مفاهيم القرآن الجزء ١٠

مفاهيم القرآن13%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: 457

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 457 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135458 / تحميل: 5239
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١٠

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-١٤٨-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

ثمّ خرجوا من السقيفة وأبوبكر قدّامهم يدعون الناس لمبايعته، ولأجل ذلك كان عمر بن الخطاب يرفع عقيرته فوق المنبر، ويقول: كانت بيعة أبي بكر فلتةٌ وقى الله المسلمين شرها.

وأمّا خلافة عمر فقد عقدت له الخلافة بتعيين الخليفة الأوّل، وأمّا خلافة عثمان فقد حصر عمر الشورىٰ في ستّة أشخاص انتخبهم هو بنفسه ليعقدوا لأحدهم، كما هو واضح من التاريخ.

٢. لو كان أساس الحكم ومنشؤه هو الشورى، لوجب على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخوض في تفاصيلها وخصوصياتها وأُسلوبها على الأقلّ. مع أنّه لا نجد في الصحاح والمسانيد أثراً لذلك.

فلو كانت الشورى مبدأً للحكومة لكان على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيان حدود الشورى وتوعية الأُمَّة وإيقافها على ذلك حتى لا تتحيَّر بعد رحيله، ومع الأسف الشديد لا نجد شيئاً من ذلك في كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومن جملة الأُمور التي كان من المفروض بيانها، هي:

أوّلاً: من هم الذين يجب أن يشتركوا في الشورى المذكورة ؟ هل هم العلماء وحدهم، أو السياسيون وحدهم، أو المختلط منهم ؟

ثانياً: من هم الذين يختارون أهل الشورى ؟

ثالثاً: لو اختلف أهل الشورى في شخص فبماذا يكون الترجيح، هل يكون بملاك الكم، أم بملاك الكيف ؟

إنّ جميع هذه الأُمور تتصل بجوهر مسألة الشورى، فكيف يجوز ترك بيانها، وتوضيحها وكيف سكت الإسلام عنها، إن كان جعل الشورى طريقاً إلى تعيين الحاكم ؟

١٠١

٣. لو كانت الشورى مبدأً للحكم لكانت واضحة المعالم فيما يمسّ متن الشورى، ومنها العدد الذي تنعقد به الشورى، وقد اختلفوا في عدد من تنعقد بهم الشورى إلى مذاهب شتى يذكرها الماوردي ( ٣٦٤ - ٤٥٠ ه‍ ) في كتابه: « الاحكام السلطانية » ويقول:

الإمامة تنعقد بوجهين:

أحدهما: باختيار أهل العقد والحل.

والثاني: بعهد الإمام من قبل.

فأمّا انعقادها باختيار أهل العقد والحل، فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى، فقالت طائفة: لا تنعقد إلّا بجمهور أهل العقد والحل من كلّ بلد ليكون الرضا به عاماً، والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة، باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.

وقالت طائفة أُخرى: أقلُّ من تنعقد به منهم الإمامة ( خمسة ) يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة، استدلالاً بأمرين:

أحدهما: أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، ثمّ تابعهم الناس فيها، وهم: عمر بن الخطاب، وأبوعبيدة الجرّاح، وأسيد بن حضير، وبشر بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة.

الثاني: أنّ عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلّمين من أهل البصرة.

وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاّها أحدهم برضا الاثنين

١٠٢

ليكونوا حاكماً وشاهدين، كما يصحّ عقد النكاح بولي وشاهدين.

وقالت طائفة أُخرى: تنعقد بواحد لأنّ العباس قال لعليٍّ: أُمدد يدك أُبايعك، فيقول الناس: عمّ رسول الله بايع ابن عمّه، فلا يختلف عليك اثنان، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ.١

وهذه الوجوه تسقط كون الشورى أساس الحكم وأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارتحل واعتمد في صيانة دينه بنظام مبني على الشورى وهي مجملة من جهات شتى.

هل البيعة أساس الحكم الإسلامي ؟

هل البيعة سبيل إلى تعيين الحاكم الإسلامي وأساس له. وقد اتخذه غير واحد ممن كتب في نظام الحكومة الإسلامية أساساً لها، وقد أمضاها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن غير موضع، حيث بايعه أهل المدينة في السنة ١١ و ١٢ و ١٣ من البعثة، بايعوه على أن لا يشركوا بالله ولا يسرقوا ولا يقترفوا فاحشة.

كما بايعوه في البيعة الثانية على نصرته والدفاع عنه، كما يدافعون عن أولادهم وأهليهم.٢

إنّ الموارد التي بايع فيها المسلمون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تنحصر في هذين الموردين بل توجد في موارد أُخرى، أعظمها وأفضلها بيعة الرضوان المذكورة في تفسير قوله سبحانه:( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ

__________________

١. الأحكام السلطانية: ٧.

٢. السيرة النبوية: ١ / ٤٣١ - ٤٣٨.

١٠٣

فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) .١

يذكر المفسِّرون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث رسولاً في صلح الحديبيّة إلى قريش، وقد شاع أنَّ مبعوث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قتل، فاستعدّ المسلمون للانتقام من قريش، ولـمّا رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الخطر على الأبواب، وبما أنّ المسلمين لم يخرجوا للقتال وإنّما خرجوا للعمرة، قرر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يُجدِّد بيعته مع المسلمين فجلس تحت شجرة وأخذ أصحابه يبايعونه على الاستقامة والثبات والوفاء واحداً بعد الآخر، ويحلفون له أن لا يتخلّوا عنه أبداً وأن يدافعوا عن حياض الإسلام حتى النفس الأخير، وقد سميت هذه البيعة « بيعة الرضوان ».٢

وقد بايعت المؤمنات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فتح مكّة، وقد ذكر التفصيلَ قوله سبحانه وقال:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .٣

نقد فكرة أنّ البيعة أساس الحكم

لو أمعن القارئ الكريم في تفاصيل الموارد التي بايع فيها المسلمون - كلّهم أو بعضهم - قائدهم يقف على أنَّه لم تكن الغاية من البيعة الاعتراف بزعامة الرسول ورئاسته فضلاً عن نصبه وتعيينه، بل كان الهدف التأكيد العملي

__________________

١. الفتح: ١٨.

٢. السيرة النبوية: ٢ / ٣١٥.

٣. الممتحنة: ١٢.

١٠٤

على الالتزام بلوازم الإيمان المسبق، ولذلك نجد جرير بن عبدالله، قال: بايعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ إقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، والنصح لكلِّ مسلم.١

وقال أيضاً: « وأن تدفعوا عني العدو حتى الموت٢ ولا تفرُّوا من الحرب ».٣

والحاصل أنّ البيعة كانت تأكيداً للإيمان الذي أظهروه برسالته ونبوَّته فلازم ذلك إطاعة قوله وأمره، فكانت البيعة تأكيداً لما أضمروا من الإيمان.

نعم لا يمكن أن ينكر أنّ البيعة في العهود التي أعقبت وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت طريقاً لتنصيب الحاكم وذلك تقليداً للجاهليّة، حيث كان الرائج فيها أنّه إذا مات أمير أو رئيس عمدوا إلىٰ شخص فأقاموه مقام الراحل من خلال البيعة.

والظاهر أنّ تعيين بعض الخلفاء من خلال البيعة كان تقليداً لما كان رائجاً بينهم قبل الإسلام، ولا يكون هذا دليلاً تاريخياً أو شرعياً على أنّ البيعة طريق لتعيين الخليفة، بغض النظر عن سائر المواصفات والضوابط، وغاية ما هناك أنّ البيعة إحدى الطرق فيما لم يكن هناك نص إذا كان المبايع واجداً للملاكات والمواصفات التي يجب أن يتمتع بها الحاكم.

__________________

١. كتاب الإيمان.: لاحظ أيضاً صحيح البخاري، ٥ / ٥٥، بيعة الأنصار.

٢. مسند أحمد: ٤ / ١٥.

٣. مسند أحمد: ٣ / ٢٩٢.

١٠٥

الفصل الثالث:

نظرية الحكم

عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

دلّت البحوث السابقة على أنّ الشورى والبيعة ليسا أساس الحكم، فحان البحث لبيان نظرية الحكم في كلمات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والسبر في كلماته طيلة حياته من البعثة إلى الوفاة، يُثبت أنّ الإمامة عنده كالنبوة أمر موكول إلى الله تبارك وتعالى وليس للأُمّة حتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها دور.

إنّ الكلمات المأثورة عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وموقفه من قضية القيادة، تعرب عن أنّه كان يعتبر أمر القيادة وتعيين القائد مسألة إلهية وحقاً إلهياً، فالله سبحانه هو الذي له أن يعّين القائد وينصب خليفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد رحيله، نجد ذلك في كلماته بوفرة ولا نجد في كل ما نقل عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يدل على إرجاع الأمر إلى اختيار الأُمّة ونظرها، أو آراء أهل الحلّ والعقد، وها نحن نذكر هنا شاهدين من كلمات الرسول يكشف الستار عن وجه الحقيقة.

١. لما عرض الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه على بني عامر الذين جاءوا إلى مكّة في موسم الحجّ ودعاهم إلى الإسلام. قال له كبيرهم: أرأيت إنْ نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟

١٠٦

فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: « الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء ».١

٢. لما بعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سليط بن عمرو العامري إلى ملك اليمامة ( هوذة بن علي الحنفي ) الذي كان نصرانياً، يدعوه إلى الإسلام وقد كتب معه كتاباً، فقدم على هوذة، فأنزله وحباه وكتب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيه: ( ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي، وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتبعك ).

فقدم سليط على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بما قال هوذة، وقرأ كتابه، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت، باد وباد ما في يده ».٢

ونقل ابن الأثير على نحو آخر، فقال: أرسل هوذة إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفداً فيهم مُجاعة بن مرارة والرّجال بن عنفوة، يقول له:

إن جعل الأمر له من بعده أسلم وصار إليه ونصره، وإلّا قصد حربه.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: « لا ولا كرامة، أللّهم اكفنيه »، فمات بعده بقليل.٣

إنّ هذين النموذجين التاريخيين اللَّذين لم تمسّهما يد التحريف والتغيير يدلّان بوضوح كامل على أنّ رؤية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسألة الحكم والخلافة هي أنّها أمر سماويّ خارج عن صلاحيته، فالإرجاع إلى الله وضرب الصفح عن الشورىٰ والبيعة أو الاستفتاء العام خير دليل على كونه منصباً إلهياً، والعجب انّه لم يكن هذا رُؤى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مورد الحكم فقط بل كانت الصحابة بعد رحيله يسيرون على هذا النهج غير انّهم بدّلوا التنصيب الإلهي بتنصيب الخليفة لمن يقوم مكانه بعده.

__________________

١. السيرة النبوية: ٢ / ٤٢٤ - ٤٢٥.

٢. الطبقات الكبرى: ١ / ٢٦٢.

٣. الكامل في التاريخ: ٢ / ١٤٦.

١٠٧

٣. وهذا هو أبو بكر عيَّن عمر بن الخطاب للخلافة في عهد كتبه عثمان ابن عفان.١

٤. كما أنّه تم استخلاف عثمان عن طريق الشورىٰ الستة التي عيَّن اعضاءها عمر بن الخطاب.٢

٥. وقد كانت السيدة عائشة تتبنى نظرية التنصيب من جانب الخليفة، وقالت لعبد الله بن عمر: يا بني بلِّغ عمر سلامي، فقل له لا تدع أُمّة محمد بلا راع، استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملاً، فانّي أخشى عليهم الفتنة ؛ فأتى عبد الله إلى أبيه فأعلمه.٣

والعجب أنّ أُمّ المؤمنين التفتت إلى أنَّ ترك الأُمة هملاً يورث الفتنة، ولكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسب زعم القوم - لم يلتفت إلى تلك النكتة - فلقي الله سبحانه وترك الأُمّة هملاً !!!

٦. انّ عبد الله بن عمر دخل على أبيه قُبيل وفاته، فقال: إنّي سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك، وزعموا أنّك غير مستخلف، وانّه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثمّ جاءك وتركها لرأيت أن قد ضيَّع، فرعاية الناس أشد.٤

٧. قدم معاوية المدينة ليأخذ من أهلها البيعة ليزيد، فاجتمع مع عدّة من الصحابة، وأرسل إلى ابن عمر فأتاه وخلا به، فكلّمه بكلام، قال: إنّي كرهت أن أدع أُمّة محمد بعدي كالضعن بلا راع لها.٥

__________________

١. الإمامة والخلافة: ١٨ ؛ الكامل في التاريخ: ٢ / ٢٩٢ ؛ الطبقات الكبرى: ٣ / ٢٠٠.

٢. الكامل في التاريخ: ٣ / ٣٥.

٣. الإمامة والسياسة: ٣٢.

٤. حلية الأولياء: ١ / ٤٤.

٥. الإمامة والسياسة: ١ / ١٦٨.

١٠٨

هذه النصوص تدل بجلاء على أنّ انتخاب الخليفة عن طريق الاستفتاء الشعبي، أو بمراجعة أهل الحلّ والعقد، أو اتفاق الأنصار والمهاجرين، أو بالشورىٰ، أو بالبيعة كلها فروض اختلقها المتكلّمون بعد تمامية الخلافة للخلفاء، ولم يكن أي أثر من هذه العناوين بعد رحيل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا شيئاً لا يذكر عند محاجة عليّعليه‌السلام مع المتقمّصين منصَّة الخلافة.

هذه الكلمات تعرب عن أنّ نظرية التنصيب هي التي كانت مهيمنة على الأفكار والعقول.

بلاغات غير رسمية

لقد بلّغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلافة عليٍّعليه‌السلام بصورة رسمية في غدير خم كما سيوافيك، ولكن لم يكن ذلك البلاغ بصورة عفويّة بل هيّأ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرضيته منذ أن صدع بالنبوّة في مواقف مختلفة نذكر منها:

١. دعوة الأقربين وتنصيب عليٍّ للخلافة

يقول المفسِّرون: لـمّا نزل قوله سبحانه:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ) ١ أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام أن يعد طعاماً ولبناً، فدعا خمسةً وأربعين رجلاً من وجوه بني هاشم، ولما فرغوا من الطعام تكلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فقال: « إنّ الرائد لا يكذب أهله ؛ والله الذي لا إله إلّا هو إنّي رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتُنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبُنَّ بما تعملون، وإنّها الجنّة أبداً أو النار أبداً.

__________________

١. الشعراء: ٢١٤ - ٢١٥.

١٠٩

ثمّ قال:

يا بني عبد المطّلب إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله عزّ وجلّ أن أدعوكم إليه فأيُّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ؟

ولـمّا بلغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذه النقطة، وبينما أمسك القوم وسكتوا عن آخرهم وأخذوا يفكّرون مليّاً في ما يؤول إليه هذا الأمر العظيم، وما يكتنفه من أخطار قام عليٌّعليه‌السلام فجأة، وهو آنذاك في الثالثة أو الخامسة عشرة من عمره، وقال وهو يخترق بكلماته الشجاعة جدار الصمت والذهول:

أنا يا رسول الله أكون وزيرك على ما بعثك الله.

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: إجلس، ثمّ كرّر دعوته ثانية وثالثة وفي كلّ مرة يحجم القوم عن تلبية دعوته، ويقوم عليٌّ ويعلن عن استعداده لمؤازرة النبي، ويأمره رسول الله بالجلوس حتى إذا كانت المرة الثالثة أخذ رسول الله بيده والتفت إلى الحاضرين من عشيرته الأقربين، وقال:

إنّ هذا أخي، ووصيي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع وجعله عليك أميراً.١

هذا موجز ما ذكره المفسِّرون والمحدّثون حول الآية، وفي صحاحهم ومسانيدهم.

__________________

١. تاريخ الطبري: ٢ / ٦٢ - ٦٣، الكامل في التاريخ: ٢ / ٤٠ - ٤١، مسند أحمد: ١ / ١١١، شرح نهج البلاغة: ١٣ / ٢١٠ - ٢١١.

١١٠

وهناك من حرّف الكلم عن مواضعه، أو حرّفها المستنسخون في كتبهم:

١. منهم محمد بن جرير الطبري ( المتوفّى عام ٣١٠ ه‍ ) حيث ذكر في تاريخه حديث بدء الدعوة كما نقلناه غير أنّه حرف الكلم في موضعين:

أحدهما: قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: « على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي » وضع في مكانه قوله: « على أن يكون كذا وكذا ».

ثانيهما: قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي » حيث حرّفه إلى قوله: إنّ هذا أخي وكذا وكذا.

ونحن لا نتَّهم الطبري شخصاً بالتحريف، ولكن يحتمل تطرق التحريف إلى تفسيره من جانب النُّسّاخ، بشهادة سرد الواقعة في تاريخه برمّتها دون أدنى تحريف.

٢. منهم ابن كثير ( المتوفّى عام ٧٧٤ ه‍ ): فقد حرف الكلم عن مواضعه في تفسيره وتاريخه ولم يقتنع بالتحريف في مكان واحد.١

ولا نستبعد أن يكون التحريف مستنداً إلى نفس المؤلف لأنَّ له مواقف معادية من أهل بيت النبوةعليهم‌السلام .

ومما يثير الاستغراب أن تصدر تلك الهفوة من وزير المعارف المصرية « حسنين هيكل » الأسبق فقد أثبت في الطبعة الأُولى من كتابه « حياة محمد » قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: أيُّكم يؤازرني على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي، ولم يذكر خطاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليٍّعليه‌السلام عند ما أعلن مؤازرته له وهو قوله: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي.

ولكنّه ارتكب في الطبعات الأُخرى جناية كبيرة بحذفه كلتا الجملتين من

__________________

١. انظر البداية والنهاية: ٢ / ٤٠، تفسير ابن كثير: ٣ / ٣٥١.

١١١

رأس وكأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتفوّه بها وكأنّ الكاتب لم يذكر إحدى الجملتين في الطبعة الأُولى، وبذلك أسقط كتابه عن أيَّة قيمة علمية.

فلو كان هذا هو الميزان في ضبط الحقائق لثبت أنّ كثيراً من فضائل آل البيتعليهم‌السلام لعبت بها يد التحريف الجانية وما بقي ليس إلّا فلتات التاريخ.

٢. آية الولاية وخلافة علي ٍّ

لم تزل الشيعة عن بكرة أبيهم يستدلون على إمامة عليٍّعليه‌السلام وقيادته وزعامته بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله سبحانه:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ *وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) .١

استدلت الشيعة بهذه الآية على أنّ عليّاًعليه‌السلام وليّ المسلمين بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، قائلين بأنّ الآية تعد الولي - بعد الله ورسوله - الّذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزكاة في حال الركوع، وقد تضافرت الروايات بأنّ عليّاًعليه‌السلام تصدّق بخاتمه وهو راكع فنزلت الآية في حقّه.

أخرج الحفّاظ وأئمّة الحديث عن أنس بن مالك وغيره أنّ سائلاً أتى المسجد وعليٌّعليه‌السلام راكعٌ فأشار بيده للسائل، أي اخلع الخاتم من يدي. قال رسول الله: يا عمر وجبت. قال: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله ما وجبت ؟! قال: وجبت له الجنّة، والله ما خلعه من يده حتّى خلعه الله من كلِّ ذنب ومن كلِّ خطيئة. قال: فما خرج أحدٌ من المسجد حتّى نزل جبرئيل بقوله عزّ وجلّ:( إِنَّمَا

__________________

١. المائدة: ٥٥ - ٥٦.

١١٢

وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) . فأنشأ حسّان بن ثابت يقول:

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي

بطيءٍ في الهدى ومسارع

أيذهب مدحي والمحبّين ضايعاً ؟!

وما المدح في ذات الإله بضائع

فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكعٌ

فدتك نفوس القوم يا خير راكع

بخاتمك الميمون يا خير سيّدٍ

ويا خير شارٍ ثمّ يا خير بائع

فأنزل فيك الله خير ولاية وقد وكلّ

وبيَّنها في محكمات الشرائع١

وقد أخرجه ابن جرير الطبري٢ والحافظ أبوبكر الجصّاص الرازي في أحكام القرآن٣ والحاكم النيسابوري ( المتوفّى ٥٠٤ ه‍ )٤ والحافظ أبو الحسن الواحدي النيسابوري ( المتوفّى ٤٦٨ ه‍ )٥ وجار الله الزمخشري ( المتوفّى ٥٣٨ ه‍ ) إلى غير ذلك من أئمّة الحفّاظ وكبار المحدّثين ربما ناهز عددهم السبعين، وهم بين محدّث ومفسّر ومؤرّخ ويطول بنا الكلام لو قمنا بذكر أسمائهم ونصوصهم، وكفانا في ذلك مؤلّفات مشايخنا في ذلك المضمار.٦

__________________

١. بلوغ المرام للبحراني: ١٠٦، نقلاً عن الحافظ أبي نعيم الإصفهاني في كتابه الموسوم ب‍ « نزول القرآن في أميرالمؤمنينعليه‌السلام ».

٢. تفسير الطبري: ٦ / ١٨٦.

٣. أحكام القرآن: ٢ / ٥٤٢ ورواه من عدّة طرق.

٤. معرفة أُصول الحديث: ١٠٢.

٥. أسباب النزول: ١٤٨.

٦. لاحظ المراجعات للسيد شرف الدين العاملي، المراجعة الأربعون، ص ١٦٢ - ١٦٨ والغدير: ٣ / ١٦٢، وقد رواه من مصادر كثيرة.

١١٣

ولا يمكن لنا إنكار هذه الروايات المتضافرة لو لم تكن متواترة، فانّ اجتماعهم على الكذب أو على السهو والاشتباه أمر مستحيل.

والمراد من الولي في الآية المباركة هو الأولى بالتصرف كما في قولنا: فلان وليّ القاصر، وقول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أيّما امرأة نُكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل » وقد صرّح اللغويّون ومنهم الجوهري في صحاحه بأنّ كلّ من ولي أمر أحد فهو وليّه، فيكون المراد: إنّ الّذي يلي أُموركم فيكون أولى بها منكم إنّما هو الله عزّ وجلّ ورسوله ومن اجتمعت فيه هذه الصفات: الإيمان وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة في حال الركوع. ولم يجتمع يوم ذاك إلّا في الإمام عليّعليه‌السلام حسب النصوص المتضافرة.

وفي حقّه نزلت هذه الآية.

والدليل على أنّ المراد من الولي هو الأولى بالتصرّف أنّه سبحانه أثبت في الآية الولاية لنفسه ولنبيّه ولوليّه على نسق واحد، وولاية الله عزّ وجلّ عامة فولاية النبي والولي مثلها وعلى غرارها. غير أنّ ولاية الله، ولاية ذاتية وولاية الرسول والولي مكتسبة معطاة، فهما يليان أُمور الأُمّة بإذنه سبحانه.

ولو كانت الولاية المنسوبة إلى الله تعالى في الآية غير الولاية المنسوبة إلى الّذين آمنوا » لكان الأنسب أن تفرّد ولاية أُخرى للمؤمنين بالذِّكر، دفعاً للالتباس، كما نرى نظيرها في الآيات التالية:

قال تعالى:( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .١

نرى أنّه سبحانه كرر لفظ الإيمان، وعدّاه في أحدهما بالباء، وفي الآخر

__________________

١. التوبة: ٦١.

١١٤

باللّام لاختلاف في حقيقة إيمانه بالله، وللمؤمنين حيث إنّ إيمانه بالله سبحانه إيمان جدّي وتصديق واقعي، بخلاف تصديقه للمؤمنين المخبرين بقضايا متضادة حيث لا يمكن تصديق الجميع تصديقاً جدّياً، والذي يمكن هو تصديقهم بالسماع وعدم الرفض والرد، ثمّ التحقيق في الأمر، وترتيب الأثر على الواقع المحقّق.

وممّا يكشف عن وحدة الولاية في الآية المبحوثة أنّه سبحانه أتى بلفظ « وليّكم » بالإفراد، ونسبه إلى نفسه وإلى رسوله وإلى الّذين آمنوا، ولم يقل: « إنّما أولياؤكم »، وما هذا إلّا لأنّ الولاية في الآية بمعنى واحد وهو: الأولى بالتصرف، غير أنّ الأولوية في جانبه سبحانه بالأصالة وفي غيره بالتبعية.

وعلى ضوء ذلك يُعلم أنّ القصر والحصر المستفاد من قوله: « إنّما » لقصر الإفراد، وكأنّ المخاطبين يظنون أنّ الولاية عامّة للمذكورين في الأُمة وغيرهم، فأُفرد المذكورون للقصر، وأنّ الأولياء هؤلاء لا غيرهم.

ثمّ يقع الكلام في تبيين هؤلاء الّذين وصفهم الله سبحانه بالولاية وهم ثلاثة:

١. الله جلّ جلاله.

٢. ورسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهما غنيّان عن البيان.

٣. فبما أنّه كان مبهماً بيّنه بذكر صفاته وخصوصياته الأربع:

١.( الَّذِينَ آمَنُوا ) .

٢.( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) .

٣.( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) .

١١٥

ولا شكّ أنّ هذه السمات، سمات عامة لا تميّز الولي عن غيره.

فالمقام بحاجة إلى مزيد توضيح يجسّد الولي ويحصره في شخص خاص لا يشمل غيره، ولأجل ذلك قيّده بالسمة الرابعة أعني قوله:( وَهُمْ رَاكِعُونَ ) .

وهي جملة حاليّة لفاعل « يؤتون »، وهو العامل فيها. وعند ذلك انحصر في شخص خاص على ما ورد في الروايات المتضافرة.

هذا هو منطق الشيعة في تفسير الآية لا تتجاوز في تفسيرها عن ظاهرها قيد أنملة.

بلاغ رسمي في غديرخُم

تقدّم أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد فوَّض في كلامه أمر الخلافة إلى الله سبحانه، فقد كان يترصد أمره سبحانه في ذلك المجال حتى وافاه الوحي، وخاطبه بقوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) .١

نزلت الآية الشريفة يوم الثامن عشر من ذي الحجّة سنة حجّة الوداع في العام العاشر من الهجرة، لما بلغ النبي الأعظم غدير خم فأتاه جبرئيل بها، فقال: يا محمد إنّ الله يقرئك السّلام ويقول لك:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) وكان أوائل القوم قريبين من الجحفة، فأمرُه أن يرد من تقدّم منهم، ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان، وأن يقيم عليّاًعليه‌السلام علماً للناس ويبلغهم ما أنزل الله فيه وأخبره بأنّ الله عزّ وجلّ قد عصمه من الناس.

__________________

١. المائدة: ٦٧.

١١٦

وقد اتّفقت الشيعة الإمامية على نزول الآية في يوم غدير خم، ووافقهم على ذلك لفيف من المحدّثين والمؤرِّخين، فقد ذكر الواقعة الطبري في تفسيره، كما رواها السيوطي في الدر المنثور عن جماعة من الحفاظ، منهم:

١. الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمد الحنظلي الرازي ( المتوفّى ٣٢٧ ه‍ ).

٢. الحافظ أبو عبد الله المحاملي ( المتوفّى ٣٣٠ ه‍ ).

٣. الحافظ أبو بكر الفارسي الشيرازي ( المتوفّى ٤٠٧ ه‍ ).

٤. الحافظ ابن مردويه ( المتوفّى ٧١٦ ه‍ ).

وغيرهم من أعلام الحديث والتاريخ، وقد جمع المحقّق الأميني أسماء من روى نزول هذه الآية في يوم غدير خم من أصحاب السنّة فبلغ ٣٠ رجلاً.١

وعلى كلّ حال فقد قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتحقيق البلاغ في يوم غدير خم، فخطب خطبة، وقال: « أيّها الناس، إنّي أوشك أن أُدعى فأُجِبْتُ، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون ؟ »

قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت، وجهدت، فجزاك الله خيراً.

قال: « ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ جنته حق، وناره حق، وأنّ الموت حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور ؟ »

قالوا: بلى نشهد بذلك.

قال: « أللّهمّ اشهد »، ثمّ قال: أيّها الناس، ألا تسمعون ؟

قالوا: نعم.

__________________

١. الغدير: ١ / ٢١٤ - ٢٢٣.

١١٧

قال: « فإنّي فرط على الحوض، فانظروني كيف تخلّفوني في الثقلين ».

فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله ؟

قال: « الثقل الأكبر، كتاب الله، والآخر الأصغر عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبَّأني انَّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ».

ثمّ أخذ بيد عليٍّ فرفعها، حتى رؤي بياض آباطهما، وعرفه القوم أجمعون، فقال: « أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ ».

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: « إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم.فمن كنت مولاه، فعليّ مولاه » - يقولها ثلاث مرات ـ

ثمّ قال: « أللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب ».

ثمّ لم يتفرّقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله:

( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) الآية، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: « الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالتي، والولاية لعليّ من بعدي ».

ثمّ أخذ الناس يهنِّئون عليّاً، وممن هنّأه في مقدّم الصحابة الشيخان أبو بكر وعمر، كلّ يقول: بخٍ بخٍ، لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

وقال حسّان: ائذن لي يا رسول الله أن أقول في عليٍّ أبياتاً، فقال: قل على

١١٨

بركة الله، فقام حسّان، فقال:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخمٍّ واسمع بالرسول منادياً

فقال فمن مولاكم ونبيّكم

فقالوا ولم يُبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبيّنا

ولم تلق منّا في الولاية عاصياً

فقال له قم يا عليُّ فإنّني

رضيتك من بعدي إماماً وهادياً

فمن كنت مولاه فهذا وليُّه

فكونوا له أتباع صدق مواليا

هناك دعا اللّهمّ وال وليّه

وكن للذي عادىٰ عليّاً معادياً

فلمّا سمع النبي أبياته، قال: « لا تزال يا حسّان مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك ».١

إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن أشار إلى ولاية الإمام عليّ بن أبي طالب بعد رحيله، فتارة في بدء الدعوة، وأُخرى في غزوة تبوك٢ ، غير انّما ذكره متقدماً على حديث الغدير لم يكن بياناً رسمياً لعامّة الأُمّة بل كانت بلاغات مقطعية، وأمّا في ذلك اليوم فقد قام بإبلاغ المحتشد العظيم على نحو أخذ منهم الإقرار والاعتراف بولاية عليّعليه‌السلام .

وبذلك أكمل دعائم دينه وأتم نعمة الله عليهم كما سيوافيك.

وأمّا تواتر الحديث فحدّث عنه ولا حرج، فقد رواه من الصحابة ما يربو علىٰ ١٢٠ صحابياً وأمّا من التابعين ما يقارب ٨٤ تابعياً، وأمّا العلماء الذين نقلوه عبر القرون فيزيد على ٣٦٠ عالماً، تجد نصوصهم وأسماءهم وأسماء كتبهم

__________________

١. الغدير: ٢ / ٣٤ - ٤٢.

٢. حديث المنزلة: أنت منّي بمنزلة هارونَ من موسىٰ إلّا أنَّه لا نبيَّ بعدي.

١١٩

بتفصيل في كتاب الغدير.١

ولا أظن أنّ ذا مسكة ومن له إلمام بعلم الحديث وقراءة الصحاح والمسانيد ينكر صحّة حديث الغدير أو تضافره بل تواتره، ولو أنكره فإنّما أنكره بلسانه لا بجنانه وقلبه اللّهمّ إلّا إذا كان غير مُلِمٌّ بعلم الحديث.

وإنّما المهم دلالة الحديث على ولاية الإمام وإمامته.

وقد استخدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفظة « مولى » وقال: « من كنت مولاه » فهي بمعنى أولىٰ، كما في قوله سبحانه:( فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ المَصِيرُ ) .٢

والمعنى أولى بكم النار كما فسّره غير واحد من المفسّرين، وهناك قرائن تؤيد على أنّ المقصود من المولى هو الأولى. الوارد في قوله سبحانه:( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) .٣

وهناك قرائن لفظية محفوفة بالحديث وقرائن حالية تثبت أنّ المراد من المولى هو الأولى الوارد في الآية المتقدّمة، وإليك تلك القرائن:

القرينة الأُولى : قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر الحديث: « أَلَسْتُ أولى بِكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ » وهو دليل على أنّ المراد من قوله: « فمن كنت مولاه » هو الأولى وذلك لأنّه رتب الثاني على الأوّل.

القرينة الثانية: دعاؤه في صدر الحديث: « أللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه » فلو أُريد منه غير الأولى بالتصرّف فما معنى هذا التطويل ؟ فانّه لا يلتئم

__________________

١. الغدير: ١ / ٧٣ - ١٥٢، تحت عنوان « طبقات الرواة من العلماء ».

٢. الحديد: ١٥.

٣. الأحزاب: ٦.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

يده مع يد الذّابح، ويسمّي الله تعالى، ويقول « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ » إلى قوله « وأنا من المسلمين » ثمَّ يقول: « اللهم منك ولك. بسم الله، والله أكبر. اللهمّ تقبّل منّي » ثمَّ يمرّ السّكين. ولا ينخعه حتّى يموت. ومن أخطأ في الذّبيحة، فذكر غير صاحبها، كانت مجزئة عنه بالنّيّة. وينبغي أن يبدأ أيضا بالذّبح قبل الحلق، وفي العقيقة بالحلق قبل الذّبح. فإن قدّم الحلق على الذّبح ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء.

ومن السّنّة أن يأكل الإنسان من هديه لمتعته، ومن الأضحيّة ويطعم القانع والمعترّ: يأكل ثلثه، ويطعم القانع والمعترّ ثلثه، ويهدي لأصدقائه الثّلث الباقي. وقد بيّنّا أنه لا يجوز أن يأكل من الهدي المضمون إلّا إذا كان مضطرّا. فإن أكل منه من غير ضرورة، كان عليه قيمته. ولا بأس بأكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام وادّخارها. ولا يجوز أن يخرج من منى من لحم ما يضحّيه. ولا بأس بإخراج السّنام منه. ولا بأس أيضا بإخراج لحم قد ضحّاه غيره. ويستحبّ أن لا يأخذ شيئا من جلود الهدي والأضاحي، بل يتصدّق بها كلّها. ولا يجوز أيضا أن يعطيها الجزّار. وإذا أراد أن يخرج شيئا منها لحاجته إلى ذلك، تصدّق بثمنه.

ولا يجوز أن يحلق الرّجل رأسه، ولا أن يزور البيت، إلا بعد الذّبح، أو أن يبلغ الهدي محلّه. وهو أن يحصل في رحله

٢٦١

فإذا حصل في رحله بمنى، وأراد أن يحلق، جاز له ذلك. ومتى فعل ذلك ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء. ومن وجبت عليه بدنة في نذر أو كفّارة، ولم يجدها، كان عليه سبع شياه. فإن لم يجد، صام ثمانية عشر يوما إمّا بمكّة أو إذا رجع إلى أهله.

والصّبيّ إذا حجّ به متمتّعا، وجب على وليّه أن يذبح عنه.

ومن لم يتمكّن من شراء هدي، إلّا يبيع بعض ثيابه التي يتجمّل بها، لم يلزمه ذلك، وكان الصوم مجزئا عنه.

ويجزي الهدي عن الأضحيّة. وإن جمع بينهما، كان أفضل. ومن لم يجد الأضحيّة، جاز له أن يتصدّق بثمنها. فإن اختلفت أثمانها، نظر إلى الثّمن الأوّل والثّاني والثّالث، وجمعها ثمَّ يتصدّق بثلثها، وليس عليه شي‌ء.

ومن نذر لله تعالى أن ينحر بدنة، فإن سمّى الموضع الذي ينحرها فيه، وجب عليه الوفاء به، وإن لم يسمّ الموضع، لم يجز له أن ينحرها إلّا بفناء الكعبة. ويكره للإنسان أن يضحّي بكبش قد تولّى تربيته، ويستحبّ أن يكون ذلك ممّا يشتريه.

باب الحلق والتقصير

يستحبّ أن يحلق الإنسان رأسه بعد الذّبح. وإن كان صرورة، لا يجزئه غير الحلق. وإن كان ممّن حجّ حجّة الإسلام، جاز له التّقصير، والحلق أفضل. اللهمّ إلّا أن يكون قد لبّد

٢٦٢

شعره. فإن كان كذلك، لم يجزئه غير الحلق في جميع الأحوال.

ومن ترك الحلق عامدا أو التّقصير إلى أن يزور البيت، كان عليه دم شاة. وإن فعله ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء، وكان عليه إعادة الطّواف. ومن رحل من منى قبل الحلق، فليرجع إليها، ولا يحلق رأسه إلّا بها مع الاختيار. فإن لم يتمكّن من الرّجوع إليها، فليحلق رأسه في مكانه، ويردّ شعره إلى منى، ويدفنه هناك فإن لم يتمكّن من ردّ الشعر، لم يكن عليه شي‌ء.

والمرأة ليس عليها حلق، ويكفيها من التّقصير مقدار أنملة.

وإذا أراد أن يحلق، فليبدأ بناصيته من القرن الأيمن ويحلق إلى العظمين ويقول إذا حلق: « اللهمّ أعطني بكلّ شعرة نورا يوم القيامة ». ومن لم يكن على رأسه شعر، فليمرّ الموسى عليه. وقد أجزأه. وإذا حلق رأسه، فقد حلّ له كلّ شي‌ء أحرم منه إلّا النّساء والطّيب، إن كان متمتّعا. فإن كان حاجّا غير متمتّع، حلّ له كلّ شي‌ء إلّا النّساء. فإذا طاف طواف الزّيارة، حلّ له كلّ شي‌ء إلّا النّساء. فإذا طاف طواف النّساء، حلّت له أيضا النّساء.

ويستحبّ ألا يلبس الثّياب إلّا بعد الفراغ من طواف الزّيارة، وليس ذلك بمحظور. وكذلك يستحبّ ألّا يمسّ الطّيب إلّا بعد الفراغ من طواف النّساء، وإن لم يكن ذلك محظورا على ما قدّمناه.

٢٦٣

باب زيارة البيت والرجوع الى منى ورمي الجمار

فإذا فرغ من مناسكه بمنى، فليتوجّه إلى مكّة، وليزر البيت يوم النّحر، ولا يؤخره إلّا لعذر. فإن أخّره لعذر، زار من الغد ولا يؤخر أكثر من ذلك. هذا إذا كان متمتّعا. فإن كان مفردا أو قارنا، جاز له أن يؤخر الى أيّ وقت شاء، غير أنّه لا تحلّ له النّساء. وتعجيل الطّواف للقارن والمفرد أفضل من تأخيره.

ويستحبّ لمن أراد زيارة البيت أن يغتسل قبل دخول المسجد والطّواف بالبيت، ويقلّم أظفاره، ويأخذ من شاربه، ثمَّ ثمَّ يزور. ولا بأس أن يغتسل الإنسان بمنى، ثمَّ يجي‌ء إلى مكّة، فيطوف بذلك الغسل بالبيت. ولا بأس أن يغتسل بالنّهار ويطوف بالليل ما لم ينقض ذلك الغسل بحدث أو نوم. فإن نقضه بحدث أو نوم، فليعد الغسل استحبابا، حتّى يطوف وهو على غسل. ويستحبّ للمرأة أيضا أن تغتسل قبل الطّواف.

وإذا أراد أن يدخل المسجد، فليقف على بابه، ويقول: « اللهمّ أعنّي على نسكك » إلى آخر الدّعاء الذي ذكرناه في الكتاب المقدّم ذكره. ثمَّ يدخل المسجد، ويأتي الحجر الأسود فيستلمه ويقبّله. فإن لم يستطع، استلمه بيده وقبّل يده. فإن لم يتمكّن من ذلك أيضا، استقبله، وكبّر، وقال ما قال حين طاف بالبيت يوم قدم مكّة. ثمَّ يطوف بالبيت أسبوعا كما قدّمنا وصفه

٢٦٤

ويصلّي عند المقام ركعتين. ثمَّ ليرجع الى الحجر الأسود فيقبّله، إن استطاع، ويستقبله ويكبّر. ثمَّ ليخرج إلى الصّفا، فيصنع عنده ما صنع يوم دخل مكّة. ثمَّ يأتي المروة، ويطوف بينهما سبعة أشواط، يبدأ بالصّفا ويختم بالمروة.

فإذا فعل ذلك، فقد حلّ له كلّ شي‌ء أحرم منه إلّا النّساء. ثمَّ ليرجع الى البيت، فيطوف به طواف النّساء أسبوعا، يصلّي عند المقام ركعتين، وقد حلّ له النّساء.

وأعلم أنّ طواف النّساء فريضة في الحجّ وفي العمرة المبتولة. وليس بواجب في العمرة التي يتمتّع بها الى الحج. فإن مات من وجب عليه طواف النّساء. كان على وليّه القضاء عنه. وإن تركه وهو حيّ، كان عليه قضاؤه. فإن لم يتمكّن من الرّجوع الى مكّة، جاز له أن يأمر من يتوب عنه. فإذا طاف النّائب عنه، حلّت له النّساء. وطواف النّساء فريضة على النّساء والرّجال والشّيوخ والخصيان، لا يجوز لهم تركه على حال.

فإذا فرغ الإنسان من الطّواف فليرجع إلى منى ولا يبيت ليالي التّشريق إلّا بها. فإن بات في غيرها، كان عليه دم شاة. فإن بات بمكّة ليالي التّشريق، ويكون مشتغلا بالطّواف والعبادة، لم يكن عليه شي‌ء. وإن لم يكن مشتغلا بهما، كان عليه ما ذكرناه، وان خرج من منى بعد نصف اللّيل، جاز له أن يبيت بغيرها، غير أنّه لا يدخل مكّة إلّا بعد طلوع الفجر. وإن تمكّن ألّا يخرج

٢٦٥

منها إلّا بعد طلوع الفجر، كان أفضل. ومن بات الثّلاث ليال بغير منى متعمّدا، كان عليه ثلاثة من الغنم. والأفضل أن لا يبرح الإنسان أيّام التّشريق من منى. فإن أراد أن يأتي مكّة للطّواف بالبيت تطوّعا، جاز له ذلك، غير أنّ الأفضل ما قدّمناه.

وإذا رجع الإنسان إلى منى لرمي الجمار، كان عليه أن يرمي ثلاثة أيّام: الثّاني من النّحر والثّالث والرّابع، كلّ يوم بإحدى وعشرين حصاة. ويكون ذلك عند الزّوال، فإنّه الأفضل. فإن رماها ما بين طلوع الشمس الى غروبها، لم يكن به بأس.

فإذا أراد أن يرمي، فليبدأ بالجمرة الأولى، فليرمها عن يسارها من بطن المسيل بسبع حصيات يرميهنّ خذفا. ويكبّر مع كلّ حصاة، ويدعوا بالدّعاء الذي قدّمناه. ثمَّ يقوم عن يسار الطّريق ويستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويثني عليه، ويصلّي على النّبيّ وآله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمَّ ليتقدم قليلا ويدعوا ويسأله أن يتقبّل منه. ثمَّ يتقدّم أيضا ويرمي الجمرة الثّانية، ويصنع عندها كما صنع عند الأولى، ويقف ويدعوا، ثمَّ يمضي إلى الثّالثة فيرميها كما رمى الأوليين، ولا يقف عندها.

وإذا غابت الشّمس، ولم يكن قد رمى بعد، فلا يجوز له أن يرمي إلّا في الغد. فإذا كان من الغد، رمى ليومه مرّة، ومرّة قضاء لما فاته، ويفصل بينهما بساعة. وينبغي أن يكون الذي يرمي لأمسه بكرة، والذي ليومه عند الزّوال. فإن فاته رمي يومين،

٢٦٦

رماها كلّها يوم النّفر، وليس عليه شي‌ء. وقد بينا أنّه لا يجوز الرّمي باللّيل. وقد رخّص للعليل والخائف والرّعاة والعبيد الرّمي باللّيل. ومن نسي رمي الجمار الى أن أتى مكّة، عاد إلى منى، ورماها، وليس عليه شي‌ء. وحكم المرأة في جميع ما ذكرناه حكم الرّجل سواء.

فإن لم يذكر الى أن يخرج من مكّة، لم يكن عليه شي‌ء. إلّا أنّه إن حجّ في العام المقبل، أعاد ما كان قد فاته من رمي الجمار. وإن لم يحجّ أمر وليّه أن يرمي عنه. فإن لم يكن له وليّ، استعان برجل من المسلمين في قضاء ذلك عنه.

والترتيب واجب في الرّمي. يجب أن يبدأ بالجمرة العظمى ثمَّ الوسطى ثمَّ جمرة العقبة. فمن خالف شيئا منها، أو رماها منكوسة، كان عليه الإعادة. ومن بدأ بجمرة العقبة ثمَّ الوسطى ثمَّ الأولى، أعاد على الوسطى ثمَّ جمرة العقبة وقد أجزأه. فإن نسي فرمى الجمرة الأولى بثلاث حصيات، ورمى الجمرتين الأخريين على التّمام، كان عليه ان يعيد عليها كلّها. وإن كان قد رمى من الجمرة الأولى بأربع حصيات ثمَّ رمى الجمرتين على التّمام، كان عليه أن يعيد على الأولى بثلاث حصيات. وكذلك إن كان قد رمى على الوسطى أقل من أربعة، أعاد عليها وعلى ما بعدها. وإن رماها بأربعة، تمّمها، وليس عليه شي‌ء من الإعادة على الثّالثة. ومن رمى جمرة بست حصيات، وضاعت عنه واحدة،

٢٦٧

أعاد عليها بحصاة، وإن كان من الغد. ولا يجوز له أن يأخذ من حصى الجمار فيرمي بها. ومن علم أنّه قد نقص حصاة واحدة، ولم يعلم من أي الجمار هي، أعاد على كلّ واحدة منها بحصاة. فإن رمى بحصاة، فوقعت في محمله، أعاد مكانها حصاة أخرى. فإن أصابت إنسانا أو دابّة، ثمَّ وقعت على الجمرة، فقد أجزأه.

ولا بأس أن يرمي الإنسان راكبا. وإن رمى ماشيا، كان أفضل ولا بأس أن يرمى عن العليل والمبطون والمغمى عليه والصّبيّ.

وينبغي أن يكبّر الإنسان بمنى عقيب خمس عشرة صلاة. يبدأ بالتّكبير يوم النّحر من بعد الظّهر إلى صلاة الفجر من اليوم الثّالث من أيّام التّشريق، وفي الأمصار عقيب عشر صلوات، يبدأ عقيب الظّهر من يوم النّحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثّاني من أيّام التّشريق، ويقول في التّكبير: « الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلّا الله، والله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا ورزقنا من بهيمة الأنعام ».

باب النفر من منى ودخول الكعبة ووداع البيت

لا بأس أن ينفر الإنسان من منى اليوم الثّاني من أيّام التّشريق وهو اليوم الثّالث من يوم النّحر. فإن أقام إلى النّفر الأخير، وهو اليوم الثّالث من أيّام التّشريق والرّابع من يوم النّحر، كان أفضل. فإن كان ممّن أصاب النّساء في إحرامه أو صيدا، لم يجز له أن

٢٦٨

ينفر في النّفر الأوّل. ويجب عليه المقام الى النّفر الأخير. وإذا أراد أن ينفر في النّفر الأوّل، فلا ينفر إلّا بعد الزّوال، إلّا أن تدعوه ضرورة إليه من خوف وغيره، فإنّه لا بأس أن ينفر قبل الزّوال، وله أن ينفر بعد الزّوال ما بينه وبين غروب الشّمس. فإذا غابت الشّمس، لم يجز له النّفر، وليبت بمنى الى الغد. وإذا نفر في النّفر الأخير، جاز له أن ينفر من بعد طلوع الشّمس أيّ وقت شاء. فإن لم ينفر وأراد المقام بمنى، جاز له ذلك، إلّا الإمام خاصّة، فإنّ عليه أن يصلّي الظّهر بمكّة.

ومن نفر من منى، وكان قد قضى مناسكه كلّها، جاز له أن لا يدخل مكّة. وإن كان قد بقي عليه شي‌ء من المناسك، فلا بدّ له من الرّجوع إليها. والأفضل على كلّ حال الرّجوع إليها لتوديع البيت وطواف الوداع.

ويستحبّ أن يصلّي الإنسان بمسجد منى، وهو مسجد الخيف. وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مسجده عند المنارة التي في وسط المسجد، وفوقها إلى القبلة نحوا من ثلاثين ذراعا، وعن يمينها وعن يسارها مثل ذلك. فإن استطعت أن يكون مصلّاك فيه، فافعل. ويستحبّ أن يصلّي الإنسان ستّ ركعات في مسجد منى. فإذا بلغ مسجد الحصباء، وهو مسجد رسول الله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليدخله وليسترح فيه قليلا وليستلق على قفاه.

٢٦٩

فإذا جاء إلى مكّة فليدخل الكعبة، إن تمكّن من ذلك سنّة واستحبابا. والصّرورة لا يترك دخولها على حال مع الاختيار. فإن لم يتمكّن من ذلك، لم يكن عليه شي‌ء.

فإذا أراد دخول الكعبة فليغتسل قبل دخولها سنّة مؤكّدة. فإذا دخلها، فلا يمتخط فيها، ولا يبصق. ولا يجوز دخولها بحذاء. ويقول إذا دخلها: « اللهمّ إنّك قلت: ومن دخله كان آمنا، فآمنّى من عذابك عذاب النار ».

ثمَّ يصلّي بين الأسطوانتين على الرّخامة الحمراء ركعتين، يقرأ في الأولى منهما « حم السّجدة » وفي الثّانية عدد آياتها، ثمَّ ليصلّ في زوايا البيت كلّها، ثمَّ يقول: « اللهمّ من تهيّأ وتعبّأ » إلى آخر الدّعاء. فإذا صلّى عند الرّخامة على ما قدّمناه، وفي زوايا البيت، قام فاستقبل الحائط بين الرّكن اليمانيّ والغربيّ، ويرفع يديه، ويلتصق به، ويدعوا. ثمَّ يتحوّل الى الرّكن اليمانيّ، فيفعل به مثل ذلك. ثمَّ يأتي الرّكن الغربيّ، ويفعل به أيضا مثل ذلك، ثمَّ ليخرج. ولا يجوز أن يصلّي الإنسان الفريضة جوف الكعبة مع الاختيار. فإن اضطرّ الى ذلك، لم يكن عليه بأس بالصّلاة فيها. فأمّا النّوافل فالصّلاة فيها مندوب اليه.

فإذا خرج من البيت ونزل عن الدرجة، صلّى عن يمينه ركعتين. فإذا أراد الخروج من مكّة، جاء الى البيت، فطاف به أسبوعا طواف الوداع سنّة مؤكّدة. فإن استطاع أن يستلم الحجر

٢٧٠

والرّكن اليمانيّ في كل شوط، وفعل. وإن لم يتمكّن، افتتح به، وختم به، وقد أجزأه. فإن لم يتمكن من ذلك أيضا، لم يكن عليه شي‌ء. ثمَّ يأتي المستجار، فيصنع عنده كما صنع يوم قدم مكّة. ويتخيّر لنفسه من الدّعاء ما أراد. ثمَّ يستلم الحجر الأسود، ثمَّ يودّع البيت ويقول: « اللهمّ لا تجعله آخر العهد من بيتك » ثمَّ ليأت زمزم فيشرب منه، ثمَّ ليخرج، ويقول: « آئبون تائبون، عابدون، لربّنا حامدون، الى ربّنا راغبون، الى ربّنا راجعون ». فإذا خرج من باب المسجد، فليكن خروجه من باب الحنّاطين. فيخرّ ساجدا، ويقوم مستقبل الكعبة، فيقول: « اللهمّ إني أنقلب على لا إله إلا الله ».

ومن لم يتمكّن من طواف الوداع، أو شغله شاغل عن ذلك حتى خرج، لم يكن عليه شي‌ء. فإذا أراد الخروج من مكّة، فليشتر بدرهم تمرا، وليتصدّق به، ليكون كفّارة لما دخل عليه في الإحرام، إن شاء الله.

باب فرائض الحج

فرائض الحجّ: الإحرام من الميقات، والتّلبيات الأربع، والطّواف بالبيت، إن كان متمتّعا، ثلاثة أطواف: طواف للعمرة، وطواف للزيارة، وطواف للنّساء، وإن كان قارنا أو مفردا، طوافان: طواف للحجّ، وطواف للنّساء، ويلزمه مع

٢٧١

كلّ طواف ركعتان عند المقام، وهما أيضا فرضان، والسّعي بين الصّفا والمروة، والوقوف بالموقفين: عرفات والمشعر الحرام وإن كان متمتّعا، كان الهدي أيضا واجبا عليه أو ما يقوم مقامه.

فمن ترك الإحرام متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركه ناسيا حتّى يجوز الميقات، كان عليه أن يرجع إليه، ويحرم منه، إذا تمكّن منه. فإن لم يتمكّن لضيق الوقت أو الخوف أو ما جرى مجراهما من أسباب الضّرورات، أحرم من موضعه وقد أجزأه. فإن كان قد دخل مكّة، وأمكنه الخروج الى خارج الحرم، فليخرج وليحرم منه. فإن لم يستطع ذلك، أحرم من موضعه.

ومن ترك التّلبية متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركها ناسيا، ثمَّ ذكر، فليجدّد التّلبية، وليس عليه شي‌ء.

ومن ترك طواف الزّيارة متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركه ناسيا، أعاد الطّواف أيّ وقت ذكره.

ومن ترك طواف النّساء متعمّدا، لم يبطل حجّة، إلّا أنّه لا تحلّ له النّساء، حتى يطوف عنه حسب ما قدّمناه. وركعتا الطّواف متى تركهما ناسيا، كان عليه قضاءهما حسب ما قدّمناه.

ومن ترك السّعي متعمّدا، فلا حجّ له. فإن تركه ناسيا،

٢٧٢

عليه قضاؤه حسب ما قدّمناه.

ومن ترك الوقوف بعرفات متعمّدا، أو بالمشعر الحرام، فلا حجّ له. فإن ترك الوقوف بعرفات ناسيا، كان عليه أن يعود، فيقف بها ما بينه وبين طلوع الفجر من يوم النّحر. فإن لم يذكر إلّا بعد طلوع الفجر، وكان قد وقف بالمشعر، فقد تمَّ حجّه، وليس عليه شي‌ء.

وإذا ورد الحاجّ ليلا، وعلم: أنّه مضى الى عرفات، وقف بها وإن كان قليلا، ثمَّ عاد الى المشعر الحرام قبل طلوع الشّمس، وجب عليه المضيّ إليها والوقوف بها، ثمَّ يجي‌ء إلى المشعر الحرام. فإن غلب على ظنّه أنّه إن مضى الى عرفات، لم يلحق المشعر قبل طلوع الشّمس، اقتصر على الوقوف بالمشعر، وقد تمَّ حجّه، وليس عليه شي‌ء.

ومن أدرك المشعر الحرام قبل طلوع الشّمس، فقد أدرك الحجّ. وإن أدركه بعد طلوع الشّمس، فقد فاته الحجّ.

ومن وقف بعرفات، ثمَّ قصد المشعر، فعاقه في الطّريق عائق، فلم يلحق الى قرب الزّوال، فقد تمَّ حجّه، ويقف قليلا بالمشعر ويمضي إلى منى. ومن لم يكن قد وقف بعرفات، وأدرك المشعر بعد طلوع الشّمس، فقد فاته الحجّ، لأنّه لم يلحق أحد الموقفين في وقته.

ومن فاته الحجّ، فليقم على إحرامه الى انقضاء أيّام

٢٧٣

التّشريق، ثمَّ يجي‌ء، فيطوف بالبيت، ويسعى بين الصّفا والمروة، ويجعل حجّته عمرة. وإن كان قد ساق معه هديا، فلينحره بمكّة وكان عليه الحجّ من قابل إن كانت حجته حجّة الإسلام. وإن كانت حجّة التّطوّع، كان بالخيار: إن شاء حجّ، وإن شاء لم يحجّ. ومن حضر المناسك كلّها ورتّبها في مواضعها. إلّا أنّه كان سكرانا، فلا حجّ له، وكان عليه الحجّ من قابل.

باب مناسك النساء في الحج والعمرة

قد بيّنّا فيما تقدّم من أن الحجّ واجب على النّساء كوجوبه على الرّجال. فمتى كانت المرأة لها زوج، فلا تخرج إلّا معه. فإن منعها زوجها من الخروج في حجّة الإسلام، جاز لها خلافه. ولتخرج، وتحجّ حجّة الإسلام. وإن أرادت أن تحجّ تطوّعا، فمنعها زوجها، فليس لها مخالفته.

وينبغي أن لا تخرج إلّا مع ذي محرم لها من أب أو أخ أو عمّ أو خال. فإن لم يكن لها أحد ممّن ذكرناه. جاز لها أن تخرج مع من تثق بدينه من المؤمنين.

وإذا كانت المرأة في عدّة الطّلاق، جاز لها أن تخرج في حجّة الإسلام، سواء كان للزّوج عليها رجعة أو لم تكن. وليس لها أن تخرج إذا كانت حجّتها تطوّعا، إلّا أن تكون العدّة

٢٧٤

لزوجها عليها فيها رجعة. فأمّا عدّة المتوفّى عنها زوجها، فلا بأس بها أن تخرج فيها الى الحجّ فرضا كان أو نفلا.

وإذا خرجت المرأة، وبلغت ميقات أهلها، فعليها أن تحرم منه، ولا تؤخره. فإن كانت حائضا، توضّأت وضوء الصّلاة واحتشت واستثفرت وأحرمت، إلّا أنها لا تصلّي ركعتي الإحرام فإن تركت الإحرام ظنّا منها أنّه لا يجوز لها ذلك، وجازت الميقات، كان عليها أن ترجع الى الميقات، فتحرم منه، إذا أمكنها ذلك. فإن لم يمكنها، أحرمت من موضعها. إذا لم تكن قد دخلت مكّة. فإن كانت قد دخلت مكّة، فلتخرج الى خارج الحرم، وتحرم من هناك. فإن لم يمكنها ذلك، أحرمت من موضعها، وليس عليها شي‌ء.

فإذا دخلت المرأة مكّة، وكانت متمتّعة، طافت بالبيت، وسعت بين الصّفا والمروة، وقصّرت. وقد أحلّت من كلّ ما أحرمت منه مثل الرّجل سواء.

فإن حاضت قبل الطّواف، انتظرت ما بينها وبين الوقت الذي تخرج الى عرفات. فإن طهرت، طافت وسعت. وإن لم تطهر، فقد مضت متعتها، وتكون حجّة مفردة، تقضي المناسك كلّها ثمَّ تعتمر بعد ذلك عمرة مبتولة. فإن طافت بالبيت ثلاثة أشواط ثمَّ حاضت، كان حكمها حكم من لم يطف. وإذا طافت أربعة أشواط، ثمَّ حاضت، قطعت الطّواف،

٢٧٥

وسعت بين الصّفا والمروة، وقصّرت، ثمَّ أحرمت بالحجّ، وقد تمّت متعتها.

فإذا فرغت من المناسك، وطهرت تمّمت الطّواف. وإن كانت قد طافت الطّواف كلّه، ولم تكن قد صلّت الرّكعتين عند المقام، فلتخرج من المسجد، ولتسع، وتعمل ما قدّمناه من الإحرام بالحجّ وقضاء المناسك، ثمَّ تقضي الرّكعتين إذا طهرت. وإذا طافت بالبيت بين الصّفا والمروة وقصّرت، ثمَّ أحرمت بالحجّ، وخافت أن يلحقها الحيض فيما بعد، فلا تتمكّن من طواف الزّيارة وطواف النّساء، فجائز لها أن تقدّم الطّوافين معا، والسّعي بين الصّفا والمروة، ثمَّ تخرج فتقضي المناسك كلّها، ثمَّ ترجع الى منزلها.

فإن كانت قد طافت طواف الزّيارة، وبقي عليها طواف النّساء، فلا تخرج من مكّة إلّا بعد أن تقضيه. وإن كانت قد طافت منه أربعة أشواط وأرادت الخروج، جاز لها أن تخرج وإن لم تتمّ الطّواف.

والمستحاضة لا بأس بها أن تطوف بالبيت، وتصلّي عند المقام، وتشهد المناسك كلّها، إذا فعلت ما تفعله المستحاضة. والفرق بينها وبين الحائض، أنّ الحائض لا يحلّ لها دخول المسجد، فلا تتمكّن من الطّواف، ولا يجوز لها أيضا الصّلاة، والطّواف لا بدّ فيه من الصّلاة، وليس هذا حكم المستحاضة.

٢٧٦

وإذا أرادت الحائض وداع البيت، فلا تدخل المسجد، ولتودّع من أدنى باب من أبواب المسجد، وتنصرف، إن شاء الله.

وإذا كانت المرأة عليلة لا تقدر على الطّواف، طيف بها، وتستلم الأركان والحجر. فإن كان عليها زحمة، فتكفيها الإشارة. ولا تزاحم الرّجال. وإن كان بها علّة تمنع من حملها والطّواف بها، طاف عنها وليّها، وليس عليها شي‌ء. وكذلك إذا كانت عليلة لا تعقل عند الإحرام، أحرم عنها وليّها، وجنّبها ما يجتنب المحرم، وقد تمَّ إحرامها. وليس على النّساء حلق ولا دخول البيت. فإن أرادت دخول البيت، فلتدخله إذا لم يكن هناك زحام. ولا يجوز للمستحاضة دخول البيت على حال.

باب من حج عن غيره

من وجب عليه الحجّ، لا يجوز له أن يحجّ عن غيره إلّا بعد أن يقضي حجّته التي وجبت عليه. فإذا قضاها، جاز له بعد ذلك أن يحجّ عن غيره. ومن ليس له مال يجب عليه الحجّ، جاز له أن يحجّ عن غيره. فإن تمكّن بعد ذلك من المال، كان عليه أن يحجّ عن نفسه، وقد أجزأت الحجّة التي حجّها عمّن حجّ عنه.

وينبغي لمن يحجّ عن غيره أن يذكره في المواضع كلّها،

٢٧٧

فيقول عند الإحرام: اللهمّ ما أصابني من تعب أو نصب أو لغوب فأجر فلان بن فلان، وأجرني في نيابتي عنه. وكذلك يذكره عند التّلبية والطّواف والسّعي وعند الموقفين وعند الذّبح وعند قضاء جميع المناسك، فإن لم يذكره في هذه المواضع، وكانت نيته الحجّ عنه، كان جائزا.

ومن أمر غيره أن يحجّ عنه متمتّعا، فليس له أن يحجّ عنه مفردا ولا قارنا. فإن حجّ عنه كذلك، لم يجزئه، وكان عليه الإعادة. وإن أمره أن يحجّ عنه مفردا أو قارنا، جاز له أن يحجّ عنه متمتّعا، لأنه يعدل الى ما هو الأفضل. ومن أمر غيره أن يحجّ عنه على طريق بعينها، جاز له أن يعدل عن ذلك الطّريق الى طريق آخر. وإذا أمره أن يحجّ عنه بنفسه، فليس له أن يأمر غيره بالنّيابة عنه. فإن جعل الأمر في ذلك اليه، جاز له أن يستنيب غيره فيه. وإذا أخذ حجة عن غيره، لا يجوز له أن يأخذ حجة أخرى، حتى يقضي التي أخذها.

وإذا حجّ عن غيره، فصدّ عن بعض الطّريق، كان عليه ممّا أخذه بمقدار ما بقي من الطّريق. اللهم إلّا أن يضمن الحجّ فيما يستأنف، ويتولّاه بنفسه.

فإن مات النّائب في الحجّ، وكان موته بعد الإحرام ودخول الحرم، فقد سقطت عنه عهدة الحجّ، وأجزأ عمّن حجّ عنه وإن مات قبل الإحرام ودخول الحرم، كان على ورثته، إن

٢٧٨

خلّف في أيديهم شيئا، مقدار ما بقي عليه من نفقة الطّريق. وإذا أخذ حجة، فأنفق ما أخذه في الطّريق من غير إسراف، واحتاج الى زيادة، كان على صاحب الحجّة أن يتمّمه استحبابا. فإن فضل من النّفقة شي‌ء، كان له، وليس لصاحب الحجّة الرّجوع عليه بالفضل. ولا يجوز للإنسان أن يطوف عن غيره وهو بمكّة، إلّا أن يكون الذي يطوف عنه مبطونا لا يقدر على الطّواف بنفسه، ولا يمكن حمله والطّواف به. وإن كان غائبا، جاز أن يطوف عنه.

وإذا حجّ الإنسان عن غيره من أخ له أو أب أو ذي قرابة أو مؤمن، فإن ثواب ذلك يصل الى من حجّ عنه من غير أن ينقض من ثوابه شي‌ء. وإذا حجّ الإنسان عمّن يجب عليه الحجّ بعد موته تطوّعا منه بذلك، فإنّه يسقط عن الميّت بذلك فرض الحجّ.

ومن كان عنده وديعة، فمات صاحبها، وله ورثة، ولم يكن قد حجّ حجّة الإسلام، جاز له أن يأخذ منها بقدر ما يحجّ عنه، ويردّ الباقي على ورثته، إذا غلب على ظنّه أنّ ورثته لا يقضون عنه حجّة الإسلام. فإن غلب على ظنّه أنّهم يتولّون القضاء عنه، فلا يجوز له أن يأخذ منها شيئا إلّا بأمرهم.

ولا بأس أن تحجّ المرأة عن الرّجل إذا كانت قد حجّت

٢٧٩

حجّة الإسلام، وكانت عارفة. وإذا لم تكن حجّت حجّة الإسلام، وكانت صرورة، لم يجز لها أن تحجّ عن غيرها على حال.

ولا يجوز لأحد أن يحجّ عن غيره إذا كان مخالفا له في الاعتقاد، اللهمّ إلّا أن يكون أباه، فإنّه يجوز له أن يحجّ عنه.

باب العمرة المفردة

العمرة فريضة مثل الحجّ، لا يجوز تركها. ومن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، سقط عنه فرضها. وإن لم يتمتّع، كان عليه أن يعتمر بعد انقضاء الحجّ، إن أراد، بعد انقضاء أيّام التّشريق، وإن شاء أخّرها إلى استقبال المحرّم. ومن دخل مكّة بالعمرة المفردة في غير أشهر الحجّ، لم يجز له أن يتمتّع بها الى الحجّ. فإن أراد التّمتّع كان عليه تجديد عمرة في أشهر الحجّ. وإن دخل مكّة بالعمرة المفردة في أشهر الحجّ، جاز له أن يقضيها، ويخرج الى بلده أو أيّ موضع شاء. والأفضل له أن يقيم حتى يحجّ، ويجعلها متعة. وإذا دخلها بنيّة التّمتّع، لم يجز له أن يجعلها مفردة، وأن يخرج من مكّة، لأنّه صار مرتبطا بالحجّ. وأفضل العمرة ما كانت في رجب، وهي تلي الحجّ في الفضل.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457