جامع الافكار وناقد الانظار الجزء ١

جامع الافكار وناقد الانظار12%

جامع الافكار وناقد الانظار مؤلف:
المحقق: مجيد هاديزاده
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: 482

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 482 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35914 / تحميل: 5208
الحجم الحجم الحجم
جامع الافكار وناقد الانظار

جامع الافكار وناقد الانظار الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
ISBN: ٩٦٤-٥٦١٦-٧٠-٧
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

مبغض عليّ وآل عليّ في النار، ومحبّ عليّ وآل عليّ في الجنّة...................... ٥٩٨

الطّرفة الثالثة والثلاثون...................................................... ٦٠٣

قال عليّعليه‌السلام : غسلت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنا وحدي وهو في قميصه، فذهبت أنزع عنه القميص، فقال جبرئيل: لا تجرّد أخاك من قميصه؛ فإنّ الله لم يجرّده

........................................................................... ٦٠٣

[ قال عليّعليه‌السلام ]: فغسّلته بالروح والريحان والرحمة، والملائكة الكرام الأبرار الأخيار، تشير لي وتمسك، وأكلّم ساعة بعد ساعة، ولا أقلب منه عضوا إلاّ قلب لي

........................................................................... ٦٠٥

[ قال عليّعليه‌السلام ]: ثمّ واريته، فسمعت صارخا يصرخ من خلفي: يا آل تيم، ويا آل عدي، ويا آل أميّة( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) ، اصبروا آل محمّد تؤجروا، ولا تحزنوا فتؤزروا،( مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) ٦٠٧

ثبت مصادر التوثيقات...................................................... ٦١١

٢١

٢٢

مقدّمة المؤسسة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله المعصومين لا سيّما أوّلهم مولانا أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وخاتمهم مولانا الإمام الثاني عشر المهديّ المنتظر عجّل الله فرجه وفرجنا بظهوره ولعنة الله على أعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.

إنّ مؤسّسة عاشوراء للتّحقيق والدراسات جعلت جزءا من نشاطها - والّذي اسندته إلى مؤسسة تاسوعاء للنشر - مهمّة تحقيق النّصوص ونشرها بالمستوى العلمي المطلوب واللاّئق بها، فإنّ هذه المؤسسة بالاضافة إلى نشاطها الواسع والمستمرّ منذ سنين في مجال التّحقيق حول الموضوعات الّتي تهمّ الأمّة الاسلامية وإعداد دراسات شاملة ومستوعبة لهذه الموضوعات التي تؤول نتائجها ومنتهياتها إلى من تخصّهم، سواء الّذين أسندوا إليها القيام بأعمال تحقيقيّة أو دراسات علميّة، أو الّذين ترتكز الاستفادة منها عندهم وتؤتى ثمارها بأيديهم.

فبالاضافة إلى مثل هذا النشاط الواسع العميق الّذي لا يقدّر قدره إلاّ المعنيّون وذوو الاختصاص، من افراد وجماعات ومؤسّسات، ارتأت أن تقوم بمهمّة أخرى وهي تحقيق النصوص والكتب التي ترى أنّ الأمّة بحاجة إليها، سواء الّذي لم ينشر

٢٣

من قبل أو الّذي نشر ولكن بصورة غير لائقة.

ونحمد الله سبحانه - وهو وليّ الحمد - أن تمّ من هذا الجانب من نشاط المؤسّسة تحقيق كتاب ( طرف من الأنباء والمناقب فى شرف سيّد الأنبياء وعترته الاطائب، وطرف من تصريحه بالوصيّة بالخلافة لعليّ ابى طالب ) للسيّد رضيّ الدين عليّ بن طاوس الحسنى الحلّي، العلاّمة والمؤلّف الشهير، ومن أنبغ اعلام سابع قرون الهجرة النّبويّة. قام بتحقيق الكتاب الاستاذ الشيخ قيس العطّار؛ وقدّم له مقدّمة وافية بالتعريف بالكتاب والمؤلف ومنهج التحقيق، نسأل له التوفيق وللمؤسّسة الهداية والتّسديد فى كافة انحاء النّشاط الّتي تقوم بها، وأن يأخذ بأيديها إلى ما يرضيه سبحانه ويرضي أولياءه المعصومين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إنه نعم المولى ونعم النصير.

مشهد المقدّسة

١١ / ذي القعدة / ١٤٢٠

٢٨ / ١١ / ١٣٧٨

( يوم ميلاد مولانا وحامي حمانا الإمام عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام )

( مؤسسة عاشوراء للتّحقيق والدراسات )

٢٤

مقدّمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلائق أجمعين، أبي القاسم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلى عترته وآل بيته الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

وبعد:

فإنّ أوّل خلاف برز بشكل علنيّ بين المسلمين، هو ذلك الخلاف الّذي بدأه الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب قبيل وفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله والتحاقه برب العالمين، حين طلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من المسلمين أن يأتوه بدواة وقرطاس ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده أبدا، فاعترض عمر بن الخطّاب قائلا: « إن الرّجل ليهجر، حسبنا كتاب الله » وافترق المسلمون الحاضرون فرقتين، واحدة تقول بما قال عمر، وثانية تقول بضرورة تنفيذ ما طلبه النبيّ، فكثر الاختلاف واللّغط، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « قوموا عنّي لا ينبغي عندي التنازع »، حتّى قال ابن عباس: « الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بيننا وبين كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ».

وليس بالخفي أنّ بوادر الخلاف وعدم الانصياع التام لأوامر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت

__________________

(١) انظر الملل والنحل ( ج ١؛ ٢٩ ) وصحيح البخاري ( ج ٦؛ ١١ / باب مرض النبي ) وصحيح مسلم ( ج ٣؛ ١٢٥٩ / كتاب الوصيّة - الحديث ٢١، ٢٢ )

٢٥

موجودة حتّى في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد أرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله خالد بن الوليد إلى بني جذيمة داعيا ولم يبعثه مقاتلا، فوضع خالد السيف فيهم؛ انتقاما لعمّه الفاكه بن المغيرة؛ إذ كانوا قتلوه في الجاهليّة، فبرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من صنعه وأرسل عليّاعليه‌السلام فودى لهم الدماء والأموال(١) ، كما اعترض عمر على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في صلح الحديبيّة، وفي وعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن ربّه بأن يدخلوا المسجد الحرام(٢) ، وأشار على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بقتل أسارى بدر وفيهم عمّ النبيّ وبعض أرحامه(٣) ، وأمره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كما أمر الخليفة الأوّل بقتل الرجل المارق الّذي كان يصلّي فلم يطيعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ورجعا عن قتله(٤) ، كما أنهما فرّا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر من مرّة وفي أكثر من زحف(٥) ، وكما أنّهما تخلّفا عن جيش أسامة(٦) إلى غير ذلك من مفردات خلاف الشيخين وصحابة آخرين لأوامر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولمّا زويت الخلافة عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، تبدّل مسير التاريخ الإسلاميّ، وأثّر هذا التبدّل على العقائد والفقه والتفسير والحديث وجميع العلوم الإسلاميّة، حتّى إذا تسلّم عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام أزمّة الأمور واجهته مشاكل جمّة، كان من أكبرها التحريفات والتبديلات الّتي أصيب بها الفكر الإسلامي، والمسار المعوّج

__________________

(١) انظر تاريخ ابن الاثير ( ج ٢؛ ٢٥٥، ٢٥٦ )

(٢) انظر صحيح البخاري ( ج ٦؛ ١٧٠ )، صحيح مسلم ( ج ٣؛ ١٤١١ )، فتح القدير ( ج ٥؛ ٥٥ ) وانظر الطرائف ( ج ٢؛ ٤٤٠، ٤٤١ )

(٣) انظر صحيح مسلم ( ج ٦؛ ١٥٧ )، شرح النهج ( ج ١٤؛ ١٨٣ )، السيرة الحلبية ( ج ٢؛ ١٩١ )

(٤) انظر مسند أحمد ( ج ٣؛ ١٥ )، العقد الفريد ( ج ٢؛ ٢٤٤؛ ٢٤٥ )

(٥) انظر تاريخ اليعقوبي ( ج ٢؛ ٤٧ )، كشف الغمة ( ج ١؛ ١٩٢ )، شرح النهج ( ج ١٥؛ ٢٠ ) مغازي الواقدي ( ج ١؛ ٢٩٣ )، المستدرك للحاكم ( ج ٢؛ ٣٧ ) وانظر دلائل الصدق ( ج ٢؛ ٥٥٣ ) ونفحات الجبروت للعلاّمة المعاصر الاصطهباناتي / الجلد الأول - الدليل الرابع

(٦) انظر السقيفة وفدك ( ٧٤، ٧٥ )، شرح النهج ( ج ٦؛ ٥٢ )، وانظر طبقات ابن سعد ( ج ٢؛ ٩٠ ) و ( ج ٤؛ ٦٦ )، تاريخ اليعقوبي ( ج ٢؛ ١١٣ )، الكامل لابن الاثير ( ج ٢؛ ٣١٧ )، أنساب الأشراف ( ج ١؛ ٤٧٤ )، تهذيب تاريخ دمشق ( ج ٢؛ ٣٩١ )، أسد الغابة ( ج ١؛ ٦٨ )، تاريخ أبي الفداء ( ج ١؛ ١٥٦ )، النص والاجتهاد (٣١)، عبد الله بن سبأ ( ج ١؛ ٧١ ).

٢٦

الّذي رسمته السلطات الانتفاعيّة والانتهازية، والّذي أدّى إلى شلّ الفكر القويم عند طائفة كبيرة من المسلمين.

لقد أجهدت هذه الحالة الفكريّة المشوّشة إصلاحات الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وأخذت منه مأخذا كبيرا ووقتا طويلا، فأصلحعليه‌السلام منها ما أصلحه وبقي قسط آخر منها مرتكزا في نفوس الناس كنتيجة سلبيّة من مخلّفات من سبقه من الرجال، فلم يتمكّنعليه‌السلام من تغييرها خارجا وإن أثبت بطلانها وخطأها على الصعيد الفكري.

روي عن سليم بن قيس ثمّ أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصّته وشيعته، فقال: « قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيّرين لسنّته، ولو حملت الناس على تركها وحوّلتها إلى موضعها وإلى ما كانت في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لتفرق عنّي جندي حتّى أبقى وحدي، أو قليل من شيعتي الّذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الّذي وضعه فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمةعليه‌السلام ، ورددت صاع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما كان، وأمضيت قطائع أقطعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ وأعطيت كما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعطي بالسويّة، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله وفرضه وحرّمت المسح على الخفّين، وحددت على النبيذ، وأمرت بإحلال المتعتين، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات وأخرجت من أدخل مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في مسجده ممّن كان رسول الله أخرجه وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنّة، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها إذن لتفرقوا عنّي والله، لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض

٢٧

أهل عسكري ممّن يقاتل معي: « يا أهل الإسلام غيّرت سنّة عمر، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا »، ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري. ما لقيت من هذه الأمّة من الفرقة وطاعة أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار(١) ».

ولمّا آل الأمر إلى ملك بني أميّة، وعلى رأسهم معاوية، أخذ يتلاعب بالدين كيفما شاء ويوجّه الأحكام إلى أيّ وجهة أراد، فوضع في البلدان من يختلق الفضائل لمن لا فضيلة له، ومن يضع المكذوبات للنيل من عليّ وآل عليّعليه‌السلام (٢) ، فالتفّ حوله المتزلّفون والوضّاعون والكذّابون من أمثال أبي هريرة وسمرة بن جندب(٣) ، وغيرهم من الطحالب الّتي تعيش في زوايا المياه، حتّى تسنّى له أن يعلن ويجاهر بسبّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ظلما على المنابر(٤) ، مع أنّ معاوية ملعون عدلا على لسان القنابر(٥) .

ولمّا ملك العبّاسيّون كانوا أشدّ ضراوة وقساوة على الدين وعلى أهل البيت وأتباعهم، فراحوا يسعون ويجهدون إلى طمس فضائلهم وإطفاء نور الله الذّي خصّهم به، فطاردوا العلويّين والشيعة واضطهدوهم سياسيّا وفكريّا، وروّجوا للمذاهب الأخرى المضادّة لمذهب أهل البيتعليه‌السلام ، وتبنّوا الآراء الفاسدة والمنحرفة لمجابهة الحقّ، وإبعادا للمسلمين عن الالتفاف حول المنبع الثرّ والعطاء الزاخر الّذي تميّز به منهج أهل البيتعليه‌السلام .

وهكذا استمرت الحكومات، وتوالت السلطات، وتظافرت على كتم الحقّ ونشر ما يخالفه.

__________________

(١) الكافي ( ج ٨؛ ٥٨ - ٦٣ )

(٢) انظر شرح النهج ( ج ٤؛ ٦٣ ) وصرّح أنّ منهم أبا هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير.

(٣) انظر شرح النهج ( ج ٤؛ ٧٣ )، نقلا عن أبي جعفر الإسكافي

(٤) انظر شرح النهج ( ج ٤؛ ٥٦، ٥٧ )، فرحة الغري ( ٢٤، ٢٥ )

(٥) انظر الصراط المستقيم ( ج ٣؛ ٤٧، ٤٨ )

٢٨

إلاّ أنّ الجهود الخيّرة والمساعي المثمرة للأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام صمدت في وجه كلّ تلك الحملات المسعورة، فربّى الأئمّة عباقرة وجهابذة وحملة للرسالة، قارعوا الأفكار الخاطئة ونشروا وتحمّلوا أعباء الرسالة الصحيحة، فدوّنوا المؤلّفات الّتي تصحّح كلّ ما مسّته يد التحريف والتلاعب.

وكان النصيب الأوفر من الخلاف، والقسم الأضخم من النزاع، قد انصبّ على مسألة الإمامة والخلافة والوصيّة لعليّعليه‌السلام ، فدار حولها الجدل والخلاف في أوّل يوم بعد وفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك في سقيفة بني ساعدة، حيث احتجّ المهاجرون على الأنصار بأنّهم من قومه وعشيرته، واحتجّت الأنصار على المهاجرين بأنّهم الّذين آووا ونصروا، وأنّهم الأوّلون قدما في الإسلام، وامتدّ النزاع واشتجر بينهم، ناسين أو متناسين حقّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وأولويّته بالخلافة ولو وفق ما احتجّ به الفريقان.

وعلى كلّ حال، فقد سيطر أبو بكر بمساعدة عمر على الأمور بالقوّة والعسف، ولم يصخ سمعا لاحتجاجات عليّعليه‌السلام المحقّة، مبتدعا قولة « لا تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم »(١) ، ومن ثمّ ادّعى من بعدها « نحن معاشر الأنبياء لا نورّث درهما ولا دينارا »(٢) ، وما إلى غيرها من مبتكرات الخلافة المتسلّطة.

من هنا نجد أنّ الصراع الفكري في مسألة الإمامة الّتي أخفى الظالمون معالمها قويّ جدّا، فراح رواة الشيعة وعلماؤهم يؤلّفون أخذا عن أئمّتهمعليه‌السلام في هذا المجال العقائديّ،

__________________

(١) انظر كتاب سليم بن قيس (١١٧) وفيه: ثمّ ادعى أنّه سمع نبي الله يقول: إنّ الله أخبرني أن لا يجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة، فصدّقه عمر وأبو عبيدة وسالم ومعاذ. وانظر جواب علي على ذلك إذ دخل في الشورى، في كتاب سليم أيضا (١١٩)

(٢) انظر صحيح البخاري ( ج ٥؛ ١٧٧ )، صحيح مسلم ( ج ٣؛ ١٣٨٠ )، السيرة الحلبية ( ج ٣؛ ٣٨٩ ). وهذا الحديث من مخترعات أبي بكر لم يرو عن غيره. قال ابن ابي الحديد: قال النقيب أبو جعفر يحيى بن محمّد البصري: إن عليا وفاطمة والعباس ما زالوا على كلمة واحدة، يكذبون « نحن معاشر الأنبياء لا نورث » ويقولون أنّها مختلقة. انظر شرح النهج ( ج ١٦؛ ٢٨٠ )

٢٩

فدوّنوا كتبهم في الإمامة والوصيّة - منذ العصور الإسلاميّة الأولى - بشكل مرويّات عن أئمّة آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخير شاهد ودليل على ذلك كتاب « سليم بن قيس الهلاليّ » الّذي يعدّ أقدم ما وصلنا في هذا المضمار، إضافة إلى كثير في كتب أصحاب الأئمّةعليه‌السلام الّتي لم يصلنا أكثرها بسبب الظلم والاضطهاد وقسوة المدرسة المقابلة الّتي تمتلك القدرة الفعليّة وتقمع المعارضين.

بسبب هذا الصراع الفكريّ والعقائديّ، كثرت التآليف في الإمامة عموما بجميع تفاصيلها ومفرداتها، وفي الوصيّة - وصيّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالخلافة لعليّ وأبنائه الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام - خصوصا، وهو ما يهمّنا في هذا البحث، باعتبار أنّ كتاب « الطّرف » مختصّ بوصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام بالإمامة له ولولدهعليهم‌السلام ، وكيفيّة أخذهصلى‌الله‌عليه‌وآله البيعة لعليّعليه‌السلام ، ووصيّته له بأن يدفنه هو ولا يدفنه غيره، وما إلى ذلك من مواضيع تدور كلّها في مدار الوصيّة.

وبنظرة عجلى حول ما ألّف تحت عنوان « الوصيّة »، وجدنا الكتب التالية للمتقدّمين:

١ - « الوصيّة والإمامة » لأبي الحسن عليّ بن رئاب الكوفيّ، من أصحاب الصادق والكاظمعليهما‌السلام ، ممّا يعني أنّه كان حيّا بعد سنة ١٤٨ ه‍. ق. وهي سنة تولّي الإمام الكاظمعليه‌السلام للإمامة.

٢ - « الوصيّة والردّ على منكريها »، لشيخ متكلّمي الشيعة، أبي محمّد، هشام ابن الحكم الكوفي، المتوفّى سنة ١٩٩ ه‍.

٣ - « الوصيّة » لمحمّد بن سنان؛ أبي جعفر الزاهريّ، من ولد زاهر مولى عمرو ابن الحمق الخزاعيّ، يروي عن عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام ، توفّي سنة ٢٢٠ ه‍.

٤ - « الوصيّة » لعيسى بن المستفاد البجلي، أبي موسى الضرير، الراوي عن الكاظمعليه‌السلام ، وأبي جعفر الثاني الإمام الجوادعليه‌السلام ، توفّي سنة ٢٢٠ ه‍.

٥ - « الوصيّة » لأبي إسحاق إبراهيم بن محمّد بن سعيد الثقفي، وهو من ولد عمّ المختار الثقفيّ، توفّي سنة ٢٨٣ ه‍.

٣٠

٦ - « الوصيّة » أو « إثبات الوصيّة » للمؤرّخ الثبت العلاّمة النسّابة، عليّ بن الحسين ابن عليّ المسعوديّ الهذليّ، صاحب كتاب « مروج الذهب »، المتوفّى سنة ٣٤٦ ه‍.

٧ - « الوصيّة » لأبي العبّاس أحمد بن يحيى بن فاقة الكوفيّ، الراوي عن أبي الغنائم محمّد بن عليّ البرسيّ، المتوفى سنة ٥١٠ ه‍، يرويه عن مؤلّفه السيّد أبو الرضا فضل الله الراونديّ.

وأمّا الكتب الّتي ألّفت تحت عنوان « الإمامة » والّتي تتضمّن مرويّات وبحوث الوصيّة فهي كثيرة قديما وحديثا، ممّا يعسر إحصاؤها وعدّها جميعا، حتّى أنّ العلاّمة المتتبّع الآغا بزرك الطهرانيّ (رض) قال:

الإمامة من المسائل الكلاميّة الّتي قلّ في مؤلّفي الأصحاب من لم يكن له كلام فيها، ولو في طيّ سائر تصانيفه، أو مقالة مستقلّة، أو رسالة، أو كتاب في مجلّد، أو مجلّدات إلى العشرة فما فوقها، فأنّى لنا بإثبات الكلّ أو الجلّ(١) ...

ثمّ عدّ من كتب أصحاب الأئمّةعليهم‌السلام وسائر الرواة والكتّاب ما يقارب المائة مصنّف ومؤلّف من مؤلّفات الشيعة الإماميّة(٢) ، وهي جميعا تحتوي في مطاويها على البحوث والمرويّات المتعلّقة بالوصيّة.

وعلى كلّ حال، فإنّ كتابنا « الطّرف » له ارتباط وثيق بكتاب « الوصيّة » لعيسى بن المستفاد البجليّ، وهذا ما يقتضي أن نبحث هذه الزاوية المهمّة، ثمّ نبحث حياة السيّد عليّ بن طاوس مؤلّف « الطّرف »، ومن بعده ما يتعلّق بعيسى ابن المستفاد البجليّ.

اسم الكتاب

لقد اختلفت النسخ الخطيّة، والمطبوعة القديمة، بل وحتّى السيّد ابن طاوس نفسه في تعيين اسم الكتاب كاملا، بحيث نجد أنّ النسخة الواحدة تذكر في بدايتها له

__________________

(١) الذريعة ( ج ٢؛ ٣٢٠ )

(٢) انظر الذريعة ( ج ٢؛ ٣٢٠ - ٣٤٣ )

٣١

اسما، ثمّ تعود في خاتمتها فتذكر اسما آخر، ويذكر له السيّد ابن طاوس في إجازته اسما، وفي كشف المحجّة اسما آخر، وهذا ما يحدو بنا أن نذكر ما اطّلعنا عليه في هذا المجال، ثمّ نرجّح اسم الكتاب في خاتمة المطاف.

إنّ النسخة « أ » صرّحت في بدايتها أنّ اسم الكتاب « طرف من الأنباء والمناقب، في شرف سيّد الأنبياء والأطائب، وطرف من تصريحه بالوصيّة والخلافة لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ».

ثمّ كتب في آخرها: تمّت صورة ما وجدته من هذا الكتاب الموسوم ب « طرف الأنباء والمناقب في شرف سيّد الأنبياء والأطائب، وطرف من تصريحه وتنصيصه لخلافة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ».

وإذا لاحظنا المطبوعة من الكتاب، والّتي طبعت في النجف الأشرف عام ١٣٦٩ ه‍. ق. عن نسخة سقيمة مغلوطة، وجدنا عنوان الكتاب في الصفحة الأولى، هكذا « الطّرف من المناقب في الذريّة الأطائب »، مع أنّ المصرّح به في آخر الكتاب هو: تمّت صورة ما وجدته من نسخة هذا الكتاب الشريف الموسوم بكتاب « طرف من الأنباء والمناقب، في شرف سيّد الأنبياء والأطائب، وطرف من تصريحه بالوصيّة والخلافة لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام »، وهذا ما يعني توافق ما في بداية نسخة « أ » مع ما في آخر نسخة « ب ».

وقد أورد الآغا برزگ الطهراني « رض » في « الذريعة » اسم الكتاب مطابقا لما في بداية « أ » وآخر « ب » مع إضافة ألف ولام في بداية عنوانه، فقال: « الطّرف من الأنباء والمناقب، في شرف سيّد الأنبياء والأطائب، وطرف من تصريحه بالوصيّة والخلافة لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام (١) ».

وأورد السيّد ابن طاوس اسم الكتاب في إجازته مطابقا لما في بداية « أ »

__________________

(١) الذريعة ( ج ١٥؛ ١٦١ )

٣٢

وآخر « ب » أيضا، مع إبداله الواو العاطفة - في قوله « والخلافة » - بالباء المتعلّقة بالوصيّة، فصارت « بالوصيّة بالخلافة »، وإليك نصّ عبارته: « طرف من الأنباء والمناقب، في شرف سيّد الأنبياء والأطائب، وطرف من تصريحه بالوصيّة بالخلافة لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام (١) ».

وما أن تقاربت الأسماء حتّى برز اسم الكتاب بشكل آخر في « كشف المحجّة » حيث سماّه ب « طرف الأنباء والمناقب، في شرف سيّد الأنبياء وعترته الأطائب(٢) ».

وأمّا النسختان « ج » « هـ » فلم تتعرّضا للاسم أبدا، وإنّما كتب اسم كتاب « الطّرف » من مفهرسي مكتبة الآستانة الرضويّة على مشرّفها السلام.

واكتفت النسخة « د » في بدايتها، والنسخة « و » في بدايتها ونهايتها، بالتعبير بكتاب الطّرف، وهذا تساهل واضح واختصار دأب عليه الكتّاب والمؤلّفون والفضلاء في غير مقام التدقيق العلميّ.

والعجب أنّ كاتب النسخة « أ » من الفضلاء - كما ستقف على ذلك في وصف النسخ - وقد بذل جهدا عظيما في تحرّي الدقّة والضبط ومقابلة نسخته مع نسخ أخرى، ورجّح وأحسن التلفيق في أكثر الموارد، ومع هذا نراه يغفل عن اختلاف اسم الكتاب ومغايرة ما في فاتحته لما في خاتمته.

وأعجب منه ما في بداية نسخة « ب » من اقتضاب مخلّ، عمّا في آخر النسخة من اسم تفصيليّ للكتاب، ولا أدري هل أنّ طابع الكتاب تصرّف بالعنوان حتّى جعله كما مرّ عليك، أم أنّ النسخة الّتي طبع عنها كانت مبتلاة بنفس هذا الاختلاف والاقتضاب.

ومهما كان الأمر، فإنّ الطريقة العلميّة توجب علينا أن نلتزم بما هو أقرب لمراد المؤلّف « رض »، وبما أنّ عنوان الكتاب في إجازات ابن طاوس مقارب جدّا

__________________

(١) الإجازات للسيّد ابن طاوس، المطبوع في البحار ( ج ١٠٧؛ ٤٠ )

(٢) كشف المحجة (١٩٠)

٣٣

لما في بداية « أ » وآخر « ب » وما في الذريعة من جهة، ولأنّ علماءنا في إجازاتهم يتحرّون الدقّة في ضبط ما يجيزون روايته عنهم، رأينا أنّ ما في الإجازات هو أقرب لمراده « رض ».

على أنّ ما في « كشف المحجّة » أيضا لا يمكن التغاضي عنه، لأنّه في الواقع بعض العنوان الذي في الإجازات بسقوط الحرف « من »، وبذكر الموصوف لفظا، أي قوله « وعترته الأطائب »، وهذا المقدار ممّا يتساهل فيه في أسماء وعناوين الكتب، خصوصا أنّ السيّد يذكر مؤلّفاته بأسماء مختلفة متقاربة بعضها من بعض، ومن راجع مؤلّفاته عرف صحّة ما نقول، ويكفيك أن تلقي نظرة سريعة على « كشف المحجّة » و « إجازاته » و « سعد السعود » لترى تعدّد تسمياته لكتبه بعناوين وأسماء متقاربة، وسنثبت بعض ذلك في أثناء تعدادنا لمؤلّفاته ومصنّفاته، فمن هنا ساغ لنا أن نرجّح أنّ اسم الكتاب هو « طرف من الأنباء والمناقب، في شرف سيّد الأنبياء وعترته الأطائب، وطرف من تصريحه بالوصيّة بالخلافة لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ».

بين الطّرف والوصيّة

إنّ « كتاب » الطّرف يحتوي على ثلاث وثلاثين طرفة، دوّنها السيّد ابن طاوس بعد ذكره لمقدّمة أوضح فيها أحقّيّة مذهب الإماميّة الاثني عشريّة على نحو الإجمال.

وكتاب « الطّرف » يعدّ بمنزلة المتمّم أو المستدرك لكتاب « الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف »، فإنّ السيّد ابن طاوس سمّى نفسه في كتاب « الطرائف » ب « عبد المحمود بن داود » تعمية وتقيّة من الخلفاء العبّاسيّين الّذين لا يحتملون سماع الحقّ، وينكلون بكلّ من يفوه به.

وفيما يتعلّق بهذه النكتة نقل عن خطّ الشهيد الثاني، أنّه قال: إنّ التسمية بعبد المحمود لأنّ كلّ العالم عباد الله المحمود، والنسبة إلى داود إشارة إلى « داود ابن الحسن المثنّى » أخ الإمام الصادقعليه‌السلام في الرضاعة، وهو المقصود بالدعاء المشهور

٣٤

بدعاء أمّ داود، وهو من جملة أجداد السيّد ابن طاوس « رض »(١) .

وقد اعتمد السيّد ابن طاوس بشكل كبير جدّا في « الطرائف » على كتب أبناء العامّة ورواتهم، وعلى ما اتّفق على نقله جميع المسلمين في كتبهم للوصول إلى الحقّ وإثبات أحقّيّة مذهب الإماميّة، وبعد باقي المذاهب عن طريق الحقّ وجادّة الصواب، وأنّ المذاهب الأربعة وأتباعها لم يلتزموا بما ورد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرقهم وطرق غيرهم في ولاية وإمامة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وباقي ولده من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

ونفس هذا النهج في إخفاء اسمه سلكه في كتاب « الطّرف »، فلم يصرّح باسمه بالمرّة، وإنّما قال: « تأليف بعض من أحسن الله إليه وعرّفه ما الأحوال عليه »، قال الآغا بزرك الطهرانيّ « رض »: « وما صرّح في الطّرف باسمه تقيّة »(٢) ، فهو كما كان يتّقي في عدم تصريحه باسمه في « الطرائف »، كذلك اتّقى فلم يصرّح به في « الطّرف ».

لكنّ « الطّرف » يمتاز عن « الطرائف »، بأنّه اختصّ بذكر ما ورد صريحا من طرق آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في إثبات الولاية والإمامة والوصيّة لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وما لا مجال فيه من النصوص للتأويل والتمحّل والحمل على الوجوه البعيدة والغريبة، فكأنّه « رض » أراد تتميم أو استدراك ما فات من كتاب « الطرائف ».

وقد صرّح السيّد ابن طاوس بذلك في مقدّمة « الطّرف »، قائلا: « وقد رأيت كتابا يسمّى كتاب « الطرائف في مذاهب الطوائف »، فيه شفاء لما في الصدور، وتحقيق تلك الأمور، فلينظر ما هناك من الأخبار والاعتبار، فإنّه واضح لذوي البصائر والأبصار، وإنّما نقلت هاهنا ما لم أره في ذلك الكتاب من الأخبار المحقّقة أيضا في هذا الباب »(٣) .

__________________

(١) انظر مقدّمة الطرائف (١٠)

(٢) الذريعة ( ج ١٥؛ ١٦١ )

(٣) انظر نهاية مقدّمة المؤلّف من كتاب الطّرف

٣٥

وقال في كشف المحجّة: « يتضمّن كشف ما جرت الحال عليه في تعيين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمّته من يرجعون بعد وفاته إليه، من وجوه غريبة، ورواية من يعتمد عليه(١) ».

وقال في إجازاته: « وممّا صنّفته وأوضحت فيه من السبيل بالرواية ورفع التأويل كتاب « طرف من الأنباء » وهو كتاب لطيف جليل شريف(٢) ».

ولذلك نرى أنّ النسخ الخطّيّة، تشير إلى أنّه « تكملة الطرائف »، بل ووضعت النسخة « أ » ملحقة بكتاب « الطرائف »، وأشير إلى أنّ « الطّرف » تكملة « للطرائف » وتتمّة له، ولهذا قال الآغا بزرك الطهرانيّ « رض »: « والطّرف استدراك للطرائف »(٣) .

ولو لا أنّ السيّد ابن طاوس كان يصرّح بأسماء كتبه ومؤلّفاته وتفاصيل حياته في مطاوي كتبه، لالتبس علينا أمر « الطرائف » و « الطّرف » واسم مؤلّفهما، لكنّ تصريحه في « إجازاته » و « كشف المحجّة » بنسبة الكتابين إليه، ونسبة جميع العلماء هذين الكتابين له، رفع الالتباس ولم يبق أدنى شكّ في أنّهما من مؤلّفات السيّد ابن طاوس « رض ».

والواقع أنّ الغالبيّة العظمى من محتويات كتاب « الطّرف » مأخوذة من كتاب « الوصيّة » لعيسى بن المستفاد البجلي، فإنّ السيّد ابن طاوس أورد ثلاثا وثلاثين طرفة في كتابه، منقولة عن عيسى بن المستفاد، باستثناء:

١ - الطّرفة الثانية، فإنّه رواها عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

٢ - الطّرفة السابعة، فإنّه رواها عن عيسى بن المستفاد، ثمّ روى مضمونها بروايتين أخريين.

__________________

(١) كشف المحجّة (١٩٥)

(٢) إجازات السيّد ابن طاوس المطبوعة في البحار ( ج ١٠٧؛ ٤٠ ) وانظر الذريعة ( ج ١٥؛ ١٦١ )

(٣) الذريعة ( ج ١٥؛ ١٦٢ )

٣٦

٣ - الطّرفة الثامنة، فإنّه رواها عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجذ، أنّ رجلا قال لعليّعليه‌السلام : ...

٤ - الطّرفة التاسعة، فإنّه رواها عن الصادق، عن أبيهعليهما‌السلام .

٥ - الطرفتين الخامسة عشر والسادسة عشر، فإنّه رواهما عن كتاب « خصائص الأئمّة » للشريف الرضيّ « رض »، لكنّهما أيضا ينتهيان إلى عيسى بن المستفاد، عن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، فإنّ سندهما هو: حدّثني هارون بن موسى، حدّثني أحمد بن محمّد بن عمّار العجليّ الكوفي، حدّثني عيسى الضرير، عن الكاظمعليه‌السلام .

٦ - الطّرفة الخامسة والعشرين، فإنّه رواها عن عيسى، عن الكاظم، عن أبيهعليهما‌السلام ، ثمّ نقل روايتها بألفاظ أخرى عن محمّد بن جرير الطبريّ في كتابه « مناقب أهل البيت » بهذا السند: أبو جعفر، حدّثنا يوسف بن عليّ البلخيّ، قال: حدّثني أبو سعيد الآدميّ بالري، قال: حدّثني عبد الكريم بن هلال، عن الحسين بن موسى بن جعفر، عن أبي الحسن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جدّهعليه‌السلام .

فإذا تأمّلنا في هذه المستثنيات، وجدنا أنّ الطّرفة السابعة مروية عن عيسى أيضا، وإن عضّدها بروايتين أخريين، وأنّ الطرفتين الخامسة عشر والسادسة عشر وإن رواهما عن الشريف الرضيّ « رض » في كتاب « خصائص الأئمّة » إلاّ أنّ سندهما ينتهي أيضا إلى عيسى بن المستفاد، عن الكاظمعليه‌السلام ، ويظهر أنّه نقلهما عن الشريف الرضيّ « رض » إشارة إلى اعتماد الرضيّ على كتاب « الوصيّة »، وزيادة في توثيق المطلب المروي.

وأمّا الطّرفة الخامسة والعشرون، فإنّه أيضا صرّح بروايته لها عن عيسى، عن الكاظمعليه‌السلام ، ومن ثمّ عضّدها بما رواه أبو جعفر الطبريّ بنفس المعنى وبإسناد آخر - ليس فيه عيسى بن المستفاد - ينتهي إلى الإمام الكاظمعليه‌السلام ، وذلك توثيقا لصحّة ما رواه عيسى في كتاب الوصيّة.

يبقى أنّ الطّرفة التاسعة أسندت إلى الإمام الصادقعليه‌السلام مباشرة، ولم ينقلها

٣٧

عن الكاظمعليه‌السلام ، عن أبيه الصادقعليه‌السلام ، وهذا ما يشعر أنّ الرواية مرويّة بطريق ليس فيه عيسى بن المستفاد، أو أنّ فيه عيسى فيلزم كونه من أصحاب الصادقعليه‌السلام أيضا، مع أنّ الرجاليّين لم يصرّحوا إلاّ بروايته عن الإمام الكاظمعليه‌السلام وإدراكه للجوادعليه‌السلام ، وإن ذهب بعض الرجاليين خطأ إلى أنّه ممّن روى عن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام كما سيأتي.

لكنّ الحقيقة هي أنّ هذه الطّرفة مرويّة أيضا عن الكاظم، عن أبيه الصادقعليهما‌السلام ، لأنّ العلاّمة البياضيّ صرّح بأنّ إسناد هذه الطّرفة هو نفس إسناد الطّرف السابقة، فإنّه بعد أن قال: « ما أسند عيسى بن المستفاد في كتاب الوصيّة إلى الكاظم إلى الصادقعليهما‌السلام (١) »، قال في بداية الطّرفة التاسعة: « بالإسناد المتقدّم »(٢) ، وهذا صريح بأنّ هذه الطّرفة مرويّة أيضا عن عيسى في كتاب « الوصيّة »، وكذلك نقل هذه الطّرفة العلاّمة المجلسيّ مصدّرا إيّاها بقوله: « وبهذا الإسناد، عن الكاظم، عن أبيهعليهما‌السلام قال »(٣) ، ممّا يدلّ صراحة على أنّها مرويّة عن عيسى في كتاب الوصيّة، إلاّ أنّ التساهل في ذكر اسم الإمام المروي عنه مباشرة في متن النسخ سبّب ما قد يتوهّم من أنّ عيسى رواها عن الصادقعليه‌السلام مباشرة، أو أنّه ليس براو لهذه الطّرفة.

وعلى هذا، فتبقى الطرفتان الثانية والثامنة فقط من كتاب « الطّرف » ليستا ممّا روي في كتاب الوصيّة لابن المستفاد، وتبقى إحدى وثلاثون طرفة الأخرى كلّها عن كتاب « الوصيّة » لعيسى بن المستفاد.

وقد تنبّه العلاّمة البياضيّ إلى كون كتاب « الطّرف » أو غالبيّته العظمى هو ما في كتاب « الوصيّة » لابن المستفاد، فقال: « فصل نذكر فيه شيئا ممّا نقله ابن طاوس

__________________

(١) الصراط المستقيم ( ج ٢؛ ٨٩ )

(٢) الصراط المستقيم ( ج ٢؛ ٩٠ )

(٣) بحار الأنوار ( ج ٢٢؛ ٤٧٨ )

٣٨

من الطّرف »(١) ، ثمّ قال: « ما أسند عيسى بن المستفاد في كتاب « الوصيّة » إلى الكاظم، إلى الصادقعليهما‌السلام »(٢) .

ونقل المجلسيّ كثيرا من الطّرف، فقال: « كتاب « الطّرف » للسيّد عليّ بن طاوس نقلا من كتاب « الوصيّة » للشيخ عيسى بن المستفاد الضرير، عن موسى ابن جعفر، عن أبيهعليهما‌السلام (٣) »، وقال في نهاية ما أخرجه منه: « انتهى ما أخرجناه من كتاب « الطّرف » ممّا أخرجه من كتاب « الوصيّة » لعيسى بن المستفاد، وكتاب « خصائص الأئمّة » للسيّد الرضيّ وعيسى وكتابه مذكوران في كتب الرجال »(٤) .

وقال الآغا بزرك الطهرانيّ (رض) في معرض كلامه عن كتاب الطّرف: « وفيه ثلاث وثلاثون طرفة، في كلّ طرفة حديث واحد، وأكثرها من كتاب عيسى بن المستفاد يعني كتاب « الوصيّة » كما عبّر به النجاشيّ »(٥) .

إنّ ما نقله لنا السيّد ابن طاوس في كتابه هذا على صغر حجمه، يعدّ كنزا نفيسا من كنوز مرويّات الإمامة والوصيّة - ولو لا ما نقله عنه لضاعت مرويّاته فيما ضاع في تراث المسلمين لأسباب شتّى، لكنّنا لا ندري هل أنّ السيّد ابن طاوس نقل كلّ ما في كتاب « الوصيّة » أم انتخب منه ما أراد فقط؟ - لأنّ ظاهر القرائن تدلّ على أنّ كتاب « الوصيّة » كان موجودا عند السيّد ابن طاوس « رض »، ولذا قال الآغا بزرك « رض »: « وقد أكثر النقل عنه ابن طاوس المتوفّى سنة ٦٦٤ ه‍ في « طرف من الأنباء »، فيظهر وجوده عنده في التاريخ المذكور »(٦) .

__________________

(١) الصراط المستقيم ( ج ٢؛ ٨٨ )

(٢) الصراط المستقيم ( ج ٢؛ ٨٩ )

(٣) بحار الأنوار ( ج ٢٢؛ ٤٧٦ )

(٤) بحار الأنوار ( ج ٢٢؛ ٤٩٥ ) وقال في مرآة العقول ( ج ٣؛ ١٩٣ ) « وأورد أكثر الكتاب السيّد ابن طاوس في كتاب الطّرف من الأنباء ».

(٥) الذريعة ( ج ١٥؛ ١٦١ )

(٦) الذريعة ( ج ٢٥؛ ١٠٣ )

٣٩

وإذا صحّ هذا الاستظهار، فمن الراجح جدّا أنّ كتاب « الوصيّة » فقد فيما فقد من تراث إسلامي في حملات التتر الهمجيّة على بغداد، وحرقهم لمكتباتها، وإلقائهم لكتبها في دجلة حتّى صار ماء دجلة أسود، وحتّى عبرت الدوابّ والخيل عليها، وكان من جملة ما فقد مكتبة ابن طاوس الضخمة، والّتي جعل لها فهرستا مفصلا سماّه « الإبانة في معرفة أسماء كتب الخزانة »، وقد كانت تضمّ في سنة ٦٥٠ ه‍، ألفا وخمسمائة كتابا(١) .

ومكتبته وفهرستها « الخزانة » من المفقودات اليوم، لكنّه أشار في مواضع مختلفة من كتاب « المحجّة » إلى أنّ فيها أكثر من سبعين مجلّدا في الدعوات، وأنّ فيها كتبا جليلة في تفسير القرآن، والأنساب، والنبوّة والإمامة، والزهد، وتواريخ الخلفاء والملوك وغيرهم، وفي الطبّ والنجوم، واللّغة والأشعار، والكيمياء والطّلسمات والعوذ والرقى والرمل، وفيها كتب كثيرة في كلّ فنّ من الفنون(٢) .

فمن الراجح إذن أنّ كتاب « الوصيّة » كان من جملة كتبه، وأنّه فقد فيما فقد منها ومن غيرها من مكتبات بغداد، أمّ الدنيا وعاصمتها آنذاك، ولكن هل نقله لنا السيّد ابن طاوس كلّه، أو نقل بعضه؟!

ربّما تكون إجابة هذا السؤال عسيرة جدّا وضربا من الحدس والتخمين، لكنّ المقطوع به عندنا، أنّ السيّد ابن طاوس لم ينقل لنا صدر الطّرفة الرابعة عشر، والّتي نقلها الكلينيّ (رض) في الكافي وعنه المجلسيّ في البحار، بسند الكلينيّ إلى عيسى بن المستفاد، عن الكاظم، عن الصادق ٨، وهذا ما يجعلنا نميل إلى أنّ السيّد ابن طاوس لم ينقل كلّ ما في « الوصيّة »، وإنّما نقل ما اختاره منه، وأضاف إليه بعض مرويّات من طرق أخرى، وعضّد بعض طرفه بطرق وأسانيد أخرى، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.

__________________

(١) انظر الذريعة ( ج ١؛ ٥٨ )

(٢) انظر مقدّمة كتاب اليقين ( ٧٩ - ٨٠ )

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

مخصوص ، أي : العلم المتعلّق بالذات المخصوصة المعينة يتوقّف تحصيله على جهة العلّة ويمتنع حصوله من المعلول. ولا ريب انّ العلم بالحقيقة المعينة المخصوصة أولى وأكمل من العلم بحقيقة ما ، فهذا هو الوجه في مزية البرهان اللمّي على الإنّي.

ولا ريب أيضا في انّ المقصود من البرهان في اثبات الواجب ـ تعالى شأنه ـ اثبات خصوصية العلّة للكلّ ـ اعني : الواجب بالذات ـ ، وبرهان الإنّ لا يفيد هذا الأمر ، فيجب المصير فيه إلى برهان اللمّ.

والجواب : انّ هذا مجرّد دعوى لا دليل عليه ، والفرق غير ظاهر عند التأمّل. فانّ العلم بالعلّة إن لم يكن تامّا ـ أي : لم يعلم العلّة بحقيقتها ولوازمها وخواصّها وما لها بالقياس إلى نفسها وما لها بالقياس إلى غيرها ـ لم يفد العلم بخصوصية المعلول اصلا ، لأنّه لم يعلم صفاتها وخواصّها ليعلم انّ معلولها يلزم أن يكون على صفة كذا وخصوصيّة كذا. ولو افاد مجرد ذلك العلم بخصوصية المعلول لقلنا : العلم بالمعلول أيضا يوجب العلم بخصوصية العلّة وإن لم يكن تامّا ، لعدم تعقّل الفرق أصلا. ولو كان العلم بها تامّا ـ أي : علمت العلّة بحقيقتها المخصوصة وصفاتها المعينة وخواصّها اللازمة ـ فلا ريب في أنّه يفيد العلم بخصوصية المعلول بمعنى انّه بعد ما علم انّ العلّة حقيقتها كذا وصفاتها وخواصّها كذا يحكم العقل بانّ معلول مثل هذه العلة يجب أن يكون على صفة كذا أو خصوصية كذا ـ للزوم المناسبة بين العلّة والمعلول ـ. إلاّ أنّ المعلول أيضا إذا علم بهذا الوجه علمت العلّة أيضا بالتعيّن(١) والخصوصية ، فانّه إذا علم أنّ المعلول على حقيقة كذا وخواصّه وآثاره كذا وكذا ، يحكم العقل بانّ علّته يلزم أن يكون على صفات مخصوصة وخصوصيات معينة ـ لوجوب المناسبة بين العلة والمعلول ـ فانّا كما إذا تعقّلنا الواجب ـ تعالى شأنه ـ بصفاته المعيّنة من بساطته وتجرّده نحكم بأنّه / ٢٢ DB / يجب أن يكون معلوله الأوّل جوهرا بسيطا مجرّدا وهو العقل الاوّل ، كذلك إذا تعقّلنا العقل الأوّل ببساطته وتجرّده وامكانه نحكم بانّ علّته يجب أن تكون بسيطا مجرّدا واجبا ، وقس عليه أمثال ذلك. فانّا كما إذا تعقّلنا تعفّن(٢) مطلق خلط علمنا حصول

__________________

(١) الاصل : باليقين.

(٢) الاصل : تعقل.

١٠١

مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى ، وإذا علمنا تعفّن خلط صفراويّ علمنا حصول حمى صفراويّ ، فكذلك إذا علمنا حصول مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى علمنا تعفّن مطلق خلط من دون حصول العلم بخصوصية هذا الوسط ، ولو علمنا خصوصية الحمى من كونه حمّى صفراويا أو بلغميا علمنا خصوصية الخلط أيضا من كونه صفراء أو بلغما ؛ هذا.

وقال بعض الأفاضل : انّه لا ريب في انّ العلم الحاصل من البرهان سواء كان لمّيا أو إنّيا انّما هو العلم التصديقيّ ـ أي : المتعلّق بثبوت النسبة الخبريّة ـ دون العلم التصوريّ الّذي هو تصوّر الأشياء بالحدّ أو الرسم ، فانّ العلّية والمعلولية اللّتين اعتبرنا بين حدود البرهان ـ أعني : الأوسط والأكبر والأصغر ـ ليستا معتبرتين بين ذوات تلك الحدود ، بل بين أوصافها العنوانية باعتبار ثبوت تلك الاوصاف لذوات تلك الحدود أو نفيها عنها. فقولهم : الأوسط إذا كان علّة للحكم فالبرهان لمّي وإلاّ فإنّي ؛ فيه مسامحة واعتماد على الظهور ، ومعناه انّ وصف الأوسط باعتبار ثبوته للأصغر أو نفيه عنه إن كان علّة لثبوت وصف الأكبر للأصغر أو نفيه عنه فالبرهان لمّى ، وإلاّ فإنّي. فاذا قيل : العالم متغير وكلّ متغير حادث فالعالم حادث ، برهان لمّي أريد به انّ ثبوت الأوسط / ٢٣ MA / ـ أعني : التغيّر ـ للعالم علّة لثبوت الحدوث له ، وهو الحكم المطلوب. بمعنى انّه متقدّم عليه بالذات بحسب نفس الأمر ، وما لم يثبت للعالم وصف التغيّر في الواقع لم يثبت له وصف الحدوث. وإذا قيل : زيد محموم وكل محموم متعفّن الاخلاط ، برهان انّي أريد به انّ ثبوت الأوسط ـ أعني : المحموم ـ لزيد معلول لثبوت تعفّن الاخلاط له وهو الحكم المطلوب ؛ يعنى انّه متأخّر عنه بحسب نفس الأمر. وما لم يثبت لزيد وصف بعض الاخلاط ـ أي : الحكم المطلوب ـ لم يثبت له وصف الحمى ـ أي : الأوسط ـ. فظهر انّ العلّية والمعلولية المأخوذتين في مطلق البرهان انّما ترجعان إلى ثبوت النسبة الّذي هو من العلوم التصديقية.

وإذا كان الحاصل من البرهان هو العلم التصديقي دون التصوريّ نقول : لا يجوز التفاوت بالكمال والنقصان في العلم التصديقى سواء حصل من برهان اللمّ أو الإنّ ، إذ

١٠٢

لا فرق في كيفية العلم الحاصل منهما لعدم التشكيك فيه ـ كما بيّن في موضعه ـ ، ولا في متعلّق التصديق ـ إذا لتصديق المنتج من ايّهما متعلّق بحقيقة النسبة الخبرية المطلوبة ـ ، فالعلم الّذي يمكن أن يتفاوت بالكمال والنقصان انّما هو العلم التصوريّ من حيث المتعلّق ، فانّ العلم التصوريّ الحاصل من الحدّ يكون متعلّقا بحقيقة الشيء ، والحاصل من الرسم يكون متعلّقا بخواصّه ولوازمه. وتفاوت هذا العلم لا مدخلية له فيما نحن فيه ، فانّ قولنا : العالم حادث متعلّق العلم ثبوت الحدوث للعالم أعمّ من أن يكتسب من جهة علّيته أو من جهة معلوليّته ، ولا يتصوّر التفاوت فيه من هذه الجهة. نعم! يمكن التفاوت في تصوّر الحدوث أو العالم بالكنه أو الوجه ، إلاّ انّه لا مدخلية له في نفس التصديق بثبوت الحدوث للعالم.

فان قيل : يجوز أن يختلف العلم بالنسبة الخبرية باختلاف تصور الاطراف بالكنه أو بالوجه ؛

قلنا : التفاوت فيه على هذا التقدير ليس من حيث انّه(١) مستفاد من البرهان ، بل من حيث تصوّر بعض الاطراف بالكنه وبعضها بالوجه ، فبالحقيقة يكون التفاوت في العلم التصوري ؛ وبواسطته يحصل تفاوت ما في العلم التصديقى أيضا. ولكن ذلك لا يفيد التفاوت في المقصود ، لأنّه ليس من حيث انّه مستنتج من البرهان ، بل من حيث تصوّر الاطراف ؛ إلاّ أن يقال : انّ مقصود القائل انّ البرهان اللمّي لا ينفكّ عن تصوّر الاطراف على وجه اتمّ واكمل ، بخلاف الإنّي ، لا أنّ العلم الحاصل بالمطلوب من اللمّي من حيث انّه حاصل منه يكون اتمّ من العلم الحاصل به من الإنّي من حيث انّه حاصل منه ، وهذا القدر يكفي لمزية اللمّ على الإن.

وغير خفيّ إنّا نلتزم مثل هذه المزية ولا ننكره! ، إلاّ أنّ مبنى هذا الكلام على لزوم تصوّر الاطراف في اللمّي بالحدّ والكنه وفي الإنّي بالرسم وبالوجه ، وعلى جعل حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه من اللمّ وإن لم يكن علّة فاعلية له ، بل يكفى كونه جزء العلّة ومن مقوّماته. والظاهر أنّ مجرّد حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه وأن

__________________

(١) الاصل : ـ انه.

١٠٣

يكن علّة فاعلية من اللمّ بشرط كونه تصديقا ، لأنّ المراد بالعلّة هاهنا يجب ان يكون ما يتوقّف عليه الشيء مطلقا لا العلّة التامّة ولا خصوص إحدى العلل الاربع ، فانّ الاستدلال / ٢٣ DA / من المعلول على أيّ جزء من العلّة التامة برهان انّي ، والاستدلال من الجزء الأخير للعلّة التامة أو يستلزم الجزء الاخير له على المعلول برهان لمّي.

وأمّا لزوم كون تصور الاطراف ممّا يتوقّف هذه الاطراف عليه ـ أعني : بالحدّ والكنه في اللمّ ـ فغير معلوم ، لانّه من العلوم التصورية الّتي لا مدخل لها في البرهان الّذي هو من العلوم التصديقية ـ ، فلا معنى لاشتراطه في البرهان اللمّي.

وأنت خبير بانّ اتمام أصل الجواب المنقول عن بعض الأفاضل يتوقّف على عدم التشكيك في حقيقة العلم المتعلق بالنسبة الخبريّة ، وهو محلّ كلام ؛ والنزاع في مثله مشهور.

وقد تلخّص ممّا ذكر انّ ما ذكروه في بيان الأمر الاوّل ـ أعني : اوثقية اللمّي من الإنّي ـ غير تمام ، ولا تفاوت بينهما إلاّ في أنّه يعلم المطلوب في اللمّي من جهة ما يوجبه من لمّه وسببه ، بخلاف الإنّي ؛ هذا.

وذكروا في بيان الوجه الثاني ـ أعني : لميه منهج الإلهيين ـ وجوها :

منها : انّه استدلال بحال من مفهوم الوجود ـ أعني : احتياج فرده الممكن إلى العلّة أو كونه ذا تقرّر أو ذا فرد في نفس الأمر ـ على حال اخرى منه ، / ٢٣ MB / وهي اتّصافه بكون بعضه واجبا لا على ذات الواجب في نفسه ، فانّ كون طبيعة الوجود مشتملة على فرد هو الواجب لذاته حال من أحوال تلك الطبيعة ، فالاستدلال بحال من تلك الطبيعة على حال أخرى لها معلولة للحال الاولى.

وفيه : انّ الحالة الّتي يستدلّ بها ـ أعني : كون الوجود ذا تقرّر أو ذا فرد أو احتياج فرده الممكن إلى علّة ـ إنّما هي معلومة ومستفادة من الوجودات الامكانية ، وهي معلولة للواجب الحقّ ـ تعالى شأنه ـ ، فكيف يكون علّة له في الخارج حتّى يكون الاستدلال بها عليه لمّيا؟!. كيف ولو كان الاستدلال بالوجود المطلق على الواجب بأيّ طريق كان استدلالا بالعلّة على المعلول لكان للواجب علّة؟!

١٠٤

وبما ذكر يظهر ضعف ما ذكره بعض المشاهير المعتقدين للمّية هذا الوجه حيث قال : إن قيل : الاستدلال بالوجود على الواجب ليس استدلالا بالعلّة على المعلول ، وإلاّ لزم أن يكون الواجب معلولا ؛ قلنا : الاستدلال بالعلّة على المعلول هو الاستدلال من واجب الوجود على معلولاته. فانّا في الطريقة المختارة نثبت واجب الوجود أوّلا ثمّ نستدلّ به على ساير الموجودات بان نقول : لمّا كان الواجب في غاية البساطة والتجرد يجب أن يصدر عنه أوّلا امر بسيط مجرّد عن الموادّ وبعد فتح ابواب الكثرة يصدر منه ـ تعالى ـ بطريق التناوب الاشياء الأخر ، ولمّا كان غنيا عن كلّ شيء يجب أن لا يكون فعله معلّلا بالاغراض ، وإن كانت المنافع لازمة لفعله ـ تعالى ـ على وجه لا يكون غرضا له وعائدا إليه. ولمّا كان جوادا مطلقا فيجب أن لا ينقطع منه الفيض ، ولمّا كان مجرّدا يجب أن لا يسنح له شيء بعد ما لم يكن ، وغير ذلك من الخواصّ المثبتة بمجرّد ملاحظة وجوب الوجود. وأمّا القوم فيثبتون ساير الموجودات ويستدلّون بها على وجود واجب الوجود. وبعبارة اخرى : نحن نثبت الحقّ ونستدلّ به على الخلق ، وامّا هم فيثبتون الخلق ويستدلّون به على الحقّ ، فطريقتنا أوثق وأشرف. انتهى ما ذكره مع تفصيل وتوضيح.

ووجه ضعفه : انّ استدلالكم على الواجب انّما هو بافراد الوجودات المعلولة أو بالوجود المطلق من حيث أنّه في ضمن الافراد الممكنة المعلولة ، فهو استدلال من المعلول على العلّة دون العكس ، فلا فرق بين طريقتكم وطريقة غيركم.

وأمّا ثبوت اللوازم والخواصّ المذكورة للواجب بعد اثباته فهو امر آخر يتأتّى على جميع الطرق بعد أن يثبت الواجب بأيّ منها.

ومنها : انّ كون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكون الواجب صانعا للعالم ، أي : هو علّة لهذا الوجود الرابطي الاضافي للواجب ـ تعالى ـ لا لوجوده في نفسه ، لانّ وجوده في نفسه ليس معلولا لشيء ، فوجود العالم في نفسه معلول للواجب ـ تعالى شأنه ـ. والوجود الرابطي للواجب ـ تعالى ـ وهو كونه صانع العالم معلول للعالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته ، فكون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكونه ذا جاعل واجب

١٠٥

بالذات. ولا استبعاد في ذلك كما ذكره الشيخ في المؤلّفية وذوي المؤلّفية ، فانه قال : انّ قولنا كلّ جسم مؤلّف وكلّ مؤلّف فله مؤلّف برهان لمّي ، لانّ المؤلّف ـ بالفتح ـ وإن كان معلولا للمؤلّف ـ بالكسر ـ بحسب الخارج والواقع ، لكن ذا المؤلّف ـ أعني : مفهوم ٢٣ DB / قولنا : له مؤلّف ـ هو الحدّ الأكبر ، والوجود الرابطي للمؤلّف ـ بالكسر ـ معلول للمؤلّف ـ بالفتح ـ. وأيّد ذلك بعضهم بانّه لا يثبت من هذه الدلائل إلاّ وجود علّة ما لجميع الممكنات خارجة عنها ـ أي : غير ممكنة ـ ، ولا يثبت بها خصوص وجود الذات المقدّسة الالهية. والشيخ قد صرّح بانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود علّة ما في الحقيقة استدلال من العلّة على المعلول ، لأنّ ثبوت علّة ما لشيء يكون في الحقيقة معلّلا بمعلولها ، فيكون لمّيا.

قيل : وبهذا الوجه ـ أي : بجعل المعلولية راجعة إلى الوجود الاضافي الرابطي لا إلى الوجود الحقيقي الخارجى ـ يندفع الايراد المشهور ؛ وهو انّه لا يمكن الاستدلال اللمّى على وجود الواجب لان كلّ شيء سوى الواجب ـ تعالى ـ معلول له ـ تعالى ـ إمّا بواسطة أو بدونها ، وليس الواجب معلولا لشيء ؛ فلا يمكن الاستدلال على وجوده بطريق / ٢٤ MA / اللمّ.

وأيضا : كلّ ما يحصل في اذهاننا ونتعقّله فهو ممكن ، وكلّ ممكن معلول له ، فانحصر طريق اثباته في الإنّي.

ووجه الدفع : انّ ما يثبت بالبرهان اللمّي هو الوجود الاضافي الرابطي للواجب ـ تعالى ـ وهو يجوز أن يكون معلولا ، وعدم معلوليته انّما هو باعتبار وجوده في نفسه. ولا امتناع في كون الواجب معلولا باعتبار الوجود الرابطي ، فانّ الشيء قد يكون علّة بحسب الذات ومعلولا بحسب الوجود الاضافى الرابطي ، فانّ ثبوت رازقية زيد للواجب ـ تعالى ـ يتوقّف على وجود زيد المرزوق ولا يمكن ثبوتها له بدونه ، بل يحتاج هذا الثبوت إلى وجود زيد مع انّه موجد زيد وغني عن كلّ شيء.

وغير خفيّ انّ هذا الوجه في غاية السقوط ولا يسمن ولا يغني من جوع! ، كيف وهو يجري في جميع ادلّة اثبات الواجب من أيّ منهج كان ولا اختصاص له بمنهج

١٠٦

الإلهيين ، بل يجري في جميع الأدلّة الآتية في أيّ مطلب كان ولا اختصاص له بادلّة اثبات الواجب! ؛ فأيّ مزية تثبت بهذا التكلّف والتعمّل لمنهج الإلهيين؟!.

مع انّه لو سلّم عدم جريانه في غيره نقول : انّ مطلوب القوم من ردّ أدلّة اثبات الواجب إلى اللمّي انّما هو لأن يكون أوثق وأحكم ، ولا ريب في أن مثل هذا التعمّل والتغيّر في بعض العبارات لا يصير سببا لتفاوت الدليل في الواقع ونفس الأمر حتّى يصير لأجله أوثق ، بل انّما هو تكلّف لا يرجع إلى فائدة وتحصيل. فالفرق بين منهجي الالهيين والمتكلّمين بلمّية الأوّل وإنّية الثاني تحكّم بحت!.

ولو قيل بعكس ذلك لكان له وجه في الجملة ، لأنّ المتكلّمين يجعلون الوسط في براهين اثبات الواجب هو الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، وهم يعتقدون انّ علّة الحاجة إلى المؤثّر هي الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، فالاستدلال على الواجب به استدلال لمّي وإن كان ما اعتقدوه من علّة الحاجة باطلا عندنا. وأمّا الإلهيون فلمّا جعلوا الوسط في البراهين هو الوجود فلا يمكنهم القول باللمّية ، لأنّ الوجود ليس عندهم علّة الحاجة بل علّتها عندهم هي الامكان البحث. نعم ؛ لو جعلوا الوسط في البراهين هو الامكان فقط واستدلّوا على الواجب ـ تعالى ـ بمجرّده لكان للقول بلمّية طريقتهم وجه ، إلاّ أنّ الاستدلال بمجرّد الامكان من غير التمسّك بالوجود أو الحدوث غير ممكن.

وبذلك يندفع ضعف ما افتخر به بعض الفضلاء بالتفطّن به ، وقال : أمّا اثبات الواجب فظاهر النظر يقتضي أن يكون دليله على الطريقين إنّيا ، والنظر الصائب يفضي إلى أنّ الّذي لهم من الدعوى على الطريقين يثبت ببرهان لمّي ، فانّ دعواهم انّ الممكنات منتهية إلى الواجب أو انّ الممكن له موجود واجب أو انّ العالم له خالق صانع لا مجرّد انّ الواجب موجود ، بل هو لازم ثانيا من دليلهم ، وبين هذا وما قدمنا من الدعوى فرق ؛ انتهى.

ووجه الدفع : انّ الممكن ما لم يؤخذ منه الوجود أو الحدوث أو ما يرجع إليهما لم يدلّ على احتياجه إلى المؤثّر ، ووجهه ظاهر.

١٠٧

وبما ذكر يظهر فساد ما قيل : انّ جميع براهين اثبات الواجب لمّية بحسب الحقيقة ـ بناء على ما نقل عن الشيخ من حديث المؤلّف وذي المؤلّف ـ ، إلاّ أنّ صورة ساير الطرق شبيهة بصورة الإنّ لانّها بظاهرها انتقال من المعلول إلى العلّة ، لانّ الممكن والمحدث والحركة ـ الّتي ينتقل منها إلى الواجب تعالى ـ معلولة له. بخلاف منهج الالهيين ، فانّه انتقال من الموجود إلى الواجب ، وهو بظاهره لا يشبه إلاّ انّ الموجود ليس معلولا للواجب مطلقا وإن كان بعض افراده معلولة له ، بخلاف الممكن والحادث والحركة.

ووجه الفساد : أمّا أوّلا فبأنّه أيّ فائدة في التفاوت في / ٢٤ DA / الصورة مع عدم الفرق الواقعي في الوثوق؟! ؛

وأمّا ثانيا : فبانّه تخصيص لادلّة اثبات الواجب مع جريان ما ذكره الشيخ في جميع ما يتصوّر دليلا.

وأمّا ثالثا : فبانّ الموجود الّذي يقع به الانتقال إلى الواجب انّما هو افراده الّتي هي معلولة ، والفرد الّذي هو غير معلول لم يقع به انتقال. ولا فرق بينه وبين الممكن والحادث.

ثمّ التأييد الّذي نقلناه عن بعضهم للوجه المذكور ـ : من كون / ٢٤ MB / الاستدلال لوجود المعلول على وجود علّة ما استدلالا لمّيا ـ لا يخفى فساده وضعفه وان نسبه الأكثرون إلى الشيخ ؛ لأنّ القريحة السليمة حاكمة بانّه لا فرق بين علّة ما والعلّة المعينة ، فانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلّة لمّي سواء كانت العلّة علّة ما أو علّة معينة ، وأيّ باعث للفرق؟!. والظاهر انّ نسبته إلى الشيخ فرية. وصرّح بعضهم بانّه ليس في كلمات الشيخ ما يدلّ عليه.

وأورد على الوجه المذكور : بانّه إذا كان العالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته علّة لكون الواجب صانعا للعالم لزم أن لا يثبت للواجب ـ تعالى ـ صانعية العالم لذاته ، بل يتوقّف على ملاحظة حال العالم ، لأنّ صانعيته ـ تعالى ـ حينئذ معلولة لمصنوعية العالم كما هو شأن البرهان اللمّي. فلو قطع النظر عن مصنوعية العالم لم يثبت له صانعية(١)

__________________

(١) الاصل : لم يثبت لصانعه.

١٠٨

في ذاته ، فلا يجوز أن تكون مصنوعية العالم علّة لهذا الوجود الرابطي ـ وهو كون الواجب صانعا للعالم ـ.

وأجاب عنه بعض الأفاضل : بانّ صانعية العالم يمكن اعتبارها من وجهين :

أحدهما : بحيث يكون وصفا للعالم ومعناها كون العالم بحيث يكون له صانع واجب الوجود بالذات ؛ وثانيهما : أن يكون وصفا لواجب ـ تعالى شأنه ـ. ومعناها حينئذ كون الواجب بحيث يكون صانعا للعالم ؛ وللعالم وصفان : أحدهما : المصنوعية والمجعولية ، والآخر : كونه ذا صانع جاعل ؛ والأوّل علّة للثاني والنتيجة هي كون العالم ذا صانع واجب الوجود بالذات ، لا كون الواجب صانع العالم ، فصورة القياس هكذا : العالم مصنوع ومجعول ، وكلّ مصنوع ومجعول ذو جاعل صانع واجب بذاته ، فالعالم ذو جاعل صانع واجب بالذات. وكون الواجب صانع العالم يظهر وينكشف بعد حقّية تلك النتيجة من غير احتياج إلى كسب ونظر ، وهذا الظهور بطريق الاتّفاق. فثبوت صانعية العالم للواجب انّما هو بالنظر إلى ذاته لا بواسطة أمر ؛ غاية ما فى الباب انّه ينكشف عندنا بعد حقّية ذلك القياس. ونظير هذا انّ التصديق قد يكون خفيا وبعد تصوّر الطرفين يصير بديهيا ، إلاّ أنّ تصوّر الطرفين كاسب له لأنّ التصديق لا يكون مكتسبا من التصوّر ، فحقّية كون الواجب صانع العالم لازمة لحقّية ذلك القياس ، لكن هذا اللزوم ليس لزوما اصطلاحيا بأن يكون حقّية القياس المذكور ملزومة لحقّية كون الواجب صانع العالم وعلّة بالقياس إليه ، لأنّ كلّ ملزوم اصطلاحي علّة للازمه ، وثبوت صانعية العالم له ـ تعالى ـ ليس معلّلا بغير ذاته أصلا ، فاللزوم فيها بالمعنى اللغوي ـ يعني : انّه لا ينفكّ أحد العلمين عن الآخر ـ. لانّه إذا ثبت القياس المذكور يصير كون الواجب صانع العالم بديهيا لا يحتاج إلى فكر ونظر اصلا ، فكون(١) الواجب صانع العالم ثابت له باعتبار ذاته بلا علّة غير ذاته.

ويمكن أن يقال : كون الواجب صانع العالم قد ظهر حقّيته بصحابة اللمّ إلاّ أنّ له دليلا لمّيا ؛ انتهى.

__________________

(١) الاصل : فيكون.

١٠٩

واقول : هذا الجواب بطوله ممّا لا يجدي طائلا ، بل هو فاسد! ، لأنّ القول بانّ ظهور كون الواجب صانع العالم انّما هو بطريق الاتفاق ممّا لا معنى له ، والقرائح السليمة لا تقبله ؛ فانّه لا ريب في أنّ صانعيته ـ تعالى ـ للعالم انّما يعلم من مصنوعية للعالم ، ولولاها لم يكن لنا إليها سبيل. بل لو لم يتحقّق المصنوعية في الخارج لم تتحقّق صانعية فيه. نعم! ، يمكن القول بانّ الانتقال من هذا الوجود الرابطي ـ أعني : كونه صانعا ـ إلى الوجود الحقيقيّ انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، لانّ تحقّق الوجود الارتباطى لا يمكن إلاّ بعد تحقّق الوجود في نفسه.

فالحقّ في الجواب عن الشبهة أن يقال : لا مانع من توقّف هذا الوجود الاضافي الارتباطى ـ أعني : ثبوت صانعية العالم للواجب تعالى شأنه ـ على غيره ـ أعني : مصنوعية العالم وعدم ثبوتها له في ذاته ـ ، فانّ المصنوعية والصانعية متضايفتان وتوقّف ثبوت أحد المتضايفين على الآخر ذهنا وخارجا ممّا لا ينكر. وهل هذا مثل الرّازقية والمرزوقية؟ ، فانّه لا ريب في انّه لا يثبت للواجب ـ تعالى ـ رازقية / ٢٤ DB / زيد بدون وجود زيد المرزوق ، بل هي موقوفة عليه. والسرّ انّ مثل الصانعيّة والخالقيّة والرازقيّة وأمثالها من صفات الفعل الّتي لا تتحقّق بدون متعلّقاتها. والحاصل : انّ عدم ثبوت الوجود الرابطي للواجب بالنظر إلى ذاته وتوقّفه على غيره لا منع فيه ، إلاّ أنّ ارجاع البراهين إلى اثبات مثل هذا الوجود ليصير لمّية ممّا لا فائدة / ٢٥ MA / فيه ولا يجدي طائلا ـ كما عرفت ـ.

ثمّ لا يخفى بأنّ مثل هذه الشبهة جارية في الوجه الأوّل أيضا ، بان يقال : إذا كان اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن علّة لاشتماله على الفرد الواجب لزم أن يكون كون الواجب فردا للموجود المطلق معلولا لكون الممكن فردا للموجود المطلق ، فيلزم أن لا يثبت للواجب ـ جلّ وعزّ ـ كونه فردا للموجود المطلق باعتبار ذاته ، بل بملاحظة علته ؛ وهي اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن واحتياجه إلى العلّة. فمع قطع النظر عن هذه العلّة في نفس الأمر يلزم عدم معلولها في نفس الأمر فيلزم أن لا يكون الواجب فردا للموجود المطلق في ذاته ؛ وهو باطل. لأنّ كون الواجب فردا للموجود

١١٠

ثابت له ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته وإن قطع النظر عن جميع ما عداه.

والجواب على النحو الّذي نقلناه عن بعض الأفاضل(١) مع ما يرد عليه يعلم ممّا مرّ ، وعلى ما ذكرناه ظاهر ؛ فلا نطيل الكلام بالاعادة.

ومنها : ما ذكره بعض الأفاضل ، وهو أنّ طبيعة الوجوب لمّا كانت طبيعة ناعتية لطبيعة الوجود عارضة لها فهي متأخّرة بالذات عنها ـ كما يظهر من تتبع عبارات الشفا وغيره ـ ، فيكون الموجود بما هو موجود متقدما بالذات على الموجود بما هو واجب والواجب بما هو واجب ، وهذا لا ينافى ما هو المشهور من « أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد » ، لأنّ المراد منه انّ الماهية ما لم يتصف في مرتبة العقل وجودها بصفة الوجوب لم يمكن أن يوجد ، لأنّ اتصاف الشيء في الخارج بصفة الوجوب متقدّم على تحقّقه فيه ، اذ اتصافه بها في الذهن متقدّم على ثبوته فيه. إذا تمهّد هذا فلا يخفى عليك : انّ الاستدلال بالموجود بما هو موجود وانّ له فردا في الخارج على الواجب بما هو واجب وانّ له فردا خارجيا برهان لمّي بلا تعمّل وتكلّف لا انّي ، لأنّ ثبوت الفرد الخارجي

للموجود بما هو موجود متقدّم بالذات والطبع على ثبوت الفرد الخارجى للواجب بما هو واجب. ولا يتوهّم انّه يلزم على هذا أن يكون الواجب بما هو واجب معلولا لشيء ، إذ اللازم تقدّم اعتبار الوجود على اعتبار الوجوب ، وهو ليس بمستنكر ، إذ ذاته ـ تعالى ـ من جهة انّه مبدأ للآثار فرد للموجود ، والوجود من جهة انّه مبدأ لوثاقة الوجود فرد للواجب والوجوب ، والاعتبار الاوّل متقدّم بالذات على اعتبار الثاني ـ كما يقال في تقدّم وجوب الوجوب على ساير الصفات ، وفي تقدّم العلم والقدرة على الإرادة ـ. وطبيعة الوجود والموجود بما هو موجود متقدم على جميع الاشياء ، بل جميع الاعتبارات بالذات ، ولهذا جعل موضوعا للفلسفة الأولى. والمراد بما قال الشيخ وغيره : « انّه لا برهان عليه ـ تعالى ـ بل هو البرهان على كلّ شيء » : انّه لا برهان على ذاته من غيره ، لانّ ذاته باعتبار وملاحظة ليس ببرهان على نفسه باعتبار آخر ، أو بعض صفاته ليس برهانا على بعض آخر ؛ بل هو الشهيد عليه كما على غيره. ولهذا

__________________

(١) الاصل : + ظاهر.

١١١

بعينه صار هذا المنهج أشرف وأخصر من غيره المأخوذ فيه وجود الممكن أو الحادث أو المتحرّك شاهدا عليه ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه في غاية الفساد ، ولا يقبل الاصلاح بوجه. لانّ الوجود الّذي يمكن أن يتوهّم تقدّمه على الوجوب وعلّيته له انّما هو الوجود الخاصّ الواجبي والاستدلال لم يقع به ، لانّه عين المطلوب ، بل الاستدلال انّما وقع من الموجود المشاهد المعيّن أو من طبيعة الموجود باعتبار تحقّقها في ضمن موجود معيّن مشاهد ، والبديهة قاضية بانّه ليس متقدّما على الموجود بما هو واجب ولا علّة للواجب بما هو واجب ، كيف وجميع الموجودات المعلومة المشاهدة وطبيعة الموجود من حيث تحقّقها في ضمنها معلولة للواجب ومتأخّرة عن تحقّقه؟! ؛ فكيف يجوز أن تكون متقدّمة عليه وعلة له؟!. على أنّ تأخّر الوجوب لذاته عن الوجود الواجبي وتأخّر الوجوب لغيره عن ساير الوجودات غير مسلّم ، لانّ كلّ وجود ما لم ينسدّ عنه جميع انحاء العدم ولم يصل حدّ الوجوب لم يتحقّق في الخارج ، فالوجوب في مرتبة نفس الأمر ـ أي : العقل الفعّال ـ أو الحال الّذي للشيء في حدّ ذاته بلا تعمّل ـ أي : الّذي يكون / ٢٥ DA / بحيث إذا لاحظه العقل السليم حكم به بالبديهة أو البرهان ـ مقدّم على الوجود.

وما ذكره هذا الفاضل في بيان معنى المقدّمة المشهورة كلام خال عن التحصيل ، لانّه لا شكّ أنّ اتصاف الشيء بالوجود ليس له توقّف على أن يلاحظ العقل اتصافه بالوجوب ، وليس دليل يدلّ عليه ، بل / ٢٥ MB / الدليل انّما يدلّ على انّه يتوقّف على اتصافه به في نفس الأمر. على انّه إذا لم يكن له اتصاف بالوجوب قبل الوجود في نفس الأمر ولم يتحقّق حينئذ وجوب لكونه نفيا لما لم يتحقّق بعد ـ أعني : الوجود ـ لم يمكن للعقل أن يصفه به إلاّ بتعمّل ؛ وكيف يمكن للعقل الصحيح أن يحكم بما ليس له تحقّق في الواقع ونفس الأمر؟! ؛ ولو حكم به تعمّلا لم يكن فيه فائدة ، لأنّ الأمور النفس الأمرية لا تختلف ولا تتفاوت بمجرّد فرض العقل خلافه.

فان قيل : مراد هذا الفاضل بمرتبة العقل هو نفس الأمر ، فيكون مراده انّ الوجوب متقدّم على الوجود في نفس الأمر ؛

١١٢

قلنا : فيصير حينئذ حكمه بتقدّم الوجود على الوجوب وكونه نعتا للوجود باطلا ، لأنّه إذا كان الوجوب مقدّما على الوجود في نفس الأمر فالوجود في أيّ مرتبة يكون مقدّما على الوجود ، إذ لا يتصوّر حينئذ مرتبة وطرف يثبت فيه تأخّر الوجوب عن الوجود ، لانّ الاتصاف بالوجوب قبل الوجود وبعده ليس إلاّ بمعنى واحد ووجه واحد. فاذا كان هو متقدّما على الوجود في نفس الأمر فان فرض تأخّره أيضا لزم تأخّره في نفس الأمر ، وهو تناقض.

قيل : انّ الوجوب إمّا نعت للوجود أو كيفية للنسبة ، وعلى التقديرين يلزم تأخّره عن الوجود ؛ أمّا على التقدير الأوّل فظاهر ، إذ تأخّر الوصف عن الموصوف لا يقبل المنع ، وأمّا على التقدير الثاني فلأنّ النسبة الّتي بين الطرفين ـ أعني : الذات والوجود ـ متأخّرة عن الطرفين ، فيكون متأخّرة عن أحد الطرفين الّذي هو الوجود ، ولا ريب أنّ كيفية النسبة متأخّرة عن نفس النسبة المتأخّرة عن الوجود ، فيكون تلك الكيفية ـ أعني : الوجوب ـ متأخرة عن الوجود بمرتبتين. وحينئذ ينبغي إمّا أن يقال : الوجود مقدّم على الوجوب في نفس الأمر وتأوّل المقدّمة المشهورة ، أو يقال : يتقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وتحمل المقدّمة المشهورة عليه ويلتزم تأخّر الوجوب عن الوجود في الخارج لتصحّ الوصفية ، أو كونه كيفية للنسبة.

وأجاب بعضهم : أمّا أوّلا : باختيار الشقّ الثاني وادعاء كون الوجوب وصفا لنفس النسبة ومنع كون نفس النسبة متأخّرة عن الطرفين ، إذ المتأخّر عن الطرفين انّما هو وجود النسبة ـ لأنّه الفرع لوجود الطرفين دون نفسها ـ ، فلا يلزم تأخّر الوجوب عن الوجود ؛

وأمّا ثانيا : باختيار الأوّل ومنع لزوم تأخّر مثل هذا النعت عن الموصوف ـ أعني : الوجود ـ ، لانّه إن ادّعى انّ الثبوت الرابطي من الوجوب للوجود متأخّر عن ثبوت الوجود في نفسه فغير مسلّم ، بل ثبوت الشيء للشيء مستلزم لثبوته في نفسه لا فرع له ـ على ما هو التحقيق ـ ، وإن ادّعى انّ الثبوت في نفسه للوجوب متأخّر عن الثبوت في نفسه للوجود فغير مسلّم أيضا ، إذ الثبوت في نفسه للوجوب انّما هو بمعنى

١١٣

ثبوت ما ينتزع منه إلى موصوفه ، فإذا كان موصوفه الوجود فهو أيضا ثبوته كثبوت الوجود ، فرجع معنى ثبوت الوجوب في نفسه إلى ثبوت الذات المتّصفة بوجوب الوجود في نفسه ، فلا يكون متأخّرا عن ثبوت الوجود ؛ انتهى.

وأنت تعلم إنّ الجواب الّذي ذكره هذا البعض على اختيار الشق الثاني في غاية السقوط! ، لأنّ نفس النسبة أيضا متأخّرة عن الطرفين ، لكونها فرعا لوجود الطرفين ـ لأنّه ما لم يتحقّق الطرفان لم تتصوّر نسبة بينهما ـ. ولو سلّم عدم تأخّرها عنهما وعدم كونها فرعا لوجودهما فلا ريب في أنّها لا تكون متقدّمة عليهما ، بل تكون في مرتبتهما ، فالوجوب الّذي وصف لهما يجب أن يكون متأخّرا عنها ، وإذا كان متأخّرا عنها يكون متأخّرا عما هو في مرتبتها(١) ـ أعني : أحد الطرفين الّذي هو الوجود ـ.

امّا الجواب الّذي ذكره على اختيار الشقّ الأوّل فما ذكره أوّلا من حديث الاستلزام وانكار القاعدة الفرعية للجواب عن صورة ادّعاء تاخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه محلّ الكلام ، وكونه أصحّ القولين غير معلوم ، وتحقيق القول فيه لا يليق بهذا المقام ؛

وما ذكره ثانيا للجواب عن صورة ادّعاء تأخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه ، فحاصله : انّ الوجوب لمّا كان امرا اعتباريا انتزاعيا فليس له ثبوت على حدة كالصفات الحقيقية ، بل ثبوته انّما هو بمعنى ثبوت ما ينتزع عنه ـ كما هو الشأن في جميع الصفات الاعتبارية الانتزاعية ـ ، فمعنى ثبوت الوجوب في نفسه كمعنى ثبوت ساير الصفات الانتزاعية / ٢٥ DB / يرجع إلى ثبوت الذات المتّصفة به. ولمّا كان الوجود هنا هو الموصوف فمعنى ثبوته هو ثبوت الوجود في نفسه. وتلخيص الجواب على تقدير الادعاء الأوّل والثاني : انّ الوجود ليس إلاّ ذاتا بسيطة واحدة هي حقيقة الوجود الخاصّ ، والوجوب أمر انتزاعي له ، حمله عليه لا يقتضي / ٢٦ MA / التأخّر للاستلزام ، وليس له ثبوت في نفسه حتّى يلزم تأخّره للتعينية.

وأنت تعلم انّه يلزم على هذا أن لا يكون لشيء من الوجود والوجوب ـ سواء

__________________

(١) الاصل : ـ فالوجوب مرتبتها.

١١٤

كان لذاته أو لغيره ـ تقدّم وتأخّر على الآخر ، مع انّه هنا دلالتان متنافيتان إحداهما ـ وهي المقدّمة المشهورة ـ تدلّ على تقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وأخراهما ـ وهي كون الوجوب نعتا ـ تدل على العكس. وما ذكره هذا القائل يدلّ على أنّ كون الشيء نعتا ـ إذا كان انتزاعيا ـ لا يوجب تأخّره ، وبذلك يثبت التلازم والاتحاد في الوجود بين الوصف والموصوف. ولا ريب أنّه مخالف للدلالة الأولى ـ أعني : المقدّمة المشهورة ـ ، لاقتضائها تقدّم الوجوب ، وما ذكره لا يدفعها ولا يتخرّج منه جواب عنه.

فالحقّ في الجواب أن يقال : للموجود وجوبان : وجوب سابق ، ووجوب لاحق ، فالوجوب المقدّم على الوجود هو الوجوب السابق ، وليس هو نعتا للوجود لتقدّمه عليه وعلّيته له ـ وهو المراد من المقدّمة المشهورة ـ ، والوجوب الّذي هو نعت للوجود ومتأخّر عنه هو الوجوب اللاّحق. وإذا ثبت ذلك نقول : لا ريب في أنّ تقدّم الوجوب السابق على الوجود وتأخّر الوجوب اللاّحق عنه إنّما هو في الوجودات الامكانية ، ولا يتصوّر ذلك في واجب الوجود ، فانّ الوجوب فيه عين ذاته لا يتصوّر له تقدّم وتأخّر ، فالاستدلال بطبيعة الوجود على طبيعة الوجوب لو سلّم انّه استدلال من المتقدّم ـ أعني : الوجود ـ على المتأخّر ـ أعني : الوجوب ـ انّما يصحّ في الوجود والوجوب اللّذين للممكن دون الواجب ، لأنّ الاستدلال من وجود الواجب على وجوبه ليس استدلالا من المتقدّم على المتأخّر ، لأنّ الوجوب عين ذاته. مع أنّه وقع الاستدلال من الوجودات الامكانية ـ الّتي هي معلولات للواجب ـ على وجوب الوجود الّذي هو عين الواجب ، فأين ذلك من اللمّ؟!.

وبما ذكرنا ثبت وتحقّق انّ جميع براهين اثبات الواجب إنّية ولا يمكن الاستدلال عليه باللمّ.

ولكن هنا دقيقة لا بدّ أن يشار إليها ، وهو أن الأكثر علّلوا انتفاء طريق اللمّ في اثباته ـ تعالى ـ بانّه ـ تعالى ـ علّة لكلّ شيء بواسطة أو بدونها ، فبأيّ شيء استدلّ به عليه كان استدلالا من المعلول على العلّة ، فيكون إنّيا ولا يتصوّر طريق اللمّ.

١١٥

ويرد على هذا التعليل : انّ الثابت بالبرهان ليس إلاّ الوجود الرابطي لا الوجود الأصيل ، لانّ ما ثبت بالبرهان مطلقا يكون لا محالة مفادّا لقضية المستنتجة من مقدّماته ـ أعني : الحكم المطلوب ـ ، وحاصله إمّا ثبوت شيء لشيء أو نفيه عنه ـ أي : ثبوت الأكبر للأصغر أو نفيه عنه ـ ؛ ويقال لهذا الثبوت والنفي « الوجود والعدم الرابطيان » ، وأمّا ثبوت الأكبر في نفسه ـ أي : الوجود الأصيل ـ فليس مستفادا من القضية المذكورة ولا مستنتجا من البرهان.

وإذا كان الثابت بالبرهان هو وجوده الرابطي دون وجوده الأصيل ـ تعالى شأنه ـ فنقول : ما هو علّة لكلّ شيء انّما هو وجوده الأصيل ـ عزّ شأنه ـ لا وجوده الرابطي ، فيجوز أن يكون وجوده الرابطي معلولا لبعض الاشياء مع كون وجوده الأصيل علّة للجميع ؛ فتعليل الأكثر في إنّية هذه البراهين دون لمّيتها عليل ، لأنّ جميع هذه البراهين ـ سواء كان الربط فيها هو الموجود كما هو منهج الإلهيين ، أو المتحرّك كما هو طريقة الطبيعيين ، أو الحادث أو الممكن بشرط الحدوث كما هو مسلك المتكلّمين ـ لا يثبت منها إلاّ الوجودات الرابطية ـ أي : وجود موجد واجب بالذات للموجودات ومحرّك غير متحرّك للمتحرّكات ومحدث صانع للعالم ـ ، ولا دلالة لشيء منها على وجود اصيل بواحد من الموجد والمتحرّك والمحدث ، ولا يثبت برهان وجود أصيل لشيء مطلقا. فالعلّة في انية بعض البراهين ولمّية بعض آخر انّ الاوساط الّتي تؤخذ في البراهين إن كانت باعتبار النسبة الّتي بينها وبين الأصغر علّة للوجودات الرابطية الّتي هي مفاد البرهان في الواقع كما هي علّة لها(١) الذهن كانت البراهين لمّية ، وإلاّ كانت انية. والتحقيق أنّ شيئا من الأوساط المأخوذة في براهين اثبات الواجب باعتبار ثبوتها لموضوعاتها ليست علّة للوجودات الرابطية للواجب ـ تعالى ـ في الواقع ـ أعني : وجود موجد بالذات أو محرّك غير متحرّك أو محدث صانع للعالم ـ ، اذ لا تقدّم ذاتيا لكون الممكن موجودا أو متحرّكا أو حادثا على كونه ذا موجد أو ذا محرّك أو ذا محدث ، بل علّيتها له منحصرة في الذهن ؛ فلا ينعقد البرهان اللمّي على شيء من تلك المناهج.

__________________

(١) الاصل : كما هي عليها.

١١٦

فان قلت : إذا كان الحاصل من البراهين هو العلم بوجوده / ٢٦ MB / الرابطي ، فمن أين يحصل العلم بوجود الاصيل ـ تعالى شأنه ـ؟ ، مع انّا بعد تمام البرهان نقطع بوجوده الأصيل كما نقطع بوجوده الرابطي ؛

قلت : العلم بالوجود الأصيل بعد حصول العلم بالوجود الرابطي الّذي هو مقتضى البرهان انّما يحصل من انضمام مقدّمة خفية بديهية مركوزة في العقول إلى مقتضى البرهان ، فيترتّب معها ترتيبا سريعا خفيا يكون منتجا لهذا العلم ـ أي : العلم بوجوده الاصيل ـ. والظاهر انّ تلك المقدّمة / ٢٦ DA / الخفية هي ما ارتكز في العقول من أنّ الأمور العينية الّتي وجودها في أنفسها ممكن بالامكان العام إذا كانت معدومة في انفسها لا يمكن أن تكون موجودة لغيرها ، فاذا ثبت بالبرهان وجودها لغيرها انتقل الذهن بمعاونة هذه المقدّمة إلى وجودها في أنفسها أيضا من غير افتقار إلى تجشّم ترتيب المقدمات والاستنتاج. والظاهر انّ نظر من قال : الانتقال إلى الوجود الحقيقي انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، إلى ما قلناه ؛ وكذا نظر من قال : انّ الترتّب والانتاج لحصول هذا العلم انّما هو من قضايا قياساتها معها إلى ما ذكرناه ؛ لأنّ هذه القضايا هي القضايا المسمّاة « بالفطريات » ، المعرّفة « بقضايا يحكم بها العقل بواسطة لا يعزب عن العقل عند تصور الطرفين » ، كالحكم بأنّ الأربعة زوج ، لانقسامها بمتساويين ؛ هذا.

وقيل : حصول هذا العلم بعد حصول النتيجة من البرهان إنّما هو بطريق الاتّفاق كحصول التصديق بعد تصور الطرفين ؛ وهو كما ترى.

المنهج الثاني

منهج بعض الحكماء

وهو الاستدلال بمجرّد الامكان الوقوعي

والمراد به أن يكون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محال ؛ والممكن بالامكان الذاتى اعمّ من أن يلزم من فرض وقوعه محال أم لا. وأنت خبير بأنّ ما مرّ من أدلّة الالهيين كانت مبتنية على اخذ الوجود بالفعل والاستدلال به على الواجب ؛

١١٧

والغرض من هذا المنهج أنّه يكفي الامكان الوقوعي والاستدلال عليه باجراء البراهين المذكورة من دون التمسّك بالوجود بالفعل(١) .

وتقريره : انّه لا شكّ في انّه يمكن أن يقع ممكن ما موجودا في الخارج ، وهذا الفرض لا يصحّ إلاّ مع وجود الواجب ـ تعالى شأنه ـ ، اذ لولاه لزم من فرض وجوده محال ، وهو الدور ـ إذ امكان وقوع موجود ما على هذا التقدير يتوقّف على امكان وقوع ايجاد ما وبالعكس ـ. أو نقول : وقوع طبيعة الموجود بما هو موجود يجب أن يكون بلا مبدأ وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ووقوع طبيعة الممكن بما هو ممكن لا بدّ له من مبدأ ، فلو انحصر الموجود الممكن الوقوع في الممكن لزم التناقض. أو نقول : مجموع الأفراد الّتي يمكن وقوعها لا بدّ له من علّة ولا يمكن أن تكون العلّة هي المجموع ولا جزئه ، بل يكون أمرا خارجا عنه ، فعلى فرض عدم الواجب يلزم أن لا يكون ذلك المجموع ممكنا بالامكان الوقوعي ، وقس على ما ذكر ساير البراهين.

قال بعض الافاضل : ولا يخفى عليك سخافة هذا المنهج ، اذ لا يمكن دعوى الامكان الوقوعي لممكن إلاّ من جهة العلم بوجوده ، إذ ما لم يعلم ذلك احتمل عند العقل أن يكون وقوعه مستلزما لمحال ، سيّما مع ما يتراءى من لزوم الدور وغيره من المفاسد. وإذا كان العلم من جهة العلم بوجوده فالتمسّك به لا بالوجود من قبيل ما اشتهر من الظرافات : انّ رجلا من المستظرفين هيّأ مجمعا من الرجال وقال : إنّي أعددت لكم دواء نافعا جدّا لاجل البراغيث أمنّ عليكم ببيعه منكم ؛ فبعد ما اشتروه منه بالالتماس والمنّة سألوه عن كيفية حاله وطريقة استعماله؟ ؛

فقال : طريقه أن يؤخذ البرغوث ويذر الدواء في عينه حتّى يصير أعمى! ؛

قالوا : انّا إذا أخذنا البرغوث فلم لم نقتله ونسترح من هذه الزحمة؟ ،

فقال : هذا أيضا يكون ، انتهى.

وما ذكره جيّد.

__________________

(١) راجع : المباحث المشرقية ج ٢ ص ٤٤٨. حيث اخذ الامام في طريقة الامكان ـ التى هي عنده معتمد الحكماء ـ وجود الموجودات بالفعل.

١١٨

المنهج الثالث

من مناهج الحكماء ، منهج الطبيعيّين منهم

وهو النظر في طبيعة الحركة

والمنقول عنهم في اثبات الواجب على هذا المنهج طريقان :

الطريقة الأولى : هي أنّ كلّ متحرّك سواء كانت الحركة في ذاته ـ كالممكنات المنتقلة من الليسية الذاتية إلى الايسية ـ أو في صفاته ـ كالمتحرّكات في الوضع والأين وغيرهما من المقولات ـ يحتاج إلى محرّك ، لأنّ الحركة أمر حادث لا بدّ له من علّة ، واستناد كلّ حركة إلى محرّك من البديهيات العقلية. ولا يجوز أن يكون المحرّك عين المتحرّك ، لأنّ الشيء لا يجوز أن يكون محرّكا لنفسه ، فلا بدّ أن يكون المحرّك غير المتحرّك ويمتنع ذهاب سلسلة المحرّكات إلى غير النهاية ، فلا بدّ أن تنتهى سلسلة المحرّكات إلى محرّك أوّل غير متغيّر في صفاته / ٢٧ MA / ـ كالمتحرّك في المقولات المشهورة ـ ، ولا في ذاته ـ كالممكن المنتقل من الليس إلى الايس ـ. والمحرّك الأوّل الثابت الذات والصفات هو الواجب الحقّ ـ تعالى شأنه(١) ـ.

وأورد عليه : بانّ الانتقال من الليس إلى الأيس إن اريد به الانتقال من العدم الممتدّ الوجود ـ أي : الحدوث الزماني ـ ؛ ففيه : انّ ذلك الانتقال ليس بحركة حقيقية ، إذ لا يوجد فيه التدريج المعتبر في الحركة ولو اصطلحوا على تسمية ذلك الانتقال مع كونه دفعيا حركة فلا مشاحة فيه ، إلاّ انّه بعينه هو / ٢٦ DB / الحدوث الّذي اعتبره المتكلّمون في طريقتهم ، فيرجع منهجهم إلى منهجهم. وإن اريد به الانتقال من العدم الصرف إلى الوجود ـ أي : الحدوث الدهري ـ أو الانتقال ممّا ثبت للممكن بالذات ـ أعني : عدم اقتضاء الوجود ـ إلى ما ثبت له بالغير ـ أعني : اقتضاء الوجود ـ ؛ ففيه : مع عدم كونه

__________________

(١) راجع : المباحث المشرقية ، ج ٢ ص ٤٥١ ؛ شوارق الالهام ، ج ٢ ص ٤٩٥ ؛ الحكمة المتعالية ، ج ٦ ص ٤٢.

١١٩

حركة أنّه يرجع إلى الايجاد الّذي اعتبره الالهيون ، فيرجع طريقة النظر في الحركة إلى طريقة النظر في الوجود ، ومجرّد تغيّر الألفاظ لا توجب الاختلاف في المعنى. وحينئذ فتتميم الحركة المأخوذة في الدليل بحيث يتناول الانتقال من الليس إلى الايس غير صحيح ، بل اللازم أن يحذف ذلك ويخصّ الحركة بالحركة في المقولات المشهورة ؛

وحينئذ يرد عليه : انّا لا نسلّم انّ ما ينتهى إليه سلسلة الحركات ـ أعني : المحرّك الأوّل ـ يجب أن يكون واجب الوجود بالذات وثابت الذات والصفات ، لجواز أن يكون ذلك المحرّك قديما آخر غير الواجب لم تكن له الحركة في المقولات الّتي سمّوها الحركة في الصفات ، وإن كان من العدم إلى الوجود لجسم أو جسماني ساكن غير متحرّك في مقولة أو نفس أو عقل ، فالحركة الأولى الكلّية أنّى تنتهي إليها سلسلة الحركات ـ أعني : الحركة الفلكية ـ يجوز أن يكون محرّكها هو طبيعة الفلك أو النفس الفلكية أو واحد من العقول. والحقّ أنّه لا يجوز أن تكون الحركة الفلكية طبيعية ولا مستندة إلى جسم ـ لما يأتي في طريقتهم الثانية ـ ، ولكن استنادها إلى النفوس الفلكية غير بعيد على ما ذهب إليه الحكماء ، إلاّ انّه يمكن أن يثبت المطلوب به ولكنّه يرجع إلى طريقتهم الثانية ، ويعرف حقيقتها.

الطريقة الثانية للطبيعيّين : إنّ حركات الأفلاك ليست مستندة إلى اجسامها ـ لامتناع كون الشيء محرّكا لنفسه ، نظرا إلى استحالة كون الشيء فاعلا وقابلا من جهة واحدة ، كما بيّن في موضعه ـ ، ولا يجوز أن تكون تلك الحركات قسرية ـ إذ الحركة القسرية إنّما تكون إلى الجهة المخالفة لمقتضى الطبع فحيث لا طبع ، كما يأتي ، فلا قسر ـ.

وأيضا : الحركة القسرية لا تكون إلاّ إلى الوسط أو من الوسط ويمتنع أن يتحرّك الفلك إلى الوسط أو إلى الفوق لكونه محدّدا لهما بمركزه ومحيطه ، بل حركته إنّما هو على الوسط ـ كما هو المشاهد المحسوس ـ ، فلا يكون قسرية. وأيضا : الحركة الأولى يجب أن تكون مبدعة لا بحركة ولا في زمان متقدّمة على جميع الحركات والحوادث بالطبع ، ولأجل ذلك لا يجوز أن تكون قديمة بالزمان ، لأنّ القديم بالزمان وان لم يسبقه العدم

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482