جامع الافكار وناقد الانظار الجزء ١

جامع الافكار وناقد الانظار12%

جامع الافكار وناقد الانظار مؤلف:
المحقق: مجيد هاديزاده
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: 482

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 482 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36067 / تحميل: 5265
الحجم الحجم الحجم
جامع الافكار وناقد الانظار

جامع الافكار وناقد الانظار الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
ISBN: ٩٦٤-٥٦١٦-٧٠-٧
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

بالزمان إلاّ أنّ الزمان يتقدّمه بالذات ، فله عدم ذاتي في مرتبة وجود الزمان ، لأنّ معنى انتساب القديم الزماني إلى الزمان وكونه فيه إنّما هو تأخّره عنه بالطبع ودخوله في سلسلة علله ، والمعلول من حيث هو معلول لا يخلوا من تأخّر عن علّته وعدم ما بالنسبة إليها وأمّا المبدع لا بحركة ولا فى زمان ـ وهو الحادث بالذات ـ وإن تقدّمه العدم بالذات ـ لتوقّف كون الشيء موجودا بغيره على عدم كونه موجودا بذاته ـ إلاّ أنّ العدم المتقدّم انّما هو العدم بالنسبة إلى علّته الفاعلية فقط ، لا بالنسبة إلى الزمان أيضا ـ كما في القديم بالزمان ـ ؛ وبذلك يظهر الفرق بين الحادث بالذات والقديم بالزمان.

وإذا كانت الحركة الاولى مبدعة لا بحركة ولا في زمان متقدّمة على جميع الحادثات نقول : لا يجوز أن تكون قسرية ، لأنّ القسر خروج عن الحالة الطبيعية ، فالمتحرّك بالحركة الأولى يجب أن يكون حينئذ مبدعا قبل القسر على حالة ولو قبلية بالذات ، ثمّ أخرج عنها بالقسر ؛ فهذا القسر مع الحالة السابقة عليه شيء قد حدث بعد ما لم يكن قبل هذه الحركة ثمّ حدثت هذه الحركة ، مع أنها تجب أن تكون متقدّمة على كلّ حادث ، هذا خلف! على أنّها لو كانت قسرية لكانت لها قاسر ، ولا يجوز أن يكون القاسر جسما أو جسمانيا لو كانت تلك الحركة غير متناهية ـ كما هو رأي الفلاسفة ـ ، لعدم جواز صدور الافعال الغير المتناهية عن الجسمانيات ـ كما يأتي ـ. ولو كانت متناهية لكان الافلاك المتحرّكة بتلك الحركات حادثة ، فثبت المطلوب. ولا يجوز أيضا أن تكون الحركة الفلكية طبيعية محضة خالية / ٢٧ MB / عن الإرادة لوجوب وقوف الطبيعة عند مطلوبها ، فانّ الميل الطبيعي هرب من موضع منافر للطبيعة منافرة جسمانية يطلب موضع ملائم لها ملائمة كذلك ، فاذا وصل إلى ذلك الموضع الملائم استقرّ فيه واستحال أن يفارقه ويعود إلى ما فارقه من الموضع المنافر ، مع أنّه ما من وضع من أوضاع الفلك إلاّ أنّه يعود إليه.

وأيضا لا تكون الطبيعة / ٢٧ DA / محرّكة إلاّ بعد أن تكون مقسورة على حال غير طبيعي ثمّ زال عنها القسر وخلّيت ونفسها. ولا ريب انّ زوال هذا القسم شيء قد حدث بعد وجود الحادث عند الحالة الطبيعية قبل هذه الحركة ، وقد عرفت وجود

١٢١

تقدّمها على جميع الحادثات ؛ هذا خلف. وإذا لم يجز أن تكون الحركات الفلكية صادرة عن قسر ولا عن طبع فبقى أن تكون اراديّة نفسانية صادرة عن أنفس شاعرة. ويجب أن تكون هذه الأنفس مجرّدة كلّية عاقلة ذوات ارادات وادراكات عقلانية ، لاستحالة صدور مثل هذه الحركات المنتظمة المنقسمة المستمرّة في مثل هذه المدّة عن ، الأنفس الجزئية المنطبعة الحيوانية ، لكون هممها قاصرة مقصورة على الأشياء الجزئية المنقطعة ، فانّ القوى الجسمانية(١) متناهية الأفاعيل والانفعالات. ثمّ لا بدّ لهذه الحركة المستمرّة الصادرة عن تلك الأنفس العاقلة من غاية ، ولا يجوز أن تكون غاياتها حيوانية من شهوة أو غضب أو غير ذلك من الاغراض الحيوانية الضعيفة ، لما علم من أنّ تلك الأنفس مجرّدة عاقلة كلّية لا حيوانية جزئية ، فلا يجوز أن تكون غاياتها غايات جزئية حيوانية ـ لتعاليها عنها ـ. وأيضا لا نموّ ولا تغذّي للسماء ، فلا كون لها من شيء حتّى تكون لها شهوة إلى ما يحصل به التكوّن ، ولا فساد لها ليكون لها غضب يدفع به ما يزاحمه ويفسده ، ولا يجوز أن تكون غايتها أيضا ما يرجع إلى العوالم السفلية والاجرام العنصرية ولا يصحّ صدور هذه الحركات العظيمة لأجلها ، لحقارة العوالم السفلية وخسّتها بالنسبة إلى النفوس الفلكية واجرامها والعالي لا يلتفت إلى السافل والاشرف لا يعنى بالأخسّ ، لأنّ الغاية لكلّ شيء يجب أن يكون ممّا لم يوجد فيه ويستكمل لأجلها وما يرجع إلى الاخسّ لا يحصل به استكمال للأشرف. نعم! يترشّح من حركاتها الخيرات والبركات الدائمة على السوافل ، فيضاد بالعرض لا قصدا وبالذات. وكذا لا يجوز أن تكون غاية الحركة لكلّ فلك ما يرجع إلى فلك آخر جسمه أو نفسه ؛ أمّا إذا كان الفلك الآخر أسفل فظاهر ـ لما مرّ ـ ، وأمّا إذا كان أعلى فلعدم فلك فوق المحدّد ، فلا بدّ أن لا تكون حركتها لأجل جسم فلكىّ أو نفس فلكية ، فيجب أن تكون غايتها أمرا غير جسماني ، بل شيئا نورانيا قدسيا مجرّدا عن المادّة بالكلّية يكون ذا قوة غير متناهية ، لا بأن يطلب ذاته ، بل بأن يطلب التشبه به باكتساب أوصافه الكمالية الغير المتناهية. فانّ المطلوب إن كان نيل امر جزئي معيّن فان كان ممّا ينال لوقفت إذا

__________________

(١) الاصل : على الاشياء القاصرة المنقطعة فان تقوى الجسمانية.

١٢٢

نالت ، وإن كان ممّا لا ينال لقنطت! ، فيجب أن يكون المطلوب امرا كلّيا متجدّدا دائم الحصول ؛ وليس هو إلاّ التشبّه بذات قدسية كمالاته غير متناهية بالفعل ، فيتصوّر تلك الكمالات الفعلية الغير المتناهية ويشتاق إليها فيحصل منه الفعلية الموجبة للتشبّه. وليس فعليته إلاّ بالحركات المتشابهة الّتي يخرج اوضاعها من القوّة إلى الفعل ، فانّ الفلك إن ثبت على وضع واحد بقيت ساير الاوضاع ابدا بالقوّة وليس له ما بالقوّة إلاّ الاوضاع ، لانّ جميع الأشياء غيرها فيه بالفعل. ولا يمكنه أن يجمعها ويخرجها إلى الفعل دفعة فيخرجها على التعاقب الدائم والتدريج المستمرّ بانفعال جرمه عن تصوّرات شوقية وهيئات نورية ، كما أنّ تفكّر الانسان في شيء من المعقولات تتبعه حركات وهيئات من بدنه ، فانّ الضرورة قاضية بأنّ هيئات كلّ من النفس والبدن يتعدّي إلى صاحبه.

ثمّ هذا الأمر المجرّد القدسى الّذي يطلب التشبه به إن كان واجبا ثبت المطلوب ، وإلاّ فينتهي إليه ـ دفعا للدور والتسلسل ـ.

هذه هي الطريقة الثانية للطبيعيين مع إيضاح وتبيين.

والايرادات الّتي يتصوّر أن تورد عليها وجوه :

منها : انّه يجوز أن تكون تلك الحركات طبيعية لا بمعنى الهرب من الموضع المنافر للطبيعة إلى الموضع الملائم والفرار من المركز إلى المحيط أو العكس ـ كما هو العرف المشهور في الحركات الطبيعية ـ ، بل بمعنى كونها من مقتضيات الطبيعة الفلكية واغراضها اللازمة. فكما انّ النار يقتضي بطبعها وصورتها النوعية التسخين والإحراق وبعض العناصر يقتضي الميل إلى المركز وبعضها الميل إلى المحيط ، كذلك يجوز أن يقتضي الطبائع الفلكية تلك الحركات الدورية ، فانّ العقل والتجربة شاهدان / ٢٨ MA / على أنّ كلّ طبيعة وصورة نوعية يقتضي فعلا خاصّا / ٢٧ DB / وأثرا مخصوصا ولا يحتاج معه إلى علّة أخرى ، فيجوز أن تكون الحركات الوضعية على النحو الخاصّ مستندة إلى الطبائع الفلكية على سبيل الايجاب كسائر افعال الطبائع ؛

والجواب : انّه لو اقتضى الأفلاك بطبعها تلك الحركات على سبيل الإيجاب فلا يخلوا أنها إمّا أن تكون متناهية ، أو لا ؛ فعلى الأوّل يلزم حدوث الافلاك و

١٢٣

وجودها بعد العدم ، فلا بدّ لها من موجد ، ولا يمكن أن يكون موجدها جسما أو جسمانيا ، فيجب أن يكون مجرّدا ثابت الذات ، فان كان واجبا فهو المطلوب وإلاّ ينتهي إليه ؛ وإن كانت غير متناهية استحال استنادها إلى الطبائع الفلكية ، لأنّ الفواعل المادية الجسمانية لا يجوز أن يكون شيء منها غير متناهى القوّة والتأثير ، فلا يجوز أن يفعل افعالا ويحرّك تحريكات غير متناهية ، لأنّ القوى الجسمانية تختلف ضرورة بحسب اختلاف فاعلية المادّة ، ومراتب القابليات تنتهي في الضعف إلى العدم ويستمرّ في الشدّة لا إلى نهاية ، فكلّ مرتبة من القابلية محصورة بين طرفين. وأيضا كلّ مرتبة منها أقلّ ممّا فوقها ، ولا يجوز أن توجد مرتبة تكون أعلى المراتب ولا يتصوّر فوقها مرتبة ، لأنّ هذه المرتبة أقلّ بالضرورة من نفسها مع بعض المراتب السابقة ، وكلّ اقلّ متناه ، وإذا كانت القابلية متناهية بمعنى امكان وجود مرتبة فوقها لكانت القوة الّتي بإزائها أيضا متناهية ـ يعنى : يمكن أن تتحقّق قوّة تكون أقوى وأكثر تاثيرا منها ـ. وأيضا إنّا إذا فرضنا انقسام جسم الفلك مثلا بقسمين فالقوّة الّتي سارية في أحد القسمين ما يكون تحريكها إلى غير النهاية ، فيكون الجزء مثل الكلّ وهو محال ، وامّا أن يكون تحريكها إلى غاية متناهية فالقوّة الّتي بإزاء القسم الأخير كذلك ، فيكون المجموع المشتمل على المتناهيين متناهيا.

فان قيل : القوّة السارية في كلّ الفلك تقوي على تحريك الكلّ إلى غير النهاية ، والسارية في نصف الفلك تقوي على تحريك النصف إلى غير النهاية ، والسارية في الربع تقوي على تحريك الربع إلى غير النهاية وهكذا إلى غير النهاية ، وهكذا إلى أن تنتهي إلى القوّة السارية في أقلّ جزء منه ، فانّها تقوي على تحريكه إلى غير النهاية ، فالقوّة الّتي يصدر منها الأفعال الغير المتناهية بحسب المدّة وان اختلفت مراتبها بحسب اختلاف مراتب القابليات ولا تنتهى القوّة إلى ما لا يتصوّر قوة أقوى منها وأكثر تأثيرا منها ، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع من عدم صدور الأفعال الغير المتناهية مطلقا ، بل يكفي لتصحيح الاختلاف أن يكون للأقوى فعل غير متناه يكون أصعب وأشدّ أو فعل آخر أيضا غير متناه ، كما أنّه إذا فرض صدور غير متناهيين بحسب الشدّة أو العدّة من

١٢٤

قوّتين يكفي لتصحيح اختلاف القوّتين قوّة وضعفا اختلاف الغير المتناهيين بحسب المدّة ، فبعض القوابل مستعدّ لافاضة القوى الّتي لا يفعل إلاّ أفعالا متناهية وبعضها مستعدّ لافاضة القوى الّتي تفعل أفعالا غير متناهية بأحد الوجوه ، وهذا الصنف من القوى إن كان ممّا يصدر عنه الغير المتناهي بحسب المدّة وإن امكن اختلافها قوّة وضعفا إلاّ أنّ ذلك الاختلاف لا يصير منشأ التفاوت والاختلاف في زمان الفعل حتّى يقال : انّ الاختلاف بحسب الزمان في غير المتناهيين بحسب المدّة غير جائز ، بل يكفى لتصحيح اختلاف القوّتين كون ما يصدر عن إحداهما أشدّ أو أكثر عددا ممّا يصدر عن الآخر ، وإن كان الصادران عنهما غير متناهيين بحسب المدّة ، والحاصل : انّ القوى الّتي يصدر عنها الأفعال الغير المتناهية بحسب المدّة لا يصير اختلافها بحسب اختلاف القابلات منشئا لاختلاف الأفعال في المدّة حتّى يقال آنفا : غير المتناهيين لا يختلفان بحسب المدّة ، بل يصير منشئا لاختلاف الأفعال بحسب العدّة والشدّة بأن يصدر من إحدى القوّتين غير متناهيين أو غير متناه أشدّ ومن الأخرى غير متناه واحد أو غير متناه أضعف ، فكلّ جزء من الفلك مستعدّ لحصول القوّة الّتي تحرّكه حركة غير متناهية ، والقوّة الّتي في جزءين منه وان كانت أزيد من الّتي في جزء واحد ؛ ويجب أن تصير هذه الزيادة منشئا لزيادة التأثير إلاّ أنّ زيادة التأثير لا يتحقّق بحسب المدّة ، بل بحسب الشدّة / ٢٨ MB / بأن يتحرّك لأجل هذه الزيادة جزء آخر إلى غير النهاية.

وليس للخصم أن يقول : يلزم البتة أن يصير الزيادة في القوّة منشئا للزيادة في المدّة ؛

ثمّ / ٢٨ DA / إنّه إذا أخذت القابلية الّتي في جزء من الفلك مثلا والّتي في جزء من الأرض مثلا وأخذت قوّتاهما معا أزيد من القوّة المختصّة بالجزء الفلكي فيجب أن تكون الحركة الصادرة عنهما معا أطول مدّة من الحركة الصادرة من القوّة الّتي في الجزء الفلكي فقط ، لأنّ بإزاء كلّ منهما حركة يقتضيها إحداهما تقتضي حركة معينة متناهية ، والأخرى تقتضي حركة غير متناهية بحسب الفرض. فاذا اجتمعت القوّتان تحصل الحركتان فتكون الحركة الصادرة من الجزء الفلكي متناهيا ، لأنّ الأقلّ متناه ، لأنّ

١٢٥

القابليّتين والقوّتين المذكورتين متخالفتان بالحقيقة والنوع. ولا يجوز أن يكون ضمّ إحداهما إلى الاخرى منشئا لزيادة تأثيرها ، بل يصير معاوقة عن تاثيرها الخاصّ بها ، فالقوّة الّتي في حجر مثلا إذا فرض ضمّها إلى القوّة الّتي في جزء من الفلك لا يمكن أن يصير منشئا لزيادة تاثيره ، بل يعاوقها عن تاثيرها ، لأنّ القوّة الحجرية تقتضي الحركة المستقيمة والقوّة الفلكية تقتضي الحركة المستديرة ، فكيف يتحقّق بينهما التعاون؟! ، بل المعين لإحداهما إنّما هو ما يكون من نوعه. وهو لا يصير منشئا للازدياد بحسب المدّة ، بل بحسب الشدّة أو العدّة ، فلو فرض القوّة الّتي في جزءين من الفلك موجودة في جزء واحد لصار منشئا لزيادة حركته بحسب الشدّة بأن تصير حركته سريعة ضعف ما كان لقوّته المختصّة به ؛

قلنا : لا ريب في تحقّق الاختلاف في كلّ واحد من المدّة والعدّة والشدّة زيادة ونقصانا ، والنقصان في كلّ واحد منها ينتهى إلى العدم ، والزيادة تتصوّر إلى غير النهاية. إلاّ أنّ حصول الزيادة في كلّ واحد منها إلى حدّ يصل إلى غير النهاية في الخارج غير ممكن ، لان الاختلاف في كلّ واحد زيادة ونقصانا انّما هو لأجل الاختلاف في القوّة وهو لأجل الاختلاف في القابلية ، ومراتب القابلية تنتهي في الضعف إلى العدم وتستمر في الشدّة إلى غير النهاية فكلّ مرتبة من القابلية الّتي بإزاء القوّة الّتي بإزاء مرتبة من التأثير في أحد الاقسام الثلاثة محصورة بين طرفين. وأيضا كلّ مرتبة من القابلية الّتي تصير منشئا لصدور الفعل بأحد الوجوه أقلّ ممّا فوقها ، ولا يجوز أن توجد مرتبة تكون أعلى المراتب ـ لأنّ هذه المرتبة اقلّ بالضرورة من نفسها مع بعض المراتب السابقة ، وكلّ اقلّ متناه ـ والحاصل : انّ الاختلاف بحسب المدّة ثابت وهو إنّما يكون بحسب اختلاف القوّة والاختلاف بحسب القوّة انّما هو بحسب اختلاف القابلية ، فالقابلية الّتي تصير منشئا لاختلاف الفعل بحسب المدّة مراتبها تنتهي في الضعف إلى العدم وتستمرّ في الزيادة إلى غير النهاية ، فكلّ مرتبة منها محصورة بين حاصرين ، وكلّ مرتبة منها اقلّ ممّا فوقها ولا يجوز أن توجد مرتبة تكون أعلى المراتب ـ لأنّ هذه المرتبة اقلّ من نفسها مع بعض المراتب السابقة ـ.

١٢٦

والقول بانّ اختلاف القابلية والقوّة حينئذ يصير منشئا للاختلاف في الشدّة والعدد كلام واه جدّا! ، لأنّا أخذنا القابلية والقوّة اللتين تصيران منشئا للاختلاف بحسب المدّة ، وأيّ دخل لهما في الاختلاف من حيث الشدّة والعدد؟! ؛ فالقابلية والقوّة اللتان في جزء من الفلك وصارتا باعثتين للتحريك إلى غير النهاية بالفرض يمكن أن توجد فوقهما قابلية وقوة تكونان أقوى وأكثر تاثيرا من جنسهما ـ أي : ممّا يقتضي التأثير بحسب المدّة ـ ، لما تقدّم من البرهان ، وهو غير جائز ، لعدم الاختلاف في البرهان(١) بين غير المتناهيين بحسب المدّة.

وبما ذكر يظهر انّه لا يجوز أن يكون محرّكها جسما أو(٢) جسمانيا آخر غير الافلاك وقواها الجسمانية المنطبعة.

ومنها : انّ الغاية للنفوس الفلكية وإن لم يجز أن تكون شهوية ولا غضبية ، إلاّ انّه لم لا يجوز أن تكون الغاية لها صلاح النظام الجملي والعناية الكلّية؟.

فان قيل : ذلك / ٢٩ MA / يستلزم فعل العالي للسافل واعتناء الأشرف بالخسّ؟

قلنا : كما في فعل الواجب ، والجواب الجواب من دون تفاوت.

والجواب : انّ تلك الحركات إن كانت متناهية لزم حدوث الافلاك ونفوسها وصيرورتها موجودة بعد العدم ، فثبت به المطلوب ؛ وإن كانت غير متناهية لم يمكن أن يصدر عنها إلاّ إذا كان محرّكها الغائي جوهرا عقليا مفارقا ذا قوة غير متناهية وتحرّكها على سبيل الامداد والتشويق ، لأنّ النفس من حيث انّه نفس كالجسم والجسمانيات في عدم امكان صدور الأفاعيل الغير المتناهية عنه ؛ كيف لا والنفس أيضا قوة جسمانية من حيث الفعل ما دام نفسا وان تجرّدت من حيث الذات؟! ، وأنّى يمكن أن يصدر عنه التاثيرات والافاعيل الغير المتناهية إلاّ أن يمدّها جوهر عقلي / ٢٨ DB / يكون ذا قوة غير متناهية؟! ، والتحريكات الغير المتناهية من القوى الجسمانية على سبيل الامداد(٣) والتأييد من ذي قوّة غير متناهية جائز لأنّ حصول الغير المتناهي

__________________

(١) الاصل : الزمان.

(٢) الاصل : جسما أو.

(٣) الاصل : الامتداد.

١٢٧

حينئذ انّما هو منه لا منها ـ ، فالمحال حصول الأفاعيل الغير المتناهية عن القوى الجسمانية على الانفراد والاستقلال.

فان قيل : ما يدلّ على استحالة صدور التاثيرات والأفاعيل الغير المتناهية من الجسم والجسمانيات على الانفراد يدلّ على استحالته على الإمداد أيضا ؛ بل يدلّ على استحالة حصول التاثيرات والانفعالات الغير المتناهية منهما أيضا لأنّ صدور التأثيرات الغير المتناهية على سبيل الامداد والحصول من الغير وقبول التأثيرات والانفعالات(١) الغير المتناهية يختلف باختلاف قابليات المادّة ، ومراتب قابليتها متناهية ، لأنّ كلّ مرتبة منها محصورة بين طرفين ويمكن أن يوجد ما هو فوقها ـ لما تقدّم بعينه ـ ؛

قلنا : لو سلّم ما ذكر لكان مؤكّدا لحقّية الشقّ الاوّل ـ أعني : تناهي تلك الحركات وحدوث الافلاك ونفوسها ـ. وقد علمت ثبوت المطلوب ، فلا يقدح فيه حينئذ امكان استنادها إلى القوى الجسمانية أو إلى النفوس الفلكية من دون حاجة إلى امداد من الجوهر العقلى.

ومنها : إنّا لا نسلّم استنادها إلى النفوس الفلكية ، ولم لا يجوز أن يكون محرّكها الفاعلي جوهرا عقليا محضا مفارقا دون الجواهر النفسية؟ ؛

قلنا : الجوهر العقلي المحض لثبوته على حالة واحدة لا يمكن أن يصدر عنه إلاّ ما هو ثابت على حالة واحدة ولا يجوز أن يصدر عنه الأمر المتغيّر المتبدّل فيكون الأرض ـ لثبوته ـ دائما على حالة واحدة يمكن أن يصدر عن علّة ثابتة. وأمّا الحركة الوضعية الّتي هي خروج الأوضاع وتبدّلها وتغيرها فلا يمكن أن يصدر عن ثابت على حالة واحدة ، بل يجب أن يكون محرّكها في كلّ تحريكه على حالة مغايرة للحالات الّتي ثابتة له في التحريكات الأخر. فالمحرّك الواحد ما لم يسنح له حالات متجدّدة لم يمكن أن تصدر عنه الحركة ، لأنّ الانتقال من حدّ أوّل إلى حدّ ثان غير الانتقال من الحدّ الثاني إلى حدّ الثالث ، والمتغايران لا يجوز أن يصدرا عن واحد من جميع الجهات ،

__________________

(١) الاصل : الانفصالات.

١٢٨

والتأمّل في أصناف الحركة يفيد القطع بذلك. فانّ المحرّك في الكيف يختلف تحريكه لاختلاف كيفيته ، ففي كلّ تحريكه له كيفية خاصّة يصير لأجلها منشئا لتلك التحريكة ، وهي مغايرة لباقي الكيفيات الّتي ثابتة له في التحريكات الأخر. وكذلك الطبيعة الّتي تصدر عنها الحركة الطبيعية يتجدّد له التحريكات لأجل تجدّد الحالات اللاحقة بها. وأقلّها تجدّد مراتب القرب والبعد إلى الغاية المطلوبة ، فانّ كلّ مرتبة من مراتب القرب إلى الغاية إذا لحقت بالطبيعة أوجب صدور حركة جزئية منها موجبة للوصول إلى مرتبة أخرى أقرب إلى الغاية ، وهي توجب حركة أخرى موجبة لقرب آخر ، وهكذا إلى أن يصل إلى المطلوب. وكذلك المتحرّك في الحركة الارادية ـ أعني : النفس ـ لا بدّ من تجدّد ارادتها وتغيرها حتّى يتجدّد تحريكاتها ولا بدّ من كون ارادتها جزئية لتتحقّق الارادات الجزئية ، لأنّ الإرادة الكلّية أمر واحد نسبتها إلى جزئيات الحركة نسبة واحدة ولا توجب حركة جزئية ما لم يتشخّص ولم يصر جزئية ، لانّ الإرادة الكلّية لا وجود لها.

فمن أراد أن يتحرّك إلى موضع معين لا يتحرّك رجله ما لم تتجدّد له إرادة جزئية ، فاذا احدثت له إرادة جزئية تحدث له خطوة وبعد تلك الخطوة يحدث له تصور جزئي وتنبعث عنه إرادة / ٣٠ MA / جزئية أخرى توجب خطوة ثانية تحدث بها إرادة جزئية أخرى موجبة لخطوة ثالثة ، وهكذا إلى أن يتمّ المسافة المقصودة. فالحركات الجزئية يقتضيها الارادات الجزئية الّتي تقتضيها التصوّرات الجزئية ، والحركة الكلّية تقتضي دوام الحركة إلى حين الوصول إلى الغاية المطلوبة ، فالحادث حركة وتصوّر وإرادة ، فالحركة تحدث بالإرادة الجزئية والإرادة الجزئية تحدث بالتصور الجزئي مع الإرادة الكلّية والتصوّر الجزئي يحدث بحركة متجدّدة. فالحركة الفلكية إذا كانت ارادية لا بدّ أن يكون مبدأها الفاعلي متغيرا بتغير الارادات والتصوّرات الجزئية ، والمتغير بتغير التصورات والارادات يكون نفسا ، لا عقلا.

ومنها : انّا نسلّم أنّ محرّكها الغائي يجب أن يكون مفارقا عن المادّة بالكلّية ، الاّ أنّا لا نسلّم كونه واجبا ، بل اختلاف حركاتها يدلّ على تعدّد محرّكها الغائي ، لأنّ المشبّه به لو كان واحدا لتشابهت الحركات. وتوضيح ذلك أنّ كثرة الأفلاك المعلومة بالرصد و

١٢٩

العيان دلّت على اختلاف / ٢٩ DA / طبائعها بالنوع ، لأنّها لو كانت من نوع واحد لكانت الكلّ متواصلة ، لأنّ موجب التباين إنّما هو الاختلاف في الطبع ولذا ترى كلّ جسمين إذا كانا من نوع واحد وصب أحدهما على الآخر يختلطان(١) بحيث يصيران جسما واحدا(٢) ـ كالماءين والدهنين ـ ، واذا كانا من نوعين ـ كالدهن والماء ـ لا يختلطان مع الانصباب ؛ فالافلاك لو كانت من نوع واحد لكانت الكلّ متواصلة. كيف لا ونسبة اجزاء كلّ فلك حينئذ إلى أجزاء الفلك الآخر كنسبة اجزائه بعضها إلى بعض؟!.

وأيضا لو كانت من نوع واحد لجاز أن يتحرّك الأسفل إلى مكان الأعلى وبالعكس ـ كما في أجزاء الماء والهواء ـ ، ولو جاز ذلك لكانت قابلة للحركة المستقيمة ، وهو باطل ـ على ما بيّن في موضعه ـ.

وإذ تحقّق اختلافها بالنوع نقول : لا ريب انّ هذه الاجسام السماوية المختلفة في الطبيعة النوعية لا يجوز أن يكون بعضها علّة للبعض ، لاستحالة أن يكون الجسم سببا لايجاد الجسم ـ لما تبيّن في موضعه من أنّ تأثير الجسم إنّما يكون بمشاركة الوضع من المماسة أو المجاورة أو المحاذاة ـ ، فتأثيره يتوقّف على وجود أمر ذي وضع حتّى تؤثر فيه.

ولذا ترى أنّ النار تسخّن(٣) ما يكون ملاقيا لجسمها أو قريبا منه ، دون ما كان بعيدا منه ؛ والشمس تضيء ما كان مقابلا لجرمها أو ما هو في حكم المقابلة دون ما هو مستور عنها. وما يشاهد من حصول بعض العناصر من بعض ـ كتكوّن الماء والنار من الهواء مثلا ـ فليس ذلك من ايجاد جسم لجسم آخر ، بل مادّة الهواء تستعدّ لأجل اسباب ترد عليها لفيضان صورة أخرى من فاعل غير جسماني ، مع أنّ حصول الصورة المائية والنارية إنّما هو من مادّة سابقة ، فيتحقّق الوضع الّذي هو شرط في تأثير الجسم في الجسم. وما ثبت امتناعه إنّما هو تأثير الجسم في غيره من غير مشاركة وضع ووجود مادّة.

فان قيل : كما يجوز صدور القوى الجسمانية من المفارق عن المادّة بالكلّية من دون

__________________

(١) الاصل : يختلفان.

(٢) الاصل : وهذا.

(٣) الاصل : انّ الماء المسخن.

١٣٠

علاقة وضعية ونسبة جسمية فليجز عكسها ، لاشتراك الدليل وبحكم الفرق ؛

قلنا : الفرق قائم والدليل انّما يدلّ على عدم جواز تأثير الجسمانيات بدون الوضع ، لا على عدم جواز تأثير المفارق بدونه أيضا ؛ بل البرهان قائم على عدم توقّف تأثيره على الوضع. وبيان الجميع : انّ الجسمانيات من الصورة كالصور الجسمية والنوعية وغيرها من القوى الجسمانيّة متقوّمة بالفعل بموادّ الاجسام فقوامها انّما هو بتلك الموادّ ، فقوام هذه الصور والقوى يتوقّف على حصول وضع ما لها وتوسّط تلك الموادّ في الوضع ، وإذا احتاجت في قوامها إلى توسّط المادّة في الوضع احتاجت في صدور الفعل عنها أيضا إلى توسّط المادّة في الوضع ، امّا بالنسبة إلى ذوات تلك الصور والقوى بأن لا يتحقّق فعلها بدون أن يكون لمحلّها ومتعلّقها وضع ما قطّ ـ إذ فعل المتقوّم بالمادّة لا يكون إلاّ بواسطة المادّة ، والمادّة المقارنة لها لا بدّ لها من وضع ما ، إذ كلّ جسم له وضع على الاطلاق البتة ـ ، وإمّا بالنسبة إلى المنفعل عنه بمعنى توقّف فعل القوى المتعلّقة بالمادة من وضع مخصوص لتلك المادة بالنسبة إلى المنفعل عن هذه القوى ، فلأنّ ما يكون قوامه وتحقّقه موقوفا على توسّط المادّة في الوضع ، فيكون تأثيره في شيء موقوفا على تحقّق وضع له بالنسبة إليه / ٣٠ MA / بطريق أولى.

وهو كما ترى ؛ فانه لقائل أن يمنع الأولوية بل المساواة ويقول(١) : لم لا يجوز أن تكون القوى المنطبعة في الموادّ موجدة لبعض المفارقات أو الاجسام من غير افتقار إلى تقدّم مادّة ووضع ، ولا بدّ لنفيه من دليل.

ويمكن أن يستدلّ عليه بالاستقراء في المؤثّرات الجسمانية ، فانّ تاثير كلّ قوّة جسمية ـ على ما يشاهد ـ موقوف على تحقّق الوضع بالنسبة إلى المنفعل عنه ، وتأثيره فيه باختلاف القرب والبعد ولا يوجد تأثير لقوّة جسمانية بدون الوضع ؛ وهو أيضا كما ترى.

فالصحيح أن يستدلّ عليه : بانّه لا ريب في أنّ الفاعل أشرف من المفعول من جميع الجهات ، ولا شبهة في أنّ القائم بالذات ـ سواء كان من المفارقات أو نفس المادّة

__________________

(١) الاصل : ـ ويقول.

١٣١

أو الجسم ـ أشرف وأقوى من القوى المنطبعة في الاجسام الحالّة فيها ـ لافتقارها إلى المحلّ ـ ؛ فلو كانت تلك القوى علة لما لم يتحقّق لها وضع بالنسبة إليه ـ أي : لما كان قائما بذاته بعد وجوده ـ لزم أن يكون المحتاج إلى المحلّ أشرف من غير المحتاج إليه ؛ هذا خلف!. ولا يمكن / ٢٩ DB / أن يقال : انّه يجوز أن تكون العلّة لجسم مثلا هو الجسم القائم بالذات لا القوى الجسمانية ، لأن علّية الجسم إنّما يكون لصوره وقواه ، لأنّ المادّة لا تكون علّة لشيء.

فان قيل : لم لا يجوز أن يكون بعض القوى الجسمانية ـ كالصور النوعية للافلاك مثلا ـ أشرف من بعض الاجسام السابقة بنفسها بعد وجودها ـ كالاجسام العنصرية ـ ، وحينئذ لا مانع من علّية بعض الصور الحالّة لبعض الاجسام من غير تقدّم وضع وافتقار توسّط المادّة في الوضع ؛

قلنا : اللازم أشرفية العلّة من المعلول من جميع الجهات ، وإذا كان الصور الفلكية علّة لبعض الاجسام العنصرية لزم أشرفية المعلول على علّته من جهة ، وهو باطل. وبما ذكر من توقّف تأثير القوى الجسمية على وجود الوضع بينها وبين المنفعل عنه يظهر عدم جواز تأثيرها في مطلق المفارقات بوجه وعدم جواز صدور شيء من الموجودات ـ سواء كان جسما أو مادّة ـ بطريق الاتحاد بينها(١) ؛ هذا.

وأمّا صدور الجسم والجسمانى من المفارقات وتأثيرها فيهما فجائز لا منع فيه ، لأنّ الروحانى العقلي غير محتاج في فعله إلى المادّة بما فيها من وضعها وتخصّص حالها بالنسبة إليه ، بل يكفيه وجود ذاته في أن يفعل في المستعدّات ، بل نسبة الجميع إليه نسبة واحدة عامّة. فانّ ذوات الأوضاع في أنفسها ليست بذوات اوضاع بالقياس إليه وإن كانت كذلك بقياس بعضها إلى بعض ، فذوات الأوضاع والمفارقات والمعدومات بالنسبة إليه على السّواء. على أنّه هنا فرق آخر بين فعل الجسم وانفعاله ، وهو أنّ الفعل الصادر عن الاجسام لمّا كان صادرا عن القوى المادّية لا عن نفس المادّة فكانت المادّة متوسّطة الوضع بين الفاعل والمنفعل عنه ، وامّا الانفعال الوارد على الجسم فانّما

__________________

(١) الاصل : الايجاد منهما.

١٣٢

يتعلّق بنفس المادّة ، لانّ المادّة هي المنفعلة بنفسها ، فلا معنى حينئذ لتوسط المادّة أو غيرها بين الفاعل والمنفعل.

ولو(١) قيل : لا ريب في أنّ البدن يؤثّر في النفس مع انّ النفس لا وضع لها ؛ وهذا مخالف لما قلتم من انّ الجسمانى لا يؤثر فيما لا وضع له! ؛

قلنا : المراد أنّ الجسماني لا يؤثّر فيما ليس له وضع ولا علاقة مع ذي وضع ، والنفس وإن لم يكن لها وضع إلاّ أنّ لها علاقة مع ذي وضع ، فيجوز أن يؤثّر الجسماني فيها ؛ ولهذا كلّما كان اقلّ علاقة بالبدن كان تأثير الجسمانيات فيها اقلّ. ويظهر من ذلك انّ فعل النفس أيضا يتوقّف على تحقّق الوضع لها بالنسبة إلى المنفعل عنه ، لأنّها وان لم تفتقر إلى المادّة في قوامها إلاّ أنّها لمّا افتقرت في فعلها إلى المادّة فيتوقّف في فعلها على حصول نسبة وضعية.

فان قيل : بعض تأثيرات القوى الفلكية لا يتوقّف على تحقّق الوضع لها بالنسبة إلى المنفعل عنه من الأجرام والأشخاص السفلية ؛

قلنا : ممنوع ، بل لا يوجد(٢) تأثير من القوى السماوية إلاّ ويتحقّق نوع وضع لها بالنسبة إلى السفليات المنفعلة عنها.

وإذ ثبت انّه لا يجوز أن يكون جسم علّة لصدور جسم آخر نقول : لا ريب انّ الافلاك اجسام اوّلية ابداعية ليست كائنة عن مادّة ، فلا يمكن صدورها عن علّتها إلاّ على سبيل الابداع من دون سبق مادّة ، فيمتنع أن يوجدها جسم من نوعه أو من غير نوعه ، فلا يمكن / ٣٠ MB / أن يكون بعضها علّة لبعض ، بل يجب أن تكون علّتها شيئا خارجا عنها غير جسماني. ولمّا ثبت كونها مختلفة الطبائع وجب أن يكون لكلّ واحد منها علّة على حدة غير علل البواقى ، لأنّ المختلفات بالطبائع لا يمكن استنادها إلى علّة واحدة ـ والواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد ـ ما لم يكن له جهات كثيرة يمكن أن يصدر عنه بكلّ جهة معلول ، والمفارق عن المادّة لا تتحقّق فيه الجهات الكثيرة الّتي يمكن أن يستند كلّ فلك إلى جهة منه ، فلا بدّ أن يكون العلل المفارقة الموجدة

__________________

(١) الاصل : ـ ولو.

(٢) الاصل ـ لا يوجد.

١٣٣

للافلاك متعدّدة بقدر عددها حتّى يصدر عن كلّ واحد واحد. وهي العقول المجردة الّتي أثبتها الحكماء وقالوا : أنّها فواعل الجواهر السماوية. ويجب أن تختلف هذه العقول بالنوع لأنّ الكثرة بالعدد لا يتصوّر في حقّ نوع واحد إلاّ بكثرة المادّة والاستعدادات ، فغير المادّي لو تكثّر فانّما يتكثّر باختلاف النوع بتعدّد الفصول المتباينة. ولا يجوز أن يتكثّر بالعوارض لأنّ اختلاف العوارض الّتي تعرض لافراد نوع واحد انّما يكون لأجل موادّها الّتي يقبل حدوثها وتجدّدها وزوالها ، فاذا لم توجد مادّة لم يوجد عوارض فضلا عن اختلافها ـ لتساوي نسبتها إلى مجرّد النوع ـ.

وإذا ثبت أنّ / ٣٠ DA / فواعل الافلاك هي تلك العقول القادسة المختلفة بالنوع نقول : الواجب أن تكون تلك العقول هي الغايات لحركة الافلاك بأن يتحرّك كلّ فلك لأجل التشبه إمّا بالعقل الّذي هو فاعله لأنّ التفات كلّ شيء في استكماله وطلبه الخير انّما هو إلى ما هو فاعله ، فلمّا تعدّد الفواعل بتعدّد الغايات للحركات ولذا اختلفت الحركات وتعدّدت الجهات فتكثّرت الحركات حسب تكثّر العقول ، فثبت أنّ المتشبّه به هو العقول دون الواجب ـ تعالى شأنه ـ. فلما ثبت من الدليل المذكور وجود الواجب ـ تعالى شأنه ـ.

وأجيب : بأنّ تلك العقول لكونها ممكنة محتاجة إلى علّة واجبة بالذات يثبت منها وجود الواجب ، فكما انّ مبدع الجميع وعلّة الكلّ هو الذات الأحدية الحقّة والعقول والنفوس وسائط فيضه ورحمته ـ وبلسان التصوّف جهاته العقلية وحجبه النورية الّتي لو كشفت لأحرقت شدّة ضياء سبحات وجهه كلّما انتهى إليه بصره ـ فكذلك المتشبّه به والمعشوق الحقيقي للكلّ والغاية الذاتية للجميع على الوجه الأعمّ ذات واحدة إلهية وإن كانت تلك العقول وسائط لطلبه ونيله ، ولذا اشتركت الأفلاك في مطلق الحركة الدورية. والتأمّل يعطى بأنّ العشق والطلب ـ اللّذان يصدران عن النفوس الفلكيّة بل عن كلّ شيء ـ انّما هو من فعل الباري ، فانّ مقتضى حكمته الكاملة وعلمه بالنظام الاصلح أن يودع في كلّ من الموجودات شوقا غريزيا وعشقا طبيعيا حتّى يصل لأجله إلى ما يستحقّه من الكمال والخير.

١٣٤

وأورد عليه : بأنّ الاستدلال بالعقول على وجود الواجب هو الاستدلال بطريقة الامكان ، لأنّ حاصله أن العقول ممكنة فلا بدّ لها من علّة تنتهى إلى الواجب دفعا للدور والتسلسل ، فبعد التطويلات والتمسّك بالمقدّمات الكثيرة من ابطال كون حركات الأفلاك قسرية وطبيعية واثبات كونها ارادية وشوقية وغير ذلك لا بدّ أن يتمسّك بطريقة الامكان مع الوجود ـ وهي طريقة مستقلّة لاثبات الواجب ـ ، فمعها أيّ حاجة إلى هذه التطويلات والتمسّك بمقدّمات تشكل اثبات أكثرها؟ ؛ وعلى هذا لا تكون طريقة الطبيعيين طريقة على حدة.

أقول : مثل هذا الايراد لا مدفع له وإن قطع النظر عن حقية وجود العقول ، لأنّه مع قطع النظر عنه يمكن أن يقال : لم لا يجوز أن تكون الغاية لتلك الحركات موجودا واحدا أو أكثر غير واجب؟ ، فلا بدّ من التمسّك بطريقة الامكان مع الوجود. ويظهر أنّ هذه الطريقة ـ كطريقتهم الأولى ـ لا يسمن ولا يغني من جوع ، فانّ حاصل هذه الطريقة ـ على ما قرّرناه ـ انّ الحركات السماوية ان كانت متناهية فتكون الأفلاك حادثة ، فلا بدّ لها من محدث ؛ فان كان واجبا ثبت المطلوب وإلاّ انتهى إلى الواجب دفعا للدور والتسلسل ، وإن كانت قديمة فلا يجوز أن تكون طبيعية ـ لمّا مر ـ ولا قسرية ـ لما مرّ ـ ، ولانّه لو كان لها قاسر غير جسماني لا ينتهى إلى الواجب دفعا للدور والتسلسل ، فثبت أن تكون ارادية. فلا بدّ لها من فاعل وغاية ، وفاعلها النفوس الفلكية وغايتها التشبه بالعقول ، وثبت منها وجود الواجب ـ تعالى شأنه ـ.

وأنت تعلم انّه لا بدّ في أكثر شقوق هذا الدليل من التمسّك بوجود المحدث أو الممكن والاستدلال على الواجب ـ تعالى ـ ببطلان التسلسل ، إلاّ أن يقال : لمّا ثبت منها وجود العقول فثبت منها وجود الواجب من دون الافتقار إلى ابطال التسلسل ، لانّ موجد العقل الأوّل ـ وهو المؤثّر في وجود الفلك الأوّل ـ لا يمكن أن يكون غير الواجب بالذات لبساطته الصرفة وعدم تكثر / ٣١ MA / الجهات فيه ؛ وهو كما ترى.

ثمّ لا يخفى انّ هذه الطريقة وان لم تكن مستقلّة وطريقة على حدة في اثبات الواجب ـ تعالى شأنه ـ إلاّ انّه ثبت به وجود ما هو أعلى وأشرف من الفلكيات ممّا

١٣٥

هو فوقها من الجواهر العقلية القادسة المنتهية إليه ـ تعالى ـ ، وبه يبطل توهّم بعض الملاحدة من الدهرية حيث قالوا : انّ الفلكيات هي الغاية القصوى في الوجود وليس ورائها وفوقها موجود(١) .

قال بعض العرفاء : انّ هذه الطريقة ـ أي : طريقة الطبيعيين ـ هي طريقة الخليل على ـ نبيّنا وآله وعليه السلام ـ ، فانّه لمّا رأى ظهور الحركات في السموات وانتقالات الكواكب وأفولها فقال لا احبّ الآفلين(٢) ، ويحدس انّ مبدعها وموجدها ومحرّكها على سبيل الامداد والتشويق ليس بجسم ولا جسماني.

وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ الخليل ـعليه‌السلام ـ لم يستدلّ بالحركة والتغيّر على وجود الواجب ، بل استدلّ بافول الكواكب على عدم كونه واجبا / ٣٠ DB / ، وأين هذا من ذاك؟!.

وفيه : انّ الاستدلال بالأفول على عدم كونه واجبا إنّما هو لأجل أنّ الأقلّ لا بدّ له من علّة توجب التغير فيه ، فيجب الانتهاء إلى ما ليس فيه تغيير أصلا ، وهو الواجب بذاته(٣) .

المنهج الرابع

من مناهج الحكماء

ما ذهب إليه بعضهم ، وهو ما يبتنى

على النظر في النفس الناطقة الانسانية.

__________________

(١) انظر : شرح المقاصد ج ٤ ص ٢٢ ، حيث تجد تفسير التفتازاني لمرامهم مخالفا لما نسب إليهم المصنّف في كتابنا هذا ؛ ومخالفا لما نسب إليه الامام الرازي في تلخيص المحصّل ص ٢٥٣.

(٢) ما وجدته. ولكن يوجد بين أقوال المتكلّمين ، قال الايجى : ما ذكره المتكلّمون من حدوث العالم وهو الاستدلال بحدوث الجواهر هي طريقة الخليل ـ صلوات الله عليه ـ حيث قال : لا احب الآفلين. راجع : شرح المواقف ، ج ٨ ، ص ٢. وانظر : تلخيص المحصّل ، ص ٢٤٢.

(٣) وللطبيعيّين طرق آخر من غير النظر في الحركة. راجع : شوارق الإلهام ، ج ٢ ، ص ٤٩٥.

١٣٦

والمنقول عنهم طريقان :

الطريقة الأولى : انّ النفس الناطقة خارجة في كمالاتها من القوّة إلى الفعل ولا بدّ لها من مخرج ، ويجب الانتهاء إلى مخرج كان جميع كمالاته بالفعل ولا يكون مفتقرا إلى مخرج ـ دفعا للدور والتسلسل ـ ، والمخرج غير المخرج هو الواجب بالذات ؛ وهو المطلوب.

الطريقة الثانية : انّ النفس حادثة بحدوث البدن ـ كما يأتي ـ ، فهي ممكنة محدثة ، فلا بدّ لها ـ لامكانها أو حدوثها ـ من موجد. ولا يجوز أن يكون موجدها جسما لكونها مجرّدة ، وعدم جواز صدور المجرّد عن الجسم والجسماني ـ كما اثبتناه قبل ذلك ـ يوجب أن يكون موجدها مفارقا عن المادّة ، فان كان واجبا ثبت المطلوب ؛ وإلاّ ينتهى إليه ـ دفعا للدور والتسلسل(١) ـ.

وأنت تعلم انّه لا بدّ في هذه الطريقة من التمسّك بالامكان أو الحدوث ، والتفاوت إنّما هو في انّ موجد هذا الموجود المعين يجب أن يكون مفارقا ؛ مع أنّها متوقّفة على مقدّمات كثيره من اثبات تجرّد النفس وابطال التناسخ وغير ذلك.

المسلك الثاني

مسلك المتكلّمين

ولهم طريقتان :

الأولى : طريقة المتكلّمين الّذين جعلوا علّة الحاجة هي الحدوث ، فاعتبروا في اثبات الصانع مجرّد الحدوث. والثانية : طريقة المتكلّمين الّذين جعلوا علّة الحاجة هي الامكان بشرط الحدوث ، فاخذوا في اثبات الصانع الامكان بشرط الحدوث.

وتقريرالطريقة الأولى : انّ العالم بمعنى ما سوى الواجب حادث ـ للدلائل الدالّة عليه ـ ، فلا بدّ له من محدث غير حادث ـ دفعا للدور والتسلسل ـ ؛ والمحدث الغير الحادث يجب أن يكون واجبا. وإن لزم على هذه الطريقة عدم احتياج القديم وان كان

__________________

(١) وانظر أيضا : الحكمة المتعالية ، ج ٦ ، ص ٤٤.

١٣٧

ممكنا إلى المؤثّر لقيام الدلالة الخارجية على امتناع وجود القديم الممكن.

وأورد عليها : بانّها مبتنية على حدوث العالم الّذي يشكل اثباته بالدليل العقلي بحيث لا يتطرّق المناقشة إليه. بل نقول : ما يصلح دليلا عليه إنّما يتمّ بعد اثبات الواجب ، وأمّا قبله فلا يمكن الاستدلال بوجه صالح للاعتماد على حدوث العالم بمعنى سوى الواجب. نعم! ، يمكن الاستدلال على حدوث العالم الجسمانى.

فالصواب أن يستدلّ به بأن يقال : انّ العالم الجسماني حادث ، فلا بدّ له من محدث ويجب الانتهاء إلى محدث غير حادث ـ دفعا للدور والتسلسل ـ.

وغير خفيّ انّ الأولى أن يستدلّ بالحوادث اليومية ويقال : لا ريب في وجود حادث من الحوادث اليومية ، فلا بدّ له من محدث ويجب الانتهاء إلى محدث غير حادث ـ دفعا للدور والتسلسل ـ ، وهو الواجب لذاته.

وتقرير الطريقة الثانية : انّ العالم ـ بمعنى ما سوى الواجب أو العالم الجسماني أو ما يوجد من الحوادث اليومية ـ ممكن حادث ، فلا بدّ له من علّة محدثة وينتهى إلى الواجب ـ دفعا للدور والتسلسل ـ.

وهذه الطريقة قريبة من السابقة تقريرا وايرادا وتوجيها.

المسلك الثالث

مسلك أهل الكشف من الصوفيّة

وتقريره : انّ ما هو غير الوجود الحقيقيّ القائم بذاته المساوق للوجوب الذاتى من المهيات الممكنة ، لا يمكن أن يوجد إلاّ باستفادة الموجودية من الوجود الصرف ، لأنّ كلّ ما هو مهيته / ٣١ MB / غير وجوده يحتاج في اتصافه بالوجود إلى سبب ، لأنّ كلّ عرضي سواء كان لازما أو غير لازم محتاج معلّل إمّا بالماهية المعروضة أو بأمر خارج ؛ وعلّية الماهية لوجودها غير معقولة ، لأنّ العلّة يجب أن تكون متقدّمة على المعلول بالوجود ، وتقدّم الماهية على الوجود بالوجود غير معقول ، بخلاف تقدّمها على صفاتها اللازمة غير الوجود ، فالماهية يحتاج في وجودها إلى علّة خارجة ؛ ويجب أن تنتهى إلى

١٣٨

صرف الوجود ـ دفعا للدور والتسلسل ـ. ثمّ موجودية المهيات الممكنة ليست بافاضة الوجود عليها من الوجود الصرف ، وضمّ الوجود إليها وجعلها متّصفة به كما هو رأي المشائين ، لأنّ ثبوت الشيء للشيء فرع ثبوت المثبت له في نفسه ، والماهية ليست ثابتة في نفسها حتّى يمكن أن يثبت لها الوجود. وليست موجوديتها أيضا بافادة الوجود الصرف نفس ذواتها كما نسب إلى الرواقيين ، بمعنى أنّ نفس الذات بعد جعل الجاعل ايّاها كافية في انتزاع الوجود عنها ، وإلاّ كان حمل الوجود عليها كحمل الذاتيات ، وهو باطل. لأنّ الماهية من حيث هي لا يمكن أن تكون علّة للوجود ومقتضية له ـ لما مرّ ـ ، فبقي أن تكون موجودية الممكنات بارتباطها بالوجود الحقيقي / ٣١ DA / وانتسابها إليه. فالاتحاد والتأثير والفاعلية ومرادفاتها هي افادة الجاعل الماهية مرتّبة بنفسه لا افادتها اشياء متباينة لذاته متحقّقة بانفسها ، ولذا قيل : الاثر في الحقيقة ليس شيئا مستقلاّ متميّزا عن المؤثّر. وما وجد من الآثار مستقلّة بذواتها ممتازة عن مؤثّراتها ليست آثارا لها بالحقيقة ، بل بحسب الظاهر. وليس المراد انّ وجود الأثر وجود ناعتي للمؤثّر نسبته إليه كنسبة الأعراض إلى موضوعها ، فانّ الارتباط الّذي بين الواجب والممكنات ليس بكونه محلا لها. ولذا قيل : انّ الأمثلة المذكورة في كتب العرفاء وإن كانت مقرّبة من وجه لكنّها مبعّدة من وجه آخر ـ كالتمثيل بالبحر والأمواج والنور والاضلال وبالشعلة الجائلة والقطرة النازلة والحركة التوسيطية ـ ؛ فانّ كلّ واحد من البحر والنور والشعلة والقطرة والحركة بمعنى التوسط أمر بسيط شخصي مستمرّ الوجود وراسم للمتجدّدات الّتي ليست خارجة ممتازة عنه. فانّ هذه النسب المتجدّدة المتكثّرة إنّما هي منتزعة من نفس هذا الأمر البسيط الشخصي عارضة لها ، والأشياء الممكنة ليست عارضة لذات الواجب الحقّ ـ تعالى شأنه ـ ، ولا وجوده صفة للماهيات الامكانية ، بل هي منتسبة إليه بالارتباط الصدوري ، فهو راسمها وجاعلها غير داخل فيها ولا مباشر لها. ومن حصول هذا الارتباط الصدوري ينتزع عنها الوجود وحقيقة هذا الارتباط راجعة إلى قيوميته ـ تعالى ـ للممكنات ، وتلزم هذه القيومية وجود معية بين الممكن والواجب أشدّ من معية العارض بالمعروض. ولكن لا يوجب

١٣٩

اختلاط الواجب بالممكن ولا حصول التغير والتكثّر والتجزي في ذاته ولا اتصافه بصفات المحدثات ولا ملابسته للأشياء الخسيسة ، فحقيقة هذه القيومية والمعية غير معلومة لنا بكنهها. وقد تلخّص أنّ المبدأ الأوّل الّذي هو حقيقة الوجود الصرف هو القيّوم الواجب لذاته الموجود في نفسه بنفسه لنفسه ، والمتقوّم به انّما هي نسب لا حقة واضافات عارضة لازمة له ليست موجودة اصلا لا بنفسها ولا فى نفسها ولا لنفسها ولا ممتازة مستقلّة ، بل لها الوجود الاعتباري النسبي إلى القيّوم بذاته ، فبالحقيقة ليس الموجود إلاّ الوجود الحقيقيّ الّذي هو باعتبار ذاته موجودة ، وهو مبدأ لجميع الآثار ، فمن حيث هو موجود بنفسه وقائم(١) بذاته ومبدأ للوجود الانتزاعي من غير اعتبار ارتباطه بالممكنات هو الوجود المطلق ، ومن حيث ارتباطه ومعيته بالماهيات وصيرورته مبدأ للآثار الخاصّة هو الوجود المقيّد ، فمن حيث ارتباطه بالعقول وكونه مبدأ لآثارها مرات لها ، ومن حيث ارتباطه بالنفوس وكونه مبدأ لآثارها مرات لها ، وهكذا. فهو مرآت جميع المهيات وشمس عوالم الممكنات ونور السموات والأرضين ، وبه ينال كلّ ذي حقّ حقّه وهو في غاية الظهور وبه ظهور كلّ شيء وادراك كلّ ذي ادراك. وهذا معنى قول الصوفية : انّ جميع المهيات الممكنة صور للوجود الحقيقيّ وانّ الوجود الحقيقيّ يتصوّر لجميع الصور الغير المتناهية الّتي هي تعينات الوجود بلا تغيّر ولا تكثّر ولا اختلاط ولا عروض. وما ذكروه من أنّ الوجود الحقيقيّ الّذي هو الواجب لذاته سار في هياكل الممكنات الموجودة من العقول والنفوس والافلاك والعناصر والمواليد والموجودات العقلية والمثالية ، أرادوا بالسريان ما ذكرناه من الارتباط والمعية.

وغير خفيّ انّ الاستدلال على هذا المسلك أيضا إنّما هو بوجود الممكنات ، والفرق انّ وجود الممكنات عند الصوفية ليست وجودات مستقلّة ممتازة ـ كما ادّعوه ويجعلون الوجود منحصرا بالواحد ، كما ذكر مفصّلا ـ. ولا طريق لنا إلى اثبات ما ادّعوه ، لانا نعلم(٢) بالبداهة العقلية / ٣٢ MA / انّ الموجودات متعدّدة متكثّرة في الخارج ولها كثرة حقيقية عينية ، وكونها اعتبارية محضة ـ كما ادّعوه ـ مخالف لصريح

__________________

(١) الاصل : قديم.

(٢) الاصل : ما ادعوه إلاّ بالعلم.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

الْعِقابِ ) . انّ العذاب الشديد غير مخالف لرحمته الواسعة ، كما لا يتوهّم أحدا انّ رحمته العامّة هي إعطاء الفرصة للظالمين ان يفعلوا ما يريدون. لانّه في هذه الموارد يكون شديد العقاب ، والحصول على نتائج هذه الصفتين للربّ يعني( لَذُو مَغْفِرَةٍ ) و( لَشَدِيدُ الْعِقابِ ) مرهون بسلوك الإنسان نفسه.

* * *

ملاحظتان

1 ـ لماذا التعجّب في الخلق الجديد؟

يستفاد من خلال آيات متعدّده في القرآن الكريم انّ من جملة مشاكل الأنبياء مع المشركين اثبات «المعاد الجسماني» لانّهم كانوا يتعجّبون دائما من هذا الموضوع وهو : كيف يبعث الإنسان من جديد بعد ان صار ترابا؟ كما اشارت اليه الآية السابقة( أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) وهناك سبع آيات اخرى تشير الى هذا الموضوع (الآية 35 و 82 من سورة المؤمنون 7 ـ 2 النمل 6 ـ 1 و 53 الصافات ـ 3 ق 7 ـ 4 الواقعة).

ومن هنا يتّضح انّ هذا التساؤل كان مهمّا بالنسبة إليهم حيث كانوا يكرّرونه في كلّ فرصة ، ولكن القرآن الكريم يجيبهم بعبارات قصيرة وقاطعة ، فمثلا الآية (29) من سورة الأعراف :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) تتكوّن من كلمات قليلة ولكنّها مفحمة لهم ، وفي مكان آخر يقول تعالى :( وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) لانّكم في الخلق الاوّل لم تكونوا شيئا امّا الآن فتوجد على الأقل عظام نخرة مع التراب المتبقّي منكم.

وفي بعض الأحيان يأخذ بأيدي الناس ويدعوهم الى التفكّر والإمعان في عظمة وقدرة الخالق( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) .

٣٤١

2 ـ هل انّ الله يعفو عن الظالمين؟

قرانا في الآيات المتقدّمة انّ الله يعفو ويغفر للذين ظلموا ، وهذا الغفران غير لازم لمن يصرّ على ظلمه ، ولكنّه من باب إعطاء الفرصة لهم لان يصلحوا أنفسهم ، والّا فهو تعالى شديد العقاب.

ويمكن ان نستفيد من هذه الآية انّ الذنوب الكبيرة ـ ومن جملتها الظلم ـ قابلة للغفران (ولكن بتحقّق شروطها) ، وهو ردّ على قول المعتزلة بأنّ الذنوب الكبيرة لا يغفرها الله ابدا.

وعلى ايّة حال فـ «المغفرة الواسعة» و «العقاب الشديد» في الواقع تجعل كل المعترفين بوجود الله بين «الخوف» و «الرجاء» الذي يعتبر من العوامل المهمّة لتربية الإنسان ، فلا ييأس من رحمة الله لكثرة الذنوب ، ولا يأمن من العذاب لقلّتها.

ولهذا جاء في الحديث عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لو لا عفو الله وتجاوزه ما هنئ احد العيش ، ولولا وعيد الله وعقابه لاتّكل كلّ واحد»(1) .

ومن هنا يتّضح انّ الذين يقولون ـ أثناء ارتكابهم المعاصي ـ انّ الله كريم ، يكذبون في اتّكالهم على كرم الله ، فهم في الواقع يستهزءون بعقاب الله.

* * *

__________________

(1) مجمع البيان ، المجلد 5 و 6 ، ص 278 ـ تفسير القرطبي ، المجلّد السّادس ، ص 3514.

٣٤٢

الآية

( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ(7) )

التّفسير

ذريعة اخرى!

بعد ما أشرنا في الآيات السّابقة الى مسألة «التوحيد» و «المعاد» ، تتطرّق هذه الآية الى واحدة من اعتراضات المشركين المعاندين حول مسألة النبوّة :( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

ومن الواضح انّ احدى وظائف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اظهار معاجزه لكي يدلّ على صدقه وصلته بالوحي الالهي ، والذي يبحث عن الحقيقة له الحقّ في المطالبة بالمعجزة أثناء شكّه وتردّده في تصديق الدعوة ، او تتّضح له دلائل النبوّة عن طريق آخر.

ولكن يجب ان نلتفت الى هذه النقطة وهي : انّ اعداء الأنبياء لم يكن لديهم حسن نيّة او اتّباع للحقّ عند طلبهم المعجزة ، بل لعنادهم وعدم تسليمهم للأمر الواقع ولذلك كانوا يقترحون بين فترة واخرى معاجز عجيبة وغريبة. وهذه ما

٣٤٣

يسمّى بـ «المعجزات الاخلاقية».

اقتراحهم للمعاجز لم يكن لكشف الحقيقة ، ولهذا لم يستجب الأنبياء لمطاليبهم ، وفي الحقيقة كانت هذه الفئة من الكفّار المعاندين يعتقدون انّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدّعي القدرة على انجاز اي عمل خارق للعادة ، وايّ واحد منهم يقترح عليه انجاز عمل ما سوف يلبّي مطاليبه.

ولكن الأنبياء كانوا يقولون لهم الحقيقة وهي انّ المعاجز بيد الله ، ورسالتنا هداية الناس.

ولذلك نقرا في تكملة الآية قوله تعالى :( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) .

* * *

بحثان

هنا يرد سؤالان :

1 ـ هل الآية «انّما أنت منذر ...» جواب للكفّار؟

كيف يمكن لجملة( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) ان تكون جوابا للكفّار عند طلبهم المعجزة؟

الجواب : بالاضافة الى ما قلناه سابقا فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليست له القدرة الغيبية المطلقة كي يطلبوا منه الاعجاز ، لانّ الوظيفة الاولى له هي إنذار أولئك الذين يسيرون في طريق الضلال ، والدعوة الى الصراط المستقيم ، وإذا ما احتاجت هذه الدعوة الى المعجزة فسوف يأتي بها النّبي ، ولكن لا يأتي بها للمعاندين البعيدين عن هذه المسيرة.

فمعنى الآية : انّ الكفّار نسوا انّ هدف الأنبياء الإنذار والدعوة الى الله ، واعتقدوا انّ وظيفتهم القيام بالمعاجز.

٣٤٤

2 ـ ما هو المقصود من جملة( لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) ؟

قال بعض المفسّرين : انّ هاتين الصفتين (منذر) و (هاد) صفتان للرسول ، فأصل الجملة تكون (أنت منذر وهاد لكلّ قوم).

ولكن هذا التّفسير خلاف الظاهر ، لانّ الواو في جملة( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) تفصل بين جملة( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ) ولو كانت كلمة «هاد» قبل «لِكُلِّ قَوْمٍ » كان المعنى السّابق صحيحا. ولكن الأمر ليس كذلك.

والشيء الآخر هو انّ هدف الآية بيان انّ هناك قسمين من الدعوة الى الله : أحدهما ان يكون عمل الداعي هو الإنذار فقط. والآخر : ان يكون العمل هو الهداية.

وسوف تسألون حتما : ما هو وجه التفاوت بين (الإنذار) و (الهداية)؟ نقول في جواب هذا السؤال : انّ الإنذار للذين اضلّوا الطريق ودعوتهم تكون الى الصراط المستقيم ، ولكن الهداية والاستقامة للذين آمنوا.

وفي الحقيقة انّ المنذر مثل العلّة المحدثة ، امّا الهادي فبمنزلة العلّة الباقية وهذه هي التي تعبّر عنها بالرّسول والامام ، فالرّسول يقوم بتأسيس الشريعة والامام يقوم بحفظها وحراستها. (ليس من شكّ انّ الهداية في آيات اخرى مطلقة للرسول ، ولكن بقرينة المنذر في هذه الآية نفهم انّ المقصود من الهادي هو الشخص الحافظ والحامي للشريعة).

هناك روايات عديدة تؤكّد ما قلناه سابقا ، فقد قال الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «انا المنذر وعلي الهادي».

ولا بأس ان نشير الى عدّة من هذه الرّوايات :

1 ـ في ذيل هذه الآية من تفسير الفخر الرازي مرفوعا عن ابن عبّاس قال : وضع رسول الله يده على صدره فقال : «انا المنذر» ثمّ اومأ الى منكب عليعليه‌السلام وقال : (أنت الهادي بك يهتدي المهتدون من بعدي) هذه الرّواية ذكرها العلّامة

٣٤٥

«ابن كثير» في تفسيره ، والعلّامة «ابن الصبّاغ المالكي» في الفصول المهمّة ، و «الكنجي» الشافعي في كفاية الطالب و «الطبري» في تفسيره ، و «ابو حيّان الاندلسي» في تفسيره البحر المحيط ، وكذلك «العلّامة النيسابوري» في تفسيره الكشّاف ، وعدد آخر من المفسّرين.

2 ـ نقل «الحمويني» وهو من علماء اهل السنّة المعروفين في كتابه فرائد السمطين عن ابو هريرة قال «ان المراد بالهادي عليعليه‌السلام ».

3 ـ «مير غياث الدين» مؤلّف كتاب (حبيب السيّد) كتب يقول في المجلّد الثّاني صفحة 12 : «قد ثبت بطرق متعدّدة انّه لمّا نزل قوله تعالى :( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) قال لعلي : «انا المنذر وأنت الهادي بك يا علي يهتدي المهتدون من بعدي».

كما نقل هذا الحديث «الآلوسي» في (روح المعاني) و «الشبلنجي» في (نور الأبصار) والشيخ «سليمان القندوزي» في (ينابيع المودّة).

وبما انّ اكثر هذه الرّوايات مسنده الى ابن عبّاس فإنّه لم يكن الشخص الوحيد الذي روى ذلك ، فأبو هريرة نقل ذلك فيما ذكره الحمويني ، وحتّى علي نفسه ـ طبقا لما نقله الثعلبي ـ قد قال : «المنذر النّبي والهادي رجل من بني هاشم» يعني نفسه(1) .

لا شكّ انّ هذه الأحاديث لا تصرّح بالخلافة ، ولكن بالنظر الى ما تحتويه هذه الكلمة (الهداية) من المعنى الواسع ، فإنّها غير منحصرة بعليعليه‌السلام بل تشمل جميع العلماء واصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين كانوا يقومون بنفس المهمّة ، فإنّه يتّضح لنا تخصيص علي بن أبي طالبعليه‌السلام في هذه الرّوايات بهذا العنوان يدلّ على انّه المصداق البارز له ، وذلك لما يمتاز به من الخصوصيات ، وهذا المطلب لا يكون منفصلا عن خلافة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتما.

* * *

__________________

(1) للمزيد من الاطلاع راجع كتاب احقاق الحقّ ، المجلّد الثّالث ، ص 87 وما بعدها.

٣٤٦

الآيات

( اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) )

التّفسير

علم الله المطلق :

نقرا في هذه الآيات قسما من صفات الخالق ، والتي تكمل بحث التوحيد والمعاد ، فالحديث عن علمه الواسع ومعرفته بكلّ شيء ، هو ذاك العلم الذي يقوم عليه نظام التكوين وعجائب الخلقة وآيات التوحيد ، وهو العلم الذي يكون أساسا للمعاد والعدالة الالهيّة يوم القيامة وهذه الآيات استندت الى هذين القسمين : (العلم بنظام التكوين ، والعلم بأعمال العباد).

تقول الآية اوّلا :( اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ) في رحمها ، سواء من أنثى الإنسان او الحيوان( وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ) اي تنقص قبل موعدها المقرّر( وَما

٣٤٧

تَزْدادُ ) (1) اي يعلم بما تزيد عن موعدها المقرّر.

في تفسير هذه الجمل الثلاث هناك آراء مختلفة بين المفسّرين :

يعتقد البعض ـ انّها تشير ـ كما ذكرنا آنفا ـ الى وقت الولادة ، وهي على ثلاثة انواع : فمرّة يولد المولود قبل موعده. ومرّة في موعده ، واخرى بعد الموعد المقرّر. فالله يعلم كلّ ذلك ويعلم لحظة الولادة بالتحديد ، وهذه من الأمور التي لا يستطيع اي احد او جهاز ان يحدّد موعده ، وهذا العلم خاص بذات الله المنزّهة ، وسببه واضح لانّ استعدادات الأرحام والاجنّة مختلفة ، ولا احد يعلم بهذا التفاوت.

وقال بعض آخر : انّها تشير الى ثلاث حالات مختلفة للرحم ايّام الحمل ، فالجملة الاولى تشير الى نفس الجنين الذي تحفظه ، والجملة الثانية تشير الى دم الحيض الذي ينصبفي الرحم ويمصّه الجنين ، والجملة الثالثة اشارة الى الدم الاضافي الذي يخرج أثناء الحمل أحيانا ، او دم النفاس أثناء الولادة(2) .

وهناك عدّة احتمالات اخرى في تفسير هذه الآية دون ان تكون متناقضة فيما بينها ، ويمكن ان يكون مراد الآية اشارة الى مجموع هذه التفاسير ، ولكن الظاهر انّ التّفسير الاوّل اقرب ، بدليل جملة (تحمل) المقصود منها الجنين والجمل (تغيض) و (تزداد) بقرينة الجملة السابقة تشير الى الزيادة والنقصان في فترات الحمل.

روى الشيخ الكليني في الكافي عن الامام الصادقعليه‌السلام او الامام الباقرعليه‌السلام

__________________

(1) «تغيض» أصلها الغيض بمعنى ابتلاع السائل وهبوط مستوى الماء. وتأتي بمعنى النقصان والفساد ، و «الغيضة» المكان الذي يقف فيه الماء فيبتلعه ، و «ليلة غائضة» اي مظلمة.

(2) يقول صاحب الميزان مؤيّدا هذا الراي : إنّ بعض روايات ائمّة اهل البيت يؤيّد هذا الراي. وابن عبّاس ممّن يؤيّد هذا الراي ايضا ، ولكن بالنظر الى الرّوايات المنقولة في تفسير نور الثقلين في ذيل الآية فإنّ أكثرها يؤيّد ما قلناه في الراي الاوّل.

٣٤٨

في تفسير الآية انّ «الغيض كلّ حمل دون تسعة أشهر ، وما تزداد كلّ شيء حمل على تسعة أشهر». وفي تكملة الحديث يقول : «كلّما رأت المراة الدم الخالص في حملها فإنّها تزداد وبعدد الايّام التي زاد فيها في حملها من الدم»(1) .

( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) ولكي لا يتصوّر احد انّ هذه الزيادة والنقصان بدون حساب ودليل ، بل انّ كلّ ساعة وثانية ولحظة لا تمرّ دون حساب ، كما انّ للجنين ودم الرحم حساب وكتاب ايضا. فالآية التي بعدها تؤكّد ما قلناه في الآية السابقة حيث تقول :( عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ) فعلمه بالغيب والشهادة لهذا السبب( الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ ) فهو يحيط بكلّ شيء ، ولا يخفى عنه شيء.

ولتكميل هذا البحث وتأكيد علمه المطلق يضيف القرآن الكريم :( سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ ) (2) وهذا هو الحقّ فالذي يوجد في كلّ مكان لا معنى للغيب والشهادة او الليل والنهار عنده ، فهو محيط بها وعالم بأخبارها بشكل متساو.

* * *

بحوث

1 ـ القرآن وعلم الاجنّة

أشار القرآن المجيد مرارا الى مسألة الجنين وعجائب تكوينه ليكون احد الادلّة على التوحيد ومعرفة الله وعلمه المطلق ، وبالطبع فإنّ علم الاجنّة واحد من العلوم الحديثة وكان سابقا عبارة عن معلومات اوّليّة محدودة ثمّ توسعت في هذا العصر. ولكن بتقدّم العلم والمعرفة حدثت قفزة في هذا المجال كشف عن

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 2 ، صفحة 485.

(2) «سارب» من سرب على وزن ضرر ، بمعنى الماء الجاري ، ويقال للشخص الذاهب الى عمل ايضا.

٣٤٩

كثير من اسرار هذا العالم الساكن والهادىء وعن كثير من عجائبه بحيث نستطيع ان نقول : انّ اكبر درس للتوحيد ومعرفة الله كامن في تكوين الجنين ومراحل تكامله.

فمن هذا الذي يرعى هذا الكائن المخفي وبتعبير القرآن واقع «في ظلمات ثلاث» الذي يمتاز بالظرافة ودقّة التكوين وان يوصل له المقدار اللازم من الغذاء ويرشده مراحل حياته؟

وعند ما تقول الآية السابقة :( اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ) فليس المقصود من علمه بالذكر والأنثى فقط ، بل بكلّ خصائصه والطاقة الكامنة فيه ، هذه الأشياء لا يستطيع احد وبأي وسيلة ان يتعرّف عليها ، وعلى هذا فإنّ وجود هذا النظام الدقيق والمعقّد للجنين ومراحل تكامله لا يمكن ان يكون بدون صانع عالم وقدير.

2 ـ كلّ شيء له مقدار

نحن نقرا في آيات مختلفة من القرآن الكريم انّ كلّ شيء له حدّ محدود ولا يتجاوزه ، ففي الآية (3) من سورة الطلاق يقول تعالى :( قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ) وفي الآية 21 سورة الحجر يقول تعالى :( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) والآية التي نحن بصددها( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) .

كلّ هذه تشير الى انّه ليس هناك شيء في العالم بدون حساب ، حتّى الموجودات في الطبيعة التي نعتبرها في بعض الأحيان غير مهمّة ، فإنّ وجودها على أساس حساب دقيق ، علمنا بذلك ام لم نعلم ، وأساسا فإنّ معنى حكمة الله هو ان يجعل لكلّ ما في الكون حدّا ومقدارا ونظاما.

وكلّ ما حصلناه اليوم من اسرار الكون بواسطة العلوم يؤكّد هذه الحقيقة ، فمثلا نرى انّ دم الإنسان ـ الذي هو المادّة الحياتية لوجود الإنسان والذي يقوم

٣٥٠

بنقل المواد الضروريّة اللازمة لخلايا الجسم ـ يتركّب من عشرين مادّة او اكثر ، وبنسب ثابتة دقيقة بحيث لو تمّ اي تغيير فيها لتعرّضت سلامة الإنسان للخطر ، ولهذا السبب ولمعرفة النقص الحاصل في الجسم يقومون بتحليل الدم وقياس نسبة السكر والدهن وسائر مركّبات الدم الاخرى ، ويتمّ تشخيص العلّة بواسطة معرفة زيادة او نقصان هذه النسب ، وليس دم الإنسان وحده له هذه الميزة ، بل كلّ ما في الوجود له نفس هذه الدقّة في النظام.

ولا بدّ هنا من التنبيه على انّ ما يظهر لنا في بعض الأحيان من عدم النظام في عالم الوجود هو في الواقع ناتج من قصور في علومنا ومعرفتنا ، فالإنسان الذي يؤمن بالله لا يمكن ان يتصوّر ذلك ، وبتطوّر العلوم تتأكّد لنا هذه الحقيقة.

وكي نستطيع ان نتعلّم هذا الدرس وهو انّ المجتمع الانساني الذي هو جزء من عالم الوجود إذا أراد له العيش بسلام ، فعليه ان يجعل شعار( كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) يسود جميع جوانبه ، ويجتنب الإفراط والتفريط في اعماله وتخضع جميع مؤسساته الاجتماعية للحساب والموازين.

3 ـ الغيب والشهادة سواء عند الله

استندت هذه الآيات الى انّ الغيب والشهادة معلومان عند الله ، فهما مفهومان نسبيان وتستخدمان للكائن الذي علمه ووجوده محدود ، وعلى سبيل المثال نحن نمتلك حواسا ذات مدى نسبي ، فمتى ما كان الشيء داخلا في هذا المدى فهو شاهد بالنسبة لنا ، وما كان خارجا عنه فهو غيب ، فلو فرضنا انّ أبصارنا لها قدرة غير محدودة ويمكنها النفوذ في باطن الأشياء وإدراكها ، فإنّ كلّ شيء يعتبر شاهد عندنا.

وبما انّ كلّ شيء له حدّ محدود غير الذات الالهيّة ، فإنّ لغير الله تعالى غيب وشهادة ، ولانّ ذات الله غير محدودة ووجوده عام ومطلق فإنّ كلّ شيء بالنسبة

٣٥١

اليه شهادة ، ولا معنى للغيب بالنسبة اليه ، وإذا ما قلنا ـ انّ الله عالم الغيب والشهادة فهو ما نعتبره نحن غيب وشهادة ، امّا هو فهما عنده سواء. لنفترض انّنا ننظر ما في أيدينا في النهار ، فهل نجهل ما فيها؟! جميع الكون في مقابل علم الله أوضح من هذا واظهر.

4 ـ الآثار التربوية في إدراكنا لعلم الله

أثناء قراءتنا للآيات الماضية التي تقول : انّ الله يعلم السرّ والجهر من القول وحركاتكم في الليل والنهار وكلّها مشهودة عنده ، هل نجد في أنفسنا ايمانا بهذه الحقيقة؟ لو كنّا مؤمنين بذلك حقّا ونشعر بأنّ الله تعالى مطّلع علينا فإنّ هذا الايمان والاحساس الباطني يبعث على تغيير عميق في روحنا وفكرنا وقولنا وضمائرنا؟.

نقل عن الامام الصادقعليه‌السلام في جوابه لمن سأله عن طريقتهم في الحياة قال : «علمت انّ الله مطلع عليّ فاستحييت».

كما نشاهد كثيرا من المواقف من تأريخ المسلمين وحياتهم تتجلّى فيها هذه الحقيقة ، يقال : دخل أب وابنه في بستان ، فتسلّق الأب شجرة ليقطف ثمارها دون اذن صاحبها ، بينما بقي الابن أسفل الشجرة لمراقبة الأوضاع. وفجأة صاح الابن الذي كان مؤمنا ومتعلّما ونادى أباه بأن ينزل بسرعة ، عندها خاف الأب ونزل فورا وسأل من الذي رآني؟ قال : الذي هو فوقنا ، فنظر الأب الى الأعلى فلم يجد أحدا ، وسأل من الذي رآني؟ قال : الذي هو فوقنا ، فنظر الأب الى الأعلى فلم يجد أحدا ، فقال الابن : كان قصدي هو الله المحيط بنا جميعا ، كيف يمكن ان تخاف ان يراك الإنسان ، ولا تخاف ان يراك الله؟! اين الايمان؟!

* * *

٣٥٢

الآية

( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) )

التّفسير

المعقّبات الغيبية!

علمنا في الآيات السابقة انّ الله بما انّه عالم الغيب والشهادة فإنّه يعلم أسرار الناس وخفاياهم ، وتضيف هذه الآية انّه مع حفظ وحراسة الله لعبادة فإنّ( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) (1) .

ولكي لا يتصوّر احد انّ هذا الحفظ بدون شروط وينغمس في المزلّات ، او يرتكب الذنوب الموجبة للعقاب ، ومع كلّ ذلك ينتظر من الله او الملائكة ان يحفظوه ، يعلّل القرآن ذلك بقوله :( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما

__________________

(1) هناك حديث بين المفسرين في ان الضمير (له) لمن يعود ، وكما تشير الآية فإنه يعود للإنسان كما تؤكد عليه الآيات السابقة ، ولكن بعضهم قال : يعود للنبي او لله. وهذا يخالف ما جاء في ذيل الآية [فتأمل].

٣٥٣

بِأَنْفُسِهِمْ ) .

وكي لا يتبادر الى الأذهان انّه مع وجود الملائكة الحافظة فأيّ معنى للعذاب او الجزاء؟ هنا تضيف الآية( وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ) ولهذا السبب فإنّه حين صدور العذاب الالهي على قوم او امّة ، فسوف ينتهي دور المعقّبات ويتركون الإنسان عرضة للحوادث

* * *

بحوث

1 ـ ما هي المعقّبات؟

«المعقّبات» كما جاء في مجمع البيان للعلّامة الطبرسي وكما قاله بعض المفسّرين جمع (معقبة) وهي بدورها جمع (معقّب) ومعناه المجموعة التي تعمل بشكل متناوب ومستمر. والظاهر من الآية انّ الله سبحانه وتعالى امر مجموعة من الملائكة بأن يحفظوا الإنسان في الليل والنهار ومن بين يديه ومن خلفه.

انّ الإنسان ـ بدون شك ـ معرّض في حياته الى كثير من الحوادث الروحية والجسمية ، فالامراض والمتغيّرات في السّماء والأرض محيطة بالإنسان ، وخصوصا في مرحلة الطفولة التي لا يدرك فيها ما يجري حوله ويكون هدفا سهلا للإصابة بها ، فقد يتعجّب الإنسان كيف ينجو الطفل وينمو من بين جميع هذه الحوادث ، وخصوصا في العوائل التي لا تدرك هذه المسائل وتعاني من قلّة الامكانيات كأبناء الريف الذين يعانون من الحرمان والفقر وهم معرضون للامراض اكثر من غيرهم.

وإذا ما امعنّا النظر في هذه المسائل فسوف نجد انّ هناك قوى محافظة ، تحفظ الإنسان في مقابل هذه الحوادث كالدرع الواقي.

وكثيرا ما يتعرّض الإنسان الى حوادث خطرة ويتخلّص منها بشكل

٣٥٤

اعجازي تجعله يشعر انّ كلّ ذلك ليس صدفة وانّما هناك قوى محافظة تحميه.

وهناك كثير من الأحاديث المنقولة عن ائمّة المسلمين تؤكّد ذلك ومن جملتها : الحديث المروي عن الامام الباقرعليه‌السلام في تفسير هذه الآية يقول : «يحفظ بأمر الله من ان يقع في ركي او يقع عليه حائط او يصيبه شيء ، حتّى إذا جاء القدر خلوا بينه وبينه يدفعونه الى المقادير ، وهما ملكان يحفظانه بالليل وملكان من نهار يتعاقبانه».

وفي حديث آخر عن الامام الصادقعليه‌السلام يقول : «ما من عبد الّا ومعه ملكان يحفظانه فإذا جاء الأمر من عند الله خليا بينه وبين امر الله».

ونقرا في نهج البلاغة عن امير المؤمنينعليه‌السلام «انّ مع كلّ انسان ملكين يحفظانه فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه».

كما نقرا في نهج البلاغة في وصف الملائكة من الخطبة الاولى «ومنهم الحفظة لعباده».

انّ عدم إدراكنا لوجود المعقّبات عن طريق الحسّ او التجربة العلمية ليس دليلا على عدم وجودهم ، لانّه غير منحصر في هذا المجال فقط ، فالقرآن الكريم والمصادر المعرفية الاخرى اشارت الى امور كثيرة وراء الحسّ والتي لا يمكن إثباتها بالطرق العادية. واكثر من ذلك ما قلنا سابقا من انّنا نتعرّض في حياتنا الى كثير من المخاطر والتي لا يمكن النجاة منها الّا بوجود هذه القوى المحافظة (ورأيت في حياتي بعض من هذه النماذج المحيّرة ، والتي كانت بالنسبة لي كشخص صعب التصديق دليلا على وجود هذا المعقّب اللامرئي).

2 ـ التغيير يبدأ من النفس (قانون عام)

تبيّن الجملة( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ) والتي جاءت في موردين متفاوتين في القرآن الكريم ، انّها قانون عام ، قانون حاسم ومنذر!

٣٥٥

هذا القانون الذي هو واحد من القوانين الاساسيّة لعلم الاجتماع في الإسلام ، يقول لنا : انّ ما يصيبكم هو من عند أنفسكم ، وما أصاب القوم من السعادة والشقاء هو ممّا عملت أيديهم ، وما يقال من الحظّ والصدفة وما يحتمله المنجّمون ليس له أساس من الصحّة ، فالأساس والقاعدة هي ارادة الامّة إذا أرادت العزّة والافتخار والتقدّم ، او العكس ان أرادت هي الذلّة والهزيمة ، حتّى اللطف الالهي او العقاب لا يكون الّا بمقدّمة. فتلك ارادة الأمم في تغيير ما بأنفسهم حتّى يشملهم اللطف او العذاب الالهي.

وبتعبير آخر : انّ هذا الأصل القرآني الذي يبيّن واحدا من اهمّ المسائل الاجتماعية في الإسلام ، يؤكّد لنا ان اي تغيير خارجي للأمم مرتبط بالتغيير الداخلي لها ، واي نجاح او فشل يصيب الامّة ناشئ من هذا الأمر ، والذين يبحثون عن العوامل الخارجية لتبرير اعمالهم وتصرّفاتهم ويعتبرون القوى المستعمرة والمتسلّطة هي السبب في شقائهم يقعون في خطأ كبير ، لانّ هذه القوى الجهنميّة لا تستطيع ان تفعل شيئا إذا لم تكن لديها قدرة ومركز في داخل المجتمع.

المهمّ ان نطهّر مجتمعاتنا من هذه المقرّات والمراكز للمستعمرين ولا نجعلها تنفذ في داخل مجتمعنا ، فهؤلاء بمنزلة الشياطين ، ونحن نعلم انّ الشيطان ليس له سبيل على عباد الله المخلصين ، فهو يتسلّط على الذي مهّد له السبيل في داخله.

يقول هذا الأصل القرآني : انّنا يجب ان نثور من الداخل كي ننهي حالة الشقاء والحرمان ، ثورة فكرية وثقافية ، ثورة ايمانيّة وأخلاقية ، وأثناء وقوعنا في مخالب الشقاء يجب ان نبحث فورا عن نقاط الضعف فينا ، ونطهّر أنفسنا منها بالتوبة والرجوع الى الله ونبدأ حياة جديدة مفعمة بالنّور والحركة ، كي نستطيع في ظلّها ان نبدّل الهزيمة الى نصر ، لا ان نخفي نقاط الضعف وعوامل الهزيمة هذه ونبحث عنها في خارج المجتمع ونظلّ ندور في الطرق الملتوية.

٣٥٦

هناك كتب ومؤلّفات كثيرة كتبت عن عوامل انتصار المسلمين الأوائل ثمّ تضعضع سلطانهم بعد حين ، وكثير من تلك الأبحاث ظلّت تتعثّر في الطرق الملتوية ، ولكن إذا ما أردنا ان نستلهم من الأصل أعلاه والصادر من منبع الوحي فيجب ان نبحث عن ذاك النصر او تلك الهزيمة وعن عواملها الفكرية والعقائدية والاخلاقية في المسلمين. ففي الثورات المعاصرة ومن جملتها الثورة الاسلامية في ايران ، او ثورة الجزائر او ثورة المسلمين الافغان ، نشاهد بوضوح انطباق هذا الأصل القرآني عليها. فقبل ان تغيّر الدول المستعمرة والمستكبرة طريقتها في التعامل معنا ، غيّرنا نحن ما بأنفسنا فتغيّر كلّ شيء.

وعلى ايّة حال فهذا درس ليومنا ولغدنا ولمستقبلنا ولكلّ المسلمين والأجيال القادمة. ونحن نرى انّ القيادات المنتصرة فقط هي التي استطاعت ان تقود وتغيّر شعوبها على أساس هذا الأصل الخالد ، وفي تاريخ المسلمين والإسلام شواهد على ذلك كثيرة.

* * *

٣٥٧

الآيات

( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) )

التّفسير

قسم آخر من دلائل عظمة الله :

يتطرّق القرآن الكريم مرّة ثانية الى آيات التوحيد وعلائم العظمة واسرار الخلقة. فهذه الآيات تحاول ان تقرّب العلاقة بين الإنسان وربّه من خلال الاشارة الى بعض الظواهر الطبيعيّة بشكل موجز وعميق المعنى لكي يشعّ نور الايمان في

٣٥٨

قلوب الناس ، فتشير اوّلا الى البرق( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ) فالبرق بشعاعه يبهر العيون من جانب ، ويحدث صوتا مخيفا وهو الرعد من جانب آخر ، وقد يسبّب أحيانا الحرائق للناس وخصوصا في المناطق الصحراوية فيبعث على خوفهم ومن جانب آخر فإنّه يسبّب هطول الأمطار ويروي ظمأ الصحراء ويسقي المزروعات فيطمع فيه الناس ، وبين هذا الخوف والرجاء تمرّ عليهم لحظات حسّاسة. ثمّ تضيف الآية( وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ ) القادرة على ارواء ظمأ الاراضي الزراعية.

بركات الرعد والبرق :

نحن نعلم انّ ظاهرة البرق في المفهوم العلمي هي اقتراب سحابتين إحداهما من الاخرى ، وهما تحملان شحنات سالبة وموجبة ، فيتمّ تفريغ الشحنات بين السحابتين فتحدث شرارة عظيمة ، ويحدث مثل ذلك عند اقتراب سلكين أحدهما سالب والآخر موجب ، وإذا كنّا قريبين منهما فإنّنا نسمع صوتا خفيفا ، ولكن لاحتواء الغيوم على شحنات هائلة من الالكترونات فانّهما تحدثان صوتا شديدا يسمّى الرعد.

وإذا ما اقتربت سحابة تحمل الشحنة الموجبة من الأرض التي تحتوي على شحنات سالبة فستحدث شرارة تسمّى بالصاعقة ، وخطورتها تكمن في انّ الأرض والمناطق المرتفعة تعتبر راس السلك السالب ، حتّى الإنسان في الصحراء يمكن ان يمثّل هذا السلك فيحدث تفريغ للشحنات يحوّل الإنسان الى رماد في لحظة واحدة ، ولهذا السبب عند وقوع البرق والرعد في الصحراء يجب ان يلجأ الإنسان الى شجرة او حائط او الى الجبال او الى اي مرتفع آخر ، او ان يستلقي في ارض منخفضة.

وعلى ايّة حال فإنّ للبرق ـ الذي يسمّى في بعض الأحيان مزاح الطبيعة ـ

٣٥٩

فوائد جمّة عرفت من خلال ما كشفه العلم الحديث. ونشير هنا الى ثلاثة منها :

1 ـ السقي : ـ من الطبيعي انّ البرق تتولّد منه حرارة عالية جدّا قد تصل بعض الأحيان الى (15) الف درجة مئوية ، وهذه الحرارة كافية لان تحرق الهواء المحيط بها ، وفي النتيجة يقلّ الضغط الجوي ، فيسبّب سقوط الأمطار. ولهذا السبب نرى هطول الأمطار الغزيرة بعد حدوث البرق.

وهذه في الواقع واحدة من وظائف البرق (السقي).

2 ـ التعقيم : ـ ونتيجة للحرارة العالية التي يسبّبها البرق فسوف يزداد مقدار الاوكسجين في قطرات الماء ، ويسمّى هذا الماء بالماء الثقيل او الماء المؤكسد (2 O 2 H ) ومن آثاره قتل المكروبات ، ولهذا السبب يستعمل لغسل الجروح ، فعند نزول هذه القطرات الى الأرض سوف تبيد بيوض الحشرات والآفات الزراعية ، ولهذا السبب يقال انّ السنة الكثيرة الآفات الزراعية هي السنة القليلة البرق والرعد.

3 ـ التغذية والتسميد : ـ تتفاعل قطرات الماء مع الحرارة العالية للبرق لتنتج حامض الكاربون ، وعند نزولها الى الأرض وتركيبها مع محتوياتها تضع نوعا من السّماد النباتي ، فتتمّ تغذية النبات من هذا الطريق.

يقول بعض العلماء : انّ مقدار ما ينتجه البرق من الاسمدة في السنة يصل الى عشرات الملايين من الاطنان ، وهذه كميّة كبيرة جدّا.

وعلى ايّة حال نرى من خلال ظاهرة طبيعيّة صغيرة كلّ هذه المنافع والبركات ، فهي تقوم بالسقي ورشّ السموم والتغذية ، فيمكن ان تكون دليلا واضحا لمعرفة الله ، كلّ ذلك من بركات البرق. كما انّه يمكن ان يكون البرق عاملا مهمّا في إشعال الحرائق من خلال الصاعقة ، وقد تحرق الإنسان او الأشجار ، ومع انّها نادرة الحدوث ويمكن الوقاية منها ، فهي مع ذلك عامل خوف للناس ، فمفهوم الخوف والطمع للبرق قد يكون اشارة الى جميع هذه الأمور.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482