مفاهيم القرآن الجزء ٧

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

ISBN: 964-357-223-4
الصفحات: 581
المشاهدات: 252001
تحميل: 5317


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 252001 / تحميل: 5317
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 7

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-223-4
العربية

يكون جاهلاً لسائر اللغات أيضاً، وعلى ذلك فليس للأُمّي إلّا معنى واحد وله مصاديق وأفراد حسب الظروف التي تستعمل الكلمة فيها، واطلاقه في الآية على من لم يعرف اللغات السامية لا يكون دليلاً على كونه موضوعاً لخصوص هذا المعنى، كما أنّ إطلاق الإنسان وإرادة فرد منه بالقرينة لا يكون دليلاً على كونه موضوعاً لذلك الفرد.

هذا هو خلاصة المقال في وصف الاُمّي الذي جاء توصيف النبي به في الذكر الحكيم وهناك آيات أُخر تثبت ذلك المعنى ( اُمّية النبي ) قال سبحانه:

( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت / ٤٨ ).

فالآية بحكم وقوع النكرة فيها في سياق النفي تفيد شمول السلب وعمومه لتلاوة أي كتاب وممارسة أية كتابة.

ثمّ إنّه سبحانه علّل هذا السلب بأنّه خير عون لنفي ريب المبطلين وشك المشكّكين إذ لو كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ممارساً للقراءة والكتابة قبل البعثة، لاتّهمه اليهود والنصارى والمشركون بأنّ الشريعة التي جاء بها تلقّاها عن طريق قراءة الصحف وتلاوتها، ولأجل صد هذا الريب وقلع جذور هذا الشك لم يُمكّن نبيّه عن تعلّم الكتابة والقراءة حتّى يكون ذا بيّنة قويّة على أنّ شريعته شريعة سماوية.

ومع أنّ النبي الأكرم عاش أربعين سنة بلا ممارسة للكتابة والقراءة فقد اتّهمه بعض المعاندين بأنّ قرآنه استنساخ منه لما تملى عليه، قال سبحانه:

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إلّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا *وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان / ٤ و ٥ ).

وكان المعاند يبثّ بذر هذا الشك حتّى وافاه الوحي الإلهي بالنقد والرد بقوله

٨١

سبحانه:

( قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( يونس / ١٦ ).

ومعنى الآية إنّكم أيّها العرب تحيطون بتاريخ حياتي، فقد لبثت فيكم عمراً يناهز الأربعين فهل رأيتموني أقرأ كتاباً أو أخطّ صحيفة، فكيف ترمونني بالإفك الشائن بأنّه أساطير الأوّلين التي اكتتبتها وافتريتها على الله وأعانني على ذلك قوم آخرون ؟ فإذا كنتم واقفين على سيرتي وحياتي في الفترة الماضية فاعلموا أنّه منزّل من الله سبحانه كما أمر الله نبيّه أن يجبهم بقوله:

( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان / ٦ )

نعم ربّما يقال بأنّ قوله:( مَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ ) لا يدل على أنّ النبي كان أُمّياً بل فيها أنّه لم يكن يكتب الكتاب، وقد لا يكتب الكتاب من يحسنه كما لا يكتب من لا يحسنه(١) .

يلاحظ عليه: أنّ التعليل الوارد في الآية إنّما يصحّ وقوعه علّة لصدر الآية إذا كان النبي غير مستطيع لأن يقرأ ويكتب لا أن يكون عالماً بهما وإن لم يمارسهما، وذلك لأنّ التعليل بصدد إزالة الشك والريب في أنّه كتاب سماوي وليس من صنع النبي ولا يمت إليه بصلة وذلك إنّما يتحقّق إذا كان النبي أُمّياً محضاً غير قادر عليهما لا ما إذا كان عارفاً بهما ولكن تركهما لمصلحة أو لعلّة أُخرى.

* * *

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن: ج ٨ ص ٢١٦، طبع بيروت. ويظهر من الآلوسي في تفسيره أنّه إعتمد على هذا.

٨٢

وضع النبي بعد البعثة

اتّفق المحقّقون من السنّة والشيعة على أنّه كان أُمّياً قبل البعثة لا يحسن الكتابة والقراءة، وأمّا وضعه بعد البعثة وانّه هل بقي على ما كان عليه قبلها أو تغيّر وضعه وصار عارفاً بالكتابة والقراءة، وعلى فرض ثبوت معرفته بهما فهل مارسهما في بعض الفترات من عمره أو لا ؟ فهذه بحوث خارجة عن موضوع بحثنا لأنّ البحث في حياته وسيرته قبل البعثة وما ذكر يرجع إلى سيرته بعدها، ولعلّنا نرجع إلى تلك المسألة في المستقبل.

* * *

٧ ـ إيمان النبي قبل البعثة

لم يشك أحد من أهل التاريخ والسير في انّ النبي الأكرم كان على خط التوحيد قبل البعثة ويدل عليه مأثورات كثيرة والمسألة إتفاقية بين المسلمين ولا تحتاج إلى اطناب، وقد دلّت الآثار على أنّه كان يكافح الوثنيّة منذ نعومة أظفاره ومن إبّان طفوليته وشبابه.

روى صاحب المنتقى: انّ النبي لـمّا تمّ له ثلاث سنين، قال يوماً لوالدته أي مرضعته « حليمة السعديّة »: ما لي لا أرى أخويّ بالنهار ؟ قالت له: يا بُنيّ إنّهما يرعيان غنيمات.

قال: فما لي لا أخرج معهما ؟

قالت له: أتحبّ ذلك ؟

قال: نعم.

قالت حليمة السعدية: فلمّا أصبح محمّد دهّنته وكحّلته وعلّقت في عنقه

٨٣

خيطاً فيه جزع يماني فنزعه ثمّ قال لأُمّه: « مهلاً يا أُمّاه فإنّ معي من يحفظني »(١) .

ونكتفي في المقام بهذا المقدار وقد بسطنا الكلام في المأثورات حول توحيده وإيمانه في محلّه(٢) .

إنّما المهم تعيين الشريعة التي كان يطبّقها في أعماله الفردية والإجتماعية العبادية وغيرها.

الشريعة التي كان يتعبّد بها قبل البعثة

أمّا الشريعة التي كان يطبقها في أعماله فقد إختلفت الأنظار فيه وانتهت إلى أقوال واحتمالات:

١ ـ إنّه لم يكن يتعبّد بشريعة من الشرائع وإنّما يكتفي في أعماله الفردية والإجتماعية بما يوحي إليه عقله.

وهذا القول لا يُعرَّج عليه، إذ لم تكن أعماله منحصرة في المستقلّات العقليّة كالاجتناب عن البغي والظلم والتحنّن على اليتيم، والعطف على المسكين، بل كانت له أعمال عبادية لا تصحّ بدون الركون إلى شريعة لأنّه كان يخرج في شهر رمضان إلى « حراء » فيعتكف فيه وهل يمكن الاعتكاف بدون الاعتماد على شريعة، وقد رويت عن أئمّة أهل البيت: إنّه حجّ عشرين حجّة مستتراً(٣) ولم يكن البيع والربا ولا الخل والخمر ولا المذكّى والميتة ولا النكاح والسفاح عنده سواسية، فطبيعة الحال تقتضي أن يكون عارفاً بأحكام عباداته وأفعاله.

__________________

(١) المنتقى للكازروني، الباب الثاني من القسم الثاني، ونقله المجلسي في البحار: ج ١٥، ص ٣٩٢.

(٢) لاحظ « مفاهيم القرآن »: ج ٥ ص ٣٥١ ـ ٣٥٢.

(٣) الوسائل: ج ٨، الباب٤٥ ص ٨٧ ـ ٨٨.

٨٤

٢ ـ إنّه كان يعمل بشريعة إبراهيم وسننه وطقوسه المعروفة وهذا هو الذي كان السيّد العلّامة الطباطبائي يستظهره كأحقّ الأقوال بشهادة أنّ أجداد النبي واُسرة البيت الهاشمي وجميع الأحناف في الجزيرة العربية كانوا على دين إبراهيم ولم ينقل أحد من أهل السير تهوّدهم أو تنصّرهم.

ويتوجّه على هذا القول: إنّ لازم ذلك كونه عاملاً بالشريعة المنسوخة فإنّ الشريعتين اللاحقتين كشريعة الكليم والمسيح نسختا تلك الشريعة، إلّا أن يقال: إنّ سنن إبراهيمعليه‌السلام وطقوسه كانت باقية على ما هي عليها في الشرائع اللاحقة لها، وإنّما انقضت نبوّته، ولكن شريعته كانت باقية في غضون الشرائع اللاحقة، ولأجل ذلك صارت الشريعة الإبراهيميّة هي الأساس للشرائع اللّاحقة وإنّما زيد عليها في الفترات اللاحقة أحكام وأُصول أُخر جاء بها الكليم، أو المسيح أو النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

نعم يبقى على هذا القول إشكال آخر وهو أنّه لازم هذا القول أن يكون النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله جزء من أُمّة إبراهيمعليه‌السلام تابعاً له، واقتداء الفاضل بالمفضول غير صحيح عقلاً ولم يخصّ أحد تفضيله على سائر الأنبياء بوقت دون وقت، فيجب أن يكون أفضل في جميع الأوقات فلاحظ وتأمّل.

٣ ـ أن يكون تابعاً للشريعة الأخيرة وهي شريعة المسيح، وأمّا شريعة الكليم فلا شك أنّها كانت منسوخة بالشريعة اللاحقة، ولكن هذا الاحتمال مبني على أن يكون النبي واقفاً بشريعة المسيح ولم يكن له طريق إلّا مخالطة أهل الكتاب وعلمائهم، وحياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا تنسجم مع هذا الإحتمال، إذ لم يتعلّم منهم شيئاً ولم يسألهم.

٤ ـ إنّه كان يعمل حسب ما يُلهم ويوحى إليه سواء أكان مطابقاً لشرع من قبله أم مخالفاً، وسواء أكان مطابقاً لما بعث عليه من الشريعة فيما بعد أم لا ؟ وهذا هو أظهر الأقوال، ويؤيّد ذلك ما نقل عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال:

٨٥

«لَقَدْ قَرَنَ الله بِهِ مِنْ لَدُنْ اَنْ كَانَ فَطيماً اَعْظَمَ مَلك مِنْ مَلائِكتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَريقَ المَكَارِم وَمحَاسِنَ اَخْلاَقِ العَالم لَيْلِهِ ونَهارِهِ وَلَقَدْ كنْتُ اَتَّبَعهُ اتِّباعَ الفَصِيلِ اثرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي في كُلِّ يوْمٍ منْ أخْلاَقِهِ علماً فاَراه وَلا يَرَاه غَيرِي » (١) .

وعلى ذلك لا جدوى من البحث بعد ما كان العمل على ضوء ما يلهم ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه أنعم على المسيح ويحيى بالنبوّة أيام صغرهما قال سبحانه حاكياً عن المسيح:

( قَالَ إِنِّي عبد الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) ( مريم / ٣٠ ).

وقال سبحانه مخاطباً يحيى:

( يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا ) ( مريم / ١٢ ).

ولازم ذلك، أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يُلْهم منذ صباه إلى أن بعثه الله سبحانه نبيّاً وهادياً للبشر وليس ذلك أمراً غريباً، وتؤيّد ذلك المأثورات المتضافرات في بدء نزول الوحي عليه فكان له الرؤية الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثمّ حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه ـ وهو التعبّد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك وقال: « اقرأ »(٢) .

خاتمة المطاف

نحن مهما جهلنا بشيء فلا يليق بنا الجهل بأنّ النبوّة منصب إلهي لا يتحمّله

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة رقم ١٨٧ طبعة عبده.

(٢) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣، باب بدء الوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والسيرة النبوية: ج ١ ص ٢٣٤.

٨٦

إلّا الأمثل فالأمثل من الناس، ولا يفاض إلّا لمن له مقدرة روحيّة عظيمة ولا يتهيّب عندما يتمثّل له رسول الرب وأمين الوحي ويميّز بين وحي الحقّ وكلامه ووسوسة الشياطين وإلقاءاتهم، ومن المعلوم أنّه عبء فادح ومسؤولية عظمى، لا يحملها إلّا من وقع تحت رعاية الله وتربيته، ولا تتحقّق تلك الغاية إلّا باقتران ملك من ملائكته يرشده إلى معالم الهداية، ويصونه من صباه إلى شبابه إلى كهولته عن كل سوء وخطأ حتّى تستعدّ نفسه لتمثّل أمين الوحي وتحمّل كلامه سبحانه. وهذا ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين في كلامه السابق فلاحظ.

٨٧

٨٨

(٤)

الوحي في القرآن الكريم

لقد تعرّفت على حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة وما ورد حولها من الآيات في القرآن الكريم، وبذلك تمّ بيان ما يرجع إلى الشطر الأوّل من حياته، وتسلسل البحث يدفعنا إلى البحث عن الشطر الثاني من حياته وهو ما يرجع إلى الحوادث التي مرّت عليه بعد البعثة ونزول الوحي عليه قبل هجرته إلى المدينة المنوّرة، وقد أقام بعد أن حباه الله بالنبوّة والرسالة قرابة ثلاثة عشر سنة يقود فيها أُمّته إلى الصلاح والفلاح بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن.

ولمـّا ضاق عليه الأمر في موطنه الأوّل ودارت عليه الدوائر من قبل أعدائه وأعداء رسالته إضطرّ إلى مغادرة موطنه وألقى رحاله في مهجره أعني المدينة المنورة وبقي فيها زهاء عشر سنين إلى أن اختاره الله سبحانه إلى جواره، وبذلك طويت صفحات عمره المشرقة، وبقيت آثارها لامعة في سماء الإنسانيّة مشعلاً للهداية على مرّ العصور والتاريخ، وقد إجتازت مراحل ثلاثة:

١ ـ حياته قبل البعثة.

٢ ـ حياته بعد البعثة إلى الهجرة.

٣ ـ حياته بعد الهجرة حتى الإرتحال إلى الرفيق الأعلى.

فها نحن في رحاب المرحلة الثانية من مراحل حياته الشريفة وجاءت الحوادث في هذه المرحلة تترى وتقارع شخصيّته الصامدة وقبل أن نخوض في تحليل هذه

٨٩

الحوادث حسب التسلسل التاريخي على ضوء ما نستفيده من القرآن الكريم ونستوحيه من خلال آياته ; نذكر حادثة نزول الوحي عليه وتكليله بوسام النبوّة التي هي من هبات الله تعالى الجسيمة يمنحها لمن يشاء من عباده( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) .

الوحي لغة واصطلاحاً

الوحي في اللّغة هو الإلقاء في خفاء.نصّ على ذلك ابن فارس في المقاييس، ثم إنّ أئمّة اللّغة وإن ذكروا للوحي معان مختلفة لكن الجميع يرجع إلى أصل واحد وهو تعليم الغير بخفاء، قال ابن منظور: الوحي الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك يقال وحيت إليه الكلام، والمستفاد من كلماتهم: أنّ الوحي هو الإعلام بخفاء بطريق من الطرق والعنصر المقوّم لمعنى الوحي هو الخفاء، وأمّا غيره كالسرعة على ما في مفردات الراغب فليس بمقوّم لمعنى الوحي، كما أَنّ الإشارة والكتابة والإلهام إلى القلب كلّها من طرق الوحي ووسائله.

وقد أُستعمل الوحي في القرآن الكريم في موارد مختلفة كلّها مصاديق وموارد لهذا المعنى الجامع وإنْ شئت قلت من قبيل تطبيق المعنى الكلّي على مصاديقه المختلفة المتنوّعة، وإليك البيان:

١ ـ تقدير الخلقة بالسنن والقوانين:

قال سبحانه:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ

٩٠

سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) ( فصّلت / ١١ و ١٢ ).

فقوله سبحانه:( وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ أَمْرَهَا ) يحتمل وجهين:

( الأوّل ): أودع في كل سماء السنن والأنظمة الكونية وقدّر عليها دوامها إلى أجل معيّن. وبما أنّ السماوات تلقّت هذه السنن والنظم بالإشارة في خلقتها استعير في التعبير لفظ الوحي.

( الثاني ): إنّ الشعور والإدراك ساريان في جميع مراتب الوجود من أعلاه كواجبه إلى أدناه كالهيولي في عالم التكوين، ولكن كل حسب درجته ومرتبته، فالسماوات تلقّت ما أوحى إليها سبحانه بخفاء فقامت بامتثاله ما أوحى إليها من الوظائف.

ومن هذا القبيل قوله سبحانه:( إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا *وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا *وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا *يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا *بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ) ( الزلزلة / ١ ـ ٥ ).

٢ ـ الإدراك بالغريزة:

قال سبحانه:( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ *ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ) ( النحل / ٦٨ و ٦٩ ).

فالأعمال المدهشة الخلّابة للعقول التي تقوم بها النحل في صنع بيوته والقيام بشؤون وظائفها ثمّ التجوّل بين البساتين، ومصّ رحيق الأنهار، ثمّ إيداعها في صفائح الشهد، شيء تتعلّمه بإيحاء من الله سبحانه وذلك بإيداع الغرائز الكفيلة بذلك، وبما أنّ تأثّر النحل بها بخفاء وبلا إلتفات من الشعور والإدراك اُطلق عليه لفظ الوحي.

ويحتمل أيضاً هناك معنى آخر ذكرناه في الوحي إلى السماء.

٩١

٣ ـ الإلهام والإلقاء في القلب:

وقد استعمل الوحي في الإلقاء إلى القلب في موارد في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه:( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ) ( القصص / ٧ ).

ومنها قوله:( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ) ( المائدة / ١١١ ).

ومنها قوله تعالى في شأن يوسفعليه‌السلام عِندما جعلوه في غيابت الجبّ، قال سبحانه:

( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ( يوسف / ١٥ ).

إلى غير ذلك من الموارد.

٤ ـ الإشارة:

قال سبحانه:( فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) ( مريم / ١١ ).

وبما أنّه استخدم الإشارة في تفهيم مراده فأشبه فعله إلقاء الكلام بخفاء فصار ذلك مصحّحاً لاستعمال لفظ الوحي.

٥ ـ الإلقاءات الشيطانيّة:

قال سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) ( الأنعام / ١١٢ ).

ويعلم وجه استعمال الوحي هنا ممّا ذكرنا فيما سبق.

٩٢

٦ ـ كلام الله المنزّل على نبي من أنبيائه:

قال سبحانه:( كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الشورى / ٣ ).

وقد عرّف هذا النوع من الوحي بأنّه تعليمه تعالى من اصطفاه من عباده كلّما أراد اطّلاعه على ألوان الهداية واشكال العلم ولكن بطريقة خفيّة غير معتادة للبشر.

وحصيلة البحث: أنّ للوحي معنى واحداً وله مصاديق متنوّعة وليست هي بمعان متكثّرة، وإنّ حقيقة الوحي تعليم غيبي لمن اصطفاه سبحانه من عباده، لا يشابه الطرق المألوفة بين العباد، وإنْ أردت المزيد من الإطّلاع فإليك البيان التالي:

قنوات المعرفة الثلاثة:

إنّ أمام الإنسان طرق ثلاثة للوصول إلى مقاصده:

الطريق الأوّل ـ يستفيد منه جموع الناس غالباً ـ بينما يستفيد طائفة خاصّة منهم من الطريق الثاني، ولا يستفيد من الطريق الثالث إلّا أفراد معدودين تكاملت عقولهم وتسامت أرواحهم وهي كالتالي:

١ ـ الطريق الحسّي والتجربي:

والمقصود منه الإدراكات والمعلومات الواردة إلى الذهن عن طريق الحواس الظاهريّة أو بفضل التجربة التي أسّست الحضارة المعاصرة عليها.

٢ ـ الطريق التعقّلي النظري:

إنّ المفكّرين يتوصّلون إلى كشف الاُمور الخارجة عن إطار الحسّ والتجربة عن طريق الإستدلال وإعمال النظر وإنهاء المجهولات إلى البديهيات، وقد توصّل

٩٣

البشر بهذا الطريق إلى المسائل الفلسفيّة الكلّية وما يضاهيها.

٣ ـ طريق الإلهام:

وهذا هو الطريق الثالث وهو فوق نطاق الحس والتعقّل. إنّه نوع جديد من المعرفة، ونمط متميّز من إدراك الحقائق ليس محالاً من وجهة نظر العلم، وإن كان يصعب على أصحاب الإتجاه المادي قبوله لكونه طريقاً خارجاً عن إطار الحسّ والتعقّل.

إنّ طريق التعرّف على حقائق الكون ـ في منهج المادّيين وأصحاب النزعة المادّية ـ ينحصر في قناتين لا غير وهما اللّذان سبق ذكرهما، في حين أنّ هناك حسب نظر الإلهيين قناة ثالثة أيضاً.

إنّ هذا الطريق الثالث أقوى اُسساً وأوسع آفاقاً عند من يدّعون الرسالة والنبوّة من جانب الله سبحانه، وأنّ نفوس اُولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاءً وطراوة وزهواً.

كلّما حصل ارتباط بين الله سبحانه وفرد من أفراد النوع الإنساني على نحو تلقّي الحقائق من دون توسيط الحواس وأعمال الفكر يسمّى بالإلهام تارة والإشراق اُخرى، وكلّما نتجت من هذا الإرتباط سلسلة تعاليم عامّة يطلق عليها اسم الوحي ويسمّى المتلقّي نبيّاً، ومن هنا اعتبر العلماء « الوحي » الطريقة المطمئنّة الوحيدة إلى المعرفة العامّة.

أنواع الوحي وأقسامه:

إنّ النبي تارة يتلقّى الوحي على نحو الإلهام في القلب، واُخرى يسمع عبارات وكلمات من وراء حجاب كسماع موسىعليه‌السلام كلام الله سبحانه في الطور، وثالثة تنكشف الحقائق له في عالم الرؤيا انكشاف النهار كرؤيا إبراهيم

٩٤

الخليلعليه‌السلام ذبح ولده إسماعيل، وقد ينزل عليه ملك من جانب الله تعالى معه كلامه سبحانه وهو الذي يسمّى بالروح الأمين.

وإلى الطرق الثلاثة: « سوى الرؤيا » اُشير بقوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إلّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) وإلى نزول الملك بقوله:( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) وأمّا الرؤيا الصادقة فيكفي في ذلك قوله سبحانه حاكياً عن الخليلعليه‌السلام :( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) ( الصافّات / ١٠٢ ).

فلو لم تكن رؤيا الخليل إدراكاً قطعيّاً واتّضح بها وجه الحقيقة كفلق الصبح لما أخبر ولده بها ولما أجابه الولد بالإمتثال طائعاً. نعم اُشير إلى الملك الحامل لكلام الله سبحانه بقوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / ١٩٣ و ١٩٤ ).

إنّ هناك من يحاول أن يفسّر الوحي بالاُصول المادّية والطرق الحسّية ولهم في ذلك آراء ونظريات يشبه كثيرها بكلام بعض المشركين في تقييم الوحي والقرآن الكريم، وإليك بيان هذه النظريات واحدة تلو الاُخرى.

١ ـ الوحي وليد النبوغ:

ويقولون: يتميّز بين أفراد الإنسان المتحضّر أشخاص يملكون فطرة سليمة، وعقولاً مشرقة تهديهم إلى ما فيه صلاح المجتمع وسعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع وعمارة الدنيا، والإنسان المتصدّي لهذه الوظيفة هو النبي، والفكر المترشّح من مكامن عقله وومضات نبوغه هو الوحي، والقوانين التي يسنّها لصلاح المجتمع هي الدين، والروح الأمين ( جبرئيل ) هو نفسه الطاهرة التي تفيض هذه السنن والقوانين إلى مراكز إدراكه، والكتاب السماوي هو كتابه الذي يتضمّن تلك السنن والقوانين، والملائكة التي تؤيّده في حلّه وترحاله هي القوى الطبيعية ،

٩٥

والشيطان الذي ينابذه وينادده هي النفس الأمّارة بالسوء.

أقول: إنّ تفسير النبوّة بالنبوغ وإن صيغ في قالب علمي جديد ليس نظرية جديدة بحدّ ذاتها، فإنّ جذوره تمتد إلى عصر المشركين المعاصرين للنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّهم كانوا يحسّون بحالة الإنجذاب للقرآن وبلاغته الخلّابة فينسبونه إلى الشعر ويصفون قائله بالشاعر، قال سبحانه حاكياً عنهم:( بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) ( الأنبياء / ٥ ).

ويجيبهم القرآن بقوله:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) ( يس / ٦٩ ).

إنّ هذه النظرية إبتنت على إنكار ماوراء الطبيعة فصار الوجود عندهم مساوقاً للمادّة فلم يجدوا منتدحاً عن تفسير الوحي بما جاء في هذه النظرية.

إنّا إذا سبرنا تاريخ المصلحين في العالم نجدهم على فئتين.

فئة تتكلّم باسم الدين الإلهي وتخبر عن الله سبحانه وينسب كل ما يأمر وينهي إلى عالم الغيب ولا يرى لنفسه شأناً سوى كونه مبلّغاً لرسالات الله ومؤدّيا لبلاغها وإنذارها.

وفئة تتكلّم باسم المصلح الإجتماعي وينسب كل ما يتفوّه به إلى بنات فكره وعقله، فلو صحّت تلك النظرية لما كان لهذا التقسيم مفهوم صحيح وعندئذ يتساءل: لماذا نسبت الفئة الاُولى ما جاؤوا به من التعاليم إلى عالم الغيب مع أنّه من ومضات فكرتهم هذا، ومن جانب آخر: إنّ المصلحين بإسم الأنبياء كانوا رجالاً صادقين وصالحين لم يبدر منهم ما ينافي صدقهم وصلاحهم، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّهم كانوا يحسّون من صميم ذاتهم بأنّهم مبعوثون من جانبه سبحانه.

إنّ هذه النظرية التي تفسّر الوحي بالنبوغ وتوسّم الأنبياء بالنوابغ لم تدرس أحوال النوابغ والعلل والمبادئ التي يرتكز عليها النبوغ حتّى تقف على أنّ أحوال

٩٦

الأنبياء على طرف نقيض من أحوال النوابغ، فإنّ أفكار النوابغ تتوقّد وتزدهر تحت لواء المجتمعات الراقية، وتحت ظل الحضارات الإنسانية، وأمّا المجتمعات المتخلّفة فلو كانت تمتلك نوابغاً بالذات لاُخمد فيها ذكاؤهم وبارت فيها فطنتهم.

وأمّا الظروف التي كان يعيش فيها الأنبياء خصوصاً النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد كانت على نقيض هذا الجانب، فقد بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله بين قوم يغطّون في سبات التخلّف والإنحطاط، فكيف يمكن تفسير النبوّة الخاتمة بالنبوغ مع هذا البون الشاسع بين ظروف النوابغ وظروف خاتم المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أضف إلى ذلك: انّ النوابغ تسودهم العزلة والانزواء مع أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان بين الناس يعيش معهم في حياتهم الإجتماعية وإن لم يكن على سيرتهم وسلوكهم، فقد قضى عمره في الرعي والتجارة إلى أن بعثه الله سبحانه نبيّاً لهداية الاُمّة.

وأنّى للنوابغ الكتاب الذي حارت فيه العقول وخرست الألسن عن النطق بمثله ؟ وأين لهم هذه النظم والتشريعات الحيّة النابضة التي تتلائم وتنسجم مع جميع الحضارات الإنسانية، فهي كما وصفها شبلي شمّيل اللبناني المتوفّى عام ١٣٣٥ ه‍ ق في رسالته إلى صاحب المنار:

إلى السيّد محمد رشيد رضا صاحب ( المنار ):

أنت تنظر إلى محمّد كنبيّ وتجعله عظيماً، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم، ونحن وإن كنّا في الاعتقاد على طرفيّ نقيض، فالجامع بيننا العقل الواسع والإخلاص في القول، وذلك أوثق لنا لعرى المودّة ( الحق أولى أن يقال ):

دع من محمّد في صدى قرآنه

ما قد نحاء للحمة الغايات

إنّي وإن أك قد كفرت بدينه

هل أكفرن بمحكم الآيات ؟

أو ما حوت في ناصع الألفاظ من

حكم روادع للهوى وعظات

٩٧

وشرايع لو أنّهم عقلوا بها

ما قيّدوا العمران بالعادات ؟

نعم المدبّر والحكيم وإنّه

ربّ الفصاحة مصطفى الكلمات

رجل الحجى رجل السياسة والدهاء

بطل حليف النصر في الغارات

ببلاغة القرآن قد خلب النهى

وبسيفه أنحى على الهامات

من دونه الأبطال في كل الورى

من سابق أو غائب أو آت

٢ ـ الوحي ثمرة الأحوال الروحيّة:

هذه النظرية هي التي يعتمد عليها المستشرقون في تحليل نبوّة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وفسّرها من بينهم « اميل درمنغام »، وخلاصتها:

إنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج، وذلك أنّ سريرته الطاهرة، وقوّة إيمانه بالله، والإعتقاد بوجوب عبادته، وترك ما سواها من عبادة وثنيّة وتقاليد وراثيّة موبوءة، يحدث في عقله الباطن، الرؤى والأحوال الروحيّة فيتصوّر ما يعتقد وجوبه، إرشاداً إليه، نازلاً عليه من السماء بدون وساطة، أو يتمثّل له رجل يلقّنه ذلك، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب، وقد يسمعه يقول ذلك ولكنّه إنّما يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي عند جميع الأنبياء، فكلّما يخبر به النبي انّه كلام اُلقى في روعه، أو ملك ألقاه على سمعه، فهو خبر صادق عنده(١) .

نبوّة أو أضغاث أحلام ؟!

وممّا يلاحظ على تلك النظرية إنّها ليست بشيء جديد وإن كانت ربّما تنطلي

__________________

(١) الوحي المحمدي: ص ٦٦.

٩٨

على السذج من الناس بأنّها نظرية جديدة ذات قيمة علمية.

إنّ الذكر الحكيم يحكي لنا مقالة المشركين في سالف عهدهم في حقّ النبي الأكرم وكتابه حيث كا نوا يحلّلون نبوّته والوحي المنزّل عليه، بأنّها أضغاث أحلام، قال تعالى حاكياً عنهم:( أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) أي أنّ ما يحكيه عن الله تبارك وتعالى إنّما هو وحي الأحلام يجري على لسانه، وعلى ذلك فليست تلك النظرية إلّا تفسير للنبوّة بالجنون الذي هو في مرتبة عالية وشديدة من تجلّي النزعات الخيالية فاستغلّه المستشرقون، واستعرضوه بثوب جديد يوهم السذّج أنّها تحليل علمي بني على أساس علمي رصين، ولكن المساكين غير واقفين على أنّه نفس النظرية الجاهلية التي جوبه بها النبي حيث قالوا:( يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( الحجر / ٦ ).

وقد حكيت هذه التهمة عن لسان المشركين في غير سورة. سبحانك يا ربِّ ما أعظم جناية الإنسان على الصالحين البالغين، ذروة الكمال في العقل والدراية حتى وسمهم هؤلاء المفترون تارة بالخبطة وأُخرى بالمسّ والجنون.

٩٩
١٠٠