلى كسرى ملك الفرس.

٢ ـ كتابه إلى قيصر عظيم الروم.

٣ ـ كتابه إلى النجاشي ملك الحبشة.

٤ ـ كتابه إلى المقوقس ملك مصر.

__________________

(١) لاحظ مكاتيب الرسول للعلّامة الأحمدي: ص ٣٥ ـ ٤٠.

(٢) راجع الوثائق السياسية ومكاتيب الرسول.

٥٣٦

٥ ـ كتابه إلى ملوك الشام واليمامة.

٦ ـ كتابه إلى الحارث بن أبي شمر.

٧ ـ كتابه إلى هوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة.

٨ ـ كتابه إلى المنذر بن ساوي.

٩ ـ كتابه لرفاعة بن زيد الجزامي.

١٠ ـ كتابه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي.

١١ ـ كتابه إلى فروة بن عمرو الجذابي.

١٢ ـ كتابه إلى أكثم بن صيفي.

١٣ ـ كتابه إلى اسيخب بن عبد الله.

١٤ ـ كتابه إلى يحنه بن رؤبة وسروات أهل أيلة.

١٥ ـ كتابه إلى زياد بن جهور.

١٦ ـ كتابه إلى بكر بن وائل.

١٧ ـ كتابه إلى مسيلمة الكذّاب.

١٨ ـ كتابه إلى ضغاطر الأسقف.

١٩ ـ كتابه إلى اليهود.

٢٠ ـ كتابه إلى يهود خيبر.

٢١ ـ كتابه إلى أسقف نجران.

٢٢ ـ كتابه إلى هرمزان عامل كسرى.

وقد دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الكتب التي سجّلها التاريخ وأثبت نصوصها كاملة، الملوك والاُمراء إلى الدين الإسلامي وشرح أهدافه وغاياته السامية.

٥٣٧

وقد حمل هذه الكتب رجالاً من أصحابه اتّسموا بالنباهة والذكاء، والشجاعة والحكمة.

ويذكر التاريخ أنّ بعضهم كان يعرف لغة القوم الذين اُرسل إليهم مع كتاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وكان هؤلاء الرسل يتمتّعون بإيمان قوي، وينطلقون من عقيدة راسخة بالدين وشجاعة، وهي الصفات التي يجب أن يتحلّىٰ بها المبلّغ، ولهذا كانوا في الأغلب يؤثرون في نفوس المرسل إليهم حتّى انّهم كانوا يقبلون دعوة النبي ولو آل إلى التضحية بحياتهم كما حدث لضغاطر الأسقف فإنّه لـمّا جاءه كتاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقرأه أخذ بمجامع قلبه واهتدى إلى الحق واعتنق الإسلام راغباً وقال لقومه من الروم:

« يا معشر الروم إنّي أشهد أن لا إلٰه إلّا الله وأنّ أحمد عبده ورسوله »، فوثبوا عليه وثبة رجل واحد وقتلوه »(١) .

٣ ـ التبليغ عن طريق الأدب والنظم

ولم يكتف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في تبليغ رسالته بالرسائل والكتب بل استعان بالشعر أيضاً ولهذا كان حسّان يخلّد الحوادث، بأبيات من الشعر، ويشجّعه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وربّما دافع حسّان وغيره عن حوزة الإسلام ونبيّه بهجاء من يعادونه أو يتعرّضون له أو يهجونه، وإليك نماذج من هذا الأمر.

١ ـ عندما هجا ابن الزبعريّ المسلمين يوم اُحد، قائلاً:

يا غراب البين اسمعت فقل

إنّما تنطق شيئاً قد فعل

__________________

(١) الطبري: ج ٢ ص ٣٩٢ و ٦٩٣.

٥٣٨

إلى أن قال:

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

فقتلنا الضِّعف من أشرافهم

وعدلنا ميل بدر فاعتدل

قال حسّان في الرد عليه:

ذهبت يا بن الزبعري وقعة

كان منّا الفضل فيها لو عدل

ولقد نلتم ونلنا منكم

وكذاك الحرب أحياناً دول

الى آخره .

٢ ـ لما قال عمرو بن العاص في هجاء المسلمين يوم اُحد:

خرجنا من الفيفا عليهم كأنّنا

مع الصبح من رضوىٰ الحبيك المـُنَطّق

أرادوا لكيما يستبيحوا قبابنا

ودون القباب اليوم ضرب محَرّق

قال كعب بن مالك في الردّ عليه:

ألا أبلغا فهراً على نأي دارها

وعندهم من علمنا اليوم مصدق

إلى أن قال:

لنا حومة لا تستطاع يقودها

نبيّ أتىٰ بالحقّ عف مصدّق

٣ ـ ما قاله هبيرة يوم اُحد أيضاً في هجاء المسلمين إذ قال فيما قال من الشعر:

كان هامهم عند الوغى فلق

من قيض رُبْدٍ نفته عن أداحيها

فأجاب حسّان بقوله:

ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت

أهل القليب ومن ألقينه فيها

٥٣٩

كم من أسير فككناه بلا ثمن

وجزّ ناصية كنّا مواليها(١)

وغير ذلك من الموارد التي قابل فيها حسّان وغيره من شعراء الإسلام الاول هجاء بهجاء، قارع قاصع.

٤ ـ إعلان البراءة من المشركين

وكان من أبرز مصاديق التبليغ والإعلام ما كلّف به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر من الله تعالى، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بتلاوة آيات من صدر سورة التوبة على مسامع المشركين وغيرهم في يوم الحج الأكبر والتي أعلن الله فيها براءته وبراءة نبيّه من الشرك والمشركين، وضرب لهم أجلاً ليبيّنوا موقف من الاسلام وأعلن أنّ المشركين لا يجوز لهم دخول مكّة بعد ذلك الوقت والأجل.

وقد كان لهذا الإعلان العام القوي أثر كبير في إسلام مجموعات كبيرة من القبائل المشركة، وتوافدها على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في العام المسمّى بعام الوفود.

٥ ـ شعار المسلمين في الهجمات العسكرية

ومن جملة أساليب التبليغ التي كان يتبعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إطلاق الشعارات المناسبة في المعارك فمثلاً لـمّا صاح أبو سفيان بعد إلحاق الهزيمة بالمسلمين: أعل هبل أعل هبل. أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يقابلوه بشعار:

الله أعلى وأجل.

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ٢ ص ٢ و ١٣١ ـ ١٣٢.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581