مفاهيم القرآن الجزء ٨

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: 403

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: 403
المشاهدات: 149949
تحميل: 4409


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 149949 / تحميل: 4409
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 8

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: 964-357-148-3
العربية

الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ *قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) .(١)

والآيتان تتعرضان لأُمور ثلاثة :

الأوّل: الشبهة العالقة في أذهانهم، وهو قوله:( أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ ) .

الثاني: الجواب عن الشبهة، أعني قوله:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم ) وسيوافيك بيانها في البحث التالي.

الثالث: بيان الدافع الحقيقي للإنكار، وأنّه ليس هو الشبهة كما يدّعون، بل الدافع هو انّهم كفروا بلقاء الله وأنكروه.

إلى هنا تبيّنت الحوافز التي كانت تدفعهم إلىٰ إنكار المعاد.

نعم كانت لهم شبهات عقيمة طرأت على عقولهم وأذهانهم حالت دون الإيمان بالمعاد، وهذا ما سنقوم باستعراضه في البحث التالي :

الشبهات حول المعاد

قد تعرض الذكر الحكيم إلىٰ شبهاتهم في آيات عديدة، ونحن نذكر منها ما يربو علىٰ عشر شبهات على وجه الإيجاز.

١. لا دليل على المعاد

كان المنكرون للمعاد يتظاهرون بعدم توفر الدليل عليه، يقول سبحانه :

( وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ

__________________

١. السجدة: ١٠ ـ ١١.

٤١

إِن نَّظُنُّ إلّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) .(١)

فقوله:( وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) أي ليس هناك دليل يجرنا إلى الإذعان به و إلّا اتّبعناه، ونظيره قوله سبحانه:( وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(٢)

فانّ الاستفهام الإنكاري الذي يتضمنه قوله:( أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا ) يحكي عن أنّ المعاد أمر مبهم لا يمكن الإذعان به.

٢. الإيمان بالمعاد أُسطورة

كان المنكرون للمعاد يعتقدون انّه أُسطورة تاريخية حيكت في القرون الغابرة وليس أمراً جديداً، يقول سبحانه حاكياً عنهم:( لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَٰذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَٰذَا إلّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ) .(٣)

ولم يكن المعاد نسيجَ وحده في ذلك الاتهام المزعوم بل شاركه الدين ومعارفه، يقول سبحانه، حاكياً عنهم:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) .(٤)

وكأنّهم ماعقلوا أنّ التجدّد ليس آية الحقّ ولا التقدم آية البطلان، والحقائق تابعة لبراهينها.

٣. الدعوة إلى المعاد: افتراء على الله

كانت ثلّة من الناس تزعم أنّ الدعوة إلى المعاد افتراء على الله والداعي إليه إمّا كاذب عمداً أو مجنون لا اعتبار بقوله، قال سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ

__________________

١. الجاثية: ٣٢.

٢. الرعد: ٥.

٣. المؤمنون: ٨٣.

٤. الفرقان: ٥.

٤٢

كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ *أَفْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ) .(١)

فالآية تتضمن شبهتين: إحداهما: امتناع إعادة البدن البالي، وثانيتهما: إنّ القائل به إمّا كاذب أو مجنون، وهذا التردّد منهم نابع من الخدعة والمكر وإخفاء الحقيقة، وربما يكون في وصفه بالكذب فقط إثارة لتعصّب الآخرين.

٤. الدعوة إلى المعاد: وإحياء الآباء

وربما تمسك البعض بشبهة عجيبة وهي أنّ الداعي إلى المعاد لو كان صادقاً فليأت بآبائنا حتى نرى رجوعهم إلى الحياة بأُمّ أعيننا، ونذعن بأنّه سبحانه يقدر على إحيائنا يوم القيامة، قال سبحانه:( وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إلّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) .(٢) ولقد وقعت تلك الشبهة ذريعة لإنكار المعاد.

فلو قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بإحياء أقارب الكافرين لجاءته الطلبات تترى عليه من كلّ حدب وصوب وهو أمر غير معقول، و إلّا لعلّق كلّ إنسان إيمانه بالمعاد بإحياء شخص من ذويه.

٥. الدعوة إلى المعاد: دعوة ساحرة

وقد اتّهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه يتشبّث بالسحر والشعبذة في دعوته إلى المعاد، قال سبحانه:( وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ المَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إلّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) .(٣)

__________________

١. سبأ: ٧ و ٨.

٢. الجاثية: ٢٥.

٣. هود: ٧.

٤٣

كما ونسبت سائر معجزاته إلى السحر والشعبذة، قال سبحانه:( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ *وَقَالُوا إِنْ هَٰذَا إلّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) .(١)

٦. الدعوة إلى المعاد خارجة عن نطاق القدرة

كان بعض الناس يتصورون أنّ إحياء الموتى أمر محال، وقد انعكس ذلك في الآية التالية:( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (٢) .وسيوافيك أجوبة تلك الشبهة.

٧. إحياء الأموات أمر عسير

لقد أشار القرآن إلى هذا النوع من الاعتراض وأجاب عليه سبحانه:( إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) .(٣) وقال سبحانه:( ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ) (٤) ، وقال عزّ من قائل:( وَذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) .(٥) بل انّه سبحانه يصور الإحياء بعد الإماتة من السهولة بمكان أنّه قادر عليه في زمن أدنى من لمح البصر، قال سبحانه:( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) (٦) وفي آية أُخرى يصف المعاد بأنّه أهون من الإبداع، قال سبحانه:( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) (٧) .

نعم وصف الإعادة بالأهونيّة بالنسبة إلى الإبداع إنّما هو من منظار فكر البشر، لأنّ الإبداع خلق بلا مادة متقدمة بخلاف الإعادة فانّه تصوير لمادة

__________________

١. الصافات: ١٤ ـ ١٥.

٢. يس: ٧٨.

٣. العنكبوت: ١٩.

٤. ق: ٤٤.

٥. التغابن: ٧.

٦. النحل: ٧٧.

٧. الروم: ٢٧.

٤٤

موجودة والثاني أهون عند البشر من الأوّل، وأمّا بالنسبة إليه سبحانه فالجميع علىٰ حدّ سواء.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « وما الجليل واللطيف، والثقيل والخفيف، والقوي والضعيف في خلقه إلّا سواء ».(١)

٨. الموت فناء للإنسان

كان الناس في عصر الرسالة يتصوّرون أنّ الموت فناء للإنسان وانحلال له، فكيف يمكن إعادته ويحكيه سبحانه عنهم بقوله:( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(٢) وسيوافيك الإجابة عنها في الفصل التالي.

٩. فقدان الصلة بين الدنيا والآخرة

إنّ الإنسان إذا مات فقد عُدِم ولم يبق من إنسانيته شيء، فإذا أحياه الله سبحانه ثانية ـ علىٰ سبيل الفرض ـ فلم يكن هناك صلة بين الحياتين، وهذه الشبهة أجاب عنها الذكر الحكيم، بقوله:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) (٣) وحاصل الآية أنّ الصلة بين الحياتين، والتي علىٰ ضوئها يحكم بأنّ المعاد نفس المبتدى، عبارة عن النفس الخالدة التي بها تتجلىٰ شخصية كلّ إنسان في كلتا النشأتين.

ولـمّا كانت النفس في المبتدى والمعاد واحدة يحكم على الثانية بأنّها نفس الأُولى، وسيوافيك تفصيله.

__________________

١. نهج البلاغة: الخطبة ١٨٥.

٢. السجدة: ١٠.

٣. السجدة: ١١.

٤٥

١٠. الدعوة إلى المعاد والأجزاء المبعثرة المختلطة

إنّ الموت عبارة عن اندثار أجزاء البدن واختلاط ذراته، فكيف يمكن حشر جميع الناس وقد امتزجت ذرات أبدانهم الرميمة بعضها مع بعض في الدنيا ؟ وقد أشار الذكر الحكيم إلى تلك الشبهة وجوابها وقال:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلا أَكْبَرُ إلّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) .(١) والشبهة وإن لم تكن مذكورة صريحة لكن التأكيد علىٰ علمه سبحانه بالغيب وعدم عزوب مثقال ذرة عنه يوضح لنا حقيقة الشبهة، لذلك نرى انّه سبحانه يؤكد في آية أُخرى على علمه بكلّ شيء، قال سبحانه:( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .(٢) والإمعان في الآية يرشدنا إلى أنّ شبهتهم تدور حول محورين :

الأوّل: امتناع تعلّق القدرة بإحياء العظام الرميمة.

الثاني: عدم إمكان تشخيص الأجزاء المتفرقة.

والله سبحانه يجيب عن الشبهة الثانية في الآية نفسها بقوله:( وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .

إلى هنا تمّ بيان الدوافع النفسية والسياسية والشبهات التي طرحوها والتي كانت تصدّهم عن الإيمان بالمعاد، فلنأت بملخص شبهاتهم التي مرت عليك :

١. لا دليل على المعاد، ٢. الإيمان به أُسطورة، ٣. الدعوة إلى المعاد افتراء

__________________

١. سبأ: ٣.

٢. يس: ٧٨ ـ ٧٩.

٤٦

على الله، ٤. المعاد وإحياء الآباء، ٥. الدعوة إلى المعاد: دعوة ساحرة، ٦. المعاد: خارج عن نطاق القدرة، ٧. المعاد أمر عسير، ٨. الموت فناء مطلق فلا يبقىٰ موضوع للإعادة، ٩. فقدان الصلة بين الدنيا والآخرة، ١٠. المعاد: والأجزاء المبعثرة المختلطة.

٤٧





الفصل الرابع :

نقد الشبهات الواردة حول المعاد

قد تعرفت على الشبهات التي ساورت الكافرين حول الدعوة النبوية إلى المعاد، وقد ناف عددها علىٰ عشر شبهات، وأكثرها سخيفة لا تستحق الإجابة، إنّما المهم منها هي الشبهات التالية :

الشبهة الأُولى: المعاد فوق نطاق القدرة.

الشبهة الثانية: المعاد والعظام البالية.

الشبهة الثالثة: المعاد والعلم الإلهي.

الشبهة الرابعة: الصلة بين الحياتين: الدنيوية والأُخروية.

الشبهة الأُولى: المعاد فوق نطاق القدرة

ذهب المنكرون للمعاد إلىٰ أنّ إحياء الموتىٰ أمر غير ممكن إمّا ذاتاً أو وقوعاً، والفرق بينهما واضح. ففي الأوّل يكفي تصوّر الموضوع في الحكم على الامتناع، كما هو الحال في الحكم باجتماع النقيضين أو الضدين.

وأمّا الثاني: فلا يكفي تصور الموضوع بالحكم عليه بالامتناع إلّا أنّه ربما يمتنع لأجل عارض خارجي طرأ علىٰ ماهية الموضوع، مثل امتناع تمييز الأجزاء

٤٨

فلم يكن الإحياء في حدّنفسه محالاً وإنّما استحالته لأجل اختلاط ذرات الأبدان البالية بعضها ببعض.

وقد أجاب سبحانه عن تلك الشبهة بأجوبة مختلفة قالعة للشك، وإليك بيانها :

١. سعة قدرته سبحانه

إنّ المنكر للبعث والنشور يتخذ قدرة الإنسان المحدودة مقياساً للجواز والامتناع، مع أنّ المقياس في المعجزات والكرامات والأُمور الخارقة للعادة هو قدرته سبحانه الواسعة، فلو كان المنكرون يقدرون الله تعالى حقّ قدره ويعرفون شأنه لما أنكروا إعادة المعاد، قال سبحانه:( وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ *وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إلّا مَن شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) .(١)

والمراد من القدر في الآية هو الشأن أي ما عرفوا شأنه وكماله، ومن شؤون معرفته سبحانه هو معرفة قدرته.

وبما أنّ البرهان على إمكان المعاد هو سعة قدرته، نرى أنّه سبحانه يذكر المعاد ويردفه بسعة القدرة إمّا متقدماً عليه كما في الآيتين الماضيتين، فقد ذكر سعة قدرته ثمّ أردفه بالنفخ في الصور، أو متأخراً عنه، قال سبحانه:( أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(٢) وقال سبحانه:( إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(٣)

__________________

١. الزمر: ٦٧ ـ ٦٨.

٢. البقرة: ١٤٨.

٣. هود: ٤.

٤٩

ففي هاتين الآيتين يذكر المدعىٰ ثمّ يأت بدليله، وهو قدرته على كلّ شيء، وحيث إنّ إحياء الموتى أمر ممكن بالذات وليس محالاً فسعة قدرته شاملة لهذا المورد أيضاً.

٢. البعث وخلق السماوات والأرض

إنّ الذي يبعث الموتى هو خالق السماوات والأرض، فالقادر على الثاني أولى بأن يكون قادراً على الأوّل فخلق السماوات والأرض أكبر من خلقهنّ، قال سبحانه:( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ الخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) (١) بناء على أنّ الضمير في( مِثْلَهُم ) يرجع إلى خلق الإنسان وإحيائه، وقال سبحانه:( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ المَوْتَىٰ ) (٢) .(٣)

وأساس الاستدلال في الثاني غيره في الأوّل، فقد اعتمد سبحانه في الدليل الأوّل علىٰ سعة قدرته، وفي الثاني استدل بالخلق الأشد والأعظم علىٰ إمكان خلق غيره قياساً أولوياً.

٣. قياس المعاد بالمبدأ

إنّ من الدلائل الواضحة علىٰ إمكان الشيء وقوعه، هذا من جانب ومن جانب آخر حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، فهاتان القاعدتان تدلان علىٰ إمكان المعاد، فإذا كان خلق الإنسان بدءاً أمراً ممكناً، فهذا يدل

__________________

١. يس: ٨١.

٢. الأحقاف: ٣٣.

٣. لاحظ سورة الإسراء: ٦٩.

٥٠

على أنّ ماهية الإنسان ممكنة و إلّا لما وجد فرد واحد منه، فإذا كان الفرد الأوّل ممكناً فالفرد الثاني والثالث وجميع الأمثال، يسودها حكم واحد، فالله سبحانه هو المبدئ وهو المعيد، فليس الخلق الجديد أشد من الخلق القديم، وإلى ذلك البرهان يشير قوله سبحانه:( وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) إلى أن قال:( فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .(١)

ويقول عزّ من قائل:( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَىٰ *أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ المَوْتَىٰ ) (٢) ترى أنّه سبحانه يشرح خلق الإنسان والمراحل التي مرّ بها إلى أن يخرج بقوله:( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَىٰ ) ثمّ يعقبه بقوله:( أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ المَوْتَىٰ ) فيجعل خلق الإنسان بدءاً، دليلاً على إمكان معاده.

إلى هنا تمت أجوبة الشبهة الأُولى وهي امتناع الإحياء، وثبت جوازه بوجوه ثلاثة اقتبسناها من الذكر الحكيم.

الشبهة الثانية: المعاد والعظام البالية

كان المنكرون يؤكِّدون على العظام البالية وانّه كيف يمكن إحياؤها ؟ ويعبِّرون عنها بتعابير مختلفة، فتارة يقولون:( مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (٣) ، وأُخرى:( أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) (٤)

__________________

١. الإسراء: ٤٩ ـ ٥١.

٢. القيامة: ٣٦ ـ ٤٠.

٣. يس: ٧٨.

٤. الإسراء: ٤٩.

٥١

ونظيرها في الآية ٩٨، وثالثة:( أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً *قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ) .(١)

إلى غير ذلك من الآيات التي تعبر عن شبهاتهم بأنّ العظام البالية لا يمكن إعادة الحياة فيها، يقول سبحانه حاكياً عنهم:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ) .(٢)

وقد أجاب الذكر الحكيم عن تلك الشبهة التي ليست ـ في الواقع ـ إلّا استبعاداً لا برهاناً بهدايتهم إلى خلق الإنسان والنبات من التراب.

تجلّي القيامة في خلق الإنسان والنبات

إنّ الإنسان يرى بأُمّ عينيه في كلّ يوم نموذجاً مصغراً من البعث في خلق الإنسان ونمو الأشجار وتفتح الأزهار.

أمّا الأوّل فيعطف نظر المنكر إلى أنّ بدء خلق الإنسان هو التراب، فالله سبحانه بقدرته ومشيئته أضفى على ذلك التراب حياةً ونمواً وصورة إلىٰ أن صار إنساناً، فهو سبحانه قادر علىٰ أن يضفي علىٰ ذلك التراب أيضاً مثلما أضفىٰ على الأوّل.

وأمّا الثاني فالإنسان طيلة حياته يرى بأُم عينيه إحياء الأرض وتفتَّح البراعم والأزهار على الأشجار، فالأرض بحركتها تُحيي ما كان ميتاً في فصل الشتاء، فالقادر علىٰ إحياء الأرض قادر على إحياء الموتىٰ. ترى ذينك البيانين بوضوح في الآيات التالية :

قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن

__________________

١. النازعات: ١١ ـ ١٢.

٢. النمل: ٦٧.

٥٢

تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) .(١)

ترى أنّه سبحانه يذكر في المقطع الأوّل خلق الإنسان من تراب، ثمّ يسرد المراحل التي مرّت على خلق الإنسان، ويذكر في المقطع الثاني اهتزاز الأرض بعد أن كانت هامدة وإنباتها من كلّ زوج بهيج، ثمّ بعد ذلك يرتب عليه إمكان إحياء الموتىٰ، ويقول :

( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ) .(٢)

وقد جاء ذلك البيان في القرآن غير مرّة، فيذكر حياة الأرض واهتزازها عقب هطول المطر وظهور الثمار على الأشجار بعد سباتها، ثمّ يذكر إحياء الموتىٰ، يقول سبحانه:( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .(٣)

ويقول سبحانه أيضاً:( وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ ) .(٤)

__________________

١. الحج: ٥.

٢. الحج: ٦ ـ ٧.

٣. الأعراف: ٥٧.

٤. الزخرف: ١١.

٥٣

فهذه الآيات تذكر الإنسان نماذج من إحياء الموتى، كخلق الإنسان من تراب وإحياء الأرض بالنبات والأشجار حتى يمحو تلك الشبهة العالقة في ذهنه.

الشبهة الثالثة: المعاد والعلم الإلهي

كان المنكرون يعتمدون في إنكارهم علىٰ شبهة ثالثة، تنحل إلى أمرين :

الأمر الأوّل: إنّ انتشار ذرات بدن الإنسان البالي يوجب اختلاط تلك الذرات، فكيف يمكن تمييز بعضها عن بعض ؟

وبعبارة أُخرىٰ: إذا تعلّق المعاد بإحياء الناس كافة مع اختلاط ذرات بعضهم ببعض، فكيف يمكن التمييز بين هذه الذرات المختلطة ؟ ولعلّ الآية التالية ناظرة إلى هذا الجانب من الشبهة، قال سبحانه حاكياً عنهم:( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) .(١)

والجواب ما تذكره الآية التالية:( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) .

فالآية الثانية تفسر بجوابها واقع الشبهة.

الأمر الثاني: كيف يمكن الإحاطة بالأعمال التي صدرت عن الإنسان خيرها وشرها، وتمييز عمل كلّ أحد عن عمل الآخر حتى يجزى على وفق أعماله ؟ وكانت الشبهة نابعة عن عجزهم عن درك علمه وسعته والله سبحانه يجيب عن الشبهة، ويقول:( مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إلّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) .(٢)

__________________

١. ق: ٣.

٢. لقمان: ٢٨.

٥٤

فليس خلق الناس جميعاً ولا بعثهم إلّا كخلق نفس واحدة وبعثها، فإذا كان الثاني أمراً ممكناً غير عسير فخلق الجميع وبعثهم مثله.

وقد شغلت هذه الشبهة العقول منذ عصور غابرة، وذلك عندما دعا موسى فرعون إلى عبادة الربّ فخاطبه فرعون بقوله:( فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ ) فأجاب موسى، بقوله:( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) .

وعندها دار بينه وبين فرعون ذلك الحوار الذي نوّه فيه إلى تلك الشبهة والتي يذكرها الذكر الحكيم بقوله:( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَىٰ *قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ) .(١)

يقول فرعون: فما بال الأُمم الماضية، فانّها لم تقر بالله ومن تدعو إليه، بل عبدت الأصنام والأوثان مثل قوم نوح وعاد وثمود ؟ فيجيب موسىٰ بأنّ أعمالهم محفوظة عند الله ومكتوبة في لوح خاص يجازيهم بها، فما يذهب عليه شيء ولا يخطأ ولا ينسى.

الشبهة الرابعة: الصلة بين الحياتين: الدنيوية والأُخروية

هذه الشبهة هي الأخيرة من الشبهات الأربع التي انتخبناها، وحاصلها: انّ الموت فناء للإنسان وإعدام له، فبموته تبطل شخصيته وكيانه، فإذا تعلّقت مشيئته سبحانه بإحيائه ليجزيه وفق أعماله فلا صلة بين الحياتين ولا بين الشخصين، فكيف يمكن القول بأنّ المعاد هو نفس الإنسان الذي مات وبطلت شخصيته ؟

وهذه الشبهة هي التي يبيّنها قوله تعالى عنهم:( أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(٢)

__________________

١. طه: ٥١ ـ ٥٢.

٢. السجدة: ١٠.

٥٥

وهذه الآية وإن لم تكن صريحة في بيان الشبهة، لكن يوضّحها ما أجاب به سبحانه عنها، بقوله :

( بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ) وقد مرّ بيانه.

( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) .(١)

ولا يقف الإنسان علىٰ حقيقة الجواب إلّا بإمعان النظر في قوله:( يَتَوَفَّاكُم ) ، فليس المراد من التوفّي هو الموت كما هو الدارج على الألسن، بل المراد منه هو الأخذ، وقد فسره به ابن منظور في لسان العرب.(٢)

ويفسره أمين الإسلام الطبرسي، بقوله: أي يقبض أرواحكم جميعاً.(٣)

وعلى ذلك فالقرآن يرد على الشبهة بأنّ حقيقة الإنسان عبارة عمّا يأخذه ملك الموت الذي وكّل بأخذه بأجمعه وهو شيء لا يضلَّ في الأرض، وأمّا الضالّ في الأرض كالعظام البالية والأجزاء المتلاشية فهي طارئة على الإنسان.

فإذا كانت حقيقة الإنسان محفوظة عند الربّ بأجمعها، فالإتيان به يوم الحشر إتيان لنفس الإنسان الذي عاش في الحياة الدنيا.

وإن شئت قلت: الإنسان مؤلَّف من بدن وروح، فالبدن قشر والروح هو الأصل، والحافظ للوحدة بين البدنين هو الروح، فإذا كانت الروح باقية في كلتا النشأتين فلا تضرُّ بشخصيته، فيصدق على المحيا في النشأة الأُخرى، أنّه نفس الإنسان الذي عاش في نشأة الدنيا.

ونلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ الآية ليست ناظرة إلىٰ بيان أنّ المعاد

__________________

١. السجدة: ١١.

٢. لسان العرب: ١٥، مادة وفى.

٣. مجمع البيان: ٤ / ٣٢٨.

٥٦

روحاني لا جسماني بل هي ساكتة عن هذا الأمر، وإنّما يعلم ذلك من خلال الآيات الأُخرىٰ الدالّة على أنّ المعاد روحاني وجسماني.

بل هي ناظرة إلىٰ دفع الشبهة العالقة في الأذهان، وهي كيف يمكن جزاء الإنسان في النشأة الأُخرىٰ بالأعمال التي اكتسبها في النشأة الدنيا مع أنّه بموته بطلت شخصيته وانفصمت وحدته.

فيجيب سبحانه بأنّ الحافظ للوحدة، هو وحدة الروح والنفس، في أيّ بدن دخلت، وبأي بدن حشرت، فهناك صلة قويمة بين الحياتين.

نعم دلّت الآيات على أنّه سبحانه سيجمع عظامه ورفاته فينشئ نفس ما أنشأه في الحياة الدنيوية.

قال سبحانه:( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .(١)

هذا هو جواب الذكر الحكيم عن الشبهة، وهو مبني علىٰ تجرّد الروح عند الموت الذي يصحح بقاءه وإن فسدت مادته وتناثرت أوصاله، وهذا الجواب مدعم بدلائل عقلية دامغة، وإليك بيانها :

البرهان الأوّل: ثبات الشخصية في دوّامة التغيير

إنّ الإنسان منذ نعومة أظفاره إلىٰ ريعان شبابه إلى كهولته وشيخوخته في دوامة التغيّرات والتحوّلات، وهو أمر ملموس لكلّ إنسان.

وعلى الرغم من ذلك فثمّة أمر ثابت غير متغير يواكبه في جميع تلك التغييرات والتحولات وإليه ينسب أفعاله كلّها التي صدرت منه طيلة حياته، وهذا الأمر الثابت يعبّر عنه بـ‍ « أنا ».ويقول كنت طفلاً رضيعاً ثمّ صرت مراهقاً ثمّ

__________________

١. يس: ٧٩.

٥٧

شاباً ثمّ كهلاً وشيخاً هرماً، وهذا يدل على أنّ المنسوب إليه أمر ثابت في منأىٰ عن طروء التحول والتغير عليه، وما هذا شأنه فهو مجرّد لا مادي.

وبتعبير آخر: انّ الجانب المادي للإنسان عبارة عن البدن الذي يتألف من خلايا كثيرة التي لم تزل في تحول وتغير مستمر، وهذه الخلايا تقطع أشواطاً طويلة حتى تصل إلى الهرم ثمّ تموت وتحل محلها خلايا أُخرىٰ جديدة، هذا من جانب، ومن جانب آخر يلمس كلّ إنسان أنّ ثمّة أمر ثابت لا يتغير بتغير الزمان ويكون محوراً لتلك التغييرات، وهو عبارة عن بقاء ذاته وشخصيته وإنيّته عبر الزمان.

فثبت من ذلك أمران :

أ. الجانب المادي في مهبِّ التغيّرات والتحوّلات.

ب. الجانب الروحي والنفسي ثابت غير خاضع للتغيّر.

فنستنتج من هاتين المقدمتين: أنّ النفس الإنسانية التي تدور عليها شخصيته وذاته أمر غير مادي بشهادة أنّها غير خاضعة لآثار المادة.

البرهان الثاني: علم الإنسان بنفسه مع الغفلة عن بدنه

إنّ الإنسان قد يغفل في ظروف خاصة عن كلّ شيء حتى عن بدنه وأعضائه وما حوله من الأشياء ولكن لا يغفل أبداً عن نفسه سليماً كان أم سقيماً، وهذا يدل على أنّ المغفول عنه غير اللا مغفول عنه.

توضيحه: تخيّل نفسك في حديقة غنّاء زاهرة وأنت مستلق لا تُبصر أطرافك، ولا تنتبه إلىٰ شيء، ولا تتلامس أعضاؤك، لئلّا تحس بها، بل تكون منفرجة ومرتخية في هواء طلق، لا تحس فيه بكيفية غريبة من حرّ أو برد أو ما

٥٨

شابهه ممّا هو خارج عن بدنك، فانّك في مثل تلك الحالة تغفل عن كلّ شيء حتى عن أعضائك الظاهرة وقواك الداخلية فضلاً عن الأشياء التي حولك، إلّا عن ذاتك فلو كانت الروح نفس بدنك وأعضائك وجوارحك وجوانحك، للزم أن تغفل عن نفسك إذا غفلت عن أعضائك والتجربة أثبتت خلافه.(١)

البرهان الثالث: عدم الانقسام في الشخصية

إنّ من آثار المادة هو التجزئة والانقسام، فكلّ أمر مادي حتى الجزء الذي يسمّونه بما لا يتجزّأ أمر منقسم عند العقل وإنْ تعذر تقسيمه بالأجهزة الحديثة، فما يسمّىٰ في الفيزياء بالجزء الذي لا يتجزّأ هو مصطلح علمي أسموه بذلك لعدم استطاعة الأجهزة تجزئته، ولكنّه عند العقل جزء يتجزّأ كما ذكرنا.

وبناء على هذا الأصل فكلّ موجود مادي قابل للانقسام ولكن الشخصية الإنسانية التي تكون محوراً لأفعاله وأوصافه لا تقبل التجزئة والتقسيم فلا يتصور لشخصيته التي يعبر عنها بـ‍ « أنا » أجزاء، وهذا دليل علىٰ أنّ الشخصية الإنسانية رغم ازدواجها مع المادة غير خاضعة لأحكامها، فهي أمر ثابت غير منقسم، وما هذا شأنه أمر مجرّد غير مادي.

إنّ هذه البراهين الساطعة تدعم وجهة النظر القائلة أنّ الإنسان لا يفنىٰ بموته وإنّما الفاني غير الباقي، وأنّ النفس أمر مجرد فما ينسب إليها أيضاً مثله.

مثلاً إنّ حبّك لولدك وبغضك لعدوك ممّا لا يقبل الانقسام وإن كانا

__________________

١. هذا البرهان ذكره الشيخ الرئيس في الإشارات: ٢ / ٩٢; وفي كتاب الشفاء قسم الطبيعيات في
موردين، ص ٢٨٢ و ٤٦٤.

٥٩

يقبلان الشدة والضعف، فالنفس والنفسانيات أو الروح والروحيات أُمور فوق المادة لا تخضع لآثارها.

القرآن وخلود النفس

إنّ الذكر الحكيم يؤكّد على خلود الروح وبقائها، والآيات في هذا المضمار على قسمين: قسم يدل بصراحة على التجرّد، وقسم آخر ظاهر فيه، وإليك نقل شيء من القسمين :

القسم الأوّل: ما هو صريح في خلود الروح، يقول سبحانه :

١.( اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) .(١)

ودلالة الآية مبنية على إمعان النظر في لفظة « التوفّي » وهي بمعنى الأخذ والقبض لا الإماتة، وعلى ذلك فالآية تدل على أنّ للإنسان وراء البدن شيئاً يأخذه سبحانه حتى عند الموت والنوم.

فيمسكه إنْ كتب عليه الموت ويرسله إنْ لم يكتب عليه ذلك إلى أجل مسمّى، فلو كان الإنسان متمحضاً في المادة وآثارها فلا معنى « للأخذ » و « الإمساك » و « الإرسال ».

٢.( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ إلّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ ) .(٢)

__________________

١. الزمر: ٤٢.

٢. آل عمران: ١٦٩ ـ ١٧١.

٦٠