البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة الجزء ٢

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة7%

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
ISBN: 964-371-766-6
الصفحات: 556

  • البداية
  • السابق
  • 556 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41549 / تحميل: 7715
الحجم الحجم الحجم
البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣٧١-٧٦٦-٦
العربية

١
٢

٣
٤

دليل المجلّد الثاني

مقدّمة : في المسائل العلميّة وأقسام الأدلّة ٧ ـ ١٤

المقصد الثالث في الأصل الأوّل من أصول الدين

التوحيد / معناه ١٧ ـ ٢٤

ال فصل الأوّل : في وجوده تعالى ٢٥ ـ ٤٢

الفصل الثاني : في صفاته تعالى ٤٣ ـ ٤٥

المطلب الأوّل : في بيان الصفات الثبوتيّة ٤٥

المسألة الأولى : في القدرة ٤٥

المقدّمة الأولى : في تعريف القدرة والإيجاب المقدّمة ٤٥ _٤٨

الثانية : في بيان القدم والحدوث ٤٨ ـ ٦٠

في إثبات القدرة ، بمعنى أنّه تعالى صاحب القدرة ٦٠ ـ ٧٧

دلائل النافين لقدرة الله والجواب عنها ٧٧ ـ ١٠٦

في عموم قدرته تعالى ١٠٦ ـ ١١٣

المسألة الثانية : في علمه تعالى ١١٣

تعريف العلم ، أقسامه ومراتبه ١١٤ ـ ١٢١

علم الواجب تعالى بذاته وبما سواه عين ذاته ١٢١ ـ ١٥٨

في كيفيّة علمه تعالى بالأشياء ١٥٨ ـ ١٩٤

في معنى قولهم : إنّه تعالى لا يعلم غيره وإنّه عالم بجميع المخلوقات ١٩٤ـ٢٠٥

مباحث متعلّقة بالمقام لتوضيح المرام ٢٠٥ ـ ٢٣٠

تكميل عرشيّ : في بيان حقيقة الوجود ٢٣٠ ـ ٢٣٣

تدقيق إلهاميّ : في حديث الصور وحصولها في ذاته تعالى ٢٣٣ ـ ٢٣٥

في كيفيّة علمه تعالى بالجزئيّات المتغيّرة ٢٣٥ ـ ٢٥٢

٥

المسألة الثالثة : في أنّه تعالى حيّ ٢٥٢ ـ ٢٥٤

المسألة الرابعة : في إرادته تعالى ٢٥٥ ـ ٢٧٠

المسألة الخامسة : في سمعه وبصره ٢٧٠ ـ ٢٧٣

المسألة السادسة : في كلامه تعالى ٢٧٣ ـ ٢٨٠

المسألة السابعة : في أنّه تعالى صادق ٢٨٠ ـ ٢٨٣

المسألة الثامنة : في أنّه تعالى قديم أزليّ ٢٨٣

المطل ب الثاني : في أنّ الأوصاف الثمانية عين الذات ٢٨٤ ـ ٢٩٠

المطلب الثا لث : في بيان الصفات السلبيّة ٢٩٠ ـ ٣٠٤

في نفي الرؤية عنه تعالى ٣٠٤ ـ ٣٢٥

المطلب الرابع : في بيان صفات الجمال ٣٢٦ ـ ٣٣٠

أنّه تعالى واحد من جميع الجهات ٣٣٠ ـ ٣٤٢

تذنيبان ٣٤٢

الأوّل : في فرق الصوفيّة ومذاهبهم ٣٤٢ ـ ٣٥٠

الثاني : فيما ورد من الأحاديث في التوحيد ٣٥٠ ـ ٣٦٤

الفصل الثالث : في العدل ٣٦٥ ـ ٣٦٨

الم قام الأوّل : في نفي الظلم عنه تعالى ٣٦٨ ـ ٣٧٤

المقام الثاني : في حسن أفعاله تعالى ٣٧٤ ـ ٣٩٣

المقام الثالث : في غاية أفعاله تعالى ٣٩٣ ـ ٤١٤

المقام الرابع : في اختيار العباد في أفعالهم ٤١٤ ـ ٤٥٢

المقام الخامس : في وجوب اللطف عليه تعالى ٤٥٢ ـ ٤٦٩

تذنيب : في خلق العالم ٤٦٩

ا لفائدة الاولى : في حدوث العالم وبدء خلقه ٤٦٩ ـ ٤٧٦

الفائدة الثانية : براهين إبطال التسلسل ٤٧٦ ـ ٤٩٢

الفائدة الثالثة : في خلق العالم العلوي ٤٩٢ ـ ٥٠٩

الفائدة الرابعة : في البسائط والعناصر ٥٠٩ ـ ٥٣٧

الفائدة الخامسة : في المواليد الثلاثة ٥٣٧ ـ ٥٥٣

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هو الواجب الوجود بالذات ، المنزّه عن صفات النقص والكدورات ، الذي له صفات الكمال والجمال ، وصفاته الذاتيّة عين الذات ، وهو المتعالي عن مطارح طائر أفكار العقول والتصوّر والتصديق بكمال الذات ، والخارج عن نتائج القياس والاستقراء والتمثيل ، بل الوهم والتخييل إلاّ بالوجوهات ، فيتصوّر التصوّر والتصديق بأنّه الواحد من جميع الجهات ، وأنّه عادل منزّه عن الظلم والقبح وفاعل المحسّنات ؛ للأغراض العائدة إلى العباد ، وهو غاية الغايات ، وخالق الأرضين ومن فيهنّ والسماوات ، وقد خلق العباد مع الاختيار من غير تفويض وإجبار في الشرور والخيرات.

والصلاة والسلام على رسوله المعصوم المبعوث إلى الثقلين مع المعجزات بالشريعة الباقية إلى يوم العرصات ، وعلى آله المعصومين المنصوبين بنصّ بعض الأخبار والآيات ، وكلّ واحد منهم أعلم عصره وأشرف المخلوقات ، وهم الذين تجب مودّتهم وطاعتهم على المؤمنين والمؤمنات ، وهم شفعاؤهم للعفو عن الخطيئات ، ودخول الجنّات والغرفات.

أمّا بعد ، فهذا هو المجلّد الثاني من البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة من تأليف خادم المذهب الجعفريّ من مذاهب الشرع المحمّديّ ، محمّد جعفر الأسترآبادي ، جعل الله عواقب أموره خيرا من المبادئ ، وهو المتعلّق ببيان المطلب الكلّي والمقصد الأصلي من مقاصد الكتاب ، الذي هو حياة أرواح الأجساد ،

٧

المتعرّض لمباحث الإلهيّات وما يتعلّق بها من أحوال النبوّة والإمامة والمعاد ، وأسأل الله أن يكتبه في صحائف الحسنات ، وأوتى بيميني يوم الحساب ، فأقول : هاؤم اقرءوا كتابيه ، إنّي ظننت أنّي ملاق حسابيه ، لأكون في عيشة راضية ، في جنّة عالية ، قطوفها دانية ،(١) وأدخل في خطاب( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) .(٢) وأردت أن أجمع فيه العقائد الحقّة التي أقول في حقّها : هذه سبيلي أدعو إلى الله تعالى على بصيرة أنا ومن اتّبعني.(٣)

اعلم أوّلا : أنّ المسائل العلميّة على أقسام خمسة :

الأوّل : الإجماعيّة حقيقة أو حكما.

الثاني : الاختلافيّة التي يكون المخالف فيها غير معتنى به.

الثالث : الخلافيّة التي يكون المخالف فيها معتنى به ، ولكنّ الثمرة المترتّبة عليها تكون غير معتدّ بها.

الرابع : الخلافيّة التي يكون المخالف فيها معتنى به والثمرة معتدّا بها ، ولكن لا يكون الدليل على الخلاف معتمدا عليه.

الخامس : الخلافيّة التي يكون المخالف فيها معتنى به والثمرة معتدّا بها ، والدليل على الخلاف معتمدا عليه. وهذا القسم ممّا ينبغي بسط(٤) الكلام فيه وإعمال القواعد فيه.

__________________

(١) من قوله : « هاؤم » إلى هنا اقتباس من الآيات ١٩ ـ ٢٣ من سورة الحاقّة (٦٩).

(٢) الحاقّة (٦٩) : ٢٤.

(٣) اقتباس من الآية ١٠٨ من سورة يوسف (١٢).

(٤) إشارة إلى أنّ الاستدلال على وجوه خمسة :

الأوّل : الوجه الأخصر بالاكتفاء بالدليل العقلي والنقلي اللبّي كالإجماع والسيرة ونحو ذلك.

الثاني : الوجه المختصر بذكر الدليل اللفظي ـ مثلا ـ وبيان دلالته ودفع الإيراد الوارد عليه.

الثالث : الوجه المتوسّط بذكر الدليل اللفظي والفحص عن معارضه وإعمال الترجيح سندا ومتنا ودلالة ومدلولا وخارجا.

٨

وثانيا : أنّه لا بدّ في كلّ مسألة استدلاليّة من ملاحظة الموضوع جنسا ونوعا وصنفا ووصفا وشخصا ، وكذا متعلّقه ، وكذا المحمول ومتعلّقه وجهة القضيّة ، وتعيين محلّ الكلام ؛ لئلاّ يصير النزاع لفظيّا ، ولا يحصل الخلط والاشتباه.

وثالثا : أنّه لا بدّ للمخاطب من الإنصات والالتفات والتخلية عن الشبهات والإدراك والإنصاف لإحقاق الحقّ وإبطال الباطل.

ورابعا : أنّه لا بدّ من إعمال آداب المناظرة بترك الاعتراض عند نقل المذهب إلاّ في صورة الشبهة ، ومعرفة مقام المنع والمناقضة والنقض والحلّ والمعارضة ، بأنّ عدم تسليم مقدّمة معيّنة منع غير محتاج إلى السند ، وعدم التسليم إجمالا نقض إجماليّ ومناقضة تحتاج إلى بيان الخلل بالنقض بوجود مقتضى الدليل فيما لا يقول به المستدلّ ، بل ولا غيره ، والحل بإبطال الدليل ، وأنّ الإتيان بدليل مثبت لخلاف مدّعى المستدلّ يسمّى معارضة صرفة أو مع المنع.

وخامسا : أنّ بعض أفاضل العصر قد أفاد أنّ الأدلّة ثلاثة ، كما قال سبحانه لنبيّه :( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .(١)

فالأوّل دليل الحكمة ، وهو آلة للآية المحكمة ، أي علم التوحيد ، وهو أشرف الأدلّة ؛ ولهذا قدّمه الله تعالى ، وهو عبارة عن الدليل الكشفيّ العيانيّ الذي يخبر به المستدلّ بعد معاينة ما أراد الله من معاني ألفاظه ، لا مجرّد الألفاظ.

وشروط العلميّة ، منه(٢) أن يجمع قلبه على استماع المقصود والتوجّه إليه من غير أن يريد العناد والردّ ؛ لأنّه لو استمع وهو يريد الردّ والعناد ، كان مشتغلا بغير ما هو

__________________

الرابع : الوجه المبسوط بذكر أقوى الأدلّة مع ملاحظة السند والمتن والدلالة والفحص عن المعارض الأقوى لكنّه على الوجه المذكور.

الخامس : الوجه الأبسط بذكر جميع الأدلّة أصلا ومعارضا ، كما أشرنا إليه. ( منه رحمه‌الله ).

(١) النحل (١٦) : ١٢٥.

(٢) كذا في النسخ. والصحيح : « منها ».

٩

بصدده ، فلا يفهم المراد ؛ وأن لا تركن نفسه إلى ما آنست به ؛ فإنّ حبّ الشيء يعمي ويصمّ ؛ وأن لا يعتمد على ما عنده من القواعد والضوابط ؛ لئلاّ يرى المرجوح راجحا وبالعكس.

وشرط العمليّة ، منه(١) أن يكون مخلصا لله ـ عزّ وجلّ ـ في توحيده وعبادته بحيث لا يكون له غرض إلاّ رضا الله في كلّ شيء.

فإذا تمّت له شروط العلم والعمل جميعا على الوجه المطابق للكتاب والسنّة ، حصل له دليل الحكمة الذي لا يعرف الله إلاّ به ؛ فإنّه آلة للمعارف الإلهيّة الحقّة ، وبه يعرف الحكماء العقلاء ، والعلماء النبلاء الواجب تعالى ؛ لأنّه الدليل الذوقيّ العيانيّ الذي يلزم منه الضرورة والبداهة بالمستدلّ عليه ؛ لأنّه نوع من المعاينة. وذلك منحصر في إدراك الفؤاد الذي يدرك الشيء مجرّدا عن جميع ما سوى محض وجود الشيء مع قطع النظر عن جميع العوارض الذاتيّة له ، وهو نور الله الذي ورد فيه : « أنّ المؤمن ينظر بنور الله »(٢) وهو على مشاعر الإنسان كالصدر ، والخيال الذي هو محلّ الصور العلميّة ، كلّيّة أو جزئيّة يرفع الجهل ، والقلب الذي هو محلّ المعاني واليقين يرفع الشكّ والريب.

وبالجملة ، فالمراد بالفؤاد في كلام الأئمّةعليهم‌السلام هو الوجود الذي هو أثر لفعل الله ؛ فإنّه لا ينظر إلى نفسه أبدا بل إلى ربّه ؛ لأنّه أثره ، كما أنّ الماهيّة لا تنظر إلى ربّها أبدا بل إلى نفسها.

الثاني : دليل الموعظة الحسنة ، وهو آلة لعلم الطريقة والفريضة العادلة ، أي علم تهذيب الأخلاق وعلم اليقين والتقوى ، كما إذا قلت : إن اعتقدت أنّ لك صانعا ، فلا شكّ في كونك ناجيا من عقوبته ، وإن لم تعتقد فلا تقطع بنجاتك من عقوبته ،

__________________

(١) كذا في النسخ. والصحيح : « منها ».

(٢) « المحاسن » ١ : ٢٢٣ ، باب ما خلق الله تبارك وتعالى المؤمن من نوره ، ح ١.

١٠

بل يجوز أن يعذّبك ، فلا يحصل لك القطع بالنجاة إلاّ مع اعتقاد وجوده تعالى.

ومثل هذا لا يحصل به المعرفة ، وإنّما هو بيان طريق السلامة ؛ لأنّه طريق الاحتياط وفيه السلامة والنجاة ، وعلم طريقة السلوك العمليّ الذي هو روح السلوك العلميّ ، وذلك بمعرفة تهذيب الأخلاق ودوام الذكر وملازمة الأعمال والتجنّب عن الأخلاق الذميمة ، كالطمع والحرص والبخل والشحّ والسرف والتبذير والجبن والتهوّر. ومستنده القلب والعقل ، ومثاله قوله تعالى :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ) (١) وأمثال ذلك.

الثالث : دليل المجادلة بالتي هي أحسن ، وهو آلة لعلم الشريعة والسنّة القائمة ، وذلك كما إذا قلت : إن كان في الموجودات قديم ، خالق وليس بمخلوق ، ثبت الواجب تعالى ، وإلاّ فلا بدّ لها من صانع ؛ إذ يستحيل أن توجد نفسها ، أو توجد بغير موجد لها. ومثل هذا لا يحصل به المعرفة الحقّة وإنّما يقطع حجّة المخالف ، بخلاف دليل الحكمة ، كما إذا قلت : إنّ كلّ أثر يشابه صفة مؤثّره ، وأنّه قائم به ـ أي بفعله ـ قيام صدور ، كالكلام ؛ فإنّه قائم بالمتكلّم قيام صدور ، وكالأشعّة والصور في المرايا ، فالأشياء هي ظهور الواجب بها لها ؛ لأنّه تعالى لا يظهر بذاته ، وإلاّ لاختلفت حالتاه ، ولا يكون شيء أشدّ ظهورا وحضورا وبيانا من الظاهر في ظهوره ؛ لأنّ الظاهر أظهر من ظهوره وإن كان لا يمكن التوصّل إلى معرفته إلاّ بظهوره ، مثل القيام والقعود ؛ فإنّ القائم أظهر في القيام من القيام وإن كان لا يمكن التوصّل إليه إلاّ بالقيام ، فتقول : يا قائم ويا قاعد ، فأنت إنّما تعني القائم لا القيام ؛ لأنّه بظهوره لك غيب عنك مشاهدة القيام أصلا ، إلاّ أن تلتفت إلى نفس القيام فيحتجب عنك القائم بالقيام.

فبهذا الاستدلال الذي هو من دليل الحكمة يكون عند العارف أظهر من كلّ

__________________

(١) فصّلت (٤١) : ٥٢.

١١

شيء ، كما قال سيّد الشهداءعليه‌السلام : « أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك؟ »(١) وتحصل به المعرفة الحقّة ولا تحصل بغيره أصلا.

وبالجملة ، فلا بدّ في هذا الدليل من إقامة البرهان على النحو المقرّر في الميزان من المقدّمات وكيفيّة الدليل ، ولا حاجة إلى التمثيل ؛ لأنّ الكتب مشحونة به ، بل لا نكاد نجد غيره إلاّ نادرا إمّا لضعف المستدلّ أو المستدلّ له أو عليه ، ولكنّ الأوّل أولى ، ثمّ الثاني ثمّ الثالث.

أقول أوّلا : إنّ الظاهر أنّ المراد من الحكمة هي المقالة المحكمة والدليل الموضّح للحقّ ، المزيل للشبهة للخواصّ ؛ فإنّ الحكمة عبارة عن العلم بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر ، فيكون المراد هنا ما يوصل إليه.

مع أنّ الدليل الذوقيّ العيانيّ لو سلّم صحّته في المقام لا يمكن حصوله ظاهرا بالنسبة إلى الطائفة الذين أمر الله نبيّه أن يدعوهم به إلى سبيله تعالى.

والمراد من الموعظة الحسنة يمكن أن يكون هو الخطابات المقنعة والعبر النافعة للعوامّ. والمجادلة بالطريقة ـ التي هي أحسن طرق المجادلة ـ يمكن أن يراد منها ما يكون مع الرفق واللين وإيثار الوجه الأيسر والمقدّمات الأشهر ، أو ذكر مسلّمات الخصم مع كونها حقّة.

وثانيا : إنّ البرهان الإنّيّ بل كثيرا من الصناعات الخمس خارج عمّا أفاده ، مع أنّه أيضا من أدلّة المعرفة بل هو الغالب ، كما يشهد عليه قوله تعالى :( أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (٢) وقوله تعالى :( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (٣) ونحو ذلك من الآيات الدالّة على لزوم الاعتبار والاستدلال من المعلول على العلّة ، وقولهعليه‌السلام :

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٩٥ : ٢٢٦ ، ح ٣.

(٢) الأعراف (٧) : ١٨٥.

(٣) فصلت (٤١) : ٥٣.

١٢

« من عرف نفسه فقد عرف ربّه »(١) إلى غير ذلك. واحتمال إرادته من الحكمة لو لم يكن أظهر فلا أقلّ من التساوي ، مع أنّ الآية الشريفة لا تقتضي حصر الأدلّة في الثلاثة كما هو المدّعى ظاهرا.

وأيضا الدليل الذوقيّ العيانيّ لو سلّم صحّته سيّما بالنسبة إلى الطائفة المذكورة من أسباب عين اليقين الذي هو من خواصّ المقرّبين ، فيلزم عدم اعتبار ما هو من أسباب علم اليقين الذي هو من وظائف عامّة المؤمنين ؛ فإنّ اليقين له أقسام :

الأوّل : علم اليقين بمراتب شتّى من جهة أسباب العلم على وجه البرهان اللمّيّ أو الإنّيّ أو الحدس أو التجربة أو نحو ذلك ممّا يتفاوت بتفاوت المقدّمات.

الثاني : عين اليقين بمراتبه.

الثالث : حقّ اليقين ، ووظيفة العامّة هو الأوّل ، وأمّا غيره فهو من وظائف الأخيار والمقرّبين.

ومنه ما روي عن مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : « ويحك كيف أعبد ربّا لم أره؟! »(٢) وقولهعليه‌السلام : « لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا ».(٣)

ثمّ اعلم أنّ البرهان الممكن إقامته على إثبات واجب الوجود هو البرهان الإنّيّ الذي ينتقل فيه من المعلول إلى العلّة ؛ لأنّا نستدلّ من المصنوع الذي هو المعلول على الصانع الذي هو العلّة ، ولا يمكن إقامة البرهان اللمّيّ الذي ينتقل فيه من العلّة إلى المعلول ؛ إذ لا علّة له ؛ لأنّه علّة لكلّ علل.

__________________

(١) « غوالي اللآلئ » ٤ : ١٠٢ / ١٤٩ ؛ « مصباح الشريعة » : ١٣ ، الباب ٥ ، ونسبه كلّ منهما إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونسبه الآمدي إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام في « غرر الحكم ودرر الكلم » ٢ : ١٦٤.

(٢) انظر « المحاسن » ١ : ٣٧٣ باب جوامع التوحيد ، ح [٨١٧] ٢١٩ : « التوحيد » : ١٠٩ باب ما جاء في الرؤية ، ح ٦ ؛ « الكافي » ١ : ٩٨ باب إبطال الرؤية ، ح ٦ ؛ « الإرشاد » ١ : ٢٢٥ ؛ « الاحتجاج » ١ : ٤٩٣ / ١٢٣.

(٣) « مناقب آل أبي طالب » ٢ : ٤٧ ؛ « غرر الحكم ودرر الكلم » ٢ : ١٤٢ ، الفصل ٧٥ ، الرقم ١ ؛ « شرح ابن ميثم البحراني على المائة كلمة لأمير المؤمنينعليه‌السلام » : ٥٢ ، الكلمة الأولى ؛ « بحار الأنوار » ٦٤ : ٣٢١.

١٣

وزعم بعض أهل الإشراق إمكان إثباته بالبرهان اللمّيّ بملاحظة حقيقة الوجود.(١)

وهو كما ترى ؛ فإنّ الاستدلال إمّا بحدوث الأجسام والأعراض على وجود الخالق ، وبصفاتها على صفاته ـ كما عن المتكلّمين ـ أو بوجود الحركة على محرّك وبامتناع اتّصال الحركات لا إلى نهاية على وجود محرّك أوّل غير متحرّك ووجود مبدأ أوّل ـ كما عن الحكماء الطبيعيّين ـ أو بالنظر في الوجود ، وأنّه واجب أو ممكن ـ كما عن الحكماء الإلهيّين ـ وكلّ ذلك برهان إنّيّ ؛ لكون الكلّ باعتبار الوجود الخارجيّ المعلوم الذي هو المعلول.

والحاصل : أنّه ينبغي لطالب كلّ علم أن يعرف قبل الشروع فيه أمورا خمسة :

الأوّل : ماهيّته بنفسه ورتبته وشرافته حتّى يكون على بصيرة وشوق في تحصيله ، ولا يخرج حين البحث عن الفنّ.

الثاني : موضوعه ؛ ليكون على بصيرة ، ولئلاّ يبحث عن غيره فيخرج عن الفنّ.

الثالث : محموله ؛ لئلاّ يحمل غيره على ذلك الموضوع فيخرج عن الفنّ.

الرابع : مدركه ؛ لئلاّ يستدلّ بغيره.

الخامس : غرضه وفائدته ؛ ليكون على شوق موجب للاهتمام وعدم صيرورة سعيه عبثا.

فاعلم : أنّه قال المصنّف العلاّمة ـ أعلى الله مقامه ـ :

__________________

(١) نسبه المحقّق الخوانساريقدس‌سره إلى القيل ، كما في « الحاشية على حاشية الخفري على التجريد » : ٦٧.

١٤

( المقصد الثالث )

في الأصل الأوّل من أصول الدين

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في وجوده تعالى

الفصل الثاني : في صفاته تعالى

الفصل الثالث : في العدل

١٥
١٦

( المقصد الثالث )

في الأصل الأوّل من أصول الدين

وهو التوحيد الذي هو كمال الواجب الوجود بالذات في الذات.

اعلم : أنّ التوحيد ـ بحسب المعنى التصوّري ـ عبارة عن نسبة المكلّف الواجب الوجود بالذات إلى الوحدة من جميع الجهات :

كالوحدة باعتبار الأجزاء العقليّة من الجنس الذي هو عبارة عمّا به الاشتراك في الذات ، والفصل الذي هو عبارة عمّا به الامتياز.

والوحدة باعتبار الأجزاء الخارجيّة التي هي بإزاء الأجزاء العقليّة من المادّة والصورة.

والوحدة باعتبار الأجزاء الخارجيّة العنصريّة الرئيسة أو غيرها.

والوحدة باعتبار الذات والصفات.

والوحدة باعتبار الأفراد والجزئيّات ، بمعنى أنّه لا شريك له في الذات ، ولا شبيه له في الصفات ، ولا تعدّد ولا تكثّر له في الذات ، ويندرج فيه توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الذات والصفات وتوحيد الأفعال وتوحيد العبادة.

بيان ذلك : أنّه روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : « إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام ، فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجلّ ووجهان يثبتان فيه. فأمّا

١٧

اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل : واحد ، يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ؛ لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنّه كفر من قال : إنّه ثالث ثلاثة ، وقول القائل : هو واحد من الناس ، يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز عليه ؛ لأنّه تشبيه ، عزّ وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك. وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربّنا ، وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى ، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود لا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزّ وجلّ ».(١)

وقد يقال : مراتب التوحيد عبارة عن نفي استحقاق إله آخر للعبادة ، ونفي وجوده ، ونفي إمكانه ، وإثبات الثلاثة لله تعالى.

وقد يقال : إنّ التوحيد توحيد الأحديّة كما للعصاة ، وتوحيد الفردانيّة كما للولاة.

وقد يقال : إنّه علميّ يظهر بالبرهان ، وعينيّ يثبت بالوجدان ، وحقّي اختصّ بالرحمن.

وقد يقسم إلى القشر ، وقشر القشر ، واللبّ ، ولبّ اللبّ.

والأوّل : كإيمان عموم المسلمين ، وهو التصديق بمعنى الكلمة.

والثاني : كإيمان المنافقين.

والثالث : كإيمان المقرّبين ، وهو بأن يشاهد ذلك بطريق الكشف ، ويرى أشياء كثيرة صادرة من الواحد القهّار.

والرابع : إيمان الصدّيقين ، وهو بأن لا يرى في الوجود إلاّ واحدا حتّى لا يرى نفسه.

وقيل : التوحيد كامل وناقص ، والأوّل أن يعلم أنّ وجوب الوجود لا يمكن أن

__________________

(١) « التوحيد » : ٨٣ ـ ٨٤ ، باب معنى الواحد والتوحيد والموحّد ، ح ٣ : « الخصال » : ٢ ، باب الواحد ، ح ١ ، وصحّحنا النقل على المصدر.

١٨

يكون لذاتين ، والثاني أن يعلم أنّ الله سبحانه واجب الوجود فقط.

ويمكن أن يقال : إنّ مراتب التوحيد خمس : توحيد الذات ، وتوحيد الصفات ، وتوحيد الذات والصفات ، وتوحيد الأفعال ، وتوحيد العبادة.

فقوله تعالى :( لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ) (١) إشارة إلى توحيد الذات ، وكذا قوله تعالى :( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) (٢) .

وقوله تعالى :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (٣) إشارة إلى توحيد الصفات ، وكذا قوله تعالى :( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) (٤) .

وقولهعليه‌السلام : « لم يزل الله عزّ وجلّ والعلم ذاته »(٥) الحديث ، إشارة إلى توحيد الذات والصفات ، بل توحيد الصفات أيضا.

وقوله تعالى :( هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ ) (٦) وقوله تعالى :( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) (٧) وقوله تعالى :( هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) (٨) إشارة إلى توحيد الأفعال.

وقوله تعالى :( وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (٩) إشارة إلى توحيد العبادة.

ومثله ما روي في « الكافي » ـ في الصحيح ـ عن هشام بن الحكم أنّه سأل

__________________

(١) النحل (١٦) : ٥١.

(٢) الإخلاص (١١٢) : ١.

(٣) الشورى (٤٢) : ١١.

(٤) الإخلاص (١١٢) : ٤.

(٥) « التوحيد » : ١٣٩ باب صفات الذات ح ١ : « الكافي » ١ : ١٠٧ باب صفات الذات ، ح ١.

(٦) فاطر (٣٥) : ٣.

(٧) الرعد (١٣) : ١٦.

(٨) لقمان (٣١) : ١١.

(٩) الكهف (١٨) : ١١٠.

١٩

أبا عبد اللهعليه‌السلام عن أسماء الله واشتقاقها : الله ممّا هو مشتقّ؟ فقال : « يا هشام! الله مشتقّ من أله وإله يقتضي مألوها والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد اثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد ، أفهمت يا هشام؟ » قال : قلت : زدني ، قال : « لله تسعة وتسعون اسما ، فلو كان الاسم هو المسمّى لكان لكلّ شيء منها إله ولكنّ الله تعالى تدلّ عليه هذه الأسماء وكلّها غيره »(١) .

كما أنّ التوحيد ـ كما أشرنا ـ قد يكون باعتبار الأجزاء العقليّة من الجنس وهو ما به الاشتراك ، والفصل وهو ما به الامتياز ، بمعنى أنّه ليس له أجزاء عقليّة ، وقد يكون باعتبار الأجزاء الخارجيّة التي هي بإزائها من المادّة والصورة ، وقد يكون باعتبار الأجزاء الخارجيّة ، مثل العنصريّة الرئيسة وغيرها ، وقد يكون باعتبار الذات والصفات ، وقد يكون باعتبار الأفراد والجزئيّات.

والتوحيد الذاتي يندرج فيه التوحيد الأجزائي بملاحظة الأجزاء العقليّة والخارجيّة بإزائها وغيرها ، والتوحيد الجزئيّاتي ، بمعنى أنّه واحد لا ينقسم أصلا ، ولا شريك له في الذات ، والمتداول بين الناس خصوص التوحيد الذاتي الجزئيّاتي من غير ملاحظة التوحيد الذاتي الأجزائيّ والتوحيد الصفاتي ، والذاتي والصفاتي والأفعالي والعباداتي ، مع أنّ الجمع مهما أمكن أولى.

وبحسب(٢) المعنى التصديقي عبارة عن الاعتقاد مع الإقرار بأنّ الله ـ الذي هو الواجب الوجود بالذات ، وصاحب جميع الصفات من صفات الكمال والجمال ، والمنزّه عن صفات النقص ؛ لكونه صاحب الجلال ، وتكون صفاته الذاتيّة كوجوده ، ووجوبه عين الذات ـ واحد من جميع الجهات لا تكثّر فيه ، ولا شريك له في الذات ،

__________________

(١) « الكافي » ١ : ٨٧ باب المعبود ، ح ٢ و: ١١٤ باب معاني الأسماء واشتقاقها ، ح ٢ ، بتفاوت يسير.

(٢) مرّ التوحيد بحسب المعنى التصوّري في ص ١٧.

٢٠

ولا كفو ولا شبه له في الصفات ، بمعنى أنّ المكلّف لا بدّ أن يعتقد أنّ الله تعالى موجود بوجود هو عين ذاته ؛ لأنّه موجد للعالم وللآثار الممكنة التي لا تحدث بنفسها ، بل تحتاج إلى مؤثّر غير متأثّر ولو بواسطة ، فيكون وجوده ضروريّا بالذات ؛ لضرورة ثبوت الشيء لنفسه ، وعدمه ممتنعا بالذات ؛ لامتناع اجتماع الضدّين.

وأنّه تعالى قديم بذاته بمقتضى وجوب وجوده ؛ إذ لولاه لكان حادثا محتاجا إلى محدث.

وأنّه تعالى أبديّ يمتنع عليه العدم كما يقتضيه القدم وعينيّة الوجود المعلومة من وجوب الوجود وعدم جواز الاحتياج إلى الغير.

وأنّه تعالى حيّ بشهادة حياة المصنوعات بالحياة القديمة التي هي عين الذات ؛ لئلاّ يلزم الاحتياج وتعدّد القدماء.(١)

وأنّه تعالى عالم بالعلم القديم الذاتي ؛ لمثل ما مرّ.

وأنّه تعالى قادر ، مختار ، غنيّ مطلق يحتاج إليه ما سواه ؛ لأنّه خلق الاختيار وأخّر بعض المختار ، مع أنّ العجز مستلزم للاحتياج المستلزم للحدوث.

وأنّه تعالى سميع ، بصير ، مريد ، متكلّم ، صادق ؛ لمثل ما مرّ.

وأنّه تعالى ليس بجسم ولا مركّب ولا مرئيّ ولا محلّ ولا حالّ ولا صاحب نحو ذلك من الأحوال.

وبالجملة ، فلا بدّ أوّلا من معرفة الله بخمس صفات :

الأولى : أنّه خالق العالم والممكنات ؛ لشهادة السماوات والأرض وما فيهما من البسائط والمركّبات.

الثانية : أنّه واجب الوجود بالذات ، بمعنى أنّ الوجود ـ بمعنى منشأ الأثر ـ لكونه عين ذاته تعالى لازم وضرور لذاته ؛ للزوم ثبوت الشيء لنفسه وكون نفس الذات

__________________

(١) هذا تعريض بمذهب الأشاعرة ، وسيأتي بيان مذهبهم ومناقشته.

٢١

علّة لإثبات الوجود له ، لا علّة للثبوت ليلزم معلوليّة الذات ، فيلزمه ضرورة الوجود بمعنى الكون والتحقّق ـ المعبّر عنه في الفارسيّة بـ « بودن » و « هستى » ـ لذاته واستحالة العدم عليه ؛ لاستحالة سلب الشيء عن نفسه.

الثالثة : أنّه صاحب صفات الكمال والجمال.

الرابعة : أنّه تعالى منزّه عن صفات النقص وله الجلال.

الخامسة : أنّ صفاته الذاتيّة عين ذاته.

وثانيا من معرفة جهات التوحيد ، أعني التوحيد الذاتي والصفاتي وغيرهما ، فهذا الأصل مشتمل على خمسة اعتقادات :

الأوّل : أنّ العالم له صانع واجب الوجود بالذات ، فهو من أصول الدين ، ومنكره كالدهري من الكافرين.

الثاني : أنّ الصانع الواجب الوجود بالذات صاحب الصفات لا نائب الصفات ، وهو من أصول المذهب أو كماله ، ومنكره ـ كبعض(١) أرباب المعقول أو المنقول ـ ناقص المذهب.

الثالث : أنّ الصانع الواجب بالذات ـ الذي هو صاحب جميع صفات الكمال والجمال ـ منزّه عن صفات النقص كالتجسّم والحلول ؛ لكونه صاحب الجلال ، وهو أيضا من أصول الدين من وجه ، والمذهب من وجه آخر ، ومنكره ـ كالمجسّمة والحلوليّة وأمثالهم ـ خارج عن الدين أو المذهب.

ومن جملة النقائص ما يحكى عن النصارى أنّ الله والد ومولود وروح القدس وشفيع ، وهو يتجلّى ودخل في رحم مريم وخرج إلى الدنيا وصلب وقتل ودفن ، ثمّ رجع إلى الدنيا بعد ثلاثة أيّام وغاص في جهنّم لنجاة أرواح الأنبياء والمؤمنين ، ثمّ صعد إلى السماء ، ثمّ ينزل إلى الدنيا لإيصال الثواب إلى الأخيار والعقاب

__________________

(١) هم المعتزلة ، وسيأتي بيان مذهبهم ومناقشة.

٢٢

إلى الفجّار.

الرابع : أنّ الصفات الذاتيّة ـ كالحياة والعلم والقدرة ـ عين الذات ، وهو أيضا من أصول المذهب ، ومنكره كالأشاعرة خارج عن المذهب.

الخامس : أنّ الصانع الواجب الوجود بالذات ـ الذي هو صاحب صفات الكمال والجمال ، والمنزّه عن صفات النقص وهو صاحب الجلال ، وتكون صفاته الذاتيّة عين ذاته تعالى ـ واحد من جميع الجهات ، لا تكثّر في ذاته ، لا شريك له في الذات ، ولا كفو ولا شبيه له في الصفات.

وهو أيضا من أصول الدين ، ومنكره كالمشركين من الكافرين ، فليكن الكلام في هذا الأصل ـ بل في كلّ أصل من الأصول ـ في خمسة فصول ، وبعد كلّ فصل وصل لبيان ما يترتّب على الاعتقاد المذكور في ذلك الفصل وجودا وعدما.

وليكن الكلام قبل الشروع في إثبات التوحيد( في إثبات الصانع ) أي صانع العالم ، على أنّ اللام عوض عن المضاف إليه ، أو مغن عن الإضافة ، أو على أنّه الفرد الكامل المنصرف إليه اللفظ المطلق.

والظاهر أنّ وجه اختياره هو الإشارة إلى أنّ البرهان الممكن ـ إقامته عليه إنّما هو البرهان الإنّي ـ الذي ينتقل فيه من المعلول إلى العلّة ـ ؛ لأنّه يستدلّ من المصنوع الذي هو المعلول على الصانع الذي هو العلّة بملاحظة الصنع والإبداع والتكوين. ولا يمكن إقامة البرهان اللمّي الذي ينتقل فيه من العلّة إلى المعلول ولو بملاحظة إمكان العالم أو طبيعة الوجود كما عن الحكماء(١) ـ إذ لا علّة له ؛ لأنّه علّة لكلّ علل.

__________________

(١) انظر « الشفاء » الإلهيات : ٣٢٧ ـ ٣٣١ ؛ « المبدأ والمعاد » لابن سينا : ٢٢ ؛ « النجاة » : ٢٣٥ ؛ « المعتبر في الحكمة » ٣ : ٢٦ ـ ٢٧ ؛ « المطالب العالية » ١ : ٧٢ ـ ٧٣ ؛ « المحصّل » ٣٤٢ وما بعدها ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٢٠ ـ ٢٨ ؛ « مناهج اليقين » : ١٥٨ ؛ « النافع يوم الحشر » : ٨ ـ ٩ ؛ « إرشاد الطالبين » : ١٧٦ ـ ١٧٩ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٥ ؛ « شرح المقاصد » ٦ : ١٥ ـ ١٦ ؛ « الأسفار الأربعة » ٦ : ٢٦ ؛ « شرح الهداية الأثيرية » لملاّ صدرا : ١٥ ـ ١٧ ؛ « شوارق الإلهام » ٢ : ٤٩٤.

٢٣

وما يقال ـ [ من ](١) أنّ كون العالم مصنوعا علّة لكون الواجب صانعا أي لهذا الوجود الرابطي لا الأصل ـ فاسد ؛ لكون الأمر بالعكس ، كما لا يخفى.

نعم ، هو علّة في الإثبات لا الثبوت(٢) وليس الوجه دفع ورود الاعتراض على ذكر « الواجب » بأنّ ما هو واجب فهو موجود بالضرورة ، فلا حاجة إلى إثباته ؛(٣) إذ(٤) ليس المراد من الواجب ما هو كذلك في نفس الأمر ، بل ما فرض كونه كذلك ، فيكون المقصود إثبات أنّ لهذا المفهوم فردا في الخارج ، وليس كالمفهومات الفرضيّة التي لا تحقّق لها فيه. ولا شكّ أنّ هذا ليس بديهيّا ، بل يحتاج إلى البرهان في إثباته.

( و ) في إثبات( صفاته ) الثبوتيّة الحقيقيّة التي هي عين الذات( وآثاره ) المترتّبة عليه في مقام الفعل كالصفات الإضافيّة ( وفيه فصول ) :

__________________

(١) انظر « شوارق الإلهام » ٢ : ٤٩٩.

(٢) أي وجه اختيار كلمة « الصانع » دون « واجب الوجود » مثلا.

(٣) انظر « شوارق الإلهام » ٢ : ٤٩٤.

(٤) هذا تعليل لقوله : « وليس الوجه ».

٢٤

( الفصل الأوّل : في وجوده )

أي في بيان أنّ الواجب الوجود بالذات ، الصانع للممكنات له فرد موجود في الخارج ، بمعنى أنّ للعالم صانعا واجب الوجود بالذات ؛ ردّا على من قال :(١) إنّ موجده الدهر أو الطبيعة من جهة توهّم كفاية الأولويّة الذاتيّة.

وذلك بأن يقال : لا شكّ في وجود فرد من أفراد الموجود المعلوم وجودها بديهة ، فذلك الفرد( الموجود إن كان واجبا فهو المطلوب ) وهو أنّ واجب الوجود موجود( وإلاّ ) يكن ذلك الموجود واجبا ، بل كان ممكنا( استلزمه ) أي استلزم وجود ذلك الممكن وجود واجب الوجود ؛ لأنّ له حينئذ مؤثّرا لا محالة ؛ لأنّ الإمكان يوجب افتقار الممكن إلى العلّة ؛ لأنّ الممكن ما يتساوى طرفاه ، وتحقّق أحد المتساويين لا بدّ له أن يرجّح بمرجّح ، وذلك المرجّح هو المراد بالعلّة.

لا يقال : (٢) لعلّ أحد طرفي الممكن كان له أولويّة ذاتيّة توجب تحقّقه من غير

__________________

(١) هم الدهرية. انظر « أصول الدين » للبغدادي : ٦٩ ؛ « الملل والنحل » للشهرستاني ٢ : ٢٣٥ ؛ « شرح المقاصد » ٥ : ٢٢٧ ؛ « الفصل في الملل والأهواء والنحل » ١ : ٤٧ ـ ٥٥ ؛ « كشاف اصطلاحات الفنون » ١ : ٨٠٠ ؛ « الحكمة المتعالية » ٧ : ١١١.

(٢) لمزيد الاطّلاع انظر « الأربعين في أصول الدين » ١ : ١٠٣ وما بعدها ؛ « المحصّل » : ٣٤٤ وما بعدها ؛ « مفتاح الباب الحادي عشر » : ٨٤ ـ ٨٥.

٢٥

احتياج إلى العلّة ، فيكون العالم مستغنيا عن المؤثّر.

لأنّا نقول : لو فرضنا أنّ للممكن أولويّة ذاتيّة ، بمعنى كون الذات كافية فيها ، وفرضنا كون تلك الأولويّة كافية في وقوع أحد طرفيه ، يلزم إمّا أن لا تكون الأولويّة أولويّة بل وجوبا فيلزم الانقلاب ، وإمّا أن لا تكون ذاتيّة وحينئذ فكون الأولويّة أولويّة ذاتية غير متصوّر.

بيان الملازمة : أنّه لو تحقّق أحد الطرفين لتلك الأولويّة ، فإن لم يمكن تحقّق الآخر ، كان ذلك الآخر ممتنعا والطرف الراجح واجبا ، فيلزم الأمر الأوّل. وإن أمكن تحقّقه ، فإمّا أن يكون ذلك الإمكان بلا سبب ، فيلزم ترجيح المرجوح بلا سبب ، وهو أقبح من ترجّح أحد المتساويين بلا سبب ، أو بسبب فإمّا أن لا يقتضي أولويّة ذلك الآخر ، فلم يكن السبب سببا ، أو يقتضيها ، فيلزم مرجوحيّة الطرف الأوّل لذاته ، فلم تكن الأولويّة أولويّة ذاتيّة ؛ لامتناع زوال ما بالذات ، فيلزم الأمر الثاني.

على أنّه لو أمكن تحقّق ذلك الآخر ، لكان تحقّق غيره مع إمكان تحقّقه ترجيحا بلا مرجّح.

وأيضا كون الأولويّة ذاتيّة ومستندة إليها ومنسوبة إليها قبلها غير متصوّر ؛ إذ لا معنى لنسبة الشيء إلى شيء وكونه مقتضاه قبله ، وكونها بعده يستلزم استناده إلى علّة واجبة والاستغناء عن غيرها ولو كان « أولى » من الأولويّة ، كما لا يخفى على من له أدنى مسكة.

ولا فرق فيما ذكرنا بين تفسير الأولويّة الذاتيّة باقتضاء ذات الممكن رجحان أحد الطرفين اقتضاء غير بالغ حدّ الوجوب ، أو كون أحد طرفي الممكن أليق بالنسبة إلى الذات لياقة غير بالغة حدّ الوجوب ، كما لا يخفى.

وبالجملة ، فتلك العلّة إن كانت ممكنة تكون محتاجة إلى علّة أخرى ، وتلك الأخرى إن كانت عين الأولى يلزم الدور المصرّح ، وإن كانت غيرها وكانت ممكنة تكون محتاجة إلى أخرى وهكذا ، فإمّا أن تنتهي السلسلة إلى الواجب ، أو ترجع ، أو

٢٦

تذهب إلى غير النهاية على وجه الدور والتسلسل ؛ ولا سبيل إلى الثاني ؛( لاستحالة الدور والتسلسل ) ببرهان التطبيق ونحوه كما تقدّم ، فيلزم الانتهاء إلى الواجب ، فيثبت وجود الواجب الوجود وهو المطلوب.

قال المحقّق الخفري في تعليقاته على شرح الفاضل القوشجي على إلهيّات التجريد : « اختار المصنّفقدس‌سره في إثبات الواجب منهج الحكماء الإلهيّين ، وهو الذي يستدلّ فيه بالنظر إلى الوجود ؛ لأنّه أخصر وأوثق وأشرف من المنهج الذي اعتبر فيه حدوث الخلق ، أو إمكانه بشرط الحدوث ـ كما هو طريقة بعض(١) المتكلّمين ـ أو الحركة ، كما هو طريقة الطبيعيّين.

بيان ذلك : أنّ لأرباب العقول في إثبات الواجب مناهج ،(٢)

كما أشرنا إليه :الأوّل : منهج الحكماء الإلهيّين ، وهو الذي يستدلّ فيه بالنظر إلى الوجود بملاحظة طبيعة الوجود بما هو وجود من غير نظر إلى الخصوصيّات ، فالاستدلال باللوازم المنتزعة عن حاقّ الملزوم.

الثاني : منهج جماعة من المتكلّمين ، وهو الذي اعتبر فيه حدوث الخلق المتوقّف على إثبات حدوث العالم ، بأن يقال : إنّ العالم حادث ؛ للدلائل الدالّة عليه ، فلا بدّ من محدث ، ويجب الانتهاء إلى محدث غير حادث ؛ دفعا للدور والتسلسل ، وهو الواجب تعالى ، فيثبت المطلوب.

الثالث : منهج طائفة أخرى منهم ، وهو الذي اعتبر فيه الإمكان بشرط الحدوث.

__________________

(١) مراده طائفة من المتكلّمين ، كما سيذكر ذلك في المنهج الثالث.

(٢) المعروف أنّ أرسطو سلك منهج الحكماء الطبيعيّين وابن سينا سلك منهج الحكماء الإلهيّين. ولمزيد المعرفة عن المناهج الأربعة انظر « الشفاء » الإلهيات : ٣٢٧ ـ ٣٣١ ؛ « المبدأ والمعاد » لابن سينا : ٢٢ و ٣٤ ـ ٣٨ ؛ « النجاة » : ٢٣٥ ؛ « المعتبر في الحكمة » ٣ : ٢٢ ـ ٢٧ ؛ « المطالب العالية » ١ : ٧٢ ؛ « المحصل » : ٣٤٢ وما بعدها ؛ « المباحث المشرقيّة » ٢ : ٤٦٧ ـ ٤٧١ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٢٠ ـ ٢٨ ؛ « مناهج اليقين » : ١٥٨ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ١٥ ـ ٢٤ ؛ « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٢ ـ ٤٨ ؛ « شوارق الإلهام » ٢ : ٤٩٤ ـ ٥٠٠.

٢٧

وتقريره مثل ما مرّ.

الرابع : منهج الحكماء الطبيعيّين ، وهو الذي يكون النظر فيه إلى طبيعة الحركة ، بأن يقال : لا شكّ في وجود متحرّك ، ولا بدّ له من محرّك غير ذاته ؛ إذ حركته أمر ممكن لا بدّ له من علّة لا محالة ، فيجب الانتهاء إلى محرّك غير متحرّك أصلا ؛ دفعا للدور أو التسلسل ، وهو الواجب.

أو يقال : إنّ النفس الناطقة خارجة في كمالاتها من القوّة إلى الفعل ، فلا بدّ لها من مخرج ، ويجب الانتهاء إلى مخرج غير مخرج ؛ دفعا للدور أو التسلسل ، وهو الواجب تعالى.

والمنهج الأوّل أخصر ؛ لكونه أقلّ مقدّمة وأوثق ؛ لكونه أشبه بالبرهان اللمّي ، بل قيل :(١) إنّه برهان لمّي ؛ إذ هو استدلال بحال مفهوم « الموجود »(٢) على أنّ بعض الموجود(٣) واجب ، لا على ذات الواجب في نفسه ، وكون طبيعة الوجود مشتملة على فرد وهو الواجب لذاته ، وهي حال من أحوال تلك الطبيعة ، فالاستدلال بحال تلك الطبيعة على حال أخرى لها معلولة للأولى ، وأشرف المناهج ؛ إذ الوجود منبع كلّ شرافة ، وموجب كلّ إنافة ».(٤)

ثمّ قال : « ويمكن تقرير هذا الدليل بوجوه أربعة :

أحدها : أنّ للموجود أفرادا بالبديهة ، فإن كان واحد منها واجب الوجود بالذات ثبت المطلوب. وإن كان كلّها ممكنا فله مؤثّر موجود بالضرورة ، ولزم الانتهاء إلى الواجب ؛ لاستحالة الدور والتسلسل.

__________________

(١) قال به العلاّمة الحلّيقدس‌سره في « كشف المراد » : ٢٨٠ والفاضل السيوري في « إرشاد الطالبين » : ١٧٧ ؛ « اللوامع الإلهيّة » : ٧١ ، ونسبه اللاهيجي إلى القيل في « شوارق الإلهام » ٢ : ٤٩٨.

(٢) في « أ » : « الوجود » بدل « الموجود ».

(٣) في « أ » : « الوجود » بدل « الموجود ».

(٤) الإنافة من نوف : الارتفاع.

٢٨

وثانيها : أن يقال في الشقّ الثاني : إن لم يتحقّق في أفراد الموجود واجب الوجود لزم الدور أو التسلسل.

وثالثها : أن يقال فيه : إن لم يتحقّق واجب الوجود في أفراد الموجود لزم أن يتحقّق فيها ؛ لاستحالة الدور والتسلسل.

ويمكن حمل كلام المصنّف على هذا.

ورابعها : ما قرّر الشارح ،(١) وهو أحد احتمالي عبارة المصنّف ».(٢) انتهى.

والفرق بين الوجوه يظهر بالتأمّل.

ويمكن الاستدلال بوجه آخر ، وهو أن يقال : مجموع الموجودات في حال وجوده واجب ؛ لأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ؛ وذلك لأنّ الأولويّة الذاتيّة غير متصوّرة كما سبق ، فلا تكون سببا للوجود ، والأولويّة الناشئة من العلّة الخارجة عن ذات الممكن وإن كانت متصوّرة ؛ لعدم لزوم شيء ممّا لزم على الأولويّة الذاتيّة لكنّها غير كافية في الوجود ؛ لأنّها إن جعلت الطرف المقابل للأولى محالا ممتنع الوقوع لم تكن أولويّة خارجيّة بل وجوبا بالغير ، وإلاّ فيمكن مع تلك الأولويّة وقوع الطرف المقابل كما يمكن وقوع الطرف الأوّل ، فالوقوع مع تلك الأولويّة واللاوقوع معها متساويان ، فلو فرض وقوع أحدهما يلزم ترجيح أحد المتساويين بلا مرجّح وهو باطل ، فيلزم وجوبه.

ولأنّ الموجود في حال وجوده لو لم يكن واجبا فإمّا أن يكون ممتنعا أو ممكنا ، والامتناع ممتنع ؛ لوجوده ، وكذا الإمكان غير ممكن ؛ لأنّ معناه صلاحية وجوده مع عدمه وقد فرضناه موجودا ، وهذا خلف ، فتعيّن وجوبه.

ولأنّ الموجود لا يوجد إلاّ بعد تحقّق جميع الدواعي ، وارتفاع جميع الموانع ،

__________________

(١) مراده الفاضل القوشجي. انظر « شرح تجريد العقائد » : ٣١٠.

(٢) « حاشية الخفري على إلهيات شرح القوشجي » الورقة ٣ ، مخطوط.

٢٩

كما لا يخفى ، وحينئذ يكون وجوده واجبا ، فذلك الوجوب إمّا في جميعها بالذات ، أو في جميعها بالغير ، أو في بعضها بالذات وفي بعض آخر بالغير.

لا سبيل إلى الأوّل ؛ لأنّه ـ مع استلزامه لمطلوبنا ، وهو وجود الواجب بالذات ـ مستلزم لتعدّد الواجب بالذات أيضا وهو باطل ؛ لما سيأتي ، ولا إلى الثاني ؛ للزوم الدور أو التسلسل ؛ فتعيّن الثالث ، فثبت أنّ واجب الوجود موجود.

وقد استدلّ عليه ببراهين أخر(١) أيضا :

منها : أنّ الموجودات لو كانت منحصرة في الممكنات الصرفة لزم الدور ؛ لأنّها في حكم ممكن واحد في إمكان انعدامها بدلا عن وجودها ؛ وذلك لأنّه وإن امتنع عدم كلّ منها بسبب علّة لكن لا شكّ في إمكان عدمه مع عدم علّته ؛ لكونها أيضا من الممكنات على هذا التقدير ، فتحقّق موجود ما يتوقّف على إيجاد ما ؛ لأنّ وجود الممكنات إنّما يتحقّق بالإيجاد ، وتحقّق إيجاد ما أيضا يتوقّف على تحقّق موجود ما ؛ إذ الشيء ما لم يوجد لم يوجد ، وليس موجود على هذا التقدير غير ما توقّف على ذلك الإيجاد ، فيلزم الدور ، فلا بدّ من موجود غير ممكن لا يحتاج في وجوده إلى إيجاد ، فيصدر منه إيجاد الممكنات وهو واجب الوجود ، فثبت وجود الواجب. كذا ذكره المحقّق الخفري في التعليقات المشار إليها.(٢)

ومنها : أنّه لو لم يكن واجب الوجود بالذات موجودا ، لم يكن شيء من الممكنات موجودا ولو لم يستحل الدور والتسلسل ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة : أنّ مجموع الممكنات إمّا موجود حقيقي بكونه معروضا لجهة

__________________

(١) انظر « المطالب العالية » ١ : ٢٤٩ ـ ٢٧٨ ؛ « المحصّل » : ٣٤٢ ـ ٣٥٢ ؛ « المباحث المشرقيّة » ٢ : ٤٦٨ ـ ٤٧١ ؛ « مجموعة مصنفات شيخ الإشراق » ١ : ٣٣ ـ ٣٩ ؛ « إرشاد الطالبين » : ١٧٧ ـ ١٧٩ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٢ ـ ١٢ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ١٧ ـ ٢٤ ؛ « حاشية الخفري على إلهيات شرح القوشجي » الورقة ٣ ، مخطوط ؛ « الأسفار الأربعة » ٢ : ١٦٥ ـ ١٨٦ ؛ « شوارق الإلهام » ٢ : ٤٩٩ ـ ٥٠٠.

(٢) « حاشية الخفري على إلهيات شرح القوشجي » الورقة ٣ ، مخطوط.

٣٠

الوحدة حقيقة كالبيت والسرير ، أو موجود اعتباري معروض لجهة الوحدة الاعتبارية كالعسكر.

وعلى الأوّل يكون المجموع أيضا ممكنا آخر بحسب الخارج لا واجبا سيّما على تقدير عدم الواجب كما هو المفروض ، فيحتاج إلى علّة مرجّحة للوجود على العدم ، والمفروض عدم الواجب ، فلا يكون الواجب علّته مع امتناع كون نفس المجموع أو بعضه علّة ؛ لامتناع كون الشيء علّة لنفسه بديهة ، فيكون المجموع بلا علّة ، ويمتنع وجود الممكن بلا علّة ، فيلزم عدم المجموع.

وعلى الثاني فإن أمكن عدم المجموع لزم إمكان عدم آحاده ، فوجوبها ـ الذي لا يمكن وجودها إلاّ به ـ محتاج إلى علّة منتفية وإن لم يمكن لزم وجود واحد يكون علّة للكلّ حتّى لنفسه وهو الواجب ، والمفروض عدمه ، فيلزم عدم الممكنات بأسرها ، وهو خلاف البديهة.

ومنها : برهان التضايف :

وتقريره : أنّه إذا تسلسلت العلل ولم يكن في الوجود واجب الوجود ، فكلّ واحد واحد ممّا هو فوق المعلول الأخير متّصف بالعلّيّة بالقياس إلى ما تحته ، وبالمعلوليّة بالقياس إلى ما فوقه ، فجميع ما فوق المعلول الأخير متّصف بالعلّيّة والمعلوليّة معا ، والمعلول الأخير متّصف بالمعلوليّة فقط ، فيلزم زيادة عدد المعلوليّة على عدد العلّيّة بواحد وهو محال ؛ لأنّ المتضايفين الحقيقيّين يجب تكافؤهما في الوجود ، فيلزم أن يكون في الوجود موجود متّصف بالعلّيّة فقط ليستقيم التكافؤ الواجب بين عدد العلّيّات والمعلوليّات ، والأمر المتّصف بالعلّيّة دون المعلوليّة باعتبار وجوده في نفسه هو الواجب بالذات ؛ بناء على أنّ العقل يحكم بأنّه يمتنع زيادة عدد أحد المتضايفين على عدد الآخر ، كما يحكم بأنّه يمتنع تحقّق أحد المتضايفين بدون الآخر ولو كان بملاحظة إجماليّة.

ومنها : أنّه ليس للموجود المطلق ـ من حيث هو موجود ـ مبدأ يكون مبدأ

٣١

لجميع أفراده ، وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ؛ لأنّه لكونه من جملة الموجودات التي هو مبدأ لها يكون مبدأ لنفسه أيضا ، والممكن من حيث هو لا بدّ له من مبدأ يكون مبدأ لجميع أفراده ؛ لكونها في حكم ممكن واحد محتاج إلى العلّة كما سبق ، فلا يمكن إيجاد أفراد الموجود المطلق وأفراد الممكن ، فلا بدّ من وجود فرد للموجود المطلق غير الممكن وهو الواجب ، فيثبت وجود الواجب بالذات. كذا ذكره المحقّق الخفري. وقال : « وهذا حقيق بأن يكون طريقة الصدّيقين الذين يستشهدون بالحقّ لا عليه ».(١)

ومنها : أنّ كلّ عاقل يحكم بملاحظة ما سبق أنّ جميع الممكنات لا بدّ لها من علّة بالذات ، أي علّة يكون جميع أجزائها متأخّرا عنها ، محتاجا إليها ، وظاهر أنّه إذا كان جزء من أجزاء الممكنات علّة لها بهذا المعنى يلزم تقدّمه على نفسه وعلى علله ، فيجب أن يكون لها علّة خارجة عنها ، وهو الواجب بالذات.

ومنها : أنّه لو لم يتحقّق الواجب ، لم يتحقّق شيء من الممكنات ؛ إذ لا شيء من الممكنات مستقلّ بنفسه لا في الوجود ـ كما هو الظاهر ـ ولا في الإيجاد ؛ إذ المستقلّ بإيجاد شيء هو ما يمتنع بسببه جميع أنحاء عدم ذلك الشيء ، ولا شيء من الممكنات كذلك ؛ لأنّها لجواز عدمها لا يتصوّر كون شيء منها سببا لامتناع عدم شيء آخر ؛ إذ لا وجود ولا إيجاد ، فلا موجود لا بذاته ولا بغيره ، كما لا يخفى.

ومنها : أنّ الممكن الكلّي الموجود في ضمن مصداقه(٢) بالبديهة ـ بناء على بداهة وجود الكلّي الطبيعي بمشاهدة انتزاع العقل من المصاديق شيئا مشتركا فيه بالعيان وكون الممكن الكلّي كلّيا طبيعيّا بالنسبة إلى مصاديقه مع كفاية الجوهر الممكن

__________________

(١) « حاشية الخفري على إلهيات شرح القوشجي » الورقة ٣ ، مخطوط.

(٢) المراد أنّ الممكن ما لا يجب لذاته ، وما لا يجب لذاته لا يكون له وجود لذاته ، فلو كانت الموجودات بأسرها ممكنة لما كان في الوجود موجود ، فلا بدّ من واجب لذاته ، فقد ثبت واجب الوجود لذاته. وهذه طريقة حسنة مستقيمة خفيفة المئونة مبنيّة على أنّ الشيء ما لم يجب ولم تمتنع جميع أنحاء عدمه لم يوجد. ( منهرحمه‌الله ).

٣٢

الذي هو جنس الأجناس ـ لا بدّ له من موجد موجود خارج ؛ حذرا عن الترجيح بلا مرجّح ونحوه وهو الواجب ؛ لانحصار المفهوم في الواجب والممكن والممتنع ، وحيث امتنع كون الممتنع موجدا ؛ لعدم وجوده ، وامتنع كون نفس الممكن علّة ؛ لئلاّ يلزم تقدّم الشيء على نفسه ، أو تحصيل الحاصل ، أو كونه بلا علّة ؛ لما مرّ ، مضافا إلى [ أنّ ] الممكن ما تساوى نسبة الوجود والعدم إلى ذاته ، بمعنى عدم اقتضاء ذات الممكن شيئا منهما حتّى لا يرد عدم تصوّر نسبة شيء إلى المعدوم ، وعدم تصوّر ترجّح أحدهما مع اقتضاء الذات التساوي تعيّن(١) كون موجده هو الواجب بالذات ، فثبت وجوده وهو المطلوب. هذا ما يتعلّق ببيان البراهين العقليّة.

الأدلّة النقليّة

وأمّا ذكر الأدلّة النقليّة ليجتمع البحران ، ويطابق العقل مع النقل سيّما القرآن ، فيتوقّف على ملاحظة الكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب ففيه آيات كثيرة :

منها : قوله تعالى :( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ) (٢) الآية.

ومنها : قوله تعالى :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) .(٣)

ومنها : قوله تعالى :( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) .(٤)

ومنها : قوله تعالى :( وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) .(٥)

ومنها : قوله تعالى :( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ

__________________

(١) جواب لقوله آنفا : « وحيث امتنع ».

(٢) إبراهيم (١٤) : ٣٢.

(٣) لقمان (٣١) : ٢٥ ؛ الزمر (٣٩) : ٣٨.

(٤) النحل (١٦) : ٤.

(٥) النحل (١٦) : ٥.

٣٣

أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) .(١)

بيان :

قال الطبرسي في جوامع الجامع : « والمعنى أنّ الموعود ـ من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم ـ سيرونه ويشاهدونه ، فيتبيّنون عند ذلك أنّ القرآن تنزيل عالم الغيب الذي هو على كلّ شيء شهيد ، أي مطّلع مهيمن يستوي عنده غيبه وشهادته ، فيكفيهم ذلك دليلا على أنّه حقّ ، وأنّه من عنده ».(٢)

والظاهر أنّ المراد الاستدلال بالحقّ ـ الشاهد على كلّ شيء ـ على وجوده ، بمعنى أنّ آثار وجوده تعالى متحقّقة في الأنفس والآفاق من جهة ملاحظة أصل الوجود واختلاف الألسنة والألوان والحجم والاستحكام وأمثال ذلك من الآثار الممكنة المحتاجة إلى المدبّر القادر العالم الحكيم ، فبعد ملاحظتها يظهر أنّ الواجب الوجود بالذات موجود حقّ ، فبمشاهدة الأثر يحكم بوجود المؤثّر ، وبملاحظة أنّ وجود الأثر مستند إلى وجود المؤثّر يدرك وجود الحقّ في كلّ شيء حتّى كأنّه مشاهد ، فيكفي مشاهدته في الحكم بوجوده تعالى على وجه أجلى وأحلى وأعلى وأغلى وأولى ؛ لأنّه برهان إنّيّ كالبرهان اللمّيّ.

وتوهّم(٣) أنّ المراد أنّه استدلال بالحقّ على الحقّ على وجه الحقيقة فاسد ؛ لأنّه يتمّ على مذهب من يقول بوحدة الوجود ، كما لا يخفى ، وهو كفر وزندقة.

__________________

(١) فصلت (٤١) : ٥٣.

(٢) « جوامع الجامع » : ٤٢٦.

(٣) هذا تعريض من الأسترآباديّ ; بطريقة العرفاء ، وليس مرادهم ما فهمه هو ، بل طريقتهم معضدة بعدّة من الروايات. انظر في ذلك « التوحيد » باب التوحيد ونفي التشبيه : ٥٧ ـ ٥٨ / ١٥ وباب صفات الذات : ١٤٣ / ٧ حول هذا المبحث راجع « الفتوحات المكّيّة » ١١ : ٣٤٣ ؛ ٤ : ٣٧ ؛ « شرح فصوص الحكم » للقيصريّ : ٣٨٨ و ٥٠٥ ؛ « التأويلات » للكاشانيّ ٢ : ٤٢٢ ؛ « جامع الأسرار » : ١٠٥ وما بعدها ؛ « الأسفار الأربعة » ١ : ١٣٥ ؛ ٣ : ٣٩٦ ؛ ٥ : ٢٧ ؛ ٦ : ١٣ ـ ٢٦ ؛ ٩ : ٣٧٤ ـ ٣٧٦ ؛ « شرح المشاعر » : ٣٦٩ وما بعدها ؛ « شرح الأسماء الحسنى » للسبزواريّ : ٤٣٦ ـ ٤٣٩ ؛ « روح البيان » ٨ : ٤٨٤.

٣٤

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على وجود الصانع من باب البرهان الإنّي ، البالغة إلى أربع وسبعين آية على ما عددتها.

وأمّا السنّة :

فمنها : ما روي عن هشام بن الحكم أنّه قال : كان من سؤال الزنديق الذي أتى أبا عبد اللهعليه‌السلام أن قال : ما الدليل على صانع العالم؟ فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « وجود الأفاعيل التي دلّت على أنّ صانعها صنعها ، ألا ترى أنّك إذا نظرت إلى بناء مشيّد مبنيّ ، علمت أنّ له بانيا وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده؟ ».

قال : وما هو؟ قال : « شيء بخلاف الأشياء ، أرجع بقولي : « شيء » إلى إثباته ، وأنّه شيء بحقيقة الشيئيّة غير أنّه لا جسم ولا صورة ، ولا يجسّ ولا يحسّ ، ولا يدرك بالحواسّ الخمس ، ولا تدركه الأوهام ، ولا تنقصه الدهور ، ولا يغيّره الزمان ».

قال السائل : فإنّا لم نجد موهوما إلاّ مخلوقا ، قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد منّا مرتفعا ؛ فإنّا لم نكلّف أن(١) نعتقد غير موهوم ، لكنّا نقول : كلّ موهوم بالحواسّ مدرك بما تحدّه الحواسّ ممثّلا ، فهو مخلوق ، ولا بدّ من إثبات صانع الأشياء خارجا من الجهتين المذمومتين ، إحداهما : النفي ؛ إذ كان النفي هو الإبطال والعدم. والجهة الثانية : التشبيه بصفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف ، فلم يكن بدّ من إثبات الصانع لوجود المصنوعين والاضطرار منهم إليه أنّهم مصنوعون وأنّ صانعهم غيرهم وليس مثلهم ؛ إذ لو كان مثلهم لكان شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف ، وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد أن لم يكونوا ، وتقلّبهم من صغر إلى كبر ، وسواد إلى بياض ، وقوّة إلى ضعف وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها لثباتها ووجودها ».

قال السائل : فأنت قد حدّدته إذا أثبتّ وجوده. قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « لم أحدّده

__________________

(١) في « د » : « لم نكلّف إلاّ أن نعتقد غير موهوم ».

٣٥

ولكن أثبتّه ؛ إذ لم يكن بين الإثبات والنفي منزلة ».

قال السائل : فقوله :( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (١) ؟ قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « بذلك وصف نفسه وكذلك هو مستول على العرش بائن من خلقه من غير أن يكون العرش حاملا له ، ولا أنّ العرش حاو له ، ولا أنّ العرش محلّ له ، لكنّا نقول : هو حامل للعرش وممسك للعرش ، ونقول في ذلك ما قال :( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) (٢) فثبّتنا من العرش والكرسيّ ما ثبّته ، ونفينا أن يكون العرش والكرسيّ حاويا له ، وأن يكون ـ جلّ وعزّ ـ محتاجا إلى مكان أو إلى شيء ممّا خلق ، بل خلقه محتاجون إليه ».

قال السائل : فما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن تخفضوها نحو الأرض؟

قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « ذلك في علمه وإحاطته وقدرته سواء ، ولكنّه عزّ وجلّ أمر أولياءه وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش ؛ لأنّه جعله معدن الرزق ، فثبّتنا ما ثبّته القرآن والأخبار عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قال : ارفعوا أيديكم إلى الله عزّ وجلّ ».(٣) وهذا تجمع عليه فرق الأمّة كلّها.

بيان :

المراد بالشيئيّة ما يساوق الوجود ، أو نفسه ، والمراد بيان عينيّة الوجود ، أو قطع لطمع السائل عن تعقّل كنهه ، بل لا يعقل إلاّ بأنّه شيء ، وأنّه بخلاف الأشياء.

و « الجسّ » كما قيل بالجيم : المسّ.

قوله : « فإنّا لم نجد موهوما إلاّ مخلوقا » أي يلزم ممّا ذكرت أنّه لا تدركه

__________________

(١) طه (٢٠) : ٥.

(٢) البقرة (٢) : ٢٥٥.

(٣) « التوحيد » : ٢٤٣ ـ ٣٥٠ ، الباب ٢٦ في الردّ على الثنويّة والزنادقة ؛ « الاحتجاج » ٢ : ١٩٧ ، احتجاجات الإمام الصادقعليه‌السلام ، ح ٢١٣ ، وقد أخذ المؤلّف موضع الحاجة منه.

٣٦

الأوهام ؛ إذ كلّ ما يحصل في الوهم فهو مخلوق ، فأجابعليه‌السلام بأنّه تعالى لا تدرك كنه حقيقته العقول والأوهام ، ولا يتمثّل أيضا في الحواسّ ؛ إذ هو مستلزم للتشبيه بالمخلوقين ، ولو كان كما توهّمت ـ من أنّه لا يمكن تصوّره بوجه من الوجوه ـ لكان تكليفنا بالتصديق بوجوده وتوحيده وسائر صفاته تكليفا بالمحال ؛ إذ لا يمكن التصديق بثبوت شيء لشيء بدون تصوّر ذلك الشيء ، فهذا القول مستلزم لنفي وجوده وسائر صفاته عنه تعالى ، ولا بدّ في التوحيد من إخراجه عن حدّ النفي والتعطيل ، وعن حدّ التشبيه بالمخلوقين.

ثمّ استدلّعليه‌السلام بتركيبهم وحدوثهم وتغيّر أحوالهم وتبدّل أحوالهم وأوضاعهم على احتياجهم إلى صانع منزّه عن جميع ذلك غير مشابه لهم في الصفات الإمكانيّة ، وإلاّ لكان هو أيضا مفتقرا إلى صانع ؛ لاشتراك علّة الافتقار.

قوله : « فقد حدّدته إذا أثبتّ وجوده » أي إثبات الوجود له يوجب التحديد ، إمّا بناء على توهّم أنّ كلّ موجود لا بدّ أن يكون محدودا بحدود جسمانيّة أو عقلانيّة ، أو باعتبار التحديد بوصف أنّه موجود ، أو باعتبار كونه محكوما عليه ، فيكون موجودا في الذهن محاطا به ، فأجابعليه‌السلام بأنّه لا يلزم أن يكون كلّ موجود جسما أو جسمانيّا حتّى يكون محدودا بحدود جسمانيّة ، ولا أن يكون مركّبا حتّى يكون محدودا بحدود عقلانيّة ، ولا يلزم كون حقيقته حاصلة في الذهن أو محدودة بصفة ؛ فإنّ الحكم لا يستدعي حصول الحقيقة في الذهن ، بل يكفيه التصوّر بوجه ما ، والوجود ليس من الصفات الموجودة المغايرة التي تحدّ بها الأشياء ، بل شيء يعتبر له بملاحظة آثاره.

ومنها : ما روي عن يوسف بن محمّد بن زياد وعليّ بن محمّد بن سيّار ، عن أبويهما ، عن الحسن بن عليّ بن محمّدعليهم‌السلام في قول الله عزّ وجلّ :( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) فقال : « الله هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من كلّ من دونه وتقطّع الأسباب من جميع من سواه ، تقول : بسم الله ،

٣٧

أي أستعين على أموري كلّها بالله الذي لا تحقّ العبادة إلاّ له ، المغيث إذا استغيث ، والمجيب إذا دعي ، وهو ما قال رجل للصادقعليه‌السلام : يا ابن رسول الله! دلّني على الله ما هو ، فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني؟ فقال له : يا عبد الله! هل ركبت سفينة قطّ؟ قال : نعم ، قال : فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال : نعم ، قال : فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئا من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال : نعم ، قال الصادقعليه‌السلام : فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث ».(١)

ومنها : ما روي عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : « سمعت أبي يحدّث عن أبيهعليهما‌السلام أنّ رجلا قام إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقال له : يا أمير المؤمنين! بما عرفت ربّك؟ قال : بفسخ العزائم ونقض الهمم لمّا أن هممت حال بيني وبين همّي ، وعزمت فخالف القضاء عزمي ، فعلمت أنّ المدبّر غيري. قال : فبما ذا شكرت نعماءه؟ قال : نظرت إلى بلاء قد صرف عنّي وابتلى به غيري ، فعلمت أنّه قد أنعم عليّ ، فشكرته. قال : فبما ذا أحببت لقاءه؟ قال : لمّا رأيته قد اختار لي دين ملائكته ورسله وأنبيائه ، علمت أنّ الذي أكرمني بهذا ليس ينساني ، فأحببت لقاءه ».(٢)

ومثله عنه ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام .(٣)

ومنها : ما روي عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال للمفضّل : « يا مفضّل أوّل العبر والأدلّة على البارئ ـ جلّ قدسه ـ هيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على ما هي عليه ؛ فإنّك إذا تأمّلت العالم بفكرك وميّزته بعقلك ، وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ،

__________________

(١) « التوحيد » : ٢٣٠ ـ ٢٣١ ، الباب ٢١ ، ح ٥ ؛ « معاني الأخبار » : ٤ باب معنى الله عزّ وجلّ ، ح ١.

(٢) « الخصال » : ٣٣ باب الاثنين معرفة التوحيد بخصلتين ، ح ١ ، ورواها عن زياد بن منذر عن الإمام الباقر عن أبيه عن جدّهعليهم‌السلام في « التوحيد » : ٢٨٨ ، الباب ٤١ ، ح ٦.

(٣) « التوحيد » : ٢٨٩ ، الباب ٤١ ، ح ٨.

٣٨

والنجوم منضودة كالمصابيح ، والجواهر مخزونة كالذخائر ، وكلّ شيء فيها لشأنه معدّ ، والإنسان كالمملّك ذلك البيت والمحوّل جميع ما فيه ، وضروب النبات مهيّأة لمآربه ، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه ، ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملاءمة ، وأنّ الخالق له واحد ، وهو الذي ألّفه ونظمه بعضا إلى بعض جلّ قدسه ، وتعالى جدّه ، وكرم وجهه ، ولا إله غيره ، تعالى عمّا يقول الجاحدون ، وجلّ وعظم عمّا ينتحله الملحدون ».(١)

ومنها : ما روي عن الاحتجاج أنّه دخل أبو شاكر الديصاني ـ وهو زنديق ـ على أبي عبد اللهعليه‌السلام ، فقال : يا جعفر بن محمّد! دلّني على معبودي ، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « اجلس » فإذا غلام صغير في كفّه بيضة يلعب بها ، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « ناولني يا غلام البيضة » فناوله إيّاها ، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « يا ديصاني! هذا حصن مكنون ، له جلد غليظ ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق ، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضّة ذائبة ، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة ولا الفضّة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن إصلاحها ، ولم يدخل فيها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها ، لا يدرى للذكر خلقت أم للأنثى ، تتفلّق عن مثل ألوان الطواويس أترى لها مدبّرا؟ ». قال : فأطرق مليّا قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأنّك إمام وحجّة من الله على خلقه ، وأنا تائب ممّا كنت فيه.(٢)

بيان :

تقرير استدلالهعليه‌السلام : أنّ ما في البيضة ـ من الإحكام والإتقان والاشتمال على ما به صلاحها ، وعدم اختلاط ما فيها من الجسمين السيّالين والحال أنّه ليس فيها

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٣ : ٦١ ، كتاب التوحيد ، الباب ٤.

(٢) « الاحتجاج » ٢ : ٢٠١ ـ ٢٠٢ ، احتجاجات الإمام الصادقعليه‌السلام ، ح ٢١٥ ، ورواها الكلينيّ في « الكافي » ١ : ٨٠ ، كتاب التوحيد ، باب حدوث العالم ، ح ٤ وكذا الصدوق في « التوحيد » : ١٢٤ الباب ٩ ، ح ١.

٣٩

مصلح حافظ لها من الأجسام ، فيخرج مخبرا عن إصلاحها ، ولا يدخلها جسماني من خارج ، فيفسدها كما هو شأن أهل الحصن الحافظين له وحال الداخل فيه بالقهر والغلبة ـ دليل على وجود الصانع.

قوله : « وهي تتفلّق عن مثل ألوان الطواويس » يدلّ على أنّ الأمر المذكور يدلّ على أنّ له مبدأ غير جسم ولا جسمانيّ.

والطواويس جمع الطاوس ، وهو طائر معروف.

ومنها : ما روي عنه ، عن عيسى بن يونس قال : قال ابن أبي العوجاء ـ بعد الاعتراض على أبي عبد اللهعليه‌السلام من جهة طواف بيت الله على وجه التهاون وجوابهعليه‌السلام بأنّه بيت استعبد الله به عباده ليختبر طاعتهم في إتيانه فحثّهم على تعظيمه وزيارته ، وجعله محلّ أنبيائه وقبلة للمصلّين له ، فهو شعبة من رضوانه ، وطريق يؤدّي إلى غفرانه ، خلقه الله قبل دحو الأرض بألفي عام ـ : ذكرت الله فأحلت على غائب ، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد ، وإليهم أقرب من حبل الوريد ، يسمع كلامهم ، ويرى أشخاصهم ، ويعلم أسرارهم؟! ».

فقال ابن أبي العوجاء : فهو في كلّ مكان أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض؟! وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء؟! فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « إنّما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل من مكان شغل به [ مكان ](١) وخلا به مكان ، فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه ، فأمّا الله العظيم الشأن الملك الديّان ، فلا يخلو منه مكان ، ولا يشغل به مكان ، ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان ».(٢)

__________________

(١) الزيادة أضفناها من « الاحتجاج » ٢ : ٢٠٨.

(٢) « الاحتجاج » ٢ : ٢٠٦ ـ ٢٠٨ احتجاجات الإمام الصادقعليه‌السلام ، ح ٢١٨ ، ورواها في « التوحيد » : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556