مفاهيم القرآن الجزء ١٠

مفاهيم القرآن13%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: 457

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 457 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135628 / تحميل: 5249
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١٠

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-١٤٨-٣
العربية

١

[

٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي قام بالقسط في خلقه، وعدل عليهم في حكمه، والصّلاة والسّلام على من كلامه، الفصل وحكمه، العدل سيّد المرسلين وأفضل النبييّن محمّد، وآله الطاهرين الذين انتظم بهم عقد الإمامة وتزيَّنت بهم مسند الخلافة.

أمّا بعد:

لقد قام الإسلام على دعائم متينة وأُسس راسخة تمثَّلت في أُصول الدين الّتي من أبرزها التوحيد والمعاد والنبوّة، وهذا ما اتّفق عليه المسلمون بكافّة طوائفهم ونحلهم، فلا يدخل أحد في حظيرة الإسلام إلا إذا آمن بتوحيده سبحانه ذاتاً وفعلاً وعبادة، وآمن بمعاده وأنّه سبحانه يبعث من في القبور، وآمن بنبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّها الحلقة الأخيرة من نظام النبوّة التي ترتبط بالسماء.

وثمّة أُصول أُخرى وقعت مثاراً للجدل والنقاش من قِبَل الفرق الإسلاميّة فمنهم من عدّها من جوهر الدين وصميمه، كما أنّ منهم من عدّها من فروع الدين، وهذه كالإمامة والخلافة بعد الرسول فهي عند السنَّة من فروع الدين، لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرع وجود إمام عادل ذي قوة وقدرة وصولة، فتكون الإمامة كالمقدّمة لهذه المسؤولة الخطيرة، ومنهم من يعدّها من أُصول الدين لأنّهم يرون الإمامة منصباً إلهيّاً وأنّ وظيفتها هي استمرار وظائف النبوّة، وإن

٥

كانت النبوة منقطعة بارتحال الرسول لكن الوظيفة بعد باقية.

وكالعدل الّذي اتّفق المسلمون برمّتهم على وصفه سبحانه به، ولكن اختلفوا في مفهوم العدل وحقيقته كما سيوافيك، ولذلك نكرّس جلّ جهودنا على تبيين هذين الموضوعين متمثّلين بقول الصاحب بن عبّاد حيث يقول:

لو شُقّ عن قلبي يُرى وسطَه

سطران قد خُطّا بلا كاتب

العدل والتوحيد في جانب

وحبّ أهل البيت في جانب

ولـمّا كان بين الإمامة والتعرّف على أهل البيتعليهم‌السلام الذين طهرّهم الله، صلة قويمة، أثّرنا فتح باب لبيان سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم.

ومّما تجدر الإشارة إليه أنّ هذه الموسوعة تشكّل الحلقة الأخيرة من سلسلة مفاهيم القرآن، فالواجب يحتّم علينا التنويه بالسير التاريخي للتفسير لدى الإماميّة، وقد ذكرنا من ألوان تفاسيرهم وأسماء كتبهم ما سمح به الوقت، فانّ الإحاطة بها رهن تأليف مفرد.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادقعليه‌السلام

٢١ شوال ١٤٢٠ ه‍

٦

العدل والإمامة

المقدّمة

إنّ العقيدة الإسلامية تنقسم إلى قسمين:

الأوّل: ما يعرف بأُصول الدين.

الثاني: ما يعرف بأُصول المذهب.

ويراد من الأوّل، الأُصولُ الَّتي اتّفق عليها عامّة المسلمين ولم يخالف فيها أحد، وفي الحقيقة تُناط تسمية الإنسان مسلماً بهذه الأُصول الثلاثة، وهي كالتالي:

أ: التوحيد بمراتبه.

ب: المعاد.

ج: النبوّة العامّة والخاصّة.

وهذه الأُصول الثلاثة قد أشبعنا البحث فيها ضمن أجزاء هذه الموسوعة، بقي الكلام في القسم الثاني، وهو ما يعبَّر عنه بأُصول المذهب، التي هي عقيدة بعض المذاهب الإسلامية وهي اثنان:

أ: العدل

ب: الإمامة.

٧

أمّا الأوّل: فيؤمن به الإماميّة والمعتزلة، ويخالفهما الأشاعرة، وسوف يوافيك تفصيل البحث فيه.

وأمّا الثاني: فهو مما يتميّز به المذهب الإمامي الاثنا عشري عن سائر المذاهب، كما سيوافيك.

وربما يُثار سؤال وهو أنّه كيف يمكن عدّ الأصل الأوّل من خصائص الإمامية والمعتزلة على الرغم من أنّ كافّة الطوائف الإسلامية تصف الله سبحانه بالعدل، ولا نجد بين المسلمين من يقول بأنّ الله ظالم ليس بعادل ؟

والجواب: انّ ما ذكر صحيح، وانّ جميع الفرق تصف الله سبحانه بأنّه عادل لا يجور، غير أنّهم يختلفون في معنى « العدل » وكونه عادلاً لا جائراً.

فالإمامية والمعتزلة أصفقت على أنّ العدل له مفهوم واحد، ومعنى فارد، اتّفق عليه قاطبة العقلاء.

مثلاً: أخذ البريء بذنب المجرم ظلم يتنزّه عنه الله سبحانه، وهكذا، فكلّ ما حكم العقل بفعل أنّه ظلم، فالله سبحانه منزَّه عنه.

وعلى ذلك فالحكم بالعدل وتمييز مصاديقه وجزئياته، وانّ هذا عدل وذاك ظلم كلّها ترجع إلى العقل.

وأمّا الأشاعرة فهم وإنْ يصفون الله سبحانه بالعدل، لكنّهم لا يحدّدون العدل، بمفهوم واضح، بل يوكلون ذلك إلى فعل الله سبحانه، وأنّ كلّ ما صدر منه فهو عدل، وكلّ ما نهى عنه فهو ظلم، وبذلك أقصوا العقل عن القضاء في ذلك المقام.

وبعبارة أُخرى: إنّ الشيعة والمعتزلة يرون أنّ للعدل والظلم ملاكاً عند

٨

العقل، وبه يتميز أحدهما عن الآخر، ويوصف الفعل بالعدل أو الظلم، ولكن الأشاعرة ينكرون ذلك الملاك، ويرون أنّ أفعاله سبحانه فوق ما يدركه العقل القاصر.

ولذلك كلّ ما يصدر منه فهو عدل، محتجّين بقوله سبحانه:( لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) .١

وعلى ضوء ذلك يتبين أنّ وحدة الفرق الإسلامية في وصفه سبحانه بالعدل وحدة صورية، وإلّا فالملاك عند الفرقتين للعدل غير ملاكه عند الأشاعرة. فلو أمر سبحانه بتعذيب الأنبياء والأولياء والصدّيقين فهو عند الأشاعرة عدل لا مانع من صدوره عنه، ولكنّه عند غيرهم أمر قبيح لا يصدر منه سبحانه. وهو وإن كان متمكناً من ذلك العمل وقادراً عليه لكن حكمته سبحانه تحول دون ارتكابه.

هذا كلّه حول العدل.

وأمّا الإمامة: فيثار حولها نظير السؤال السابق، فالمسلمون قاطبة يؤمنون بأصل الإمامة وأنّه لابدّ للمسلمين من إمام يأتمّون به، ولكنّهم اختلفوا في خصوصياتها، فهل الإمامة منصب إلهي كالنبوّة لا يناله إلّا الأمثل فالأمثل من الأُمة، ولا يمكن الوقوف على القائم بأعباء الإمامة إلّا من خلال نصبه سبحانه ؟

أو انّه منصِبٌ بشري ومقام اجتماعي يقوم بأعبائه من تُعيّنه طائفة من الأُمّة ؟ وبذلك تختلف وجهة النظر في واقع الإمامة عند الطائفتين.

نبدأ الكلام في الأصل الأوّل من أُصول المذهب، وهو العدل الإلهي.

__________________

١. الأنبياء: ٢٣.

٩
١٠

١١
١٢

الفصل الأوّل

العدل الإلهي في الكتاب العزيز

آيات الموضوع

١.( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) .١

٢.( ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) .٢

٣.( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) .٣

٤.( فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .٤

٥.( وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ *فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا ) .٥

٦.( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ) .٦

__________________

١. آل عمران: ١٨.

٢. آل عمران: ١٨٢.

٣. النساء: ٤٠.

٤. التوبة: ٧٠.

٥. النحل: ٣٣ - ٣٤.

٦. المؤمن: ٣١.

١٣

وقبل أن نخوض في تفسير الآيات، نشير إلى مقدمة، وهي:

إنّ العدلية تصف الله سبحانه بالعدل بالمعنى المتفق عليه بين العقلاء، وبرهانها على ذلك هو أنّ العقل قادر على تمييز الحسن عن القبيح، والعدل عن الظلم، والله سبحانه بما أنّه حكيم لا يجور أبداً، فهاهنا دعويان:

الأُولى: انّ العقل له القابلية على تمييز الحسن عن القبح، وأنّ التحسين والتقبيح من الأُمور المنوطة بقضاء العقل.

الثانية: إذا تبيَّن أنَّ العدل حسن والظُّلم قبيح فالله سبحانه موصوف بالعدل، نزيه عن فعل الظلم. وإليك بيان كلا الدعويين.

أمّا الدعوى الأُولى فتدلُّ عليها أُمور:

الأوّل: التحسين والتقبيح من الأُمور البديهية

إنّ التحسين والتقبيح من الأُمور البديهيَّة التي يدركها كلّ إنسان سليم الفطرة، فمثلاً يدرك أنّ العمل بالميثاق حسن، والتخلّف عنه قبيح، أو أنّ جزاء الإحسان بالإحسان جميل، وجزاءه بالسيّء قبيح. وهكذا سائر الأفعال التي توصف بالحسن والقبح.

وموضوع قضاء العقل بالحسن والقبح هو نفس الفعل بما هوهو، سواء أكان الفاعل واجباً أم ممكناً، خالقاً أم مخلوقاً، فيوصف الفعل من أي فاعل صدر بأحد الوصفين.

وبعبارة أُخرى: كما أنّ مسائل الحكمة النظرية تنقسم إلى نظرية وبديهية، ويستنبط حكم الأُولى من الثانية، ولذلك عدّوا مسألة امتناع اجتماع النقيضين أو

١٤

ارتفاعهما من المسائل البديهية في الحكمة النظرية.

فهكذا الأمر في الحكمة العملية فمسائلها تنقسم إلى بديهية وغير بديهية، ويستنبط حكم الثانية من الأُولى.

والتحسين والتقبيح من المسائل البديهية في الحكمة العملية، وقد حازتا على اهتمام واسع نظراً لدورهما في استنباط سائر مسائل الحكمة العملية.

ولأجل إيضاح المراد نقول: إنّ تحسين بعض الأفعال وتقبيحها من الأُمور البديهية للعقل، ويدلّك على ذلك اتّفاق عامة العقلاء مع اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم على وصف أفعال بالحسن، وأفعال أُخرى بالقبح، نظير:

أ: حسن العدل وقبح الظلم.

ب: حسن العمل بالميثاق وقبح نقضه.

ج: حسن جزاء الإحسان بالإحسان وقبح جزائه بالسيّء.

د: حسن الصدق وقبح الكذب.

ه‍: حسن أداء الأمانة وقبح الخيانة بها.

إلى غيرها من الأُمور التي لا يختلف فيها اثنان، وهذا يدل على أنّ تلك الأفعال موصوفة بالحسن والقبح بالبداهة، وإلّا لما اتفق عليه العقلاء كافة، ولذلك قلنا: إنّ التحسين والتقبيح أمران عقليان.

الثاني: إنكار إدراك العقل يلازم النفي مطلقاً

لقد أنكرت الأشاعرة قابلية إدراك العقل حسنَ الأفعال وقبحها، وذهبوا إلى أنّ القضاء بالتحسين والتقبيح بيد الشرع، فكلّ ما أخبر بحسنه فهو حسن،

١٥

وما أخبر بقبحه فهو قبيح، ولكنّهم غفلوا عن أنّهم بإنكارهم قابلية العقل لإدراك الحسن والقبح، أثبتوا عدم ثبوت الحسن والقبح مطلقاً حتى مع تصريح الشرع، وذلك لأنّه إذا كان تمييز الحسن عن القبيح بيد الشرع دون العقل فإذا أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحسن شيء وقبحه، فمن أين نعلم أنّه يصدق في أخباره ولا يكذب، والمفروض أنّ العقل عاجز عن درك حسن الأوّل وقبح الثاني ؟ فلا يصحّ إثبات حسن شيء أو قبحه من خلال تصريح الشارع، إلّا أن يثبت قبلاً أنّ الصدق حسن والكذب قبيح، ويثبت أنّه سبحانه نزيه عن فعل القبيح، ولولا هذان الأمران لذهب الإخبار بحسن الشيء أو قبحه سدى.

الثالث: لولا التحسين العقلي لما ثبتت شريعة

لو لم نقل بالتحسين والتقبيح العقليين يلزم عدم ثبوت شريعة من الشرائع السماوية، حتى تثبت بها شريعة تحكم بحسن شيء أو قبحه، وذلك لأنّ القائل بالتحسين والتقبيح العقليين، يقول: إنّ حكمته سبحانه تصدّه عن تزويد الكاذب بالمعجزة، فلو ادّعى رجل النبوة من الله وأتى بمعجزة عجز الناس عن مباراته، فهي دليل على صدقه في دعوته.

وأمّا إذا أنكرنا قدرة العقل واستطاعته على درك الحسن والقبح، لكان باب احتمال تزويد الكاذب بالمعجزة مفتوحاً على مصراعيه، وليس هنا دليل يردّ هذا الاحتمال فلا يحصل يقين بصدق دعواه.

وهذه الأدلّة الثلاثة التي سردناها على وجه الإيجاز، تُشرف القارئ على القطع بأنّ العقل له المقدرة على درك الحسن والقبح. هذا كلّه حول الدعوى الأُولى.

١٦

وأمّا الدعوى الثانية وهي أنّه بعد ما تبيَّن أنّ العدل حسنٌ، والظلم قبيح، فالله سبحانه موصوف بالعدل ومنزّه عن الظلم، وذلك، مضافاً إلى أنَّه سبحانه حكيم، والحكيم يعدل ولا يجور - أنّ الجور رهن أحد أمرين، إمّا الجهل بقبح العمل ، أو الحاجة إليه، والمفروض انتفاء كلا المبدأين عنه سبحانه.

وربما يقال إنّ كون الشيء حسناً أو قبيحاً عند الإنسان لا يلازم كونه كذلك عند الله، فكيف يمكن استكشاف أنّه سبحانه لا يفعل القبيح ؟

والجواب عنه واضح لأنّ المدرَك للعقل هو حسن الفعل على وجه الإطلاق، أو قبحه كذلك، من دون أن تكون للفاعل مدخلية فيه سوى كونه فاعلاً مختاراً، وأمّا كونه واجباً أو ممكناً فليس بمؤثرٍ في قضاء العقل. وعلى ذلك فإذا ثبت كون الشيء جميلاً أو قبيحاً فهو عند الجميع كذلك.

شمولية عدله سبحانه

يظهر من الآية الأُولى أنّ عدله يعمُّ جميع شؤونه، حيث يقول:( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ) ١ فقوله:« قائماً » حال من لفظ الجلالة، في قوله: شهد الله، أو الضمير المنفصل، أعني: إلّا هو.

والمتبادر منه أنّه سبحانه يجري العدل في عامة شؤونه في خلقه وتشريعه فهو عادل ذاتاً وفعلاً.

وتشهد على ذلك مضافاً إلى شهادته سبحانه به، شهادة الملائكة وأُولي العلم، فكأنّ الآية تنحل إلى الجمل التالية:

__________________

١. آل عمران: ١٨.

١٧

١. « شهد الله أنّه لا إله إلّا هو قائماً بالقسط ».

٢. « شهدت الملائكة أنّه لا إله إلّا هو قائماً بالقسط ».

٣. « شهد أُولو العلم أنّه لا إله إلّا هو قائماً بالقسط ».

فالآية تدلُّ على شهادته سبحانه على أمرين:١

الأوّل: لا إله إلّا هو، لا نظير له.

الثاني: أنّه قائم بالقسط.

ومن المعلوم أنّ الشهادتين ليستا من مقولة الشهادة اللفظية، وإنّما هي من مقولة الشهادة التكوينية، ففعله سبحانه في عالم الخلقة يدل على أمرين:

الأوّل: لا خالق ولا مدبّر إلّا هو، فانّ اتقان النظام، وسيادته على جميع الكائنات من الذرّة إلى المجرّة، لأوضح دليل على أنّ الخالق والمدبّر واحد، وإلّا لانفصمت عرىٰ الانسجام والاتصال بين أجزاء الكون، وقد أوضحنا في محلّه أنّ تعدّد العلّة واختلاف السببين يستلزم اختلافاً في المسبب، فلا يمكن أن يكون النظام الواحد معلولاً لفاعلين مدبّرين مختلفين في الحقيقة.

الثاني: يشهد فعله سبحانه في عالم التكوين والتشريع أنّه سبحانه عادل وقائم بالعدل.

وأفضل كلمة قيلت في تعريف العدل هي ما روي عن عليٍّعليه‌السلام، حيث قال:

« العدل يضع الأُمور مواضعها ».٢

__________________

١. ما ذكرنا مبنيٌّ على أنَّ قيامه بالقسط منا لمشهود به خلافاً للسيّد الطباطبائي حيث خصَّ الشهادة بالتوحيد.

٢. نهج البلاغة: قسم الحكم، برقم ٤٣٧.

١٨

بيان ذلك انّ لكلّ شيء وضعاً خاصاً يقتضيه إمّا بحكم العقل، أو بحكم الشرع والمصالح الكليّة في نظام الكون، فالعدل هو رعاية ذلك الوضع وعدم الانحراف إلى جانب الإفراط والتفريط.

نعم موضع كلّ شيء بحسبه، ففي التكوين بوجه، وفي المجتمع البشري بوجه آخر، وهكذا. وبلحاظ اختلاف موارده تحصل له أقسام ليس هنا مقام بيانها، إلّا أنّ العدل بالنسبة إلى الله تعالى علىٰ أنحاء ثلاثة:

١. العدل التكويني : وهو إعطاؤه تعالى كلّ موجود ما يستحقه ويليق به من الوجود فلا يهمل قابلية، ولا يعطل استعداداً في مجال الإفاضة والإيجاد.

٢. العدل التشريعي: وهو أنّه تعالىٰ لا يهمل تكليفاً فيه كمال الإنسان وسعادته، وبه قوام حياته المادية والمعنوية الدنيوية، والأُخروية، كما أنّه لا يكلّف نفساً فوق طاقتها.

٣. العدل الجزائي: وهو أنّه تعالى لا يساوي بين المصلح والمفسد، والمؤمن والمشرك، في مقام الجزاء والعقوبة، بل يُجزي كلّ إنسان بما كسب، فيُجزي المحسن بالإحسان والثواب، والمسيء بالإساءة والعقاب، كما أنّه تعالى لا يعاقب عبداً على مخالفة التكاليف إلّا بعد البيان والإبلاغ.

وبذلك تبيَّن معنى الآية، وشهادته سبحانه على كونه قائماً بالقسط في جميع الأنحاء.

وأمّا شهادة الملائكة وأُولي العلم وذلك فبتعليم منه سبحانه.

وأمّا سائر الآيات التي أوردناها في صدر الفصل، فهي غنية عن التفسير، لأنّها بصدد بيان أنّ العذاب في الدنيا والآخرة رهن عمل الإنسان، فلو عُذّب فإنّما

١٩

هو لأجل القبائح والذنوب التي اقترفها، يقول سبحانه:( ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) .١

وقال عزّ من قائل:( فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .٢

والله سبحانه لا يظلم عباده ولو جاء العبد بحسنة يضاعفها، كما قال سبحانه:( وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) .٣

ولأجل إيضاح عدله سبحانه في عالم التكوين والتشريع نعطف النظر إلى آيات تدل على ذلك في الفصل التالي.

__________________

١. آل عمران: ١٨٢.

٢. التوبة: ٧٠.

٣. النساء: ٤٠.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

_ ٨ _

ترك التكبير المسنون فى الصلوات

أخرج الطبراني ( وفي نيل الأوطار: الطبري ) عن أبي هريرة: إنَّ أوَّل من ترك التكبير معاوية، وروى أبو عبيد: انَّ أوَّل من تركه زياد.

وأخرج ابن أبي شيبة من طريق سعيد بن المسيب انّه قال: أوَّل من نقّص التكبير معاوية.(١)

قال ابن حجر في فتح الباري ٢: ٢١٥: هذا لا ينافي الذي قبله، لانّ زياداً تركه بترك معاوية. وكان معاوية تركه بترك عثمان(٢) ، وقد حمل ذلك جماعة من أهل العلم على الإخفاء.

وفي الوسائل الى مسامرة الأوائل ص ١٥: أوَّل من نقّص التكبير معاوية كان إذا قال: سمع الله لمن حمده. انحطّ إلى السجود فلم يكبّر، وأسنده العسكري عن الشعبي، وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم قال: اوّل من نقّص التكبير زياد.

وفي نيل الأوطار للشوكاني ٢: ٢٦٦: هذه الروايات غير متنافية، لانَّ زياداً تركه بترك معاوية، وكان معاوية تركه بترك عثمان وقد حمل ذلك جماعة من اهل العلم على الإخفاء، وحكى الطحاوي: انَّ بني اميّة كانوا يتركون التكبير في الخفض دون الرفع، وما هذه بأوّل سنّة تركوها.

وأخرج الشافعي في كتابه « الامّ » ١: ٩٣ من طريق أنس بن مالك قال: صلّى معاوية بالمدينة صلاة فجهر فيها بالقرائة فقرأ بسم الله الرَّحمن الرَّحيم لامّ القرآن ولم يقراً بها للسورة التي بعدها حتى قضى تلك القرائة، ولم يكبّر حين يهوي حتى قضى تلك - الصَّلاة، فلمّا سلّم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين من كلّ مكان: يا معاوية؟ أسرقت الصَّلاة أم نسيت؟ فلمّا صلّى بعد ذلك قرأ بسم الله الرَّحمن الرَّحيم للسورة التي بعد امّ القرآن وكبّر حين يهوي ساجداً.

وأخرج في كتاب « الامّ » ١: ٩٤. من طريق عبيد بن رفاعة: أنَّ معاوية قدم المدينة

____________________

١ - فتح البارى ٢: ٢١٥، تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ١٣٤، نيل الاوطار ٢: ٢٦٦، شرح الموطأ للزرقانى ١: ١٤٥.

٢ - أخرج حديثه أحمد فى مسنده من طريق عمران كما يأتي في المتن بعيد هذا.

٢٠١

فصلّى بهم فلم يقرأ ببسم الله الرَّحمن الرَّحيم ولم يكبّر إذا خفض وإذا رفع، فناداه المهاجرون حين سلّم والأنصار: أن يا معاوية! سرقت صلاتك؟ أين بسم الله الرَّحمن الرَّحيم؟ وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت؟ فصلّى بهم صلاة اُخرى، فقال: ذلك فيما الذي عابوا عليه.

وأخرجه من طريق انس صاحب « الانتصار » كما في البحر الزخّار ١: ٢٤٩.

قال الأميني: تنمّ هذه الأحاديث عن أنّ البسملة لم تزل جزئاً من السورة منذ نزول القرآن الكريم، وعلى ذلك تمرّنت الاُمّة، وانطوت الضمائر، وتطامنت العقائد، و لذلك قال المهاجرون والأنصار لمـّا تركها معاوية: انَّه سرق ولم يتسنّ لمعاوية أن يعتذر لهم بعدم الجزئيَّة حتى إلتجأ إلى إعادة الصَّلاة مكلّلة سورتها بالبسملة، أوانَّه إلتزم بها في بقيَّة صلواته، ولو كان هناك يومئذ قولٌ بتجرّد السورة عنها لاحتجَّ به معاوية لكنّه قول حادث ابتدعوه لتبرير عمل معاوية ونظرائه من الأمويّين الذين اتّبعوه بعد تبيّن الرشد من الغيّ.

وأمّا التكبير عند كلِّ هويّ وانتصاب فهي سنَّة ثابتة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفها الصحابة كافَّة فانكروا على معاوية تركها، وعليها كان عمل الخلفاء الأربعة، واستقرَّ عليها إجماع العلماء وهي مندوبةٌ عندهم عدا ما يؤثر عن أحمد في إحدى الروايتين عنه من وجوبها وكذلك عن بعض أهل الظاهر، واليك جملة ممّا ورد في المسئلة:

١ - عن مطرف بن عبد الله قال: صلّيت خلف عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنا وعمران بن حصين فكان إذا سجد كبّر، وإذا رفع رأسه كبّر، وإذا نهض من الركعتين كبّر، فلمّا قضى الصَّلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال: قد ذكّرني هذا صلاة محمّد، أو قال: لقد صلّى بنا صلاة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي لفظ لأحمد: قال عمران: ما صلّيت منذ حين. أو قال: منذ كذا كذا أشبه بصلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الصَّلاة. صلاة عليّ.

وفي لفظ آخر له: عن مطرف عن عمران قال: صلّيت خلف عليّ صلاةً ذكّرني صلاةً صلّيتها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخليفتين قال: فانطلقت فصلّيت معه فإذا هو يكبّر كلّما سجد وكلّما رفع رأسه من الركوع فقلت: يا أبا نجيد مَن أوّل من تركه؟ قال عثمان بن عفّان رضي الله عنه حين كبر وضعف صوته تركه.

٢٠٢

صحيح البخاري ٢: ٥٧، ٧٠، صحيح مسلم ٢: ٨، سنن أبي داود ١: ١٣٣، سنن النسائي ٢: ٢٠٤، مسند أحمد ٤: ٤٢٨، ٤٢٩، ٤٣٢، ٤٤٠، ٤٤٤، البحر الزخّار ١: ٢٥٤.

٢ - عن أبي هريرة انّه كان يصلّي بهم فيكبّر كلّما خفض ورفع فإذا انصرف قال: إنّي لأشبهكم صلاة برسول الله. وفي لفظ للبخاري: فلم تزل تلك صلاته حتّى لقي الله.

راجع صحيح البخاري ٢: ٥٧، ٥٨، صحيح مسلم ٢: ٧ بعدّة طرق وألفاظ، سنن النسائي ٢: ١٨١، ٢٣٥، سنن أبي داود ١: ١٣٣، سنن الدارمي ١: ٢٨٥، المدوّنة الكبرى ١: ٧٣، نصب الراية ١: ٣٧٢، البحر الزخّار ١: ٢٥٥.

٣ - عن عكرمة قال: رأيت رجلاً عند المقام يكبّر في كلّ خفض ورفع وإذا قام وإذا وضع فأخبرت ابن عبّاس رضي الله عنه قال: أوَ ليس تلك صلاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا اُمَّ لك.

وفي لفظ: عن عكرمة صلّيت خلف شيخ بمكّة فكبّر ثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لإبن عبّاس: إنّه أحمق فقال: ثكلتك اُمّك سنّة أبي القاسمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

صحيح البخاري ٢: ٥٧، ٥٨، مسند أحمد ١: ٢١٨، البحر الزخّار ١: ٢٥٥.

قال الأميني: يظهر من هذه الرواية انّ تغيير الأمويّين هذه السنّة الشّريفة وفي مقدّمهم معاوية كان مطّرداً بين الناس حتى كادوا أن ينسوا السنّة فحسبوا مَن ناء بها أحمقاً، أو تعجّبوا منه كأنّه أدخل في الشريعة ما ليس منها، كلّ ذلكِ من جرّاء ما اقترفته يدا معاوية وحزبه الأثيمتان، وجنحت إليه ميولهم وشهواتهم، فبُعداً لأولئك القصيِّين عمّا جاء به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤ - عن عليّ وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري وغيرهم: انّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكبّر عند كلِّ خفض ورفع.

صحيح البخاري ٢: ٧٠، سنن الدارمي ١: ٢٨٥، سنن النسائي ٢: ٢٠٥، ٢٣٠، ٢٣٣، المدوَّنة الكبرى ١: ٧٣، نصب الراية ١: ٣٧٢، بدايع الصنايع ١: ٢٠٧، منتقى الأخبار لابن تيميَّة، البحر الزخّار ١: ٢٥٤.

٥ - أخرج أحمد وعبد الرزّاق والعقيلي من طريق عبد الرحمن بن غنم قال: إنّ أبا

٢٠٣

مالك الأشعري [الصحابيّ الشهير بكنيته] قال لقومه: قوموا حتى اصلّي بكم صلاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصففنا خلفه وكبّر. إلى آخر الحديث المذكور بطوله في ج ٨: ١٨١ وفيه انّه كبّر في كلّ خفض ورفع.

٦ - عن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكبّر كلّما خفض ورفع، فلم تزل تلك صلاته حتى قبضه الله.

المدوّنة الكبرى ١: ٧٣، نصب الراية ١: ٣٧٢.

٧ - في المدوّنة الكبرى ١: ٧٢: انَّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى عمّاله يأمرهم أن يكبّروا كلّما خفضوا ورفعوا في الركوع والسجود إلّا في القيام من التَشهّد بَعد الركعتين لا يكبّر حتى يستوي قائماً مثل قول مالك.

هذه سنّة الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تكبير الصَّلوات عند كلِّ هويّ وانتصاب، وبها أخذ الخلفاء، وإليها ذهبت أئمّة المذاهب، وعليها استقرَّ الإجماع، غير أنّ معاوية يقابلها بخلافها ويغيرها برأيه ويتّخذ الأمويّون اُحدوثته سنّة متَّبعة تجاه ما جاء به نبيُّ الإسلام.

قال ابن حجر في فتح الباري ٢: ٢١٥ استقرَّ الأمر على مشروعيّة التكبير في الخفض والرفع لكلّ مصلٍّ، فالجمهور على ندبيّة ما عدا تكبيرة الإحرام، وعن أحمد وبعض اهل العلم بالظاهر يجب كلّه.

وقال في ص ٢١٦: أشار الطحاوي إلى أنّ الاجماع استقرّ على أنَّ مَن تركه فصلاته تامّة، وفيه نظر لما تقدّم عن أحمد، والخلاف في بطلان الصَّلاة بتركه ثابتٌ في مذهب مالك إلّا أن يريد إجماعاً سابقاً.

وقال النووي في شرح مسلم: اعلم أنّ تكبيرة الإحرام واجبةٌ وما عداها سنّة لو تركه صحّت صلاته لكن فاتته الفضيلة وموافقة السنّة، هذا مذهب العلماء كافّة إلّا أحمد بن حنبل رضي الله عنهم في إحدى الروايتين عنه انّ جميع التكبيرات واجبة.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار ٢: ٢٦٥: حكى مشروعيَّة التكبير في كلّ خفض ورفع عن الخلفاء الأربعة وغيرهم ومن بعدهم من التّابعين قال: وعليه عامّة الفقهاء والعلماء، وحكاه ابن المنذر عن أبي بكر الصدِّيق، وعمر بن الخطاب، وابن مسعود،

٢٠٤

وابن عمر، وجابر، وقيس بن عباد، والشافعي، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، ومالك، وسعيد بن عبد العزيز، وعامّة أهل العلم، وقال البغوي في شرح السنّة: اتَّفقت الاُمّة على هذه التكبيرات.

وعن ابن عبد البرّ في شرح الموطأ للزرقاني ١: ١٤٥: وقد اختلف في تاركه فقال ابن القاسم: إن أسقط ثلاث تكبيرات سجد لسهوه وإلّا بطلت، وواحدة أو اثنتين سجد أيضاً، فإن لم يسجد فلا شيىء عَليه، وقال عبد الله بن عبد الحكم وأصبغ: إن سها سجد فإن لم يَسجد فلا شيىء عَليه، وعَمداً أساء وصلاته صحيحة، وعلى هذا فقهاء الأمصار من الشافعيين والكوفيين واهل الحديث والمالكيّين إلّا مَن ذهب منهم مذهب ابن القاسم.

_ ٩ _

ترك التلبية خلافاً لعلىعليه‌السلام

أخرج النسائي في سننه ٥: ٢٥٣، والبيهقي في السنن الكبرى ٥: ١١٣ من طريق سعيد بن جبير قال: كان ابن عبّاس بعرفة فقال: يا سعيد! مالي لا أسمع الناس يلبّون؟ فقلت: يخافون معاوية. فخرج ابن عبّاس من فسطاطه فقال: لبِّيك أللهمّ لبيك، وإن رغم ألف معاوية، اللّهمّ العنهم فقد تركوا السنّة من بغض عليّ.

وقال السندي في تعليق سنن النسائي: ( من بغض عليّ ) أي لأجل بغضه، أي وهو كان يتقيَّد بالسنن فهؤلاء تركوها بغضاً له.

وفي كنز العمّال: عن ابن عبّاس قال: لعن الله فلاناً انّه كان ينهى عن التلبية في هذا اليوم يعني يوم عرفة، لأنَّ عليّاً كان يلبّي فيه. ابن جرير.

وفي لفظ أحمد في المسند ١: ٢١٧ عن سعيد بن جبير قال: أتيت ابن عبّاس بعرفة وهو يأكل رمّاناً فقال: أفطر رسول الله بعرفة وبعثت إليه امّ الفضل بلبن فشربه. وقال: لعن الله فلاناً عمدوا إلى أعظم أيّام الحجّ فمحوا زينته، وإنّما زينة الحجِّ التلبية. وحكاه في كنز العمّال عن ابن جرير الطبري.

وفي تاريخ ابن كثير ٨: ١٣٠ من طريق صحيح عن سفيان عن حبيب عن سعيد عن ابن عبّاس انّه ذكر معاوية وانّه لبّى عشيّة عرفة فقال فيه قولاً شديداً، ثمّ بلغه انّ

٢٠٥

عليّاً لبّى عشيَّة عرفة فتركه.

وقال ابن حزم في المحلّى ٧: ١٣٦: كان معاوية ينهى عن ذلك.

قال الأميني: إنّ السنَّة المسلّمة عند القوم استمرار التلبية إلى رمي جمرة العقبة أوّ لها أو آخرها على خلاف فيه. وإليك ما يؤثر منها عندهم:

١ - عن الفضل: أفضت مع النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عرفات فلم يزل يلبّي حتّى رمى جمرة العقبة، ويكبّر مع كلّ حصاة، ثمَّ قطع التلبية مع آخر حصاة. وفي لفظ: لم يزل يلبّي حتّى بلغ الجمرة.

صحيح البخاري ٣: ١٠٩، صحيح مسلم ٤: ٧١، صحيح الترمذي ٤: ١٥٠، قال: وفي الباب عن عليّ، وابن مسعود، وابن عبّاس، سنن النسائي ٥: ٢٦٨، ٢٧٥، ٢٧٦، سنن ابن ماجة ٢: ٢٤٤، سنن ابي داود ١: ٢٨٧، سنن الدارمي ٢: ٦٢، سنن البيهقي ٥: ١١٢، ١١٩، كتاب الامّ ٢: ١٧٤ وقال: وروى ابن مسعود عن النبيِّ مثله. ه. مسند أحمد ١: ٢٢٦، وأخرجه ابن خزيمة وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ مفسِّراً لما أبهم في الروايات الاُخرى(١) وقال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيرهم.

٢ - عن جابر بن عبد الله واسامة وابن عبّاس: إنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزم التلبية و لم يقطعها حتّى رمى جمرة العقبة.

راجع صحيح البخاري ٣: ١١٤، سنن ابن ماجة ٢: ٢٤٤، المحلّى ٧: ١٣٦، بدايع الصنايع ٢: ١٥٦.

٣ - عن عبد الرَّحمن بن يزيد: انَّ عبد الله بن مسعود لبّى حين أفاض من جمع فقيل له: عن أيّ هذا؟ « وفي لفظ مسلم: فقيل: أعرابيّ هذا » فقال: أنسي الناس أم ضلّوا؟ سمعت الذي اُنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المكان: لبّيك أللهمّ لبّيك.

راجع صحيح مسلم ١: ٣٦٣ وفي ط ٤: ٧١، ٧٢، سنن البيهقي ٥: ١٢٢، المحلّى ٧: ١٣٥ وصحّحه، ورواه الطحاوي باسناد صحيح كما في فتح الباري ٣: ٤٢٠، بدايع الصنايع ٢: ١٥٤.

____________________

١ - نيل الاوطار ٥: ٥٥.

٢٠٦

٤ - عن كُريب مولى ابن عبّاس: إنَّ ميمونة امّ المؤمنين لبّتْ حين رَمَت الجمرة.

كتاب الاُمّ ٢: ١٧٤، سنن البيهقي ٥: ١١٣، المحلّى ٧: ١٣٦

٥ - عن ابن عبّاس: تلبِّي حتى تأتي حرمك إذا رميت الجمرة.

سنن البيهقي ٥: ١١٣.

٦ - عن ابن عبّاس أيضاً: سمعت عمر يلبِّي غداة المزدلفة.

المحلّى لابن حزم ٧: ١٣٦.

٧ - عن ابن عبّاس أيضاً: سمعت عمر بن الخطاب يهلّ وهو يرمي جمرة العقبة فقلت له: فيما الاهلال يا أمير المؤمنين؟ فقال: وهل قضينا نسكنا بعدُ؟

كتاب الاُمّ مختصراً ٢: ١٧٤، سنن البيهقي ٥: ١١٣، المحلّى، ٧: ١٣٦.

٨ - عن ابن عبّاس أيضاً: حججت مع عمر إحدى عشرة حجّة وكان يلبّي حتى يرمي الجمرة.

أخرجه سعيد بن منصور كما في فتح الباري ٣: ٤١٩.

٩ - عن ابن عبّاس أيضاً: التلبية شعار الحجِّ فإن كنت حاجّاً فلبِّ حتى بدء حلّك، وبدء حلّك أن ترمي جمرة العقبة.

أخرجه ابن المنذر باسناد صحيح كما في فتح الباري ٣: ٤١٩.

١٠ - عن ابن مسعود: لا يمسك الحاجّ عن التلبية حتّى يرمي جمرة العقبة.

المحلّى لابن حزم ٧: ١٣٦.

١١ - عن الأسود بن يزيد: انّه سمع عمر بن الخطاب يلبّي بعرفة.

سنن البيهقي ٥: ١١٣، المحلّى ٧: ١٣٦.

١٢ - أخرج ابن أبي شيبة من طريق عكرمة يقول: أهلّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى رمى الجمرة، وأبو بكر وعمر. المحلّى ٧: ١٣٦.

١٣ - عن أنس بن مالك في الجواب عن التلبية يوم عرفة: سرت هذا المسير مع النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه فمنّا المكبّر، ومنا المهلّ، ولا يعيب أحدنا على صاحبه. صحيح مسلم ٤: ٧٣.

٢٠٧

١٤ - عن عائشة، كانت تلبّي بعد عرفة. المحلّي ٧: ٣٦.

١٥ - عن عبد الرَّحمن الأسود: ان أباه صعد إلى ابن الزبير المنبر يوم عرفة فقال له: ما يمنعك أن تهلّ؟ فقد رأيت عمر في مكانك هذا يهلّ فأهلّ ابن الزبير.

المحلّى لابن حزم ٧: ١٣٦.

١٦ - عن مولانا أمير المؤمنين انّه لبّى حتى رمى جمرة العقبة. المحلّى ٧: ١٣٦.

١٧ - عن مولانا عليّ أيضاً انّه لبّى في الحجّ حتّى إذا زاغت الشمس من يوم عرفة قطع التلبية.

أخرجه مالك في الموطأ ١: ٢٤٧ وقال: وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا. وذكره صاحب البحر الزخّار ٢: ٣٤٢.

١٨ - عن عكرمة: كنت مع الحسين بن علي « عليهما السّلام » فلبّى حتّى رمى جمرة العقبة.

هذه هي السنّة المتسالم عليها عند القوم، وبها أخذت أئمّة الفقه والفتوى قال ابن حزم في المحلّى ٧: ١٣٥: لا يقطع التلبية إلّا مع آخر حصاة من جمرة العقبة، فإنَّ مالكا قال: يقطع التلبية إذا نهض إلى عرفة، ثمَّ زيَّف أدلّة مالك، وأنت سمعت قول مالك قُبيل هذا وانّه يخالف ما عزاه إليه ابن حزم.

وقال في ص ١٣٦: لا يقطعها حتى يرمي الجمرة وهو قول أبي حنيفة والشافعي و أحمد وإسحاق وأبي سليمان.

وقال ملك العلماء في البدايع ٢: ١٥٤: لا يقطع التلبية وهذا قول عامَّة العلماء، وقال مالك: إذا وقف بعرفة يقطع التلبية والصحيح قول العامّة.

وقال ابن حجر في فتح الباري ٣: ٤١٩: وباستمرارها قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق وأتباعهم.

وفي نيل الأوطار ٥: ٥٥: انَّ التلبية تستمرّ إلى رمي جمرة العقبة، وإليه ذهب الجمهور.

هذا ما تسالمت عليه الاُمّة سلفاً وخلفاً، لكن معاوية جاء متهاوناً بالسنّة لمحض أن عليّاًعليه‌السلام كان ملتزماً بها، فحدته بغضاءه إلى مضادّته ولو لزمت مضادّة السنّة،

_١٣_

٢٠٨

ومحو زينة الحجّ، هذه نظريّة خليفة المسلمين فيما حسبوه، وهذا مبلغه من الدين ومبوّأه من الأخذ بسنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلهفي على المسلمين من متغلّب عليهم بإسم الخلافة.

وإنّي لست أدري أكان من السائغ الجائز لعن ابن عبّاس وهو محرمٌ في ذلك الموقف العظيم، في مثل يوم عرفة اليوم المشهود معاوية باغض عليّ أمير المؤمنين ومناوئه تارك سنّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ هلّا كان حبر الاُمّة يعلم أنَّ الصحابة كلّهم عدول؟ أو انّ الصحابيّ كائناً من كان لا يجوز سبّه؟ أو انّ معاوية مجتهدٌ وللمخطأ من المجتهدين أجرٌ واحد؟ أنا لا أدري، غير أنَّ ابن عبّاس لا يقول بالتافه ولا يخبت إلى الخرافة.

وما أظلم معاوية الجاهل بأحكام الله؟ فانّه يخالف هاهنا عليّاًعليه‌السلام وهو بكلّه حاجة وافتقار إلى علم الإمام الناجع، قال سعيد بن المسيّب: إنَّ رجلاً من أهل الشام وجد رجلاً مع امرأته فقتله وقتلها فأشكل على معاوية الحكم فيه فكتب إلى أبي موسى ليسأل له عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم فقال له عليٌّ رضي الله عنه: هذا شيىءُ ما وقع بأرضي عزمت عليك لتخبرنِّي.

فقال له أبو موسى: إنَّ معاوية كتب إليّ به أن أسألك فيه. فقال عليٌّ رضي الله عنه: أنا أبو الحسن إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمّته(١) .

أخرجه مالك في الموطأ ٢: ١١٧، سنن البيهقي ٨: ٢٣١، تيسير الوصول ٤: ٧٣

لفت نظر

هذه النزعة الأمويّة الممقوتة بقيت موروثة عند من تولّى معاوية جيلاً بعد جيل فترى القوم يرفعون اليد عن السنّة الثابتة خلافاً لشيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أو احياء لما سنّته يد الهوى تجاه الدين الحنيف. كما كان معاوية يفعل ذلك احياءً لما أحدثه خليفة بيته الساقط تارة، كما مرَّ في الإتمام في السَّفر ومواضع اُخرى، وخلافاً للامام آونةً كما في التلبية وغيرها.

قال الشيخ محمّد بن عبد الرّحمن الدمشقي في كتاب « رحمة الامَّة في اختلاف الأئمَّة » المطبوع بهامش الميزان للشعراني ١: ٨٨: السنّة في القبر التسطيح، وهو أولى على الراجح من مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: التسنيم أولى لأنَّ التسطيح

____________________

١ - الرمة: الحبل الذى يقاد به الجانى.

٢٠٩

صار شعاراً للشيعة.

وقال الغزالي والماوردي: إنَّ تسطيح القبور هو المشروع لكن لمـّا جعلته الرافضة شعاراً لهم عدلنا عنه إلى التسنيم.

وقال مصنِّف « الهداية » من الحنفيّة: إنَّ المشروع التختّم في اليمين ولكن لمـّا اتَّخذته الرافضة جعلناه في اليسار. ه.

وأوَّل من اتّخذ التختّم باليسار خلاف السنّة هو معاوية كما في ربيع الأبرار للزمخشري.

وقال الحافظ العراقي في بيان كيفيّة اسدال طرف العمامة: فهل المشروع إرخاؤه من الجانب الأيسر كما هو المعتاد أو الأيمن لشرفه؟ لم أر ما يدلّ على تعيين الأيمن إلّا في حديث ضعيف عند الطبراني، وبتقدير ثبوته فلعلّه كان يرخيها من الجانب الأيمن ثمّ يردُّها إلى الجانب الأيسر كما يفعله بعضهم، إلّا أنّه صار شعاراً للإمامية فينبغي تجنّبه لترك التشبّه بهم. شرح المواهب للزرقاني ٥: ١٣.

وقال الزمخشري في تفسيره ٢: ٤٣٩: القياس جواز الصَّلاة على كلِّ مؤمن لقوله تعالى:( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ) . وقوله تعالى:( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ) . وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أللّهمّ صلّ على آل أبي أوفى. ولكن للعلماء تفصيلاً في ذلك وهو: انّها إن كانت على سبيل التبع كقولك صلّى الله على النبيِّ وآله فلا كلام فيها، وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصَّلاة كما يفرد هو فمكروهٌ لأنَّ ذلك شعار لذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأنّه يؤدّي إلى الإتِّهام بالرفض، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يقفن مواقف التّهم.

وقال ابن تيميّة في منهاجه ٢: ١٤٣ عند بيان التشبّه بالروافض: ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبّات إذا صارت شعاراً لهم، فانّه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم فلا يتميّز السنّي من الرافضي، و مصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة هذا المستحبّ.

ثمّ جعل هذا كالتشبّه بالكفّار في وجوب التجنّب عن شعارهم، وسيوافيك التفصيل في بيان هذه كلّها ونظراؤها عند الكلام عن الفتاوى الشاذَّة عن الكتاب والسنّة إن

٢١٠

شاء الله تعالى.

وقال الشيخ اسماعيل البروسوي في تفسيره [روح البيان] ٤: ١٤٢: قال في عقد الدرر واللئالي:(١) المستحبّ في ذلك اليوم - يعني يوم عاشوراء - فعل الخيرات من الصَّدقة والصوم والذكر وغيرهما، ولا ينبغي للمؤمن أن يتشبّه بيزيد الملعون في بعض الأفعال، وبالشيعة والروافض والخوارج أيضاً. يعني لا يجعل ذلك اليوم يوم عيد أو يوم مأتم، فمن اكتحل يوم عاشوراء فقد تشبّه بيزيد الملعون وقومه، وإن كان للاكتحال في ذلك اليوم أصلٌ صحيحٌ، فإنَّ ترك السنّة سنّةٌ إذا كان شعاراً لأهل البدعة كالتختّم باليمين فانّه في الأصل سنّة لكنّه لمـّا كان شعار أهل البدعة والظلمة صارت السنّة أن يجعل الخاتم في خنصر اليد اليسرى في زماننا كما في شرح القهستاني.

ومن قرأ يوم عاشوراء وأوائل المحرّم مقتل الحسين رضي الله عنه، فقد تشبّه بالروافض، خصوصاً إذا كان بألفاظ مخلّة بالتعظيم لأجل تحزين السامعين، وفي كراهية القهستاني: لو أراد ذكر مقتل الحسين ينبغي أن يذكر أوَّلاً مقتل سائر الصحابة لئلّا يشابه الروافض.

وقال حجّة الإسلام الغزالي: يحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين و حكايته وما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم، فانّه يهيج بغض الصحابة والطعن فيهم وهم أعلام الدين، وما وقع بينهم من المنازعات فيحمل على محامل صحيحة، ولعلّ ذلك لخطأ في الإجتهاد لا لطلب الرياسة والدنيا كما لا يخفى.اهـ.

وقال ابن حجر في فتح الباري ١١: ١٤٢: تنبيهٌ: اختلف في السَّلام على غير الأنبياء بعد الإتفاق على مشروعيّته في تحيّة الحيّ، فقيل: يشرع مطلقاً. وقيل: بل تبعاً ولا يفرد لواحد لكونه صار شعاراً للرافضة. ونقله النووي عن الشيخ أبي محمّد الجويني.

_ ١٠ _

احدوثة تقديم الخطبة على الصلاة

قال الزرقاني في شرح الموطأ ١: ٣٢٤ في بيان كون الصَّلاة قبل الخطبة في العيدين:

____________________

١ - فى فضل الشهور والايام والليالى للشيخ شهاب الدين احمد بن ابى بكر الحموى الشهير بالرسّام.

٢١١

ففي الصحيحين عن ابن عبّاس شهدت العيد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر فكلّهم كانوا يصلّون قبل الخطبة، واختلف في أوَّل من غيَّر ذلك، ففي مسلم عن طارق بن شهاب: أوَّل مَن بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصَّلاة مروان، وفي رواية ابن المنذر بسند صحيح عن الحسن البصري: أوَّل من خطب قبل الصَّلاة عثمان صلّى بالناس ثمّ خطبهم أي على العادة فرأى ناساً لم يدركوا الصَّلاة ففعل ذلك أي صار يخطب قبل الصّلاة، وهذه العلة غير التي اعتلّ بها مروان لأنَّ عثمان راعى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصّلاة، وأمّا مروان فراعى مصلحتهم في إسماعهم الخطبة، لكن قيل: إنّهم في زمنه كانوا يتعمّدون ترك سماعهم لما فيها مِن سبّ مَن لا يستحقّ السبّ والافراط في مدح بعض الناس، فعلى هذا إنَّما راعى مصلحة نفسه، ويحتمل انّ عثمان، فعل ذلك أحياناً بخلاف مروان فواظب عليه فلذا نسب إليه، وعن عمر مثل فعل عثمان، قال عياض ومن تبعه: لا يصحّ عنه. وفيه نظر لأنّ عبد الرزّاق وابن أبي شيبة روياه جميعاً عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن يوسف بن عبد الله بن سلام، وهذا إسنادٌ صحيح، لكن يعارضه حديثا ابن عبّاس وابن عمر، فإن جمع بوقوع ذلك منه نادراً و إلّا فما في الصحيحين أصحّ.

وأخرج الشافعي عن عبد الله بن يزيد نحو حديث ابن عبّاس وزاد حتّى قدم معاوية فقدَّم الخطبة، وهذا يشير إلى أنَّ مروان إنَّما فعل ذلك تبعاً لمعاوية، لأنّه كان أمين المدينة من جهته، وروى عبد الرزّاق عن ابن جريج عن الزهري: أوَّل مَن أحدث الخطبة قبل الصَّلاة في العيد معاوية، وروى ابن المنذر عن ابن سيرين: أوَّل مَن فعل ذلك زياد بالبصرة. قال عياض: ولا مخالفة بين هذين الأثرين وأثر مروان لأنَّ كلًّا من مروان وزياد كان عاملاً لمعاوية فيحمل على أنّه إبتدأ ذلك وتبعه عمّاله.اهـ.

وقال السكتواري في محاضرة الأوائل ص ١٤٤: أوّل من بدأ بالخطبة قبل الصّلاة معاوية، وجرى ذلك في الاُمراء المروانيَّة كمروان وزياد وهو فعله بالعراق، و معاوية بالمدينة شرَّفها الله تعالى.

قال الأميني: مرَّ في الجزء الثامن ص ١٦٤ - ١٧١ بيان السنَّة الثابتة في خطبة العيدين، وانَّها بعد الصّلاة كما مضى عليه الرَّسول الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّبعه الشيخان و

٢١٢

عثمان ردحاً من أيّامه ثمّ حداه عيُّه عن تلفيق الخطبة بصورة مرضيّة، فكانت الناس تتفرّق عن استماعها، إلى تقديمها على الصّلاة ليمنعهم انتظارهم لها عن الانجفال، ثمّ اقتصَّ أثره عمّاله والمتغلّبون على الاُمّة من بعدُ من بني أبيه وإن افترقت العلّة فيهم عنها فيه، فإنَّهم لمـّا طغوا في البلاد طفقوا يسبّون أمير المؤمنين عليّاًعليه‌السلام في خطبهم، فكان الحضور لا يستبيحون ذلك فيتفرَّقون، فبدا لهم تقديمها لإسماع الناس.

وأوَّل من أحدث اُحدوثة السبِّ هو معاوية، فالشنعة عليه في المقام أعظم ممّن بدَّل السنّة قبله، فانّه وإن تابع البادي على البدعة غير انّه قرنها باُخرى شوهاء شنعاء، فأمعن النظرة في تطبيق هذه البدعة بصورتها الأخيرة على ما صحَّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله: من سبَّ عليّاً فقد سبّني ومن سبّني فقد سبَّ الله(١) وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تسبّوا عليّاً فإنّه ممسوسٌ بذات الله(٢) ثمَّ ارجع البصر كرّتين إلى أنّه هل يُباح لأيّ مسلم أن يجتهد بجواز سبّ مولانا أمير المؤمنين تجاه نصّ الكتاب العزيز في تطهيره وولايته ومودَّته وكونه نفس النبيِّ الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تجاه هذا النصِّ الجليِّ الخاص لهعليه‌السلام والنصوص العامّة الواردة في سباب المؤمن مثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سباب المسلم فسوق؟!(٣) وهل يشكّ مسلمٌ انَّ أمير المؤمنين أوَّل المسلمين وأولاهم بهم من أنفسهم وهو أميرهم وسيّدهم؟!

_ ١١ _

حدّ من حدود الله متروك

ذكر الماوردي وآخرون: إنَّ معاوية أتى بلصوص فقطعهم حتى بقي واحدُ من بينهم فقال:

يميني أمير المؤمنين اُعيذها

بعفوك أن تلقى نكالاً يبينها

يدي كانت الحسناء لو تمَّ سترها

ولا تعدم الحسناء عيناً يشينها

فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة

إذا ما شمالي فارقتها يمينها

فقال معاوية: كيف أصنع بك؟ قد قطعنا أصحابك. فقالت امّ السارق: يا أمير

____________________

١ - أخرجه الحفاظ باسناد رجاله كلهم ثقات صححه الحاكم والذهبى.

٢ - حلية الاولياء ١: ٦٨.

٣ - أخرجه البخارى ومسلم والترمذى وابن ماجة والنسائى والحاكم والدارقطنى وغيرهم فى الصحاح والمسانيد.

٢١٣

المؤمنين إجعلها في ذنوبك الّتي تتوب منها. فخلّى سبيلها، فكان أوّل حدّ ترك في الإسلام(١) .

قال الأميني: أفهل عرف معاوية من هذا اللّصّ خصوصيّة إستثنته من حكم الكتاب النهائيِّ العامّ « السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما » ؟! أم أنّ الرأفة بامّه تركت حدّاً من حدود الله لم يُقم؟! وفي الذكر الحكيم:( وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) (٢) ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٣) ( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا ) (٤) أم أنّه كان لمعاوية مؤمِّنٌ مِن العقاب غداً وإن تعمّد اليوم بإلغاء حدّ من حدود الله؟ وهل نيّة التوبة عن المعصية تبيح إجتراح تلك السيّئة؟ إنّ هذا لشيىءٌ عجابٌ، ومَن ذا الذي طمَّنه بأنّه سيوفّق للتوبة عنها ولا يحول بينه وبينها ذنوبٌ تسلبه التوفيق، أو عظائم تسلبه الإيمان، أو استخفافٌ بالشريعة ينتهي به إلى نار الخلود؟ ويظهر منه أنّ التعمّد باقتراف الذنوب بأمل التوبة كان مطرداً عند معاوية، وهذا ممّا يخلّ بأنظمة الشريعة، ونواميس الدين، وطقوس الإسلام، فانّ النفوس الشريرة إنمّا تترك أكثر المعاصي خوفاً مِن العقوبة الفعليّة، فإن زُحزحت عنها بأمثال هذه التافهات لم يبق محظورٌ - يُفسد النفوس، ويقلق السّلام، ويعكّر صفو الاسلام - إلّا وقد عمل به، و هذا نقصٌ لغاية التشريع، وإقامة الحدود الكابحة لجماح الجرأة على الله ورسوله.

وهب أنَّ التوبة مكفّرةٌ للعصيان في الجملة، ولكن مَن ذا الذي أنبأه إنّها من تلك التوبة المقبولة؟( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) (٥) .

____________________

١ - الاحكام السلطانية ص ٢١٩، تاريخ ابن كثير ٨: ١٣٦، محاضرة السكتوارى ص ١٦٤

٢ - سورة الطلاق: ١.

٣ - سورة البقرة: ٢٢٩.

٤ - سورة النساء: ١٤.

٥ - سورة النساء: ١٧، ١٨.

٢١٤

_ ١٢ _

معاوية ولبسه ما لا يجوز

أخرج أبو داود من طريق خالد قال: وفد المقدام بن معدي كرب وعمرو بن الأسود ورجل من بني أسد من أهل قنسرين إلى معاوية بن أبي سفيان فقال معاوية للمقدام: أعلمت انّ الحسن بن علي توفّي؟ فرجع المقدام فقال له رجلٌ(١) أتراها مصيبة؟ فقال: ولِمَ لا أراها مصيبة؟ وقد وضعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجره فقال: هذا منّي وحسينٌ من علي.

فقال الأسدي: جمرةٌ اطفأها الله عزَّ وجلّ قال فقال المقدام: أمّا أنا فلا أبرح اليوم حتى اغيظك واسمعك ما تكره ثمّ قال: يا معاوية! إن أنا صدقت فصدّقني. وإن أنا كذبت فكذِّبني، قال: أفعل. قال فانشدك بالله هل تعلم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن لبس الحرير؟ قال: نعم. قال: فانشدك بالله هل سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهى عن لبس الذَّهب؟ قال نعم. قال: فانشدك بالله هل تعلم انَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن لبس جلود السّباع والركوب عليها؟ قال: نعم. قال فوالله لقد رأيت هذا كلّه في بيتك يا معاوية! فقال معاوية: قد علمت أنّي لن أنجو منك يا مقدام!(٢)

قال الأميني: هل يُرجى خيرٌ ممّن اعترف بكلِّ ما قيل له من المحظورات المتسالم عليها التي ارتكبها؟ فهلّا اقلع عنها لمـّا ذكر بحكمها الذي نسيه أو لم يعبأ به؟ لكنَّ الرّجل طاغوتٌ يعمل عمل الفراعنة ولم يكترث لمغبّته، ولم يبالي بمخالفة السنّة الثابتة، فزَهٍ به من خَليفة تولّى أمر الاُمّة بغير مرضاتها، وتغلّب على إمرتها مِن دون أيّ حنكة.

قد جاء في كتاب لأمير المؤمنينعليه‌السلام إلى عمرو بن العاص قوله: فإنّك قد جعلت دينك تبعاً لدينا امرئ ظاهرٍ غيّه، مهتوك ستره. إلخ.

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ٤: ٦٠: فأمّا قولهعليه‌السلام في معاوية « ظاهر غيُّه » فلا ريب في ظهور ضلاله وبغيه وكلّ باغٍ غاوٍ. وأمّا « مهتوكٌ ستره » فانّه كان كثير الهزل والخلاعة صاحب جلساء وسمار، ومعاوية لم يتوقّر ولم يلزم قانون الرياسة

____________________

١ - فى مسند أحمد ٤ ص ١٣٠: فقال له معاوية: أتراها مصيبة. انظر الى امانة أبى داود.

٢ - سنن أبى داود ٢: ١٨٦.

٢١٥

إلّا منذ خرج على أمير المؤمنين، واحتاج إلى الناموس والسكينة وإلّا فقد كان في أيّام عثمان شديد الهتك موسوماً بكلِّ قبيح، وكان في أيّام عمر يستر نفسه قليلاً خوفاً منه إلّا انّه كان يلبس الحرير والديباج، ويشرب في آنية الذهب والفضة ويركب البغلات ذوات السروج المحلاّة بهما جلال الديباج والوشي، وكان حينئذ شابّاً، وعنده نزق الصبا، وأثر الشبيبة، وسكر السلطان والإمرة، ونقل الناس عنه في كتب السيرة انّه كان يشرب الخمر في أيّام عثمان في الشام، وأمّا بعد وفاة أمير المؤمنين واستقرار الأمر له فقد اختلف فيه، فقيل: انّه شرب الخمر في ستر. وقيل: انّه لم يشرب. ولا خلاف في أنّه سمع الغناء وطرب عليه وطرب عليه وأعطى ووصل إليه أيضاً. إقرأ وتبصّر.

_ ١٣ _

مأسأة الاستلحاق

سنة أربع وأربعين

كان من ضروريّات الاسلام إلى هذه السنة ٤٤، إلى هذا اليوم الأشنع الذي تقدّم فيه ابن آكلة الأكباد ببدعته الخرقاء على ما قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بملأ فمه المبارك، و اتَّخذته الاُمّة أصلاً مسلّماً في باب الأنساب: الولد للفراش وللعاهر الحجَر.

جاء هذا الحديث من طريق ابي هريرة في الصحاح الست: صحيح البخارى ٢: ١٩٩ في - الفرائض، صحيح مسلم ١: ٤٧١ في الرضاع، صحيح الترمذي ١: ١٥٠، و ج ٢: ٣٤، سنن النسائي ٢: ١١٠، سنن أبي داود ١: ٣١٠، سنن البيهقى ٧: ٤٠٢، ٤١٢.

ومن طريق عائشة أخرجه الحفاظ المذكورون إلا الترمذي كما في نصب الراية للزيلعي ٣: ٢٣٦. ومن طريق عمر وعثمان في سنن البيهقي ٧: ٤١٢، ومن طريق عبد الله بن عمرو، أخرجه أبو داود في اللعان ١: ٣١٠، وأخرجه أحمد في مسنده من غير طريق ج ١: ١٠٤، ج ٢: ٤٠٩، ج ٥: ٣٢٦ وغيرها.

وصحّ عند الاُمّة قول نبيّهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ادّعى أباً في الإسلام غير أبيه فالجنّة عليه حرام(١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خطبة له بمنى: لعن الله من ادّعى إلى غير أبيه، أو تولّى غير مواليه،

____________________

١ - مسند احمد ٥: ٣٨، ٤٦، سنن البيهقى ٧: ٤٠٣.

٢١٦

الولد للفراش وللعاهر الحجَر. وفي لفظ:

الولد للفراش وللعاهر الحجَر، ألا ومن ادّعى إلى غير أبيه، أو تولّى غير مواليه رغبة عنهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ(١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس من رجل ادّعى بغير أبيه وهو يعلم إلّا كفر، ومن ادّعى ما ليس له فليس منّا(٢) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ادَّعى إلى غير أبيه لم يرح رائحة الجنَّة وإنَّ ريحها ليوجد من قدر سبعين عاماً. أو: مسيرة سبعين عاماً(٣) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ادّعى إلى غير أبيه وهو يعلم انّه غير أبيه فالجنّة عليه حرام(٤) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ادّعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة(٥) .

لكن سياسة معاوية المتجهِّمة تجاه الهتافات النبويّة أصمته عن سماعها وجعلت للعاهر كلّ النصيب، فوهبت زياداً كلّه لأبي سفيان العاهر، بعد ما بلغ أشدّه لمـّا وجد فيه من اُهبة الوقيعة في أضداده وهم أولياء عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وُلد زياد على فراش عُبيد مولى ثقيف، وربّي في شرّ حجر، ونشأ في أخبث نشء، فكان يقال له قبل الاستلحاق: زياد بن عبيد الثقفي، وبعده زياد بن أبي سفيان، ومعاوية نفسه كتب إليه في أيّام الحسن السبط سلام الله عليه: من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن عُبيد، أمّا بعد: فإنّك عبدٌ قد كفرت النعمة، واستدعيت النقمة، ولقد كان الشكر اُولى بك من الكفر، وإنَّ الشجرة لتضرب بعرقها، وتتفرّع من أصلها، انّك لا اُمَّ لك، بل لا أب لك، يقول فيه: أمس عبدٌ واليوم أميرٌ، خطّةٌ

____________________

١ - رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى راجع مسند أحمد ٤: ١٨٦، ١٨٧، مسند ابى داود الطياسى ص ١٦٩، الترغيب والترهيب ٣: ٢١.

٢ - أخرجه البخارى ومسلم وعنهما البيهقى فى السنن ٧: ٤٠٣، وابن المنذر فى الترغيب والترهيب ٣: ٢١.

٣ - سنن ابن ماجة ٢: ١٣١، تاريخ بغداد ٢: ٣٤٧، الترغيب والترهيب ٣: ٢١.

٤ - رواه البخارى ومسلم وأبو داود وابن ماجة كما فى سنن البيهقى ٧: ٤٠٣، والترغيب والترهيب ٣: ٢١.

٥ - الترغيب والترهيب ٣: ٢٢ عن أبى داود.

٢١٧

ما ارتقاها مثلك يا بن سميّة، وإذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة وأسرع الإجابة فإنّك إن تفعل فدمك حقنت، ونفسك تداركت، وإلّا اختطفتك بأضعف ريش ونلتك بأهون سعي، واُقسم قسماً مبروراً أن لا أوتى بك إلّا في زمارة تمشي حافياً من أرض فارس إلى الشام حتى اُقيمك في السوق وأبيعك عبداً، واردُّك إلى حيث كنت فيه و خرجت منه. والسّلام(١) .

ثمّ لمـّا انقضت الدولة الأمويّة صار يُقال له: زياد بن أبيه، وزياد بن امّه، وزياد بن سميّة، اُمّه « سميّة » كانت لدهقان من دهاقين الفرس بزندرود بكسكر، فمرض الدهقان فدعا الحارث بن كلدة الطبيب الثقفي فعالجه فبرأ فوهبه سميّة وزوّجها الحارث غلاماً له روميّاً يقال له: عبيد. فولدت زياداً على فراشه، فلمّا بلغ أشدّه اشترى أباه عُبيداً بألف درهم فأعتقه، كانت امّه من البغايا المشهورة بالطائف ذات راية.

أخرج أبو عمرو ابن عساكر قالا: بعث عمر بن الخطاب زياداً في اصلاح فساد وقع باليمن فرجع من وجهه وخطب خطبة لم يسمع الناس مثلها، فقال عمرو بن العاصي: أما والله لو كان هذا الغلام قرشيّاً لساق العرب بعصاه. فقال أبو سفيان: والله إنّي لأعرف الذي وضعه في رحم امّه، فقال له عليُّ بن أبي طالب: ومَن هو يا أبا سفيان؟ قال: أنا. قال: مهلاً يا أبا سفيان.

وفي لفظ ابن عساكر: فقال له عمرو: اسكت يا أبا سفيان! فانّك لتعلم أنِّ عمر إن سمع هذا القول منك كان سريعاً إليك بالشرِّ فقال أبو سفيان:

أما والله لولا خوف شخص

يراني عليّ من الأعادي

لأظهر أمره صخر بن حرب

ولم يكن المقالة عن زياد

وقد طالت مجاملتي ثقيفاً

وتركي فيهمُ ثمر الفؤادِ

فذلك الذي حمل معاوية على ما صنع بزياد(٢) .

وفي العقد الفريد ٣: ٣: أمر عمر زياداً أن يخطب فأحسن في خطبته وجوَّد وعند أصل المنبر أبو سفيان بن حرب وعليّ بن أبي طالب فقال أبو سفيان لعليّ: أيعجبك ما سمعت من هذا الفتى؟ قال: نعم. قال: أما انّه ابن عمّك. قال: وكيف ذلك؟ قال:

____________________

١ - شرح ابن الحديد ٤: ٦٨.

٢ - الاستيعاب ١: ١٩٥، تاريخ ابن عساكر ٥: ٤١٠.

٢١٨

أنا قذفته في رحم امّه سميّة. قال: فما يمنعك أن تدّعيه؟ قال: أخشى هذا القاعد على المنبر - يعني عمر - أن يفسد عليَّ أهابي. فبهذا الخبر استلحق معاوية زياداً وشهد له الشهود بذلك. وهذا خلاف حكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله: الولد للفراش وللعاهر الحجَر.

قال الأميني: لو كان معاوية استلحق زياداً بهذا الخبر لكان استلحاقه عمرو بن العاص أولى. إذ ادَّعاه أبو سفيان يوم ولادته قائلاً: أما انّي لا أشكّ انّي وضعته في رحم اُمّه.

واختصم معه العاص، غير أنّ النابغة أبت إلّا العاص لما زعمت من الشحّ في أبي سفيان وفي ذلك قال حسّان بن ثابت:

أبوك أبو سفيان لا شكّ قد بدت

لنا فيك منه بيّنات الدلايلِ

ففاخر به إمّا فخرت ولا تكن

تفاخر بالعاص الهجين بن وائلِ

إلى آخر ما مرَّ في الجزء الثَّاني ص ١٢٣ ط ٢.

نعم: لكلّ بغيّ كان يتّصل بسميّة امّ زياد، والنابغة امّ عمرو، وهند امّ معاوية، وحمامة اُمّ أبي سفيان، والزرقاء امّ مروان، وأضرابهنّ من مشهورات البغاء ويأتيهنّ أن يختصم في ولايدهنّ.

كتب معاوية إلى زياد يوم كان عامل عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام : أمّا بعد فإنّ العشَّ الذي ربِّيت به معلومٌ عندنا فلا تدع أن تأوي إليه كما تأوي الطيور إلى أوكارها، ولولا شيىءٌ والله أعلم به لقلت كما قال العبد الصالح: فلنأتينّهم بجنود لا قبَل لهم بها، ولنخرجنَّهم منها أذلّة وهم صاغرون. وكتب في آخر كتابه:

لِلّه درّ زياد أيّما رجل

لو كان يعلم ما يأتي وما يذرُ

تنسى أباك وقد حقّت مقالته

إذ تخطب الناس والوالي لنا عمرُ

فافخر بوالدك الأدنى ووالدنا

إنَّ ابن حرب له في قومه خطرُ

إنّ انتهازك قوماً لا تناسبهم

عدّ الأنامل عار ليس يغتفرُ

فانزل بعيداً فإنّ الله باعدهم

عن كلِّ فضل به يعلو الورى مضرُ

فالرأي مطرف والعقل تجربة

فيها لصاحبها الايراد والصدرُ

فلمّا ورد الكتاب على زياد قام في الناس فقال: العجب كلّ العجب من ابن آكلة الأكباد ورأس النفاق يخوّفني بقصده إيّاي وبيني وبينه ابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في

٢١٩

المهاجرين والأنصار، أما والله لو أذن في لقاءه أعرف الناس بضرب السيف. واتّصل الخبر بعليّ رضي الله عنه، فكتب إلى زياد:

أمّا بعد: فقد ولّيتك الذي ولّيتك وأنا لا أزال له أهلاً، وانّه قد كانت من أبي سفيان فلتة من أمانيِّ الباطل، وكذب النفس، لا يوجب له ميراثاً، ولا يحلّ له نسبا - وفي لفظ: لا تستحقُّ بها نسباً ولا ميراثاً - وإنَّ معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فأحذر ثمّ احذر، والسّلام.

فلمّا بلغ أبا بكرة أخا زياد لامِّه سميّة: انّ معاوية استلحقه وانّه رضي ذلك آلى يميناً أن لا يكلّمه أبداً وقال: هذا زنا امّه وانتفى من أبيه، ولا والله ما علمت سميّة رأت أبا سفيان قطّ، ويله ما يصنع باُمِّ حبيبة زوج النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ( بنت أبي سفيان ) أيريد أن يراها؟ فإن حجبته؟ فضحته، وإن رآها؟ فيالها مصيبة؟ يهتك مِن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرمة عظيمة. وحجَّ زياد في زمن معاوية ودخل المدينة فأراد الدخول على اُمِّ حبيبة ثمَّ ذكر قول أبي بكرة فانصرف عن ذلك. وقيل: إنّ امّ حبيبة حجبته ولم تأذن له في الدخول عليها.

قال أبو عمر: لما ادَّعى معاوية زياداً دخل عليه بنو اميّة وفيهم عبد الرّحمن بن الحكم فقال: يا معاوية! لو لم تجد إلّا الزنج لاستكثرت بهم علينا قلّة وذلّة. فأقبل معاوية على مروان وقال: أخرج عنّا هذا الخليع. فقال مروان: والله انّه لخليع ما يطاق. فقال معاوية: والله لولا حلمي وتجاوزي لعلمت أنّه يطاق، ألم يبلغني شعره فيَّ وفي زياد ثمَّ قال لمروان: اسمعينه. فقال:

ألا ابلغ معاوية بن صخر

لقد ضاقت بما تأتي اليدانِ

أتغضب أن يُقال: أبوك عفٌّ؟

وترضى أن يقال: أبوك زانِ؟!

فأشهد انّ رحمك من زياد

كرحم الفيل من وُلد الاتانِ

وأشهد انّها حملت زياداً

وصخرٌ من سميّة غير دانِ

هذه الأبيات تُروى لزياد(١) بن ربيعة بن مفرغ الحميري الشاعر ومَن رواها له جعل أوَّلها:

____________________

١ - هو يزيد بن ربيعة الشاعر الشهير توجد ترجمته فى الاغانى ١٧: ٥١ - ٧٣.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457