البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة الجزء ٢

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة7%

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
ISBN: 964-371-766-6
الصفحات: 556

  • البداية
  • السابق
  • 556 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41634 / تحميل: 7744
الحجم الحجم الحجم
البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣٧١-٧٦٦-٦
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

وفي باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه جلّ وتعالى : عن محمّد بن حكم(١) ، قال : كتب أبو الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام إلى أبي : « إنّ الله أعلى وأجلّ وأعظم من أن يبلغ كنه صفته ، فصفوه بما وصف به نفسه ، وكفّوا عمّا سوى ذلك »(٢) .

وأيضا عنهعليه‌السلام : « لا تجاوز ما في القرآن »(٣) .

وفي باب النهي عن الجسم والصورة : عن عليّ بن حمزة ، قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : سمعت هشام بن الحكم يروي عنكم أنّ الله تعالى جسم ، صمديّ ، نوريّ ، معرفته ضرورة يمنّ بها على من يشاء من خلقه؟ فقالعليه‌السلام : « سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلاّ هو ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ، لا يحدّ ، ولا يحسّ ، ولا يجسّ ، ولا يدركه الحواسّ ، ولا يحيط به شيء ، ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط ولا تحديد »(٤) .

[ و ] عن حمزة بن محمّد ، قال : كتبت إلى أبي الحسنعليه‌السلام : أسأله عن الجسم والصورة ، فكتب : « سبحان من ليس كمثله شيء ، لا جسم ولا صورة »(٥) .

[ و ] عليّ بن محمّد رفعه عن محمّد بن الفرج الرخجي ، قال : كتبت إلى أبي الحسنعليه‌السلام : أسأله عمّا قال هشام بن الحكم في الجسم ، وهشام بن سالم في الصورة ، فكتب : « دع عنك حيرة الحيران ، واستعذ بالله من الشيطان ، ليس القول ما قال الهشامان »(٦) .

وفي حدوث الأسماء : عن إبراهيم بن عمر ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : « إنّ الله

__________________

(١) في المصدر : « حكيم ».

(٢) « الكافي » ١ : ١٠٢ باب إبطال الرؤية ، ح ٦.

(٣) نفس المصدر ، ح ٧.

(٤) نفس المصدر ، باب النهي عن الجسم والصورة ، ح ١.

(٥) نفس المصدر : ١٠٤ ، ح ٣.

(٦) نفس المصدر ، ح ٢.

٣٦١

تبارك وتعالى خلق اسما بالحروف غير متصوّت ، وباللفظ غير منطق ، وبالشخص غير مجسّد ، وبالتشبيه غير موصوف ، وباللون غير مصبوغ ، منفيّ عنه الأفكار(١) ، مبعّد عنه الحدود ، محجوب عنه حسّ كلّ متوهّم ، مستتر غير مستور ، فجعله كلمة تامّة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل الآخر فأظهر منها ثلاثة أسماء ؛ لفاقة الخلق إليها ، وحجب واحدا منها وهو الاسم المكنون المخزون ، فهذه الأسماء ؛ التي ظهرت ، فالظاهر هو الله تبارك وتعالى ، وسخّر سبحانه لكلّ اسم من هذه الأسماء أربعة أركان ، فذلك اثنا عشر ركنا ، ثمّ خلق لكلّ ركن منها ثلاثين اسما فعلا منسوبا إليها فهو : الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدّوس ، الخالق ، البارئ ، المصوّر ، الحيّ ، القيّوم ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، العليم ، الخبير ، السميع ، البصير ، الحكيم ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، العليّ العظيم ، المصوّر ، القادر ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، البارئ ، المنشئ ، البديع ، الرفيع ، الجليل ، الكريم ، الرازق ، المحيي ، المميت ، الباعث ، الوارث ، فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنى حتّى تتمّ ثلاثمائة وستّين اسما فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة ، وهذه الأسماء الثلاثة أركان ، وحجب الاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة ، وذلك قوله تعالى :( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) »(٢) و(٣) .

وفي باب صفات الذات : عن الكاهلي ، قال : كتبت إلى أبي الحسنعليه‌السلام : في دعاء « الحمد لله منتهى علمه »؟ فكتب إليّ : « لا تقولنّ منتهى علمه ؛ فليس لعلمه منتهى ، ولكن قل منتهى رضاه »(٤) .

وفي باب المشيئة والإرادة : عن حريز بن عبد الله وعبد الله بن مسكان جميعا ،

__________________

(١) في « الكافي » و « التوحيد » : « الأقطار ».

(٢) الإسراء (١٧) : ١١٠.

(٣) « الكافي » ١ : ١١٢ باب حدوث الأسماء ، ح ١.

(٤) « الكافي » ١ : ١٠٧ باب صفات الذات ، ح ٣ ؛ « التوحيد » : ١٣٤ باب العلم ، ح ١.

٣٦٢

عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : « لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بهذه الخصال السبع : بمشيئة ، وإرادة ، وقدر ، وقضاء ، وإذن ، وكتاب ، وأجل ، فمن زعم أنّه يقدر على نقض واحدة فقد كفر »(١) .

[ و ] عن عليّ بن إبراهيم الهاشميّ ، قال : سمعت أبا الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام يقول : « لا يكون شيء إلاّ ما شاء الله وأراد وقدّر وقضى ».

قلت : ما معنى « شاء »؟ قال : « ابتداء الفعل » قلت : ما معنى « قدّر »؟ قال : « تقدير الشيء من طوله وعرضه ».

قلت : ما معنى « قضى »؟ قال : « فإذا قضى أمضاه ، فذلك الذي لا مردّ له »(٢) .

[ و ] عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : « أمر الله ولم يشأ ، وشاء ولم يأمر ، أمر إبليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد ، ولو شاء لسجد ، ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها ، ولو لم يشأ ، لم يأكل »(٣) .

[ و ] عن الفتح بن يزيد الجرجانيّ عن أبي الحسنعليه‌السلام ، قال : « إنّ لله إرادتين ومشيئتين : إرادة حتم ، وإرادة عزم ، ينهى وهو يشاء ، ويأمر وهو لا يشاء ، أو ما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك؟ ولو لم يشأ أن يأكلا ، لما غلبت مشيئتها مشيئة الله.

وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ، ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيمعليه‌السلام مشيئة الله »(٤) .

وفي باب الخير والشرّ : عن عبد المؤمن الأنصاريّ ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : « قال الله عزّ وجلّ : أنا الله لا إله إلاّ أنا ، خالق الخير والشرّ ، فطوبى لمن أجريت

__________________

(١) « الكافي » ١ : ١٤٩ باب أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة ، ح ١.

(٢) نفس المصدر : ١٥٠ باب المشيئة والإرادة ، ح ١.

(٣) نفس المصدر : ١٥٠ ـ ١٥١ ، ح ٣.

(٤) « الكافي » ١ : ١٥١ باب المشيئة والإرادة ، ح ٤.

٣٦٣

على يديه الخير ، وويل لمن أجريت على يديه الشرّ ، وويل لمن يقول : كيف ذا ، وكيف هذا؟ »(١) .

[ و ] عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : « من زعم أنّ الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله ؛ ومن زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على الله »(٢) .

[ و ] عن الحسن بن عليّ الوشّاء ، عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام ، قال : سألته ، فقلت : الله فوّض الأمر إلى العباد؟ قال : « الله أعزّ من ذلك » قلت : فجبرهم على المعاصي؟ قال : « الله أعدل [ من ذلك ](٣) وأحكم من ذلك » قال : « ثمّ قال الله عزّ وجلّ : يا ابن آدم! أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي ، عملت المعاصي بقوّتي(٤) التي جعلتها فيك »(٥) .

__________________

(١) نفس المصدر ، ح ٣.

(٢) نفس المصدر : ١٥٦ ـ ١٥٧ باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح ٢.

(٣) الظاهر زيادة هذه العبارة من قلم الناسخ.

(٤) في « أ » و « ز » : « بقوّتك ».

(٥) « الكافي » ١ : ١٥٧ باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح ٣.

٣٦٤

( الفصل الثالث ) في العدل

الذي هو كمال الواجب الوجود بالذات( في أفعاله تعالى ) كما أنّ التوحيد كماله تعالى في ذاته تعالى ، وهو بحسب المعنى التصوّري عبارة عن إيجاد الأفعال على وجه الاعتدال ، والتوسّط بين الإفراط والتفريط ، وبحسب المعنى التصديقيّ عبارة عمّا يجب تصديقه بالجنان وإقراره باللسان ، وهو أنّ الله تعالى عادل ، وفي جميع أفعاله كامل ، وعن الظلم هو المنزّه والمبرّأ ، وعن القبح والشرور هو المجرّد والمعرّى ، وجميع أفعاله حسنة ، وبالغرض والفائدة العائدة إلى العباد معلّلة ، وأفعاله مترتّبة على اللطف على وفق المصلحة ، وقد خلق العباد مع القدرة والاختيار من غير تفويض وإجبار.

والمراد وجوب اعتقاد كون الواجب الوجود متّصفا بفعل جميل مليح ، ومنزّها عن الظلم والفعل القبيح ، ووجوب الاعتقاد بأنّ أفعاله المتعلّقة بالعباد متّصفة بالكمال ، وتكون على حدّ التساوي والاعتدال ، وليس فيها شائبة الظلم والقبح والشر والمفسدة ، بل كلّها مع الحسن والمصلحة والفائدة ، التي هي إلى العباد عائدة ، وأنّ التكليف على قدر الطاقة ، واستحقاق الثواب على قدر الطاعة ، والعقاب على قدر المعصية ؛ لأنّه منزّه عن الظلم والحاجة ، مع إمكان العفو بنحو الشفاعة ، وأنّه تعالى خلقهم مع الاختيار ، فإن أطاعوا فباختيارهم بحيث لو شاءوا عصوا ،

٣٦٥

فلمّا اختاروا الطاعة ، أجرى عليها لازمها وهو استحقاق الثواب ، وإن عصوا فباختيارهم بحيث لو شاءوا أطاعوا ، ولمّا اختاروا المعصية أجرى عليها لازمها ، وهو استحقاق العقاب مع جواز العفو ، وليس الأمر على وجه التفويض بأن لم يكن له أمر في أفعالهم حتّى يكون معزولا عن سلطانه ، ولا على وجه الإجبار بأن لم يكن للعبد دخل فيها ، وإلاّ لما كان لبعث الرسل وإنزال الكتب معنى ، ولما استحق ثوابا ولا عقابا ، ولكان العقاب ظلما ، بل الإقدار من الله بأن خلقهم قادرين على الفعل والترك ، فهو العلّة البعيدة ، والمباشرة من العبد ، فهو العلّة القريبة ، فليس العلّيّة منحصرة فيه تعالى كما يقوله أهل الإفراط وهم الأشاعرة(١) ، ولا منحصرة في العبد كما يقوله أهل التفريط وهم المعتزلة(٢) ، بل الأمر بين الأمرين ، والعلّة مركّبة اعتباريّة حاصلة في البين كما هو المذهب الجعفريّ(٣) ، كما روي عن مولانا جعفر بن محمّدعليهما‌السلام : « لا جبر ولا تفويض بل الأمر بين الأمرين »(٤) بمعنى أنّ المجموع المركّب من فعل الله تعالى التكوينيّ ـ بإيجاد العبد وإحيائه وإعطاء الأسباب كالقدرة ونحوها وإبقائها ـ ومن فعل العبد ـ بالمباشرة ونحوها من باب الجعل للمصلحة ـ علّة لحصول الفعل الاختياريّ للعبد وإن كانت الإرادة التكليفيّة على خلاف الإرادة التكوينيّة ، فالتركيب اعتباريّ في مقام الفعل ، لا في مقام الذات حتّى يلزم نحو الوحدة أو الاتّحاد ، ولا يلزم أيضا تعذيب أحد الشريكين للآخر ؛ لعدم التركيب في مقام المباشرة مع أنّ اعتباره بملاحظة مقام التكوين ، والتعذيب باعتبار التكليف المستند إلى اختيار العبد ومباشرته له.

__________________

(١) « المطالب العالية » ٩ : ٩ وما بعدها ؛ « الأربعين في أصول الدين » ١ : ٣١٩ ؛ « المحصّل » : ٤٥٥ ـ ٤٧٤ ؛ « شرح الأصول الخمسة » : ٣٢٤ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١٤٥ ـ ١٧٣ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٢١٩ وما بعدها.

(٢) نفس المصادر السابقة.

(٣) « نقد المحصّل » : ٣٣٣ ؛ « مناهج اليقين » : ٢٣٥ ـ ٢٤٣ ؛ « كشف المراد » : ٣٠٨ ـ ٣١٣ ؛ « النافع ليوم الحشر » : ١٥٥ ـ ١٦٠ ؛ « إرشاد الطالبين » : ٢٦٣.

(٤) « الكافي » ١ : ١٦٠ باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح ١٣.

٣٦٦

فإن قلت : قد حقّق أنّ الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل أنّ صفات الذات ما لا يصحّ إثباته ونفيه عن ذاته تعالى ولو بالاعتبار ، بخلاف صفات الفعل ، وعلى هذا فلا يصحّ جعل العدل من كمال الأفعال ؛ لعدم صحّة نفيه ، لاستحالة وقوع الظلم.

قلت : يصحّ نفي العدل بإثبات الفضل الذي هو موقوف على الاستعداد من غير استحقاق معتبر في العدل ، فتوهّم أنّ التقابل بين العدل والظلم تقابل العدم والملكة فاسد ، مخالف للوجدان والشرع.

فإن قلت : الجور لازم للجبر ، فلا فائدة في الفرق.

قلت : الجور الاعتقاديّ مستلزم للكفر في مقابل الإسلام ، بخلاف الجور الاستلزاميّ ؛ فإنّه مستلزم للكفر في مقابل الإيمان ـ الموجب للخلود للنيران(١) ـ لا الكفر المقابل للإسلام.

وبالجملة ، فأفعال الله تعالى على أقسام خمسة : منها الإنشاء والاختراع ، ومنها الإبداع ، ومنها الصنع ، ومنها التركيب والتكوين ، ومنها التكليف ، وقد مرّ بيان ذلك في الأمور العامّة في المسألة التاسعة والثلاثين من مسائل الوجود ، فالكلام في هذا الأصل أيضا يقع في مقامات خمسة نذكرها على وفق ما أشار إليه المصنّف :

الأوّل : أنّ الله تعالى عادل بالعدل الذي هو مقابل الجور ، وأنّه تعالى منزّه عن الظلم والقبح والشرور ؛ وهو من أصول الدين ، ومنكره من الكافرين.

الثاني : أنّ جميع أفعاله تعالى حتّى التكليف حسنة بالحسن العقليّ الأصليّ أو العارضيّ ـ ولو لم يدركه العقل إلاّ بإرشاد النقل ـ كما يستفاد من العقل والنقل لا أنّ ما يفعله أو يأمر به يصير حسنا ، وما لا يكون كذلك يصير قبيحا ؛ وهو من أصول المذهب ؛ ردّا على الأشاعرة(٢) .

__________________

(١) كذا في النسخ ، والأصحّ : « إلى النيران ».

(٢) حيث نفوا الحسن العقلي. انظر « المحصّل » : ٤٧٨ ـ ٤٨١ ؛ « الأربعين في أصول الدين » ١ : ٣٤٦ ـ ٣٤٩ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١٨١ ـ ١٩٥ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٢٨٢ ـ ٢٩٤.

٣٦٧

الثالث : أنّ أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض والفائدة العائدة إلى العباد ؛ وهو أيضا من أصول المذهب ؛ ردّا على الأشاعرة(١) .

الرابع : أنّ الله تعالى خلق العباد على وجه الاعتدال ، وأوجدهم قادرين ومختارين بالاختيار المستند إلى اختيار الله ، فهو عادل في إيجادهم كما أنّه عادل في سائر أفعاله ، بمعنى أنّ أمر العباد في أفعالهم الاختياريّة بين الأمرين لا على وجه الجبر والتفويض ؛ وهو أيضا من أصول المذهب ؛ ردّا على الأشاعرة والمعتزلة(٢) ؛ فالعدل الذي هو مقابل الجور من أصول الدين ، والعدل الذي هو مقابل الجبر ونحوه من أصول المذهب.

الخامس : أنّ أفعاله تعالى مترتّبة على اللطف الواجب عليه تعالى على وفق ما هو الأصلح بحال العباد ، الذي لا يكون له مانع ؛ وهو أيضا من أصول المذهب ؛ ردّا على الأشاعرة(٣) .

وكيف كان ، فتفصيل الكلام في مبحث العدل أنّ

المقام الأوّل :

في بيان أنّ الله تعالى عادل منفيّ عنه الظلم ،ولا يجوز عليه الظلم ، ولا يرضى به ؛ وذلك لأنّ الفعل ـ الذي يصدر عن الفاعل ، ولا يحتاج إلى حدّ ؛ لأنّه ضروريّ ـ لا يخلو إمّا أن يتّصف بأمر زائد على الحدوث وكونه فعلا صادرا عن فاعل فاهم ـ بأن اعتبر صدوره عن فاعل خاصّ ـ أم لا ، والأوّل هو فعل

__________________

(١) « المحصّل » : ٤٨٣ ـ ٤٨٤ ؛ « الأربعين في أصول الدين » ١ : ٣٥٠ ـ ٣٥٤ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٣٠١ ـ ٣٠٦.

(٢) راجع ص ٣٦٦ ، المصادر المشار إليها في الهامش ١.

(٣) « المحصّل » : ٤٨١ ـ ٤٨٣ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١٩٦ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٣٢١ ـ ٣٢٣.

٣٦٨

الفاعل المختار حتّى المباح ؛ لاتّصافه بتساوي الوجود والإيقاع مع العدم ، والثاني هو فعل غير المختار كفعل النائم والساهي والمضطرّ والبهائم ، وهذا لا يوصف بالحسن والقبح بالاتّفاق كما عن « شرح المواقف » مع حكاية الخلاف في أفعال الصبيان(١) .

( الفعل المتّصف بالزائد إمّا حسن أو قبيح ) لأنّه إمّا أن يتعلّق بإيجاده ذمّ ، أم لا ، والأوّل هو الثاني ، والثاني هو الأوّل ، والقبيح يسمّى بالحرام ؛ والحسن بالحسن بالمعنى العامّ ـ وهو ما لا يتعلّق بفعله ذمّ تامّ ـ على أربعة أقسام : واجب ، ومندوب ، ومباح ، ومكروه ؛ وذلك لأنّه إمّا أن يستحقّ بفعله مدح ، أولا ، والأوّل واجب إن استحقّ بتركه ذمّ ، وإلاّ فمندوب ، والثاني مكروه إن استحقّ بتركه مدح ، وإلاّ فمباح. كذا أفاد الشارح القوشجي(٢) .

وربّما يقال : إنّ ما تعلّق بفعله مدح فهو حسن كالواجب والمندوب ، وما تعلّق بفعله ذمّ فهو قبيح كالحرام ، وما لا يتعلّق بفعله مدح ولا ذمّ فهو مباح مع تساوي الفعل والترك ، ومكروه مع رجحان الترك ، فعلى هذا لا يكون التقسيم حاصرا. وربّما يجعل المكروه داخلا في القبيح.

والأولى أن يقال : إنّ الفعل الاختياريّ إمّا أن يكون راجح الترك ، أولا.

والأوّل : هو القبيح الشامل للحرام والمكروه من جهة كون القبح تامّا أو ناقصا ؛ لأنّه إمّا أن يكون مع المنع من الفعل ، فهو الحرام المترتّب عليه استحقاق العقاب ، وإلاّ فهو المكروه المترتّب عليه استحقاق العتاب.

والثاني : هو الحسن بالحسن العامّ الشامل للواجب والمندوب والمباح ؛ لأنّه إمّا أن يكون مع رجحان الفعل مع المنع من الترك ، أو بدونه ، أو لا.

__________________

(١) « شرح المواقف » ٨ : ١٨١.

(٢) « شرح تجريد العقائد » : ٣٣٧.

٣٦٩

والأوّل هو الواجب المترتّب على فعله استحقاق الثواب ، وعلى تركه استحقاق العقاب.

والثاني هو المندوب المترتّب على فعله استحقاق الثواب من غير ترتّب استحقاق العقاب على تركه.

والثالث هو المباح.

وذلك لأنّه المناسب للإذن والرخصة في الفعل من الحكيم على الإطلاق والعقلاء بنحو : كلوا واشربوا ، والنهي التحريميّ والتنزيهيّ بنحو : لا تسرفوا ولا تصرّفوا.

وبعبارة أخرى(١) : الفعل إمّا خير محض ، أو شرّ محض ، أو خير غالب ، أو شرّ غالب ، أو متساوي الخير والشرّ ؛ والخير المحض والخير الغالب حسنان ، والشرّ المحض والشرّ الغالب والمتساوي قبائح ، فالفعل إمّا حسن أو قبيح كما مرّ. هذا بحسب مذهب الحكماء والإماميّة والمعتزلة من كون أفعال العباد اختياريّة(٢) .

وأمّا على مذهب الأشاعرة من كون أفعال العباد غير اختياريّة(٣) ، فلا يصحّ هذه القسمة من جهة عدم اتّصاف الفعل على ما زاد على الحدوث إلاّ على وجه المسامحة أو ملاحظة المقارنة للإرادة ـ وإن لم تكن مؤثّرة ـ وعدمها المقتضية لتسمية الأوّل اختياريّا بحسب الظاهر دون الثاني ، ولكنّ الأمر في ذلك هيّن.

وكيف كان ، فالفعل الصادر من الله تعالى لا يكون ظلما وشرّا وقبيحا ، بل يكون عدلا حسنا سالما عن الظلم والقبح.

لنا على ذلك المطلب برهانان : عقليّ قاطع ، ونقليّ ساطع.

أمّا البرهان القاطع العقليّ فهو أنّ الله تعالى لوجوب وجوده غنيّ مطلق ، عالم بجهات القبح ، والظلم قبيح بالقبح الذاتيّ ببديهة العقل ، فمع الغنى والعلم بالقبح

__________________

(١) لا بدّ أن نشير هنا إلى أنّ بين التعريفين اختلافا معنويا ، وليس الاختلاف بينهما في العبارة فقط ، فإنّ المباح في التعريف الأوّل داخل في الحسن وفي الثاني داخل في القبيح ، فكيف يكون هذا عبارة أخرى لذلك؟!

(٢) راجع ص ٤٢٨ ـ ٤٢٩ من هذا الجزء.

(٣) راجع ص ٤٢٨ ـ ٤٢٩ من هذا الجزء.

٣٧٠

لو صدر منه القبيح لزم الترجيح بلا مرجّح ، بل ترجيح المرجوح ، وكلاهما قبيح عقلا ، فيكون صدوره عن الحكيم المطلق محالا ، فتجويز صدور القبيح عنه تعالى تجويز لكونه موردا للذمّ عقلا ؛ لأنّ الظلم إمّا لدفع المفسدة ، أو لجلب المنفعة ، أو للجهل ، أو السفاهة ومع عدم تصوّر شيء من ذلك في حقّ العالم الغنيّ يلزم كونه موردا للذمّ ، وهو ممتنع ضرورة ، فصدور الظلم والكذب وسائر الشرور عنه تعالى قبيح ، فلا يكون الواجب تعالى خالقا للكفر والمعاصي ، وإلاّ لكان التعذيب عليهما [ قبيحا ] والقبيح لا يصدر عنه تعالى.

وأيضا إنّه تعالى أخبر بعدم صدور الظلم عنه تعالى ، فيلزم أن لا يكون واقعا ، وإلاّ لزم الكذب المحال ، وهكذا خلق الكفر والمعاصي وإرادة الكفر من الكفّار ، والفجور من الفجّار من جهة القبح ، فيكون المراد من الكفّار والفجّار الإيمان والطاعة بالإرادة والاختيار ، لا على وجه الإجبار ؛ إذ لا إكراه في الدين من غير مغلوبيّته تعالى وعجزه تعالى بسبب عدم إيمانهم وطاعتهم.

وأمّا البرهان النقليّ الذي هو النور الساطع ، فهو الآيات الكثيرة :

منها : قوله تعالى :( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) (١) .

ومنها : قوله تعالى :( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ) (٢) .

ومنها : قوله تعالى :( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (٣) .

ومنها : قوله تعالى :( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ ) (٤) .

ومنها قوله تعالى :( أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (٥) .

__________________

(١) يونس (١٠) : ٦١.

(٢) يونس (١٠) : ٤٤.

(٣) غافر (٤٠) : ٣١.

(٤) آل عمران (٣) : ١٠٨.

(٥) آل عمران (٣) : ١٨٢ ؛ الأنفال (٨) : ٥١.

٣٧١

ومنها : قوله تعالى :( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ) (١) .

ومنها : قوله تعالى :( إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ ) (٢) .

ومنها : قوله تعالى :( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (٣) إلى غير ذلك من الآيات النافية للظلم ، المثبتة لعدالته.

ومثلها الأخبار المتكاثرة :

منها : ما روي عن الرضاعليه‌السلام أنّه قال : « خرج أبو حنيفة ذات يوم من عند الصادقعليه‌السلام ، فاستقبله موسى بن جعفرعليهما‌السلام فقال : يا غلام ممّن المعصية؟ فقال : « لا تخلو من ثلاثة : إمّا أن تكون من الله عزّ وجلّ ـ وليست منه ـ فلا ينبغي للكريم أن يعذّب عبده بما لم يكتسبه ، وإمّا أن تكون من الله عزّ وجلّ ومن العبد ، فلا ينبغي للشريك القويّ أن يظلم الشريك الضعيف ، وإمّا أن تكون من العبد ـ وهي منه ـ فإن عاقبه الله فبذنبه ، وإن عفا عنه فبكرمه وجوده »(٤) .

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال : « الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل زعم أنّ الله أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلّم الله عزّ وجلّ في حكمه وهو « كافر »(٥) إلى آخر الحديث على ما سيأتي.

ومنها : ما روي عن الحسن بن عليّ الوشّاء عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام ، قال : سألته فقلت : الله فوّض الأمر إلى العباد؟ قال : « الله أعزّ من ذلك » قلت : فجبرهم على المعاصي؟ قال : « الله أعدل وأحكم من ذلك » قال : ثمّ قال : « قال الله :

__________________

(١) آل عمران (٣) : ١٨.

(٢) يونس (١٠) : ٤.

(٣) يونس (١٠) : ٤٧.

(٤) « التوحيد » : ٩٦ باب معنى التوحيد والعدل ، ح ٢ ؛ « عيون أخبار الرضا » ١ : ١٣٨ ، الباب ١١ ، ح ٣٧.

(٥) « التوحيد » : ٣٦٠ باب نفي الجبر والتفويض ، ح ٥.

٣٧٢

يا ابن آدم! أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي ، عملت المعاصي بقوّتي التي جعلتها فيك »(١) .

بيان

ذلك الحديث يدلّ على أنّ التفويض يوجب بطلان أمره تعالى ونهيه ، وعجزه عن التصرّف والتدبير والإعانة والخذلان ، والله تعالى أعزّ من ذلك ، بل له الأمر والنهي والتدبير والامتحان والاختبار حتّى أنّه لا يقع طاعة إلاّ بعونه ، ولا معصية إلاّ بخذلانه ، فبطل قول المعتزلة ، وأنّه يقبح من العدل الحكيم أن يجبر عبده على المعصية ، ثمّ يعذّبه بها ، بل يلزم أن لا يتّصف فعل عبد بقبح ؛ لكونه فعل الله ، وكون كلّ فعل من الله حسنا ولو من جهة أنّه فعله ، كما يقوله الأشاعرة الجبريّة ، فيدلّ على بطلان قولهم ، وعلى أنّه تعالى عادل غير ظالم ، وأنّ الأفعال صادرة عن العبد بالاختيار والقدرة المخلوقة فيهم من الله ، لا عنه تعالى بالقدرة الأزليّة ، كما زعمت الأشاعرة(٢) ؛ لتنزّهه تعالى عن القبائح وامتناع اتّصافه بالظلم والجور ، ولا عن مجموع قدرة العبد وقدرته تعالى ، كما عن أبي إسحاق الأسفراينيّ(٣) ؛ لامتناع أن يعذّب الشريك القويّ شريكه الضعيف على الفعل المشترك بينهما ، ولا بالتفويض إليهم ؛ لامتناع خروجه تعالى عن السلطنة وعدم احتياج الباقي إليه تعالى في البقاء والقدرة ، بل الحسنات تصدر منهم بالقوّة والقدرة التي خلقها الله فيهم بحيث يتمكّنون على الضدّين ، ولكنّها لحسنها صارت متعلّقة لرضائه تعالى ، فيضاف إلى تلك القدرة توفيقه تعالى بتوجيه أسبابها إليهم ، فهو أولى بها.

__________________

(١) « الكافي » ١ : ١٥٧ باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح ٣ ؛ « التوحيد » : ٣٦٢ باب نفي الجبر والتفويض ، ح ١٠.

(٢) « أصول الدين » لعبد القاهر البغداديّ : ١٣٤ ـ ١٣٧ ؛ « شرح الأصول الخمسة » : ٣٢٤ ؛ « المطالب العالية » ٩ : ١٩ ؛ « الأربعين في أصول الدين » ١ : ٣١٩ ؛ « المحصّل » : ٤٥٥ ـ ٤٧٤ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١٤٥ ـ ١٧٣.

(٣) نقله عنه الرازيّ في « المطالب العالية » ٩ : ١١ ؛ « الأربعين في أصول الدين » ١ : ٣١٩ ـ ٣٢٠ ، والتفتازانيّ في « شرح المقاصد » ٤ : ٢٢٣ ، والعلاّمة الحلّيّ في « كشف المراد » : ٣٠٨ ؛ « مناهج اليقين » : ٢٣٦.

٣٧٣

وأمّا السيّئات ، فلقبحها تقتضي صرف وجه التوفيق واللطف عنهم ، فهم أولى بها وإن كان الكلّ كسبهم ، كما يستفاد من كلمة « أولى » ؛ لأنّ اسم التفضيل يدلّ على ثبوت أصل الفعل في المفضّل عليه عند الإطلاق. إلى غير ذلك من الأخبار الآتية المثبتة للعدل ـ الذي هو مقابل الجور ـ والجبر معا ، وكون الأمر بين الأمرين ، كما سيأتي.

وصل

العدل في مقابل الجور من أصول الدين ، ومنكره من الكافرين.

فإن قلت : الكافر ـ بالكفر المقابل للإسلام ـ من أنكر الإلهيّة أو النبوّة أو شيئا ممّا علم بالضرورة أنّه من دين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنكر العدل ليس كذلك ؛ لأنّ الأشاعرة يقولون بالجبر المستلزم للجور ، فلا يكون العدل من أصول الدين ، وإلاّ يلزم تكفير الأشاعرة ، وهو خلاف المشهور المنصور.

قلت : الأشاعرة لا يقولون بالجور بمعنى الظلم ، كيف؟ وهم من أهل الكتاب ، والكتاب مصرّح بأنّ الله تعالى لا يظلم مثقال ذرّة.

نعم ، هم يقولون بالجبر ، واستلزامه للجور ليس سببا للكفر ؛ لأنّ السبب هو اعتقاد خلاف أصول الدين ونحوه ، لا الاعتقاد المستلزم له من غير اعتقاد به ، فلو قال أحد بأنّ الله تعالى جائر وظالم ، يحكم بكفره. وأمّا من قال : إنّه تعالى جائر يحمل العباد جبرا على أفعالهم ، فهو خارج عن المذهب ، لا الدين.

المقام الثاني

أنّ جميع أفعال الله تعالى كغيرها حسن بالحسن العقليّ ـ ولو لم يدركه العقل إلاّ بإرشاد النقل ـ كما يستفاد من العقل والنقل ، بمعنى أنّ حسن الأفعال وقبحها

٣٧٤

عقليّان ، لا سمعيّان وشرعيّان ونقليّان ؛ وهو من أصول مذهب الإماميّة ؛ ردّا على الأشاعرة.

بيان ذلك يقع في مرحلتين :

الأولى : أنّ الحسن أو القبح على قسمين : عقليّ ونقليّ ؛ والعقليّ عبارة عمّا يحكم به العقل ولو لم يلاحظ النقل ، والنقليّ عبارة عمّا يحكم به الشرع بأن يكون الشرع هو المثبت له بسبب الأمر بشيء أو النهي عنه ، أو عدم الأمر به ، بمعنى أنّه ليس للفعل قبل ورود الشرع حسن ولا قبح ، بل الشرع يثبته على الوجه المذكور.

والعقليّ ـ كما يستفاد من إطلاقات العقلاء ـ على أقسام :

منها : الحسن بمعنى كون الصفة صفة الكمال ، والقبح بمعنى كون الصفة صفة النقص ، كما يقال : العلم حسن أي لمن اتّصف به كمال وارتفاع شأن ، والجهل قبيح أي لمن اتّصف به نقصان وانحطاط حال.

ومنها : الحسن بمعنى ملاءمة الطبع ، والقبح بمعنى منافرته ، كما يقال : الحلو حسن ، والبشع(١) قبيح ، ومثله حسن السلوك وقبحه وأمثال ذلك.

ومنها : الحسن موافقة الغرض ، والقبح بمعنى مخالفة الغرض ، فما وافق الغرض كان حسنا ، وما خالفه كان قبيحا ، كما إذا حصل من لقاء السلطان ـ مثلا ـ تعظيم للملاقي ، أو تحقير له ، أو إعطاء مال ، أو أخذ مال ، فيقال : صار حسنا ، أو صار قبيحا ، فما لم يكن موافقا ولا مخالفا لم يكن حسنا ولا قبيحا.

ومنها : الحسن بمعنى الاشتمال على المصلحة وكونه ممّا فيه جهة محسّنة ظاهرة أو كامنة ، والقبح بمعنى الاشتمال على المفسدة وكونه ممّا فيه جهة مقبّحة ولو كانت من الصفات الكامنة ، فيقال لما فيه المصلحة : إنّه حسن ، ولما فيه المفسدة : إنّه قبيح ، وما خلا عنهما لا يكون شيئا منهما ، وهذا المعنى ـ بل بعض ما تقدّم أيضا ـ

__________________

(١) البشع : الخشن من الطعام واللباس والكلام. كذا في « لسان العرب » ١ : ٤١٦ « بشع ».

٣٧٥

قد يجتمع في شيء واحد باعتبارين ، كما يقال : وجود زيد مصلحة لأوليائه ، ومفسدة لأعدائه ، أو بالعكس بالاعتبارين.

ومنها : الحسن بمعنى كون الفعل ممّا تعلّق به المدح.

وبعبارة أخرى : كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله به المدح والتعظيم باعتبار العقل ، وكونه بحيث يستحقّ فاعله الثواب باعتبار الشرع ، أو كونه بحيث يستحقّ فاعله المدح والثواب بملاحظة العقل والنقل ، والقبح بمعنى كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله الذمّ عقلا ، والعقاب أو العتاب شرعا ، فما تعلّق به مدحه تعالى في العاجل ، وثوابه في الآجل يسمّى حسنا ، وما يتعلّق به ذمّه تعالى في العاجل ، وعقابه أو عتابه في الآجل يسمّى قبيحا ، وما لا يتعلّق به شيء منهما ، فهو خارج عنهما ، هذا في أفعال العباد. وإن أريد ما يعمّ أفعال الله تعالى ، اكتفي بتعلّق المدح والذمّ وترك الثواب والعقاب ؛ لما لا يخفى.

ومحلّ النزاع بالنسبة إلى موضوع المسألة هو المعنى الأخير لا غيره ، كما صرّح به الشارح القوشجي ؛ حيث قال بالنسبة إلى المعنى الأوّل : « لا نزاع في أنّ هذا المعنى أمر ثابت للصفات في أنفسها ، وأنّ مدركه العقل »(١) وكذا بالنسبة إلى ما فيه مصلحة ومفسدة قال : « وذلك أيضا مدركه(٢) العقل »(٣) .

وصرّح بما أشرنا أيضا صاحب « المواقف » وشارحه ؛ حيث قالا :

« ( ولا بدّ أوّلا ) أي قبل الشروع في الاحتجاج ( من تحرير محلّ النزاع ) ليتّضح المتنازع فيه ، ويرد النفي والإثبات على شيء واحد( فنقول ) ـ وبالله التوفيق ـ : ( الحسن والقبح يقال لمعان ثلاثة :

الأوّل : صفة الكمال والنقص ) فالحسن كون الصفة صفة كمال ، والقبح كون الصفة

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » : ٣٣٨.

(٢) في المصدر : « يدركه ».

(٣) « شرح تجريد العقائد » : ٣٣٨.

٣٧٦

صفة نقصان ( يقال : العلم حسن ) أي لمن اتّصف به كمال ، وارتفاع شأن ( والجهل قبيح ) أي لمن اتّصف به نقصان ، واتّضاع حال ( ولا نزاع ) في أنّ هذا المعنى أمر ثابت للصفات أنفسها و ( أنّ مدركه العقل ) ولا تعلّق له بالشرع.

( الثاني : ملاءمة الغرض ومنافرته ) فما وافق الغرض كان حسنا ، وما خالفه كان قبيحا ، وما ليس كذلك لم يكن حسنا ولا قبيحا.

( وقد يعبّر عنهما ) أي عن الحسن والقبح ( بالمصلحة والمفسدة ) فيقال : الحسن ما فيه مصلحة ، والقبيح ما فيه مفسدة ، وما خلا عنهما لا يكون(١) شيء منهما ( وذلك أيضا عقليّ ) أي مدركه العقل كالمعنى الأوّل ( ويختلف بالاعتبار ؛ فإنّ قتل زيد مصلحة لأعدائه ) وموافق لغرضهم ( ومفسدة لأوليائه ) ومخالف لغرضهم ، فدلّ هذا الاختلاف على أنّه أمر إضافي لا صفة حقيقيّة وإلاّ لم يختلف كما لا يتصوّر كون الجسم الواحد أسود وأبيض.

( الثالث : تعلّق المدح والثواب ) آجلا وعاجلا ( أو الذمّ والعقاب ) كذلك ، فما تعلّق به المدح في العاجل والثواب في الآجل يسمّى حسنا ، وما تعلّق به الذمّ في العاجل ، والعقاب في الآجل يسمّى قبيحا ، وما لا يتعلّق به شيء منهما فهو خارج عنهما ، هذا في أفعال العباد. وإن أريد ما يشمل أفعال الله تعالى اكتفي بتعلّق المدح والذّمّ ، وترك الثواب والعقاب ( وهذا ) المعنى الثالث ( هو محلّ النزاع ) » انتهى(٢) .

ومثل ما ذكر ذكر شارح « المقاصد » ؛ حيث قال :

« وليس النزاع في الحسن والقبح بمعنى صفة الكمال والنقص كالعلم والجهل ، وبمعنى الملاءمة للغرض وعدمها كالعدل والظلم ، وبالجملة كلّ ما يستحقّ المدح أو الذمّ في نظر العقول ومجاري العادات ؛ فإنّ ذلك يدرك بالعقل ورد الشرع أم لا ،

__________________

(١) « لا يكون » هنا تامّة.

(٢) « شرح المواقف » ٨ : ١٨٢.

٣٧٧

وإنّما النزاع في الحسن والقبح عند الله تعالى بمعنى استحقاق فاعله في حكم الله تعالى المدح أو الذمّ عاجلا ، والثواب والعقاب آجلا. والتعرّض للثواب والعقاب على أنّ الكلام في أفعال العباد »(١) . انتهى.

ومثل ذلك ذكر العلاّمة في « النهاية »(٢) .

وبالجملة ، فمحلّ النزاع بالنسبة إلى موضوع المسألة ـ كما ذكرنا ـ الحسن والقبح بالمعنى الأخير ، وبالنسبة إلى متعلّق الموضوع ما يعمّ أفعال الله تعالى وأفعال العباد ، وبالنسبة إلى المحمول ما أشرنا إليه من أنّ المراد من العقليّ ما يحكم به العقل ولو لم يلاحظ النقل ، والمراد من النقلي ما يحكم به الشرع خاصّة ، كما أفاد شارح المقاصد ، حيث قال :

« فعندنا ذلك بمجرّد الشرع بمعنى أنّ العقل لا يحكم بأنّ الفعل حسن أو قبيح في حكم الله تعالى ، بل ما ورد به الأمر به فحسن ، وما ورد به النهي عنه فقبيح من غير أن يكون للفعل جهة محسّنة أو مقبّحة في ذاته ، ولا بحسب جهاته واعتباراته حتّى لو أمر بما نهى عنه صار حسنا ، وبالعكس. وعندهم للفعل جهة محسّنة أو مقبّحة في حكم الله تعالى يدركها العقل بالضرورة كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضّارّ ، أو بالنظر كحسن الكذب النافع وقبح الصدق الضّارّ ، أو بورود الشرع كحسن صوم يوم عرفة ، وقبح صوم العيد.

فإن قيل : فأيّ فرق بين المذهبين في هذا القسم؟

قلنا : الأمر والنهي عندنا من موجبات الحسن والقبح بمعنى أنّ الفعل إن أمر به فحسن ، أو نهي عنه فقبيح ، وعندهم من مقتضياته بمعنى أنّه حسن فأمر به ، أو قبيح فنهي عنه ، فالأمر والنهي إذا وردا كشفا عن حسن وقبح سابقين حاصلين للفعل

__________________

(١) « شرح المقاصد » ٤ : ٢٨٢.

(٢) أي كتاب « نهاية الوصول إلى علم الأصول ».

٣٧٨

لذاته أو لجهاته »(١) انتهى.

فالمراد أنّ الفعل بحسب الواقع ونفس الأمر له حسن أو قبح أو حالة متوسّطة يمكن إدراكه للعقل وإن لم يلاحظ الشرع ، أو لم يصل إليه نقل ، لا أنّ جميع ذلك مدرك له بالفعل فضلا عن الضرورة أو الدوام ، فالقضيّة بحسب الجهة ممكنة باعتبار إدراك العقل إن اعتبر الكلّيّة في الموضوع ، وإلاّ فمطلقة عامّة ، أو وقتيّة ، أو منتشرة ودائمة ، بل ضروريّة باعتبار ثبوت صفة الحسن أو القبح ، بمعنى أنّ الحسن أو القبح ثابت للفعل في الواقع ونفس الأمر بالدوام أو بالضرورة ، وأنّ العقل يدركهما بالقوّة ، أو بالفعل على سبيل الممكنة ، أو المطلقة ، أو وقت الجلاء والالتفات ، أو وقتا ما على سبيل الوقتيّة ، أو المنتشرة.

فالمراد من عقليّة الحسن والقبح أنّه يكون للفعل بحسب الواقع حسن أو قبح ، ويمكن للعقل إدراك ممدوحيّة فاعل الأفعال في نفس الأمر ، أو مذموميّته كذلك إن لم يرد به شرع ، أو إدراك جهة ورود الشرع على تحسين الفعل أو تقبيحه إن ورد به شرع.

وعدم علم العقل بنفسه بجهات الحسن والقبح في بعض الأفعال غير قادح في عقليّتهما ؛ لأنّه يكون من جهة خفائهما وانغمار العقل بالشهوات الحيوانيّة والعلائق الجسمانيّة ، وكونه غريقا في لجّة الأغشية الناسوتيّة ، وبعيدا عن محطّ الأنوار اللاهوتيّة ، فبإدراك الحسن والقبح في بعض الأفعال ـ الذي ليس بمرتبة ما ذكر في الخفاء ـ يحكم بعدم القول بالواسطة ، الكاشف عن حكم الله الصانع القادر المقدّر أنّ الفعل الذي أمر به الشارع حسن في نفس الأمر ، وإلاّ لكان طلب الحكيم قبيحا ، وبأنّ الفعل الذي نهى عنه الشارع قبيح في نفس الأمر ، وإلاّ لكان النهي عنه مذموما.

والمراد من شرعيّة الحسن والقبح أنّه ليس للفعل قبل ورود الشرع حسن أو قبح

__________________

(١) « شرح المقاصد » ٤ : ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

٣٧٩

حتّى يمكن للعقل إدراكه.

وقد يقال : إنّ المراد من عقليّتهما اشتمال الفعل على الجهة المحسّنة أو المقبّحة وإن لم يتمكّن العقل لإدراكهما ، والمراد من شرعيّتهما أن لا يكون كذلك ، بل يكون حسنه أو قبحه بمجرّد ورود الأمر أو النهي من الشارع ، فيمكن التعاكس بورود الأمر على المنهيّ عنه في حال النهي عنه ، وبالعكس ، وعلى الأوّل لا يصحّ التعاكس إلاّ إذا اختلف الوقت وتغيّر المصلحة بالمفسدة ، أو العكس كما في نسخ الأحكام والأديان.

فإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ العلماء المتكلّمين اختلفوا في هذه المسألة على قولين :

[ القول ] الأوّل : أنّ الحسن والقبح عقليّان وهو مختار الإماميّة والحكماء والمعتزلة(١) . وأشار المصنّفرحمه‌الله إليه بقوله :( وهما عقليّان ) بمعنى أنّ الحاكم بهما هو العقل فعلا أو قوّة ، وأنّ الفعل حسن أو قبيح في نفسه إمّا لذاته أو لصفة لازمة له ، أو بوجوه واعتبارات ، أو على وجه التركيب باعتبار الذات والصفات والاعتبارات على الاختلاف الآتي إن شاء الله ، فالشرع كاشف ومبيّن للحسن والقبح الثابتين له على أحد الأنحاء الثلاثة ، وليس له أن يعكس القضيّة من عند نفسه بأن يحسّن ما قبّحه العقل ويقبّح ما حسّنه إلاّ إذا اختلف حال الفعل في الحسن والقبح بالقياس إلى الأزمان ، أو الأشخاص ، أو الأحوال ؛ فإنّ له حينئذ أن يكشف عمّا يتغيّر الفعل إليه من حسنه أو قبحه في نفسه.

[ القول ] الثاني : أنّ الحسن والقبح شرعيّان بمعنى أنّه ليس للفعل حسن أو قبح

__________________

(١) « تقريب المعارف » : ٥٨ ـ ٥٩ ؛ « قواعد المرام في علم الكلام » : ١٠٤ ـ ١٠٧ ؛ « نقد المحصّل » : ٣٣٩ ـ ٣٤١ ؛ « كشف المراد » : ٣٠٢ ـ ٣٠٥ ؛ « مناهج اليقين » : ٢٢٩ ـ ٢٣٥ ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » : ٨٢ ـ ٨٥ ؛ « النافع ليوم الحشر » : ٢٥ ـ ٢٦ ؛ « إرشاد الطالبين » : ٢٥٤ ـ ٢٦٣ ؛ « شرح الأصول الخمسة » : ٣٢٦ ؛ « المغني في أبواب التوحيد والعدل » ٦ : ٧ وما بعدها ؛ « الأسفار الأربعة » ٦ : ٣٧١ ؛ « أصول الفقه » للمظفّر : ٢٢٣ ـ ٢٤٨.

٣٨٠

في نفس الأمر لأمر حقيقيّ حاصل فيه قبل الشرع حتّى يمكن للعقل إدراكه ، ويكون الشرع كاشفا عنه بل الشرع هو المثبت له والمبيّن ، فلا حسن للأفعال ولا قبح لها قبل ورود الشرع ، فلو عكس الشارع القضيّة فحسّن ما قبّحه ، وقبّح ما حسّنه ، لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر ، فصار القبيح حسنا والحسن قبيحا كما في النسخ من الحرمة إلى الوجوب ، ومن الوجوب إلى الحرمة ، فكلّ ما أمر به الشارع فهو حسن ، وكلّ ما نهى عنه مثلا فهو قبيح ، ولو لا الشرع لم يكن حسن ولا قبيح. وهو مختار الأشاعرة(١) كالشارح القوشجي ، كما صرّح به في شرح الكتاب(٢) ، وشارح « المقاصد » ؛ حيث قال : « فعندنا ذلك بمجرّد الشرع »(٣) وصاحب المواقف وشارحه ؛ حيث قالا : «( القبيح ) عندنا( ما نهي عنه شرعا ) نهي تحريم أو تنزيه( والحسن بخلافه ) ، أي ما لم ينه عنه شرعا كالواجب والمندوب والمباح ؛ لأنّ المباح عند أكثر أصحابنا من قبيل الحسن وكفعل الله تعالى ؛ فإنّه حسن أبدا بالاتّفاق.

وأمّا فعل البهائم ، فقد قيل : إنّه لا يوصف بحسن ولا قبح باتّفاق الخصوم ، وفعل الصبيّ مختلف فيه ( ولا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها ، وليس ذلك ) أي حسن الأشياء وقبحها ( عائدا إلى أمر حقيقيّ ) حاصل في الفعل قبل الشرع ( يكشف عنه الشرع ) كما يزعمه المعتزلة ( بل الشرع هو المثبت له والمبيّن ) فلا حسن ولا قبح للأفعال قبل ورود الشرع ( ولو عكس ) الشارع ( القضيّة فحسّن ما قبّحه وقبّح ما حسّنه لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر ) فصار القبيح حسنا ، والحسن قبيحا ، كما في النسخ من الحرمة إلى الوجوب ، ومن الوجوب إلى الحرمة » (٤) إلى غير ذلك من الكلمات.

__________________

(١) « المحصّل » : ٤٧٨ ـ ٤٨١ ؛ « المطالب العالية » ٣ : ٢٨٩ ـ ٣٥٨ ؛ « الأربعين في أصول الدين » ١ : ٣٤٦ ـ ٣٤٩.

(٢) « شرح تجريد العقائد » : ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

(٣) « شرح المقاصد » ٤ : ٢٨٢.

(٤) « شرح المواقف » ٨ : ١٨١ ـ ١٨٢.

٣٨١

والثمرة ـ مضافا إلى الثمرة العلميّة ـ تظهر في تصحيح العقيدة والحكم بجواز ارتكاب القبيحين ، بل وجوبه فيما لم يصل بالنسبة إليه الشريعة في جواز التكليف بما لا يطاق وعدم حكم قبل الشريعة وأمثال ذلك كثيرة.

والحقّ مع الإماميّة ؛ لبراهين عقليّة :

الأوّل : أنّ الفعل لو لم يكن له رجحان وجودا أو عدما بحسب الواقع وفي نفسه ، لكان الأمر به أو النهي عنه ترجيحا بلا مرجّح ؛ لاقتضاء الأمر جعل الوجود راجحا على العدم ، بل جعل فعل من الأفعال راجحا على غيره من غير مرجّح ، واقتضاء النهي جعل الترك راجحا كذلك ، وجعل أحد المتساويين راجحا من غير مرجّح قبيح بالبديهة وإن قلنا بجواز الترجيح بلا مرجّح ، بمعنى اختيار أحد المتساويين من غير مرجّح ، كما في قدحي عطشان ، ورغيفي جوعان ؛ حيث يختار أحدهما من غير مرجّح ولو من جهة عدم الالتفات.

وبعبارة أخرى يلزم من شرعيّة الحسن والقبح عدم الأمر والنهي ، ويلزم من عدمهما عدم شرعيّة الحسن والقبح ؛ لما لا يخفى ، وما يلزم من وجوده عدمه فهو باطل.

الثاني : ما أشار إليه المصنّف بقوله :( للعلم بحسن الإحسان وقبح الظلم من غير شرع ) بمعنى أنّ العلم بحسن الإحسان والعدل ، وقبح الإساءة والكذب والظلم كقتل النفس القدسيّة بلا جهة حاصل بالضرورة لكلّ عاقل من غير ملاحظة الشرع ؛ ولذلك يعترف بذلك منكر الشرائع كالدهريّ والزنديق أيضا ، فلو كان بحسب الشرع لما علم كذلك ، ومثل ذلك القطع بأنّه يقبح عند الله من العارف بذاته وصفاته أن يشرك وينسب إليه الزوجة والولد وما لا يليق به من صفات النقص وسمات الحدوث ، بمعنى أنّه يستحقّ الذمّ والعقاب في حكم الله تعالى سواء ورد الشرع ، أم لا.

وتوهّم أنّ كون قبح ذلك مركوزا في العقول من النقول يوهم كونه من مجرّد

٣٨٢

العقول غير معقول.

فإن قلت : نمنع جزم العقل بالحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه.

نعم ، جزم العقل بالحسن والقبح ـ بمعنى الملاءمة والمنافرة ، أو صفة الكمال والنقص ـ مسلّم وهو غير نافع.

قلت أوّلا : إنّ العقل يحكم بديهة بأنّ قاتل الأنبياء بغير حقّ وبلا جهة مستحقّ للذمّ ؛ لظلمه ، والمحسن يستحقّ المدح ؛ لإحسانه ، والمنع مكابرة صريحة عند الإنصاف.

وثانيا : إنّ المسلّم فيما نحن فيه مستلزم للمتنازع فيه حيث يكون بالاختيار.

فإن قلت : قولنا : « العدل حسن ، والظلم قبيح » عدّ عند الحكماء من مقبولات العامّة للمصلحة العامّة والمفسدة وهي مادّة القياس الجدليّ ، فدعوى الضرورة ـ المعتبرة في اليقينيّات التي هي مادّة البرهان ـ غير مسموعة ؛ لعدم دلالة اتّفاق العقلاء عليها.

قلت : ضروريّة الحكمين المذكورين وعدم توقّفهما على النظر والفكر ضروريّة على وجه يكون إنكاره مكابرة ، ومدخليّة المصالح والمفاسد فيهما غير قادحة لصدورهما من العقل النظريّ بإعانة العقل العمليّ المزاول للأعمال ، والمباشر للأفعال بملاحظة المصالح والمفاسد من غير توقّف على النظر ، وهذا كتوقّف سائر البديهيّات إلى أمور غير النظر كالمشاهدة والملاحظة ، بل هما صادران من العقل مع قطع النظر عن المصلحة والمفسدة ؛ ولهذا يصدران من غير العارف بالمصالح والمفاسد ، ومن الغافل.

وعدّ الحكماء لهما من المقبولات مجرّد تمثيل للمصلحة العامّة والمفسدة العامّة ، فلهما جهة ضروريّة وجهة مقبوليّة ، فهما من اليقينيّات من جهة ضروريّتهما وعدم احتياجهما إلى النظر ، ومن المقبولات من جهة قبول عموم العقلاء لهما من جهة ملاحظة المصلحة والمفسدة العامّتين ، فعلى هذا يصحّ ذكرهما في البرهانيّات والجدليّات باعتبارين.

٣٨٣

الثالث : أنّه لو لم يثبت الحسن والقبح إلاّ بالشرع ، لم يثبتا أصلا ؛ لأنّ العلم بحسن ما أمر به الشارع ، أو أخبر عن حسنه ، وبقبح ما نهى عنه ، أو أخبر عن قبحه يتوقّف على أنّ الكذب قبيح لا يصدر عنه ، وأنّ الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن سفه وعبث لا يليق به تعالى ، وذلك إمّا بالعقل والمفروض أنّه معزول لا حكم له ، وإمّا بالشرع فيدور. وإلى هذا أشار المصنّف بقوله :( ولانتفائهما مطلقا لو ثبتا شرعا ).

فإن قلت : إنّ الدور إنّما يلزم إذا جعل الأمر والنهي دليلي الحسن والقبح ، ولكنّا لم نجعلهما دليلين لهما ، بل نجعل الحسن عبارة عن كون الفعل متعلّق الأمر والمدح ، والقبح عبارة عن كون الفعل متعلّق النهي والذمّ.

قلت أوّلا : إنّه خلاف ما صرّح به شارح المقاصد(١) الذي هو من فحول الأشاعرة ، كما مرّ(٢) إليه الإشارة.

وثانيا : إنّ كون الفعل حسنا أو قبيحا ـ على تقدير كونهما شرعيّين ـ إنّما يعلم إذا كان الفعل متعلّق الأمر والنهي [ وكون الفعل متعلّق الأمر ](٣) .

الرابع : ما أشار إليه المصنّفرحمه‌الله أيضا بقوله :( ولجاز التعاكس ) بمعنى أنّه لو كان الحسن والقبح بالشرع لا بالعقل ، لجاز أن يعكس الشارع ، فيحسّن ما قبّحه ، ويقبّح ما حسّنه ، كما في النسخ ، فيلزم جواز حسن الإساءة وقبح الإحسان بالمعنى المتنازع فيه ، وذلك باطل بالضرورة.

الخامس : ما ذكره في شرح المقاصد من أنّه لو لم يكن وجوب النظر عقليّا لزم إفحام الأنبياء(٤) ، وأنّه لو لم يقبح من الله تعالى شيء لجاز إظهار المعجزة على يد

__________________

(١) « شرح المقاصد » ٤ : ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

(٢) مرّ في ص ٣٧٨.

(٣) كذا في النسخ.

(٤) هذا هو الدليل الرابع من أدلّة المعتزلة على كون الحسن والقبح عقليّين ، كما في « شرح المقاصد » ٤ : ٢٩٠ ـ ٢٩١ وردّه التفتازانيّ في نفس الكتاب ٢ : ٢٩٣.

٣٨٤

الكاذب ، وفيه انسداد باب إثبات النبوّة(١) .

قال : والجواب أنّ الإمكان العقليّ لا ينافي الجزم بعدم الوقوع أصلا كسائر العاديّات(٢) .

وفيه الفرق بين الإمكان والقبح ، فهو ممكن لكنّه لم يقع ؛ لقبحه عقلا ولو بالاعتبار مضافا إلى الآيات والأخبار.

وتمسّك الأشاعرة بوجوه ذكرها في « شرح المقاصد »(٣) :

الأوّل : أنّه لو حسّن العقل أو قبّح ، لزم تعذيب تارك الواجب ومرتكب الحرام سواء ورد الشرع أم لا ـ بناء على أصلهم في وجوب تعذيب من استحقّه إذا مات غير تائب ـ واللازم باطل ، لقوله تعالى :( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (٤) .

الثاني : أنّه لو كان الحسن والقبح بالعقل ، لما كان من أفعال العباد حسنا ولا قبيحا عقلا ، واللازم باطل باعترافكم.

وجه اللزوم أنّ فعل العبد إمّا اضطراريّ وإمّا اتّفاقيّ ، ولا شيء منهما بحسن ولا قبيح عقلا.

أمّا الكبرى ، فبالاتّفاق. وأمّا الصغرى ، فلأنّ العبد إن لم يتمكّن من الترك فذاك ، وإن تمكّن فإن لم يتوقّف الفعل على مرجّح ، بل صدر منه تارة ولم يصدر أخرى ، كان اتّفاقيا ، على أنّه يفضي إلى الترجّح بلا مرجّح وفيه انسداد باب إثبات الصانع. وإن توقّف على مرجّح ، فذلك المرجّح إن كان من العبد ، ننقل الكلام إليه ويتسلسل ،

__________________

(١) وهذا أيضا الدليل السادس من أدلّة المعتزلة ، كما في « شرح المقاصد » ٤ : ٢٩٠ ـ ٢٩١ ، وقد نقضه التفتازانيّ في « شرح المقاصد » ١ : ٢٩٢.

(٢) هذا جواب التفتازانيّ عن الدليل الرابع للمعتزلة ، كما في « شرح المقاصد » ٤ : ٢٩٣.

(٣) « شرح المقاصد » ٤ : ٢٨٤ ـ ٢٨٩.

(٤) الإسراء (١٧) : ١٥.

٣٨٥

وإن لم يكن ، فمعه إن لم يجب الفعل ـ بل صحّ الصدور واللاصدور ـ عاد الترديد ولزم المحذور. وإن وجب فالفعل اضطراريّ(١) ، أو العبد مجبور بناء على عدم كفاية الإرادة ولزوم الانتهاء إلى مرجّح لا يكون من العبد ، ويجب معه الفعل ، ويبطل استقلال العبد.

الثالث : أنّه لو كان قبح الكذب لذاته لما تخلّف عنه في شيء من الصور ضرورة ، واللازم باطل فيما إذا تعيّن الكذب لإنقاذ نبيّ من الهلاك ؛ فإنّه يجب قطعا ، فيحسن. وكذا كلّ فعل يجب تارة ويحرم أخرى كالقتل والضرب حدّا وظلما ، بناء على أنّ الكذب ـ مثلا ـ من جهة تعيّن سبب الإنجاء فيه يصير حسنا ؛ لأنّ الحسن هو الإنجاء.

الرابع : أنّه لو كان الحسن والقبح ذاتيّين لزم اجتماع المتنافيين في إخبار من قال : « لأكذبنّ غدا » لأنّه إمّا صادق ، فيلزم بصدقه حسنه ، ولاستلزامه الكذب في الغد قبحه ، وإمّا كاذب فيلزم لكذبه قبحه ، ولاستلزامه ترك الكذب في الغد حسنه ، فيلزم اجتماع الحسن والقبح بناء على أنّ ملزوم الحسن حسن ، وملزوم القبيح قبيح ، وأنّ كلّ حسن أو قبح ذاتيّ.

الخامس : أنّ الفعل لو كان حسنا أو قبيحا لذاته ، لزم قيام العرض بالعرض وهو باطل باعتراف الخصم.

وجه اللزوم أنّ حسن الفعل مثلا أمر زائد عليه ؛ لأنّه قد يعقل الفعل ولا يعقل حسنه أو قبحه ، ومع ذلك فهو وجوديّ غير قائم بنفسه ، فهو عرض صفة للفعل الذي هو أيضا عرض ، فيلزم قيام العرض بالعرض بناء على منع كونه كإمكان الفعل ، وأنّ الحسن الشرعيّ قديم متعلّق بالفعل لا صفة له حتّى يلزم النقض بلزوم قيام العرض بالعرض.

__________________

(١) كذا في النسخ ، والصحيح « والعبد » كما في « شرح المقاصد ».

٣٨٦

السادس : أنّه لو حسن الفعل أو قبح لذاته أو لصفاته وجهاته ، لم يكن البارئ تعالى مختارا في الحكم ، واللازم باطل بالإجماع.

وجه اللزوم : أنّه لا بدّ في الفعل من حكم ، والحكم على خلاف ما هو المعقول قبيح لا يصحّ عن البارئ ، بل يتعيّن عليه الحكم بالمعقول الراجح بحيث لا يصحّ تركه ، وفيه نفي الاختيار ، الذي لا يجوز ولو كان لصارف(١) بناء على كون الحكم عندهم قديما متعلّقا بالأفعال غير مناف للاختيار.

السابع : أنّ قبح الفعل أو حسنه إذا كان صارفا عنه أو داعيا إليه كان سابقا عليه ، فيلزم قيام الموجود بالمعدوم بناء على منع كون الصارف والداعي هو العلم باتّصاف الفعل بالحسن والقبح عند الحصول.

والمصنّف ـرحمه‌الله ـ أشار إلى الجواب عن وجوه أخر من وجوه الأشاعرة بقوله :( ويجوز التفاوت في العلوم ؛ لتفاوت التصوّر ، وارتكاب أقلّ القبيحين مع عدم إمكان المخلص (٢) ، والجبر باطل ).

بيان ذلك : أنّ الأشاعرة قالوا : إنّ الحسن والقبح لو كانا عقليّين ، لما وقع التفاوت في العلوم ؛ لاتّحاد السبب والمدرك وهو العقل ، والتالي باطل بالضرورة.

والجواب : أنّه يجوز التفاوت في العلوم بسبب التفاوت في تصوّر أطرافها ، فما كان تصوّره نظريّا يكون نظريّا ، وما كان تصوّره بديهيّا أوّليّا يكون بديهيّا أوّليّا ، وما كان تصوّره حدسيّا يكون كذلك ، وهكذا سائر مراتب العلم من الضروريّات والنظريات المحتاجة إلى النظر.

وقالوا أيضا : إنّ الحسن والقبح لو كانا عقليّين ، لما اختلفا أي لما حسن القبيح ، ولما قبح الحسن ، والتالي باطل ؛ لأنّه يحسن تخليص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مثلا ـ من يد الظالم

__________________

(١) في « أ » : « الصارف ».

(٢) كذا في النسخ و « كشف المراد » وفي « تجريد الاعتقاد » : ١٩٧ و « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٣٩ : « التخلّص ».

٣٨٧

بالكذب المقتضي له ، فالكذب يصير حسنا ، كما أنّ الصدق المهلك قبيح(١) .

والجواب : أنّ الكذب في الصورة المذكورة قبيح في نفسه ، باق على قبحه ، وكذا الصدق حسن ، باق على حسنه إلاّ أنّ ترك إنجاء النبيّ أقبح ، فيصير الكذب الموجب للإنجاء من جهة اقتضائه دفع الأقبح حسنا بالعرض عند عدم إمكان التخلّص بغيره كالتعريض ، وكذا حكم الصدق ؛ فإنّه باق على حسنه إلاّ أنّه يصير قبيحا بالعرض عند عدم إمكان التخلّص عن الضرر إلاّ بتركه.

وقالوا أيضا : الجبر حقّ ، فينتفي الحسن والقبح العقليّان. وقد قرّر الشارح القوشجي هذا الوجه ، بأنّه لو كان الحسن والقبح بالعقل لما كان شيء من أفعال العباد حسنا ولا قبيحا عقلا ، واللازم باطل باعترافكم.

وجه اللزوم أنّ العبد مجبور في أفعاله ، ولا شيء من أفعال المجبور بحسن ولا قبيح عقلا.

أمّا الكبرى ، فبالاتّفاق. وأمّا الصغرى ، فلأنّ العبد إن لم يتمكّن من الترك فذاك ، وإن تمكّن فإن لم يتوقّف فعله على مرجّح ، بل صدر عنه تارة ولم يصدر أخرى بلا تجدّد أمر ، لزم الترجيح بلا مرجّح ، وانسدّ باب إثبات الصانع ، وإن توقّف ، فذلك المرجّح إن لم يجب معه الفعل ، بل يصحّ الصدور واللاصدور ، عاد الترديد ، وإن وجب فالفعل اضطراريّ والعبد مجبور(٢) .

والجواب : أنّ المرجّح هو الإرادة ؛ وصدور الفعل معها على سبيل الوجوب لا ينافي الاختيار ، فالجبر باطل كما سيأتي إن شاء الله ، فالصغرى المذكورة لإثبات الشرطيّة ممنوعة ، بل فاسدة ، فيكون الشرطيّة أيضا كذلك ، فلا يكون النتيجة صحيحة.

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » : ٣٣٩.

(٢) نفس المصدر.

٣٨٨

وأمّا الجواب عن سائر الوجوه ، فيظهر بالتأمّل.

ثمّ اعلم أنّ القائلين بأنّ الحسن والقبح عقليّان اختلفوا في أنّهما ذاتيّان مطلقا ـ بمعنى أنّ كلّ ذات فعل له حسن أو قبح في الواقع ونفس الأمر ، لا أنّ كلّ حسن أو قبح منسوب إلى الذات ؛ لأنّ الظاهر أنّ صيرورة الحسن بالذات قبيحا بالعرض ، وبالعكس كالصدق الضارّ والكذب النافع المنجي للنفس المحترمة من الهلاك ممّا لا ينكره أحد ـ أو بالوجوه والاعتبارات ، أو نحو ذلك مطلقا ، أو بالتفصيل على أقوال ، ونحن نكتفي في ذلك بذكر كلمات بعض المتكلّمين.

ففي المواقف وشرحه : « ( ثمّ إنّهم اختلفوا ، فذهب الأوائل منهم) إلى أنّ حسن الأفعال وقبحها لذواتها لا بصفات(١) فيها تقتضيهما.

وذهب بعض من بعدهم من المتقدّمين ( إلى إثبات صفة ) حقيقيّة ( توجب ذلك مطلقا ) أي في الحسن والقبح جميعا ، فقالوا : ليس حسن الفعل أو قبحه لذاته كما ذهب إليه من تقدّمنا من أصحابنا ، بل لما فيه من صفة موجبة لأحدهما.

( و ) ذهب ( أبو الحسين من متأخّريهم إلى إثبات صفة في القبيح ) مقتضية لقبحه ( دون الحسن ) ؛ إذ لا حاجة به إلى صفة محسّنة له ، بل يكفيه لحسنه انتفاء الصفة المقبّحة.

( و ) ذهب ( الجبائيّ إلى نفيه ) أي نفي الوصف الحقيقيّ ( فيهما مطلقا ) فقال : ليس حسن الأفعال وقبحها بصفات حقيقيّة فيها ، بل بوجوه اعتباريّة وأوصاف إضافيّة تختلف بحسب الاعتبار ، كما في لطم اليتيم تأديبا وظلما »(٢) انتهى.

ومثله ذكر الشارح القوشجي في شرح الكتاب(٣) وكذا غيره.

والحاصل : أنّ الأقوال في المسألة خمسة :

__________________

(١) في المصدر : « لا لصفات ».

(٢) « شرح المواقف » ٨ : ١٨٤.

(٣) « شرح تجريد العقائد » : ٣٣٧ ـ ٣٣٩.

٣٨٩

الأوّل : أنّ الحسن والقبح ذاتيان بالمعنى المذكور كما عن القدماء.

الثاني : أنّهما لصفة لازمة لذات الشيء ، موجبة لهما.

الثالث : أنّهما بالوجوه والاعتبارات ؛ لترتّب مصلحة أو مفسدة ظاهرة أو كامنة ، ولكن حكم العقل مخصوص بالصورة الأولى.

الرابع : أنّ الحسن ذاتيّ ، والقبح لصفة مقبّحة كما عن أبي الحسين.

الخامس : أنّهما للقدر المشترك الأعمّ ، كما اختاره أستاذ الأستاذ(١) حاكيا عن غير المعتزلة ، وهو ظاهر المقدّس الأردبيليّ أيضا ؛ حيث قال : « ينبغي أن يختار أنّه قد يكون لذاته كما في الصدق والكذب ، وقد يكون لصفة ذاتيّة ، وقد يكون لوجوه واعتبارات كما في لطم اليتيم »(٢) . والحقّ هو الأوّل كما عن الأوائل(٣) .

ويشهد على كونهما ذاتيّين أنّ من استوى في تحصيل غرضه الصدق والكذب بحيث لا مرجّح أصلا ، ولا علم باستقرار الشرائع على تحسين الصدق وتقبيح الكذب ، فإنّه يؤثر الصدق قطعا ، ويترك الكذب حتما ، وما ذاك إلاّ لأنّ حسنه بالمعنى المتنازع فيه ذاتيّ ضروريّ عقليّ ، وكذا إنقاذ من أشرف على الهلاك حيث لا يتصوّر له نفع وغرض ولو كان مدحا وثناء.

وتوهّم أنّ إيثار الصدق لملاءمة الطبع والمصلحة العامّة ، وإنقاذ الهالك لرقّة الجنسيّة المجبولة في الطبيعة كأنّه يتصوّر لنفسه مثل تلك الحالة فيستحسنه من نفسه كما يستحسنه من غيره في حقّه فاسد ؛ لما لا يخفى.

فإن قلت : الذاتيّ لا يختلف ولا يتخلّف ، والحسن والقبح يختلفان ويتخلّفان

__________________

(١) اختاره الحكيم السبزواريّ حاكيا عن الشيخ البهائيّ في « زبدة الأصول » وحواشيها. راجع « شرح الأسماء » : ٣٢٢.

(٢) « الحاشية على إلهيّات الشرح الجديد للتجريد » : ١٢٠.

(٣) « كشف المراد » : ٣٠٢ ؛ « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٣٨ ؛ « شرح الأسماء » : ٣١٨ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١٨٤.

٣٩٠

كما في الصدق الضارّ والكذب النافع الموجب لنجاة النفس المحترمة ، فلا يمكن كونهما ذاتيين.

قلت : عدم تخلّف الذاتيّ إنّما هو بحسب نفس الأمر ، فلا ينافي صيرورة الحسن بالذات قبيحا بالعرض ، وبالعكس ، كما لا يخفى.

وبالجملة ، فالأحكام الشرعيّة الفرعيّة التكليفيّة كالوجوب والحرمة مترتّبة على الحسن والقبح الواقعيّين ـ ذاتيّين كانا أم عارضيّين لمصلحة بارزة أو كامنة ـ وتسمّى تلك الأحكام شرعيّة ؛ لكون الشرع كاشفا ، أو مؤكّدا لا جاعلا كما هو مذهب الأشاعرة ؛ حيث جعلوا العقل معزولا ، وجعلوا الشرع جاعلا في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة التكليفيّة كالوضعيّة.

وكيف كان ، فبعد ثبوت كون حسن الأشياء وقبحها عقليّين ذاتيّين نقول : إنّ أفعال الله تعالى كلّها ـ حتّى التكليف ونحوه ـ حسنة بالحسن العقليّ الذاتيّ أو العارضيّ بسبب الوجوه والاعتبار ، وليس فيها قبح وغبار ، كما أشار إليه المصنّف بقوله :( واستغناؤه وعلمه يدلاّن على انتفاء القبح من أفعاله تعالى مع قدرته عليه ؛ لعموم النسبة ، ولا ينافي الامتناع اللاحق ).

بيان ذلك : أنّ الله تعالى عالم بالعلم الذاتيّ بجميع الأشياء التي منها حسن الأشياء وقبحها الواقعيّان كما تقدّم في بيان إثبات الصفات الثبوتيّة ، وهو الغنيّ المطلق كما مرّ في بيان التنزّه عن الصفات السلبيّة ، والعالم بقبح القبيح المستغني عنه لا يفعله ببديهة العقل ؛ لعدم الداعي إليه ووجود الصارف عنه ، مضافا إلى أنّه لو صدر عنه تعالى القبيح لزم ترجيح المرجوح ، فتجويز صدور القبيح عنه تعالى تجويز لكونه تعالى موردا للذمّ عقلا ، وهو ممتنع ضرورة ، فلا يكون خالقا للكفر والعصيان ، وإلاّ كان التعذيب عليهما قبيحا ، والقبيح لا يصدر عنه تعالى ، فيلزم أن لا يكون واقعا ، فيكون الإخبار بإيقاعه كذبا ، وهو محال عنه تعالى.

وبالجملة ، فهو تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب ، بل جميع أفعاله حسنة

٣٩١

بالحسن العامّ ؛ لأنّه عالم بالحسن ، وقادر على إيجاد الحسن من غير صارف ، فالداعي موجود ، والمانع مفقود ، فالأثر لازم ؛ لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة.

وقال الشارح القوشجي : « قد أجمعت الأمّة إجماعا مركّبا على أنّ الله تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب ، فالأشاعرة من جهة أنّه لا قبيح منه ، ولا واجب عليه ، ولا يتصوّر منه فعل قبيح ولا ترك واجب. وأمّا المعتزلة فمن جهة أنّ ما هو قبيح يتركه ، وما يجب عليه يفعل ، لأنّ الله تعالى مستغن عن غيره ـ قبيحا كان أو حسنا ـ وعالم بحسن الأعمال وقبحها ، وقد علم بالضرورة أنّ العالم بالقبيح ، المستغني عنه لا يصدر عنه »(١) .

وفيه أوّلا : أنّ الأشاعرة يقولون بقبح المعاصي شرعا ، ومع ذلك يقولون بأنّ الله تعالى يفعلها ويخلقها ؛ ولهذا قال العلاّمة في الشرح : « ونازع الأشعريّة في ذلك وأسندوا القبائح إليه تعالى »(٢) .

وقال الشارح القديم : « أمّا الأشاعرة ، فلأنّهم لمّا أسندوا جميع الممكنات الموجودة إلى الله تعالى ، جوّزوا صدور القبيح عنه »(٣) .

وثانيا : أنّ إطلاق الإجماع المركّب على ذلك الاتّفاق المدّعى ـ لو سلّم تحقّقه ـ خلاف مصطلح الأصوليّين ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فالقائلون بعدم صدور القبيح عن الله تعالى اختلفوا في أنّه تعالى قادر عليه ، أم لا؟ فالأكثر على أنّه تعالى قادر عليه. والنظّام ـ على ما حكي(٤) عنه ـ اختار أنّه تعالى لا يقدر على خلق القبيح. واختار المصنّف مذهب

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » : ٣٣٩.

(٢) « كشف المراد » : ٣٠٥.

(٣) الشرح القديم غير متوفّر لدينا.

(٤) حكي عنه في « المحصّل » : ٤١٨ ؛ « كشف المراد » : ٣٠٦ ؛ « إرشاد الطالبين » : ١٨٨ ؛ « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٣٩ ؛ « شرح الأصول الخمسة » : ٢١٣.

٣٩٢

الأكثر ؛ فإنّه الصحيح.

واحتجّ عليه بأنّ نسبة القدرة إلى جميع الممكنات على السواء ، والقبائح منها ، فيكون قادرا عليها.

واحتجّ النظّام بأنّ فعل القبيح محال ؛ لأنّه يدلّ على الجهل ، أو الحاجة ، وكلاهما محال ، وما يؤدّي إلى المحال محال ، والمحال غير مقدور(١) .

والجواب : أنّ الامتناع الوقوعيّ من جهة القبح لاحق للإمكان الأصليّ بالنظر إلى الحكمة ، فلا ينافي القدرة الذاتيّة ؛ فإنّ المحال الوقوعيّ مقدور ذاتيّ.

وصل

هذا الاعتقاد من أصول المذهب التي عليها بناء مذهب الاثني عشريّة ، فمن أنكره فهو خارج عن المذهب ، لا الدين ، كما لا يخفى.

المقام الثالث :

أنّ أفعال الله تعالى كلّها معلّلة بالأغراض والفائدة العائدة إلى العباد في الدنيا أو الآخرة.

اعلم : أنّ العلماء المتكلّمين اختلفوا في هذه المسألة على قولين :

الأوّل : أنّه تعالى يفعل لغرض ولا يفعل شيئا لغير فائدة ، وهو مختار الإماميّة والمعتزلة(٢) .

الثاني : أنّه لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من الأغراض والعلل الغائيّة. وهو

__________________

(١) « المحصّل » : ٤١٨ ؛ « إرشاد الطالبين » : ١٨٨ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٣٩٩.

(٢) « نهج الحقّ وكشف الصدق » : ٨٩ ؛ « كشف المراد » : ٣٠٦ ؛ « مناهج اليقين » : ٢٤٦ ؛ « قواعد المرام » : ١١٠ ـ ١١١ ؛ « النافع ليوم الحشر » : ٢٩ ؛ « التعليقات » لابن سينا : ١٦ ـ ١٨ ؛ « الأسفار الأربعة » ٢ : ٢٥٩ ـ ٢٨٦.

٣٩٣

مذهب الأشاعرة(١) .

والحقّ هو الأوّل ، كما اختاره المصنّف ؛ حيث قال :( ونفي الغرض يستلزم العبث ) بمعنى أنّ الفعل الاختياريّ الصادر عن الفاعل المختار عند خلوّه عن الغرض عبث ، والعبث قبيح ، وصدور القبيح عن الله تعالى محال ، مع أنّ الفعل بلا غرض يستلزم الترجيح بلا مرجّح ، وهو محال عليه تعالى ، فيكون فعله تعالى معلّلا بالغرض وهو الداعي المحرّك إلى ذلك الفعل كالمعرفة والطاعة والاستعداد لإفاضة فيض الآخرة ، الموجبة لحصول وصف الفيّاضيّة ؛ ولهذا يقال : إنّه تعالى غاية الغايات ، وغاية كلّ مقصود ، مع أنّه الأصل في الوجود.

وقيل : الغرض هو سوق الأشياء الناقصة إلى كمالاتها التي لا تحصل إلاّ بذلك السوق ، كما أنّ الجسم لا يمكن إيصاله من مكان إلى مكان إلاّ بتحريكه وهو الغرض من تحريكه.

وفيه : نظر ؛ فإنّ الإيصال أيضا لا بدّ له من غرض.

واحتجّ الأشاعرة بأنّ الفاعل لغرض مستكمل بذلك الغرض ، والمستكمل ناقص ، والله تعالى يستحيل عليه النقصان ؛ لوجوب وجوده المقتضي لكونه تماما ، بل فوق التمام.

بيان ذلك : أنّ الغرض لا يصلح أن يكون غرضا للفاعل إلاّ عند كون وجوده أصلح له من عدمه ؛ لأنّ ما استوى وجوده وعدمه بالنظر إلى الفاعل ، أو كان وجوده مرجوحا بالقياس إليه لا يكون باعثا على الفعل وسببا لإقدامه عليه بالضرورة ، فكلّ ما يكون غرضا يجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل ، وأليق به من عدمه ، وهو معنى الكمال ، فإذن يكون الفاعل كاملا بوجوده وناقصا بدونه ، وهو محال في حقّ الواجب بالذات.

__________________

(١) « المحصّل » : ٤٨٣ ـ ٤٨٤ ؛ « الأربعين في أصول الدين » ١ : ٣٥٠ ـ ٣٥٤ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٢٠٢ ـ ٢٠٦ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ٣٠١ ـ ٣٠٦ ؛ « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٤٠.

٣٩٤

والجواب أوّلا : أنّ الأشاعرة ومن يحذو حذوهم قائلون بالقياس في الأحكام الشرعيّة ، والقياس فرع العلّة الباعثة والغرض الداعي للشارع على حكم الأصل ، المقيس عليه ، وإلاّ فلا يتصوّر التعدّي من المنطوق إلى المسكوت عنه ، فلا يتحقّق قياس ، فيلزم إمّا إنكار القياس ، أو نفي هذا الأصل المقتضي لعدم جواز كون الأفعال معلّلة.

وثانيا : ما أشار إليه المصنّف بقوله :( ولا يلزم عوده إليه تعالى ) بمعنى أنّ النقص والاستكمال إنّما يلزمان لو كان الغرض عائدا إليه تعالى. وأمّا إذا كان الغرض عائدا إلى غيره ـ وهو الخلق كما هو الحقّ ، ولهذا يقال : إنّه تعالى يخلق العالم لنفعهم(١) ـ فلا يكون مستكملا بذلك الفعل ، بل يكون مكمّلا ، ولكنّ المقصود الأصلي هو النفع الأخرويّ لا الدنيويّ ؛ لأنّه المشوب بالآلام ، أو دفع الآلام ، ولهذا لم يجعل لسيّد الأنام ، ولا لغيره من الأنبياء والأوصياء والأولياء العظام.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ المتبادر من الغرض ما كان عائدا إلى الفاعل ، فلا يكون الغرض العائد إلى المخلوق غرضا حقيقيّا ، فيكون عبارة عن المصالح والحكم التي هي عبارة عمّا يرجع إلى الغير فيكون حكيما ؛ لأنّ الحكيم من لا يفعل فعلا بلا حكمة ومصلحة ، ولا يصدر عنه العبث.

فإن قلت : نفع غيره إن كان أولى بالنسبة إليه تعالى من عدمه ، جاء الإلزام ، وإلاّ لم يصلح أن يكون غرضا ؛ لما مرّ من العلم الضروريّ بذلك.

قلت : إيصال النفع في مقام الفعل أولى من عدمه للمخلوق ، وتلك الأولويّة كافية في ترجيح الوجود على العدم ، مع أنّ الكمال يكون للفعل لا للذات ، فلا يلزم الاستكمال المحال ؛ ولهذا يحسّن فعل من فعل شيئا لنفع غيره من غير ملاحظة نفع

__________________

(١) نعم ما قيل بالفارسية :

من نكردم خلق تا سودى كنم

بلكه تا [ بر ] بندگان جودى كنم

( منهرحمه‌الله ).

راجع « مثنوي معنوى » : ٢٨١ ، الدفتر الثاني ، البيت ١٧٧٠.

٣٩٥

لنفسه أو عدمه له ، كمن نجّى من ألقي في النار ، أو خلّص المظلوم مثلا لمجرّد نفعه ، لا نفع نفسه ، بل مع عدم النفع له أصلا.

وأيضا إذا جاز الفعل بلا غرض جاز لغرض عائد إلى الغير بطريق أولى.

وقد يقال : إنّ ذات الواجب مرجّح لا الأولويّة ؛ لأنّه فيّاض مقتضى ذاته إفاضة الفيض.

نعم ، لو كان الفعل الصادر منه تعالى غير نافع للغير ، يلزم الترجيح بلا مرجّح ؛ لأنّ ذاته ليس مقتضيا للفعل مطلقا ، بل ما ينفع الغير ، فلا مرجّح لما لا ينفعه فتكون ذاته محرّكا له في الفعل.

ولهذا يقال : إنّ ذاته علّة فاعليّة وغائيّة ؛ لأنّ العلّة الغائيّة ما كان محرّكا للفاعل على الفعل ، فإطلاق الغرض على الحكم والمصالح يكون من باب التشبيه ، بمعنى أنّها لو كانت في أفعالنا ، لكانت أغراضا ولو كانت نافعة للغير ؛ لأنّ إيصالنا النفع إلى غيرنا كمال لنا ، فيكون غرضا ، ولمّا لم يمكن حصول الكمال للواجب ، لا يكون غرضا ، بل شبيها به ، فظهر من هذا حسم مادّة شبهة الأشاعرة الموجبة لهم للقول بكون أفعاله تعالى غير معلّلة بالأغراض ، لا ممّا يقال : من أنّ مجرّد إيصال النفع إلى الغير ـ من غير أن يكون أولى بالنظر إلى الفاعل ـ يصحّ أن يكون مرجّحا ؛ لأنّ الإيصال واللاإيصال إذا تساويا بالنظر إلى الفاعل ، لا يمكن صدور الإيصال منه بلا رجحان ، والأولويّة إلى الغير لا يصحّ أن تكون مرجّحة لأحد المتساويين بالنظر إلى الفاعل ، ولهذا قال الحكماء ـ على ما حكي عنهم ـ : إنّه تعالى ليس فاعلها بالقصد ؛ لاقتضائه الأولويّة بالنظر إلى الفاعل المقتضية للاستكمال ، بل فاعل بالرضا.

ولعلّ مرادهم أنّ المقصود بالذات في فعله تعالى ذاته لا ما يشتمل عليه فعله كإيصال النفع إلى الغير. وأمّا الرضا بالذات ، فلا يلزم أن يتعلّق بالأولى ، بل يجوز أن يتعلّق بأحد المتساويين ، فلا يلزم كون المرضيّ راجحا بالنظر إلى الراضي ، بل يكفي رجحانه في نفس الأمر في الصدور ، فالفاعل بالرضا من كان ذاته مقتضيا للفعل

٣٩٦

المشتمل على الحكمة والمصلحة ، كما أنّ الفاعل بالطبع ـ الذي هو مقابله ـ ما كان ذاته مقتضيا لفعل لا يشتمل على المصلحة من حيث هو مقتضاه وإن اشتمل ذلك الفعل عليها من جهة كون سببه مقتضي ذات يلزم أن يكون في فعله مصلحة وهو الواجب ، فإحراق النار ليس فيه مصلحة من جهة كون النار مقتضية له وإن كان فيه مصلحة من جهة كون طبيعة النار من مقتضيات ذات الواجب المقتضية للأفعال المحكمة.

وأمّا وجه حسن التكليف وكونه معلّلا بالغرض العائد إلى العباد ، فهو أنّ التكليف ـ لغة ـ عبارة عن الحمل على الكلفة والمشقّة ، وشرعا عبارة عن دعوة إلهيّة للعباد إلى أمور شاقّة دعوة مشتملة على الوعد بالثواب الأخرويّ الذي هو إيصال النفع على وجه التعظيم ، والوعيد بالعقاب الأخرويّ الذي هو إيصال الضرر على وجه الإهانة ، وهو على قسمين :

أحدهما : عقليّ ، كحكم العقل بوجوب الواجبات العقليّة ، وحرمة المحظورات العقليّة ؛ لأنّ حكمه دعوة إلهيّة حاملها العقل ، كما أنّ الشرع دعوة إلهيّة حاملها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا يقال : إنّ العقل شرع من الداخل ، والشرع عقل من الخارج.

وثانيهما : التكليف شرعيّ ، كحكم الشرع بالواجبات الشرعيّة والمحرّمات الشرعيّة ، ولا شبهة في كون التكليف العقليّ حسنا بالحسن العقليّ بالمعنى الأخصّ ، وهو الذي لا يحتاج العقل في إدراك جهاته إلى الكشف من الشرع ويقابله الشرعيّ الذي يحتاج العقل في إدراك جهاته إليه ، وعند التجرّد عن القيدين يحصل العقليّ بالمعنى الأعمّ.

وأمّا التكليف الشرعيّ ، فاختلف فيه القائلون بالحسن والقبح العقليّين ـ المتّفقون في كونه حسنا عقليّا بالمعنى الأعمّ على ما حكي عنهم ـ فقال بعضهم : إنّه حسن عقليّ بالمعنى الأخصّ أيضا ، وأنكره آخرون(١) .

__________________

(١) « كشف المراد » : ٣١٩ ـ ٣٢١ ؛ « إرشاد الطالبين » : ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٣٩٧

والحقّ أنّ العقل يدرك حسن التكاليف الشرعيّة بالنظر ، لا بالبديهة ، والدليل على حسنها أنّ النفس الناطقة ، لها قوّة عقليّة معدّة لتحصيل المعرفة واستحقاق القرب إلى ربّ العالمين ، وقوّة شهويّة يحفظ بها أمور نظام البدن التي يكون الغرض الأصليّ منها حفظ وجود الشخص والنوع. وأمّا سائر القوى ، فبعضها من أعوان الأولى ، وبعضها من أعوان الثانية ، وقد يصير الثانية أيضا بنوع من التدبير من أعوان الأولى من غير أن يحصل الضرر فيما هو الغرض منها ، وأقلّ مرتبة الإعانة أن لا تعارضها ولا تمنعها عمّا هو الغرض الأصليّ منها ، وقد يعكس الأمر ، فيبطل ما هو الغرض الأصليّ من إعطاء القوّة العقليّة ، بل ما هو الغرض من خلق الإنسان وإعطاء جميع القوى وهو استحقاق القرب إلى جوار ربّ العالمين ، فلا بدّ من التدبير المذكور ، وكيفيّة ضبط القوّة الشهويّة عن الميل إلى طرفي الإفراط والتفريط المؤدّي أوّلهما إلى فوات ما هو الغرض الأصليّ من العقليّة ، وثانيهما إلى فوت ما هو الغرض الأصليّ منها ، بل ما هو الغرض الأوّلي أيضا.

وذلك الضبط لا يمكن على وجه الكمال لأحد إلاّ بتعريف إلهي بالأمر والنهي اللذين يعبّر عنهما بالتكليف الشرعيّ ، فصدور التكليف عن الواجب تعالى حسن عقلا ؛ لاشتماله على فائدة عظيمة لا تحصل بدونه.

ويشترط فيه تقدّمه على زمان الفعل ليتهيّأ المكلّف له ، وإمكان ذلك الفعل ؛ لقبح التكليف بالمحال ، وعلم المكلّف بحسن الأفعال وقبحها ؛ لئلاّ يأمر بقبيح ، ولا ينهى عن حسن ، ويجزي على قدره ، ولا ينقص في الثواب ، ولا يزيد في العقاب ، وقدرة المكلّف على الفعل ، وإمكان تحصيل العلم بكيفيّته ؛ لقبح تكليف العاجز عن الفعل ، أو عن العلم بكيفيّته ، فلا بدّ من كون المكلّف عالما بقدرة المكلّف على الفعل وعلى تحصيل العلم بكيفيّته ؛ لئلاّ يصدر منه التكليف القبيح ، هذا كلّه مضافا إلى أنّ ما ذكر اجتهاد في مقابل النصّ من الكتاب والسّنّة الإسكاتيّة والسكوتيّة ،

٣٩٨

فقد قال الله تعالى :( ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (١) وقال الله تعالى :( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (٢) وقال تعالى :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (٣) وقال تعالى :( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ) (٤) وقال تعالى :( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (٥) ( ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (٦) .

وقال تعالى :( خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (٧) .

وعن مولانا الحسين بن عليّعليهما‌السلام أنّه قال : « أيّها الناس! إنّ الله ـ جلّ ذكره ـ ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه » فقيل له : ما معرفة الله عزّ وجلّ؟ فقال : « معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم إطاعته »(٨) .

يعني أنّ معرفة الله لا تتمّ إلاّ بمعرفة إمام الزمان ، أو لا تنفع إلاّ بها ، ولا تحصل إلاّ بها ؛ لأنّه السبيل إلى الله تعالى.

وعن الصادقعليه‌السلام أنّه قال : « إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ لم يخلق خلقه عبثا ولم يتركهم سدى ، بل خلقهم لإظهار قدرته ، وليكلّفهم طاعته ، فيستوجبوا بذلك رضوانه ، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ، ولا ليدفع بهم مضرّة ، بل خلقهم لنفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد »(٩) .

__________________

(١) الذاريات (٥١) : ٥٦.

(٢) البقرة (٢) : ٢٩.

(٣) الأنبياء (٢١) : ١٦.

(٤) المؤمنون (٢٣) : ١١٥.

(٥) الأنبياء (٢١) : ١٦.

(٦) ص (٣٨) : ٢٨.

(٧) الجاثية (٤٥) : ٣٢.

(٨) « علل الشرائع » ١ : ٩ ، الباب ٩ ، ح ١.

(٩) نفس المصدر ، ح ٢.

٣٩٩

وعن الصادقعليه‌السلام أنّه قال : « لم يجعل شيئا إلاّ لشيء »(١) .

وفي الحديث القدسيّ : « كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق لكي أعرف »(٢) .

وفي « البحار » في باب التوحيد عن المفضّل عن مولانا الصادقعليه‌السلام قالعليه‌السلام :

« نبتدئ يا مفضّل بذكر خلق الإنسان ، فاعتبر به فأوّل ذلك ما يدبّر به الجنين في الرحم وهو محجوب في ظلمات ثلاث : البطن وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ، ولا دفع أذى ، ولا استجلاب منفعة ، ولا دفع مضرّة ؛ فإنّه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات فلا يزال ذلك غذاءه حتّى إذا كمل خلقه واستحكم بدنه وقوي أديمه على مباشرة الهواء ، وبصره على ملاقاة الضياء ، هاج الطلق بأمّه فأزعجه أشدّ إزعاج وأعنفه حتّى يولد ، وإذا ولد صرف ذلك الدم ـ الذي كان يغذوه من دم أمّه ـ إلى ثدييها ، فانقلب الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء وهو أشدّ موافقة للمولود من الدم ، فيوافيه في وقت حاجته إليه ، فحين يولد قد تلمّظ وحرّك شفتيه طلبا للرضاع ، فهو يجد ثديي أمّه كالإدواتين المعلّقتين لحاجته ، فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن ، رقيق الأمعاء ، ليّن الأعضاء حتّى إذا تحرّك واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتدّ ويقوي بدنه ، طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس ليمضغ به الطعام فيلين عليه ويسهل له إساغته ، فلا يزال كذلك حتّى يدرك ، فإذا أدرك وكان ذكرا طلع الشعر في وجهه ، فكان ذلك علامة الذكر وعزّ الرجل الذي يخرج به من حدّ الصبا وشبه النساء ، وإن كانت أنثى يبقى وجهها نقيّا من الشعر لتبقى لها البهجة والنضارة التي تحرّك الرجال ؛ لما فيه من دوام النسل وبقائه » إلى أن قال المفضّل : يا مولاي فقد رأيت من يبقى على حالته

__________________

(١) في المصدر : « لم يجعل شيء ».

(٢) « التجلّيات الإلهيّة » : ١٠٠ ؛ « فصوص الحكم » : ٢٠٣ ؛ « جامع الأسرار » : ١٠٢ ؛ « مصباح الأنس » : ١٦٤ ؛ « الأسفار الأربعة » ٢ : ٢٨٥.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556