البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة الجزء ٢

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة10%

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
ISBN: 964-371-766-6
الصفحات: 556

  • البداية
  • السابق
  • 556 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41551 / تحميل: 7717
الحجم الحجم الحجم
البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣٧١-٧٦٦-٦
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ولا كفو ولا شبه له في الصفات ، بمعنى أنّ المكلّف لا بدّ أن يعتقد أنّ الله تعالى موجود بوجود هو عين ذاته ؛ لأنّه موجد للعالم وللآثار الممكنة التي لا تحدث بنفسها ، بل تحتاج إلى مؤثّر غير متأثّر ولو بواسطة ، فيكون وجوده ضروريّا بالذات ؛ لضرورة ثبوت الشيء لنفسه ، وعدمه ممتنعا بالذات ؛ لامتناع اجتماع الضدّين.

وأنّه تعالى قديم بذاته بمقتضى وجوب وجوده ؛ إذ لولاه لكان حادثا محتاجا إلى محدث.

وأنّه تعالى أبديّ يمتنع عليه العدم كما يقتضيه القدم وعينيّة الوجود المعلومة من وجوب الوجود وعدم جواز الاحتياج إلى الغير.

وأنّه تعالى حيّ بشهادة حياة المصنوعات بالحياة القديمة التي هي عين الذات ؛ لئلاّ يلزم الاحتياج وتعدّد القدماء.(١)

وأنّه تعالى عالم بالعلم القديم الذاتي ؛ لمثل ما مرّ.

وأنّه تعالى قادر ، مختار ، غنيّ مطلق يحتاج إليه ما سواه ؛ لأنّه خلق الاختيار وأخّر بعض المختار ، مع أنّ العجز مستلزم للاحتياج المستلزم للحدوث.

وأنّه تعالى سميع ، بصير ، مريد ، متكلّم ، صادق ؛ لمثل ما مرّ.

وأنّه تعالى ليس بجسم ولا مركّب ولا مرئيّ ولا محلّ ولا حالّ ولا صاحب نحو ذلك من الأحوال.

وبالجملة ، فلا بدّ أوّلا من معرفة الله بخمس صفات :

الأولى : أنّه خالق العالم والممكنات ؛ لشهادة السماوات والأرض وما فيهما من البسائط والمركّبات.

الثانية : أنّه واجب الوجود بالذات ، بمعنى أنّ الوجود ـ بمعنى منشأ الأثر ـ لكونه عين ذاته تعالى لازم وضرور لذاته ؛ للزوم ثبوت الشيء لنفسه وكون نفس الذات

__________________

(١) هذا تعريض بمذهب الأشاعرة ، وسيأتي بيان مذهبهم ومناقشته.

٢١

علّة لإثبات الوجود له ، لا علّة للثبوت ليلزم معلوليّة الذات ، فيلزمه ضرورة الوجود بمعنى الكون والتحقّق ـ المعبّر عنه في الفارسيّة بـ « بودن » و « هستى » ـ لذاته واستحالة العدم عليه ؛ لاستحالة سلب الشيء عن نفسه.

الثالثة : أنّه صاحب صفات الكمال والجمال.

الرابعة : أنّه تعالى منزّه عن صفات النقص وله الجلال.

الخامسة : أنّ صفاته الذاتيّة عين ذاته.

وثانيا من معرفة جهات التوحيد ، أعني التوحيد الذاتي والصفاتي وغيرهما ، فهذا الأصل مشتمل على خمسة اعتقادات :

الأوّل : أنّ العالم له صانع واجب الوجود بالذات ، فهو من أصول الدين ، ومنكره كالدهري من الكافرين.

الثاني : أنّ الصانع الواجب الوجود بالذات صاحب الصفات لا نائب الصفات ، وهو من أصول المذهب أو كماله ، ومنكره ـ كبعض(١) أرباب المعقول أو المنقول ـ ناقص المذهب.

الثالث : أنّ الصانع الواجب بالذات ـ الذي هو صاحب جميع صفات الكمال والجمال ـ منزّه عن صفات النقص كالتجسّم والحلول ؛ لكونه صاحب الجلال ، وهو أيضا من أصول الدين من وجه ، والمذهب من وجه آخر ، ومنكره ـ كالمجسّمة والحلوليّة وأمثالهم ـ خارج عن الدين أو المذهب.

ومن جملة النقائص ما يحكى عن النصارى أنّ الله والد ومولود وروح القدس وشفيع ، وهو يتجلّى ودخل في رحم مريم وخرج إلى الدنيا وصلب وقتل ودفن ، ثمّ رجع إلى الدنيا بعد ثلاثة أيّام وغاص في جهنّم لنجاة أرواح الأنبياء والمؤمنين ، ثمّ صعد إلى السماء ، ثمّ ينزل إلى الدنيا لإيصال الثواب إلى الأخيار والعقاب

__________________

(١) هم المعتزلة ، وسيأتي بيان مذهبهم ومناقشة.

٢٢

إلى الفجّار.

الرابع : أنّ الصفات الذاتيّة ـ كالحياة والعلم والقدرة ـ عين الذات ، وهو أيضا من أصول المذهب ، ومنكره كالأشاعرة خارج عن المذهب.

الخامس : أنّ الصانع الواجب الوجود بالذات ـ الذي هو صاحب صفات الكمال والجمال ، والمنزّه عن صفات النقص وهو صاحب الجلال ، وتكون صفاته الذاتيّة عين ذاته تعالى ـ واحد من جميع الجهات ، لا تكثّر في ذاته ، لا شريك له في الذات ، ولا كفو ولا شبيه له في الصفات.

وهو أيضا من أصول الدين ، ومنكره كالمشركين من الكافرين ، فليكن الكلام في هذا الأصل ـ بل في كلّ أصل من الأصول ـ في خمسة فصول ، وبعد كلّ فصل وصل لبيان ما يترتّب على الاعتقاد المذكور في ذلك الفصل وجودا وعدما.

وليكن الكلام قبل الشروع في إثبات التوحيد( في إثبات الصانع ) أي صانع العالم ، على أنّ اللام عوض عن المضاف إليه ، أو مغن عن الإضافة ، أو على أنّه الفرد الكامل المنصرف إليه اللفظ المطلق.

والظاهر أنّ وجه اختياره هو الإشارة إلى أنّ البرهان الممكن ـ إقامته عليه إنّما هو البرهان الإنّي ـ الذي ينتقل فيه من المعلول إلى العلّة ـ ؛ لأنّه يستدلّ من المصنوع الذي هو المعلول على الصانع الذي هو العلّة بملاحظة الصنع والإبداع والتكوين. ولا يمكن إقامة البرهان اللمّي الذي ينتقل فيه من العلّة إلى المعلول ولو بملاحظة إمكان العالم أو طبيعة الوجود كما عن الحكماء(١) ـ إذ لا علّة له ؛ لأنّه علّة لكلّ علل.

__________________

(١) انظر « الشفاء » الإلهيات : ٣٢٧ ـ ٣٣١ ؛ « المبدأ والمعاد » لابن سينا : ٢٢ ؛ « النجاة » : ٢٣٥ ؛ « المعتبر في الحكمة » ٣ : ٢٦ ـ ٢٧ ؛ « المطالب العالية » ١ : ٧٢ ـ ٧٣ ؛ « المحصّل » ٣٤٢ وما بعدها ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٢٠ ـ ٢٨ ؛ « مناهج اليقين » : ١٥٨ ؛ « النافع يوم الحشر » : ٨ ـ ٩ ؛ « إرشاد الطالبين » : ١٧٦ ـ ١٧٩ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٥ ؛ « شرح المقاصد » ٦ : ١٥ ـ ١٦ ؛ « الأسفار الأربعة » ٦ : ٢٦ ؛ « شرح الهداية الأثيرية » لملاّ صدرا : ١٥ ـ ١٧ ؛ « شوارق الإلهام » ٢ : ٤٩٤.

٢٣

وما يقال ـ [ من ](١) أنّ كون العالم مصنوعا علّة لكون الواجب صانعا أي لهذا الوجود الرابطي لا الأصل ـ فاسد ؛ لكون الأمر بالعكس ، كما لا يخفى.

نعم ، هو علّة في الإثبات لا الثبوت(٢) وليس الوجه دفع ورود الاعتراض على ذكر « الواجب » بأنّ ما هو واجب فهو موجود بالضرورة ، فلا حاجة إلى إثباته ؛(٣) إذ(٤) ليس المراد من الواجب ما هو كذلك في نفس الأمر ، بل ما فرض كونه كذلك ، فيكون المقصود إثبات أنّ لهذا المفهوم فردا في الخارج ، وليس كالمفهومات الفرضيّة التي لا تحقّق لها فيه. ولا شكّ أنّ هذا ليس بديهيّا ، بل يحتاج إلى البرهان في إثباته.

( و ) في إثبات( صفاته ) الثبوتيّة الحقيقيّة التي هي عين الذات( وآثاره ) المترتّبة عليه في مقام الفعل كالصفات الإضافيّة ( وفيه فصول ) :

__________________

(١) انظر « شوارق الإلهام » ٢ : ٤٩٩.

(٢) أي وجه اختيار كلمة « الصانع » دون « واجب الوجود » مثلا.

(٣) انظر « شوارق الإلهام » ٢ : ٤٩٤.

(٤) هذا تعليل لقوله : « وليس الوجه ».

٢٤

( الفصل الأوّل : في وجوده )

أي في بيان أنّ الواجب الوجود بالذات ، الصانع للممكنات له فرد موجود في الخارج ، بمعنى أنّ للعالم صانعا واجب الوجود بالذات ؛ ردّا على من قال :(١) إنّ موجده الدهر أو الطبيعة من جهة توهّم كفاية الأولويّة الذاتيّة.

وذلك بأن يقال : لا شكّ في وجود فرد من أفراد الموجود المعلوم وجودها بديهة ، فذلك الفرد( الموجود إن كان واجبا فهو المطلوب ) وهو أنّ واجب الوجود موجود( وإلاّ ) يكن ذلك الموجود واجبا ، بل كان ممكنا( استلزمه ) أي استلزم وجود ذلك الممكن وجود واجب الوجود ؛ لأنّ له حينئذ مؤثّرا لا محالة ؛ لأنّ الإمكان يوجب افتقار الممكن إلى العلّة ؛ لأنّ الممكن ما يتساوى طرفاه ، وتحقّق أحد المتساويين لا بدّ له أن يرجّح بمرجّح ، وذلك المرجّح هو المراد بالعلّة.

لا يقال : (٢) لعلّ أحد طرفي الممكن كان له أولويّة ذاتيّة توجب تحقّقه من غير

__________________

(١) هم الدهرية. انظر « أصول الدين » للبغدادي : ٦٩ ؛ « الملل والنحل » للشهرستاني ٢ : ٢٣٥ ؛ « شرح المقاصد » ٥ : ٢٢٧ ؛ « الفصل في الملل والأهواء والنحل » ١ : ٤٧ ـ ٥٥ ؛ « كشاف اصطلاحات الفنون » ١ : ٨٠٠ ؛ « الحكمة المتعالية » ٧ : ١١١.

(٢) لمزيد الاطّلاع انظر « الأربعين في أصول الدين » ١ : ١٠٣ وما بعدها ؛ « المحصّل » : ٣٤٤ وما بعدها ؛ « مفتاح الباب الحادي عشر » : ٨٤ ـ ٨٥.

٢٥

احتياج إلى العلّة ، فيكون العالم مستغنيا عن المؤثّر.

لأنّا نقول : لو فرضنا أنّ للممكن أولويّة ذاتيّة ، بمعنى كون الذات كافية فيها ، وفرضنا كون تلك الأولويّة كافية في وقوع أحد طرفيه ، يلزم إمّا أن لا تكون الأولويّة أولويّة بل وجوبا فيلزم الانقلاب ، وإمّا أن لا تكون ذاتيّة وحينئذ فكون الأولويّة أولويّة ذاتية غير متصوّر.

بيان الملازمة : أنّه لو تحقّق أحد الطرفين لتلك الأولويّة ، فإن لم يمكن تحقّق الآخر ، كان ذلك الآخر ممتنعا والطرف الراجح واجبا ، فيلزم الأمر الأوّل. وإن أمكن تحقّقه ، فإمّا أن يكون ذلك الإمكان بلا سبب ، فيلزم ترجيح المرجوح بلا سبب ، وهو أقبح من ترجّح أحد المتساويين بلا سبب ، أو بسبب فإمّا أن لا يقتضي أولويّة ذلك الآخر ، فلم يكن السبب سببا ، أو يقتضيها ، فيلزم مرجوحيّة الطرف الأوّل لذاته ، فلم تكن الأولويّة أولويّة ذاتيّة ؛ لامتناع زوال ما بالذات ، فيلزم الأمر الثاني.

على أنّه لو أمكن تحقّق ذلك الآخر ، لكان تحقّق غيره مع إمكان تحقّقه ترجيحا بلا مرجّح.

وأيضا كون الأولويّة ذاتيّة ومستندة إليها ومنسوبة إليها قبلها غير متصوّر ؛ إذ لا معنى لنسبة الشيء إلى شيء وكونه مقتضاه قبله ، وكونها بعده يستلزم استناده إلى علّة واجبة والاستغناء عن غيرها ولو كان « أولى » من الأولويّة ، كما لا يخفى على من له أدنى مسكة.

ولا فرق فيما ذكرنا بين تفسير الأولويّة الذاتيّة باقتضاء ذات الممكن رجحان أحد الطرفين اقتضاء غير بالغ حدّ الوجوب ، أو كون أحد طرفي الممكن أليق بالنسبة إلى الذات لياقة غير بالغة حدّ الوجوب ، كما لا يخفى.

وبالجملة ، فتلك العلّة إن كانت ممكنة تكون محتاجة إلى علّة أخرى ، وتلك الأخرى إن كانت عين الأولى يلزم الدور المصرّح ، وإن كانت غيرها وكانت ممكنة تكون محتاجة إلى أخرى وهكذا ، فإمّا أن تنتهي السلسلة إلى الواجب ، أو ترجع ، أو

٢٦

تذهب إلى غير النهاية على وجه الدور والتسلسل ؛ ولا سبيل إلى الثاني ؛( لاستحالة الدور والتسلسل ) ببرهان التطبيق ونحوه كما تقدّم ، فيلزم الانتهاء إلى الواجب ، فيثبت وجود الواجب الوجود وهو المطلوب.

قال المحقّق الخفري في تعليقاته على شرح الفاضل القوشجي على إلهيّات التجريد : « اختار المصنّفقدس‌سره في إثبات الواجب منهج الحكماء الإلهيّين ، وهو الذي يستدلّ فيه بالنظر إلى الوجود ؛ لأنّه أخصر وأوثق وأشرف من المنهج الذي اعتبر فيه حدوث الخلق ، أو إمكانه بشرط الحدوث ـ كما هو طريقة بعض(١) المتكلّمين ـ أو الحركة ، كما هو طريقة الطبيعيّين.

بيان ذلك : أنّ لأرباب العقول في إثبات الواجب مناهج ،(٢)

كما أشرنا إليه :الأوّل : منهج الحكماء الإلهيّين ، وهو الذي يستدلّ فيه بالنظر إلى الوجود بملاحظة طبيعة الوجود بما هو وجود من غير نظر إلى الخصوصيّات ، فالاستدلال باللوازم المنتزعة عن حاقّ الملزوم.

الثاني : منهج جماعة من المتكلّمين ، وهو الذي اعتبر فيه حدوث الخلق المتوقّف على إثبات حدوث العالم ، بأن يقال : إنّ العالم حادث ؛ للدلائل الدالّة عليه ، فلا بدّ من محدث ، ويجب الانتهاء إلى محدث غير حادث ؛ دفعا للدور والتسلسل ، وهو الواجب تعالى ، فيثبت المطلوب.

الثالث : منهج طائفة أخرى منهم ، وهو الذي اعتبر فيه الإمكان بشرط الحدوث.

__________________

(١) مراده طائفة من المتكلّمين ، كما سيذكر ذلك في المنهج الثالث.

(٢) المعروف أنّ أرسطو سلك منهج الحكماء الطبيعيّين وابن سينا سلك منهج الحكماء الإلهيّين. ولمزيد المعرفة عن المناهج الأربعة انظر « الشفاء » الإلهيات : ٣٢٧ ـ ٣٣١ ؛ « المبدأ والمعاد » لابن سينا : ٢٢ و ٣٤ ـ ٣٨ ؛ « النجاة » : ٢٣٥ ؛ « المعتبر في الحكمة » ٣ : ٢٢ ـ ٢٧ ؛ « المطالب العالية » ١ : ٧٢ ؛ « المحصل » : ٣٤٢ وما بعدها ؛ « المباحث المشرقيّة » ٢ : ٤٦٧ ـ ٤٧١ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٢٠ ـ ٢٨ ؛ « مناهج اليقين » : ١٥٨ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ١٥ ـ ٢٤ ؛ « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٢ ـ ٤٨ ؛ « شوارق الإلهام » ٢ : ٤٩٤ ـ ٥٠٠.

٢٧

وتقريره مثل ما مرّ.

الرابع : منهج الحكماء الطبيعيّين ، وهو الذي يكون النظر فيه إلى طبيعة الحركة ، بأن يقال : لا شكّ في وجود متحرّك ، ولا بدّ له من محرّك غير ذاته ؛ إذ حركته أمر ممكن لا بدّ له من علّة لا محالة ، فيجب الانتهاء إلى محرّك غير متحرّك أصلا ؛ دفعا للدور أو التسلسل ، وهو الواجب.

أو يقال : إنّ النفس الناطقة خارجة في كمالاتها من القوّة إلى الفعل ، فلا بدّ لها من مخرج ، ويجب الانتهاء إلى مخرج غير مخرج ؛ دفعا للدور أو التسلسل ، وهو الواجب تعالى.

والمنهج الأوّل أخصر ؛ لكونه أقلّ مقدّمة وأوثق ؛ لكونه أشبه بالبرهان اللمّي ، بل قيل :(١) إنّه برهان لمّي ؛ إذ هو استدلال بحال مفهوم « الموجود »(٢) على أنّ بعض الموجود(٣) واجب ، لا على ذات الواجب في نفسه ، وكون طبيعة الوجود مشتملة على فرد وهو الواجب لذاته ، وهي حال من أحوال تلك الطبيعة ، فالاستدلال بحال تلك الطبيعة على حال أخرى لها معلولة للأولى ، وأشرف المناهج ؛ إذ الوجود منبع كلّ شرافة ، وموجب كلّ إنافة ».(٤)

ثمّ قال : « ويمكن تقرير هذا الدليل بوجوه أربعة :

أحدها : أنّ للموجود أفرادا بالبديهة ، فإن كان واحد منها واجب الوجود بالذات ثبت المطلوب. وإن كان كلّها ممكنا فله مؤثّر موجود بالضرورة ، ولزم الانتهاء إلى الواجب ؛ لاستحالة الدور والتسلسل.

__________________

(١) قال به العلاّمة الحلّيقدس‌سره في « كشف المراد » : ٢٨٠ والفاضل السيوري في « إرشاد الطالبين » : ١٧٧ ؛ « اللوامع الإلهيّة » : ٧١ ، ونسبه اللاهيجي إلى القيل في « شوارق الإلهام » ٢ : ٤٩٨.

(٢) في « أ » : « الوجود » بدل « الموجود ».

(٣) في « أ » : « الوجود » بدل « الموجود ».

(٤) الإنافة من نوف : الارتفاع.

٢٨

وثانيها : أن يقال في الشقّ الثاني : إن لم يتحقّق في أفراد الموجود واجب الوجود لزم الدور أو التسلسل.

وثالثها : أن يقال فيه : إن لم يتحقّق واجب الوجود في أفراد الموجود لزم أن يتحقّق فيها ؛ لاستحالة الدور والتسلسل.

ويمكن حمل كلام المصنّف على هذا.

ورابعها : ما قرّر الشارح ،(١) وهو أحد احتمالي عبارة المصنّف ».(٢) انتهى.

والفرق بين الوجوه يظهر بالتأمّل.

ويمكن الاستدلال بوجه آخر ، وهو أن يقال : مجموع الموجودات في حال وجوده واجب ؛ لأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ؛ وذلك لأنّ الأولويّة الذاتيّة غير متصوّرة كما سبق ، فلا تكون سببا للوجود ، والأولويّة الناشئة من العلّة الخارجة عن ذات الممكن وإن كانت متصوّرة ؛ لعدم لزوم شيء ممّا لزم على الأولويّة الذاتيّة لكنّها غير كافية في الوجود ؛ لأنّها إن جعلت الطرف المقابل للأولى محالا ممتنع الوقوع لم تكن أولويّة خارجيّة بل وجوبا بالغير ، وإلاّ فيمكن مع تلك الأولويّة وقوع الطرف المقابل كما يمكن وقوع الطرف الأوّل ، فالوقوع مع تلك الأولويّة واللاوقوع معها متساويان ، فلو فرض وقوع أحدهما يلزم ترجيح أحد المتساويين بلا مرجّح وهو باطل ، فيلزم وجوبه.

ولأنّ الموجود في حال وجوده لو لم يكن واجبا فإمّا أن يكون ممتنعا أو ممكنا ، والامتناع ممتنع ؛ لوجوده ، وكذا الإمكان غير ممكن ؛ لأنّ معناه صلاحية وجوده مع عدمه وقد فرضناه موجودا ، وهذا خلف ، فتعيّن وجوبه.

ولأنّ الموجود لا يوجد إلاّ بعد تحقّق جميع الدواعي ، وارتفاع جميع الموانع ،

__________________

(١) مراده الفاضل القوشجي. انظر « شرح تجريد العقائد » : ٣١٠.

(٢) « حاشية الخفري على إلهيات شرح القوشجي » الورقة ٣ ، مخطوط.

٢٩

كما لا يخفى ، وحينئذ يكون وجوده واجبا ، فذلك الوجوب إمّا في جميعها بالذات ، أو في جميعها بالغير ، أو في بعضها بالذات وفي بعض آخر بالغير.

لا سبيل إلى الأوّل ؛ لأنّه ـ مع استلزامه لمطلوبنا ، وهو وجود الواجب بالذات ـ مستلزم لتعدّد الواجب بالذات أيضا وهو باطل ؛ لما سيأتي ، ولا إلى الثاني ؛ للزوم الدور أو التسلسل ؛ فتعيّن الثالث ، فثبت أنّ واجب الوجود موجود.

وقد استدلّ عليه ببراهين أخر(١) أيضا :

منها : أنّ الموجودات لو كانت منحصرة في الممكنات الصرفة لزم الدور ؛ لأنّها في حكم ممكن واحد في إمكان انعدامها بدلا عن وجودها ؛ وذلك لأنّه وإن امتنع عدم كلّ منها بسبب علّة لكن لا شكّ في إمكان عدمه مع عدم علّته ؛ لكونها أيضا من الممكنات على هذا التقدير ، فتحقّق موجود ما يتوقّف على إيجاد ما ؛ لأنّ وجود الممكنات إنّما يتحقّق بالإيجاد ، وتحقّق إيجاد ما أيضا يتوقّف على تحقّق موجود ما ؛ إذ الشيء ما لم يوجد لم يوجد ، وليس موجود على هذا التقدير غير ما توقّف على ذلك الإيجاد ، فيلزم الدور ، فلا بدّ من موجود غير ممكن لا يحتاج في وجوده إلى إيجاد ، فيصدر منه إيجاد الممكنات وهو واجب الوجود ، فثبت وجود الواجب. كذا ذكره المحقّق الخفري في التعليقات المشار إليها.(٢)

ومنها : أنّه لو لم يكن واجب الوجود بالذات موجودا ، لم يكن شيء من الممكنات موجودا ولو لم يستحل الدور والتسلسل ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة : أنّ مجموع الممكنات إمّا موجود حقيقي بكونه معروضا لجهة

__________________

(١) انظر « المطالب العالية » ١ : ٢٤٩ ـ ٢٧٨ ؛ « المحصّل » : ٣٤٢ ـ ٣٥٢ ؛ « المباحث المشرقيّة » ٢ : ٤٦٨ ـ ٤٧١ ؛ « مجموعة مصنفات شيخ الإشراق » ١ : ٣٣ ـ ٣٩ ؛ « إرشاد الطالبين » : ١٧٧ ـ ١٧٩ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٢ ـ ١٢ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ١٧ ـ ٢٤ ؛ « حاشية الخفري على إلهيات شرح القوشجي » الورقة ٣ ، مخطوط ؛ « الأسفار الأربعة » ٢ : ١٦٥ ـ ١٨٦ ؛ « شوارق الإلهام » ٢ : ٤٩٩ ـ ٥٠٠.

(٢) « حاشية الخفري على إلهيات شرح القوشجي » الورقة ٣ ، مخطوط.

٣٠

الوحدة حقيقة كالبيت والسرير ، أو موجود اعتباري معروض لجهة الوحدة الاعتبارية كالعسكر.

وعلى الأوّل يكون المجموع أيضا ممكنا آخر بحسب الخارج لا واجبا سيّما على تقدير عدم الواجب كما هو المفروض ، فيحتاج إلى علّة مرجّحة للوجود على العدم ، والمفروض عدم الواجب ، فلا يكون الواجب علّته مع امتناع كون نفس المجموع أو بعضه علّة ؛ لامتناع كون الشيء علّة لنفسه بديهة ، فيكون المجموع بلا علّة ، ويمتنع وجود الممكن بلا علّة ، فيلزم عدم المجموع.

وعلى الثاني فإن أمكن عدم المجموع لزم إمكان عدم آحاده ، فوجوبها ـ الذي لا يمكن وجودها إلاّ به ـ محتاج إلى علّة منتفية وإن لم يمكن لزم وجود واحد يكون علّة للكلّ حتّى لنفسه وهو الواجب ، والمفروض عدمه ، فيلزم عدم الممكنات بأسرها ، وهو خلاف البديهة.

ومنها : برهان التضايف :

وتقريره : أنّه إذا تسلسلت العلل ولم يكن في الوجود واجب الوجود ، فكلّ واحد واحد ممّا هو فوق المعلول الأخير متّصف بالعلّيّة بالقياس إلى ما تحته ، وبالمعلوليّة بالقياس إلى ما فوقه ، فجميع ما فوق المعلول الأخير متّصف بالعلّيّة والمعلوليّة معا ، والمعلول الأخير متّصف بالمعلوليّة فقط ، فيلزم زيادة عدد المعلوليّة على عدد العلّيّة بواحد وهو محال ؛ لأنّ المتضايفين الحقيقيّين يجب تكافؤهما في الوجود ، فيلزم أن يكون في الوجود موجود متّصف بالعلّيّة فقط ليستقيم التكافؤ الواجب بين عدد العلّيّات والمعلوليّات ، والأمر المتّصف بالعلّيّة دون المعلوليّة باعتبار وجوده في نفسه هو الواجب بالذات ؛ بناء على أنّ العقل يحكم بأنّه يمتنع زيادة عدد أحد المتضايفين على عدد الآخر ، كما يحكم بأنّه يمتنع تحقّق أحد المتضايفين بدون الآخر ولو كان بملاحظة إجماليّة.

ومنها : أنّه ليس للموجود المطلق ـ من حيث هو موجود ـ مبدأ يكون مبدأ

٣١

لجميع أفراده ، وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ؛ لأنّه لكونه من جملة الموجودات التي هو مبدأ لها يكون مبدأ لنفسه أيضا ، والممكن من حيث هو لا بدّ له من مبدأ يكون مبدأ لجميع أفراده ؛ لكونها في حكم ممكن واحد محتاج إلى العلّة كما سبق ، فلا يمكن إيجاد أفراد الموجود المطلق وأفراد الممكن ، فلا بدّ من وجود فرد للموجود المطلق غير الممكن وهو الواجب ، فيثبت وجود الواجب بالذات. كذا ذكره المحقّق الخفري. وقال : « وهذا حقيق بأن يكون طريقة الصدّيقين الذين يستشهدون بالحقّ لا عليه ».(١)

ومنها : أنّ كلّ عاقل يحكم بملاحظة ما سبق أنّ جميع الممكنات لا بدّ لها من علّة بالذات ، أي علّة يكون جميع أجزائها متأخّرا عنها ، محتاجا إليها ، وظاهر أنّه إذا كان جزء من أجزاء الممكنات علّة لها بهذا المعنى يلزم تقدّمه على نفسه وعلى علله ، فيجب أن يكون لها علّة خارجة عنها ، وهو الواجب بالذات.

ومنها : أنّه لو لم يتحقّق الواجب ، لم يتحقّق شيء من الممكنات ؛ إذ لا شيء من الممكنات مستقلّ بنفسه لا في الوجود ـ كما هو الظاهر ـ ولا في الإيجاد ؛ إذ المستقلّ بإيجاد شيء هو ما يمتنع بسببه جميع أنحاء عدم ذلك الشيء ، ولا شيء من الممكنات كذلك ؛ لأنّها لجواز عدمها لا يتصوّر كون شيء منها سببا لامتناع عدم شيء آخر ؛ إذ لا وجود ولا إيجاد ، فلا موجود لا بذاته ولا بغيره ، كما لا يخفى.

ومنها : أنّ الممكن الكلّي الموجود في ضمن مصداقه(٢) بالبديهة ـ بناء على بداهة وجود الكلّي الطبيعي بمشاهدة انتزاع العقل من المصاديق شيئا مشتركا فيه بالعيان وكون الممكن الكلّي كلّيا طبيعيّا بالنسبة إلى مصاديقه مع كفاية الجوهر الممكن

__________________

(١) « حاشية الخفري على إلهيات شرح القوشجي » الورقة ٣ ، مخطوط.

(٢) المراد أنّ الممكن ما لا يجب لذاته ، وما لا يجب لذاته لا يكون له وجود لذاته ، فلو كانت الموجودات بأسرها ممكنة لما كان في الوجود موجود ، فلا بدّ من واجب لذاته ، فقد ثبت واجب الوجود لذاته. وهذه طريقة حسنة مستقيمة خفيفة المئونة مبنيّة على أنّ الشيء ما لم يجب ولم تمتنع جميع أنحاء عدمه لم يوجد. ( منهرحمه‌الله ).

٣٢

الذي هو جنس الأجناس ـ لا بدّ له من موجد موجود خارج ؛ حذرا عن الترجيح بلا مرجّح ونحوه وهو الواجب ؛ لانحصار المفهوم في الواجب والممكن والممتنع ، وحيث امتنع كون الممتنع موجدا ؛ لعدم وجوده ، وامتنع كون نفس الممكن علّة ؛ لئلاّ يلزم تقدّم الشيء على نفسه ، أو تحصيل الحاصل ، أو كونه بلا علّة ؛ لما مرّ ، مضافا إلى [ أنّ ] الممكن ما تساوى نسبة الوجود والعدم إلى ذاته ، بمعنى عدم اقتضاء ذات الممكن شيئا منهما حتّى لا يرد عدم تصوّر نسبة شيء إلى المعدوم ، وعدم تصوّر ترجّح أحدهما مع اقتضاء الذات التساوي تعيّن(١) كون موجده هو الواجب بالذات ، فثبت وجوده وهو المطلوب. هذا ما يتعلّق ببيان البراهين العقليّة.

الأدلّة النقليّة

وأمّا ذكر الأدلّة النقليّة ليجتمع البحران ، ويطابق العقل مع النقل سيّما القرآن ، فيتوقّف على ملاحظة الكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب ففيه آيات كثيرة :

منها : قوله تعالى :( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ) (٢) الآية.

ومنها : قوله تعالى :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) .(٣)

ومنها : قوله تعالى :( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) .(٤)

ومنها : قوله تعالى :( وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) .(٥)

ومنها : قوله تعالى :( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ

__________________

(١) جواب لقوله آنفا : « وحيث امتنع ».

(٢) إبراهيم (١٤) : ٣٢.

(٣) لقمان (٣١) : ٢٥ ؛ الزمر (٣٩) : ٣٨.

(٤) النحل (١٦) : ٤.

(٥) النحل (١٦) : ٥.

٣٣

أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) .(١)

بيان :

قال الطبرسي في جوامع الجامع : « والمعنى أنّ الموعود ـ من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم ـ سيرونه ويشاهدونه ، فيتبيّنون عند ذلك أنّ القرآن تنزيل عالم الغيب الذي هو على كلّ شيء شهيد ، أي مطّلع مهيمن يستوي عنده غيبه وشهادته ، فيكفيهم ذلك دليلا على أنّه حقّ ، وأنّه من عنده ».(٢)

والظاهر أنّ المراد الاستدلال بالحقّ ـ الشاهد على كلّ شيء ـ على وجوده ، بمعنى أنّ آثار وجوده تعالى متحقّقة في الأنفس والآفاق من جهة ملاحظة أصل الوجود واختلاف الألسنة والألوان والحجم والاستحكام وأمثال ذلك من الآثار الممكنة المحتاجة إلى المدبّر القادر العالم الحكيم ، فبعد ملاحظتها يظهر أنّ الواجب الوجود بالذات موجود حقّ ، فبمشاهدة الأثر يحكم بوجود المؤثّر ، وبملاحظة أنّ وجود الأثر مستند إلى وجود المؤثّر يدرك وجود الحقّ في كلّ شيء حتّى كأنّه مشاهد ، فيكفي مشاهدته في الحكم بوجوده تعالى على وجه أجلى وأحلى وأعلى وأغلى وأولى ؛ لأنّه برهان إنّيّ كالبرهان اللمّيّ.

وتوهّم(٣) أنّ المراد أنّه استدلال بالحقّ على الحقّ على وجه الحقيقة فاسد ؛ لأنّه يتمّ على مذهب من يقول بوحدة الوجود ، كما لا يخفى ، وهو كفر وزندقة.

__________________

(١) فصلت (٤١) : ٥٣.

(٢) « جوامع الجامع » : ٤٢٦.

(٣) هذا تعريض من الأسترآباديّ ; بطريقة العرفاء ، وليس مرادهم ما فهمه هو ، بل طريقتهم معضدة بعدّة من الروايات. انظر في ذلك « التوحيد » باب التوحيد ونفي التشبيه : ٥٧ ـ ٥٨ / ١٥ وباب صفات الذات : ١٤٣ / ٧ حول هذا المبحث راجع « الفتوحات المكّيّة » ١١ : ٣٤٣ ؛ ٤ : ٣٧ ؛ « شرح فصوص الحكم » للقيصريّ : ٣٨٨ و ٥٠٥ ؛ « التأويلات » للكاشانيّ ٢ : ٤٢٢ ؛ « جامع الأسرار » : ١٠٥ وما بعدها ؛ « الأسفار الأربعة » ١ : ١٣٥ ؛ ٣ : ٣٩٦ ؛ ٥ : ٢٧ ؛ ٦ : ١٣ ـ ٢٦ ؛ ٩ : ٣٧٤ ـ ٣٧٦ ؛ « شرح المشاعر » : ٣٦٩ وما بعدها ؛ « شرح الأسماء الحسنى » للسبزواريّ : ٤٣٦ ـ ٤٣٩ ؛ « روح البيان » ٨ : ٤٨٤.

٣٤

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على وجود الصانع من باب البرهان الإنّي ، البالغة إلى أربع وسبعين آية على ما عددتها.

وأمّا السنّة :

فمنها : ما روي عن هشام بن الحكم أنّه قال : كان من سؤال الزنديق الذي أتى أبا عبد اللهعليه‌السلام أن قال : ما الدليل على صانع العالم؟ فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « وجود الأفاعيل التي دلّت على أنّ صانعها صنعها ، ألا ترى أنّك إذا نظرت إلى بناء مشيّد مبنيّ ، علمت أنّ له بانيا وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده؟ ».

قال : وما هو؟ قال : « شيء بخلاف الأشياء ، أرجع بقولي : « شيء » إلى إثباته ، وأنّه شيء بحقيقة الشيئيّة غير أنّه لا جسم ولا صورة ، ولا يجسّ ولا يحسّ ، ولا يدرك بالحواسّ الخمس ، ولا تدركه الأوهام ، ولا تنقصه الدهور ، ولا يغيّره الزمان ».

قال السائل : فإنّا لم نجد موهوما إلاّ مخلوقا ، قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد منّا مرتفعا ؛ فإنّا لم نكلّف أن(١) نعتقد غير موهوم ، لكنّا نقول : كلّ موهوم بالحواسّ مدرك بما تحدّه الحواسّ ممثّلا ، فهو مخلوق ، ولا بدّ من إثبات صانع الأشياء خارجا من الجهتين المذمومتين ، إحداهما : النفي ؛ إذ كان النفي هو الإبطال والعدم. والجهة الثانية : التشبيه بصفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف ، فلم يكن بدّ من إثبات الصانع لوجود المصنوعين والاضطرار منهم إليه أنّهم مصنوعون وأنّ صانعهم غيرهم وليس مثلهم ؛ إذ لو كان مثلهم لكان شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف ، وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد أن لم يكونوا ، وتقلّبهم من صغر إلى كبر ، وسواد إلى بياض ، وقوّة إلى ضعف وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها لثباتها ووجودها ».

قال السائل : فأنت قد حدّدته إذا أثبتّ وجوده. قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « لم أحدّده

__________________

(١) في « د » : « لم نكلّف إلاّ أن نعتقد غير موهوم ».

٣٥

ولكن أثبتّه ؛ إذ لم يكن بين الإثبات والنفي منزلة ».

قال السائل : فقوله :( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (١) ؟ قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « بذلك وصف نفسه وكذلك هو مستول على العرش بائن من خلقه من غير أن يكون العرش حاملا له ، ولا أنّ العرش حاو له ، ولا أنّ العرش محلّ له ، لكنّا نقول : هو حامل للعرش وممسك للعرش ، ونقول في ذلك ما قال :( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) (٢) فثبّتنا من العرش والكرسيّ ما ثبّته ، ونفينا أن يكون العرش والكرسيّ حاويا له ، وأن يكون ـ جلّ وعزّ ـ محتاجا إلى مكان أو إلى شيء ممّا خلق ، بل خلقه محتاجون إليه ».

قال السائل : فما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن تخفضوها نحو الأرض؟

قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « ذلك في علمه وإحاطته وقدرته سواء ، ولكنّه عزّ وجلّ أمر أولياءه وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش ؛ لأنّه جعله معدن الرزق ، فثبّتنا ما ثبّته القرآن والأخبار عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قال : ارفعوا أيديكم إلى الله عزّ وجلّ ».(٣) وهذا تجمع عليه فرق الأمّة كلّها.

بيان :

المراد بالشيئيّة ما يساوق الوجود ، أو نفسه ، والمراد بيان عينيّة الوجود ، أو قطع لطمع السائل عن تعقّل كنهه ، بل لا يعقل إلاّ بأنّه شيء ، وأنّه بخلاف الأشياء.

و « الجسّ » كما قيل بالجيم : المسّ.

قوله : « فإنّا لم نجد موهوما إلاّ مخلوقا » أي يلزم ممّا ذكرت أنّه لا تدركه

__________________

(١) طه (٢٠) : ٥.

(٢) البقرة (٢) : ٢٥٥.

(٣) « التوحيد » : ٢٤٣ ـ ٣٥٠ ، الباب ٢٦ في الردّ على الثنويّة والزنادقة ؛ « الاحتجاج » ٢ : ١٩٧ ، احتجاجات الإمام الصادقعليه‌السلام ، ح ٢١٣ ، وقد أخذ المؤلّف موضع الحاجة منه.

٣٦

الأوهام ؛ إذ كلّ ما يحصل في الوهم فهو مخلوق ، فأجابعليه‌السلام بأنّه تعالى لا تدرك كنه حقيقته العقول والأوهام ، ولا يتمثّل أيضا في الحواسّ ؛ إذ هو مستلزم للتشبيه بالمخلوقين ، ولو كان كما توهّمت ـ من أنّه لا يمكن تصوّره بوجه من الوجوه ـ لكان تكليفنا بالتصديق بوجوده وتوحيده وسائر صفاته تكليفا بالمحال ؛ إذ لا يمكن التصديق بثبوت شيء لشيء بدون تصوّر ذلك الشيء ، فهذا القول مستلزم لنفي وجوده وسائر صفاته عنه تعالى ، ولا بدّ في التوحيد من إخراجه عن حدّ النفي والتعطيل ، وعن حدّ التشبيه بالمخلوقين.

ثمّ استدلّعليه‌السلام بتركيبهم وحدوثهم وتغيّر أحوالهم وتبدّل أحوالهم وأوضاعهم على احتياجهم إلى صانع منزّه عن جميع ذلك غير مشابه لهم في الصفات الإمكانيّة ، وإلاّ لكان هو أيضا مفتقرا إلى صانع ؛ لاشتراك علّة الافتقار.

قوله : « فقد حدّدته إذا أثبتّ وجوده » أي إثبات الوجود له يوجب التحديد ، إمّا بناء على توهّم أنّ كلّ موجود لا بدّ أن يكون محدودا بحدود جسمانيّة أو عقلانيّة ، أو باعتبار التحديد بوصف أنّه موجود ، أو باعتبار كونه محكوما عليه ، فيكون موجودا في الذهن محاطا به ، فأجابعليه‌السلام بأنّه لا يلزم أن يكون كلّ موجود جسما أو جسمانيّا حتّى يكون محدودا بحدود جسمانيّة ، ولا أن يكون مركّبا حتّى يكون محدودا بحدود عقلانيّة ، ولا يلزم كون حقيقته حاصلة في الذهن أو محدودة بصفة ؛ فإنّ الحكم لا يستدعي حصول الحقيقة في الذهن ، بل يكفيه التصوّر بوجه ما ، والوجود ليس من الصفات الموجودة المغايرة التي تحدّ بها الأشياء ، بل شيء يعتبر له بملاحظة آثاره.

ومنها : ما روي عن يوسف بن محمّد بن زياد وعليّ بن محمّد بن سيّار ، عن أبويهما ، عن الحسن بن عليّ بن محمّدعليهم‌السلام في قول الله عزّ وجلّ :( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) فقال : « الله هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من كلّ من دونه وتقطّع الأسباب من جميع من سواه ، تقول : بسم الله ،

٣٧

أي أستعين على أموري كلّها بالله الذي لا تحقّ العبادة إلاّ له ، المغيث إذا استغيث ، والمجيب إذا دعي ، وهو ما قال رجل للصادقعليه‌السلام : يا ابن رسول الله! دلّني على الله ما هو ، فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني؟ فقال له : يا عبد الله! هل ركبت سفينة قطّ؟ قال : نعم ، قال : فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال : نعم ، قال : فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئا من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال : نعم ، قال الصادقعليه‌السلام : فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث ».(١)

ومنها : ما روي عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : « سمعت أبي يحدّث عن أبيهعليهما‌السلام أنّ رجلا قام إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقال له : يا أمير المؤمنين! بما عرفت ربّك؟ قال : بفسخ العزائم ونقض الهمم لمّا أن هممت حال بيني وبين همّي ، وعزمت فخالف القضاء عزمي ، فعلمت أنّ المدبّر غيري. قال : فبما ذا شكرت نعماءه؟ قال : نظرت إلى بلاء قد صرف عنّي وابتلى به غيري ، فعلمت أنّه قد أنعم عليّ ، فشكرته. قال : فبما ذا أحببت لقاءه؟ قال : لمّا رأيته قد اختار لي دين ملائكته ورسله وأنبيائه ، علمت أنّ الذي أكرمني بهذا ليس ينساني ، فأحببت لقاءه ».(٢)

ومثله عنه ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام .(٣)

ومنها : ما روي عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال للمفضّل : « يا مفضّل أوّل العبر والأدلّة على البارئ ـ جلّ قدسه ـ هيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على ما هي عليه ؛ فإنّك إذا تأمّلت العالم بفكرك وميّزته بعقلك ، وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ،

__________________

(١) « التوحيد » : ٢٣٠ ـ ٢٣١ ، الباب ٢١ ، ح ٥ ؛ « معاني الأخبار » : ٤ باب معنى الله عزّ وجلّ ، ح ١.

(٢) « الخصال » : ٣٣ باب الاثنين معرفة التوحيد بخصلتين ، ح ١ ، ورواها عن زياد بن منذر عن الإمام الباقر عن أبيه عن جدّهعليهم‌السلام في « التوحيد » : ٢٨٨ ، الباب ٤١ ، ح ٦.

(٣) « التوحيد » : ٢٨٩ ، الباب ٤١ ، ح ٨.

٣٨

والنجوم منضودة كالمصابيح ، والجواهر مخزونة كالذخائر ، وكلّ شيء فيها لشأنه معدّ ، والإنسان كالمملّك ذلك البيت والمحوّل جميع ما فيه ، وضروب النبات مهيّأة لمآربه ، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه ، ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملاءمة ، وأنّ الخالق له واحد ، وهو الذي ألّفه ونظمه بعضا إلى بعض جلّ قدسه ، وتعالى جدّه ، وكرم وجهه ، ولا إله غيره ، تعالى عمّا يقول الجاحدون ، وجلّ وعظم عمّا ينتحله الملحدون ».(١)

ومنها : ما روي عن الاحتجاج أنّه دخل أبو شاكر الديصاني ـ وهو زنديق ـ على أبي عبد اللهعليه‌السلام ، فقال : يا جعفر بن محمّد! دلّني على معبودي ، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « اجلس » فإذا غلام صغير في كفّه بيضة يلعب بها ، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « ناولني يا غلام البيضة » فناوله إيّاها ، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « يا ديصاني! هذا حصن مكنون ، له جلد غليظ ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق ، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضّة ذائبة ، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة ولا الفضّة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن إصلاحها ، ولم يدخل فيها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها ، لا يدرى للذكر خلقت أم للأنثى ، تتفلّق عن مثل ألوان الطواويس أترى لها مدبّرا؟ ». قال : فأطرق مليّا قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأنّك إمام وحجّة من الله على خلقه ، وأنا تائب ممّا كنت فيه.(٢)

بيان :

تقرير استدلالهعليه‌السلام : أنّ ما في البيضة ـ من الإحكام والإتقان والاشتمال على ما به صلاحها ، وعدم اختلاط ما فيها من الجسمين السيّالين والحال أنّه ليس فيها

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٣ : ٦١ ، كتاب التوحيد ، الباب ٤.

(٢) « الاحتجاج » ٢ : ٢٠١ ـ ٢٠٢ ، احتجاجات الإمام الصادقعليه‌السلام ، ح ٢١٥ ، ورواها الكلينيّ في « الكافي » ١ : ٨٠ ، كتاب التوحيد ، باب حدوث العالم ، ح ٤ وكذا الصدوق في « التوحيد » : ١٢٤ الباب ٩ ، ح ١.

٣٩

مصلح حافظ لها من الأجسام ، فيخرج مخبرا عن إصلاحها ، ولا يدخلها جسماني من خارج ، فيفسدها كما هو شأن أهل الحصن الحافظين له وحال الداخل فيه بالقهر والغلبة ـ دليل على وجود الصانع.

قوله : « وهي تتفلّق عن مثل ألوان الطواويس » يدلّ على أنّ الأمر المذكور يدلّ على أنّ له مبدأ غير جسم ولا جسمانيّ.

والطواويس جمع الطاوس ، وهو طائر معروف.

ومنها : ما روي عنه ، عن عيسى بن يونس قال : قال ابن أبي العوجاء ـ بعد الاعتراض على أبي عبد اللهعليه‌السلام من جهة طواف بيت الله على وجه التهاون وجوابهعليه‌السلام بأنّه بيت استعبد الله به عباده ليختبر طاعتهم في إتيانه فحثّهم على تعظيمه وزيارته ، وجعله محلّ أنبيائه وقبلة للمصلّين له ، فهو شعبة من رضوانه ، وطريق يؤدّي إلى غفرانه ، خلقه الله قبل دحو الأرض بألفي عام ـ : ذكرت الله فأحلت على غائب ، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد ، وإليهم أقرب من حبل الوريد ، يسمع كلامهم ، ويرى أشخاصهم ، ويعلم أسرارهم؟! ».

فقال ابن أبي العوجاء : فهو في كلّ مكان أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض؟! وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء؟! فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « إنّما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل من مكان شغل به [ مكان ](١) وخلا به مكان ، فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه ، فأمّا الله العظيم الشأن الملك الديّان ، فلا يخلو منه مكان ، ولا يشغل به مكان ، ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان ».(٢)

__________________

(١) الزيادة أضفناها من « الاحتجاج » ٢ : ٢٠٨.

(٢) « الاحتجاج » ٢ : ٢٠٦ ـ ٢٠٨ احتجاجات الإمام الصادقعليه‌السلام ، ح ٢١٨ ، ورواها في « التوحيد » : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

٤٠

اسيئي بنا أو احسني لا ملومة

لدينا و لا مقليّة ان تقلّت١

هذا ، و في ( الكافي ) في خبر مرور عيسى عليه السّلام على قرية اهلكوا بالعذاب ،

و طلب الحواريّين سؤالهم عن السّبب حتّى يجتنب ، فسألهم فأجابه واحد لطاعة أهل المعاصي ، و حبّ الدّنيا ، فقال عيسى عليه السّلام له : كيف كان حبّكم للدّنيا ؟ قال : كحبّ الصبيّ لأمّه إذا أقبلت علينا فرحنا و إذا أدبرت عنّا بكينا و حزنّا .٢ .

و في ( غرائس الثعلبي ) : يحكى أنّ عبد اللَّه بن طاهر لما قدم نيسابور صحبه من أولاد المجوس شابّ متطبّب ، يدّعي تحقيق الكلام ، و أظهر مسئلة تحريق الأنفس بالنّار و كان يزعم أنّ الجسد كثيف منتن في حال الحياة فاذا مات فلا حكمة في دفنه ، و التسبّب إلى زيادة نتنه و إنّ الواجب إحراقه و اذراء رماده ، فقيل لبعض الفقهاء : إنّ النّاس قد افتتنوا بمقالة هذا المجوسي ، فكتب إلى عبد اللَّه بن طاهر ان اجمع بيننا و بين هذا المجوسي لنسمع منه فاجتمعوا عند عبد اللَّه فلمّا تكلّم المجوسي بمقالته تلك قال له الفقيه : أخبرنا عن صبّيّ تدّعيه أمّه و حاضنته أيّهما أولى به ؟ فقال : الام ، فقال : إنّ هذه الأرض هي الامّ منها خلق الخلق فهي أولى بأولادها أن يردّوا إليها ، فأفحم المجوسيّ و أنشد لأمّة بن أبي الصلت :

و الأرض معقلنا و كانت أمّنا

فيها مقابرنا و فيها نولد٣

شبّه عليه السّلام هنا الدّنيا بأم ، و في قوله عليه السّلام ( و قد طلّقتك ثلاثا ) بزوجة سوء فكلّ منهما من وجه ، فتشبيهها بالزوجة من حيث عشق النّاس لها عشقهم

____________________

( ١ ) ديوان عمر بن أبي ربيعة : ٣٤٥ قالها في ( هند ) .

( ٢ ) الكافي ٤ : ٦ ح ١١ .

( ٣ ) عرائس المجالس للثعلبي : ٩ .

٤١

للنّساء و بالامّ من حيث نشؤهم و تربيتهم فيها لكنّها امّ غير عاطفة ، و قد قيل بالفارسية :

آبستنى كه اين همه فرزند زاد و كشت

ديگر كه چشم دارد از او مهر مادرى

هذا ، و في ( الطبري ) في أيّام ابن الزبير : كان رجل يقال له أبو هريرة يحمل على الخوارج و يقول :

كيف ترون يا كلاب النّار

شد أبي هريرة الهرار

فلّما طال ذلك على الخوارج من قوله ، كمن له رجل منهم ، فضربه على حبل عاتقه فصرعه ، فاحتمله أصحابه فداووه ، و أخذت الخوارج بعد ذلك يناديهم يقولون : يا أعداء اللَّه ما فعل أبو هريرة الهرار ، فيقولون : يا أعداء اللَّه و اللَّه ما عليه من بأس ، و لم يلبث أبو هريرة أن برى‏ء ، ثمّ خرج عليهم بعد ،

فأخذوا يقولون له : يا عدوّ اللَّه أما و اللَّه لقد رجونا أن نكون قد أزرناك أمّك ،

فيقول لهم : يا فسّاق ما ذكركم أمّي ؟ فأخذوا يقولون : إنّه يغضب لامّه و هو آتيها عاجلا ، فقال له أصحابه : ويحك إنّما يعنون النّار١ .

أشار إلى قوله تعالى : و أمّا من خفّت موازينه فاُمّه هاوية و ما أدراك ماهية نارٌ حامية٢ .

٤٣

الحكمة ( ١٣١ ) وَ قَالَ ع وَ سَمِعَ رَجُلاً يَذُمُّ اَلدُّنْيَا :

أَيُّهَا اَلذَّامُّ لِلدُّنْيَا اَلْمُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا اَلْمُنْخَدِعُ بِأَبَاطِيلِهَا أَ تَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ

____________________

( ١ ) تاريخ الطبري ٤ : ٥٨٤ .

( ٢ ) القارعة : ٨ ١١ .

٤٢

تَذُمُّهَا أَنْتَ اَلْمُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا أَمْ هِيَ اَلْمُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ مَتَى اِسْتَهْوَتْكَ أَمْ مَتَى غَرَّتْكَ أَ بِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ اَلْبِلَى أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ اَلثَّرَى كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفَّيْكَ وَ كَمْ مَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ تَبْغِي لَهُمُ اَلشِّفَاءَ وَ تَسْتَوْصِفُ لَهُمُ اَلْأَطِبَّاءَ غَدَاةَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ دَوَاؤُكَ وَ لاَ يُجْدِي عَلَيْهِمْ بُكَاؤُكَ لَمْ يَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ وَ لَمْ تُسْعَفْ بِطَلِبَتِكَ وَ لَمْ تَدْفَعْ عَنْهُ بِقُوَّتِكَ وَ قَدْ مَثَّلَتْ لَكَ بِهِ اَلدُّنْيَا نَفْسَكَ وَ بِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ إِنَّ اَلدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا وَ دَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا وَ دَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا وَ دَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اِتَّعَظَ بِهَا مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اَللَّهِ وَ مُصَلَّى مَلاَئِكَةِ اَللَّهِ وَ مَهْبِطُ وَحْيِ اَللَّهِ وَ مَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اَللَّهِ اِكْتَسَبُوا فِيهَا اَلرَّحْمَةَ وَ رَبِحُوا فِيهَا اَلْجَنَّةَ فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وَ قَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا وَ نَادَتْ بِفِرَاقِهَا وَ نَعَتْ نَفْسَهَا وَ أَهْلَهَا فَمَثَّلَتْ لَهُمْ بِبَلاَئِهَا اَلْبَلاَءَ وَ شَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إِلَى اَلسُّرُورِ رَاحَتْ بِعَافِيَةٍ وَ اِبْتَكَرَتْ بِفَجِيعَةٍ تَرْغِيباً وَ تَرْهِيباً وَ تَخْوِيفاً وَ تَحْذِيراً فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ اَلنَّدَامَةِ وَ حَمِدَهَا آخَرُونَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ ذَكَّرَتْهُمُ اَلدُّنْيَا فَتَذَكَّرُوا وَ حَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا وَ وَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا

٤٣

أقول : رواه الشيخ في ( أماليه ) عن جابر الأنصاري ، قال : بينا أمير المؤمنين عليه السّلام في جماعة من أصحابه أنا فيهم ، إذ ذكروا الدنيا و تصرّفها بأهلها ، فذمها رجل فذهب في ذمّها كلّ مذهب ، فقال عليه السّلام له : أيّها الذام للدّنيا أنت المتجرّم عليها أم هي المتجرّمة عليك ؟ فقال : بل أنا المتجرّم عليها ،

فقال عليه السّلام : فبم تذمّها ؟ أليست منزل صدق لمن صدّقها ؟ و دار غنى لمن تزوّد منها ؟ و دار عافية لمن فهم عنها ؟ و مساجد أنبياء اللَّه ، و مهبط وحيه ، و مصلّى ملائكته ، و متجر أوليائه ، اكتسبوا فيها الرّحمة ، و ربحوا فيها الجنّة ، فمن ذا

٤٤

يذمّها و قد أذنت ببينها ، و نادت بانقطاعها ، و نعت نفسها و أهلها ، فمثّلت ببلائها البلاء ، و شوّقت بسرورها إلى سرور ، تخويفا و ترغيبا إذا ابتكرت بعافية راحت بفجيعة ، فذمّها رجال فرّطوا غداة النّدامة ، و حمدها آخرون اكتسبوا فيها الخير فيا أيّها الذّام للدنيا المغترّ بغرورها ، متى استذمّت إليك ، أم متى غرتك ؟ أبمضاجع آبائك من البلى ؟ أم بمصارع أمّهاتك تحت الثّرى ؟ كم مرّضت بيديك ؟ و عالجت بكفّيك ؟ تلتمس لهم الشّفاء و تستوصف لهم الأطباء لم تنفعهم بشفاعتك و لم تسعفهم في طلبتك مثّلت لك ويحك الدّنيا بمصرعهم مصرعك و بمضجعهم مضجعك حين لا يغنى بكاؤك و لا ينفعك احبّاؤك١ .

و رواه ابن أبي شعبة في ( تحفه ) مرفوعا عن جابر الأنصاري أبسط ،

فقال : قال جابر كنّا مع أمير المؤمنين عليه السّلام بالبصرة ، فلمّا فرغ من قتال من قاتله أشرف علينا من آخر الليل ، فقال : فيهم أنتم ؟ قلنا : في ذمّ الدّنيا فقال : على م تذّم الدّنيا يا جابر ؟ ثمّ حمد اللَّه و أثنى عليه و قال : أما بعد فما بال أقوام يذمّون الدّنيا انتحلوا الزهد فيها ، الدّنيا منزل صدق لمن صدّقها ، و مسكن عافية لمن فهم عنها ، و دار غنى لمن تزوّد فيها ، مسجد أنبياء اللَّه ، و مهبط وحيه ، و مصلّى ملائكته ، و مسكن أحبّائه ، و متجر أوليائه ، اكتسبوا فيها الرّحمة و ربحوا منها الجنّة فمن ذا يذمّ الدّنيا يا جابر و قد آذنت ببينها و نادت بانقطاعها و نعت نفسها بالزّوال و مثلت ببلائها البلاء و شوّقت بسرورها إلى سرور راحت بفجيعة و ابتكرت بنعمة و عافية ترهيبا و ترغيبا يذمّها قوم عند النّدامة حدّثتهم جميعا فصدقتهم و ذكّرتهم فذكروا و وعظتهم فاتّعظوا و خوّفتهم فخافوا و شوّقتهم فاشتاقوا فأيّها الذّامّ للدّنيا المغترّ بغرورها متى استذمّت

____________________

( ١ ) الأمالي للطوسي : ٢٠٧ ح ٢ .

٤٥

إليك بل متى غرّتك بنفسها بمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمّهاتك من الثّرى كم مرّضت بيديك و علّلت بكفّيك تستوصف لهم الدّواء و تطلب لهم الأطباء لم تدرك فيه طلبتك و لم تسعف فيه بحاجتك بل مثّلت الدّنيا به نفسك و بحاله حالك غداة لا ينفعك أحبّاؤك و لا يغني عنك نداءك حين يشتدّ من الموت أعالين المرض و أليم لو عات المضض حين لا ينفع الأليل و لا يدفع العويل يحفز بها الحيزوم و يغصّ بها الحلقوم لا يسمعه النّداء و لا يروّحه الدّعاء فياطول الحزن عند انقطاع الأجل ثمّ يراح به على شرجع نقله أكفّ أربع فيضجع في قبره في طول لبث و ضيق جدث فذهبت الجدّة ، و انقطعت المدّة و رفضته العطفة اللّطفة لا تقاربه الأخلاّء و لا يلّم به الزّوّار و لا اتّسقت به الدّار انقطع دونه الأثر و استعجم دونه الخبر و بكّرت ورثته و اقتسمت تركته و لحقه الحوب و احاطت به الذّنوب فإن يكن قدّم خيرا طاب مكسبه و ان يكن قدّم شرّا تب منقلبه و كيف ينفع نفسا فرارها و الموت قصارها و القبر مزارها فكفى بهذا و اعطا كفى » ثم قال : يا جابر امض معي ، فمضيت معه حتّى أتينا القبور فقال : يا أهل التربة و يا أهل الغربة امّا المنازل فقد سكنت و امّا المواريث فقد قسمت و امّا الأزواج فقد نكحت ، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم ، ثمّ أمسك عنّي مليّا ثمّ رفع رأسه فقال : و الّذي أقلّ السّماء ، فعلت ، و سطح الأرض فدحت ، لو أذن للقوم في الكلام لقالوا : إنّا وجدنا خير الزّاد التقوى ، ثم قال : يا جابر إذا شئت فارجع١ .

( بيان ) شرجع : الجنازة .

و رواه ( كمال الدّين الشافعي في مطالب سؤوله ) فقال : و قال عليه السّلام : أيّها الذّامّ للدنيا أنت المجترم عليها أم هي المجترمة عليك ؟ فقال قائل من

____________________

( ١ ) تحف العقول لابن شعبة الحراني : ١٨٦ .

٤٦

الحاضرين أنا المجترم عليها يا أمير المؤمنين فقال له : فلم ذممتها أليست دار صدق لمن صدقها و دار غنى لمن تزوّد منها و دار عافية لمن فهم عنها مسجد أحبّائه و مصلّى أنبيائه و مهبط الملائكة و متجر أوليائه اكتسبوا فيها الطاعة و ربحوا فيها الجنّة فمن ذا يذمّها و قد أذنت بانتهائها و نادت بانقضائها و أنذرت ببلائها فان راحت بفجيعة فقد غدت بمبتغى و ان أعصرت بمكروه فقد أسفرت بمشتهى إلى أن قال و إذا قتك شهدا و صبرا فإن ذممتها لصبرها فامدحها لشهدها و إلاّ فاطرحها لا مدح و لا ذمّ .١ .

و رواه ( أمالي المفيد ) كما يأتي في شرح بعض الفقرات .

و رواه الخطيب في الحسن بن ابان مسندا عنه عن بشير بن زإذان عن جعفر بن محمّد الصّادق عن آبائه عليهم السّلام قالوا كان علي عليه السّلام في مسجد الكوفة فسمع رجلا يشتم الدّنيا و يفحش في شتمها فقال له اجلس فجلس فقال : مالي أسمعك تشتم الدّنيا ، و تفحش في شتمها أو ليس هو اللّيل و النّهار و الشّمس و القمر سامعين مطيعين ، فأنشا يقول : إنَّ الدّنيا لمنزل صدق لمن صدقها و دار بلاء لمن فهم عنها ، و عافية لمن تزوّد منها ، منزل أحبّاء اللَّه ، و مهبط وحيه ، و مصلّى ملائكته ، و متجر أوليائه ، اكتسبوا الجنة و ربحوا فيها المغفرة ،

فذمّها أقوام غداة النّدامة و حمدها آخرون ذكّرتهم الدّنيا فذكّروا و حدّثتهم فصدّقوا فمن ذا يذمّها و قد أذنت ببينها ، و نادت بانقطاعها ، راحت بفجيعة ،

و ابتكرت بعافية ، تخويف و ترهيب ، يا أيّها الذّامّ للدّنيا المقبل بتغريرها متى استدنت إليك أم متى غرّتك ؟ أبمضاجع آبائك من الثّرى أو بمنازل أمّهاتك من البلى أم ببواكر الصّريخ من اخوانك أم بطوارق النّعي من أحبابك ؟ هل رأيت إلاّ ناعيا منعيا ، أو رأيت إلاّ وارثا موروثا ؟ كم علّلت بيديك أم كم مرّضت

____________________

( ١ ) مطالب السؤول لابن طلحة : ٥١ .

٤٧

بكفّيك ؟ تبتغي له الشّفاء و تستوصف الأطباء لم تنفعه بشفاعتك و لم تنجح له بطلبتك بل مثّلت لك به الدّنيا نفسك و بمضجعه مضجعك غداة لا يغني عنك بكاؤك و لا ينفعك أحبّاؤك فهيهات أيّ مواعظ للدّنيا لو نصتّ لها ؟ و أيّ دار لو فهمت عنها ؟ و أيّ عافية لو تزوّدت منها ؟ انصرف إذا شئت١ .

و رواه ابن قتيبة في ( زهد عيونه ) فقال : ذمّ رجل الدّنيا عند عليّ عليه السّلام فقال له : الدّنيا دار صدق لمن صدّقها و دار نجاة لمن فهم عنها و دار غنى لمن تزوّد منها مهبط وحي اللَّه و مصلّى ملائكته و مسجد أنبيائه و متجر أوليائه ربحوا منها الرّحمة و احتسبوا فيها الجنّة فمن ذا يذمّها و قد آذنت ببينها و نادت بفراقها و شبّهت بسرورها السّرور و ببلاءها البلاء ترغيبا و ترهيبا فيا أيّها الذّام للدّنيا المعلّل نفسه متى خدعتك الدّنيا أم متى استذمت إليك أبمصارع آبائك في البلى أم بمضاجع أمّهاتك في الثّرى كم مرّضت بيديك و علّلت بكفّيك تطلب له الشّفاء و تستوصف له الأطباء غداة لا يغني عنه دواؤك و لا ينفعه بكاؤك٢ .

و رواه المسعودي في ( مروجه ) فقال : كان علي عليه السّلام يقول : الدّنيا دار صدق لمن صدّقها و دار عافية لمن فهم عنها و دار غنى لمن تزوّد منها ، الدّنيا مسجد أحبّاء اللَّه و مصلّى ملائكة اللَّه و مهبط وحيه و متجر أوليائه اكتسبوا فيها الرحمة و ربحوا فيها الجنّة فمن ذا يذمّها و قد أذنت ببينها و نادت بفراقها و نعت نفسها و أهلها و مثّلت لهم ببلاءها البلاء و شوّقت بسرورها إلى السّرور راحت بفجيعة و ابتكرت بعافية تحذيرا و ترغيبا و تخويفا فذمّها رجال غداة النّدامة و حمدها آخرون غبّ المكافأة ذكّرتهم فذكّروا تصاريفها و صدقتهم

____________________

( ١ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٧ : ٢٨٧ .

( ٢ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٢ : ٣٢١ .

٤٨

فصدّقوا حديثها فيا أيّها الذامّ للدّنيا المغترّ بغرورها متى استذامّت لك الدّنيا ؟

بل متى غرّتك من نفسها ؟ أبمضاجع آبائك من البلى ؟ أم بمصارع أمّهاتك من الثّرى ؟ كم قد علّلت بكفّيك و مرّضت بيديك ؟ من تبغي له الشّفاء و تستوصف له الأطباء لم تنفعه بشفائك .١ .

« قول المصنّف و قال عليه السّلام و قد سمع رجلا يذم الدنيا » قد عرفت من رواية ( تحف العقول ) : أنّ الرّجل كان من البصرة بعد الجمل ، و من رواية ( تاريخ بغداد ) انّه كان بالكوفة ، و لعلّه كان كلّ منهما فتكرار مثله غير بعيد .

و في ( اليتيمة ) فصل لأبي النّضر العتبي في الإنكار على من يذمّ الدّهر ( عتبك على الدهر داع إلى العتب عليك و استبطاؤك إيّاه صارف عنان اللّوم إليك فالدّهر سهم من سهام اللَّه منزعه عن مقابض أحكامه و مطلعه من جانب ما صرّرته مجاري أقلامه و الوقيعة فيه تمرس بحكم خالقه و باريه و مجاري الأشياء على قدر طباعها و بحسب ما في قواها و أوضاعها و من ذا الّذي يلوم الأراقم على النّهش بالأنياب و العقارب على اللّسع بالأذناب و انّى لها أن تذمّ و قد أشربت خلقتها السّم و حكم اللَّه في كلّ حال مطاع و بأمره رضا و اقتناع فاعف الزّمان عن قوارض لسانك و اضرب عليها حجاب القرص بأسنانك و اذكر قول النبيّ صلى اللَّه عليه و آله : لا تسبّوا الدّهر فانّ اللَّه هو الدّهر ، و عليك بالتسليم بحكم العليّ العظيم و ذاك أحمد عاقبة و أرشد دنيا و دين٢ .

و قال ابن أبي الحديد : هذا الفصل كلّه لمدح الدّنيا و هو ينبى‏ء عن اقتداره عليه السّلام على ما يريد من المعاني لأنّ كلامه كلّه في ذمّ الدّنيا و هو الآن

____________________

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٢ : ٤١٩ .

( ٢ ) يتيمة الدهر للثعلبي ٤ : ٤٦٢ .

٤٩

يمدحها و هو صادق في ذاك و في هذا١ .

قلت : و في ( الاستيعاب ) : قدم عمرو بن الأهتم في وجوه قومه من بني تميم على النبي صلى اللَّه عليه و آله في سنة تسع ، و كان في من معه الزّبرقان بن بدر ،

فقال الزّبرقان : يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله أنا سيّد تميم ، و المطاع فيهم ، و المجاب فيهم آخذ لهم بحقوقهم و أمنعهم من الظلم ، و هذا ، يعني عمرو بن الأهتمّ ، يعلم ذلك فقال عمرو : إنه لشديد العارضة مانع لجانبه مطاع في دينه ، فقال الزّبرقان :

و اللَّه لقد كذب يا رسول اللَّه و ما منعه ان يتكلّم إلاّ الحسد ، فقال عمرو : أنا أحسدك ، فو اللَّه إنّك لئيم الخال ، حديث المال ، أحمق الولد ، مبغض في العشيرة ،

و اللَّه ما كذبت في الأولى و لقد صدقت في الثانية فقال النبيّ صلى اللَّه عليه و آله : إنّ من البيان لسحرا٢ .

و في ( المعجم ) : روى أنّ خالد بن صفوان و كان عمرو بن الاهتمّ جدّ أبيه أكل يوما خبزا وجبنا فرآه أعرابي فسلّم عليه فقال له خالد : هلّم إلى الخبز و الجبن فإنّه حمض العرب ، و هو يسيغ اللّقمة و يفيق الشهوة ، و تطيب عليه الشربة ، فانحطّ الأعرابيّ فلم يبق شيئا فقال خالد : يا جارية زيدينا خبزا وجبنا ، فقالت : ما بقي عندنا من الجبن شي‏ء فقال خالد : الحمد للَّه الّذي صرف عنّا معرّته و كفانا مؤنته ، و اللَّه إنّه ما علمته ليقدح في السّن ، و يخشن الحلق ،

و يربو في المعدة ، و يعسر في المخرج فقال الأعرابي : و اللَّه ما رأيت قطّ قرب مدح من ذمّ أقرب من هذا٣ .

قوله عليه السّلام : « أيها الذّام للدنيا المغترّ بغرورها المخدوع باباطيلها » هكذا في

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٢٦ .

( ٢ ) الاستيعاب لابن عبد البر ٣ : ١١٦٣ ترجمة عمرو بن الأهتم .

( ٣ ) المعجم ١١ : ٣٤ .

٥٠

( المصرية )١ و لكن في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم )٢ : « المنخدع » بدل « المخدوع » فهو الصحيح .

« أ تغتر بالدنيا ثمّ تذمّها » و في ( ابن أبي الحديد ) : « اتفتتن بها ثمّ تذمّها »٣ .

أنكر عليه السّلام ذمّه للدّنيا لكون الذامّ من محبّيها و عبدتها ، و الذمّ إنّما يحسن من الزّاهدين فيها و أغلب الناس هكذا يذمّون الدّنيا مع شغفهم بها حبّا ، قال شاعر :

قد أجمع الناس على ذمّها

و ما أرى منهم لها تاركا

لا تأمن الدّنيا على غدرها

كم غدرت قبل بامثالكا٤

و قال آخر :

إذا نصبوا للقول قالوا فاحسنوا

و لكن حسن القول خالفه الفعل

و ذمّوا لنا الدّنيا و هم يرضعونها

افاويق حتّى ما يدرّ لها ثعل٥

و قال أبو إسحاق التّيمي كما في الحلية :

ننافس في الدّنيا و نحن نعيبها

و قد حذرتناها لعمري خطوبها

و ما نحسب الأيّام تنقص مدّة

على انّها فينا سريع دبيبها

كأنّي برهط يحملون جنازتي

إلى حفرة يحثى عليّ كثيبها

و كم ثمّ من مسترجع متوجّع

و نائحة يعلو عليّ نحيبها

و باكية تبكي عليّ و انّني

لفي غفلة من صوتها ما اجيبها٦

____________________

( ١ ) المصرية : ٦٨٧ ح ١٣٢ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٢٥ ح ١٢٧ ، و ابن ميثم كالمصرية ٥ : ٣١٣ .

( ٣ ) ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٢٥ .

( ٤ ) المستطرف من كل فن مستظرف ٢ : ٩٧ و هو للكناني .

( ٥ ) الكامل للمبرّد : ٥٢ ، ٦٥٧ .

( ٦ ) حلية الأولياء لأبي نعيم ١٠ : ١٤١ ترجمة ( ٥٠٥ ) .

٥١

« أنت المتجرّم عليها أم هي المتجرّمة عليك » التجرّم : ادّعاء الذّنب على من لم يذنب ، قال الشاعر :

تعد علي الذنب ان ظفرت به

و ان لم تجد ذنبا عليّ تجرّم

روى ( عيون ابن بابويه ) عنه عليه السّلام قال : قال عبد المطلب :

يعيب النّاس كلّهم زمانا

و ما لزماننا عيب سوانا

نعيب زماننا و العيب فينا

و لو نطق الزّمان بنا هجانا

و إنّ الذّئب يأكل لحم ذئب

و يأكل بعضنا بعضا عيانا١

« متى استهوتك أم متى غرّتك » أي : حملتك على الهوى أو خدعتك .

« أ بمصارع آبائك من البلى » من ( بلى الثّوب ) و ( بلى الميّت ) : أفنته الأرض روى محمد بن أبي العتاهية عن ابن عبّاس ، قال : وجدت جمجمة في الجاهلية مكتوب عليها :

اذن الحيّ فاسمعي

اسمعي ثمّ عي و عي

أنا رهن بمصرعي

فاحذري مثل مصرعي٢

و قال الحسن : إنّ امرأ ليس بينه و بين آدم إلاّ أب قد مات لمعرق في الموت .

« أم بمضاجع أمّهاتك تحت الثّرى » الضجع : وضع الجنب على الأرض ،

و الثّرى : التراب النّدي .

في ( عرائس الثعالبي ) : يروى أنّ ملك الموت ، لمّا ورد على داود قال أفجئت داعيا أم ناعيا ؟ قال بل ناعيا فقال فهلاّ أرسلت إليّ قبل ذلك و آذنتني لأستعدّ للموت فقال : كم أرسلت إليك ؟ فقال : و من أرسلت ؟ قال أين أبوك ،

____________________

( ١ ) عيون أخبار الرضا للصدوق : ٣٠٦ ، كذلك الأمالي : ١٠٧ ، و أيضا المجلسي في البحار ١٥ : ١٢٥ .

( ٢ ) تاريخ بغداد ٦ : ٢٦ .

٥٢

و أين أمّك ، و أين أخوك ، و أين جارك ، و أين قهارمتك ، و أين فلان و فلان ؟ قال :

كلّهم ماتوا فقال : أما علمت أنّهم رسلي إليك ؟١ « كم علّلت بكفّيك » أي : كم عالجت المعلولين و خدمتهم بشخصك .

« و كم مرضت بيديك » أي ، التمريض : القيام على المريض .

« تبغي لهم الشفاء » أي : تطلب لهم الشّفاء .

« و تستوصف لهم الأطباء » أي : تطلب منهم وصف علاجه ، قال إبراهيم بن محمّد بن عرفة : رأيت عليّ بن العبّاس الرّومي يجود بنفسه ، فقلت له : ما حالك ؟ فأنشد :

غلط الطيبب عليّ غلطة مورد

عجزت موارده عن الاصدار

و الناس يلحون الطبيب و انّما

خطأ الطبيب إصابة المقدار٢

و قال عتاهية محمّد بن أبي العتاهية :

علل المريض من المنيّة

لا يعالجها الطبيب

هذا ، و قال عيسى بن محمّد الطّوماري : دخلنا على إبراهيم الحربي و هو مريض و قد كان يحمل ماءه إلى الطبيب و كان يجي‏ء إليه و يعالجه فجائت الجارية و ردّت الماء و قالت : مات الطبيب ، فبكى إبراهيم و أنشأ يقول :

إذا مات المعالج من سقام

فيوشك للمعالج أن يموت

و لبعضهم في طبيب :

عليله المسكن من شؤمه

في بحر هلك ماله ساحل

ثلاثة تدخل في دفعة

طلعته و النّعش و الغاسل

في ( الأغاني ) ، عن إسحاق الموصلي : لمّا مات أبوه قال : قال لي برصوما

____________________

( ١ ) عرائس المجالس للثعالبي : ٢٩٢ .

( ٢ ) وفيات الأعيان لابن خلكان ٣ : ٣٦١ .

٥٣

الزّامر و كان خرّيج أبيه أما في حقّي و خدمتي و ميلي اليكم و شكري لكم ما استوجب به أن تهب لي يوما من عمرك تفعل فيه ما أريد و لا تخالفني في شي‏ء ؟ فقلت : بلى و وعدته بيوم فأتاني فقال : مرلي بخلعة ففعلت و جعلت فيها جبّة و شي‏ء ، فلبسها ظاهرة ، و قال : إمض بنا إلى المجلس الّذي كنت آتي أباك فيه فمضينا جميعا إليه و قد خلّقته و طيّبته ، فلّما صار على باب المجلس رمى بنفسه إلى الأرض فتمرّغ في التراب ، و بكى و أخرج نايه و جعل ينوح في زمره ،

و يدور في المجلس و يقبّل المواضع التي كان أبي يجلس فيها و يبكي و يزمر ،

حتّى قضى من ذلك و طرا ثمّ ضرب بيده إلى ثيابه يشقّها و جعلت أسكته و أبكي معه ، فما سكن إلاّ بعد حين ، ثم دعا بثيابه فلبسها ، و قال : انّما سألتك أن تخلع عليَّ لئلاّ يقال انّ برصوما أنّما خرّق ثيابه ليخلع عليه إسحاق خيرا منها١ .

« لم ينفع أحدهم إشفاقك » أي : خوفك من حلول مكروه به في ( الأغاني ) :

ركب الرّشيد حمارا و دخل على إبراهيم الموصلي يعوده ، فقال له : كيف أنت ؟

قال : أنا و اللَّه كما قال الشاعر :

سقيم ملَّ منه أقربوه

و أسلمه المداوي و الحميم

و قال ابنه إسحاق الموصلي لمّا اشتدّ أمر القولنج على أبي و لزمه و كان يعتاده أحيانا قعد في الابزن عن خدمة الخليفة و عن نوبته في داره ،

فقال في ذلك :

ملّ و اللَّه طبيبي

عن مقاساة الّذي بي

سوف أنعى عن قريب

لعدوّ و حبيب

____________________

( ١ ) الأغاني ٥ : ٢٥٥ .

٥٤

فقال هارون : ( انّا للَّه ) و خرج فلم يبعد حتّى سمع الناعية عليه١ .

« و لم تسعف بطلبتك » هكذا في ( المصرية )٢ و لكن في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة )٣ « و لم تسعف فيه بطلبتك » فهو الصحيح .

قال ابن نباتة :

نعلّل بالدّواء إذا مرضنا

و هل يشفى من الموت الدّواء

و نختار الطبيب و هل طبيب

يؤخّر ما يقدّمه القضاء

و ما أنفاسنا إلاّ حساب

و لا حركاتنا إلاّ فناء٤

« و لم تدفع عنه بقوّتك » قال أبو هلال العسكري : فتأهّب لسقام ليس يشفيه طبيب .

« قد مثّلت لك به الدنيا نفسك » قال أبو العتاهية :

يا نفس قد مثّلت حا

لي هذه لك بعد حين

و شككت انّي ناصح

لك فاستملت إلى الظنّون

فتأمّلي ضعف الحرا

ك و كلّه بعد السّكون

و تيقَّني انّ الّذي

بك من علامات المنون٥

و قال المرتضى :

كم ذا تطيش سهام الموت مخطئة

عنّي و تصمي اخلاّئي و اخواني

و لو فطنت و قد أردى الزّمان أخي

علمت انّ الّذي أصماه أصماني

« و بمصرعه مصرعك » في ( تاريخ بغداد ) عن ابن عباس قال : وجدت

____________________

( ١ ) الأغاني ٥ : ٢٥٣ .

( ٢ ) المصرية المصححة « لم تسعف فيه » .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٢٥ و الخطية : ٣٢١ ، كما ذكر و ابن ميثم ٥ : ٣١٢ بلفظ « و لم تسعف بطلبتك » .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ١٩٣ .

( ٥ ) تاريخ بغداد ٦ : ٢٦٠ .

٥٥

جمجمة في الجاهلية مكتوب عليها : اذن الحيّ فاسمعي اسمعي ثم عي و عي أنا رهن بمضجعي فاحذري مثل مصرعي١ .

و عن المبرّد قال : دخلت على الجاحظ في آخر أيّامه و هو عليل فقلت له :

كيف أنت ؟ فقال : كيف يكون من نصفه مفلوج و لو نشر بالمناشير ما حسّ به ،

و نصفه الآخر منقرس لو طار الذّباب بقربه لآلمه ، و قال محمّد بن أبي العتاهية :

لربّما غوفص ذو شره

أصحّ ما كان و لم يسقم

يا واضع الميّت في قبره

خاطبك اللّحد فلم تفهم

و في ( كامل المبرّد ) عن صاحب له قال : وجدت رجلا في طريق مكّة معتكفا على قبر و هو يردّد شيئا و دموعه تكفّ على لحيته فقيل له : أ كان ابنك ؟

قال : لا كان عدوّا لي خرج إلى الصيد اياس ما كنت من عطبه و أكمل ما كان من صحته فرمى ظبيا فأقصده فذهب ليأخذه فعثر فتلقى بفؤاده ظبّة السهم و قد نجم من صفحة الظّبي فلحقه أولياؤه فاتنزعوا السهم و هو و الظّبي ميّتان فنمى إليّ خبره فأسرعت إلى قبره مغتبطا بفقده و انّي لضاحك السنّ إذ وقعت عيني على صخرة فرأيت عليها كتابا فهلّم فأقرأه و أومى إلى الصّخرة فاذا عليها :

و ما نحن إلاّ مثلهم غير اننّا

أقمنا قليلا بعدهم و تقدّموا٢

فقلت : أشهد انّك تبكي على من بكاؤك عليه أحقّ من النّسيب أي : تبكي على نفسك و هي أحقّ بالبكاء عليها من الأنسباء و الأقرباء الّذين يبكي النّاس عليهم .

« إنّ الدنيا دار صدق لمن صدَّقها » قال لبيد :

____________________

( ١ ) المصدر نفسه ٦ : ٢٦٠ و هي لأبي العتاهية أمر أن تكتب على قبره .

( ٢ ) الكامل في الأدب للمبرّد : ١٢٥٥ .

٥٦

فقولا له ان كان يضمر أمره

المّا يعظك الدّهر امّك هابل

فان أنت لم تصدقك نفسك فانتسب

لعلّك تهديك القرون الأوائل

فان لم تجد من دون عدنان باقيا

و دون معدّ فلترعك العوازل

و كلّ امرى‏ء منّا سيعلم سعيه

إذا جمعت عند الإله المحاصل١

« و دار عافية لمن فهم عنها » قد عرفت انّ في بعض روايات أسانيده بدله ( و أي دار لمن فهم عنها ) .

« و دار غنى لمن تزوّد منها » بالأعمال الصالحة .

« و دار موعظة لمن اتّعظ بها » في ( تاريخ بغداد ) : لمّا حضر أبو نؤاس الموت قال اكتبوا هذه الأبيات على قبري :

وعظتك اجداث صمت

و نعتك ازمنة خفت

و تكلّمت عن أوجه

تبلى و عن صور سبت

و أرتك قبرك في القبور

و أنت حيّ لم تمت٢

و للخاقاني بالفارسية :

پرويز كنون كم شد ، زان گمشده كمتر گوى

زرّين تره كو برخوان ، رو كم تركوا برخوان٣

« مسجد أحبّاء اللَّه » قال عيسى عليه السّلام ساعة قدم الدّنيا و أوصاني بالصّلاة و الزكاة ما دُمتُ حيّاً٤ .

و قال النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله : « حبّب إليّ من دنياكم ثلاث إلى أن قال و قرّة

____________________

( ١ ) ديوان لبيد : ١٣١ ، يرثي النعمان بن المنذر .

( ٢ ) تاريخ بغداد ٧ : ٤٤٨ .

( ٣ ) ديوان الخاقاني : ٢٧٩ « ف » .

( ٤ ) مريم : ٣١ .

٥٧

عيني الصّلاة »١ .

« و مصلّى ملائكة اللَّه » روى ابن قولويه عن الصادق عليه السّلام : ما خلق اللَّه خلقا أكثر من الملائكة و انّه ينزل من السماء كلّ مساء سبعون ألف ملك يطوفون بالبيت الحرام نهارهم فاذا غربت الشمس انصرفوا إلى قبر الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله فيسلّمون عليه ثمّ يأتون قبر أمير المؤمنين عليه السّلام فيسلّمون عليه ثمّ يأتون قبر الحسين عليه السّلام فيسلّمون عليه ثمّ يعرجون إلى السماء قبل أن تغيب الشمس .

و روى عن إسحاق بن عمّار قال : قلت لأبي عبد اللَّه عليه السّلام : إنّي كنت بالبحيرة ليلة عرفة و كنت أصلّي و ثمّ نحو خمسين ألفا من النّاس جميلة وجوههم طيّبة أرواحهم و أقبلوا يصلّون الليل أجمع ، فلما طلع الفجر سجدت ثمّ رفعت فلم أر منهم أحدا إلى أن قال قال عليه السّلام له : إنّهم الملائكة الموكَّلون بقبر الحسين عليه السّلام٢ .

« و مهبط وحي اللَّه » من آدم إلى الخاتم عليهم السّلام .

« و متجر أولياء اللَّه ، اكتسبوا فيها الرّحمة و ربحوا فيها الجنّة » إنَّ اللَّه اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأنَّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل اللَّه فيقتلون و يقتلون وعدا عليه حقّا في التوراة و الإنجيل و القرآن و من أوفى بعهده من اللَّه فاستبشروا ببيعكم الّذي بايعتم به و ذلك هو الفوز العظيم٣ .

« فمن ذا يذمّها و قد أذنت ببينها » أي : أعملت بفراقها و الأصل في الإيذان الإيصال إلى الأذن ، و يترجم بالفارسية بقولهم ( گوشزد )

ننافس في الدنيا و نحن نعيبها

و قد حذّرتنا لعمري خطوبها٤

____________________

( ١ ) الخصال للصدوق ١٧ : ٧٩ ، و نقله المجلسي في البحار ٧٦ : ١٤١ .

( ٢ ) رواه ابن الشيخ في المجالس : ٢ عن المفيد عن ابن قولويه و نقله المجلسي في بحار الأنوار ٥٩ : ١٧٦ ح ٨ .

( ٣ ) التوبة : ١١١ .

( ٤ ) حلية الأولياء لأبي نعيم ١٠ : ١٤١ .

٥٨

« و نادت بفراقها » قال جحظة :

قد نادت الدّنيا على نفسها

لو كان في العالم من يسمع

كم واثق بالعمر واريته

و جامع بدّدت ما يجمع١

« و نعت » من النّعي رفع الصّوت بذكر الموت .

« نفسها و أهلها » في ( عيون القتيبي ) قيل : كنّا أجنّة في بطون امّهاتنا فسقط من سقط ، و كنّا في من بقي ثمّ كنّا مراضع فهلك منّا من هلك ، و بقي من بقى و كنّا إيفاعا و ذكر مثل ذلك ثمّ صرنا شبّانا و ذكر مثل ذلك ثمّ صرنا شيوخا لا أبالك فما تنتظر ؟ فهل بقيت حالة تنتقل إليها٢ .

« فمثّلت لهم ببلائها البلاء » إنّا كنّا قبل في أهلنا مشفقين فمنّ اللَّه علينا و وقانا عذاب السّموم٣ .

« و شوّقتهم بسرورها الى السرور » و بشِّر الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات انّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار كلّما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل و أتوا به متشابها .٤ .

« راحت بعافية » في ( الصحاح ) : الروّاح نقيض الصّباح ، و هو اسم للوقت من زوال الشمس إلى اللّيل و قد يكون مصدر راح يروح نقيض ( غدا )٥ .

« و ابتكرت بفجيعة » قال الفيومي : ( قال ابن جنّي ) ( بكر و بكرّ و أبكر ) بمعنى الإسراع أي : وقت كان٦ .

____________________

( ١ ) تاريخ بغداد ٤ : ٦٦ ترجمة جحظة البرمكي .

( ٢ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٢ : ٣٦٣ و القول لمكحول .

( ٣ ) الطور : ٢٦ ٢٧ .

( ٤ ) البقرة : ٢٥ .

( ٥ ) الصحاح : ( روح ) .

( ٦ ) المصباح المنير للفيتوري : ٥٩ « بكر » .

٥٩

قلت : بل الأصل في البكور الشّروع أوّل النّهار في مقابل الرّواح و الشّروع أوّل النهار يستلزم الاسراع ، فانّ من أراد الاسراع في عمل ابتكر به ،

و الفجيعة : المصيبة الموجعة ، قال شاعر :

ان صفا عيش امرى‏ء في صبحها

جرّعته ممسيا كأس القذي١

« ترغيبا و ترهيبا و تخويفا و تحذيرا » مفاعيل لها لقوله ( فمثلّت ) و ( شوّقتهم ) و ( راحت ) و ( ابتكرت ) .

« فذمّها رجال غداة النّدامة » أي : صبح القيامة لأنّه يندم المجرمون فيها .

« و حمدها آخرون يوم القيامة ذكّرتهم فتذكّروا » هكذا في ( المصرية )٢ و الصواب : « فذكّروا » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة )٣ .

« و حدّثتهم فصدّقوا و وعظتهم فاتّعظوا » روى ( أمالي المفيد ) مسندا عن ابن عبّاس قال : سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن قوله تعالى ألا إنّ أولياء اللَّه لا خوفٌ عليهم و لا هم يحزنون٤ من هم ؟ فقال هم قوم أخصلوا للَّه تعالى في عبادته و نظروا إلى باطن الدّنيا حين نظر النّاس إلى ظاهرها فعرفوا آجلها حين غرّ سواهم بعاجلها فتركوا منها ما علموا انّه سيتركهم و أماتوا منها ما علموا انّه سيميتهم ثم قال أيّها المعلّل نفسه بالدّنيا الرّاكض على حبائلها المجتهد في عمارة ما سيخرب منها ألم تر إلى مصارع آبائك في البلاء و مضاجع ابناءك تحت الجنادل و الثّرى كم مرّضت بيديك و علّلت بكفّيك تستوصف لهم الأطبّاء و تستعتب لهم الأحبّاء فلم يغن غناؤك و لا ينجع فيهم دواؤك ، و قال بعضهم « بينا هذه الدّنيا تصرح بزبدتها و تلحف فضل جناحها و تعزّ بركود رياحها إذ

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٦٤ .

( ٢ ) الطبعة المصرية : ٦٨٨ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٢٦ ، و ابن ميثم ٥ : ٣١٣ بلفظ « فتذكروا » ، أما الخطية : ٣٢١ فبلفظ « فذكروا » .

( ٤ ) يونس : ٦٢ .

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556