مفاهيم القرآن الجزء ١٠

مفاهيم القرآن13%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-148-3
الصفحات: 457

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 457 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135432 / تحميل: 5236
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١٠

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-١٤٨-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الفصل الثاني

مظاهر العدل الإلهي

في عالم الخلق

آيات الموضوع

١.( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) .١

٢.( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا ) .٢

٣.( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ ) .٣

إنّ لعدله سبحانه مظاهر في عالم الخلق والتشريع، وسنعرض في هذا الفصل مظاهر عدله في عالم الخلقة.

١. السماوات ورفعها بغير عمد

يقول سبحانه في هذا الصدد:( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) .

__________________

١. لقمان: ١٠.

٢. فاطر: ٤١.

٣. الرحمن: ٧.

٢١

إنّ رفع صرح هذا البناء الشامخ دون الاستعانة بدعائم مرئيَّة يكشف عن تناغم دقيق في عالم الخلقة، ولولاه لتداعت أركان العالم وانهارت، وهذا النظام الرائع تقاسمته قوّتا الجاذبية والطاردة ( النابذة )، وفي ظلّ التعادل القائم بينهما انتظمت حركة النجوم والكواكب والمجرّات في مساراتها.

فالجاذبية قانون عام جار على جميع الأجسام في هذا العالم، وهي تتناسب عكسياً مع الحدّ الفاصل بين الجسمين إذ تتعاظم كلما تضاءلت المسافة، وتتضاءل كلما ازدادت الفاصلة، فلو دارت رحى النظام الكوني الدقيق على قوة الجاذبية فقط لارتطمت الكواكب والنجوم بعضها مع بعض ولتداعى النظام السائد، ولكن في ظل قانون الطرد يحصل التعادل المطلوب، وقوة الطرد تلك تنشأ من الحركة الدورانية للأجسام.

ومهما يكن من أمر ففي ظل هاتين القوتين تبقى الملايين من المنظومات الشمسية والمجرّات معلّقة في الفضاء دون عَمَد، وتحول دون سقوطها وفنائها، وإلى هذه الحقيقة يشير القرآن الكريم، ويقول:( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) .١

وتتضح دلالة الآية من خلال ملاحظة أمرين:

الأوّل: انّ قوله « ترونه » وصف ل‍ـــ « عَمَد » وهي جمع عمود.

الثاني: انّ الضمير في « ترونها » يرجع إلى الأقرب الذي هو « عمد » لا إلى السماوات التي هي أبعد، ومعنى الآية أنّه سبحانه رفع السماوات من دون أعمدة مرئية، وهو لا ينفي العمود بتاتاً، بل وإنّما ينفي العمود المرئي، ولازم ذلك وجود العمد في رفع السماوات من دون أن يراها البشر، وهذا هو المعنى الذي اختاره ابن

__________________

١. الرعد: ٣.

٢٢

عباس وغيره.١

وهو الظاهر مما رواه الحسين بن خالد، عن عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام، فإنّهعليه‌السلام قال في تفسير الآية: « أليس الله يقول: بغير عمد ترونها ؟ » فقلت: بلى، قال: « ثمَّ عَمَد لكن لا ترونها ».

ويؤيده ما روي عن الإمام عليّعليه‌السلام، أنّه قال: « هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض، مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور ».٢

ورواه الطريحي أيضاً لكن قال: « عمودين من نور » مكان قوله « عمود من نور ».٣

ولعل المراد من العمودين هما قوتا الجاذبية والطاردة.

إنّ الكتاب الكريم صاغ الحقيقة المكتشفة من قبل« نيوتن » ، بعبارة يسهل فهمها على عامة الناس، وقال:( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) .

وقد أشار سبحانه في غير واحد من الآيات، أنّه سبحانه هو الممسك للسماوات من الزوال، وقال:( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا ) .٤

وكونه سبحانه هو المـُمْسِك لا يمنع من وجود علل طبيعية حافظة لسقوط السماوات وزوالها، فقد جرت سنّته سبحانه على تدبير العالم من خلال العلل الطبيعية التي هي من سننه سبحانه وجنوده الغيبية.

وأشار الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام في غير واحد من خطبه إلى خلقة الأرض، وقال: « أرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوام، ورفعها بغير دعائم ».

وعلى كلّ تقدير فالتوازن الموجود في خلق السماوات والأرض هو مظهر من

__________________

١. التبيان: ٦ / ٢١٣.

٢. سفينة البحار: مادة نجم.

٣. مجمع البحرين: مادة كوكب.

٤. فاطر: ٤١.

٢٣

مظاهر عدله في عالم الخلقة.

٢. الجبال وحركاتها

وليس رفع السماوات وإبداعها وتنظيم حركاتها هو الوحيد في كونه مظهراً لعدله سبحانه في التكوين، بل إبداع الجبال وإيجادها مظهر آخر من مظاهر التوازن والتعادل في الخلقة.

يقول سبحانه:( وَأَلْقَىٰ فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ) .١

وقال سبحانه:( وَالجِبَالَ أَوْتَادًا ) .٢

إنّ الرواسي التي استخدمها القرآن جمع « راسية »، والمراد منها الأَنجَر التي هي مرساة السفينة، فللجبال دور المرساة، فكما أنّها تحول دون اضطراب السفينة وتقاذفها من قِبل أمواج البحر العاتية، فهكذا الجبال لها دور في تنظيم حركة الأرض.

وإلى هذا الحقيقة يشير الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في بعض خطبه، ويقول: « وتّد بالصُّخُور مَيدان أَرضه ».٣

وقالعليه‌السلام أيضاً: « وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها ».٤

٣. الحياة وتوازنها الدقيق

إنّ من مظاهر عدله سبحانه وجود الحياة في الأرض، وهي رهن توفر

__________________

١. النحل: ١٥. وقد جاءت أيضاً بنفس العبارة في سورة لقمان الآية ١٠.

٢. النبأ: ٧.

٣. نهج البلاغة: الخطبة ١.

٤. نهج البلاغة: الخطبة ٨٧.

٢٤

الظروف المناسبة لها، مثلاً إنّ الفاصلة الدقيقة بين الشمس والأرض هيّأت أجواءً مناسبةً لنمو ورشد الخلايا، وهذه ما كان لها أن تنمو لو طرأ على تلك الفاصلة أدنى تغيير. وهذا يرشدك إلى توازن دقيق للغاية بين السماء والأرض.

واعطف نظرك إلى النباتات والحيوانات، فانّ حياة الحيوان رهن استنشاق غاز الأوكسجين ( O٢ ) الذي تُولّده النباتات، وحياة النبات رهن استنشاق غاز ثاني أوكسيد الكاربون ( CO٢ ) الذي تُولّده الحيوانات من خلال تنفّسها، فالتوازن الموجود بين الإنتاج والاستهلاك مهّد المناخ المناسب لحياة كلّ من النبات والحيوان، فلو كانت الأرض محتضنة للحيوان فقط أو للنبات فقط لما قامت للحياة قائمة.

فالتوازن القائم بين الغازين على وجه البسيطة مظهر من مظاهر عدله سبحانه، يقول سبحانه:( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) ١ .

ويزخر عالم النباتات والحيوانات بعدد لا حصر له من هذا النوع من التوازن والتعادل، وها نحن نذكر نموذجاً آخر.

كان الملّاحون يعانون من مرض تشقّق الجلد وسيلان الدم منه، وسببه يعود إلى قلة الفيتامينات في أبدانهم، إلى أن اكتشف أحد الأخصائيين في « مدغشقر » أنّ علاجه الوحيد هو تناول وجبات كافية من الليمون والنارنج، ففيها كمّيات هائلة من تلك الفيتامينات، وبذلك نجا الملّاحون من هذا المرض الذي كانوا يعانون منه.

__________________

١. لقمان: ١٠.

٢٥

الفصل الثالث

مظاهر العدل الإلهي

في عالم التشريع والجزاء

آيات الموضوع

١.( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .١

٢.( وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) .٢

٣.( وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) .٣

٤.( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ) .٤

قد سبق أنّه سبحانه وصف نفسه بقوله:( قَائِمًا بِالْقِسْطِ ) ، وتلك الفقرة

__________________

١. البقرة: ١٧٨.

٢. البقرة: ٢٧٩.

٣. البقرة: ٢٨٠.

٤. البقرة: ٢٨٢.

٢٦

حاكية عن أنّه سبحانه قائم بأعباء القسط في جميع المجالات تكويناً وتشريعاً، أمّا التكوين فقد وقفت على نماذج من التعادل الذي هو حجر الأساس لبقاء السماء والأرض واستقرار الحياة على وجه البسيطة.

بقي الكلام في مظاهر عدله في عالم التشريع، ولنذكر نماذج من ذلك:

١. فرض سبحانه الصيام على كلّ مكلّف، وقال:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .١

وفي الوقت نفسه استثنى المريض والمسافر ومن يصوم ببذل الجهد الكبير، قال سبحانه:( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) .٢

فأوجب على المريض والمسافر القيام بأعباء هذا التكليف بعد استعادة صحته أو رجوعه إلى الوطن، كما أنّه اكتفى فيمن يصوم ببذل جهد كبير كالهرم، بالتكفير وإطعام مسكين.

٢. لا شكّ أنّ في القصاص حياة لأُولي الألباب، وفي المثل المعروف: « إنّ الدم لا يُغسّله إلّا الدم »، ومع ذلك كلّه فقد أجاز لوليِّ الدم أن يسلك طريقاً آخر وهو إبدال القصاص بالدية، فقد شرع ذلك، وقال:( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ٣ فالإصرار على أحد الحكمين ربما يولِّد الحرج، فخيّر وليَّ الدم بين القصاص وأخذ الدية حتى يتبع ما هو الأفضل والأصلح لتشفِّي القلوب واستقرار الصلح في المجتمع.

__________________

١. البقرة: ١٨٣.

٢. البقرة: ١٨٤.

٣. البقرة: ١٧٨.

٢٧

٣. لا شكّ أنّ الربا من أعظم الجرائم وأكبرها، كيف وقد وصف المرابي بالمحارب، وقال:( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) ١ ومع ذلك فإذا تاب المرابي من عمله فقد احترم ماله الذي اقترضه، فعلى المقترض ردُّ رأس ماله فقط، قال:( وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) .

وفي الحقيقة هذه الفقرة أي( لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) شعار كلّ مسلم في عامّة المجالات وهو لا يَظلم ولا يتحمَّل الظلم.

٤. حثَّ الناس على الإقراض وجعل أجره عشرة، قال سبحانه:( مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) ٢ وهو عام يعم كلّ حسنة ومنها الإقراض، ومع ذلك كلّه فإذا عجز المقترض عن أداء قرضه وصار ذا عسرة أمر المقرض بالصبر حتى يستطيع المقترض من دفع دينه، قال سبحانه:( وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) .٣

٥. يأمر سبحانه المقرض والمقترض أن يكتبا سنداً للدين، وفي الوقت نفسه يأمر الكاتب أن يكتب بالعدل من دون تحيّز إلى واحد من الطرفين، يقول سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) .٤

٦. يأمر سبحانه من عليه الحق أن يُملي كما هو عليه، من دون نقيصة ولا زيادة، يقول سبحانه:( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ) .٥

__________________

١. البقرة: ٢٧٩.

٢. الأنعام: ١٦٠.

٣. البقرة: ٢٨٠.

٤. البقرة: ٢٨٢.

٥. البقرة: ٢٨٢.

٢٨

٧. كما يأمر إذا كان من عليه الحقّ سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع الإملاء فليقم مكانه وليُّه وليملل بالعدل، يقول سبحانه:( فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ) .١

وباختصار: تتجلى في هذه الآية التي هي أطول آية وردت في القرآن الكريم مظاهر عدله في التشريع مرة تلو مرة، وللقارئ الكريم أن يستشف منها ما ذكرناه من المعاني.

٨. الطهارة من الحدث أحد شرائط صحّة الصلاة والصوم والحجّ، وتحصل عن طريق استعمال الماء بكيفية خاصة متقرباً فيها إلى الله، ولكن ربما يكون استعمال الماء مضرّاً بصحّة المتوضئ أو موجباً لبطء برء مرضه، إلى غير ذلك من الاعذار فأوجب سبحانه التيمّم بالصعيد بدل استعمال الماء، وهذا يدل على مرونة الإسلام في تشريعه وتعاطفه مع فطرة الإنسان التي ترغب في العافية وتنضجر عن كلّ ما يحول دونها، قال سبحانه:( وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .٢

فقوله:( مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ) يكشف اللثام عن وجه العدول من الطهارة المائية إلى الطهارة الترابية.

كما دلت الآيات القرآنية على استثنائه سبحانه طوائف ثلاث من الحضور

__________________

١. البقرة: ٢٨٢.

٢. المائدة: ٦.

٢٩

في ساحات الجهاد لأجل الحرج، قال سبحانه:( لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ ) .١

وفي آية أُخرى يُبيِّن بوضوح أنّ تشريعه خال من الحرج، ويقول:( مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ٢ . فكلّ حكم يتضمن الحرج فهو مرفوض بحكم أنّه حرجي، وقد أخبر سبحانه عن عدم تشريع الحكم الذي في امتثاله حرج.

٩. لقد شملت العناية الإلهية الأُمّةَ الإسلامية من بين سائر الأُمم برفع النسيان والخطأ عنهم وعدم المؤاخذة عليهما، في حين كانت الأُمم السالفة مسؤولة عن خَطاها ونسيانها إذا كانت مقصِّرة في مبادئ الخطأ والنسيان، يقول سبحانه:( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) .٣

روى الكليني عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: « إنّ هذا الدين متين، فاوغلوا فيه برفق ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله، فتكونوا كالراكب المنبتِّ الَّذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقىٰ ».٤

فما أروع هذا التشبيه حيث إنّ الراكب المنبتِّ وإن كان يعدو بفرسه أميالاً عديدة بغية الوصول إلى غايته، ولكنه بفعله هذا يُنتج عكس المطلوب حيث إنّ المركوب يُعْييه التعبُ ولا يكون بمقدوره الاستمرار في العدو، ويبقى هو في وسط الطريق لا يهتدي إلى بغيته، فهو لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقىٰ.

__________________

١. الفتح: ١٧.

٢. الحج: ٧٨.

٣. البقرة: ٢٨٦.

٤. الكافي: ٢ / ٨٦.

٣٠

فهكذا الدعوة إلى الشريعة إذا كانت مقرونة بالشدة والضعف تنتج عكس المطلوب حيث لا تجد لها أُذناً صاغية، بل يخرج الناس منها أفواجاً. ولأجل ذلك صدع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسهولة شريعته، وقال: « بعثت بالشريعة السَهلة السَمْحة ».١

١٠. دلّت الآيات القرآنية على أنّ التكليف على القدر المستطاع وقد أطبق عليه العقل والنقل، إذ كيف يمكن تكليف الناس بأعمال، كإدخال الشيء الكبير في الظرف الصغير، من دون تغيّر في الظرف والمظروف ؟ أو التحليق في الهواء دون وسيلة، إلى غير ذلك من الأُمور الممتنعة التي تدخل في نطاق التكليف بما لايُطاق، حتى أنّ محقّقي العدليّة ذهبوا إلى أنّ هذا النوع من التكليف المحال، بمعنى أنّه لا ينقدح في ذهن الآمر، الطلب والإرادة الجدية المتعلِّقة ببعث العاجز إلى المطلوب، ولو تظاهر به فإنّما تظاهر بظاهر التكليف لا بواقعه.

فتكون النتيجة: انّ امتناع المكلف به يلازم امتناع نفس التكليف أيضاً، يقول سبحانه:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَهَا ) .٢

وقال في آية أُخرى:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلّا مَا آتَاهَا ) .٣

ومضمون كلتا الآيتين واحد، وهو أنّ الله يكلّف الإنسان بقدر طاقته وقابليته.

هذه نماذج استعرضناها لإثبات أنّ التشريع الإسلامي يتمتّع بمرونة، وأنّه مبنيٌّ على أساس العدل.

وفي الحقيقة إنّ التشريع الإسلامي من مظاهر عدله في هذا المجال.

__________________

١. سفينة البحار: ١ / ٦٩٥.

٢. البقرة: ٢٨٦.

٣. الطلاق: ٧.

٣١

الأشاعرة والتكليف بما لا يطاق

ذهب لفيف من متكلّمي الإسلام - وللأسف الشديد - إلى جواز التكليف بما لا يطاق، ولم يُصغوا لنداء العقل ولا الشرع، بل أهالوا التراب على فطرتهم القاضية بعدم صحّة التكليف بما لا يطاق.

وقد اتَّخذوا ظواهر بعض الآيات ذريعة لعقيدتهم في هذا المجال، وها نحن نستعرض تلك الآيات ونناقشها كي يتجلّى الحق.

١.( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ *أُولَٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ) .١

استدل الإمام أبو الحسن الأشعري ( ٢٦٠ - ٣٢٤ ه‍ ) على أنَّهم كانوا مكلَّفين بالسماع والإبصار ومع ذلك ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يُبصرون، فدلّ على جواز التكليف بما لا يطاق.

وهذا الاستدلال يتبدَّد بالتوضيح التالي:

وهو أنَّهم وإن كانوا مأمورين مكلّفين بالسماع والإبصار ومع ذلك كانوا عاجزين عنهما لكن ذلك العجز لم يكن مقروناً بهم منذ بلوغهم وتكليفهم، وإنّما أدّى بهم التمادي في المعصية إلى أن صاروا فاقدين للسمع والأبصار، فقد سُلِبت عنهم هذه النعم بسوء اختيارهم نتيجة الذنوب التي اقترفوها، فكان لهم قلوب لا يفقهون بها، وآذان لا يسمعون بها، يقول سبحانه:( لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ

__________________

١. هود: ١٩ - ٢٠.

٣٢

أَضَلُّ ) .١

إنّ التمادي في المعصية والإصرار عليها يترك انطباعات سيِّئة في القلوب على وجه يتجلّى الحسن سيّئاً والسيّء حسناً، يقول سبحانه:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) .٢

فالآية تصرح بأنّ اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي ينجم عنه التكذيب بآيات الله.

فتحصل من ذلك أنّ عدم استطاعتهم للسماع والإبصار كان نتيجة قطعية لأعمالهم السيئة، كما يقول سبحانه:( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ *فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ ) .٣

٢.( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) .٤

استدلّ الإمام الأشعري بهذه الآية على جواز التكليف بما لا يطاق، وقال: فقد أمروا بالإعلام وهم لا يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه.

ولكن غاب عنه أنّ لصيغة الأمر معنى واحداً وهو إنشاء الطلب، لكن الغايات من الإنشاء تختلف حسب اختلاف المقامات، فتارة تكون الغاية من الإنشاء، هي بعث المكلف نحو الفعل جداً، وهذا هو الأمر الحقيقي الذي يُثاب فاعله ويُعاقب تاركه، وتشترط فيه القدرة والاستطاعة، وأُخرى تكون الغاية أُموراً

__________________

١. الأعراف: ١٧٩.

٢. الروم: ١٠.

٣. الملك: ١٠ - ١١.

٤. البقرة: ٣١ - ٣٢.

٣٣

غيره، وعند ذلك لا ينتزع منه التكليف الجدي، وذلك كالتعجيز في الآية السابقة، وكالتسخير في قوله سبحانه:( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) ١ والإهانة مثل قوله:( ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) ٢ ، أو التمنّي مثل قول أمرئ القيس في معلّقته:

ألا أيُّها الليل الطويل ألا انجلي

بصُبحٍ وما الإصباحُ مِنكَ بأمثلِ

إلى غير ذلك من الغايات والحوافز التي تدعو المتكلم إلى التعبير عن مقاصده بصيغة الأمر وذلك واضح لمن ألقى السمع وهو شهيد.

٣.( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ *خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ) .٣

استدلّ بها الشيخ الأشعري على مقصوده، وقال: إذا جاز تكليفه إياهم في الآخرة بما لا يطيقون، جاز ذلك في الدنيا.

والحقّ أنّ الإمام الأشعري وأتباعه لا سيّما الفطاحل منهم أجلُّ من أن يجهلوا هدف الآية ومغزاها، إذ ليست الدعوة إلى السجود فيها عن جدّ وإرادة حقيقة، بل الغاية من الدعوة إيجاد الحسرة في قلوب المشركين التاركين للسجود حال استطاعتهم في الدنيا، والآية بصدد بيان أنّهم في أوقات السلامة والعافية رفضوا الانصياع والامتثال، وعند العجز - بعد ما كشف الغطاء عن أبصارهم ورأوا العذاب بأُمّ أعينهم - همّوا بالسجود ولكن أنّى لهم ذلك.

وإليك توضيح الآية بمقاطعها الثلاثة:

أ:( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ) كناية عن اشتداد الأمر وتفاقمه، لأنّ الإنسان

__________________

١. البقرة: ٦٥.

٢. الدخان: ٤٩.

٣. القلم: ٤٢ - ٤٣.

٣٤

عند الشدة يكشف عن ساقه ويخوض غمار الحوادث.

ب:( وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ) لا طلباً وتكليفاً جدياً، بل لازدياد الحسرة، فلا يستطيعون، إمّا لسلب السلامة عنهم، أو لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم.

ج:( وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ) والمعنى أنّهم لما دعوا إلى السجود في الدنيا امتنعوا عنه مع صحّة أبدانهم، وهؤلاء يُدعون إلى السجود في الآخرة ولكن لا يستطيعون، وما ذلك إلا لتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرَّطوا.

٤.( وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) .١

وقد استدل بها الشيخ الأشعري على ما يروم من جواز التكليف بما لا يطاق، وقال: وقد أمر الله تعالى بالعدل ومع ذلك أخبر عن عدم الاستطاعة على أن يُعدل.٢

أقول: لا شكّ أنّه سبحانه أمر من يتزوج بأكثر من واحدة بإجراء العدالة بينهنّ، قال سبحانه:( فَإِنْ خِفْتُمْ إلّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ) ٣ وفي الوقت نفسه صرَّح في آية أُخرى بأنَّ إجراء العدالة بينهنّ، أمر غير مقدور، ومع ذلك نهى عن التعلّق بواحدة منهن والإعراض عن الأُخرى حتى تُصبح كالمعلّقة لا متزوجة ولا مطلقة.

وبالتأمل في الآية يظهر بأنّ العدالة التي أمر بها غير العدالة التي أخبر عن عدم استطاعة المتزوج القيام بها، فالمستطاع منها هو الذي يقدر عليه كلّ متزوج بأكثر من واحدة، وهو العدالة في الملبس والمأكل والمسكن وغيرها من الحقوق

__________________

١. النساء: ١٢٩.

٢. لاحظ الاستدلال بهذه الآيات في كتاب اللمع للإمام الأشعري: ٩٩ - ١١٤.

٣. النساء: ٣.

٣٥

الزوجية التي تقع على عاتق الزوج ويقوم بها بجوارحه ولا صلة لها بباطنه.

وأمّا غير المستطاع فهي المساواة في قسمة الحب بينهنّ لأنّ الباعث لها هو الوجدان والميل القلبي وهو ممّا لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره، لأنّه رهن أُمور خارجة عن الاختيار.

مظاهر العدل الإلهي في تنفيذ العقوبات

قد مضى أنّ لعدله سبحانه مظاهر في التكوين والتشريع، ومن مظاهر عدله في التشريع أنّه لا يساوي بين المطيع والعاصي، والمسلم والمجرم، والمؤمن والمفسد، ولذلك صار يوم البعث مظهراً لعدله سبحانه بحيث لو لم يكن ذلك اليوم الموعود لما ظهر عدله في مجال الجزاء، وبذلك أصبح يوم القيامة أمراً لا مفرّ منه لظهور عدله فيه، وتشير آياتٌ كثيرة إلى هذا المضمون:

١.( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .١

٢.( أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ *مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .٢

وهاتان الآيتان تدلاّن على أنَّ التسوية بين الطائفتين علىٰ خلاف العدل، فلا محيص من إحقاق الفرق، وبما أنّ الطائفتين يتعامل معهما في الدنيا على نحو سواء فلابدّ من تحقيقه في يوم ما وليس هو إلّا يوم القيامة، ويعرب عمّا ذكرناه قوله سبحانه:( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ

__________________

١. ص: ٢٨.

٢. القلم: ٣٥ - ٣٦.

٣٦

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) .١

ثمّ إنّه سبحانه يحقّق عدله يوم القيامة بوضع موازين القسط ليجزي كلّ نفس بما كسبت، يقول سبحانه:

( وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ) .٢

( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) .٣

هذه إلمامة عابرة لبيان مظاهر عدله في مجالات مختلفة، والسابر في آيات القرآن الكريم يجد آيات كثيرة في مجال عدله سبحانه.

__________________

١. يونس: ٤.

٢. الأنبياء: ٤٧.

٣. الأعراف: ٨ - ٩.

٣٧

الفصل الرابع

العدل الإلهي

وفاعلية الإنسان

قد تعرفت على مظاهر عدله في التكوين والتشريع، وحان البحث في بيان باقي المباحث التي لها صلة بالعدل الإلهي، وهي تتمحور حول فاعلية الإنسان، ونقاطها الرئيسية هي:

١. العدل الإلهي وحرية الإرادة الإنسانية.

٢. العدل الإلهي وعلمه السابق بأفعال العباد.

٣. العدل الإلهي والقضاء والقدر القطعيان.

٤. العدل الإلهي وخلود العقاب.

وقد تناول الحكماء والمتكلّمون هذه الأبحاث من زوايا مختلفة واحتدم النقاش حولها، وبما أنّ رائدنا في هذه البحوث هو القرآن الكريم فنحن نتناولها من ذلك الجانب ونترك جوانبها الأُخرى إلى الكتب المعدّة في هذا المجال.

٣٨

العدل الإلهي وحريّة الإرادة الإنسانية

البحث عن حريّة الإرادة، وأنّ الإنسان هل هو فاعل مجبور أو فاعل مختار ؟ من المسائل الفلسفية الّتي تمتد جذورها في تاريخ الفكر الإنساني، ومنذ ذلك الحين اتجهت أنظار كافة الناس صوبها لأنّها تمسّ جانباً من حياتهم العمليّة، وبذلك أصبحت دراسة تلك المسألة لا تقتصر على الحكماء فحسب بل شملت أكثر الناس.

إنّ الرؤية القرآنيّة تتلخّص في أنّ الإنسان حرّ فيما شاء وأراد، وهي تشطب بقلم عريض على مزعمة المشركين بتعلّق مشيئة الله سبحانه بعبادتهم الأوثان ولذلك صاروا مجبورين على الشرك. يقول سبحانه في ردّ تلك المزعمة:( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إلّا تَخْرُصُونَ ) .١

فهذه الآية تعكس لنا بوضوح جانباً من عقيدة المشركين في عصر الرسالة وأنّهم كانوا يؤمنون بالجبر، وإنّ كلّ ما يصدر منهم فهو خاضع لإرادته سبحانه إرادة سالبة للاختيار.

ويقول سبحانه في موضع آخر مبيّناً تلك العقيدة الفاسدة:( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) .٢

__________________

١. الأنعام: ١٤٨.

٢. الأعراف: ٢٨.

٣٩

فإنّ الفقرة الأُولى من الآية تعكس عقيدة المشركين وأنّه لولا أمره ومشيئته لما كنّا مشركين، لكن الفقرة الثانية تردُّ عليها ببيان أنّ الشرك ظلم وقبيح، والله لا يأمر بهما، وبالتالي لا تتعلق مشيئته بهما.

والعجب أنّ تلك العقيدة السخيفة لم تُجْتثّ بل بقيت عالقة في أذهان عدّة من الصحابة حتى بعد بزوغ نجم الإسلام.

روى السيوطي عن عبد الله بن عمر: انّه جاء رجل إلى أبي بكر، فقال: أرأيت الزنا بقدر ؟

قال: نعم. قال: فإنّ الله قدّره عليّ ثمّ يعذِّبني ؟! قال: نعم يابن اللخناء، أما والله لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك.١

وليس الخليفة الأوّل وحده ممن كان يحتج بالقدر السالب للاختيار، بل كان غيره على هذه الفكرة. روى الواقدي عن أُم الحارث الأنصارية، وهي تحدّث عن فرار المسلمين يوم حنين، قالت: مرّ بي عمر بن الخطاب منهزماً، فقلت: ما هذا ؟ فقال عمر: أمر الله.٢

نرى أنّ عمر يلجأ إلى أمر الله وقضائه، وأنّ الهزيمة كانت أمراً قطعياً لأنّه سبحانه شاءها وأرادها، دون أن ينظر إلى سائر الأسباب التي حدت بهم إلى تلك الهزيمة.

لقد اتخذ الأمويّون مسألة القدر أداة تبريريّة لأعمالهم السيِّئة وكانوا ينسبون وضعهم بما فيه من شتّى ضروب العيث والفساد إلى القدر، قال أبو هلال العسكري: إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ الله يريد أفعال العباد كلّها.٣

__________________

١. تاريخ الخلفاء: ٩٥.

٢. مغازي الواقدي: ٣ / ٩٠٤.

٣. الأوائل: ٢ / ١٢٥.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

بمثلها وما يقابل العرض بمثله عندنا ، وعند المخالف بنقد البلد(١) .

مسألة ١٥١ : النصاب المعتبر في قيمة مال التجارة هنا هو أحد النقدين : الذهب أو الفضة دون غيرهما ، فلو اشترى بأحد النصب في المواشي مال التجارة وقصرت قيمة الثمن عن نصاب أحد النقدين ، ثم حال الحول كذلك فلا زكاة.

ولو قصر الثمن عن نصاب المواشي بأن اشترى بأربع من الإِبل متاع التجارة وكانت قيمة الثمن أو السلعة تبلغ نصاباً من أحد النقدين تعلّقت الزكاة به.

إذا عرفت هذا ، فالنصاب الأول قد عرفت أنّه عشرون ديناراً أو مائتا درهم ، فإذا بلغت القيمة أحدهما ثبتت الزكاة ، ثم الزائد إن بلغ النصاب الثاني وهو أربعة دنانير أو أربعون درهماً ثبتت فيه الزكاة وهو ربع عُشرة أيضاً ، وإلّا فلا ، ولم يعتبر الجمهور النصاب الثاني كالنقدين ، وقد سلف.

مسألة ١٥٢ : إذا اشترى سلعاً للتجارة في أشهر متعاقبة ، وقيمة كلّ واحد نصاب‌ يزكّي كلّ سلعة عند تمام حولها ، ولم يضمّ بعضها إلى بعض.

وإن كانت الاُولى نصاباً فحال حولها وهي نصاب وحال حول الثانية والثالثة وقيمة كلّ منهما أقلّ من نصاب أخذ من الأول الزكاة خمسة دراهم ، ومن الثاني والثالث من كلّ أربعين درهماً درهم.

ولو كان العرض الأول ليس بنصاب وكمل بالثاني نصاباً فحولهما من حين ملك الثاني ، ولا يضمّ الثالث إليهما ، بل ابتداء الحول من حين ملكه ، وتثبت فيه الزكاة - وإن كان أقلّ من النصاب الأول - إذا بلغ النصاب الثاني ، لأنّ قبله نصاباً.

مسألة ١٥٣ : إذا اشترى عرضاً للتجارة بأحد النقدين‌ ، وكان الثمن‌

____________________

(١) المجموع ٦ : ٦٦ - ٦٧ ، فتح العزيز ٦ : ٧٦.

٢٢١

نصاباً ، قال الشيخ : كان حولُ السلعة حولَ الأصل(١) ؛ وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وأصحاب الرأي ، لأنّ زكاة التجارة تتعلّق بالقيمة وقيمته هي الأثمان نفسها لكنها كانت ظاهرةً فخفيت.

ولأنّ النماء في الغالب إنّما يحصل في التجارة بالتقليب ، فلو كان ذلك يقطع الحول لكان السبب الذي تثبت فيه الزكاة [ لأجله ](٢) مانعا منها(٣) .

ولو قيل : إن كان الثمن من مال تجارة بنى على حوله وإلاّ استأنف ، كان وجها.

ولو كان أقلّ من النصاب فلا زكاة ، فإن ظهر ربح حتى بلغ به نصاباً جرى في الحول من حين بلوغ النصاب عند علمائنا أجمع ، وهو أحد وجهي الشافعية ، والآخر : أنّه يبنى على الحول من حين الشراء ، لأنّه يعتبر النصاب في آخر الحول على الأقوى من وجهيه(٤) .

فروع :

أ - لو اشتراه بنصاب من السائمة فإن كانت للقُنية فالأقرب انقطاع حول السائمة ، ويبتدئ حول التجارة من يوم الشراء ؛ لاختلاف الزكاتين في القدر والتعلّق ، وهو أحد وجهي الشافعي ، وفي الآخر : يبني عليه كالنقدين(٥) .

وإن كانت للتجارة فالوجه البناء على حولها.

ب - البناء على حول الأصل إنّما يكون لو اشتراه بعين النصاب ، ولو‌

____________________

(١) الخلاف ٢ : ٩٤ ، المسألة ١٠٨ ، والمبسوط للطوسي ١ : ٢٢٠ - ٢٢١.

(٢) زيادة أثبتناها من المغني والشرح الكبير.

(٣) المغني ٢ : ٦٢٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٥ - ٦٣٦ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٦٧ ، المجموع ٦ : ٥٨ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣ - ٥٤.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٧ ، المجموع ٦ : ٥٦ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤.

(٥) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٧ ، المجموع ٦ : ٥٦ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٠١.

٢٢٢

اشتراه في الذمة ونقد النصاب في الثمن انقطع حول الثمن نقداً كان أو ماشيةً ، وابتدأ حول التجارة من يوم الشراء ، لأنّ النصاب لم يتعيّن للصرف إلى هذه الجهة.

ج - لو اشترى عرضاً للتجارة بعرض للقُنية كأثاث البيت كان حول السلعة من حين ملكها للتجارة ، وبه قال الشافعي وأحمد(١) .

وقال مالك : لا يدور في حول التجارة إلّا أن يشتريها بمال تجب فيه الزكاة كالذهب والفضة(٢) .

د - لو باع مال التجارة بالنقد من الذهب أو الفضة وقصد بالأثمان غير التجارة انقطع الحول ، وبه قال الشافعي(٣) ، لأنّه مال تجب الزكاة في عينه دون قيمته فانقطع الحول بالبيع به كالسائمة.

وقال أحمد : لا ينقطع ، لأنّه من جنس القيمة التي تتعلّق الزكاة بها فلم ينقطع الحول معها به(٤) .

والفرق : أنّ قصد التجارة انقطع ، وتعلّقت به حول زكاة اُخرى.

ولو قصد بالثمن التجارة ، فالأقرب عدم الانقطاع ، وبنى على حول الأول ؛ لأنّا لا نشترط في زكاة التجارة بقاء الأعيان بل القَيِم.

ه- لو أبدل عرض التجارة بما تجب الزكاة في عينه كالسائمة ولم يَنْو به التجارة لم يبن حول أحدهما على الآخر إجماعاً ؛ لأنّهما مختلفان ، وإن أبدله بعرض للقُنية بطل الحول.

و - لو اشتراه بنصاب من السائمة لم يبن على حوله إجماعاً ، لأنّهما مختلفان.

____________________

(١) المجموع ٦ : ٥٦ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٢ ، المغني ٢ : ٦٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٧.

(٢) حلية العلماء ٣ : ١٠٣.

(٣ و ٤ ) المغني ٢ : ٦٢٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٦.

٢٢٣

ز - لا يشترط بقاء عين السلعة طول الحول إجماعاً ، بل قيمتها وبلوغ القيمة النصاب.

مسألة ١٥٤ : لا تجتمع زكاة التجارة والمالية في مالٍ واحد‌ اتّفاقاً ؛ لقولهعليه‌السلام : ( لا ثني(١) في الصدقة )(٢) .

فلو ملك نصاباً من السائمة فحال الحول ، والسوم ونية التجارة موجودان قدّمت زكاة المال عندنا ؛ لأنّها واجبة دون زكاة التجارة ؛ لاستحبابها.

ومن قال بالوجوب اختلفوا ، فالذي قاله الشيخ - تفريعاً على الوجوب - : تقديم المالية أيضاً(٣) ؛ وبه قال الشافعي - في الجديد - لأنّها أقوى ؛ لانعقاد الإجماع عليها واختصاصها بالعين فكانت أولى(٤) .

وقال أبو حنيفة والثوري ومالك وأحمد والشافعي في القديم : يزكّيه زكاة التجارة ، لأنّها أحظّ للمساكين ، لتعلّقها بالقيمة فتجب فيما زاد بالحساب ، لأنّ الزائد عن النصاب قد وجد سبب وجوب زكاته فتجب كما لو لم يبلغ بالسوم نصاباً(٥) .

ونمنع اعتبار ترجيح المساكين ، بل مراعاة المالك أولى ؛ لأنّ الصدقة مواساة فلا تكون سبباً لإِضرار المالك ولا موجبة للتحكّم في ماله.

____________________

(١) أي : لا تؤخذ الزكاة مرّتين في السنة. النهاية لابن الأثير ١ : ٢٢٤.

(٢) كنز العمّال ٦ : ٣٣٢ / ١٥٩٠٢.

(٣) الخلاف ٢ : ١٠٤ ، المسألة ١٢٠ ، والمبسوط للطوسي ١ : ٢٢٢.

(٤) الاُم ٢ : ٤٨ ، المجموع ٦ : ٥٠ ، فتح العزيز ٦ : ٨١ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠ ، المغني ٢ : ٦٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٨.

(٥) المبسوط للسرخسي ٢ : ١٧٠ ، المغني ٢ : ٦٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٨ ، المجموع ٦ : ٥٠ ، فتح العزيز ٦ : ٨١ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠ ، المنتقى للباجي ٢ : ١٢١ ، وفيها ما عدا المجموع قال مالك بوجوب زكاة العين ؛ على خلاف ما نسب إليه المصنّف ، وأمّا في المجموع فلم يتعرض النووي لقوله.

٢٢٤

فروع :

أ - لو انتفى السوم ثبتت زكاة التجارة وإن كان النصاب ثابتاً ، وكذا لو انتفى النصاب وحصل السوم ؛ لعدم التصادم.

ب - لو فقد شرط زكاة التجارة بأن قصر الثمن عن النصاب أو طلبت بخسارة وجبت زكاة المال إجماعاً ، لعدم التضاد.

ج - لو سبق تعلّق وجوب المالية بأن يملك أربعين من الغنم قيمتها دون مائتي درهم ثم صارت في نصف الحول تعدل مائتين قدّمت زكاة المال ، لثبوت المقتضي في آخر الحول ، السالم عن معارضة المانع.

وقال بعض الجمهور بتأخّر وجوب الزكاة حتى يتم حول التجارة ، لأنّه أنفع للفقراء(١) . وهو ممنوع.

وعلى ما اخترناه إذا تمّ حول التجارة لم يزك الزائد عن النصاب ، لأنّه قد زكّى العين فلا يتعلّق بالقيمة.

وقال بعض الجمهور : تجب زكاة التجارة في الزائد عن النصاب ، لوجود المقتضي فإنّه مال للتجارة حال عليه الحول وهو نصاب(٢) .

وهو ممنوع ؛ لوجود المانع وهو تعلّق الزكاة بالعين.

د - لو اشترى أرضاً أو نخلاً للتجارة فزرعت الأرض وأثمر النخل فاتّفق حولهما بأن يكون بدوّ الصلاح في الثمرة واشتداد الحبّ عند تمام الحول ، وكانت قيمة الأرض والنخل بمفردها نصابا للتجارة فإنّه يزكّي الثمرة والحبّ زكاة العشر ، ويزكّي الأصل زكاه القيمة ، ولا تثبت في الثمرة الزكاتان ، وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور(٣) ، لأنّ زكاة العُشر أحظّ للفقراء فإنّ العُشر أكثر من ربع العُشر ، ولأنّ زكاة المال متّفق عليها.

____________________

(١ و ٢ ) المغني ٢ : ٦٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٩.

(٣) المغني ٢ : ٦٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٤١.

٢٢٥

وقال أحمد : يزكّي الجميع زكاة التجارة ؛ لأنّه مال تجارة فتجب فيه زكاتها كالسائمة(١) .

والفرق : زكاة السوم أولى ، على أنّا نقول بموجبه هناك.

ه- لو اشترى أربعين سائمة للتجارة فعارض بها(٢) في أثناء الحول بأربعين سائمة للتجارة أيضاً ، فإن شرطنا في المالية بقاء عين النصاب سقطت وثبتت زكاة التجارة ، لعدم المانع ، وإلّا أوجبنا زكاة المال.

ولو عارضها بأربعين للقُنية سقطت زكاة التجارة وانعقد حول المالية من المعارضة.

ولو اشترى أربعين للقُنية وأسامها ، ثم عراضها في أثناء الحول بأربعين سائمة للتجارة انعقد حول المالية أو التجارة - على الخلاف - من حين المعارضة.

و - عبد التجارة يخرج عنه الفطرة وزكاة التجارة على ما يأتي.

ز - لو اشترى معلوفة للتجارة ثم أسامها ، فإن كان بعد تمام الحول ثبتت زكاة التجارة في الحول الأوّل ، وانعقد حول الماليّة من حين الإسامة ، وإن كان في الأثناء احتمل زكاة التجارة عند تمام الحول ؛ لعدم المانع ، وانعقاد حول الماليّة من حين الإِسامة.

مسألة ١٥٥ : إذا نوى بعرض التجارة القُنية صار للقنية وسقطت الزكاة‌ عند علمائنا - وبه قال الشافعي وأحمد وأصحاب الرأي(٣) - لأنّ القُنية الأصل ، ويكفي في الردّ إلى الأصل مجرّد النيّة ، ولأنّ نيّة التجارة شرط لثبوت الزكاة في‌

____________________

(١) المغني ٢ : ٦٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٤١.

(٢) المعارضة : بيع المتاع بالمتاع لا نقد فيه. النهاية - لابن الأثير - ٣ : ٢١٤ « عرض ».

(٣) المجموع ٦ : ٤٩ - ٥٠ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠ ، المغني ٢ : ٦٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٠ - ٦٣١.

٢٢٦

العروض ، فإذا نوى القنية زال الشرط.

وقال مالك في رواية : لا يسقط حكم التجارة بمجرّد النية كما لو نوى بالسائمة العلف(١) .

والفرق أنّ الإِسامة شرط دون نيّتها فلا ينتفي الوجوب إلّا بانتفاء السوم.

وإذا صار العرض للقُنية بنيّتها فنوى به التجارة لم يصر للتجارة بمجرّد النية على ما قدّمناه ، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي(٢) .

تذنيب : لو كانت عنده ماشية للتجارة نصف حول فنوى بها الإسامة وقطع نية التجارة انقطع حول التجارة واستأنف حولا للماليّة - وبه قال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي(٣) - لأنّ حول التجارة انقطع بنيّة الاقتناء ، وحول السوم لا يبنى على حول التجارة.

والوجه : أنّها إن كانت سائمةً ابتداء الحول وجبت المالية عند تمامه - وبه قال إسحاق(٤) - لأنّ السوم سبب لوجوب الزكاة وجد في جميع الحول خالياً عن المعارض فتجب به الزكاة ، كما لو لم ينو التجارة.

مسألة ١٥٦ : المشهور عندنا وعند الجمهور أنّ نماء مال التجارة بالنتاج مال تجارة أيضاً‌ - وهو أحد قولي الشافعي(٥) - لأنّ الولد بعض الاُمّ فحكمه حكمها ، فلو اشترى جواري للتجارة فأولدت كانت الأولاد تابعةً لها ، هذا إذا لم تنقص قيمة الاُمّ بالولادة ، فإن(٦) نقصت جعل الولد جابراً بقدر قيمته ؛ لأنّ‌

____________________

(١) المغني ٢ : ٦٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣١ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠.

(٢) المغني ٢ : ٦٢٩ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣١ ، حلية العلماء ٣ : ٩٩ ، المجموع ٦ : ٤٨ ، فتح العزيز ٦ : ٤١.

(٣) المغني ٢ : ٦٢٩ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٢ - ٦٣٣.

(٤) المغني ٢ : ٦٢٩ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٣.

(٥) فتح العزيز ٦ : ٦٥.

(٦) في « ف » والطبعة الحجرية : فلو.

٢٢٧

سبب النقصان انفصاله.

وللشافعي قول آخر : إنّه ليس مالَ التجارة ؛ لأنّ الفائدة التي تحصل من عين المال لا تناسب الاستنماء بطريق التجارة(١) . وهو ممنوع.

إذا ثبت هذا ، فإنه يبتدئ بالحول في النتاج من حين انفصاله ، ولا يبني على حول الأصل ، خلافاً للشافعي(٢) ، وقد سبق(٣) .

فروع :

أ - لو اشترى من الماشية السائمة نصاباً للتجارة فنتجت ، فعندنا تقدّم زكاة المال ، ولا يتبع النتاج الاُمّهات في الحول ، فلم ينعقد سبب المالية في النتاج ، فيبقى سبب التجارة سالماً عن المعارض ، فينعقد حولها من حين الانفصال ، فتثبت الزكاة فيها بعد الحول ، ثم يعتبر حول المالية إن حصل السوم.

ب - لا يبنى النصاب هنا على نصاب الاُمّهات بمعنى أنه يقوّم النتاج بأحد النقدين فإن بلغت قيمته مائتي درهم أو عشرين ديناراً تعلّقت الزكاة به ، ولا يضمّ إلى الاُمّهات في النصاب ، لأنّ الاُمّهات لها زكاة بانفرادها ، ولا يكفي في اعتبار نصابها أربعون درهماً أو أربعة دنانير ، وإن كانت قيمة الاُمهات نصاباً فإشكال.

ج - لو اشترى حديقة للتجارة فأثمرت عنده ، وقلنا : إنّ ثمار التجارة مال تجارة ، أو اشتراها وهي مثمرة مع الثمار فبدا الصلاح عنده حكمنا بوجوب زكاة المال في الثمرة على ما قدّمناه.

ولا تسقط به زكاة التجارة عن قيمة الأشجار - وهو أحد وجهي‌

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٦٥.

(٢) فتح العزيز ٦ : ٦٦.

(٣) سبق في المسألة ٣٤.

٢٢٨

الشافعية(١) - لأنّه ليس فيها زكاة مال حتى تسقط بها زكاة التجارة.

وفي الآخر : تسقط ، لأنّ المقصود منها ثمارها وقد أخذنا زكاتها(٢) .

وهو ممنوع.

وكذا لا تسقط عن أرض الحديقة.

وللشافعية طريقان : أحدهما : طرد الوجهين(٣) . والثاني : القطع بعدم السقوط ، لبُعد الأرض عن التبعية ؛ لأنّ الثمار خارجة عن الشجرة ، والشجرة حاصلة ممّا اُودع في الأرض لا من نفسها(٤) .

وأمّا الثمار التي اُخرج الزكاة المالية منها فإنّ حول التجارة ينعقد عليها أيضاً ، وتثبت الزكاة فيها في الأحوال المستقبلة للتجارة وإن كانت الماليّة لا تتكرر ، ويحسب ابتداء الحول للتجارة من وقت إخراج العشر بعد القطاف لا من وقت بدوّ الصلاح ، لأنّ عليه [ بعد ](٥) بدوّ الصلاح تربية [ الثمار ](٦) للمساكين ، فلا يجوز أن يحسب عليه وقت التربية.

د - لو اشترى أرضاً مزروعة للتجارة فأدرك الزرع ، والحاصل نصاب تعلّقت زكاة المال بالزرع ثم يبتدئ حول زكاة التجارة بعد التصفية ، وللشافعية الوجوه السابقة(٧) في الثمرة.

ولو اشترى أرضاً للتجارة وزرعها ببذر القُنية فعليه العُشر في الزرع ، وزكاة التجارة في الأرض ، ولا تسقط زكاة التجارة عن الأرض بأداء العُشر إجماعاً.

ه- الدَّين لا يمنع من زكاة التجارة كما لا يمنع من زكاة العين.

____________________

(١ و ٢ ) المجموع ٦ : ٥٢ ، فتح العزيز ٦ : ٨٣.

(٣) أي : الوجهان اللذان تقدّما آنفاً.

(٤) المجموع ٦ : ٥٢ ، فتح العزيز ٦ : ٨٣ - ٨٤.

(٥ و ٦ ) زيادة يقتضيها السياق.

(٧) سبق في المسألة ١٥٤ الوجهان للشافعي ، وانظر : فتح العزيز ٦ : ٨٣ ، والمجموع ٦ : ٥٢.

٢٢٩

الفصل الثاني

في باقي الأنواع التي تستحب فيها الزكاة‌

مسألة ١٥٧ : كلّ ما يخرج من الأرض من الغلّات غير الأربع تستحب فيها الزكاة‌ إن كان ممّا يكال أو يوزن كالعدس والماش والاُرز والذرّة وغيرها بشرط بلوغ النصاب في الغلّات الأربع - وهو خمسة أوسق - لعموم قولهعليه‌السلام : ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )(١) .

والقدر المخرج هو العشر إن سقي سيحاً أو بعلاً أو عذياً ، ونصفه إن سقي بالقرب والدوالي كما في الغلّات.

ولو اجتمعا حكم للأغلب ، فإن تساويا قسّط ويؤخذ من نصفه العشر ومن نصفه نصف العُشر ، وتثبت بعد إخراج المؤن كالواجب.

ولا زكاة في الخُضراوات.

وفي ضمّ ما يزرع مرّتين في السنة كالذرّة بعضه مع بعض نظر ، وكذا الدّخن ، والأقرب : الضمّ ، لأنّها في حكم زرع عام واحد.

____________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ١٣٣ ، صحيح مسلم ٢ : ٦٧٣ / ٩٧٩ ، سنن أبي داود ٢ : ٩٤ / ١٥٥٨ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٢ / ٦٢٦ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٢ / ١٧٩٤ ، سنن الدارقطني ٢ : ٩٩ / ٢٠ ، مسند أحمد ٢ : ٤٠٣ ، و ٣ : ٩٧ ، وسنن البيهقي ٤ : ١٢١.

٢٣٠

ويدلّ على استحباب الزكاة بعد ما تقدّم : قول الصادقعليه‌السلام : « كلّ ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة » وقال : « جعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الصدقة في كلّ شي‌ء أنبتته الأرض إلّا الخضر والبقول وكلّ شي‌ء يفسد من يومه »(١) .

وقالعليه‌السلام وقد سأله زرارة في الذرة شي‌ء؟ فقال : « الذرّة والعدس والسّلت والحبوب فيها مثل ما في الحنطة والشعير ، وكلّ ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق التي تجب فيها الزكاة فعليه فيه الزكاة»(٢) .

أمّا الخُضر فلا زكاة فيها إلّا أن تباع ، ويحول على ثمنها الحول ، وتكون الشرائط موجودةً فيه ، لقول الصادقعليه‌السلام : « ليس على الخضر ولا على البطيخ ولا على البقول وأشباهه زكاة إلّا ما اجتمع عندك من غلّة فبقي عندك سنة »(٣) .

وسأل زرارة الصادقعليه‌السلام هل في القَضْب(٤) شي‌ء؟ قال : « لا »(٥) .

وسأل الحلبي ، الصادقعليه‌السلام ما في الخضرة؟ قال : « وما هي؟ » قلت : القضب والبطيخ ومثله من الخضر. فقال : « لا شي‌ء عليه إلّا أن يباع مثله بمال فيحول عليه الحول ففيه الصدقة » وعن شجر العضاة(٦) من الفرسك(٧) وأشباهه فيه زكاة؟ قال : « لا » قلت : فثمنه(٨) ؟ قال : « ما حال‌

____________________

(١) التهذيب ٤ : ٦٥ / ١٧٦ ، والكافي ٣ : ٥١٠ / ٢.

(٢) التهذيب ٤ : ٦٥ / ١٧٧.

(٣) الكافي ٣ : ٥١١ / ١ ، التهذيب ٤ : ٦٦ / ١٧٩.

(٤) القضب : كلّ نبت اقتضب واُكل طريّاً. مجمع البحرين ٢ : ١٤٤ « قضب ».

(٥) التهذيب ٤ : ٦٦ / ١٨٠.

(٦) العضاة : كلّ شجر يعظم وله شوك. الصحاح ٦ : ٢٢٤٠ « عضه ».

(٧) الفرسك : ضرب من الخوخ ليس يتفلّق عن نواه. الصحاح ٤ : ١٦٠٣ « فرسك ».

(٨) في « ف » والتهذيب : قيمته.

٢٣١

عليه الحول من ثمنه فزكِّه »(١) .

مسألة ١٥٨ : لا تجب الزكاة في الخيل‌ بإجماع أكثر العلماء ، وبه قال - في الصحابة - عليعليه‌السلام وعمر وابنه ، وفي التابعين : عمر بن عبد العزيز وعطاء والنخعي والشعبي والحسن البصري ، وفي الفقهاء : مالك والشافعي والأوزاعي والليث بن سعد واحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد(٢) .

لما رواه عليعليه‌السلام : « أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق »(٣) .

وقالعليه‌السلام : ( ليس في الجَبْهة ولا في النخّة ولا في الكسعة صدقة )(٤) والجبهة : الخيل ؛ والنخة : الرقيق ، والكسعة : الحمير(٥) .

وقال ابن قتيبة : هي العوامل من الإِبل والبقر والحمير.

ومن طريق الخاصة قول الباقرعليه‌السلام : « وليس في الحيوان غير هذه الثلاثة الأصناف شي‌ء »(٦) وعنى الإِبل والبقر والغنم.

وللأصل ، ولأنّ كلّ جنس لا تجب الزكاة في ذكورة إذا انفردت لا تجب في إناثه ، ولكونه كالحُمُر.

وقال أبو حنيفة : إن كانت ذكوراً وإناثاً وجب فيها ، وإن كانت إناثاً منفردة فروايتان ، وكذا إن كانت ذكوراً منفردة ؛ لما رواه الصادقعليه‌السلام عن الباقر‌

____________________

(١) الكافي ٣ : ٥١٢ / ٣ ، التهذيب ٤ : ٦٧ / ١٨٢.

(٢) المغني ٢ : ٤٨٦ - ٤٨٧ ، المجموع ٥ : ٣٣٩ ، بداية المجتهد ١ : ٢٥٢ ، بدائع الصنائع ٢ : ٣٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٣.

(٣) سنن البيهقي ٤ : ١١٨ ، وشرح معاني الآثار ٢ : ٢٨ ، ومسند أحمد ١ : ١٢١ و ١٤٥.

(٤) سنن البيهقي ٤ : ١١٨ ، وغريب الحديث - للهروي - ١ : ٧.

(٥) قاله أبو عبيدة كما في غريب الحديث - للهروي - ١ : ٧.

(٦) التهذيب ٤ : ٢ / ٢ ، الاستبصار ٢ : ٢ / ٢.

٢٣٢

عليه‌السلام عن جابر أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( في الخيل السائمة في كلّ فرس دينار )(١) .

ولأنّه يطلب نماؤه من جهة السوم فأشبه النعم(٢) .

والحديث محمول على الاستحباب ، والنعم يضحّى بجنسها ، وتجب(٣) فيها من عينها ، بخلاف الخيل.

مسألة ١٥٩ : أجمع علماؤنا على استحباب الزكاة في الخيل بشروط ثلاثة : السوم والأنوثة والحول ، لأنّ زرارة قال للصادقعليه‌السلام : هل في البغال شي‌ء؟ قال : « لا » فقلت : فكيف صار على الخيل ولم يصر على البغال؟ فقال : « لأنّ البغال لا تلقح ، والخيل الإِناث ينتجن ، وليس على الخيل الذكور شي‌ء » قال ، قلت : هل على الفرس والبعير يكون للرجل يركبها شي‌ء؟ فقال : « لا ، ليس على ما يعلف شي‌ء ، إنّما الصدقة على السائمة المرسلة في مرجها(٤) عامها الذي يقتنيها فيه الرجل ، فأمّا ما سوى ذلك فليس فيه شي‌ء »(٥) .

مسألة ١٦٠ : قدر المخرج عن الخيل‌ عن كلّ فرس عتيق ديناران في كلّ حول ، وعن البرذون دينار واحد عند علمائنا ، لقول الباقر والصادقعليهما‌السلام : « وضع أمير المؤمنينعليه‌السلام على الخيل العتاق الراعية في كلّ‌

____________________

(١) سنن البيهقي ٤ : ١١٩.

(٢) المغني ٢ : ٤٨٦ - ٤٨٧ ، بدائع الصنائع ٢ : ٣٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٣ - ١٤ ، فتح الباري ٣ : ٢٥٥.

(٣) أي : تجب الزكاة.

(٤) ورد في النُسخ الخطية المعتمدة في التحقيق ، والطبعة الحجرية : مراحها. وما أثبتناه من المصادر ، والمرج : الموضع الذي ترعى فيه الدواب. الصحاح ١ : ٣٤٠ ، القاموس المحيط ١ : ٢٠٧ « مرج ».

(٥) الكافي ٣ : ٥٣٠ / ٢ ، التهذيب ٤ : ٦٧ - ٦٨ / ١٨٤.

٢٣٣

فرس في كلّ عام دينارين ، وجعل على البراذين ديناراً »(١) .

وقال أبو حنيفة : يتخيّر صاحبها إن شاء أعطى من كلّ فرس ديناراً ، وإن شاء قوّمها وأعطى ربع عُشر قيمتها ؛ لما رواه جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام عن أبيه الباقرعليه‌السلام عن جابر : ( أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( في الخيل السائمة في كلّ فرس دينار )(٢) .

وهو دليل لنا لا له.

مسألة ١٦١ : العقار المتّخذ للنماء تستحب الزكاة في حاصله‌ ، ولا يشترط فيه الحول ولا النصاب ؛ للعموم ، بل يخرج ممّا يحصل منه ربع العُشر ، فإن بلغ نصاباً وحال عليه الحول وجبت الزكاة ، لوجود المقتضي ، ولا تستحب الزكاة في شي‌ء غير ذلك من الأثاث والأمتعة والأقمشة المتّخذة للقنية بإجماع العلماء.

____________________

(١) الكافي ٣ : ٥٣٠ / ١ ، التهذيب ٤ : ٦٧ / ١٨٣ ، الاستبصار ٢ : ١٢ / ٣٤.

(٢) بدائع الصنائع ٢ : ٣٤ ، المغني ٢ : ٤٨٦ - ٤٨٧ ، فتح الباري ٣ : ٢٥٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٤ ، وانظر أيضاً : سنن البيهقي ٤ : ١١٩.

٢٣٤

٢٣٥

المقصد الرابع

في الإِخراج‌

وفيه فصول :

الأول : في من تخرج الزكاة إليه.

وفيه مباحث‌

٢٣٦

٢٣٧

الأول : في الأصناف‌

مسألة ١٦٢ : أصناف المستحقين للزكاة ثمانية‌ بإجماع العلماء ، وهُم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله :( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) (١) .

وقد اختلف الفقهاء في الفقراء والمساكين أيّهما أسوأ حالاً ، فقال الشيخ : الفقير : الذي لا شي‌ء له ، والمسكين هو : الذي له بُلغة من العيش لا تكفيه(٢) . فجعل الفقير أسوأ حالاً ، وبه قال الشافعي والأصمعي(٣) ، لأنّه تعالى بدأ به ، والابتداء يدلّ على شدّة العناية والاهتمام في لغة العرب.

ولأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله استعاذ من الفقر(٤) ، وقال : ( اللّهم أحيني مسكيناً ، وأمتني مسكيناً ، واحشرني في زمرة المساكين )(٥) .

____________________

(١) التوبة : ٦٠.

(٢) المبسوط للطوسي ١ : ٢٤٦ ، الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ٢٠٦.

(٣) المجموع ٦ : ١٩٦ - ١٩٧ ، حلية العلماء ٣ : ١٥١ - ١٥٢ ، المغني ٧ : ٣١٣.

(٤) سنن النسائي ٨ : ٢٦١ ، سنن البيهقي ٧ : ١٢ ، المستدرك - للحاكم - ١ : ٥٤٠ - ٥٤١ ، مسند أحمد ٢ : ٣٠٥ ، ٣٢٥ ، ٣٥٤.

(٥) سنن الترمذي ٤ : ٥٧٧ / ٢٣٥٢ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٨١ / ٤١٢٦ ، سنن البيهقي ٧ : ١٢ ، المستدرك - للحاكم - ٤ : ٣٢٢.

٢٣٨

ولقوله تعالى( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ) (١) وهي تساوي جملة من المال.

ولأنّ الفقر مشتق من كسر الفقار وذلك مهلك.

وقال آخرون : المسكين أسوأ حالاً من الفقير(٢) . وبه قال أبو حنيفة والفراء وثعلب وابن قتيبة ، واختاره أبو إسحاق(٣) ؛ لقوله تعالى( أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) (٤) وهو المطروح على التراب ، لشدّة حاجته ، ولأنّه يؤكّد به ، ولقول الشاعر :

أمّا الفقير الذي كانت حلوبته

وفق العيال فلم يترك له سبد(٥)

والمروي عن أهل البيتعليهم‌السلام هذا ، قال الصادقعليه‌السلام : « الفقير : الذي لا يسأل ، والمسكين أجهد منه ، والبائس أجهدهم »(٦) .

ولا فائدة للفرق بينهما في هذا الباب ؛ لأنّ الزكاة تدفع إلى كُلّ منهما ، والعرب تستعمل كلّ واحد منهما في معنى الآخر.

نعم يحتاج إلى الفرق بينهما في باب الوصايا والنذور وغيرهما ، والضابط في الاستحقاق : عدم الغنى الشامل لهما.

مسألة ١٦٣ : قد وقع الإِجماع على أنّ الغني لا يأخذ شيئاً من الزكاة‌ من‌

____________________

(١) الكهف : ٧٩.

(٢) منهم : الشيخ المفيد في المقنعة : ٣٩ ، وسلّار في المراسم : ١٣٢.

(٣) المبسوط - للسرخسي - ٣ : ٨ ، اللباب ١ : ١٥٣ - ١٥٤ ، المجموع ٦ : ١٩٦ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٢ ، المغني ٧ : ٣١٣ ، تفسير غريب القرآن - لابن قتيبة - : ١٨٨ ، أحكام القرآن - للجصّاص - ٣ : ١٢٢.

(٤) البلد : ١٦.

(٥) البيت للراعي ، كما في تهذيب اللغة - للأزهري - ٩ : ١١٤.

(٦) الكافي ٣ : ٥٠١ / ١٦ ، التهذيب ٤ : ١٠٤ / ٢٩٧.

٢٣٩

نصيب الفقراء ؛ للآية(١) ، ولقولهعليه‌السلام : ( لا تحلّ الصدقة لغني )(٢) .

ولكن اختلفوا في الغنى المانع من الأخذ ، فللشيخ قولان ، أحدهما : حصول الكفاية حولاً له ولعياله(٣) ، وبه قال الشافعي ومالك(٤) ، وهو الوجه عندي ، لأنّ الفقر هو الحاجة.

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ) (٥) أي المحاويج إليه ، ومن لا كفاية له محتاج.

وقولهعليه‌السلام : ( لا تحلّ الصدقة إلّا لثلاثة : رجل أصابته فاقة حتى يجد سداداً من عيش ، أو قواماً من عيش )(٦) .

ومن طريق الخاصة قول الصادقعليه‌السلام : « لا تحل(٧) لغني » يعني الصدقة ، قال هارون بن حمزة فقلت له : الرجل يكون له ثلاثمائة درهم في بضاعته وله عيال ، فإن أقبل عليها أكلها عياله ولم يكتفوا بربحها؟ قال : « فلينظر ما يستفضل منها فيأكله هو ومن يسعه ذلك ، وليأخذ لمن لم يسعه من عياله »(٨) .

____________________

(١) التوبة : ٦٠.

(٢) سنن أبي داود ٢ : ١١٨ / ١٦٣٤ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٨٩ / ١٨٣٩ ، سنن الترمذي ٣ : ٤٢ / ٦٥٢ ، سنن النسائي ٥ : ٩٩ ، المستدرك - للحاكم - ١ : ٤٠٧ ، مسند أحمد ٢ : ١٦٤ ، ١٩٢ ، ٣٨٩ و ٥ : ٣٧٥.

(٣) الخلاف ، كتاب قسم الصدقات ، المسألة ٢٤ ، المبسوط للطوسي ١ : ٢٥٦.

(٤) المجموع ٦ : ١٩٣ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٣ ، المغني ٢ : ٥٢٢ و ٧ : ٣١٥ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٨٩.

(٥) فاطر : ١٥.

(٦) صحيح مسلم ٢ : ٧٢٢ / ١٠٤٤ ، سنن أبي داود ٢ : ١٢٠ / ١٦٤٠ ، سنن الدارقطني ٢ : ١٢٠ / ٢ ، سنن الدارمي ١ : ٣٩٦ ، وفيها بدل ( لا تحل الصدقة ) : ( لا تحل المسألة ).

(٧) في المصدر : « لا تصلح ».

(٨) التهذيب ٤ : ٥١ / ١٣٠.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457