مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265491 / تحميل: 6064
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

٥٢٤ ـ انتقال مسلم إلى دار هانئ بن عروة :

(لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٤٨)

فلما سمع مسلم بن عقيل بمجيء عبيد الله إلى الكوفة ومقالته التي قالها ، وما أخذ به العرفاء والناس ، خرج من دار المختار إلى دار هانئ بن عروة المرادي في جوف الليل ودخل في أمانه. وأخذت الشيعة تختلف إلى دار هانئ سرا واستخفاء من عبيد الله ، وتواصوا بالكتمان. وألحّ عبيد الله في طلب مسلم ، ولا يعلم أين هو.

وقد أورد ابن قتيبة كيفية انتقال مسلم إلى دار هانئ برواية غريبة في

(الإمامة والسياسة) ج ٢ ص ٤ قال :

وبايع للحسين مسلم بن عقيل وأكثر من ثلاثين ألفا من أهل الكوفة ، فنهضوا معه يريدون عبيد الله بن زياد ، فجعلوا كلما أشرفوا على زقاق انسلّ عنه منهم ناس ، حتّى بقي مسلم في شرذمة قليلة.

قال : فجعل أناس يرمونه بالآجر من فوق البيوت. فلما رأى ذلك دخل دار هانئ ابن عروة المرادي ، وكان له فيهم رأي.

ابن زياد يعتمد على نظام العرافة

٥٢٥ ـ نظام العرافة في صدر الإسلام :

(الفن الحربي في صدر الإسلام لعبد الرؤوف عون ، ص ١١٠)

قال عبد الرؤوف عون : فحين كثر أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّمهم عرافات ، وجعل على كل عشرة منهم عريفا.

فقد روى الطبري في حديثه عن (القادسية) أن سعدا عرّف العرفاء ، فجعل على كل عشرة عريفا ، كما كانت العرافات أزمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي عهد عمر ، لما اتسعت الفتوح ، وتبع ذلك كثرة الأجناد والأموال ، وضع عمر (الديوان) ورتّب العطاء للناس جميعا. وجعل العرفاء أداته في توزيعه ، فكان العريف في المدنيين ينوب عن القبيلة ، وفي الجند ينوب عن عشرة.

فلما كثر عدد الناس ، جمع كل عدد من العرافات في (سبع) عليه أمير ، وسمّاهم (أمراء الأسباع) ، فكان هؤلاء يأخذون العطاء ، فيدفعونه إلى العرفاء والنقباء والأمناء ، فيدفعونه إلى أهله في دورهم.

٤٦١

٥٢٦ ـ العرفاء والمناكب :(لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٤٠)

العرفاء : جمع عريف كأمير ، وهو الرئيس. والظاهر أنه كان يجعل لكل قوم رئيس من قبل السلطان يطالب بأمورهم ، يسمى العريف. وكان يجعل للعرفاء أيضا رؤساء يقال لهم : المناكب.

وفي كتاب (مع الحسين في نهضته) لأسد حيدر ، ص ٩٨ :

العريف في اللغة : هو من يعرّف أصحابه ، وهو القائم بأمور الجماعة من الناس ؛ يلي أمورهم ، ومنه يتعرّف الأمير على أحوالهم. وكان لكل عشرة عريف ، وللعرفاء رئيس يدعى : أمير الأعشار. فالعريف يقود خلية مؤلفة من عشرة أشخاص ، وأمير الأعشار يقود مجموعة مؤلفة من مئة شخص ، وهو يقابل اليوم قائد سريّة.

٥٢٧ ـ نظام العرافة :(حياة الإمام الحسين ، ج ٢ ص ٤٤٧)

قال السيد باقر شريف القرشي : وكانت الدولة تعتمد على العرفاء ، فكانوا يقومون بأمور القبائل ، ويوزعون عليهم العطاء. كما كانوا يقومون بتنظيم السجلات العامة التي فيها أسماء الرجال والنساء والأطفال ، وتسجيل من يولد ليفرض له العطاء من الدولة ، وحذف العطاء لمن يموت(١) .

كما كانوا مسؤولين عن شؤون الأمن والنظام. وكانوا في أيام الحرب يندبون الناس للقتال ويحثونهم على الحرب ، ويخبرون السلطة بأسماء الذين يتخلفون عن القتال(٢) . وإذا قصّر العرفاء أو أهملوا واجباتهم ، فإن الحكومة تعاقبهم أقسى العقوبات وأشدها(٣) .

ومن أهمّ الأسباب في تفرّق الناس عن مسلم بن عقيل ، هو قيام العرفاء في تخذيل الناس عن الثورة ، وإشاعة الإرهاب والأراجيف بين الناس(٤) كما كانوا السبب الفعال في زجّ الناس وإخراجهم لحرب الإمام الحسينعليه‌السلام .

__________________

(١) الحياة الإجتماعية والاقتصادية في الكوفة ، ص ٥٣.

(٢) تاريخ الطبري ، ج ٧ ص ٢٢٦.

(٣) الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني ، ج ٢ ص ١٧٩.

(٤) البداية والنهاية لابن كثير ، ج علينا ص ١٥٤.

٤٦٢

٥٢٨ ـ التجنيد في الدولة الأموية :

(الفن الحربي في صدر الإسلام لعبد الرؤوف عون ، ص ١٠١)

وكان التجنيد في عهد الخلفاء الأولين إلزاميا من أجل الفتح الإسلامي ، لكنه فقد عنصر الإلزام أو كاد بعد النكسة التي سببتها الحروب الأهلية. وصار المال أداة التجنيد في الدولة الأموية ، وارتفع صوت الذهب فوق كل صوت. فكان الخليفة تكثر أجناده أو تقلّ ، تبعا لكثرة المال في خزائنه أو قلته. وصار الخلفاء يسترضون الجند بصرف الأموال لهم مقدّما ، وعزل من يطلبون عزله من الولاة.

ولم تقف روح التهرب من الجندية عند حد ، بل سرت عدواها إلى الأمصار ، حتّى إلى (البصرة والكوفة) وهما المعسكران اللذان كانا مصدر المدد الحربي للمسلمين ، ومنهما اتجهت الجيوش شرقا حتّى اقتحمت على الفرس عاصمتهم ، ووطدت قدم الإسلام فيما وراء النهر إلى حدود الصين. حتّى بلغ عدد الجند في (خراسان) وحدها أيام قتيبة بن مسلم سبعة وأربعين ألفا (كما في رواية ابن الأثير) عدا ما كان في غيرها من المقاطعات الفارسية.

٥٢٩ ـ تنظيم الجيش في الكوفة :

(حياة الإمام الحسين لباقر شريف القرشي ، ج ٢ ص ٤٤٥)

أنشئت الكوفة لتكون معسكرا للجيوش الإسلامية. وقد نظّم الجيش فيها على أساس قبلي ، فكانوا يقسمون في معسكراتهم باعتبار القبائل والبطون التي ينتمون إليها ، وقد رتّبت على نظام الأسباع.

وفي سنة ٥٠ ه‍ عمد زياد بن أبيه حاكم العراق فغيّر ذلك وجعل التقسيم رباعيا ، فكان على النحو التالي :

١ ـ أهل المدينة : وجعل عليهم عمرو بن حريث.

٢ ـ تميم وهمدان : وعليهم خالد بن عرفطة.

٣ ـ ربيعة بكر وكندة : وعليهم قيس بن الوليد.

٤ ـ مذحج وأسد : وعليهم أبو بردة بن أبي موسى [الأشعري].

وقد استعان عبيد الله بن زياد بهذا التنظيم لقمع ثورة مسلم بن عقيل. كما تولى بعضهم قيادة الفرق التي زجّها الطاغية لحرب الإمام الحسينعليه‌السلام .

٤٦٣

٥٣٠ ـ الجيش النظامي والجيش الشعبي :

وكان هناك دائما جيشان :

الأول جيش نظامي عدده قليل ، ومهمته المحافظة على الوالي ، وكان ينتقى من غير العرب (الأعاجم والموالي) لأنهم يخلصون للوالي أكثر من العرب ، ولا ينقادون لانتمائهم القبلي. وقد كان هؤلاء يسمّون (الحمر) وهم من بقايا رستم ، أسلموا وتجندوا في الجيش الاسلامي ، وعددهم أربعة آلاف ، وهم الذين خرجوا أول دفعة لحرب الحسينعليه‌السلام بقيادة عمر بن سعد.

أما الجيش الآخر [الشعبي] فهو يدعى عند الضرورة ومن أجل الفتوحات ، ويكون تنظيمه آنيا. وهو جيش شعبي يستنفر من المسلمين للجهاد. وقد كانت الكوفة مركزا لتنظيم هذه الجيوش ودفعها للفتح في مشارق البلاد.

ملفّ الكوفة

(مدينة الكوفة ـ مسجد الكوفة ـ قصر الإمارة)

٥٣١ ـ مدينة الكوفة :(البلدان لليعقوبي ، ص ٩٢)

الكوفة مدينة العراق الكبرى والمصر الأعظم وقبة الإسلام ودار هجرة المسلمين. وهي أول مدينة اختطها المسلمون بالعراق في سنة ١٧ ه‍. وبها خطط العرب. وهي على معظم الفرات ، ومنه يشرب أهلها. وهي من أطيب البلدان وأفسحها وأعذبها وأوسعها.

وعن الإمام عليعليه‌السلام في قوله تعالى :( وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ ) [المؤمنون : ٥٠] ، الربوة : الكوفة ، والقرار : مسجدها ، والمعين : الفرات.

٥٣٢ ـ تعريف بقصر الإمارة بالكوفة :(تاريخ الكوفة للبراقي)

قصر الإمارة بالكوفة بناه سعد بن أبي وقّاص ، وأمره عمر بن الخطاب أن يبني بجنبه مسجدا.

موقع القصر والمسجد شرق ميدان الكوفة

٤٦٤

(الشكل ٥) : مخطط الكوفة القديمة

[مأخوذ من كتاب (خطط الكوفة وشرح خريطتها) للمسيو لويس ماسينيون]

٤٦٥

هدم القصر عبد الملك بن مروان لما وضع بين يديه رأس مصعب بن الزبير ، وقال له ما قال عبيد بن عمير (والأصح عبد الملك بن عمير) فارتعد عبد الملك وقام من فوره وأمر بهدم القصر. يقع القصر في الزاوية الجنوبية الشرقية من ميدان الكوفة ، بينما يقع المسجد في الزاوية الشمالية الشرقية (انظر المخطط).

وفي (أضواء على معالم محافظة كربلاء) ص ١١٢ :

يقع هذا القصر خلف المسجد مباشرة ، وهو الآن في منخفض من الأرض.وعند ما بنى سعد بن أبي وقّاص مدينة الكوفة سنة ١٧ ه‍ بأمر عمر بن الخطاب ، شيّد بجانب المسجد دارا سميت بدار الإمارة ، تكون مقرا لأمير الكوفة. وتعتبر دار الإمارة أقدم ما عثر عليه من عمارات إسلامية حتّى الآن في كافة الأقطار الإسلامية.

وتتألف دار الإمارة من بناء مربع طول ضلعه ١١٠ م ومعدل سمك الجدران ١٨٠ سم ، وفي بعض أجزائه ممران. وهذه الدار مشيّدة بالآجر والجص ، وفي كل ركن من أركانها توجد أبراج نصف دائرية.

مسجد الكوفة :

وهو جامع واسع جدا ، يتسع لأكثر من ثلاثين ألفا من المصلين ، وهو الجامع الّذي ضرب في محرابه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام (انظر الشكل ٦). وهو الّذي صلى فيه مسلم بن عقيل حين جاء إلى الكوفة سفيرا للحسينعليه‌السلام ، ثم نكثوا به البيعة وتخلوا عنه.

ونورد فيما يلي تعريفا ببعض الأماكن الواقعة حول الكوفة :

٥٣٣ ـ القادسيّة :

مدينة صغيرة ذات نخيل ومياه تقع على حافة البرية وحامة سواد العراق. وهي بليدة بينها وبين الكوفة ١٥ فرسخا (نحو ٨٠ كم) في طريق الحاج. وبها كانت وقعة القادسية المشهورة أيام عمر بن الخطاب.

وفي (معجم البلدان) لياقوت الحموي : القادس : السفينة العظيمة. والقادسية :بلدة بينها وبين الكوفة ١٥ فرسخا ، وبينها وبين العذيب أربعة أميال. قيل : سميت القادسية بقادس هراة.

٤٦٦

(الشكل ٦)

مخطط مسجد الكوفة

ويظهر في أطرافه قبر هانئ ومسلم والمختار رضي الله عنهم

٤٦٧

قال المدائني : كانت القادسية تسمى قديسا ، وذلك أن إبراهيمعليه‌السلام مرّ بها فرأى زهرتها ، ووجد هناك عجوزا فغسلت رأسه ، فقال : قدّست من أرض ، فسميت (القادسية).

تقع القادسية جنوب الكوفة ومنها

ينطلق طريق الحاج إلى مكة

٥٣٤ ـ الحيرة :

مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة (٦ كم) جنوبا ، على موضع يقال له النجف [هذا نجف الحيرة ، وليس نجف الكوفة المعروفة] ، زعموا أن بحر فارس [لعل المقصود به الخليج العربي] كان يتصل به.والنجف كان ساحل بحر الملح ، وكان في قديم الدهر يبلغ الحيرة.

ومعنى الحيرة في اللغة السريانية (الحصن) ، وكانت الحيرة من أكبر مدن العصور السالفة. وهي منازل آل (بقيلة) وغيرهم.

وكانت الحيرة مسكن ملوك العرب في الجاهلية ، وبها كانت منازل ملوك بني نصر من لخم ، وهم آل النعمان بن المنذر. وعلية أهل الحيرة نصارى ، وتكثر فيها الأديرة ، مثل دير علقمة ودير اللّج ودير هند الصغرى ودير هند الكبرى ؛ بنتي النعمان بن المنذر ، ودير حتّه ودير السّوا (أي العدل).

وبنى فيها المناذرة بعد تنصّرهم القصور والكنائس الكبيرة والحصون المنيعة.وبنى فيها النعمان بن المنذر قصرين شهيرين هما : الخورنق والسّدير.

ولقد مرّت على (الحيرة) فترات من العمران والخراب. فلما مات بخت نصّر انضم عرب الحيرة إلى أهل الأنبار (مدينة تسمى اليوم الرمادي ، وتقع على نهر الفرات) ، وبقي الحير خرابا زمانا طويلا ، لا تطلع عليه طالعة من بلاد العرب. وبعد خمسمائة سنة عمّرت الحيرة في زمن عمرو بن عدي ، باتخاذه إياها مسكنا ، وظلت عامرة أكثر من خمسمائة سنة ، إلى أن جاء الفتح الإسلامي وعمّرت (الكوفة) ونزلها المسلمون ، فأهملت الحيرة.

٥٣٥ ـ الخورنق والسّدير :

إنما تكلمت عن الحيرة ، والآن أتكلم عن الخورنق والسدير ، لأبيّن أن هذه المنطقة التي حول الكوفة كانت مهد حضارات قديمة منذ أقدم العصور.

٤٦٨

يقع قصر الخورنق بالقرب من الحيرة مما يلي الشرق ، على بعد ثلاثة أميال (انظر الشكل ٧). والخورنق تعريب للكلمة الفارسية (خورنكاه) ومعناها : محل الأكل.

والسّدير : قصر في وسط البرية التي بينها وبين الشام.

وفي كتاب (العرب قبل الإسلام) لجرجي زيدان ، ج ١ ص ٢٠٤ ط مصر ، قال :

كانت الحيرة على شاطئ الفرات ، والفرات يدنو من أطراف البر حتّى يقرب من النجف ، فلما تبسّط النعمان في العيش رأى أن يتّخذ مجلسا عاليا يشرف منه على المدينة ، فاتخذ الخورنق على مرتفع يشرف منه على النجف ، وما يليه من البساتين والجنان والأنهار.

٥٣٦ ـ النّخيلة :

هي العباسية (في كلام ابن نما) ، وتعرف اليوم بالعباسيات ، وهي قريبة من (ذي الكفل). وفي (اليقين) لابن طاووس : أن النخيلة تبعد فرسخين عن الكوفة (انظر الشكل ٧).

(الشكل ٧) : مصور سواد الكوفة

[مأخوذ من كتاب (خطط الكوفة وشرح خريطتها) للمسيولويس ماسينيون]

٤٦٩

٥٣٧ ـ النجف والغريّ :

تقع النجف على بعد ٧ كم جنوب غرب الكوفة ، وترتفع ٣٦ مترا عن الكوفة الواقعة على الفرات. والنجف في اللغة : التل ، لأنه عال. ووراء مدينة النجف البحيرة المعروفة ببحر النجف ، حيث تنخفض الأرض انخفاضا هو أوطأ من مستوى نهر الفرات الموازي لها.

يقع بحر النجف من جهة الجنوب الغربي من المدينة ، يبتدئ من نهر الفرات عند (أبي ضمير) وينتهي فوق المدينة. ويغلب على الظن أن هذا البحر حصل هنا بتأثير زلزال انخفضت من جرائه الأرض ، فانسابت إليها مياه الفرات ، فتكونت هذه البحيرة ، التي عرضها عشرة كيلو مترات.

وكان اسم (النجف) يطلق قديما على الجزء الغربي ـ المطلّ على البحيرة المالحة ـ من ذلك اللسان الّذي تقع الكوفة في النقطة الشمالية الشرقية منه (من جهة الفرات). وهذه الذروة صارت في عصر اللخميين تسمى (الغريّ). والغراء :الحسن ، ومنه الغريّ (كغنيّ) : الحسن الوجه. والغري : البناء الجيد.

ومنه : الغريّان ، وهما بناءان مشهوران بالكوفة عند الثويّة ، حيث قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام . زعموا أنهما بناهما بعض ملوك الحيرة ، حيث كان الأمير (ماء السماء) قد نصب عليها عمودين : الغريّين.

محاولة قتل عبيد الله بن زياد

تضاربت الأخبار حول محاولة قتل عبيد الله بن زياد. فبعض الروايات تقول إن هانئ بن عروة كان مريضا منذ جاء ابن زياد إلى الكوفة ، فلما علم هانئ بزيارته طلب من مسلم بن عقيل وكان عنده ، أن يغتال ابن زياد أثناء الزيارة. وهذه الرواية مستبعدة للأسباب التي ستأتي.

وفي رواية أن أحد أصحاب هانئ طلب منه قتل ابن زياد ، أثناء مجيء ابن زياد لعيادته ، فرفض.

وفي روايات أخرى أن الّذي مرض هو شريك بن الأعور ، وكان مقيما في دار هانئ ، فطلب من مسلم قتل ابن زياد أثناء عيادته له ، وأن هانئا ترجّى مسلما أن لا يقتله في داره ، وكذلك زوجة هانئ توسّلت إليه بأن لا يقتله.

٤٧٠

ويمكن التوفيق بين هذه الروايات ، بأن عبيد الله بن زياد قد زار دار هانئ مرتين ، وذلك أن هانئ مرض أولا فعاده ، ثم مرض شريك فزاره. ولا بدّ أن ذلك حصل قبل أن تتم مكيدة (معقل) مولى ابن زياد ، وينكشف مكان مسلم.

٥٣٨ ـ علاقة شريك بهانئ بن عروة :

(الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري ، ص ٢٣٣)

وكان هانئ بن عروة مواصلا لشريك بن الأعور البصري الّذي قام مع ابن زياد.وكان شريك ذا شرف بالبصرة وخطر. فانطلق هانئ إليه حتّى أتى منزله ، وأنزله مع مسلم بن عقيل في الحجرة التي كان فيها.

وكان شريك بن الأعور من كبار الشيعة بالبصرة ، فكان يحثّ هانئا على القيام بأمر مسلم.

٥٣٩ ـ مرض هانئ :(الكامل في التاريخ لابن الأثير ، ج ٣ ص ٣٦١)

ومرض هانئ بن عروة بعد نزول مسلم بن عقيل عنده ، فأتاه عبيد الله يعوده. فقال عمارة بن عبد السلولي لهانئ : إنما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية ، وقد أمكنك الله ، فاقتله. فقال هانئ : ما أحبّ أن يقتل في داري. وجاء ابن زياد فجلس عنده ، ثم خرج.

٥٤٠ ـ مرض شريك بن الأعور :(المصدر السابق)

فما مكث إلا جمعة حتّى مرض شريك بن الأعور ، وكان قد نزل على هانئ.وكان كريما على ابن زياد وعلى غيره من الأمراء. وكان شديد التشيّع ، قد شهد صفين مع عمار. فأرسل إليه عبيد الله : إني رائح إليك العشية. فقال لمسلم : إن هذا الفاجر عائدي العشية ، فإذا جلس اخرج إليه فاقتله ، ثم اقعد في القصر ليس أحد يحول بينك وبينه ، فإن برئت من وجعي ، سرت إلى البصرة حتّى أكفيك أمرها.وعلامتك أن أقول : اسقوني ماء. ونهاه هانئ عن ذلك.

٥٤١ ـ هانئ يتوسّل إلى مسلم بعدم قتل ابن زياد في داره ، ومسلم يتورّع عن قتله :(مخطوطة مصرع الحسين ـ مكتبة الأسد)

هناك توسّل هانئ إلى مسلم أن لا يقتل عبيد الله أثناء عيادته لشريك. فلما كان وقت الميعاد جاء عبيد الله بن زياد ، ودخل مسلم الخباء ، وهمّ مسلم أن يخرج إليه ،

٤٧١

فوثب إليه هاني وقال له : يا سيدي ناشدتك الله لا تفعل ذلك ، ولا تحدث في منزلنا حادثة ، فإن فيه نسوة ضعافا وأطفالا صغارا فأخاف عليهم. فقال مسلم : معاذ الله أن يصاب أحد من أجلنا بمكروه ، فنكون قد تقلدّنا إثمه. وقبل قول هاني وأطاع أمره وبقي على حاله. فأبطأ ذلك على شريك ، فجعل يتمثّل بهذه الأبيات :

ما تنظرون بسلمى لا تحيّوها

حيّوا سليمى وحيّوا من يحيّيها

هل شربة عذبة أسقى على ظمأ

ولو تلفت وكانت منيتي فيها

وإن تخشّيت من سلمى مراقبة

فلست تأمن يوما من دواهيها

٥٤٢ ـ زيارة ابن زياد لشريك بن الأعور في دار هانئ :

(الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري ، ص ٢٣٤)

قال أبو حنيفة الدينوري : ومرض شريك بن الأعور في منزل هانئ مرضا شديدا.وبلغ ذلك عبيد الله بن زياد ، فأرسل إليه يعلمه أنه يأتيه عائدا.

فقال شريك لمسلم : إنما غايتك وغاية شيعتك هلاك هذا الطاغية ، وقد أمكنك الله منه ، وهو صائر إليّ ليعودني ، فقم فادخل الخزانة ، حتّى إذا اطمأن عندي ، فاخرج إليه فقاتله. ثم صر إلى قصر الإمارة فاجلس فيه ، فإنه لا ينازعك فيه أحد من الناس. وإن رزقني الله العافية صرت إلى البصرة ، فكفيتك أمرها ، وبايع لك أهلها.

فقال هانئ : ما أحبّ أن يقتل في داري ابن زياد.

فقال له شريك : ولم؟. فوالله إنّ قتله لقربان إلى الله.

ثم قال شريك لمسلم : لا تقصّر في ذلك.

فبينا هم على ذلك إذ قيل لهم : الأمير بالباب!. فدخل مسلم بن عقيل الخزانة.ودخل عبيد الله بن زياد على شريك ، فسلّم عليه ، وقال : ما الذي تجد وتشكو؟.فلما طال سؤاله إياه ، استبطأ شريك خروج مسلم ، وجعل يقول ويسمع مسلما :

ما تنظرون بسلمى عند فرصتها

فقد وفى ودّها واستوسق الصّرم(١)

وجعل يردد ذلك.

__________________

(١) الصّرم : الطائفة المجتمعة من القوم.

٤٧٢

فقال ابن زياد لهانئ : أيهجر؟(أي يهذي).

قال هانئ : نعم ، أصلح الله الأمير ، لم يزل هكذا منذ أصبح.

ثم قام عبيد الله وخرج. فخرج مسلم بن عقيل من الخزانة ، فقال شريك : ما الذي منعك منه إلا الجبن والفشل؟!.

قال مسلم : منعني منه خلّتان : إحداهما كراهية هانئ أن يقتل في منزله ، والأخرى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الإيمان قيد الفتك ، لا يفتك مؤمن بمؤمن» (يعني : إن إيمان الرجل يمنعه عن الفتك برجل على سبيل الاحتيال والإغتيال ، ولو كان المقتول كافرا).

قال شريك : أما والله لو قتلته لاستقام لك أمرك ، واستوسق لك سلطانك.

(وفي رواية ابن الأثير) : «لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا ، كافرا غادرا».

ولم يعش شريك بعد ذلك إلا أياما ، حتّى توفي. وشيّع ابن زياد جنازته ، وتقدم فصلى عليه.

(وفي رواية ابن الأثير) : «فلما علم عبيد الله أن شريكا كان حرّض مسلما على قتله ، قال : والله لا أصلي على جنازة عراقي أبدا. ولو لا أن قبر زياد فيهم لنبشت شريكا».

وكان شريك من خيار الشيعة وعبّادها ، غير أنه كان يكتم ذلك إلا عمن يثق به من إخوانه.

ترجمة شريك بن الأعور

(لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٣٩)

أبوه الحارث الأعور الهمداني ، من خواص أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهو الّذي يقول فيه :

يا حار همدان من يمت يرني

من مؤمن أو منافق قبلا

ولما رأى الإمامعليه‌السلام بطولات بني همدان في حروبه قال فيهم :

ولو كنت بوّابا على باب جنة

لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

وكان شريك شديد التشيّع ، وقد شهد صفين. وحكايته مع معاوية حين عيّره في اسمه مشهورة.

٤٧٣

(رواية أخرى) : تمارض هانئ لقتل عبيد الله بن زياد :

(الإمامة والسياسة لابن قتيبة ، ج ٢ ص ٤)

فقال هانئ بن عروة لمسلم : إن لي من ابن زياد مكانا ، وسوف أتمارض له ، فإذا جاء يعودني فاضرب عنقه.

قال : فقيل لابن زياد : إن هانئ بن عروة شاك يقيء الدم.

قال : وشرب المغرة فجعل يقيئها.

قال : فجاء ابن زياد يعوده. وقال لهم هانئ : إذا قلت لكم : اسقوني ، فاخرج إليه فاضرب عنقه. فقال : اسقوني ، فأبطؤوا عليه. فقال : ويحكم اسقوني ولو كان فيه ذهاب نفسي.

قال : فخرج عبيد الله بن زياد ولم يصنع الآخر شيئا. وكان مسلم من أشجع الناس ، ولكنه أخذته كبوة.

٥٤٣ ـ مكيدة بواسطة (معقل) تنطلي على مسلم بن عوسجة :

(الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري ، ص ٢٣٥)

وخفي على عبيد الله بن زياد موضع مسلم بن عقيل ، فقام لمولى له من أهل الشام يسمى (معقلا) وناوله ثلاثة آلاف درهم في كيس ، وقال : خذ هذا المال وانطلق ، فالتمس مسلم بن عقيل ، وتأنّ له بغاية التأني.

فانطلق الرجل حتّى دخل المسجد الأعظم ، وجعل لا يدري كيف يتأنى الأمر.ثم إنه نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد ، فقال في نفسه : إن هؤلاء الشيعة يكثرون الصلاة ، وأحسب هذا منهم. فجلس الرجل حتّى إذا انفتل من صلاته قام ، فدنا منه وجلس ، فقال : جعلت فداك ، إني رجل من أهل الشام (من حمص) مولى لذي الكلاع ، وقد أنعم الله عليّ بحبّ أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحبّ من أحبهم ، ومعي هذه الثلاثة آلاف درهم ، أحبّ إيصالها إلى رجل منهم.بلغني أنه قدم هذا المصر داعية للحسين ابن عليعليه‌السلام ، فهل تدلني عليه لأوصل هذا المال إليه؟. ليستعين به على بعض أموره ، ويضعه حيث أحبّ من شيعته؟.

فقال له الرجل : وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيري ممن هو في المسجد؟.قال : لأني رأيت عليك سيما الخير ، فرجوت أن تكون ممن يتولى أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤٧٤

قال له الرجل : ويحك ، قد وقعت عليّ بعينك ، أنا رجل من إخوانك ، واسمي مسلم بن عوسجة ، وقد سررت بك ، وساءني ما كان من حسّي قبلك ، فإني رجل من شيعة أهل هذا البيت ، خوفا من هذا الطاغية ابن زياد ، فأعطني ذمة الله وعهده ، أن تكتم هذا عن جميع الناس. فأعطاه من ذلك ما أراد.

فقال له مسلم بن عوسجة : انصرف يومك هذا ، فإن كان غد فائتني في منزلي حتّى أنطلق معك إلى صاحبنا [يعني مسلم بن عقيل] فأوصلك إليه.

فمضى الشامي فبات ليلته. فلما أصبح غدا إلى مسلم بن عوسجة في منزله ، فانطلق به حتّى أدخله إلى مسلم بن عقيل ، فأخبره بأمره. ودفع إليه الشامي ذلك المال ، وبايعه.

فكان الشامي يغدو إلى مسلم بن عقيل ، فلا يحجب عنه ، فيكون نهاره كله عنده ، فيتعرف جميع أخبارهم. فإذا أمسى وأظلم عليه الليل ، دخل على عبيد الله بن زياد ، فأخبره بجميع قصصهم ، وما قالوا وفعلوا في ذلك. وأعلمه نزول مسلم في دار هانئ بن عروة.

وفي (مقتل الخوارزمي) ج ١ ص ٢٠٢ ط نجف :

فبقي ابن زياد متعجبا ، وقال لمعقل : انظر أن تختلف إلى مسلم [أي تزوره] في كل يوم ، ولا تنقطع عنه ، فإنك إن قطعته استرابك ، وتنّحى عن منزل هاني إلى منزل آخر ، فألقى في طلبه عناء.

٥٤٤ ـ إمساك عبد الله بن يقطر :

(مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب ، ج ٣ ص ٢٤٣ ط نجف)

فلما دخل ابن زياد القصر أتاه مالك بن يربوع التميمي بكتاب أخذه من يدي عبد الله بن يقطر ، فإذا فيه : للحسين بن عليعليهما‌السلام : أما بعد ، فإني أخبرك أنه قد بايعك من أهل الكوفة كذا ، فإذا أتاك كتابي هذا فالعجل العجل ، فإن الناس معك ، وليس لهم في يزيد رأي ولا هوى.

فأمر ابن زياد بقتله.

٥٤٥ ـ مقتل عبد الله بن يقطر (على رواية أخرى):

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٣)

فبينا عبيد الله مع القوم إذ دخل رجل من أصحابه يقال له مالك بن يربوع التميمي ،

٤٧٥

فقال : أصلح الله الأمير ، ههنا خبر!. قال ابن زياد : ما ذاك؟. قال : كنت خارج الكوفة أجول على فرسي إذ نظرت رجلا خرج من الكوفة مسرعا يريد البادية ، فأنكرته. ثم إني لحقته وسألته عن حاله فذكر أنه من المدينة ، فنزلت عن فرسي وفتشته ، فأصبت هذا الكتاب.

فأخذه ابن زياد ، فإذا فيه مكتوب : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. للحسين ابن عليعليهما‌السلام : أما بعد ، فإني أخبرك أنه قد بايعك من أهل الكوفة ما ينيف على عشرين ألفا ، فإذا أتاك كتابي هذا فالعجل العجل ، فإن الناس كلهم معك ، وليس لهم في يزيد بن معاوية هوى ولا رأي ، والسلام.

فقال ابن زياد : أين هذا الرجل الّذي أصبت معه الكتاب؟. قال : هو بالباب.قال : ائتوني به ، فأدخل. فلما وقف بين يدي ابن زياد ، قال له : من أنت؟. قال :مولى لبني هاشم. قال : ما اسمك؟. قال : عبد الله بن يقطر. قال : من دفع إليك هذا الكتاب؟. قال : امرأة لا أعرفها ، فضحك ابن زياد. قال : اختر واحدة من اثنتين : إما أن تخبرني من دفع إليك هذا الكتاب ، أو تقتل. فقال : أما الكتاب فإني لا أخبرك من دفعه إليّ ، وأما القتل فإني لا أكرهه ، لأني لا أعلم قتيلا عند الله أعظم أجرا من قتيل يقتله مثلك. فأمر ابن زياد فضرب عنقه صبرا(١) .

ترجمة عبد الله بن يقطر

أرسله الحسينعليه‌السلام برسالة إلى أهل الكوفة وهو في طريقه إلى العراق.وقد اختلف بين أن تكون وفاته وهو ذاهب بهذه الرسالة ، أو بين أن يكون قد أوصلها ثم قبض عليه وهو راجع بجوابها من أهل الكوفة.

وكان عبد الله بن يقطر صحابيا. وكان لدة الحسينعليه‌السلام [أي الّذي ولد معه في زمن واحد] لأن (يقطر) كان خادما عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت زوجته ميمونة في بيت أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فولدت عبد الله قبل ولادة الحسينعليه‌السلام بثلاثة أيام. وكانت حاضنة للحسينعليه‌السلام ، لأنه لم يرضع من أمه فاطمةعليها‌السلام ، فلذلك فهو أخو الحسينعليه‌السلام من الرضاعة. (انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة للجزري)

__________________

(١) يقال قتل صبرا : إذا قتل وهو أسير ، لا يسمح له أن يدافع عن نفسه أو يقاتل خصمه.

٤٧٦

٥٤٦ ـ استدعاء هانئ بن عروة إلى قصر الإمارة :

(لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٤٣ ط نجف)

وخاف هانئ من عبيد الله بن زياد على نفسه ، فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض. فسأل عنه ابن زياد؟ فقيل : هو مريض. فقال : لو علمت بمرضه لعدته.

ودعا محمّد بن الأشعث وأسماء بن خارجة وعمرو بن الحجاج الزبيدي ، وكانت رويحة بنت عمرو هذا تحت هانئ. فقال لهم : ما يمنع هانئ من إتياننا؟. فقالوا : ما ندري ، وقد قيل إنه مريض. قال : قد بلغني ذلك ، وبلغني أنه بريء ، وأنه يجلس على باب داره. فالقوه ومروه أن لا يدع ما عليه من حقنا ، فإني لا أحب أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب.

(وفي مقتل الخوارزمي ج ١ ص ٢٠٣) فقال : «صيروا إلى هانئ بن عروة المذحجي فسلوه أن يصير إلينا ، فإنا نريد مناظرته. فركب القوم ثم صاروا إلى هانئ فوجدوه جالسا على باب داره ، فسلّموا عليه» ، وقالوا له : ما يمنعك من لقاء الأمير ، فإنه قد ذكرك وقال : لو أعلم أنه مريض لعدته. فقال لهم : المرض يمنعني. فقالوا :إنه قد بلغه أنك تجلس كل عشية على باب دارك ، وقد استبطأك. والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان من مثلك ، لأنك سيد في قومك ، ونحن نقسم عليك إلا ركبت معنا.

٥٤٧ ـ هانئ يحسّ بالشّر الّذي يترصده :(المصدر السابق)

فدعا [هانئ] بثيابه فلبسها ، ثم دعا ببغلته فركبها. حتّى إذا دنا من القصر كأن نفسه أحسّت (بالشر) ببعض الّذي كان. فقال لحسان بن أسماء ابن خارجة : يابن الأخ ، إني والله لهذا الرجل لخائف ، فما ترى؟. قال :

يا عم والله ما أتخوّف عليك شيئا (فلا تحدّثنّ نفسك بشيء من هذا) ولم تجعل على نفسك سبيلا. ولم يكن حسان يعلم مما كان شيئا ، وكان محمّد بن الأشعث عالما به.

٥٤٨ ـ دعوة هانئ إلى قصر الإمارة لقتله :

(الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري ، ص ٥)

فقيل لابن زياد : والله إن في البيت رجلا متسلحا. قال : فأرسل ابن زياد إلى هانئ ، فدعاه. فقال : إني شاك [أي مريض] لا أستطيع النهوض. فقال : ائتوني به

٤٧٧

وإن كان شاكيا. قال : فأخرج له دابة ، فركب ومعه عصاه ، وكان أعرج. فجعل يسير قليلا ويقف ، ويقول : مالي أذهب إلى ابن زياد؟!. فما زال ذلك دأبه حتّى دخل عليه.

فقال له عبيد الله بن زياد : يا هانئ ، أما كانت يد زياد عندك بيضاء؟. قال : بلى.قال : ويدي؟. قال : بلى. فقال : يا هانئ قد كانت لكم عندي يد بيضاء ، وقد أمّنتك على نفسك ومالك. فتناول العصا التي كانت بيد هانئ فضرب بها وجهه حتّى كسرها.

٥٤٩ ـ إمساك هانئ ومعاملته بقسوة :

(سير أعلام النبلاء للذهبي ، ج ٣ ص ٢٩٩)

قال الذهبي : فبعث ابن زياد إلى هانئ ـ وهو شيخ ـ فقال : ما حملك على أن تجير عدوي؟. قال : يابن أخي ، جاء حقّ هو أحقّ من حقك. فوثب إليه عبيد الله بالعنزة [عصا يتوكأ عليها الشيخ] حتّى غرز رأسه بالحائط.

٥٥٠ ـ دخول هانئ على ابن زياد :(لواعج الأشجان ، ص ٤٤)

فجاء هانئ والقوم معه حتّى دخلوا على عبيد الله. فلما طلع (نظر إليهم من بعيد) قال عبيد الله لشريح القاضي ، وكان جالسا عنده :

أتتك بخائن رجلاه تسعى

يقود النفس منها للهوان

فلما دنا من ابن زياد التفت إلى شريح وأشار إلى هانئ ، وأنشد بيت عمرو بن معديكرب الزبيدي :

أريد حياته ويريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد

فقال له هانئ : وما ذاك أيها الأمير؟. قال : إيه يا هانئ ، ما هذه الأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين؟. جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له الجموع والسلاح في الدور حولك ، وظننت أن ذلك يخفى عليّ؟!. قال : ما فعلت ذلك ، وما مسلم عندي. قال : بلى قد فعلت.

فلما كثر ذلك بينهما ، وأبى هانئ إلا مجاحدته ومناكرته ، دعا ابن زياد (معقلا) ذاك اللعين ، فقال : أتعرف هذا؟. قال : نعم. وعلم هانئ عند ذلك أنه كان عينا [أي جاسوسا] عليهم ، وأنه قد أتاه بأخبارهم ، فسقط في يده ساعة [أي بهت وتحيّر ما يدري ما يقول] ، ثم راجعته نفسه.

٤٧٨

(وفي رواية مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٤) : «فقال : أصلح الله الأمير. ما بعثت إلى مسلم ولا دعوته ، ولكنه جاءني مستجيرا ، فاستحييت من ردّه ، وأخذني من ذلك ذمام». فضيّفته وآويته ، وقد كان من أمره ما قد بلغك. فإن شئت أعطيتك الآن موثقا تطمئن به ، ورهينة تكون في يدك ، حتّى أنطلق وأخرجه من داري ، فأخرج من ذمامه وجواره.

فقال له ابن زياد : والله لا تفارقني أبدا حتّى تأتيني به. قال : لا والله لا أجيئك به أبدا. أجيئك بضيفي تقتله!(أيكون هذا في العرب؟). قال ابن زياد : والله لتأتينّي به. فقال هانئ : لا والله لا آتيك به أبدا.

٥٥١ ـ ابن زياد يجدع أنف هانئ بن عروة :

(لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٤٥ ط نجف)

ثم قال ابن زياد : والله لتأتينّي به أو لأضربنّ عنقك. فقال هانئ : إذن والله لتكثر البارقة [أي السيوف] حول دارك. فقال ابن زياد : والهفاه عليك ، أبالبارقة تخوّفني!. وهانئ يظن أن عشيرته سيمنعونه.

ثم قال : ادنوه مني ، فأدني منه ، فاستعرض وجهه بالقضيب ، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخده ، حتّى كسر أنفه وسالت الدماء على ثيابه ووجهه ولحيته ، ونثر لحم جبينه وخده على لحيته ، حتّى كسر القضيب. وضرب هانئ بيده على قائم سيف شرطي ، وجاذبه الشرطي ومنعه من ذلك السيف.

فصاح ابن زياد : خذوه. فأخذوه وألقوه في بيت من بيوت القصر ، وأغلقوا عليه الباب. فقال : اجعلوا عليه حرسا ، ففعل ذلك به.

ثم وثب أسماء بن خارجة ، فقال له : أيها الأمير ، أرسل غدر سائر اليوم ، أمرتنا أن نجيئك بالرجل ، حتّى إذا جئناك به هشّمت أنفه ووجهه ، وسيّلت دماءه على لحيته ، وزعمت أنك تقتله!. فقال له عبيد الله : وإنك لههنا

(وأنت ههنا أيضا)؟. فأمر به فضرب وأجلس ناحية. فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، إلى نفسي أنعاك يا هانئ.

٥٥٢ ـ تداعي مذحج لتخليص هانئ ، وخدعة شريح القاضي :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٥)

قال : وبلغ ذلك بني مذحج ، فركبوا بأجمعهم وعليهم عمرو بن الحجاج الزبيدي

٤٧٩

(وكانت رويحة بنت عمرو زوجة هانئ) فوقفوا بباب القصر. ونادى عمرو : يا عبيد الله (أنا عمرو بن الحجاج) وهذه فرسان مذحج (ووجوهها) ، لم تخلع طاعة ولم تفرّق جماعة ، فلم تقتل صاحبنا؟!.

فقال ابن زياد لشريح القاضي : ادخل على صاحبهم فانظر إليه ، ثم اخرج إليهم فأعلمهم أنه (حي) لم يقتل. قال شريح : فدخلت عليه ، فقال هاني : ويحك (يا لله يا للمسلمين) أهلكت عشيرتي!. أين أهل الدين فلينقذوني من يد عدوهم وابن عدوهم؟. ثم قال والدماء تسيل من لحيته : يا شريح هذه أصوات عشيرتي ، أدخل منهم عشرة ينقذوني.

قال شريح : فلما خرجت تبعني حمران بن بكير ، وقد بعثه ابن زياد عينا عليّ ، فلو لا مكانه لكنت أبلّغ أصحابه ما قال.

ثم خرج شريح فقال : يا هؤلاء لا تعجلوا بالفتنة ، فإن صاحبكم لم يقتل.

(فقال له عمرو بن الحجاج وأصحابه : أما إذا لم يقتل فالحمد لله). ثم انصرف القوم.

تعليق : يقول العلامة السيد محسن الأمينرحمه‌الله في (أعيان الشيعة) ج ٤ ص ١٦٩: وهكذا يتمكن الظالم من ظلمه ، بأمثال محمّد بن الأشعث من أعوان الظلمة ، وأمثال شريح من قضاة السوء ، المظهرين للدين ، المصانعين الظلمة ، اللابسين جلود الأكباش ، وقلوبهم قلوب الذئاب ، وبأمثال (مذحج) الذين اغتروا بكلام شريح ، وانصرفوا ولم يأخذوا بالحزم.

٥٥٣ ـ خطبة ابن زياد في مسجد الكوفة :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٦)

(ولما ضرب عبيد الله هانئا وحبسه ، خاف أن يثب به الناس). فخرج حتّى دخل المسجد الأعظم ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، فنظر إلى أصحابه عن يمين المنبر وشماله ، في أيديهم الأعمدة والسيوف المسللة. (فخطب خطبة موجزة) فقال : أما بعد ، يا أهل الكوفة ، فاعتصموا بطاعة الله ، وطاعة رسول الله ، وطاعة أئمتكم ، ولا تختلفوا وتفرقوا ، فتهلكوا وتندموا وتذلوا وتقهروا وتحرموا ، ولا يجعلن أحد على نفسه سبيلا. وقد أعذر من أنذر.

فما أتمّ الخطبة حتّى سمع الصيحة!. فقال : ما هذا؟. فقيل له : أيها الأمير

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

ولـمـّا صاح: نحن لنا العزّى ولا عزّى لكم.

قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قولوا:

الله مولانا ولا مولى لكم.

كما أنّ المسلمين كانوا عند الهجوم على الأعداء ينادون بشعار خاص مثل: امت امت(١) .

كانت هذه لمحة سريعة عن أساليب رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في التبليغ والدعوة إلى الإسلام، وهي تكفي لمعرفة إهتمام الإسلام بهذا الأمر.

وفي هذا العصر حيث اُتيحت للبشرية أجهزة ووسائل أوسع للتبليغ يتعيّن على المسلمين الإستفادة منها بشكل أفضل وبمنتهى الشجاعة والعزم ليصدق في شأنهم قوله تعالى:( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلّا اللهَ وَكَفَىٰ بِاللهِ حَسِيبًا ) ( الأحزاب / ٣٩ ).

ما هي وظائفنا اليوم في مجال التبليغ والدعوة ؟

هذا بعض ما كان يقوم به رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في مجال التبليغ والدعوة إلى الإسلام، وقد كان عملاً عظيماً جبّاراً بالقياس إلى وسائل ذلك العصر، فما هو واجب المسلمين في هذا الزمن وهم يملكون أعظم الأجهزة للتبليغ والدعوة.

فماذا يجب أن يفعله المسلمون اليوم ؟

هذا هو ما يجب أن نشير إليه في هذا المقام.

والذي نراه هي الاُمور التالية:

١ ـ رصد التبشير المسيحي والدعايات الماركسية: إنّ العالم الإسلامي يحاصره

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٦٨.

٥٤١

اليوم معسكران قويّان مزوّدان بكلّ القوىٰ والإمكانات، وهما المعسكر الغربي الذي يروّج المسيحية، والمعسكر الشرقي الذي يروّج الماركسية والإلحاد.

ويعمل هذان المعسكران ليلاً ونهاراً على بثّ سمومهما في أقطار العالم الإسلامي بمختلف الأساليب والسبل.

ومن أساليبهم النيل من كرامة النبي العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهذا هو كتاب يصدر في لندن باسم « الآيات الشيطانية » يشكّك في نبوّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتتحدّث عنه إذاعة لندن لإلقاء الضوء عليه، وحثّ الناس على قراءته تحت غطاء نقل الأخبار.

وهو مع الأسف يستند إلى بعض المصادر الإسلامية التي تحتاج إلى نظارة التنقيب جدّاً مثل تاريخ الطبري والسيرة الحلبية، فكم فيهما من موضوعات ومنحولات واسرائيليّات ومسيحيّات بثّها أبناء الديانتين من كعب الأحبار ووهب ابن منبه وتميم الداري، وأخذها السذّج من المسلمين، وزعموا أنّها حقائق راهنة.

فلابدّ أن تنهض جماعة من العلماء والمفكّرين والخطباء للتصدّي لهذه الهجمة الظالمة على الإسلام بالوسائل المتاحة والمفيدة.

٢ ـ رصد الدعايات المفرّقة لصفوف المسلمين وتبديد وحدتهم التي هي أقوى قلعة في وجه العدوّين المذكورين آنفاً، فلابدّ أن تجدّد فكرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، ولابدّ أن يتصدّى مركز إسلامي قوي للكتب المفرّقة التي لا يقصد من كتابتها وبثّها إلّا إيجاد الفرقة بين الطوائف الإسلامية في عصر هي أحوج ما فيه إلى التعاضد والتعاون والتعاطف، خاصّة أنّ هذه الكتب تحتوي على سفاسف وترّهات وقضايا لا قيمة لها ولا أساس. ضع يدك على كثير ممّا ينتشر في أشهر الحج ضد الشيعة الإمامية.

نعم لا يعني من هذا أن لا يعرض أحد عقيدته بصورة موضوعية علميّة أو أن يتجرّد أحد من عقائده من دون دليل، بل المطلوب هو تجنّب التهجّم على الآخرين،

٥٤٢

وبثّ بذور الفرقة والتشتّت، وإلّا فعرض المذاهب مستنداً إلى أوثق المصادر لغاية التعرّف من وسائل التقريب وأدواته.

٣ ـ تأسيس وحدة إعلامية واحدة للمسلمين: إنّ الأعداء على اختلاف مشاربهم ومطامعهم يؤلّفون وحدة إعلامية واحدة، فلابد أن يقوم المسلمون بتأسيس وحدة إعلامية واحدة، ويستفيدون من جميع وسائل الإعلام والتبليغ والدعوة من إذاعة وتلفزيون وسينما ومسرح، لعرض الحقائق الدينية للناس بعيداً عن أجواء السياسات الداخلية والظروف الخاصة.

٤ ـ اصلاح الكتب الدراسية: ينبغي أن يقوم علماء الإسلام باصلاح الكتب الدارسية التي تدرّس في المدارس والجامعات ويجرّدوها عمّا يشوّش أفكار الناشئة ويدفعه عن إساءة الظن بتاريخه ودينه.

هذا هو بعض ما يجب أن يقوم به المسلمون في مجال التبليغ والدعوة إلى الإسلام وهو فرض عليهم وواجب من واجباتهم كيف لا، ومهمة الإعلام والإبلاغ لم تنحصر برسول الإسلام فقط، بل اعتبرها القرآن من وظيفة الاُمّة الإسلامية أيضاً. وسمّاها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وجعل هذا العمل من وظائف المسلمين على اختلاف مستوياتهم ومؤهّلاتهم فقال:

( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( آل عمران / ١٠٤ ).

وقال سبحانه:

( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) ( آل عمران / ١١٠ ).

وليس الأمر بالمعروف مقصوراً على تنبيه العصاة من المسلمين، بل هو أصل عام يعم كل دعوة فيها وصلاح للمجتمع الإنساني من ابلاغ دينه سبحانه، ونشر اُصوله وفروعه أوّلاً والحث على الطاعة والانذار على المخالفة ثانياً.

٥٤٣

واعتبر الإسلام القيام بهذاه الوظيفة سبباً لازدهار الحياة، في شتّى مجالاتها إذ قال الإمام الباقرعليه‌السلام :

« إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء، بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمّر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر » (١) .

إنّ القرآن الكريم عدّ ترك هاتين الوظيفتين سبباً لهلاك الناس إذ قال:

( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ *وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) ( الأعراف / ١٦٣ ـ ١٦٥ ).

فقد أهلك الله الذين كانوا يتقاعسون عن أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل يعترضون على من يقوم بهذه الوظيفة، أهلكهم كما أهلك الفاسقين الذين كانوا يتجاوزون حدود الله وحرمة الصيد يوم السبت.

وقد ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الصدد أنّه قال:

« لايزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتعارفوا على البرّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء » (٢) .

إنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله حذّر من مغبّة ترك هاتين الفريضتين، وأنّ ذلك يؤدي إلى أن تنقلب القيم لدى الاُمّة الإسلامية عند ترك الأمر

__________________

(١) الوسائل: ج ١١ ص ٣٩٥.

(٢) البحار: ج ٩٤ ص ٩٧.

٥٤٤

بالمعروف والنهي عن المنكر، فيصير المنكر معروفاً والمعروف منكراً، إذ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :كيف بكم إذ أفسدت نساؤكم وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر ؟

فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله ؟

قال: نعم، وشرّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ؟

قالوا: يا رسول الله ويكون ذلك ؟

قال: نعم، وشرّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً، والمنكر معروفاً(١) .

النظر إلى الإنسانية برحابة صدر

ومن أساليب دعوته أنّه كان ينظر إلى الإنسانية برحابة صدر ولا يرى ميزاً لانسان أو تفوّقاً له على انسان إلّا بالتقوى، وكانت القوميّة عنده أبغض شيء، والدعوة إليها عنده دعوة خبيثة مفرّقة للاُمّة ومشتّتة لها، وبما أنّ القومية بمفهومها الواسع صارت شعاراً لأكثر المسلمين المعاصرين على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم، فالعربي يدعو إلى القوميّة العربيّة، والتركي إلى القومية التركية وهكذا، فوجب علينا البحث عن القومية من منظار الكتاب والسنّة وبذلك نختم البحث حتى يكون ختامه مسكاً فنقول:

__________________

(١) البحار: ج ٩٧ ص ٧٤.

٥٤٥

(١٥)

القوميّة في الكتاب والسنّة

وقبل أن ندخل في صلب الموضوع نأتي بعناوين البحث فنقول: إنّ البحث يدور على نقاط عشر وهي:

١ ـ ما هي القومية في مصطلح السياسيين وأصحاب هذه الفكرة ؟

٢ ـ تعيين تاريخ تكوّن هذه الفكرة في هذه العصور الأخيرة.

٣ ـ هزيمة هذه الفكرة في مولدها وموطنها.

٤ ـ اشتعال هذه الفكرة ونموّها في البلاد الاسلامية مؤخّراً.

٥ ـ دعاة هذه الفكرة في الشرق الاسلامي جماعة ينتسبون إلى البيوت المسيحية وهل يمكن عدّ هذا الامر أمراً اتّفاقياً وصدفيا ؟.

٦ ـ ما هي الغاية من زرع هذه الفكرة وترويجها في الأوساط الاسلاميه ؟

٧ ـ رسالة الاسلام رسالة عامة عالمية لا تختص بقوم دون قوم.

٨ ـ تفسير قوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ ) وبيان النكات الست فيه.

٩ ـ كلمات مضيئة للرسول الأعظم في تحطيم القومية.

١٠ ـ الخسارة التي تفرضها القومية على البشرية أولاً والاسلام والمسلمين ثانياً. فهذه جهات البحث ونقاطها الحساسة التي نبحث عن الكل موجزاً فنقول:

١ ـ ما هي القومية ؟

القومية حسب ما يستفاد من المعاجم السياسية: هي الاعتقاد بارتقاء شعب

٥٤٦

خاص على سائر الشعوب من حيث الخِلقة والخلق والعقيدة والمثل ويراد فيها باللغة الاوربيّة ( ناسيوناليزم )، وبعبارة اُخرى هي الاعتقاد بتفوّق شعب خاص والنظر إلى سائر الشعوب بالحقد والضغينة وكأنّ حامل تلك الفكرة يحب نفسه ويبغض غيره ويخاصمه.

وهذا المورد من الموارد التي تنتزع الايديولوجية من النظرة العامة إلى الكون بمعنى أنّ مدّعي القومية ينظر إلى الكون والحياة، فيرى لنفسه حسب خياله تفوّقاً وعلوّاً، فيرتب على تلك النظرة فكرته القومية ويبني الايديولوجية على ما استنتجه من النظر إلى الكون، ويقول: إذا كنت أنا وقومي متفوّقين في الخلق والخلقة يجب أن نكون متصدّرين في السياسة والسلطة ويكون الغير خادماً ومتعبّداً لنا وتكون لنا السلطة عليه.

وبذلك يعلم أنّ القومية لا تفترق عن العنصرية، فلو لم تكن هناك فكرة التفوّق في الحياة لما كان للقومية تفسير منهجي صحيح، فالقومية قائمة على العنصرية وتكون الثانية أساساً للاُولى، ونشير هنا إلى نكتة وهي أنّ دعاة القومية يذمّون العنصرية مع أنّ القومية مبنيّة على أساس العنصرية كما أشرنا فلو لم يكن هناك تفوق عنصري لم يكن لصرح القوميه أساس ولا تفسير صحيح.

٢ ـ تعيين تاريخ زرع هذه الفكرة في العصور الأخيرة:

إنّ الباحثين عن القومية يتّفقون على أنّ تلك الفكرة ظاهرة غربية يعود أصلها إلى الفرنسيين في القرن السادس عشر، وذلك لأنّ التفرقة الهدّامة كانت سائدة على ذلك الشعب من حيث المذهب والعقيدة، وكانت كل فرقة متمسكة بعقيدتها غير عادلة إلى غيرها، ففي تلك الآونة، قام عدة من رجال السياسة الذين يهمّهم كل شيء إلّا المذهب، بجمع شتات تلك الاُمة في ظل عامل واحد وهو القومية الفرنسية عسى أن يتوفّقوا في ظلّ هذا العامل بجمع شتاتهم ولمِّ شعثهم، وقد نجحوا في ذلك المجال بعض النجاح.

٥٤٧

ولم تكن تلك الكلمة يوم ذلك مفيدة غير هذا المعنى، إلّا أنّها عبر القرون والعصور أخذت لنفسها معنى خاصاً، وتضمّنت تضمير الحقد والتحقير لسائر الأقوام.

نعم هذه جذور القومية النامية في القرون الاخيرة، ولكن للشعوبية بمعنى القومية جذوراً تاريخية اُخرى، وهي أنّ التعصب للعربية، من جانب الخلفاء الامويين والعباسيين، كوّن تلك الفكرة في الشعوب الاسلامية غير العربية، ولهذا اجتمعت الاُمم على التعلّق بالقومية في مقابل التعصبات العربية التي كانت تثيرها الخلافة الاموية والعباسية، والبحث عن ذلك يحتاج إلى افراد رسالة مستقلة.

٣ ـ هزيمة تلك الفكرة في مولدها:

بينما يسعى بعض المفكرين السياسيين في ترويج تلك الفكرة في الشرق الاسلامي نرى تقهقر تلك الفكرة في الغرب وانهزامها أمام المشاكل العظيمة، وهذا لأنّ الغرب جرّب بعد الحربين العالميتين أنّه لا يقدر على العيش والحياة إلّا بتوحيد الشعوب والأقوام، بل الدخول في أحد المعسكرين الشرقي والغربي، فرفض القومية وطفق يستظل بظل الاتحاديات الاقتصادية والسياسية والثقافية وأحسّ أنّه لا ينجح في معترك الحياة إلّا برفض القومية ونسيانها.

ويدلّ على تقهقر هذه الفكرة في القرن العشرين ظهور جامعة الدول قبل الحرب العالمية الاُولى، وتكوّن الاُمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية فيها، والتجاء الدول النامية والمستضعفة إلى عقد مواثيق وتحالفات مع القوى الكبرى.

كل ذلك يسفر عن حقيقة واضحة، وهي أنّه قد مضى زمن تلك الفكرة وأنّ بناء الدولة والمملكة على ذاك الأساس بناء على شفا جرف هار.

إنّ إنجراف بعض الدول الشرقية في تيار الإشتراكية والتحالف مع الماركسية، كتعلّق الدول الغربية بمعسكر الرأسمالية، يكشف عن عدم كفاءة هذه الظاهرة المادّية في حل مشاكل الأقوام، ورفع العراقيل النامية في حياتهم.

٥٤٨

٤ ـ اشتعال هذه الفكرة ونموها في البلاد الإسلامية مؤخّراً:

إنّ هذه الفكرة أخذت تنهزم في الغرب وتنسحب عن تلك الجوامع، ولكنّنا نرى في الشرق دعاة إليها، بجدّ وحماس فنرى هناك دعوة إلى القومية بأشكالها وألوانها المختلفة، المتناسبة للظروف والملابسات المحيطة بالمناطق، فالقومية في مصر عبارة عن الدعوة إلى الفرعونية، وفي العراق إلى البابلية، وفي سوريا إلى الآشورية، وفي الاُردن إلى الرومانية، وفي إيران إلى الجمشيدية وفي ماوراء النهر إلى جنكيزخان وزملائه العصاة الطغاة.

ما هذه الدمدمة والهمهمة في الأوساط الإسلامية، وما هو الحافز والمحرك والدافع إلى إحياء تلك الفكرة فيها، بعدما تقهقرت في موطنها وقُبرت في مولدها ؟ فياليتهم يدعون إلى القومية البسيطة التي دعا إليها الساسة الفرنسيون في القرن السادس عشر، ولكنّهم أخذوا يدعون إلى القومية البغيضة الإلحادية حتى تصبح هذه الفكرة ذات مكانة خاصّة، تغني حاملها عن الإيمان بالله، والاعتناق بالإسلام، وها نحن ننقل إليكم ـ يا أصحاب الفضيلة ـ كلمات من دعاة القومية في خصوص البلاد العربية، فها هو ناصر الدين علي يقول في كتابه « قضية العرب » ص ٢٨: إنّ العربية هو الدين الواقعي لكل عربي سليم مسلماً كان أو مسيحيّاً، لأنّ القومية العربية كانت سائدة على تلك الاُمّة قبل أن تولد المسيحية والإسلام، وقد أتت بأمثل الخلق وأعلاها في مجال الحياة.

نرى أنّ وسائل الاعلام العامّة تروّج هذه الفكرة، فها هي مجلّة العالم العربي تكتب في عدد ١٩٥٩: ـ يجب أن تحل الوحدة العربية المكان الذي حلّ فية الإيمان بالله الواحد.

ونقل أبو الحسن الندوي عن الكاتب القومي عمرو فاخوري: إنّ العرب لا يكونون قادرين على الثورة والتقدّم، إلّا إذا عدّوا العربية ديناً، ويتمسّكوا بها كتمسّك المسلم بالقرآن، والمسيحي بالإنجيل إلى غير ذلك.

٥٤٩

٥ ـ دعاة هذه الفكرة في الشرق الإسلامي جماعة ينتسبون إلى المسيحية وهل يمكن عد هذا الأمر أمراً اتفاقيّاً وصدفياً:

والعجب أنّ منتحلي هذه الفكرة في مركز الخلافة الإسلامية « بغداد ودمشق » لا يمتّون إلى الإسلام بصلة نظراء: ميشل عفلق وانطوان سعادة وجورج حبش، هؤلاء لا يمتّون بالإسلام كما لا تمتّ بيوتهم التي نشأوا فيها بهذا الدين، ومع ذلك فهم يدّعون أنّهم يريدون إعادة المجد إلى البلاد الإسلامية وأبناء القرآن الكريم عن طريق تحكيم القوميّة فيهم، فهل يمكن تفسير ذلك بالإتفاق والصدفة ؟ وكيف تريد أبناء النصارى إعادة المجد إلى البلاد الإسلامية والمسلمين وهم ليسوا منهم ؟

إذا ما فصلت عليّا قريش

فلا في العير أنت ولا النفير

٦ ـ ما هي الغاية من زرع هذه الفكرة وترويجها في الأوساط الإسلامية ؟

كانت الغاية من زرع بذور القومية في الأوساط الإسلامية، تبديد الحكومة الإسلامية الموحّدة الحاكمة باسم الإسلام، وكانت البلاد الإسلامية إلّا ماشذ تعيش في ظل حكومة إسلامية لها طابع الإسلام، وأراد المستعمرون بزرع تلك البذرة وتنميتها بيد عملائهم، تقسيم الحكومة الواحدة إلى حكومات، والبلد الواحد إلى بلاد، والحاكم الواحد إلى حكّام، حتى يسهل السيطرة عليهم، والعجب أنّ جماعة كثيرة من الشباب والمثقّفين اغترّوا بهذه الفكرة وحسبوا أنّ الدعوة إلى القومية دعوة ناجحة مطبّقة بالإسلام والقرآن، وكأنّهم نسوا قول الباري عزّ وجلّ:( وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) ( المؤمنون / ٥٢ ).

وقال سبحانه:( إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) ( الأنبياء / ٩٢ ).

فصاروا يتخاصمون مكان أن يتحابّوا، يشتم بعضهم بعضاً ويبغض بعضهم

٥٥٠

بعضاً، فكأنّهم لم يسمعوا قول الله عز وجل:( فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) ( آل عمران / ١٠٣ ) أو قوله عزّ وجلّ:( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( الحجرات / ١٠ ) أو قول نبيّهم الأعظم: « إنّما المؤمنون في تراحمهم وتوادّهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى »(١) .

ترى أنّ كل قطر من الأقطار الإسلامية أصبح لقمة صغيرة قابلة للأكل والبلع لحماة الإستعمار أوّلاً والمستعمرين ثانياً، فحاق بالمسلمين ألوان العذاب وأصناف العقاب.

٧ ـ رسالة الإسلام رسالة عامة عالمية لا تختص بقوم دون قوم وبيان دلائله من القرآن الكريم:

إنّ رسالة النبي الأكرم رسالة عالمية غير مختصّة بشعب دون شعب، وإنْ أصرّ الدعاة المسيحيون بتخصيص رسالتها بالاُمّة القاطنة في الجزيرة العربية، غير أنّ تلك الفكرة فكرة خاطئة يكذّبها القرآن بخطاباته العامّة وهتافاته المطلقة، فالقرآن يخاطب جميع العالم بلفظ: « يا أَيّها الناس » ويقول:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( الأعراف / ١٥٨ ).

كما أنّه يعرّف النبيّ رحمة للعالمين بقوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء / ١٠٧ ).

وبعد القرآن النبي الأكرم نذيراً للعالمين، ويقول( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ( الفرقان / ١ ).

كما أنّه يأمر النبي أن ينذر بالقرآن كل بشر يصل إليه ذلك الكتاب، ويقول:( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام / ١٩ ).

__________________

(١) مسند أحمد: ج ٤ ص ٢٧٠.

٥٥١

نعم هناك آية اُخرى ربّما تقع ذريعة لمن يريد الخدعة وتحريف الفكرة الصحيحة، وهي قوله سبحانه:( لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ولكن الآية واضحة ببركة الآية المتقدّمة عليها، وذلك لأنّ المراد باُمّ القرى هي مكّة كما أنّ المراد ب‍ـــ « من حولها » العالم كلّه فمكّة اُمّ القرىٰ وقلب العالم التوحيدي فإذا أنذر مكّة وأنذر ما حولها فقد أنذر جميع العالم.

فهذه الآيات ونظائرها أوضح دليل على عالميّة رسالته وأنّها تشمل جميع أبناء البشر، كيف والنبي الأكرم حسب قوله سبحانه:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) ( البقرة / ١٨٥ ). يهدي كل الناس ببركة القرآن، أفبعد هذه التصاريح القاطعة يمكن احتمال إختصاص رسالة النبي الأكرم بقوم دون قوم ؟

وهذه الآيات ونظائرها الكثيرة الواردة في القرآن تصرّح بعموميّة رسالته وإطلاق نبوّته.

٨ ـ تفسير قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات / ١٣ ).

والآية تشتمل على نكات ستّ نشير إليها بإيجاز.

١ ـ إنّ الآية تقسّم الإنسان إلى قسمين الذكر والاُنثى ويستند في التفسير باُمور ذاتية داخلة في جوهر ذاته وحقيقة وجوده وهي الذكورية والاُنوثية ولا يعتني بالاُمور الطارئة عليه حسب ظروفه وشرائط حياته.

٢ ـ تعترف بالشعوب والقبائل وتصرّح بأنّ هناك قوميّات ولا تنفيها أبداً.

٣ ـ تصرّح بأنّ اختلاف البشر من جهة الشعوب والقبائل كاختلافهم من حيث الذكورة والاُنوثة وإنّ كلا الاختلافين داخلان في جوهر وجوده وواقع شخصيّته.

٤ ـ يسند تكوّن الاختلاف في كلتا الجهتين إلى نفسه( إِنَّا خَلَقْنَاكُم وَجَعَلْنَاكُمْ ) .

٥٥٢

٥ ـ إنّ الغاية من تكوين ذلك الاختلاف وجعل البشر شعوباً وقبائل ليست هي التفاخر والتناكر بل التعارف والتحابب.

٦ ـ إنّ الاعتراف بالقوميّات ليست بمعنى انّها الملاك في التفوّق والاعتلاء بل ملاك التعالي والكرامة في التقوى والتجنّب عن اقتراف المعاصي.

هذه نكات ست جئنا بها على وجه الإيجاز والكل يحتاج إلى توضيج أكثر من هذا نتركه لآونة اُخرى.

٩ ـ كلمات مضيئة للرسول الأعظم في تحطيم القومية:

إنّ الرسول الأعظم جاء يحطّم القومية المبدّدة لكيان الإسلام ووحدة المسلمين وألقى جوامع الكلم في هذا المجال نأتي ببعضها.

أ ـ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبة حجّة الوداع: « يا أيّها الناس إنّ الله تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهليّة وفخرها بالآباء، كلّكم من آدم وآدم من تراب، ليس لعربي على أعجمي فضل إلّا بالتقوى »(١) .

ب ـ وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الناس كلّهم سواء كأسنان المشط »(٢) .

ج ـ وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الناس كلّهم أحرار إلّا من أقرّ على نفسه بالعبودية »(٣) .

د ـ وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ليس منّا من دعا إلى عصبية ».

__________________

(١) سيرة ابن هشام: ج ٢ ص ٤١٧.

(٢) كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق: ص ١٢٢.

(٣) وسائل الشيعة: ج ٣ ص ٢٤٢.

٥٥٣

ه‍ ـ روى المحدّثون أنّه جلس سلمان إلى جنب سائر الصحابة من قريش فانتهى الكلام إلى الأنساب والأحساب، فعرّف كل واحد أصله ونسبه، ولـمـّا وصل الكلام إلى سلمان فقال: هو أنا سلمان ابن عبد الله كنت ضالًّا فهداني الله بمحمّد، وكنت عائلاً فأغناني الله بمحمّد، وكنت مملوكاً فأعتقني الله بمحمد، فلمّا وقف النبي على محاضرتهم أقبل إليهم وقال: « يا معشر قريش إنّ حسب الرجل دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله. قال الله عز وجلّ:( إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) قال النبي لسلمان: ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلّا بتقوى الله عزّ وجلّ، وإن كانت تقوى لك فأنت أفضل(١) .

و ـ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ليدعن رجالاً فخرهم بأقوام إنّما هم فحم من فحم جهنّم أو ليكوننّ أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن »(٢) .

وقد نقل أنّه اشترك في بعض المغازي شابّ إيراني، فلمّا وجّه إلى العدو فقال: خذ هذه الضربة من شاب إيراني، فاعترض عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: لماذا لم تقل من رجل أنصاري(٣) .

ز ـ كان النبي واقفاً على أنّ العرب تفتخر بلسانها العربي وقال في هذا الصدد: « ألا إنّ العربية ليست باب والد ولكنّها لسان ناطق فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه »(٤) .

ح ـ إنّ النبي أسّس مجتمع إسلامي عظيم من قوميّات مختلفة فضمّ عليّاً العربي إلى صهيب الرومي وضمّ بلال الحبشي إلى سلمان الفارسي وضمّ إليهم خبّاب النبطي من دون أن يزعج واحد منهم الآخر وهم من قوميّات متشتّتة، ولأجل

__________________

(١) روضة الكافي: ص ١٨١، بحار الأنوار: ج ٢٢ ص ٢٨٢.

(٢) سنن أبي داود: ج ٢ ص ٦٢٤.

(٣) سنن أبي داود: ج ٢ ص ٦٢٥.

(٤) الكافي: ج ٨ ص ٢٤٦.

٥٥٤

ذلك قام عليٌّعليه‌السلام يقول: « السّباق خمسة فأنا سابق العرب وسلمان سابق فارس وصهيب سابق الروم وبلال سابق الحبشة وخبّاب سابق النبط »(١) .

ط ـ روي أنّ عبد الرحمن بن عوف قال لعبده: يا ابن الأسود، فوقف عليه النبي وقال: « ليس لابن الأبيض على ابن الأسود فضل إلّا بالتقوى واقتفاء الحق »(٢) .

ي ـ روى المحدّثون أنّ عقيلاً أخا عليٍّ اعترض على أمير المؤمنين بأنّه ساوى بينه وبين رقّ أسود، وقال: والله لتجعلني وأسود بالمدينة سواء، فقال عليٌّ: وما فضلك عليه إلّا بسابقة أو بتقوى(٣) .

ك ـ روي أنّ سلمان كان جالساً في مجلس كانت فيه شخصيات قريش الذين هاجروا إلى المدينة وآمنوا بالنبي، فاعترض واحد منهم وقال: من هذا العجمي المتصدّر فيما بين العرب، فلمّا سمع النبي ذلك الكلام اللائح منه القوميّة البغيضة صعد المنبر وقال: إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط لا فضل للعربي على العجمي ولا للأحمر على الأسود إلّا بالتقوى »(٤) .

هذه كلمات مضيئة من النبي حول القومية وكل واحدة منها تكفي في تحطيم القومية وتضادّها مع مبادئ الإسلام.

١٠ ـ الخسارة التي تفرضها القومية على البشرية أوّلاً والإسلام والمسلمين ثانياً.

القومية تنمّي روح التوسّعية والسيطرة على أقوام اُخر باعتقاد أنّ حاملها أفضل

__________________

(١) الخصال للشيخ الصدوق: ص ٢١٢.

(٢) الحديث منقول بالمعنى، رواه باقر شريف القرشي في كتابه « الحكمة والحكومة »: ص ١٥٢.

(٣) روضة الكافي: ج ٨ ص ٢٦٢.

(٤) الإختصاص للشيخ المفيد: ص ٢٢٧.

٥٥٥

الأقوام وأمثلها، ولأجل ذلك نرى أنّ رئيس ألمانيا ( هتلر ) في وقته دعى إلى القومية وأنّ شعبه من أفضل الشعوب عقلاً وأطهرها دماً، فأوجد في قومه نخوة كبيرة وحقداً وبغضاً لسائر الشعوب، فنمت فيهم روح الطغيان والتوسّعية فأشعل فتيلة الحرب العالمية الثانية، ودامت الحرب حوالي خمس سنين وتكبّد العالم البشري خسائر فادحة، وأعطت لاطفاء نيرانها النفس والنفيس قرابة مائة مليون بين قتيل وجريح ومفقود.

وأمّا الخسائر التي تفرضها القومية على الإسلام فهي تحطّم الوحدة الإسلامية وتبدّد المجتمع الواحد إلى مجتمعات، وتبدّل الاُخوّة إلى البغضاء فيصير المجتمع الإسلامي اُمماً متفرّقة وأشلاء مبعثرة تقع فريسة للقوى الكبرى.

ولو كان شعار القومية: نحن العرب، نحن الفرس، نحن الترك، فشعار المسلم نحن حزب الله ودعاته تجمعنا عقيدة واحدة، وهي الإعتقاد بربّ واحد ورسول خاتم وكتاب نازل وأحكام واُصول وفروع خالدة.

نحن كما يقول شاعر الاهرام حسن عبد الغني حسن:

إنّا لتجمعنا العقيدة اُمّة

ويضمّنا دين الهدى أتباعاً

ويُؤلِّف الإسلام بين قلوبنا

مهما ذهبنا بالهوى أشياعاً

وفي الختام نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ الدعوة إلى القومية تختلف عن العلاقة بالأوطان التي نشأ الإنسان فيها كما تختلف عن العلاقة بالثقافات القومية والآداب والرسوم المورثة إذا لم تتعارض مع اُصول الإسلام وتعاليمه، وهذا هو رمز تقدّم الإسلام بين الشعوب والأقوام المختلفة، فالإسلام في مفهومه يتحمّل جميع القوميات والثقافات المحلّية ولا يفنّدها بل يعترف بالجميع شريطة أن لا تخالف المبادئ الإسلامية، ولو كان نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله معارضاً لهذه الثقافات والرسوم والآداب لما نجح في نشر الإسلام وتربية الناس، نعم الإعتراف بهذه الآداب والرسوم يختلف من جعلها محوراً للتفوّق وملاكاً للتصاغر.

٥٥٦

وقد روي أنّ النبي عندما وصل في هجرته من مكّة إلى المدينة إلى أرض الجحفة اشتاقت نفسه إلى موطنه فنزلت الآية:( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ) ( القصص / ٨٥ ) والمعاد هو الوطن.

تمّ الجزء السابع من هذه الموسوعة القرآنية الموضوعية التي استعرضت الجوانب المتعدّدة للشخصيّة المحمديّة، ويسعدنا أنّا استعرضنا تلك الشخصيّة الكبرى في ضوء أتقن وأصحّ مصادر الإسلام وهو القرآن الكريم، فهي صورة معبّرة لأبعاد الشخصيّة المحمديّة وما يدور حولها من منظار الوحي الإلهي.

وهذه الصورة وإن لم تكن الصورة الكاملة الشاملة لتلك الشخصية الطاهرة السامية إلّا أنّها تمثّل أبرز ملامحها المباركة.

وليس لنا هنا إلّا أن نعتذر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعجزنا عن أداء هذه المهمّة الجسيمة رغم السعي الكبير

ونرجو من الله سبحانه التوفيق لإتمام بقية هذه الموسوعة إنّه سميع الدعاء.

تمّ عشية ليلة الأحد الخامس من شهر جمادي الآخرة من شهور عام ١٤١١ ه‍.

والحمد لله ربّ العالمين

قم مؤسسة الإمام الصادقعليه‌السلام

جعفر السبحاني

غفر الله له ولوالديه

٥٥٧
٥٥٨

٥٥٩
٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581