البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة الجزء ٣

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة8%

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
ISBN: 964-371-766-6
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47131 / تحميل: 7017
الحجم الحجم الحجم
البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة الجزء ٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣٧١-٧٦٦-٦
العربية

١
٢

٣
٤

دليل الجزء الثالث

المقصد الرابع : في النبوّة ٩

الفصل الأوّل : في وجوب البعثة ١٣

الفصل الثاني : في وجوب العصمة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ١٨

الفصل الثالث : في المعجزة ٢٦

الفصل الرابع : في إثبات نبوّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ٣٥

الفصل الخامس : في أفضليّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ٦٤

تذنيبات :

الأوّل : فرق المسلمين ٧٠

الثاني : في دفع الشكوك عن الشريعة ٨٠

الرابع : في أسرار النبيّ وكراماتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ١٧٤

الخامس : في معجزات النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ١٨٠

المقصد الخامس : في الإمامة ٢٠٥

الفصل الأوّل : في وجوب نصب الإمام ٢١٥

الفصل الثاني : في وجوب العصمة للإمام ٢٢٤

الفصل الثالث : في الأعلميّة والأفضليّة ٢٣٢

٥

الفصل الرابع : في المنصوبيّة والمنصوصيّة ٢٣٤

الفصل الخامس : في أنّ الأئمّة اثنا عشر ٢٣٨

المطلب الأوّل : في إثبات إمامة علي بن أبي طالبعليه‌السلام ٢٣٨

فصل : في إثبات إمامتهعليه‌السلام من طريق النصّ ٢٤٠

فصل : في أعلميّته وأفضليّتهعليه‌السلام ٢٧٩

مطاعن الخلفاء الثلاث ٣٢٧

خصائص عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ٣٤١

ذكر بعض الأدلّة العقليّة والنقليّة لإثبات إمامتهعليه‌السلام ٣٥١

فصل : في اثبات إمامتهعليه‌السلام بطريق المعجزة ٣٦٢

المطلب الثاني : في بيان إمامة سائر الأئمّة الاثني عشر ٤٢٨

المطلب الثالث : في وجود صاحب الزمان وغيبته ٤٤١

في كيفيّة الرجعة ٤٤٥

فهرس الموضوعات ٤٥١

٦

المقصد الرابع

في الأصل الثالث

من أصول الدين وهو في ( النبوة )

٧
٨

( المقصد الرابع )

في الأصل الثالث من أصول الدين

وهو في ( النبوّة )

وهي كالأبوّة في كون الواو أصليّة غير منقلبة من الهمزة ، من « النّبوّة » و « النّباوة » بمعنى ما ارتفع من الأرض ، كما في الصحاح(١) ، فيكون نقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإنسان المبعوث من الحقّ إلى الخلق لشرافته على سائر الخلق وعلوّ شأنه وسطوح برهانه ، فيكون فعيلا بمعنى مفعول.

وكالمروّة في كون الواو منقلبة من الهمزة ، من « النبأ » بمعنى الخبر ، فيكون النقل لإنبائه عن الله تعالى ، فيكون فعيلا بمعنى فاعل.

وقد يجعل مأخوذا من « النبيّ » بمعنى الطريق ؛ لكونه وسيلة إلى الحقّ تعالى.

وكيف كان ، فلها معنى تصوّري ومعنى تصديقي.

والمعنى التصوّري عبارة عن : « كون الإنسان مبعوثا من الحقّ إلى الخلق » ، كما في شرح القوشجي(٢) ، أو كون البشر المعصوم عن الذنوب والمنزّه عن العيوب ، المقترن بالمعجزة المصدّقة مبعوثا إلى المكلّفين لبيان أحكام الدين ، أو مخبرا عن الله بنحو الوحي عن أحكام الدين المتعلّقة بالعقائد ، أو أفعال المكلّفين مع الرئاسة

__________________

(١) « الصحاح » ٦ : ٢٥٠٠ « ن ب و».

(٢) « شرح تجريد العقائد ٣٥٧.

٩

الإلهيّة عليهم في أمر الدنيا والدين ، هذا إن جعل دالاّ على حال النبيّ.

وإن جعل مبيّنا لفعل الله تعالى ، يكون بمعنى بعث الله تعالى البشر المزبور ، أو جعله تعالى مبعوثا إلى المكلّفين لبيان أحكام الدين.

وبالجملة : فهي رئاسة إلهيّة بالأصالة للبشر المعصوم عندنا على المكلّفين كلاّ أو بعضا في أمر الدنيا والدين.

والمعنى التصديقي عبارة عمّا يجب تصديقه بالجنان وإقراره باللسان ، وهو أنّ نبيّنا محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد المناف المنتهي إلى عدنان ، رسول الله المبعوث إلى الإنس والجانّ مع المعجزات التي منها المعراج الجسماني ، وشقّ القمر ، والقرآن ، على سبيل اللزوم العقلي ، كسائر الأنبياء في سائر الأديان.

وهو بشر معصوم ـ كغيره من الأنبياء ـ عن العصيان والنسيان ، ومطهّر عن الذنوب والعيوب التي توجب تنفّر الإنسان ، وهو أفضل الأنبياء والمرسلين ، وخير الخلق أجمعين ، وأنّه خاتم النبيّين ، ودينه باق إلى يوم الدين ، وله إذن شفاعة العاصين ، بمعنى أنّ الله تعالى لمّا كان غنيّا مطلقا ، وخلق بمقتضى حكمته خلقا ، أحبّ أن بوصلهم بمقتضى الكرم إلى النعم ؛ لئلاّ يلزم العبث في إيجاد العالم.

ولمّا كان حكيما وجب أن يكون ما يتفضّل به جاريا على وفق الحكم ، فكلّف بما يحصل به الاستعداد لإيصال النعم ودفع النقم.

ولمّا لم يكن للكلّ علم بما فيه صلاحهم ، ولا قابليّة للتلقّي من الله بلا واسطة فرد من بني آدم ، وجب عقلا بمقتضى اللطف أن يختار من خلقه من كان قابلا للتلقّي من الله الخالق الحقّ ، والإلقاء إلى الخلق ؛ إتماما للغرض الأهمّ. ولا يتمّ ذلك إلاّ بالعصمة المعلومة بالمعجزة المصدّقة ، والتنزّه عمّا يوجب النفرة ؛ لئلاّ يكون للناس على الله حجّة ، فيجب بعث البشر المعصوم المخبر عن الله بنحو الوحي من غير اجتهاد ، المقترن بالمعجزة المصدّقة. فكلّ من ادّعى النبوّة الممكنة مع المعجزة المصدّقة فهو نبيّ بلا شبهة.

١٠

وقد تظافر وتواتر أنّه ظهر في مكّة محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وادّعى النبوّة ، وأظهر الله على يده المعجزة المصدّقة كالقرآن الذي عجز عن الإتيان بمثله جميع الأمّة ، فهو نبيّ بلا ريبة.

وحيث ادّعى ختم النبوّة ، وأخبر الله تعالى به أيضا في الآية الشريفة(١) فهو خاتم النبيّين ، ودينه باق إلى يوم الدين.

فالكلام في هذا الأصل ـ الذي هو من أعظم الأصول ـ يقع في خمسة فصول :

الأوّل : أنّ بعثة النبيّ ـ المخبر عن الله بنحو الوحي من غير اجتهاد ـ حسن بالحسن التامّ ، فيكون واجبا عقلا مع أنّه واقع نقلا. وهذا من أصول المذهب من جهة ، ومن أصول الدين من أخرى ، فيكون ردّا على الأشاعرة وأمثالهم(٢) .

الثاني : أنّ النبيّ يجب أن يكون معصوما عن العصيان والنسيان ، بل عن جميع ما يوجب تنفّر الإنسان. وهو أيضا من أصول المذهب ، ردّا على العامّة(٣) .

الثالث : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يجب أن يكون مع المعجزة المصدّقة ، ردّا على من أنكر الوجوب على الله تعالى.

الرابع : أنّ نبيّنا محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رسول الله المبعوث إلى الثقلين : الإنس والجانّ مع المعجزات التي منها المعراج الجسماني ، وشقّ القمر ، والقرآن. وهو من أصول الدين ، ردّا على كثير من الكافرين كاليهود والنصارى ، وأمثالهم من المعاندين الجاحدين.

وفي حكمهم من قال في دفع لزوم الخرق والالتئام في الأفلاك عند عروج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الصاعد كلّما صعد ألقى منه عند كلّ رتبة منها ، مثلا إذا أراد تجاوز كرة الهواء ألقى ما فيه من الهواء فيها ، وإذا أراد تجاوز كرة النار ألقى ما فيه منها فيها ، وإذا

__________________

(١) الأحزاب (٣٣) : ٤٠.

(٢) راجع « كشف المراد » : ٣٤٦.

(٣) المصدر السابق.

١١

رجع أخذ ما له من كرة النار ، فإذا وصل الهواء أخذ ما له من الهواء ؛ بناء منه على أنّ العروج إنّما هو للجسم النوراني الهورقليائي دون العناصر المعروفة ؛ أو أنّ جسده الشريف علّة لوجود جميع الأجسام فكان محيطا بجميعها ، فلا يكون منها جزء إلاّ وهو محيط به ، فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله في عروجه محيطا بجميع الأجسام والأرواح والنفوس والعقول ؛ فإنّه أيضا للحقّ من الجاحدين.

وأنّ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم النبيّين ودينه باق إلى يوم الدين ، بمعنى أنّ الله تعالى بعث قبله الأنبياء والمرسلين وجعل نبيّنا خاتم النبيّين ؛ كما نطق به القرآن المبين(١) ، وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « خلق الله عزّ وجلّ مائة ألف نبيّ وأربعة وعشرين ألف نبيّ أنا أكرمهم على الله تعالى »(٢) . وهو أيضا من أصول الدين ، ردّا على الجاحدين.

الخامس : أنّ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل المخلوقين ، وله لهذا إذن شفاعة العاصين في يوم الدين. وهذا أيضا من أصول المذهب ظاهرا. خلافا لبعض القاصرين ، كما حكي عن بعض الأشاعرة وجمهور المعتزلة حيث قالوا بأفضليّة الملائكة للوجوه الركيكة(٣) .

وحكي عن الوعيديّة من لزوم الوعيد وعدم العفو والشفاعة.

وبالجملة ، فنقول :

__________________

(١) الأحزاب (٣٣) : ٤٠.

(٢) « الخصال » ٢ : ٦٤١ ، ح ١٨ و ١٩.

(٣) انظر « تلخيص المحصّل » : ٣٧٤ ـ ٣٧٦.

١٢

الفصل الأوّل :

في أنّ بعث الله تعالى النبيّ ـ المخبر عن الله تعالى بنحو

الوحي من غير اجتهاد ـ بالحسن التامّ ، فيكون واجبا عقلا مع أنّه واقع نقلا

بيان ذلك عقلا أنّ للبعثة فوائد :

الأولى : تقوية العقل في الأحكام التي يستقلّ بإدراكها ، والدلالة على ما لا يستقلّ فيه.

الثانية : تنبيه العقلاء على لزوم معرفة الله التي هي الأساس الموجب للحياة الأبديّة والسعادة الأخرويّة ؛ لانغمار العقول باللذائذ الجسمانيّة والشهوات الحيوانيّة والعلائق البدنيّة التي يميل إليها الطبع ، فالناس كلّهم لا بدّ لهم من الإيقاظ من نوم الغفلة والجهل بالدعوة النبويّة ليحصّلوا المعارف اليقينيّة.

الثالثة : إرشاد الناس إلى المنافع النفسانيّة والجسمانيّة ؛ إذ معرفة المنافع البدنيّة والمضارّ البدنيّة بالتجربة تتوقّف على مرور الدهور وهلاك كثير من الناس ، فلا بدّ ممّن يعرفها من الله ؛ ولهذا خلق الله قبل الكلّ نبيّا وهو آدمعليه‌السلام .

الرابعة : حفظ نوع الإنسان ؛ لأنّه مدني بالطبع ، بمعنى أنّه بالطبع محتاج إلى معاونة بعضهم بعضا في الغذاء واللباس والمسكن والآلات لدفع العدوّ ونحوه ، ولا يمكن لأحد من الأفراد الإتيان بجميع ما يحتاج بنفسه كما لا يخفى ، بل لا بدّ من اجتماع جماعة في موضع يمكن إعانة بعضهم بعضا لينتظم أمر معاشهم ويترتّب

١٣

عليه أمر معادهم ، ويسمّى ذلك الموضع مدينة.

وكون الإنسان مدنيّا عبارة عن احتياجه إلى الكون في المدينة لينتظم أمر معاشه ومعاده ، ولمّا كان اجتماعهم ـ من جهة كونهم ذوي غضب وشهوة ـ موجبا لوقوع الفتنة والظلم ، والهرج والمرج الموجبة لاختلال نظام أمر المعاش والمعاد ، وبطلان فائدة الاجتماع والتمدّن ، فلا بدّ من العدل الذي هو عبارة عن تسوية الحقوق ، وإحقاق الحقّ منها جزئيّات العدل في الحقوق الجزئيّة ، فلا بدّ من واضع وجاعل يقرّرها بحيث لا يمكن لأحد التخلّف عنها إلاّ وقد لزمه الهلاك ، فلا بدّ أن يكون ذا قدرة ؛ ليطيعه الناس طوعا وكرها ، ويكون أوامره ونواهيه نافذة في الناس ، ولا يمكن ذلك إلاّ بتأييد من الله بالآيات والمعجزات ؛ لئلاّ يكون لغيره له منازعة في استحقاق هذه الرئاسة العامّة. والمراد من النبيّ ليس إلاّ مثل هذا الفرد.

الخامسة : اشتمالها على اللطف ؛ إذ الإخبار بالثواب على الواجبات والعقاب على المنهيّات ، مقرّب إلى الطاعات ومبعّد عن المعاصي ، وحيث كان اللطف واجبا على الله كانت البعثة واجبة عليه تعالى.

والحاصل : أنّ بعثة الأنبياء لطف متمّم للغرض من جهة اقتضائها تنبيه العقول وتقويتها في العقائد ، وإرشاد الناس إلى المنافع الجسمانيّة والروحانيّة المعاشيّة والمعاديّة ، ومضارّهم كذلك. وحفظ نوع الإنسان الذي هو مدني بالطبع محتاج إلى الاجتماع في المكان والكون في المدينة ؛ لانتظام أمر المعاش والمعاد الموجب لوقوع الفتنة من جهة وقوع الغضب والشهوة المحتاج إلى مقنّن القوانين الرافعة لها ولو بالقهر والغلبة المعلوم كونه من جانب الله ، وصاحب العصمة المتمّمة للغرض بالمعجزة نقلا بما ورد في الكتاب والسنّة ، فإنّه قد قال تعالى :( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (١) . وقال تعالى :( وَما أَرْسَلْنا

__________________

(١) النساء (٤) : ١٦٥.

١٤

مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (١) . وقال تعالى :( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) (٢) .

وقال تعالى :( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) (٣) .

وروي عن هشام بن الحكم ، قال : سأل الزنديق الذي أتى أبا عبد اللهعليه‌السلام فقال : فمن أين أثبت أنبياء ورسلا؟

قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقا صانعا متعاليا عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما ، لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا يلامسوه ، ولا يباشرهم ولا يباشروه ، ولا يحاجّهم ولا يحاجّوه ، فثبت أنّ له سفراء في خلقه يعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ، يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، فثبت عند ذلك أنّ له معبّرين ، وهم الأنبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيّدين من عند الله الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد ، من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، فلا تخلو أرض الله تعالى من حجّة يكون معه علم يدلّ على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته »(٤) .

ومثله الآخران مسندا ومرسلا(٥) .

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّفرحمه‌الله مع بيان الشارح القوشجي بقوله :( البعثة

__________________

(١) إبراهيم (١٤) : ٤.

(٢) إبراهيم (١٤) : ١٠.

(٣) الحديد (٥٧) : ٢٥.

(٤) « التوحيد » : ٢٤٩ ، الباب ٣٦ ، ح ١.

(٥) المصدر السابق ، ح ٢ و ٣.

١٥

حسنة ؛ لاشتمالها على فوائد : كمعاضدة النقل (١) فيما يدلّ عليه العقل ) أي يستقلّ بمعرفته ، مثل وجود البارئ وعلمه وقدرته.

( واستفادة الحكم ) من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ( فيما لا يدلّ ) أي لا يستقلّ به العقل ، مثل الكلام والرؤية والمعاد الجسماني ؛ لئلاّ يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل.

( وإزالة الخوف ) الحاصل عند الإتيان بالمحسّنات ؛ لكونه تصرّفا في ملك الله بغير إذنه ، وعند تركها ؛ لكونه تركا للطاعة.( و ) استفادة( الحسن والقبح ) في الأفعال التي تحسن تارة وتقبح أخرى من غير إهداء العقل إلى معرفتها.( و ) استفادة( النافع والضارّ ) أي معرفة منافع الأغذية والأدوية ومضارّهما التي لا تفي بها التجربة إلاّ بعد أدوار وأطوار مع ما فيها من الأخطار.( وحفظ النوع الإنساني ) فإنّ الإنسان مدنيّ بالطبع يحتاج إلى التعاون ، فلا بدّ من شرع يفرضه شارع يكون مطاعا ، كما ذكرنا في بيان حسن التكليف على طريقة حكماء الإسلام.( وتكميل أشخاصه ) أي تكميل النفوس البشريّة( بحسب استعداداتهم المختلفة ) في العلميّات والعمليّات.

( ويعلّمهم الصنائع الخفيّة ) من الحاجات والضروريّات( والأخلاق ) الفاضلة الراجعة إلى الأشخاص( والسياسات ) الكاملة العائدة إلى الجماعات من المنازل والمدن( والإخبار بالعقاب والثواب ) ترغيبا في الحسنات ، وتحذيرا عن السيّئات ، إلى غير ذلك.( فيحصل اللطف للمكلّف ) أي بعثة الأنبياء لطف من الله تعالى بالنسبة( إلى عباده ).

( وشبهة البراهمة ) وهي أنّ البعثة إمّا لأجل ما يوافق العقل فلا حاجة فيه إليهم ، أو لأجل ما يخالفه ، وما يخالف العقل غير مقبول ، فلا فائدة في بعثتهم ؛( باطلة ؛ لما تقدّم ) من أنّ ما يوافق العقل قسمان : أحدهما ما استقلّ العقل بإدراكه. والثاني ما لا يستقلّ بإدراكه. والحاجة إليهم في القسم الثاني ، بل في القسم الأوّل أيضا

__________________

(١) في الأصل : « العقل » وما أثبتناه من المصدر.

١٦

ليتعاضد العقل بالنقل.

( وهي واجبة لاشتمالها على اللطف في التكاليف العقليّة ) فإنّ الإنسان إذا كان واقفا على التكاليف بحسب الشرع كان أقرب من فعل الواجبات العقليّة وترك المنهيّات العقليّة.

أقول : لا يخفى ما فيه من البعد. فالأقرب أن يحال بما بيّنته آنفا من اشتمالها على فوائد »(١) .

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٥٧ ـ ٣٥٨.

١٧

الفصل الثاني :

في أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله يجب أن يكون معصوما عن

العصيان والنسيان ، بل عن جميع ما يوجب تنفّر الإنسان

اعلم أنّ العصمة ملكة إلهيّة موهوبيّة بكمال الفطانة ، لا كسبيّة ولا ذاتيّة ، مانعة عن حصول الذنوب وصدور القبائح والعصيان في حالتي العمد والنسيان في مدّة عمر بعض أفراد الإنسان ، على وجه الاختيار لا على وجه الإكراه والإجبار ؛ كما هو ظاهر قوله :( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي ) (١) وظاهر إطلاق لفظ « المعصوم » ، مضافا إلى أنّ الذاتيّة تقتضي نفي المدح والفضيلة مع أنّه لا إكراه في الدين.

وبعبارة أخرى : هي حالة نفسانيّة ـ غريزة ـ يمتنع بها صدور داعي الذنوب امتناعا وقوعيّا ، لا عقليّا وذاتيّا ، فيمتنع صدور الذنوب مع القدرة عليها.

وبالقيد الأوّل تمتاز عن العدالة ؛ إذ لا يعتبر فيها كون الملكة موجبة لامتناع صدور الذنوب. ويمكن الامتياز من جهة أخرى وهي إمكان صدور الذنوب مع العدالة ولكن مع التعسّر سيّما الصغيرة ، فيكون المنع عن صدور الذنوب فيها أغلبيّا لا كلّيّا. بخلاف العصمة ؛ فإنّ صدورها معها ممتنع وإن كان القدرة عليها متحقّقة ؛ إذ الامتناع بسبب عدم الداعي ، أو وجود المانع لا ينافي القدرة ، كما أنّ الوجوب بسبب

__________________

(١) يوسف (١٢) : ٥٣.

١٨

وجود الداعي لا ينافيها.

وظهر من القيد الأخير عدم امتناع صدور العصيان على وجه الإجبار ؛ إذ لا إكراه في الدين.

والأنسب أن يفسّر العصمة بحالة إلهيّة مانعة عن صدور مطلق القبيح والعصيان عن العمد والنسيان ، ونحوهما ممّا يعرض الإنسان مدّة العمر ، لا على وجه الإكراه.

وأمّا عصمة خاتم الأنبياء وأوصيائه فهي مانعة عن صدور ترك الأولى مطلقا وما يوجب النفرة والنقص ، وعدم إتمام الحجّة ، والشبهة في إتمام الحجّة أيضا ، كما هو مقتضى الوصول إلى مرتبة حقّ اليقين المشار إليه بقولهعليه‌السلام : « لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا »(١) ، ومقتضى الخشية فـ( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) (٢) .

وبالجملة : فالعصمة لطف خصّصه الله تعالى بجمع يتوقّف حصول الغرض من وجودهم عليه وهم الأنبياء والأوصياء ، والغرض من وجودهم تبليغ أحكام الله إلى المكلّفين ، والغرض من التبليغ حصول العلم اليقيني بالأحكام ليسهل الغرض من خلق الإنسان وهو إيصال النعيم الأبدي الموقوف على القابليّة الموقوفة على العمل على وفق الحسن والقبح النفس الأمريّين بارتكاب الأوّل والاجتناب عن الثاني ، ولا يحصل ذلك إلاّ بالعلم بهما ، وهو لا يحصل إلاّ ببيان من الله بواسطة ، أو بدونها لنقصان عقولنا ، والأخير غير ممكن في الكلّ لنقص القابل ، فلا بدّ من الواسطة التي يحصل من بيانها العلم ، ولا يحصل ذلك إلاّ بالعصمة المانعة عن صدور الكذب ، بل السهو والنسيان ، فتجب عصمة الأنبياء من وجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّها لطف للأنبياء في التبليغ الذي هو لطف مخصوص بهم ؛ إذ اللطف ما يقرّب المكلّف إلى أداء التكليف ، وهي كذلك بالنسبة إليهم.

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٤٠ : ١٥٣ ، ح ٥٤.

(٢) فاطر (٣٥) : ٢٨.

١٩

والثاني : أنّها لطف للمكلّفين في تصديق الأنبياء الذي هو تكليف بالنسبة إليهم ؛ لما ذكر.

الثالث : أنّها لطف لهم في سائر التكاليف المعدّة لإيصال النعيم الأبدي ، فثبت أنّ عدمها نقض لغرض الله وهو قبيح ، فوجودها واجب.

مضافا إلى أنّ اختيار غير المعصوم ـ مع إمكان بعث المعصوم وعدم المانع عنه ـ ترجيح للمرجوح ، وهو قبيح لا يصدر عن الله ، فبعث المعصوم واجب ، فذانك برهانان من ربّك من جهة العقل ، ويطابقهما النقل ، كقوله تعالى :( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١) . وقوله تعالى :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢) . الدالّ على حصر إرادته التي لا تتغيّر في إذهاب الرجس الممكن بحسب البشريّة ، ووجود قوّتي الغضبيّة والشهويّة ، وتطهيرهم عنه بالكلّيّة ، ونحو ذلك على ما يدلّ على أنّ بعث المعصومعليه‌السلام واجب.

وطريق العلم بها لنا أن يعلم أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى بالمعجزة كما سيأتي ، ويحكم بها من جهة هذا العلم من قبيل البرهان الإنّي ، أو يخبر المخبر الصادق المعصوم بعصمة شخص آخر كإخبار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعصمة أمير المؤمنينعليه‌السلام أو بإمامته الموقوفة عليها ، وهكذا.

وقد نقل الخلاف في أنّ عصمة الأنبياء يجب أن تكون في الكذب فقط ، أو في غيره أيضا ، وعلى الأوّل هل يجب أن يكون في الكذب في التبليغ فقط ، أو في غيره أيضا؟ وعلى الثاني هل يجب أن تكون بالنسبة إلى الكبيرة فقط ، أو إلى الصغيرة أيضا؟ وعلى الثاني هل يجب أن تكون بالنسبة إلى الخسيسة فقط ، أو بالنسبة إلى غيرها أيضا؟ وعلى التقادير هل يجب أن تكون بالنسبة إلى حال العمد فقط ، أو يجب أن تكون بالنسبة إلى حال السهو أيضا؟ وعلى أيّ تقدير هل يجب أن تكون

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٢٤.

(٢) الأحزاب (٣٣) : ٣٣.

٢٠

بالنسبة إلى ما بعد البعثة فقط ، أو يجب أن تكون بالنسبة إلى ما قبلها أيضا؟(١)

والحقّ وجوب عصمتهم مطلقا من جهة الكذب مطلقا ، وغيره صغيرة وكبيرة مطلقا ، عمدا وسهوا ، بعد البعثة وقبلها.

أمّا عن الكذب في التبليغ فلمنافاته له. وأمّا عنه في غيره وعن غيره مطلقا فلوجوب الاتّباع المنافي لصدور الذنب عنه مطلقا ، أمّا بعد البعثة فظاهر ، وأمّا قبلها فلحصول النفرة المانعة عن الاتّباع ولو بعد البعثة ، ولصيرورته محلّ المناقشة والمشاجرة ، والمقصود أن يكون بعثهم بحيث لا يكون للناس على الله حجّة.

وهذا الوجه عامّ يقتضي امتناع صدور جميع المعاصي عنه في أيّ حال كان عمدا وسهوا ، وبعد البعثة وقبلها ، بل يقتضي لزوم تنزّههمعليهم‌السلام عن جميع العيوب الجسمانيّة ، والأخلاق الذميمة النفسانيّة ، والأمراض المزمنة ، وخساسة الذات ودناءتها وكفر الآباء والأمّهات ، ورذالة القبيلة ، وغيرها ممّا يوجب تنفّر الطبائع المانع عن الاتّباع والإرادة ، بل يجب اتّصافهمعليهم‌السلام بجميع صفات الكمال والأخلاق الحسنة ، والأقوال الممدوحة وكرامة الآباء وشرافة القبيلة ، ونحوها ممّا يوجب رغبة الناس إليهم وانقيادهم لهم ليحصل الغرض ، ويتحقّق اللطف الواجب على الله تعالى كما لا يخفى.

والحاصل : أنّه يدلّ على وجوب عصمة الأنبياءأوّلا العقل ؛ لأنّ بعث البشر المعصوم المرقوم لطف ؛ لعدم ارتباط الجميع بالملك ـ لو لم ندّع عدم الإمكان ـ إلاّ فيمن شذّ وندر ، فلا بدّ من بعثته ـ إتماما للحجّة ـ للغرض والحجّة ؛ مضافا إلى أنّ غيره مرجوح.

وثانيا : النقل كما قال تعالى :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ) (٢) .

__________________

(١) انظر تفصيل هذا الخلاف في « كشف المراد » : ٣٤٩ ، المسألة الثالثة في وجوب العصمة.

(٢) يوسف (١٢) : ١٠٩.

٢١

وقال تعالى :( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ) (١) .

وقال تعالى :( قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ) (٢) .

وقال تعالى :( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٣) وقال :( إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ) (٤) . الآية ـ إلى أن قال : ـ( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) (٥) .

وقال تعالى بعد ذكر من الأنبياء :( وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ * وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٦) .

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف مع بيان شارح القوشجي بقوله : «( وتجب في النبيّ العصمة ليحصل الوثوق بأقواله وأفعاله فيحصل الغرض من البعثة ) وهو متابعة المبعوث إليهم في أوامره ونواهيه( ولوجوب متابعته وضدّها ) يعني لو صدر عنه الذنب ، لزم اجتماع وجوب الضدّين وهما متابعته ومخالفته.

أمّا الأوّل : فللإجماع المنعقد على وجوب متابعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولقوله تعالى :( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) (٧) .

وأمّا الثاني : فلأنّ متابعة المذنب حرام.( ولوجوب الإنكار عليه ) يعني لو صدر عنه الذنب ، لوجب منعه وزجره والإنكار عليه ؛ لعموم أدلّة الأمر بالمعروف والنهي

__________________

(١) الشورى (٤٢) : ٥١.

(٢) إبراهيم (١٤) : ١١.

(٣) البقرة (٢) : ١٢٤.

(٤) آل عمران (٣) : ٣٣ ـ ٣٤.

(٥) الأنعام (٦) : ٩٠.

(٦) الأنعام (٦) : ٨٦ ـ ٨٧.

(٧) آل عمران (٣) : ٣١.

٢٢

عن المنكر ، لكنّه حرام ؛ لاستلزامه الإيذاء المحرّم بالإجماع ؛ ولقوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) (١) .

ولزم أيضا أمورا أخر كلّها منتفية :

منها : أن يكون شهادته مردودة ؛ إذ لا شهادة للفاسق بالإجماع ، ولقوله تعالى :( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (٢) واللازم باطل بالإجماع ؛ ولأنّ من لا تقبل شهادته في القليل الزائل بسرعة من متاع الدنيا كيف تسمع شهادته في الدين القيّم؟!

ومنها : استحقاقه العذاب واللعن واللوم ؛ لدخوله تحت قوله تعالى :( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ ) (٣) ، وقوله تعالى :( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (٤) ؛ وقوله :( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (٥) ؛ وقوله :( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) (٦) .

لكن ذلك منتف بالإجماع ، ولكونه من أعظم المنفّرات.

ومنها : عدم نيله عهد النبوّة ؛ لقوله تعالى :( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٧) ؛ فإنّ المراد به النبوّة أو الإمامة التي دونها.

ومنها : كونه غير مخلص ؛ لأنّ المذنب قد أغواه الشيطان والمخلص ليس كذلك ؛ لقوله تعالى حكاية عن إبليس :( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٨) .

ومنها : كونه من حزب الشيطان ومتّبعيه ، واللازم قطعيّ البطلان.

ومنها : عدم كونه متسارعا في الخيرات معدودا عند الله من المصطفين الأخيار ؛

__________________

(١) الأحزاب (٣٣) : ٥٧.

(٢) الحجرات (٤٩) : ٦.

(٣) الجنّ (٧٢) : ٢٣.

(٤) هود (١١) : ١٨.

(٥) الصفّ (٦١) : ٢.

(٦) البقرة (٢) : ٤٤.

(٧) البقرة (٢) : ١٢٤.

(٨) الحجر (١٥) : ٣٩ ـ ٤٠.

٢٣

إذ لا خير في المذنب ، لكن اللازم منتف ؛ لقوله تعالى في حقّ بعضهم :( إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ) (١) ،( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ ) (٢) .

بقي الكلام في أنّ العصمة من أيّ معصية تجب ؛ فإنّ ما يتوهّم صدوره عن الأنبياء من المعاصي إمّا أن يكون منافيا لما تقتضيه المعجزة كالكذب فيما يتعلّق بالتبليغ ، أولا؟ والثاني إمّا أن يكون كفرا ، أو معصية غيره ، وهي إمّا أن تكون كبيرة كالقتل والزنى ، أو صغيرة منفّرة كسرقة لقمة والتطفيف بحبّة ، أو غير منفّرة ككذبة وشتمه وهمّ بمعصية ، كلّ ذلك إمّا عمدا أو سهوا ، بعد البعثة أو قبله.

والجمهور على وجوب عصمتهم عمّا ينافي مقتضى المعجزة ، وقد جوّزه القاضي سهوا ؛ زعما منه أن لا يخلّ في التصديق المقصود بالمعجزة وعن الكفر. وقد جوّزه الأزارقة من الخوارج ؛ بناء على تجويزهم الذنب ، مع قولهم بأنّ كلّ ذنب كفر. وجوّز الشيعة إظهاره تقيّة ؛ احترازا عن إلقاء النفس في التهلكة.

وردّ بأنّ أولى الأوقات بالتقيّة(٣) ابتداء الدعوة ؛ لضعف الداعي وشوكة المخالف ، وكذا عن تعمّد الكبائر بعد البعثة ، وجوّزه الحشويّة.

وكذا عن الصغائر المنفّرة لإخلالها بالدعوة إلى الاتّباع ؛ ولهذا ذهب كثير من المعتزلة إلى نفي الكبائر قبل البعثة أيضا ، وبعض الشيعة إلى نفي الصغائر ولو سهوا ، والمذهب عند محقّقي الأشاعرة منع الكبائر والصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقا ، والصغائر غير الخسيسة عمدا لا سهوا.

وذهب إمام الحرمين من الأشاعرة ، وأبو هاشم من المعتزلة إلى تجويز الصغائر عمدا(٤) .

__________________

(١) الأنبياء (٢١) : ٩٠.

(٢) ص (٣٨) : ٤٧.

(٣) في الأصل : « بالبعثة » وما أثبتناه موافق لما ورد في « شرح القوشجي » : ٣٥٧ ـ ٣٥٩.

(٤) انظر تفصيل الأقوال في « كشف المراد » : ٣٥١ وما بعدها.

٢٤

فالمصنّف إن أراد وجوب العصمة عن جميع المعاصي كما هو الظاهر من كلامه والظاهر من الشروح ، فلا يخفى أنّ ما ذكره من الأدلّة لا يفي بذلك ؛ فإنّ صدور الذنب عنه سيّما الصغيرة سهوا لا يخل بالوثوق بقوله وفعله ، والمتابعة قبل البعثة غير واجبة وبعد البعثة إنّما تجب فيما يتعلّق بالشريعة وتبليغ الأحكام ، وبالجملة فيما ليس بزلّة ولا طبع.

والإنكار على ما صدر عنهم سهوا غير جائز ، وردّ الشهادة إنّما يكون بكبيرة ، أو إصرار على صغيرة من غير إنابة أو رجوع ، ولزوم الزجر والمنع واستحقاق العذاب واللعن واللوم إنّما هو على تقدير التعمّد وعدم الإنابة ، ومع ذلك فلا يتأذّى به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل يبتهج. وبمجرّد كبيرة سهوا ، أو صغيرة ولو عمدا لا يعدّ المرء من الظالمين على الإطلاق ، ولا من الذين أغواهم الشيطان ، ولا عن حزب الشيطان سيّما مع الإنابة ، وعلى تقدير كون الخيرات لعموم كلّ فعل وتركه ، فمسارعة البعض إليها وكونه من زمرة الأخيار لا ينافي صدور ذنب من آخر سيّما سهوا ، أو مع التوبة.

وبالجملة : فدلالة الوجوه المذكورة على نفي الكبيرة سهوا ، والصغيرة غير المنفّرة عمدا محلّ نظر.

ويجب أيضا في النبيّ( كمال العقل والذكاء والفطنة وقوّة الرأي ) لأنّ من لم يتّصف بها لم يرغب في متابعته والانقياد لأوامره ونواهيه.

( ويجب أيضا عدم السهو ) لئلاّ يسهو فيما أمر بتبليغه ، ولعلّ مراده أن لا يكون السهو في الأمور ديدنا له وعادة( و ) عدم( كلّ يتنفّر عنه من دناءة الآباء ، أو عمر الأمّهات ، والفظاعة والغلظة والأبنة وشبهها ) من الأمراض التي يتنفّر عنها الطبائع ، كالبرص والجذام وسلس البول والريح ، والأكل على الطريق وشبهه من الأمور الخسيسة »(١) .

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٥٧ ـ ٣٥٩.

٢٥

الفصل الثالث :

في أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله يجب أن يكون مع المعجزة المصدّقة ، بناء على

أنّ طريق معرفة صدق النبيّ صلى الله عليه وآله في ادّعاء النبوّة منحصر في ظهور المعجزة

اعلم أنّ المعجزة عبارة عن الأمر العجيب الواقعي ، الخارق للعادة المقترن لادّعاء النبوّة الممكنة ، ونحوها من الرئاسة الإلهيّة الممكنة مع المطابقة في المصدّقة.

بيان ذلك : أنّ كلّ حادث مسبّب عن سبب لاقتضاء مصلحة الله خلق الأشياء بالأسباب ، ويسمّى ذلك عادة. والأسباب المقدّرة لحدوث الحوادث على ثلاثة أنواع : الأرضيّة ، والسماويّة ، والمركّبة منهما.

والأرضيّة منحصرة في حركات الأفلاك والكواكب وأوضاعها ، والمركّبة ما حصل منهما ، كما يقال : إنّ الدواء الفلاني يؤثّر أثرا كذا إن استعمل في ساعة كذا ، وإلاّ فلا ، فكلّ ما حدث في هذا العالم بسبب قسم من الأقسام الثلاثة يكون واقعا على مجرى العادة ، وإن حدث بلا توسّط سبب من تلك الأسباب ، لكان على خلاف مجرى العادة ، ويكون خارقا للعادة ، كمجيء الشجرة عند دعوة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما سنبيّن إن شاء الله تعالى ، فإنّه لم يكن من جهة أسباب عاديّة ؛ إذ الأسباب العاديّة للحركة منحصرة في الإرادة والطبيعة والقسر ، ولا إرادة للشجر ، والطبيعة إمّا أن تقتضي

٢٦

الحركة إلى الفوق أو التحت ، والقسر إمّا بالجذب أو بالدفع ، وحركة الشجر لم تكن داخلة في شيء من تلك الأقسام ، فتكون خارقة للعادة.

وقد يحدث الأمر بتوسّط سبب عادي خفيّ فيتوهّم كونه بلا سبب فيشتبه بخارق العادة كما في الشعبذة والطلسم والنيرنج ونحوها ، وقد لا يكون وجوده إلاّ بمجرّد التخييل من غير أن يكون له وجود الخارج كما في السحر.

والأمر الحادث لا من جهة سبب من الأسباب العاديّة يسمّى خارق العادة ، فإن اقترن بدعوى النبوّة ، أو الإمامة ، أو سائر ما لا يكون الاختصاص به إلاّ من الله وكان مطابقا لها يسمّى « معجزة » ، فما لم يكن يسمّى معجزة « مكذّبة » كما نقل أنّ مسيلمة الكذّاب لمّا سمع أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا للأعور فصار بصيرا ، دعا لأعور فذهبت عينه الصحيحة.

وما كان دالاّ على البعثة وحدث قبلها يسمّى « إرهاصا » كتضليل الغمامة لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتسليم الأحجار لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبلها ، وسقوط أربع وعشرين شرفة من إيوان كسرى ليلة ولادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخمود نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، ونحو ذلك ؛ إذ الإرهاص بمعنى الانتظار ، فكأنّه ينتظر البعثة.

وما كان غير منتظر مقترن بالدعوى المذكورة يسمّى « كرامة » كما كانت لمريم ؛ إذ( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ) (١) . وهكذا إطاعة الكلاب لسلمان ، وغير ذلك.

فالمعجزة حيث كانت لا عن سلب لا يمكن معارضتها ، بخلاف السحر فإنّه لكونه مسبّبا عن سبب خفيّ يمكن معارضته بتعلّم سببه ، فهي ممتازة عنه ، ولكن إذا كان رجل قادرا على الإتيان بأمر يكون سببه خفيّا ، ويكون مشتبها بالمعجزة عند الأكثر ، فلو ادّعى النبوّة أو نحوها وأتى طبق دعواه بذلك الأمر ، وجب على الله إبطاله ؛ دفعا

__________________

(١) آل عمران (٣) : ٣٧.

٢٧

للإضلال العامّ كما أبطل سحر فرعون بابتلاع عصا موسى.

فالمعجزة صادرة بمجرّد إرادة الله بلا توسّط سبب من الأسباب العاديّة ، ولهذا إذا اقترنت بالدعوى المذكورة وكانت مطابقة لها تدلّ على صدق المدّعى.

ووجه انحصار طريق معرفة صدق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها أنّ دعوى النبوّة ـ مثلا ـ ادّعاء خصوصيّة موهبيّة لا كسبيّة ، ولا اطّلاع للعقل بسببها ، فلا يمكن له الاستدلال اللمّي ، فلا بدّ له من البرهان الإنّي الذي هو الاستدلال من الأثر إلى المؤثّر ، ولا بدّ أن يكون لذلك الأثر اختصاص تامّ بذلك المؤثّر حتّى يدلّ عليه. ولمّا كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشرا لم يميّز من غيره إلاّ باستجماع الكمالات الذي هو أعمّ من النبوّة لا بدّ أن يكون له أثر مخصوص به من حيث إنّه نبيّ ، وليس ذلك المعجزة المقترنة المطابقة لدعواه ، فانحصر طريق إثبات النبوّة ونحوها في المعجزة إمّا بلا واسطة ، أو بواسطة كما في صورة بيان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنبيّ آخر ، أو نحوه.

والحاصل : أنّ المعجزة أمر واقعيّ خارج عن العادة ، بسبب كونه بلا توسّط سبب أرضيّ ، أو سماويّ أو مركّب ، وكونه ممّا لا يتمكّن الخلق على تحصيلها بالتكسّب والتعلّم ونحو ذلك ـ كما في الحوادث العاديّة المسبّبة عن سبب من تلك الأسباب جليّا كان السبب ، أو خفيّا ـ موجبا للاشتباه بخارق العادة في أمثال الشعبذة ، مع كون ذلك الأمر الخارق للعادة مقترنا بادّعاء نحو النبوّة الممكنة مطابقا له ، فيمتاز عن « الإرهاص » و « الكرامة » و « السحر » مفهوما ومصداقا.

وأنّ الحوادث المحسوسة إمّا وهميّة وخياليّة محضة ، أو واقعيّة ، والأولى قسم من السحر ، والثانية إمّا مسبّبة عن سبب أرضيّ ، أو سماويّ ، أو مركّب ، أو لا ، والأولى تسمّى بالعاديّة وهي قد تكون مسبّبة عن سبب خفيّ ، والثانية أيضا قسم من السحر.

وغير المسبّبة إمّا أن تكون لصاحب الرئاسة الإلهيّة أم لا ، وعلى الثاني تسمّى « كرامة ». وعلى الأوّل إمّا أن تكون قبل الادّعاء أو تكون مقترنة بالادّعاء ، وعلى

٢٨

الأوّل تسمّى « إرهاصا » بمعنى حالة منتظرة للرئاسة كما في تظليل الغمام ونحوه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانشقاق جدار الكعبة للوصيّ ، وعلى الثاني تسمّى « معجزة ».

وحينئذ إمّا أن تكون مطابقة للدعوة كما في ثعبان موسى ، وإحياء الأموات ، وشقّ القمر لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو مخالفة لها كما في مسيلمة الكذّاب. والأولى تسمّى معجزة مصدّقة ، والثانية معجزة مكذّبة.

فظهر الفرق بين السحر والمعجزة بأنّ السحر أعمّ من الوهمي والواقعي دون المعجزة ، وأنّ السحر الواقعي مسبّب عن سبب خفيّ ، والمعجزة من تصديق الله أو تكذيبه من غير سبب من العبد.

مضافا إلى أنّ السّحر عند الاختفاء والاشتباه ممّا يجب على الله إبطاله ، حذرا عن عدم إتمام الغرض في صدور القبح ، والمعجزة تكون باقية ويحصل التميّز في صورة الاشتباه بذلك ؛ وبأنّ السحر ممّا يمكن تعلّمه وتحصيله بالكسب دون المعجزة ؛ وبأنّ المعجزة غير مخصوصة بشيء دون شيء ، بل كلّما يريد المخاطب وجب على النبيّ والوصيّ إيقاعه بإذن الله ، بخلاف السحر :

وأنّه يدلّ على ذلك برهانان من ربّك :

أوّلا : العقل : لأنّ اللطف ـ الواجب المقتضي لبعث البشر المعصوم ـ موقوف على تعريف ذلك المعصوم ولا يتمّ إلاّ به ، وذلك لا يتمّ إلاّ بالمعجزة المصدّقة ؛ لخفاء العصمة وتوقّف ظهورها على تصديق الله له بالمعجزة ، فيكون الاقتران بها لازما مع أنّه راجح وتركه مرجوح ، واختيار المرجوح قبيح.

وثانيا : النقل كما قال :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ) (١) ونحو ذلك.

وعن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : لأيّ علّة أعطى الله عزّ وجلّ أنبياءه ورسله وأعطاكم المعجزة؟ فقال : « ليكون دليلا على صدق من أتى بها ، والمعجزة علامة لله

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ١٠١.

٢٩

يعطيها أنبياءه ورسله وحججه ليعرف بها صدق الصادق وكذب الكاذب »(١) . ونحو ذلك.

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنفرحمه‌الله مع بيان الشارح القوشجي بقوله : «( وطريق معرفته وصدقه ) أي صدق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( في ) دعوى النبوّة( ظهور المعجزة على يده ، وهو ثبوت ما ليس بمعتاد ، أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى ) قيّد بذلك احترازا عن الكرامات ؛ فإنّها لا تكون مطابقة للدعوى ؛ ضرورة عدم الدعوى ، لكنّه يخرج الإرهاص والمعجزة المكذّبة لمدّعي النبوّة أيضا ، والمصنّف يسمّيها معجزة ، كما سيأتي.

وأمّا قوله : مع خرق العادة فهو لغو محض ، ولعلّه من طغيان القلم ؛ لكنّه ينبغي أن يذكر هاهنا قيدا آخر ، وهو عدم المعارضة ، ليميّز عن السحر والشعبذة.

والمشهور في تعريف المعجزة أنّه أمر خارق للعادة ، ومقرون بالتحدّي مع عدم المعارضة.

وقيل : ينتقض بما إذا دلّ على خلاف دعواه كمن ادّعى النبوّة ويقول : معجزتي أن أنطق الحجر ، فنطق ، لكنّه قال : إنّه كاذب.

فالأولى في تعريفها أن يزاد على المشهور قولنا : ومطابقة الدعوى.

أقول : قد تطلق المعجزة على مثله كما سيأتي في كلام المصنّفرحمه‌الله .

وإنّما كان ظهور المعجزة طريقا لمعرفة صدقه ؛ لأنّ الله تعالى يخلق عقيبها العلم الضروري بالصدق ، كما إذا قام رجل في مجلس ملك بحضور جماعة وادّعى أنّه رسول هذا الملك إليهم ، فطالبوه بالحجّة؟ فقال : هي أن يخالف هذا الملك عادته ويقوم على سريره ثلاث مرّات ويقعد ففعل ، فإنّه يكون تصديقا له ومفيدا للعلم الضروري بصدقه من غير ارتياب.

__________________

(١) « علل الشرائع » ١ : ١٤٨ ، الباب ١٠٠ ، ح ١ ؛ « بحار الأنوار » ١١ : ٧١ ، ح ٢.

٣٠

فإن قيل : [ هذا تمثيل و ](١) قياس للغائب على الشاهد ـ وهو على تقدير ظهور الجامع إنّما يعتبر في العمليّات ؛ لإفادة الظنّ ـ قد اعتبرتموه بلا جامع لإفادة اليقين في العلميّات التي هي أساس ثبوت الشرائع ، على أنّ حصول العلم فيما ذكرتم من المثال إنّما هو لما شوهد من قرائن الأحوال.

قلنا : التمثيل إنّما هو للتوضيح والتعريف دون الاستدلال ، ولا مدخل لمشاهدة القرائن في إفادة العلم الضروري ، لحصوله في الغائبين عن هذا المجلس عند تواتر القصّة إليهم ، وللحاضرين فيما إذا فرضنا الملك في بيت ليس فيه غيره ودونه حجب لا يقدر على تحرّيها أحد سواه ، وجعل مدّعي الرسالة حجّته ؛ لأنّ الملك يحرّك تلك الحجب من ساعته ففعل.

( وقصّة مريم وغيرها تعطي جواز ظهورها على الصالحين ) اختلفوا في جواز وقوع ما هو خارق العادة على يد غير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصالحين ـ أعني المواظبين على الطاعات ، المجتنبين عن المعاصي ـ فذهب المعتزلة إلى منعه ؛ تمسّكا بما سيأتي ، والأشاعرة إلى ثبوته. واختاره المصنّف واحتجّ عليه بقصّة مريم كما دلّ عليه قوله تعالى :( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ) (٢) وغيرها مثل قصّة آصف بن برخيا كما دلّ عليه قوله تعالى :( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) (٣) وغيرها.

وأجاب عن أدلّة المعتزلة وهي وجوه :

منها : أنّه لو صدر عن غير النبيّ لكثر وقوعه ، ولصدوره عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالطريق الأولى وعن غيره أيضا فخرج [ عن ] أن يكون معجزا ؛ لخروجه عن أن يكون أمرا خارقا للعادة لكثرة وقوعه.

__________________

(١) الزيادة أضفناها من المصدر.

(٢) آل عمران (٣) : ٣٧.

(٣) النمل (٢٧) : ٤٠.

٣١

وتقرير الجواب : أنّا لا نسلّم خروجه عن حدّ الإعجاز ، فإنّ صدوره من الأنبياء والأولياء لا يجعله عادة معتادة. وإلى هذا أشار بقوله :( ولا يلزم خروجه عن حدّ الإعجاز ).

ومنها : أنّه لو جاز ظهور خارق العادة على [ يد ] غير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزم التنفّر عن الأنبياء ؛ لأنّ الباعث على اتّباعهم انفراد هم عن غيرهم ، وعجز غيرهم عن مشاركتهم فإذا شاركوهم هان الخطب ولزم النفرة عن اتّباعهم بمشاركة الأولياء لهم كما لا يلزم [ ذلك ] بمشاركة نبيّ آخر. وإلى هذا أشار بقوله :( ولا النفرة ).

ومنها : أنّ تميّز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن غيره إنّما هو بظهور الأمر الخارق على يده ، فلو ظهر على يد غيره أيضا ، لزم عدم تمييز النبيّ عن غيره.

وتقرير الجواب : أنّا لا نسلّم لزوم عدم التميّز وإنّما يلزم لو لم يحصل التميّز بأمر آخر ، وهو ممنوع ؛ فإنّ النبيّ يتميّز عن الوليّ بدعوى النبوّة.

وإلى هذا أشار بقوله :( ولا عدم التميّز ) أي لا يلزم عدم التميّز.

ومنها : أنّه لو صدر عن غير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبطلت دلالته على صدق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّ مبنى الدلالة على اختصاصه بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا بطل الاختصاص بطلت الدلالة.

والجواب : منع الزوم ، وإنّما يلزم لو ادّعى دلالة كلّ خارق على صدق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس كذلك ، بل لها شرائط.

منها : مقارنة الدعوى ، وإلى هذا أشار بقوله :( ولا إبطال دلالته ).

ومنها : أنّه لو جاز ظهوره على يد صادق غير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجاز ظهوره على يد كلّ صادق ، فيلزم عموميّة ظهور المعجزة.

والجواب : منع اللزوم ؛ لأنّ مبنى ظهور الخارق للعادة كرامة صاحبه ، وهي إنّما توجد في الأنبياء والصالحين من عباد الله وهم الأولياء. وإلى هذا أشار بقوله :( ولا العموميّة ، ومعجزاته قبل النبوّة تعطي الإرهاص ).

اختلفوا في ظهور المعجزة على سبيل الإرهاص ـ وهو إحداث أمر خارق للعادة

٣٢

دالّ على بعثة نبيّ قبل بعثته ـ أنّه هل يجوز أم لا؟

واختار المصنّف الجواز ، واحتجّ عليه بظهور معجزات نبيّنا قبل نبوّته مثل : انكسار إيوان كسرى ، وانطفاء نار فارس ، وتظليل الغمامة ، وتسليم الأحجار عليه( وقصّة مسيلمة وفرعون وإبراهيم تعطي جواز ظهور المعجزة على العكس )

اختلفوا في أنّه هل يجوز المعجزة على الكاذبين على العكس من دعواهم إظهارا لكذبهم؟ فالذين منعوا ظهور الكرامات على غير الأنبياء منعوا من ذلك ، والذين جوّزوا ظهور الكرامات على غير الأنبياء جوّزوا ذلك ، واختاره المصنّف واحتجّ عليه بالوقوع ؛ لأنّ الوقوع دليل على الجواز.

وممّا وقع : ما نقل عن مسيلمة الكذّاب أنّه لمّا ادّعى النبوّة ، فقيل له : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا لأعور فارتدّ بصيرا ؛ فدعا مسيلمة لأعور فذهبت عينه الصحيحة.

وكما نقل أنّ فرعون لمّا ضرب موسى لبني إسرائيل طريقا في البحر يبسا ، قال فرعون : إنّا نمرّ أيضا على هذا الطريق فأتبعهم بجنوده فغشيهم الموج فأغرقوا جميعا.

وكما نقل أنّ إبراهيمعليه‌السلام لمّا جعل الله تعالى عليه النار بردا وسلاما ، قال عمّه : أنا أجعل النار على نفسي بردا وسلاما فجاءت نار فاحترقت لحيته.

( ودليل الوجوب يعطي العموميّة ، ولا تجب الشريعة )

اختلفوا في أنّه هل تجب البعثة في كلّ زمان بحيث لا يجوز خلوّ زمان عن بعثة نبيّ؟

قال الأشاعرة : لا تجب البعثة في كلّ زمان بناء على نفي الحسن والقبح العقليّين.

وقال الإماميّة : تجب البعثة في كلّ زمان ، واختاره المصنّف واحتجّ عليه بأنّ الدليل الدالّ على وجوب البعثة يعطي عموميّة الوجوب في كلّ وقت ؛ لأنّ الحثّ على الطاعات والنهي عن القبائح لا يحصل إلاّ بالبعثة ، فتكون لطفا ، فتكون واجبة

٣٣

في جميع الأوقات.

واختلفوا في أنّه هل تجب الشريعة للنبيّ المبعوث أم لا؟ فذهب أبو عليّ وأتباعه إلى أنّه يجوز بعثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لتأكيد ما في العقول ، ولا يجب أن تكون له شريعة فإنّه يجوز بعثة نبيّ لشريعة واحدة فكذا يجوز بعثة نبيّ بمقتضى ما في العقول.

وذهب أبو هاشم وأصحابه إلى أنّه لا يجوز أن يبعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ بشريعة ؛ لأنّ العقل كاف في العلم بالعقليّات ، فلو لم يكن للنبيّ شريعة ، يلزم أن تكون بعثته عبثا.

وأجاب المصنّف بأنّه يجوز أن يكون البعثة قد اشتملت على نوع من المصلحة ، بأن يكون العلم بنبوّته ودعوته إيّاهم إلى ما في العقول مصلحة لهم ، فلا يكون البعثة عبثا »(١) .

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » للقوشجي ، ٣٥٩ ـ ٣٦١ ، وقد صحّحنا النقل على المصدر.

٣٤

الفصل الرابع :

في أنّ نبيّنا محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله رسول الله المبعوث إلى

الثقلين : الجنّ ، والإنس مع المعجزات التي منها : المعراج الجسماني ،

وشقّ القمر ، والقرآن ، وأنّه صلى الله عليه وآله خاتم النبيّين ، ودينه باق إلى يوم الدين

فلنذكر أوّلا نسبه ، وثانيا حسبه :

أمّا نسبه فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب ابن المسمّى بشيبة بن عمرو ، المعروف بهاشم بن المغيرة ، المعروف بعبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان بن أدّ بن أدر بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن ثابت بن حمل بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل بن تارخ بن ناخور بن شروغ بن رارعو بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن ملك بن متّوشلخ بن أخنوخ بن الناذر بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدمعليهم‌السلام .

وأمّا حسبه فهو أنّه رسول الله المبعوث إلى الثقلين ، وخاتم النبيّين بدلالة معجزاته المطابقة لدعواه.

اعلم أنّ معجزاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قسمين : ظاهرة ، وخفيّة. فالظاهرة عبارة عن

٣٥

القرآن المجيد ؛ لكونه ثابتا بالتواتر والتظافر المفيدين للقطع واليقين ، كما في العلم بالبلاد النائية ، والقرون الماضية ، والملوك الحالية ، وذوي السخاوة والشجاعة والعدالة ، ومؤلّف الكتب بحيث لا يمكن إنكاره ولا يقبل التشكيك.

وهكذا حصل القطع واليقين أنّ محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ادّعى النبوّة وأتى على طبقها بالقرآن المجيد ، وتحدّى بطلب معارضته ، وعجز عن المعارضة الفصحاء والبلغاء المشهورون ، ولم يقدروا على معارضته مع تطاول الأزمنة ، فهذا العجز والتعذّر معجز خارق للعادة.

فأمّا الذي يدلّ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ادّعى النبوّة ، وأتى بالقرآن ، وادّعى أنّ جبرئيل يهبط عليه ، وأنّ الله قد أبانه به ، فهو اتّفاق الموافق والمخالف ، وكونه ضروريّا عند الكلّ ، والقرآن ناطق بذلك ، كقوله تعالى :( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) (١) ونحو ذلك.

وأمّا الذي يدلّ على انتفاء المعارضة منهم فهو أنّه لو وقعت المعارضة ، لوجب ظهوره ونقله ، وحيث لم ينقل قطعنا بانتفائه.

وأمّا وجوب النقل والظهور ؛ فلتوفّر الدواعي وشدّة الاهتمام بإطفاء نورهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كيف لا؟ وقد نقل عن مسيلمة الكذّاب حين ادّعى النبوّة والوحي من الله ما ليس قابلا للنقل مثل قوله : « الفيل ما الفيل ، وما أدراك ما الفيل ، له ذنب وبيل ، وخرطوم طويل »(٢) .

وأمّا انتفاء النقل فهو ظاهر ؛ إذ لم ينقل من المتصدّين لإطفائه خبر واحد دالّ على الإتيان بما يعارض القرآن فضلا عن المتواتر ، حتّى نقل أنّ الوليد بن المغيرة ـ من جهة نهاية حسده وعداوته وإجابة قومه ـ كان في الليالي متفكّرا في الإتيان

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٣.

(٢) انظر « إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة » : ١٧٥.

٣٦

بما يعارضه ، فلمّا كان الصباح جاءه قومه رجاء منه أن يأتي بما يعارضه ، فلمّا كانوا بالغين في الفصاحة عارفين قبح الكلام ، عرفوا قبح ما قاله الوليد فلم يظهروه.

وقد نقل من الوليد أنّه مرّ على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كان تاليا لسورة « حم السجدة » ولمّا أتى قومه ، قال لهم : « لقد سمعت من محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آنفا كلاما ، ما هو من كلام الإنس والجنّ إنّ له لحلاوة ، وإنّ له لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمغدق ، وإنّه ليعلو ولا يعلى. فقال قومه : صبا الوليد ؛ نظرا إلى تحسينه إلى الحدّ المذكور »(١) .

فإن قلت : لعلّ عدم النقل كان من جهة وجود المانع منه وهو الخوف من أهل الإسلام ، وقد بلغوا من الكثرة إلى حدّ يخاف من مثلهم.

قلت : إنّ الخوف لا يقتضي انقطاع النقل من كلّ وجه وإنّما يمنع من التظاهر به ، كما أنّ فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام وغيره من الأئمّةعليهم‌السلام قد نقلت ولم ينقطع النقل بها مع الخوف الشديد من بني أميّة وغيرهم ، مضافا إلى أنّ أعداء الإسلام يعارضون الآن بما هو أشدّ من نقل المعارض ، فلو كان المعارض موجودا لكان ثابتا في كتبهم ، وكان نقل المعارض عند المعارضة أهمّ من أنّهم لا يتمسّكون إلاّ بإنكار بعض المعجزات ، أو عدم إعجاز القرآن بسبب عدم الاطّلاع على لطائفه ـ كما نقل عن بعضهم ـ مع أنّ الكثرة في الإسلام حصلت بعد الهجرة ، وكان يجب نقل المعارضة قبل ذلك في مدّة مقامه بمكّة ونحوها من أزمنة كان الأعداء فيها كثيرين مجادلين ، بل محاربين ، ولو نقلت لم يكن قوّة الإسلام موجبة لخفائها ، كيف؟ وقد نقل محاربة عمرو وكسر سنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحو ذلك ممّا كان فيه إهانة ظاهرة.

فإن قلت : لعلّ المعارضة وقعت بعد الهجرة.

قلت : في ذلك كفاية في ثبوت المعجزة وحصول خرق العادة ، على أنّ الإسلام وإن قوي حينئذ بالمدينة فقد كان لأهل الكفر ممالك كثيرة وبلاد واسعة ، ومملكة

__________________

(١) « تهذيب سيرة ابن هشام » : ٦١.

٣٧

الفرس كانت ثابتة ، وممالك الروم وغيرها كانت عريضة ، فكان الواجب ظهور المعارضة في هذه البلاد.

فإن قلت : غاية ما ذكرت عدم الوجدان ، وهو لا يدلّ على عدم الوجود.

قلت : العلم الحدسي حاصل بعدم الوجود على وجه أشرنا إليه.

وأمّا الذي يدلّ على أنّ انتفاء المعارضة كان للتعذّر ، فهو أنّا علمنا أنّ كلّ فعل لا يقع من فاعله ـ مع توفّر دواعيه إليه ـ فإنّه يدلّ على تعذّره ، وهو إمّا أن يكون بسبب وجود المانع أو بسبب عدم القدرة ، ولا سبيل إلى الأوّل ؛ لما مرّ من انتفاء المانع في جميع البلاد سيّما في صدر الإسلام ، فتعيّن الثاني وهو المعنيّ من العجز والتعذّر ، مضافا إلى أنّهم تركوا المعارضة بالحروف على المقاتلة بالسيوف ، ولا شبهة أنّ الأخيرة أشدّ من الأولى بمراتب لا تحصى ؛ لاقتضائها هلاك كثير منهم ، وأسرهم ، وإفناء أموالهم ونحو ذلك ، ممّا ثبت بالتواتر المعنوي ، فترك الأسهل وارتكاب الأصعب من الماهرين البالغين في البلاغة والغاية ، وصاحب الحميّة الجاهليّة ليس إلاّ للعجز عنه.

فإن قلت : لا يلزم من العجز كون المأتيّ به من الله ؛ لاحتمال أكمليّة الآتي من غيره بحيث لا يقدر غيره على الإتيان بمثله ، أو تعلّمه في زمان طويل لم يتمكّنوا مع قصر الزمان من معارضته.

قلت أوّلا : إنّه يجب على الله إبطال ما يأتي به غير الحقّ إذا كان ذلك المأتيّ ممّا يعجز عنه غيره في صورة ادّعاء أمر مخصوص ، ولا يكون إلاّ من الله كالنبوّة والإتيان بذلك المأتيّ لبيان حقّيّته ، فلو كان نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبطلا كان الواجب على الله إبطال ما أتى به. فلو أبطله لنقل ذلك ولو بخبر واحد ، ولم ينقل فلم يبطل ، فيكون محقّا وهو المطلوب.

وثانيا : إنّ الأفصح ليس ممّا لا يمكن الإتيان بما يقاربه ، مع أنّ الأفصح إنّما يمتنع مساواته مجازاته في جميع كلامه أو أكثر كلامه ، ولا يمتنع في البعض على من هو

٣٨

دون طبقته كما نرى في الطبقة المتأخّرة من الشعراء فإنّهم قد يساوون للمتقدّمة منهم في بعض الأبيات ، بل قد يزيدون عليهم في بعض ، فحيث وقع التحدّي بسورة قصيرة من سور القرآن ولم تكن الأفصحيّة مانعة عن الإتيان بمثله ، ولم يقدروا على الإتيان بمثل سورة من القرآن ، بل بما يدانيه وإلاّ لأتوه ، ولو أتوه لاشتهر كما مرّ ، علم أنّه خارق العادة وليس من البشر ، بل من الله العزيز.

وأمّا احتمال أنّه تعمل زمانا طويلا. ففيه ـ بعد تسليمه ـ أنّه كان ينبغي للمعارضين أيضا أن يراجع مثله فيعارضوه به ـ مع امتداد الزمان ـ لما مرّ فثبت التعذّر الخارق للعادة إمّا لكون القرآن نفسه خارقا للعادة بفصاحته ؛ لكونه في الطبقة العليا من الفصاحة ، والدرجة القصوى من البلاغة على ما لا يعرفه فصحاء العرب بسليقتهم وعلماء الفرق بمهارتهم في فنّ البيان ؛ فلذلك عجزوا عن معارضته كما عن الأكثر.

أو لكون أسلوبه الغريب ونظمه العجيب مخالفا لأسلوب كلام العرب ونظمه في الأشعار والخطب والرسائل ، أو لمجموع الأمر الأوّل والثاني.

ولأنّ الله تعالى صرفهم عن معارضته ، ولولاه لعارضوه لقدرتهم عليها. وعلى أيّ تقدير يثبت المطلوب حتّى في الصورة الأخيرة ؛ لأنّ الله لا يصدّق كاذبا ولا يخرق العادة لمبطل ، بل يبطل ما يأتي به إن اشتبه بالمعجزة كما مرّ.

فنقول : إنّ محمّد بن عبد الله قد ادّعى النبوّة ، وأظهر المعجزة بالقرآن ـ كما يثبت بالتواتر ـ وكلّ من ادّعى النبوّة وأتى بالمعجزة فهو نبيّ ؛ لما بيّنا من أنّ المعجزة دالّة على صدق صاحبها ، فينتج أنّ محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّ وهو المطلوب.

وأمّا المعجزات الباهرة الظاهرة بالمعنى الدالّة على نبوّته سوى القرآن :

[١] فمنها : شقّ القمر نصفين بمكّة ، وقد نطق به القرآن(١) .

__________________

(١) الانشقاق (٨٤) : ١.

٣٩

وعن عبد الله بن مسعود أنّه قال : « انشقّ القمر حتّى صار فرقتين ، فقال كفّار أهل مكّة ؛ هذا سحر سحركم به ، قال : فسئل السفار وقد قدموا من كلّ وجه ، فقالوا : رأيناه »(١) .

وبيانه على ما روي عن الصادقعليه‌السلام : « أنّه كان في الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجّة باستدعاء أربعة عشر نفرا من أصحاب العقبة ـ بعد تخيير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم في اختيار أيّ معجزة يريدون واختارهم شقّ القمر ـ ونزل جبرئيل من الله تعالى واختاره فيه بأنّ جميع مكوّنات العالم العلوي والسفلي مطيعة له ، فعند ذلك أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقمر بالانشقاق ، فانشقّ ، فسجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون شكرا ، وبعد رفع الرأس قال المنافقون : قل للقمر أن يرجع إلى حاله الأوّل ، فأمر ، فرجع ، ثمّ لمّا قالوا : قل له أن ينشق ثانيا ، فانشقّ ، فقالوا : إخواننا في السفر إلى الشام واليمن فإذا رجعوا نسألهم عن حال القمر فإن رأوا كما رأيناه ، علمنا أنّه من الله ، وإلاّ فنقول : هذا سحر مستمرّ »(٢) .

ودفعه أنّه لو كان سحرا لما وقع ذلك ، ولمّا كان.

[٢] ومنها : مجيء الشجرة إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : « لقد كنت معهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أتاه الملأ من قريش فقالوا : يا محمّد ، إنّك قد ادّعيت عظيما لم يدّعه آباؤك ، ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمرا إن أجبنا إليه وأريناه علمنا أنّك نبيّ ورسول ، وإن لم تفعل علمنا أنّك ساحر كذّاب ، فقال لهم : وما تسألون؟ » قالوا : تدعو لنا هذه الشجرة حتّى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله على كلّ شيء قدير ، فإن فعل ذلك بكم تؤمنون وتشهدون بالحقّ؟ قالوا : نعم ، قال : فإنّي سأريكم ما تطلبون ، وإنّي لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير ، وإنّ فيكم من يطرح في

__________________

(١) « إعلام الورى » ١ : ٨٤.

(٢) « بحار الأنوار » ١٧ : ٣٥١ ـ ٣٥٢ ، ح ١ ، بتفاوت يسير.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453