جامع الافكار وناقد الانظار الجزء ١

جامع الافكار وناقد الانظار16%

جامع الافكار وناقد الانظار مؤلف:
المحقق: مجيد هاديزاده
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: 482

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 482 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36024 / تحميل: 5255
الحجم الحجم الحجم
جامع الافكار وناقد الانظار

جامع الافكار وناقد الانظار الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
ISBN: ٩٦٤-٥٦١٦-٧٠-٧
العربية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وبه نستعين

الحمد لله الّذي دلّ على ذاته بذاته وتجلّى لخلقه ببدائع مصنوعاته ، أظهر من عجائب قدرته ما حيّر ثواقب العقول والأفهام وابرز من غرائب عظمته ما بهّر نوافذ المدارك والأوهام ، خرق علمه باطن غيب السترات وأحاط بغموض عقائد السريرات. والصّلاة على مهابط المعارف والأسرار ووسائط الفيوضات والأنوار من الأنبياء المكرّمين الأخيار وخلفائهم الراشدين الأطهار.

وبعد ؛ فيقول أضعف المحتاجين مهديّ بن أبي ذر النراقي ـ نوّر الله قلبه بنور اليقين وجعله من السابقين المقرّبين ـ هذا ـ يا اخواني! ـ ما أردتم من أصول المعارف الحقيقيّة وجوامع العقائد اليقينيّة من العلم بالله وصفات كماله ومعرفة أسمائه ونعوت جلاله ، وما يتلوهما من المباحث الإلهية العالية والمطالب الحقّة المتعالية ممّا يرتقى به إلى منازل الاخيار ويعرج به إلى عوالم العقول والأنوار ، ويتوجّه به إلى شطر كعبة الملكوت ويسلك به إلى صقع عالم الجبروت. وقد بعث الله السفراء لأجله وانعقد اجماع الأمّة على وجوب أخذه ، فيلزم على الكلّ حمله ولا يسع لأحد جهله. وأسأل الله أن يجعله خالصا لوجهه ويحرسه عن غير أهله. ولاشتماله على جميع الأفكار الالهية ونقدها ـ سيّما مع ما تعلّق « بالشرح الجديد للتجريد » من الحواشى ـ سمّيته بـ : « جامع الأفكار وناقد الأنظار » ؛ ورتّبته على مقدّمة ومقالات.

١
٢

[ مقدّمات الكتاب(١) ]

__________________

(١) عقد المصنّف ـرحمه‌الله ـ هذه المقدّمة لكى يبحث عمّا يجب البحث عنه مقدمة لاثبات الواجب ـ جلّ وعلا ـ الّذي هو العمدة في كتابنا هذا. والمقدّمة تشتمل على هذه الابحاث :

١ ـ في ابطال ترجّح المساوى والمرجوح وترجيحهما ؛ ٢ ـ في انّ طرفى المعلول ما لم يجب لم يقع ؛ ٣ ـ في ابطال وجود الممكن بنفسه وبأولوية ذاتية أو خارجية واثبات انّه لا يوجد إلاّ بعلة خارجة ٤ ـ في انّ الممكن كما يحتاج في وجوده العلّة يحتاج في بقائه أيضا إليها ٥ ـ في ابطال الدور والتسلسل.

واظنّ انّه اقتفى في هذا المنهج اثر الامام الرازي حيث قال : انّ هذا الدليل ـ اى : الدليل الّذي اقامه لاثبات الواجب ـ مبنى على مقدمات : اوّلها : انّ الممكن لا يترجّح احد طرفيه على الآخر إلاّ لمرجّح. وثانيها : بيان انّ هذه الحاجة في حال الحدوث أو في حال البقاء.

وثالثها : انّ ذلك المرجّح يجب ان يكون موجودا. ورابعها : انّه يجب أن يكون موجودا حال

٣

المقدّمة الأولى

في ابطال ترجّح المساوي والمرجوح وترجيحهما(١)

بيان الأوّل : انّ معنى « المساوات » : كون شيئين في مرتبة واحدة بالنظر إلى ثالث ؛ و « المرجوحيّة » : كون أحدهما أبعد من الآخر ؛ و « الراجحية » : كونه أقرب منه ؛ فلو ترجّح المساوي أو المرجوح لزم التناقض ، وبطلانه بديهيّ(٢) ؛ وبه يظهر بطلان الثاني من الفاعل الموجب ، بل ومن المختار أيضا.

والأشاعرة ـ بل أكثر المتكلّمين ـ على أنّ الاختيار يكفي للترجيح ، وللمختار أن يعلّل فعله بالمشيّة ولا حاجة له إلى مرجّح آخر ؛

وفيه : انّه وإن كان كافيا في ترجيح نفس الفعل أو الترك إلاّ أنّه لا بدّ في تعلّقه بأحدهما من مرجّح آخر ، ولذا لو قيل له : « لم فعلت »؟ يمكن له أن يقول : « لأنّي شئته »! ، ولو قيل له : « لم شئته »؟ ، لم يجز له التعليل بالمشيئة ؛ بل لا بدّ له من التعليل

__________________

حصول الاثر. وخامسها : انّ الدور باطل. وسادسها : انّ التسلسل باطل. راجع : المطالب العالية ج ١ ص ٧٢.

(١) راجع : الشرح الجديد على التجريد ، ص ٣٩. وانظر أيضا : كشف المراد ، ص ٣٢.

(٢) « ورايت أبا الحسن محمّد بن على البصرى ـ وهو كان من اذكياء المعتزلة ـ احتجّ على هذه المقدّمة في الكتاب الّذي سمّاه بالتصفّح ، فقال : الممكن هو الّذي استوى طرفاه ، فلو حصل الرجحان من غير مرجّح لزم أن يحصل الرجحان حال حصول الاستواء ، وذلك جمع بين النقيضين وهو محال ». راجع : المطالب العالية ، ج ١ ، ص ٨٧.

٤

بمرجّح.

وما احتجّوا به من رغيفى الجائع وطريقى الهارب ـ وأمثالهما(١) ـ لا يفيد مطلوبهم! ، لظهور وجود رجحان وقت الترجيح وإن لم يشعر به أو لم يبق في ذكره ، فانّ العلم بالمرجّحات وبقائه في الذّكر غير لازم.

فان قيل : مع مرجّح للفعل مثلا إن جاز الترك احتيج إلى مرجّح آخر ولزم التسلسل ، وإلاّ وجب الفعل وزال الاختيار! ؛

قلنا : الوجوب بالاختيار لا ينافيه ، بل يؤكّده ؛ فانّ المختار إذا تعقّل رجحان الفعل واختاره حصل العلّة المستقلّة للفعل ووجب ، ولو لا الاختيار لم يتأتّ الوجوب ، فهو من آثاره ولوازمه ومؤكّداته ودلائله.

المقدّمة الثانيّة

في أنّ طرفي المعلول ما لم يجب لم يقع

وبيانه : انّ وقوع أحدهما امّا مع امتناع الآخر ؛ أو امكانه ؛ مساويا ، أو راجحا ، أو مرجوحا ، والأوّل يوجب المطلوب ، والثاني ترجيح لأحد المساويين من دون مرجّح ، والثالث ترجيح للمرجوح ، والرابع يوجب جواز ترجيح المرجوح ، لانّ المفروض امكان وقوع الطرف الآخر(٢) .

__________________

(١) راجع : شرح المقاصد ، ج ١ ، ص ٤٨٤ ؛ الحكمة المتعالية ، ج ١ ، ص ٢٠٨ ؛ وحاشية المتألّه السبزواري على نفس الموضع. ولتفصيل الاحتجاج ونقده : المطالب العالية ، ج ١ ، ص ١٠٨ ، ١١٨ ؛ المباحث المشرقية ، ج ١ ، ص ١٢٦.

(٢) قد اوجز المصنّف في هذا الفصل تمام الايجاز ، فلتفصيل هذه المقدّمة انظر : الحكمة المتعالية ، ج ١ ص ٢٢١ ؛ المباحث المشرقية ، ج ١ ، ص ١٣١ ؛ شرح عيون الحكمة ، ج ٣ ، ص ٩٤ ؛ تلخيص المحصّل ، ص ١١٩.

٥

المقدّمة الثالثة

في ابطال وجود الممكن بنفسه وبأولوية ذاتية

أو خارجية ، واثبات انّه لا يوجد إلاّ بعلّة خارجة(١)

ولا بدّ لنا أوّلا / ٢ MA / من بيان قسمة عقلية ؛ هي : أنّ كلّ موجود إذا لوحظ من حيث هو إمّا ينتزع منه الوجود بنفس ذاته مع قطع النظر عن جميع ما عداه ، أو لا ؛ بل يتوقّف الانتزاع على ملاحظة غيره. وبعبارة اخرى : كلّ موجود بنفس ذاته إمّا يجب له الوجود ، أو لا ، بل يتساوى نسبة الوجود والعدم إلى ذاته ؛ والثانى ـ على التقديرين ـ هو « الممكن » ، والأوّل هو « الواجب » ـ المعبّر عنه « بالوجود الحقيقىّ » عند / ٢ DA / المشّائين و « بالنور الغيبيّ » عند الاشراقيّين و « بمنشإ انتزاع الموجودية » عند أهل الذوق من المتألّهين و « بالمرتبة الاحدية » عند الصوفيّة و « بالوحدة الحقيقيّة » عند فيثاغورث(٢) ـ.

وهذه القسمة وإن كانت ضروريّة إلاّ أنّه أورد عليها شكوك ثلاثة لا بدّ من دفعها ؛

اوّلها : انّه يمتنع أن يحكم على ماهيّة من الماهيّات بامكان الوجود ، لانّ كلّ ماهيّة إمّا معدومة ، فلا تقبل الوجود ؛ أو موجودة ، فلا تقبل العدم ، وإلاّ اجتمع النقيضان! ؛

وجوابه : إنّ الحكم بالامكان على الماهيّة من حيث هي من دون اعتبار الوجود والعدم ، فلا يلزم اجتمع النقيضين.

وثانيها : انّ العدم ليس له تميّز في الخارج ، فلا يتصوّر له نسبة إلى شيء فضلا عن تساوي النسبة ؛

__________________

(١) راجع : الشرح الجديد ، ص ٣٩. وانظر أيضا : كشف المراد ، ص ٣٢ ؛ شوارق الإلهام ، ج ١ ، ص ٨٩ ؛ شرح المقاصد ، ج ١ ، ص ٤٨١ ؛ گوهر مراد ـ الطبعة الحجرية ـ ، ص ١٤٤ ؛ الحكمة المتعالية ، ج ١ ، ص ١٩٩.

(٢) راجع : المبدأ والمعاد ـ لصدر المتألّهين ـ ، ص ١١. وفيه : « بالنور الغنى عند الرواقيين ». والمذكور في المتن يوجد في ما بأيدينا من مخطوطتين.

٦

وجوابه : بعد مطالبة وجه تخصيص الاعتراض بالعدم! ، لانّ الوجود مثله في عدم التميّز في الخارج وعروضه في الذهن ، لما حقّق في موضعه انّ تساوي نسبة الوجود والعدم إلى ذات الممكن انّما هو في العقل ، بمعنى أنّ العقل إذا لاحظ الممكن والوجود والعدم يحكم بتساوي نسبتهما إليه : وهذا لا يقتضي أزيد من تمايزهما في العقل ، وثبوته فيه لا يقبل المنع. ومعنى تساوي النسبة المذكورة هو عدم اقتضاء ذات الممكن شيئا منهما ، لا اقتضاء تساويهما حتّى يرد امتناع رجحان الوجود أو العدم حينئذ لعلّة خارجة شيئا ، لانّ ما به الذات لا يتخلّف ، والمتنافيين يمتنع اجتماعهما ولو بالف علّة!

وثالثها : أنّه لو اتّصفت ماهيّة بالامكان لوجب اتّصافها به ، وإلاّ لزم زواله عنها ، وهو محال ، لانّه من لوازم ماهيّة الممكن فلا يزول عنها. وإذا وجب الاتّصاف وجب اتصافها بذلك الوجوب أيضا وكذلك بوجوب الوجوب وهكذا ، فيتسلسل الوجوبات إلى غير النهاية. وهذه الشبهة جارية في أكثر المفهومات ـ كالقدم والحدوث والاتصاف واللزوم والوحدة والحصول إلى غير ذلك من المفهومات الاعتبارية الّتي تتكرّر نوعها ـ. مثلا يقال : لو لزم شيء لشيء للزم لزومه أيضا ، وكذا لزوم لزومه وهكذا ، فيتسلسل اللزومات إلى غير النهاية وإلاّ لزم الانفكاك بين اللازم والملزوم ؛ وقس عليه غيره! ؛

واجيب عنه : بانّ مثل هذا التسلسل التسلسل في الأمور الاعتبارية ، ولمّا كان تحقّقها بحسب اعتبار العقل فيترتّب السلسلة ريثما اعتبرها العقل يمكنه اعتبارها غير متناهية لعدم قدرته على دوام الاعتبار ، فينقطع بانقطاع اعتباره ؛ على أنّ فرض دوام اعتباره غير مفيد ، لتناهى ما ينتهي إليه في أيّ وقت فرض.

قيل : توضيح ذلك يتوقّف على مقدمة ، هى : انّ نسبة العقل إلى مدركاته كنسبة البصر إلى مبصراته ، فكما انّ الناظر في المرآت قد لا يشاهدها أصالة بل يجعلها آلة ووسيلة لمشاهدة غيرها من الصور المرتسمة فيها فيلاحظ بها تلك الصور أصالة ـ بحيث يتمكّن من تعرّف احوالها واجراء الاحكام عليها ـ ويلاحظ المرآة تبعا وليس له بهذه الملاحظة أن يتمكّن من تعرّف أحوالها واجراء الاحكام عليها ، كذلك العقل قد

٧

لا يشاهد بعض مدركاته أصالة وقصدا ؛ بل يجعلها مرآة وآلة لمشاهدة بعض آخر من مدركاته ، وقد يشاهده أصالة وقصدا. مثال الأوّل أن يلاحظ الامكان من حيث انّه حالة بين الماهيّة والوجود ، فهو بهذه الملاحظة آلة للعقل في معرفة حالهما ومرآة لمشاهدة صفتهما ، لانّه بهذه الاعتبار جهة القضيّة ـ وهى كيفيّة الرابطة بين الموضوع والمحمول ، اعنى : الماهية والوجود ـ والمعنى الرابطي مأخوذ مع تلك الكيفيّة ليس ملحوظا بالأصالة مدركا بالقصد. ولا يتمكّن العقل بهذا التوجّه أن يحكم عليه بنسبة ولا أن يعتبر نسبته إلى شيء ، بل ملاحظة العقل له حينئذ باعتبار ملاحظة الوجود والماهيّة ، فهو يلاحظهما أصالة ويلاحظه تبعا!. ومثال الثّاني أن يلاحظ الإمكان أصالة وقصدا ويدركه من حيث انّه مفهوم من المفهومات ويقصده لتعرف حاله واجراء / ٢ MB / الاحكام عليه. وقس على الامكان غيره من المفهومات ، فانّ اللزوم قد يلاحظه العقل من حيث أنّه حالة بين اللازم والملزوم ، فهو حينئذ آلة لمعرفة حالهما وملحوظ بملاحظتهما ، فلا يقدر العقل من الحكم عليه بشيء ولا اعتبار نسبته إلى شيء ، وقد يلاحظه قصدا ومن حيث انّه مفهوم من المفهومات.

وإذ ثبت هذه المقدّمة نقول : إذا اعتبر الامكان على الوجه الأوّل لم يلزم تسلسل ولا ترتّب اصلا ـ لما مرّ أنّه لا يتمكّن حينئذ من أن يحكم عليه بشيء أو ينسبه الى شيء ـ فليس له حينئذ أن يحكم بأنّه ممّا يتّصف الغير به أو ممّا يجب اتصافه / ٢ DB / به أو غير ذلك ، فلا اشكال على هذا الوجه مطلقا ؛ وإذا اعتبره على الوجه الثانى ولاحظ معه ماهيّة الممكن أيضا واعتبر النسبة بينهما حكم بوجوب اتّصافها به واعتبار وجوب الاتّصاف حينئذ لما كان من حيث انّه حالة بين الماهيّة والامكان ، فيكون من الوجه الأوّل ولا يفضى الى اعتبار وجوب آخر بين الماهيّة وهذا الوجوب ؛ فلا يلزم تسلسل ولا ترتّب. نعم! ، إن لاحظه العقل قصدا وأصالة ومن حيث انّه مفهوم من المفهومات ولاحظ معه الماهيّة وتعقّل النسبة بينهما لزمه اعتبار وجوب آخر بين الماهيّة وهذا الوجوب ، فاعتبار الوجوب الآخر ـ اعنى الوجوب الثانى ـ يتوقّف على ثلاث ملاحظات ليس شيء منها ضروريا للعقل ، فله أن يلاحظه ؛ وهذا هو المراد « بانقطاع التسلسل

٨

بانقطاع الاعتبار ». ثمّ اعتبار الوجوب الثاني لمّا كان من حيث أنّه حالة بين الماهيّة والوجوب الأوّل يكون من الوجه الاوّل ، فلا يفضى إلى اعتبار وجوب ثالث بين الماهيّة والوجوب الثانى. نعم! ، إن اعتبره العقل أصالة ولاحظه من حيث انّه مفهوم من المفهومات ولاحظ معه الماهيّة والنسبة بينهما لزمه اعتبار وجوب ثالث ، إلاّ انّه يتوقّف على ملاحظات غير لازمة للعقل ، فله أن لا يلاحظهما فينقطع التسلسل ؛ وهكذا الكلام في اعتبار الوجوب الرابع والخامس وما فوقهما. وهكذا حال انقطاع التسلسل في سائر الأمور الاعتبارية من اللزوم والحصول وغيرهما.

هذا ما ذكروه في الجواب عن الشبهة المشهورة بشبهة لزوم التسلسل في اللزوم وامثاله.

وأورد عليه : بأنّ وجوب اتّصاف ماهيّة الممكن أو اللزوم بين اللزوم وأحد المتلازمين لو كان بمجرّد اعتبار العقل فما لم يعتبره العقل لم يتحقّق ، واعتبار العقل ليس ضروريّا ، فيجوز أن لا يتحقّق وجوب اتصاف ماهيّة الممكن بالامكان ، ولا اللزوم بين اللزوم وأحد المتلازمين ، فيمكن الانفكاك بينهما ؛ فلا يكون اللازم لازما ولا الملزوم ملزوما. وأيضا لا ريب في أنّ وجوب اتصاف الممكن بالامكان ووجوب اتصافه بوجوب الاتصاف واللزوم بين المتلازمين واللزوم بين اللزوم واحدهما أمور متحقّقة في الواقع ونفس الامر ـ وإن قطع النظر عن اعتبار العقل ـ ، فليست الوجوبات واللزومات أمورا اعتبارية ، بل حقيقيّة واقعيّة.

واجيب عنه : بانّ عدم كون الوجوبات واللزومات المذكورة من الأمور المتحقّقة في نفس الأمر لا يوجب امكان زوال الامكان عن الممكن وجواز الانفكاك بين اللزوم الأوّل وأحد المتلازمين ، وانّما يلزم ذلك لو لم تكن ماهيّة الممكن واجبة الاتصاف بالامكان ، ولا اللزوم الأوّل لازما لأحد المتلازمين في نفس الامر ، وهو محال ؛ لانّ انتفاء مبدأ المحمول في نفس الامر لا يستلزم انتفاء الحمل فيه ، فغاية الامر انّ انتفاء مبدأ المحمول في الواقع يستلزم انتفاء المحمول ـ أعنى : مفهوم وجوب الاتصاف ومفهوم اللازم فيه ـ لانتفاء جزئه ؛ ولا يوجب عدم صدقه في ذلك المحمول العدمي على شيء في نفس

٩

الأمر ، فانّ صدق المفهومات العدميّة في نفس الأمر على الأمور الموجودة فيها لا ينكر ، فانّ مفهوم الأعمى غير موجود في الواقع لانتفاء جزئه فيه ، مع أنّه يصدق على زيد وعمرو مثلا ، والأربعة إذا وجدت في الذهن متّصفة بالزوجيّة في نفس الأمر ، مع أنّ الزوجيّة غير موجودة فيها ـ وأمثال ذلك أكثر من أن يحصى! ـ. وغير خفىّ أنّ الضروري والمسلّم ثبوت الحمل في نفس الأمر ـ أعني : كون ماهيّة الممكن واجبة الاتّصاف بالامكان في الواقع واللزوم الأوّل لازما لأحد المتلازمين في نفس الأمر ـ إلاّ أنّ وجوب الاتصاف واللزوم الأوّل من الموجودات الواقعيّة ، فانقطاع التسلسل في الوجوبات واللزومات الاعتبارية بانقطاع اعتبار العقل وان بقى ثبوت وجوب اتصاف الممكن بالامكان واللزوم الأوّل في نفس الأمر ؛ إلاّ أنّه لا ينفى تحقّق الحمل المذكور فيها. / ٣ MA /

وأورد عليه : بأنّ الماهيّة واجبة الاتصاف بكلّ واحد من الوجوبات المتسلسلة إلى غير النهاية ، وكلّ واحد من اللزومات المذكورة لازم لأحد المتلازمين في نفس الامر ، اذ لولاه جاز أن لا تكون الماهية واجبة الاتصاف بالامكان وامكن أن لا يكون اللزوم الأوّل لازما لاحد المتلازمين ، فيجوز انفكاك اللازم عن الملزوم. وأيضا لا ريب في انّ الماهية واجبة الاتصاف بكلّ واحد من الوجوبات المذكورة في نفس الامر ، وانّ كلّ واحد من اللزومات لازم لاحد المتلازمين في الواقع وإن قطع النظر عن اعتبار العقول والاذهان. والحاصل كما انّه يصدق أنّ الماهيّة واجبة الاتصاف بالامكان / ٣ DA / وانّ اللزوم الأوّل لازم لأحد المتلازمين في نفس الأمر يصدق أنّ الماهية واجبة الاتّصاف بوجوب الاتصاف ووجوب الوجوب ، وهكذا ؛ وأنّ اللزوم الثانى والثالث وما فوقهما لازم لاحد المتلازمين في نفس الامر ، فتحقّق الحمل في الواقع في الكلّ سواء. وإذا كان كلّ واحد من الوجوبات واجبا وكلّ واحد من اللزومات لازما في نفس الامر كان كلّ وجوب وكلّ لزوم متحقّقا فيه ، لأنّ البديهة قاضية بانّ ما لا ثبوت له في نفس الأمر لا يتّصف بثبوت شيء له فيه ؛ فانّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له. فان كان هذا الثبوت بحسب نفس الأمر كان المثبت له ثابتا فيه ، وإن كان بحسب الخارج كان المثبت له موجودا فيه ـ فانّ الشيء ما لم يوجد في أحدهما لم يتّصف بثبوت شيء

١٠

له فيه ولم يثبت له صفة فيه ، سواء كان ذلك الشيء المثبت وجوديّا أو عدميا ـ ؛ ولذا قالوا : صدق القضية الموجبة المعدولة الخارجية يستدعي وجود موضوعها في الخارج فكلّ واحد من تلك الوجوبات واللزومات كما وقع مبدأ للمحمول في قضية صادقة في نفس الأمر كذلك وقع موضوعا لها ، وصحّة الحمل في نفس الأمر توجب ثبوت الموضوع فيه وإن لم توجب ثبوت مبدأ المحمول فيه ؛ وهذا يقتضي تحقّق جميع تلك الوجوبات واللزومات الغير المتناهية في نفس الأمر ، فيلزم التسلسل في الأمور المتحقّقة في الواقع ونفس الأمر لا في الأمور الاعتبارية المنقطعة بانقطاع الاعتبار.

والجواب : انّ وجود الموضوع ـ الّذي هو مقتضى صدق القضية الخارجية ـ أعمّ من أن يكون موجودا بوجود مستقلّ يخصّه أو يكون موجودا بوجود ما ينتزع هو عنه ، فانّ قولنا : « الفوقية ثابتة » قضية خارجية مع أنّ الموضوع فيها ليس موجودا في الخارج بوجود مغاير يخصّه ، بل موجود بوجود ما ينتزع عنه ـ أعني : السقف مثلا ـ ، واجزاء الجسم المتصل الواحد موجودة بوجود كلّها ، مع أنّ كلّ واحد منها قد يصير موضوعا للقضية الموجبة الصادقة في الخارج ونفس الأمر كما إذا كان بعضها حارّا وبعضها باردا ، فيقال : « بعض أجزاء هذا الجسم حارّ وبعضها بارد ». فيصدق الايجاب الخارجي مع أنّ الأجزاء المذكورة ليست موجودة في الجسم بصور مغايرة ، بل هى موجودة بوجود ما ينتزع هي عنه ـ أعني : وجود الكلّ ـ. ومن البيّن انّها ليست في الخارج ونفس الأمر معدومات صرفة بل لها نحو من الوجود. إلاّ انّها ليست لها وجود منفرد عن الكلّ بل هى موجودة بوجوده ، وكذا الحال في وجود كلّ ما هو موجود بوجود ما ينتزع عنه. وكما أنّ صدق القضية الخارجية يقتضي وجود موضوعها في الخارج بأحد الوجهين فكذا صدق القضيّة الذهنيّة يقتضي وجود موضوعها في الذهن بأحد الوجهين ، فإنّ موضوع القضيّة الذهنية قد يكون موجودا في الذهن بوجود منفرد يخصّه ، وقد يكون موجودا فيه بوجود ما ينتزع عنه من المعقولات المستقلّة سواء كان جزء لها أو لا. وكما أنّ خصوص القضيّة الخارجية قد يقتضي نحوا خاصّا

١١

من الوجود ـ كالحكم بالتخيير فانّه يقتضي الوجود الخاصّ به المستقل والحكم على الجوهر بخواصّه ؛ فانّه يقتضي نحوا لوجود الّذي يخصّه ، والحكم على العرض بخواصّه ؛ فانّه يقتضي نحوا لوجود الخاصّ به ـ ، كذلك القضايا الذهنية قد تقتضى خصوصيات الوجود. وهذا كما أنّ المطلقة تقتضي وجود الموضوع بالفعل والدائمة تقتضى وجوده بالدوام والممكنة تقتضي وجوده بالامكان.

وإذا علمت ذلك فنقول : انّ الوجوبات واللزومات المذكورة وإن لم تكن موجودة في نفس الأمر بصور مغايرة ووجودات منفردة إلاّ انّها موجودة فيها بوجود ما ينتزع هي عنه ، وإن كان كلّ واحد منها منتزعا من آخر كان ذلك الآخر أيضا منتزعا عن مثله إلى أن ينتهى إلى الوجود المستقلّ المنفرد ـ أعني : الماهية وأحد المتلازمين ـ ، فانّ وجود المنتزع منه للموضوع لا يلزم أن يكون مستقلاّ منفردا ، بل يكفى أن يكون هو أيضا منتزعا عن غيره. ويجوز أن يكون كلّ واحد من هذه المنتزعات ـ الّتي جعلت موضوعات ـ بحيث ينتزع عنه شيء آخر يكون محمولا له ، لانّ لزوم شيء لآخر قد يكون بحسب الوجود المستقل بالفعل من كلا طرفي الملزوم واللازم بان يمتنع انفكاك الملزوم في وجوده / ٤ DB / بالفعل / ٣ MB / عن وجود اللازم بالفعل ، وقد يكون بحسب الوجود بالفعل من أحد الطرفين وبحسب صحّة الانتزاع من الطرف الآخر ، كلزوم الانقطاع للجسم ؛ فانّ الانقطاع من حيث انّه منتزع لازم للجسم من حيث انّه موجود بالفعل ، وقد يكون بحسب صحّة الانتزاع من كلا الطرفين. ومن هذا القبيل لزوم اللزوم ، فانّ مرجعه إلى أنّ اللزوم لا يمكن صحّة انتزاعه الاّ وهو بحيث يصحّ منه انتزاع اللزوم للزوم ، وهكذا ، فثبت انّه يكفي في صدق الايجاب هذا النحو من الوجود ـ أعنى : صحّة انتزاعه من موجود وان كان منتزعا من مثله ـ ، كما أنّ الممكنة يكفي في صدقها وجود الموضوع بالامكان. ولا ريب انّ الانتزاع من فعل العقل وليس هذا ضروريا له ، فإذا لم يعتبره لم يتحقّق وجود منتزع منفرد في نفس الامر ، فينقطع التسلسل في الوجوبات واللزومات بانقطاع اعتبار العقل ولا يلزم تحقّقها في نفس الامر بصورة مغايرة ليلزم التسلسل في الأمور المتحقّقة فيها ، وان كان لها في نفس الأمر نحو تحقّق يصحّ لأجله

١٢

صدق تحقّق وجوب اتصاف ماهية الممكن بالامكان وبثبوت اللزوم بين اللزوم وأحد المتلازمين.

واذ صحّت القسمة المذكورة للموجود وثبت أنّ الممكن ما يتساوى نسبة الوجود والعدم إلى ذاته ويتوقّف انتزاع الوجود منه على ملاحظة غيره ؛ نقول : يلزم منه أن يكون الممكن في وجوده محتاجا إلى علّة خارجة ، لأنّه لو لم يفتقر إليه ووجد بدونها فإمّا أن يصير موجودا بنفسه مع تحقّق تساوي النسبة المذكورة ، أو مع اولوية ذاتية ناشئة عن ذاته غير منتهية إلى حدّ الوجوب ، أو اولوية خارجة ناشئة عن غيره كذلك ؛ والكلّ باطل!.

امّا الأوّل فلانّه ترجّح لأحد المتساويين من غير مرجّح ـ وقد مرّ بطلانه ـ ؛ وإن فرض انّ الوجود وجب له بذاته مع عدم كونه واجبا لذاته فهو متناقض لنفسه.

واستدلّ عليه الشيخ في الشفا : بانّ ماهية الممكن إن كانت كافية في كونه موجودا كان واجبا موجودا دائما ، وان لم يكف احتاج إلى غيره ، وهو العلّة ؛

وأورد عليه : بانّه إن اريد بالكفاية لها الكفاية في صحّة الاتصاف بالوجود فنختار الكفاية ولا يوجب كونه واجبا ؛

وإن أريد بها الكفاية في لزوم الوجود فنختار عدم الكفاية ونمنع ايجاب ذلك لعلّة خارجة ، لامكان أن يتّصف بالوجود ويعرضه الوجود فيصير موجودا بدون علّة وإن لم يبلغ حدّ الوجوب ، فانّ المتنازع فيه ليس الاّ هذا ، فلئن جوّز وجود الممكن بلا علّة فله أن يجوّز هذا ، بل هذا عين ذاك.

واجيب عنه ، بأنّ ماهيّة الممكن إن كانت كافية في صحّة الاتصاف بالوجود لكانت كافية في لزوم الوجود ، لأنّ ما ثبت للشيء بالنظر إلى ذاته يجب أن يكون لازما له غير منفكّ عنه بالنظر إلى ذاته ـ كالزوجيّة للأربعة ـ.

ثمّ هذا الحكم ـ أعني : احتياج الممكن في وجوده إلى علّة خارجة ـ ممّا اتفق عليه جميع العقلاء ولم يخالف فيه احد سوى ذيمقراطيس من الأقدمين ، فانّه ذهب إلى أنّ

١٣

وجود الممكنات من السماوات وغيرها بطريق البخت والاتفاق(١) ، وقال : انّ احتياج الممكن إلى المؤثّر يوجب جواز تأثيره فيه ، اذ احتياجه إليه مع امتناع تأثيره غير معقول ، لكن تأثير أمر في أمر آخر محال ، لوجوه ؛

منها : انّ التأثير إن كان بشرط عدم الأثر لزم الجمع بين النقيضين ؛ وإن كان بشرط وجوده لزم تحصيل الحاصل(٢) ؛

والجواب : انّ المؤثر يؤثّر في الأثر لا من حيث هو معدوم ولا من حيث هو موجود ، بل يؤثّر فيه من حيث هو غير مقيّد بشيء من الوجود والعدم ، غاية الأمر انّ تحقّق التأثير في زمان وجود الأثر بمعنى أنّ التأثير يقارن وجود الأثر زمانا وان تقدّم عليه ذاتا ، فلا يتحقّق في زمان قبل زمان وجود الأثر ؛ بل تحقّقه إنّما هو في زمان وجوده. وهذا لا يوجب إلاّ لزوم تحصيل الحاصل بهذا التأثير المذكور ، ولا استحالة فيه ، انّما المحال التحصيل ـ أى : تحصيل الحاصل ـ قبل هذا التحصيل. وتوضيح ذلك انّ تاثير المؤثّر في ماهيّة ممكن ليس إلاّ ايجادها ـ أي : جعلها موجودة ـ وهذا الايجاد فعل يقارن زمان وجود هذه الماهيّة وإن تقدّم عليه ذاتا لترتّب الوجود على الايجاد ـ ولذا يقال : « اوجد فوجد » ـ ، فلا يتحقّق قبل وجودها زمانا. بل تحقّقها في زمان وجودها لا يوجب ذلك تحصيل ما كان حاصلا قبل هذا الفعل ، بل يوجب تحصيل الحاصل بهذا الفعل ولا استحالة فيه. انّما المحال تحصيل ما كان حاصلا قبل هذا الفعل ، وانّما / ٤ DA / يتصوّر ذلك / ٤ MA / إذا كان وجود الماهيّة شرطا للايجاد بان تكون موجودة قبله ، وليس كذلك.

ومنها : انّه لو اثّر شيء في غيره لاتّصف بالمؤثّرية ، والمؤثّرية وصف محتاج إلى الموصوف ، فيكون ممكنا محتاجا إلى المؤثّر ، فيتحقّق مؤثّريّة أخرى ؛ وننقل الكلام إليها حتّى يلزم التسلسل ؛

__________________

(١) راجع : شرح المقاصد ، ج ١ ص ٤٨٥. والقول عند صدر المتألّهين ورئيسهم منسوب إلى انباذقلس الحكيم. وهو عنده من مرموزات المتقدّمين لكتم اسرارهم الربوبية. راجع : الحكمة المتعالية ، ج ١ ، ص ٢١٠.

(٢) راجع : الحكمة المتعالية ، ج ١ ص ٢١١ ؛ شرح المقاصد ، ج ١ ، ص ٤٨٤.

١٤

وجوابه : انّ المؤثرية اعتبار عقلى غير موجود في الخارج حتّى تكون ممكنا محتاجا إلى العلّة ولا ينافيه اتصاف الشيء بها في نفس الأمر ، لانّ انتفاء مبدأ المحمول لا يوجب انتفاء الحمل والاتصاف به ـ وقد مرّ توضيح ذلك وتحقيقه في الجواب عن شبهة لزوم التسلسل في اللزوم وامثاله ـ.

ومنها : انّ تاثير المؤثّر امّا في الماهيّة أو الوجود ، أو في اتّصافها به ، والكلّ باطل ؛ أمّا بطلان تأثيره في الوجود والاتصاف فلانهما أمران اعتباريان لا يصلحان اثرا للمؤثّر ؛ وأمّا بطلان تأثيره في الماهيّة فلأنّ الماهيّة لو كانت ماهيّة بتأثير المؤثّر لوقع الشكّ في كونها ماهيّة عند الشكّ في وجود المؤثّر ، وهو باطل ، فلو كان الانسان انسانا بجعل الجاعل لوقع الشكّ في كونه انسانا إذا شكّ في وجود الجاعل ، وهو باطل. وأيضا ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، فانّ الانسان في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر انسان ولو قطع النظر عن جميع ما عداه. وأيضا كون الانسان انسانا وكذا كون كلّ شيء نفسه لو كان بجعل الجاعل لم يكن الانسان انسانا ولا كلّ شيء نفسه عند عدم الجاعل ، بل كان قبل أن يفعله وبعد إن يعدمه غير نفسه ، فيلزم سلب الشيء عن نفسه ، وهو ظاهر البطلان(١) ! ؛

أقول : قبل الخوض في جواب هذا الايراد لا بدّ لنا من تمهيد مقدّمة ، وهي انّ التأثير في الماهية يتصوّر على وجهين :

أحدهما : ان يجعلها الجاعل ايّاها ـ أي : يجعل الماهيّة ماهية ـ وهو الجعل المركّب في الماهيّة ؛

وثانيهما : أن يجعلها موجودة ـ أي : يجعل الماهيّة المعقولة موجودة في الخارج ـ ، وهو الجعل البسيط فيها.

والتأثير في الوجود والاتصاف أيضا يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يجعل الوجود وجودا والاتصاف اتصافا ـ وهو أيضا جعل مركّب فيهما ـ ؛

__________________

(١) راجع : الحكمة المتعالية ، ج ١ ، ص ٢١٣.

١٥

وثانيهما : أن يجعل كلاّ منهما موجودا. والمورد قصر الجعل في الماهيّة على الوجه الأوّل ، وابطاله بما ذكر.

ولمّا لزم منه بطلان الجعل بالوجه الأوّل في الوجود والاتصاف أيضا تعيّن أن يحمل الجعل فيهما في كلامه على الوجه الثاني ـ كما يقتضيه دليله الّذي ذكره لإبطاله ـ.

ولا ريب في أنّ الجعل المركّب في كلّ واحد من الماهيّة والوجود والاتصاف باطل ـ للأدلّة الثلاثة الّتي ذكرها المورد ـ.

وهي وإن كانت عند التحقيق تامّة ناهضة لاثبات المطلوب إلاّ انّه أورد على كلّ منها اعتراض لا بدّ لنا أن نشير إلى دفعه.

أمّا الدليل الأوّل فقد اعترض عليه : بأنّه يجوز أن يكون شيء لازما بيّنا بالمعنى الأعمّ لشيء آخر مع ثبوته له بتأثير المؤثّر ، فيمكن أن يكون الانسانية للانسان لازما بيّنا بالمعنى الأعمّ مع ثبوته له بتأثير المؤثر ، فلا يقع الشكّ في ثبوته له مع الشكّ في وجود المؤثر ؛

وجوابه : انّه قد تقرّر عند القوم انّ العلم اليقينى الكلّى بما له سبب لا يحصل إلاّ من العلم بسببه ، فلو كانت ثبوت الانسانية للانسان بتأثير المؤثّر لم يتيقّن كلّيا مع الشك في وجود مؤثّره.

فان قيل : المقرّر عندهم انّ ما له سبب إذا لم يكن بديهيا لا يحصل العلم الكلّي اليقينى إلاّ من جهة سببه ، وثبوت الشيء لنفسه لمّا كان ضروريا لا يتوقّف على العلم بالسبب ، فيجوز أن يكون بتأثير المؤثر ويتيقن به كلّيا مع الشكّ في وجود مؤثّره ،

قلنا : ان اريد انّ وجوب الشيء لنفسه على فرض وجوده في الخارج ضرورى ، فممنوع ، لكن الدعوى أعمّ ؛ وإن اريد انّه ضروري أعمّ من أن يكون الشيء موجودا في الخارج أو معدوما ، فممنوع ، كيف وبعضهم منع بطلان التالي في هذا الدليل! ـ أعني : وقوع الشكّ في كون الانسان انسانا عند الشكّ في وجود المؤثّر ـ محتجّا بانّ المعدوم في الخارج مسلوب عن نفسه ما دام معدوما ، فإذا ارتفع المؤثّر في وقت أو دائما ارتفع الانسانية كذلك ، فيصدق قولنا : « ليس الانسان انسانا » ويكون صدق السالبة

١٦

الخارجة لعدم الموضوع في الخارج. وهذا وإن لم يكن حقّا عندنا ـ وسيأتي وجه اندفاعه في الدليل الثالث ـ إلاّ انّه ممّا قال به بعض المحقّقين ، فلا يكون ثبوت الانسانية لمطلق الانسان / ٤ DB / بديهيّا.

وامّا الدليل الثاني / ٤ MB / فقد اعترض عليه : بانّه إن اريد به انّا نجزم بثبوت الشيء لنفسه مع عدم العلم بغيره ، فلا يلزم منه عدم كون ذلك الثبوت بسبب المؤثّر ، بل انّما يلزم منه عدم الواسطة في التصديق ، على انّه عند التحقيق يرجع إلى الدليل الأوّل. وإن اريد انّا نجزم بثبوته لنفسه على فرض انتفاء الأغيار يرجع إلى الدليل الثالث ؛

وجوابه : انّ اختيار كلّ واحد من الشقين ممكن. والرجوع إلى الأوّل والثالث لا ضير فيه ، فانّ اختلاف الأدلّة قد يكون بمجرّد الاختلاف في التقرير. فان اختير الشق الأوّل يجاب عن الاعتراض بما مرّ من انّ العلم بذي السبب لا يحصل إلاّ من العلم بالسبب ؛ وان اختير الشق الثاني ورجع إلى الدليل الثالث فتعلم حاله.

وامّا الدليل الثالث فاعترض عليه : بمنع استحالة سلب الشيء عن نفسه إذا كان معدوما ، فانّ ثبوت الشيء للشيء يستدعي ثبوته لنفسه ـ فثبوت الانسانية للانسان يستدعي ثبوت الانسان ـ ، فإذا كان الشيء معدوما يصدق سلب جميع المفهومات عنه. فان كان انتفائه واقعا صدقت السالبة المطلقة ، وإن كان ممكنا غير واقع صدقت الممكنة فقط ، وإن كان مستحيلا لم يصدق اصلا ؛

وجوابه : انّا لا نسلّم صدق سلب جميع المفهومات عن المعدوم في الخارج إذا كان موجودا في الذهن ، فانّ حقيقة الانسانيّة ثابتة للانسان المعدوم في الخارج إذا كان موجودا في مدرك من المدارك ، لانّ العقل إذا تعقّل ماهيّة الانسان يحكم بثبوت الانسانية له ، وإن لم يوجد في الخارج. فالانسان الموجود في الذهن دون الخارج انسان. فلا يشترط تاثير المؤثّر في كون الانسان انسانا ، إذ لو كان بتأثيره لم يثبت للانسان الذهني حقيقة الانسانية. وعدم ثبوت الانسانية الخارجية له غير قادح ، لانّ من يقول : « انّ الماهيّة ماهية بدون تاثير المؤثّر » لا يقول بانّ الانسان المعدوم مثلا ثبتت

١٧

له الانسانية الخارجية ، بل يقول : « أصل هذه الحقيقة مع قطع النظر عن وجودها وحصولها ثابتة لنفسها ، وامّا وجودها وحصولها في الأكوان فمن الجاعل ». ولمّا كانت هذه الماهيّة ثابتة لنفسها بدون تصوّر جعلها إذا كانت موجودة في الذهن دون الخارج يعلم منه أنّها إذا وجدت في الخارج يكون ثبوتها لنفسها أيضا بدون الجعل وإن كان وجودها من الجاعل. فالماهيّة الموجودة في الخارج وجودها وبروزها في الاكوان بتأثير المؤثّر ، ولكن كونها انسانا أو شجرا أو مثلّثا أو غير ذلك مع لوازمها الذاتيّة ليس بجعل جاعل وتأثير مؤثّر.

وممّا يدلّ على هذا انّه قد يتحقّق في بعض التقادير الحكم بثبوت الماهيّة الموجودة لنفسها مع عدم العلم بتأثير المؤثّر ؛ بيانه : انّ عدم العلم بتأثير المؤثّر قد يكون ناشئا من عدم التوجّه والالتفات من دون استلزامه لصحّة سلب جميع المفهومات لزوما بينا بالمعنى الأخصّ ، إذ اللزوم انّما هو بعد ترتيب مقدّمات. وحينئذ نقول : إذا أبصرنا زيدا مثلا يمكن أن يحصل لنا الجزم بانّه انسان مع عدم العلم بوجود مؤثّره ، وإذا كان كذلك فثبت كون الانسان انسانا عند عدم المؤثّر ، فتمّ الدليل. وأيضا يجوز أن يكون الشكّ في وجود المؤثر للشكّ في انّ هذا الشيء الموجود هل يحتاج إلى المؤثّر أم لا؟ ؛ وحينئذ تجويز عدم وجوده لا يستلزم صحّة سلبه عن نفسه. مثلا يمكن أن يرى شيء وكان له مؤثّر في الواقع ويجزم لثبوته ووجوده لنفسه ويشكّ في وجود مؤثّره ـ بناء على الشكّ في انّه هل هو ممكن محتاج إلى المؤثّر أم لا؟ ـ. ولا ريب انّ مثل هذا الشكّ لا ينافي القطع بثبوته لنفسه ، فثبت كون الانسان مثلا انسانا مع الشكّ في وجود مؤثّره ، ولو كان بتأثير المؤثّر لما حصل الجزم به بدون العلم بمؤثّره.

وقد علم بما ذكر انّ صدق سلب جميع المفهومات عن الماهيّة إذا كان لها نحو وجود خارجا أو ذهنا ممنوع. وكذا إذا كانت للماهيّات ثبوت في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر لم يصدق سلب جميع المفهومات عنها بحسبهما ، إذ نقول حينئذ : الانسان الثابت في الواقع ونفس الأمر لا ينفكّ عنه الانسانيّة الواقعيّة ، فماهيّة المثلّث حينئذ في حاقّ الواقع مثلّث من دون افتقار إلى الجعل والتأثير. نعم ؛ إن لم يكن للماهيّات ثبوت

١٨

في الواقع ونفس الأمر وفرض انّ ماهيّة ـ كالانسان مثلا ـ غير موجودة في الخارج و/ ٥ MA / لا في مدرك من المدارك صدق سلب جميع المفهومات في نفس الأمر ، إلاّ أنّه غير قادح في المطلوب اصلا ـ كما لا يخفى ـ.

على أنّ الصدق / ٥ DA / المذكور محلّ تامّل!.

وإذ ثبت صحّة ما أورده منكر التأثير والمتأثّر من بطلان الجعل المركّب في الماهيّة والوجود والاتصاف ـ أي : جعلها ايّاها ـ نقول في الجواب عن ايراده : انّ بطلان الجعل المركّب لا يوجب بطلان مطلق الجعل ، بل هنا قسم آخر من الجعل يسمّى بـ : « الجعل البسيط » ، وهو الجعل الحقيقيّ الّذي صارت الماهيّات به عن جعل الجاعل وهو جعلها موجودة في الخارج لا بان يكون اشياء ثابتة في أنفسها ويصبغها الجاعل بالوجود كما يفعل الصبّاغ بالثوب ، فانّه ليس جعلا بسيطا بل هو أيضا جعل مركّب ، بل فعلها وفعلها هو بعينه ايجادها في الخارج ، كما انّ المتحرّك إذا تحرّك لا تجعل الحركة ولا شيئا آخر حركة بل انّما يفعل الحركة وبمجرّد فعله يصير الحركة موجودة ، والخطّاط إذا خطّ لا يجعل الخطّ ولا شيئا آخر خطّا ، بل يفعل الخطّ ومجرد فعله هذا هو عين ايجاده في الخارج. ولمّا كان حقيقة هذا الجعل هو موجودية الماهيّة في الخارج والماهيّة الموجودة في الخارج وإن كان شيئا واحدا ليس مركّبا في الخارج من شيئين متميّزين أحدهما الماهيّة والآخر الوجود ، إلاّ أنّ العقل يحلّلها إليهما ويجعل الماهيّة متّصفة بالوجود ، فثبت هناك اشياء ثلاثة : الماهيّة ، والوجود ، والاتصاف. ولاجل ذلك يصحّ أن يقال : « أثر الجعل هو الماهيّة » ، وأن يقال : « اثره هو الوجود » ، وأن يقال : « اثره هو الاتصاف ». ومن ثمّة نجد بعض اقاويل الحكماء دالاّ على انّ تاثير المؤثّر في الماهيّة ، وبعضها دالاّ على أنّ تاثيره في الوجود. وليس هذا كما زعمه بعض المتأخّرين من انّ هنا مذهبين : أحدهما انّ التأثير في الماهيّة ـ ونسبه إلى الاشراقيّين ـ ، والثاني انّ التّأثير في الوجود ـ ونسبه الى المشّائين(١) ـ ؛ وعلى هذا فالتأثير في الماهيّة هو موجوديتها وليس جعل ذاتها ـ أي :

__________________

(١) راجع : كتاب المشاعر ، ص ٣٧ ؛ الحكمة المتعالية ، ج ١ ، ص ٣٩٨. وانظر أيضا : مجموعه مصنّفات شيخ اشراق ، ج ١ ، ص ٣٠١.

١٩

فعليّتها ـ أمرا وراء موجوديتها ولا موجوديتها امرا وراء اتصافها بالوجود حتّى يكون متعلّق الجعل هو الماهيّة نفسها بمعنى تابعيتها للجاعل دون كونها موجودة ، كما ذهب إليه بعض المتأخّرين وقال : « انّ الجعل متعلّق ابتداء بنفس الماهيّة لا بكونها هى ولا بكونها موجودة ، ثمّ العقل ينتزع منه كونها هي وكونها موجودة كما هو مذهب الاشراقيين.

وتحقيق ذلك انّه فرق بين جعل الشيء شيئا وبين جعل الشيء. والماهيّة ليست مجعولة ايّاها بل مجعولة في ذاتها بمعنى انّ نفسها تابع للجاعل وان صحّ أن يقال أيضا وجودها تابع له كما انّ عند من يجعل اثر الفاعل هو الاتّصاف بالوجود يصحّ ان يقال جعلهما الفاعل متّصفة بالاتصاف بالوجود أو متّصفة بالاتصاف بذلك الاتصاف. فكما انّ الاثر الأوّل عنده هو الاتصاف ـ لا بمعنى جعله شيئا بل جعله في نفسه ، والاتّصافات الأخر مرتّبة عليه ـ ، كذلك الأثر الأوّل عندهم الماهيّة ، لا بمعنى جعلها ايّاها أو غيرها ، بل جعلها في نفسها. وقولهم : « العقل يحكم بانّه جعله موجودا » لا يدلّ على أن ليس الماهيّة بنفسها اثر الفاعل ؛ وقولهم : « العقل يحكم بانّه لم يجعلها ايّاها » ـ على ما فيه من الكلام كما سبق ـ انّما يدلّ على نفى الجعل المركّب في الماهيّة لا على نفى جعلها في نفسها ، والفرق بين الجعلين ممّا لا ينبغى ان يخفى على من له ادنى بصيرة.

وإن شئت زيادة توضيح للمرام فاستمع لما يتلى عليك من الكلام ؛ وهو : انّ التأثير قد يكون اختراعيا ـ أعني : إفاضة الأثر على قابل ، كالصور والاعراض على المادّة القابلة لها ـ ومن هذا القبيل جعل الموجود الذهنى موجودا خارجيا وبالعكس ، وهذا التأثير بخصوصه يستدعي مجعولا ومجعولا إليه ؛ وقد يكون ابداعيا ـ أعني : ايجاد الأيس عن الليس المطلق ـ. ولا يقتضي مجعولا ولا مجعولا إليه ، بل هو جعل بسيط مقدّس عن شوائب التكثّر مستغن عن قابل متعلّق بذات الشيء فقط. وهذا هو التأثير الحقيقيّ في الشيء. والأوّل هو بالحقيقة هو تاثير في بعض اوصافه ـ أعني كونه شيئا آخر هو الموجود أو غيره ـ ، فأثره بالذات هو ذلك الاتّصاف. ولمّا كان المتعارف هو التأثير الأوّل وكان في تصوّر هذا التأثير نوع غموض لم يفهمه الكثيرون ، وقصّروا التأثير على المعنى الأوّل ولم يعلموا أنّ ما يفيده الفاعل شيئا يجب أن تكون له

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الإحداث، فإذن يمكن أن يقال بأنّ الإرادة المتعلّقة بالبقاء غير المتعلّقة بالحدوث؛ لأنّ الإحداث فعل لا دوام له، وأيضاً التأثير - بناءً على اختيار الشق الثاني من السؤال المتقدّم - لا يعقل إلاّ بتجدّد الإرادات، وأمّا بناءً على الوجه الأَوّل ففيه الوجهان.

مسألة

قالوا: إنّ الممكن القديم - أعني به المسبوق بالغير فقط لا بالعدم - لا يحتاج إلى المؤثّر، بناءً على مدخلية الحدوث في الحاجة؛ ضرورة فقدان مناط الحاجة حينئذٍ في القديم.

أقول: وفيه تفصيل، وأمّا بناءً على سببية الإمكان للفقر دون اشتراك الحدوث، فلا شكّ في أنّه محتاج إلى المؤثّر في بقائه بداهة ترتّب المعلول على علّته، وإنّما الكلام في أنّه هل يستند إلى المختار أو الموجب؟ والظاهر من أرباب الكلام هو الثاني، فإنّ فعل المختار مسبوق بالقصد، والقصد إلى الإيجاد متقدّم عليه، مقارن لعدم ما قصد إيجاده؛ لأنّ القصد إلى إيجاد الموجود ممتنع بديهةً.

وعن شارح المقاصد (1) أنّ هذا متّفق عليه بين الفلاسفة والمتكلّمين والنزاع فيه مكابرة، وقال اللاهيجي في شوارقه: التحقيق أنّ استناد القديم الممكن إلى المختار بالاختيار الزائد على الذات محال بدليل مرّ نقله، سواء كان الاختيار الزائد تامّاً كاختيار الواجب عند المتكلّمين، أو ناقصاً كاختيارنا، وذلك ضروري... والحكماء ينفون القصد عن الواجب؛ لأنّهم يجعلون القصد بالاختيار الزائد على الذات ويقولون: إنّ القصد لا يمكن إلاّ.. ولا ينفون الاختيار مطلقاً؛ لأنّهم مصرّحون بكونه تعالى فاعلاً بالاختيار الذي هو عين ذاته تعالى، ويعبّرون عنه بالرضاء (2) ... إلخ.

والتحقيق: أنّ القصد - بمعنى الصفة النفسانية - لا يتعلّق بالموجود بالضرورة، فلا يمكن استناد القديم إلى المختار بهذا المعنى، لكن القصد بهذا المفهوم ممتنع على الواجب كما يأتي في محلّه، والمراد من القصد المستعمل في حقّه هو تعلّل أفعاله بالأغراض الزائدة على ذاته.

وعليه فعدم استناد القديم إليه ليس بضروري بل سيأتي إن شاء الله - في مبحث قدرته واختياره - جواز استناد الممكن القديم إلى الواجب الوجود، فهذا الذي نقل اتّفاق المتكلّمين والفلاسفة عليه، ليس بشيء.

____________________

(1) الشوارق 1 / 131.

(2) المصدر نفسه.

٨١

وأمّا ما ذكره الفيّاض من أنّ الحكماء ينفون القصد دون الاختيار فسوف نتعرّض له تحليلاً ونقداً.

ثمّ إنّ الرازي (1) منع استناد الممكن القديم إلى الموجب أيضاً، متمسّكاً بأنّ تأثيره فيه إمّا حال بقائه فيلزم إيجاد الموجود، وإمّا حال عدمه أو حدوثه فيلزم كونه حادثاً، وقد فرضناه قديماً.

أقول: ما احتج به مدخول بعين ما أجبنا السؤال المتقدّم المشهور، فإنّه هو هو بعينه، وأمّا نفس المدّعى فهو لا يخلو عن وجه سندرسه في مسألة حدوث العالم.

ولكن لابدّ أن يلتفت الرازي أنّ هذه الدعوى تهدم ما بنى عليه هو وأشياخه الأشعريون وغيرهم، من زيادة الصفات الممكنة القديمة القائمة بالواجب الصادرة عنه بالإيجاب والجبر، وهذه زلّة وذلة وضلة عظيمة منهم في أعظم مباحث التوحيد، عصمنا الله من التخلّف عن السفينة المنجية المحمدية.

الخاصّة الرابعة: أنّ كلّ ممكن زوج تركيبي من الوجود والماهية

قال صاحب الأسفار: كما أنّ الضرورة الأزلية مساوقة للبساطة والأَحدية، وملازمة للفردية والوترية، فكذلك الإمكان الذاتي، رفيق التركيب والازدواج، فكل ممكن زوج تركيبي؛ إذ الماهية الإمكانية لا قِوام لها إلاّ بالوجود، والوجود الإمكاني لا تعيّن له إلاّ بمرتبة من القصور ودرجة من النزول ينشأ منها الماهية، ويُنتزع بحسبها المعاني الإمكانية ويترتّب عليها الآثار المختصة...

فإذن، كلّ هوية إمكانية ينتظم من مادة وصورة عقليتين هما المسمّاتين بالماهية والوجود، وكلّ منهما مضمّن فيه الآخر وإن كانت من الفصول الأخيرة والأجناس القاصية (2) انتهى كلامه.

وقال في موضع آخر منها: زيادة وجود الممكن على ماهيته، ليس معناه المباينة بينهما بحسب الحقيقية، كيف وحقيقة كلّ شيء نحو وجود الخاص به؟ ولا كونه عرضاً قائماً بها قيام الأعراض لموضوعاتها، حتى يلزم للماهية سوى وجودها وجود آخر، بل بمعنى كون الوجود الإمكاني، لقصوره وفقره، مشتملاً على معنىً آخر غير حقيقة الوجود، منتزعاً منه، محمولاً عليه، منبعثاً عن إمكانه ونقصه، كالمشبّكات التي يتراءى من مراتب نقصانات الضوء والظلال، الحاصلة من تصوّرات النور (3) انتهى.

____________________

(1) لاحظ شرح المواقف، وشرح التجريد للقوشجي / 77.

(2) الأسفار 1 / 186.

(3) الأسفار 1 / 243.

٨٢

الفائدة الحادية عشرة

في امتناع الدور والتسلسل

أمّا الدور فهو في اللغة - كما في بعض كتبها - التقلّب والحركة إلى ما كان عليه، وفي الاصطلاح هو توقّف الشيء على ما يتوقّف عليه (1) ، وإن شئت فقل: إنّه تعاكس الشيئين في السببية والمسببية، فإن توسّط بينهما واسطة أو وسائط أخرى يسمّى مضمراً، وإلاّ فمصرّح، فتوقّف الشيء على نفسه لا يسمّى دوراً بل هو نتيجته.

ثمّ إنّه ربّما يطلق الدور على شيئين لهما معيّة، ويقال له الدور المعي، وهو ليس بمحال، وهو أن يكون شيئان موجودان، يتوقّف كلّ منهما على الآخر في صفة من الصفات، بمعنى أن تتوقّف الصفة في كلّ منهما على ذات الآخر، سواء كانت تلك الصفة فيهما من نوع واحد، كالأُخوة في أخوين والمعية في شيئين، أو من نوعين كالفوقية والتحتية في الفوق والتحت، والتقدّم والتأخر بحسب المكان في جسمين، وهذا الدور جارٍ في كلّ متضايفين كما قيل.

ثمّ إنّ الدليل على استحالة الدور - بمعنييه المتقدّمين - أنّه يستلزم تقدّم الشيء على نفسه وتأخّره عن نفسه؛ ضرورة تقدّم العلّة على المعلول تقدّماً عليّاً وتقدّماً بالذات، فإذا كانت العلّة معلولة لمعلولها، لزم تأخّر الشيء عن نفسه بمرتبتين، وكذلك تقدّمه، وهو - أي تقدّم الشيء على نفسه أو تأخّره عنها - ضروري الاستحالة، مع أنّه قد يستدلّ عليه، بأنّه يستلزم تخلّل العدم بين الشيء ونفسه، وهو واضح الاستحالة، وبأنّ التقدّم نسبة لا تعقل إلاّ بين شيئين.

فإنّ توهّم أحد أنّ المراد بالتقدّم هنا إمّا التقدّم الزماني وهو غير لازم في العلة، أو العليّ وهو مصادرة؛ لأنّ معنى قولنا: إنّ الشيء لا يتقدّم على نفسه، أنّ الشيء لا يكون علّةً لنفسه.

يقال له: إنّ معنى تقدّم العلّة على معلولها هو صحّة مثل قولنا: تحركت اليد فتحرّك الخاتم، طلعت الشمس فوُجد النهار، وبطلان عكسه أي قولنا، تحرك الخاتم فتحركت اليد، وهذا الاعتبار الذي ممّا لا يشك فيه عاقل، بديهي البطلان بالنظر إلى الشيء ونفسه.

____________________

(1) الفرق بين تقدّم الشيء على نفسه، وتوقف الشيء على نفسه اعتباري، فإنّ الأَوّل باعتبار علّية كلّ منهما للآخر، والثاني باعتبار معلولية كلّ منهما للآخر.

٨٣

فإن قلت: إنّ الفرق بين الأجزاء التي هي العلة والمركّب الذي هو المعلول، إنّما هو باعتبار بشرط الشيء واللابشرط أو بشرط اللا، وقد ذكروا من جملة العلل الأربع المادة والصورة مع أنّهما عين المعلول، فكيف المخلص؟

قلت: الأجزاء بالنسبة إلى المركّب الذي ليس إلاّ نفسها ليست إلاّ نفسه، لا علية ولا معلولية بينهما، وإنّما يطلقون عليها العلية؛ لأنّ بها قِوام المركّب، فهي علل القِوام لا علل الوجود، والتأثير في الثانية لا في الأُولى، فافهم.

وأمّا تقدّم الأجزاء على المركّب ففيه بحث طويل، قد تعرّض له صاحب الأسفار مجملاً، وصاحب الشوارق مفصّلاً فراجع.

ثم إنّ معنى الدور - بتعبير واضح - هو كون الشيء علّةً وفاعلاً لوجود نفسه، وهذا ضروري الاستحالة، بديهي البطلان، يكذّبه العقل بأَوّل تصويره، فلا معنى لإطالة الكلام حوله وقد نقل العلاّمة قدّس سره (1) ، أنّ أكثر العقلاء على ضرورة استحالته.

وأمّا التسلسل فهو عند المتكلّمين (2) عبارة عن مطلق الأُمور غير المتناهية إذا ضبطها الوجود، سواء كانت مجتمعةً أم لا، مترتّبةً أم لا، ودليلهم على ذلك برهان التطبيق، فإنّهم يجرونه في الأُمور المتعاقبة في الوجود كالحركات الفلكية، وفي الأُمور المجتمعة، سواء كان بينها ترتّب طبيعي كالعلل والمعلولات، أو وضعي كالأبعاد، أو لا يكون هناك ترتّب أصلاً كالنفوس الناطقة المفارقة (3) .

وعند الحكماء يفسّر بالأُمور غير المتناهية المجتمعة في الوجود مع ترتّبٍ وضعاً أو طبعاً؛ ولذا قال صاحب الأسفار: وعليه (أي برهان التطبيق) التعويل في كلّ عدد ذي ترتيب موجود، سواء كان من قبيل العلل والمعلولات، أو من قبيل المقادير والأبعاد، أو الأعداد الوضعية (4) ... إلخ.

ثمّ إنّ الأدلة على امتناع التسلسل في الجملة كثيرة جداً، لكنّها بمجموعها غير مسلّمة عندهم، فلهم ردود ودفوع ونقوض ونقود، والبحث حولها طويل الذيل لا يسعه هذا المختصر، لكنّنا نستخدم لك منها حجّةً قويمة، قليلة المؤونة، وكثيرة المعونة، وهي ما اخترعه سلطان المحقّقين العلاّمة الطوسي (5) ، وأشار إليه في تجريده وإليك تقريره بعبارة

____________________

(1) كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد / 30.

(2) الشوارق 1 / 200، وكشف الفوائد / 30.

(3) شرح المواقف 1 / 541.

(4) الأسفار 2 / 145.

(5) كما ذكره صاحب الشوارق، ونُقل عن المحقّق الدواني أيضاً، لكن قيل: إنّ السيد الداماد رحمه‌الله ادّعى وجدان هذا الدليل في كتاب بهمنيار.

٨٤

المحقّق اللاهيجي (1) :

إنّ الممكن لا يجب لذاته، وما لا يجب لذاته لا يكون له وجود، وما لم يكن له وجود لا يكون لغيره عنه وجود، فلو كانت الموجودات بأسرها ممكنةً لَما كان في الوجود موجود، فلابدّ من واجب لذاته، فقد ثبت واجب الوجود وانقطعت السلسلة أيضاً.

ثمّ تعريضاً على الشارح العلاّمة قدّس سره حيث تنظّر فيها، والشارح القوشجي حيث حسبها مصادرةً، قال: وهذه الطريقة حسنة حقّة... إلخ، والأمر كما أفاد.

تتميم وتقسيم

ما لا يتناهى على ستة أقسام:

الأَوّل: المجتمع في الوجود، والمترتّب بالترتب العليّ.

الثاني: المجتمع في الوجود، والمترتّب بالترتب الوضعي كالأبعاد.

الثالث: المجتمع في الوجود بلا ترتيب، كالنفوس الناطقة على رأي الحكماء.

الرابع: المتعاقب في الوجود من قبل الماضي، مثل الصور الطارئة على المادة على سبيل المحو والإثبات.

الخامس: المتعاقب في الوجود في طرف المستقبل.

السادس: العدد.

أقول: أمّا الأَوّل فهو محال بلا خلاف بين الباحثين، بل لم أفز على مخالف ولو من الدهريين والماديين، فكأنّ هذا الاحتمال مصادم ما أودعه الله في كينونة البشر، فما يلتزم به فرد من هذا النوع الإنساني؛ ولذا ترى عبّاد الطبيعة متحيرين في تعيين المبدأ الأَوّل، فالتسلسل المذكور احتمال بدوي لم يتجاوز عن المسفورات العلمية إلى الخارج، وما نقلناه آنفاً من البرهان وغيره حجّة واضحة على إبطاله.

وأمّا الثاني فامتناعه موضع وِفاق بين المتكلّمين والحكماء، واستدلّوا عليه بأدلة منها برهان التطبيق، الذي هو عندي محلّ إشكال.

وأمّا الثالث والرابع فهما ممكنان، بل واقعان على زعم أصحاب الفلسفة؛ ولذا يدينون بقِدم العالم زماناً، لكنّ المتكلّمين يرونهما ممتنعين أيضاً، والحق معهم لِما سنبرهن على حدوث العالم في هذا الجزء إن شاء الله.

وأمّا الخامس فإمكانه متّفق عليه بينهم، فإنّ الوجود لم يضبطه، وهذا ما لا شك فيه، كيف

____________________

(1) الشوارق 1 / 199.

٨٥

وخلود المكلّفين في الجنة والنار، وبقاء ما يرتبط بهم من الضروريات الإسلامية؟

وأمّا السادس فهو مثل الخامس في اتّفاقهم على إمكانه، فإنّه إمّا غير موجود كما عن المتكلمين، وإمّا لا ترتّب بينها في غير الواحد كما عن الفلاسفة، فلم يتحقّق فيه مناط الاستحالة (1) .

وممّا ينبغي أن نختم به الكلام هنا، أنّ إبطال الدور والتسلسل إنّما يتوقف عليه إثبات الصانع؛ ضرورة أنّ إمكان أحدهما لا يدع مجالاً لإثباته، وأمّا إثبات الواجب الوجود، فهو غير موقوف عليه لِما ستعرفه إن شاء الله من الدليل على وجوده، سواء كان الممكن موجوداً خارجاً أم لا، أمكن الدور والتسلسل أم لا، وبعبارة أُخرى: إمكان الدور والتسلسل يبطل الأدلة الإنيّة، ولا ربط له بالبراهين اللميّة أو الشبيهة باللم.

هذا تمام كلامنا في المقدّمات، ثمّ بعد ذلك نرجع إلى بيان المقاصد، وإليك بيانها إجمالاً:

المقصد الأَوّل: في بيان الطريق إلى معرفة الواجب.

المقصد الثاني: في صفاته الثبوتية ذاتيةً كانت أو فعليةً.

المقصد الثالث: في صفاته السلبية.

المقصد الرابع: في التوحيد، أفردناه من سابقه اهتماماً بشأنه.

المقصد الخامس: في العدل.

المقصد السادس: في النبوّة.

المقصد السابع: في الإمامة.

المقصد الثامن: في المعاد.

____________________

(1) ولصاحب الأسفار هاهنا احتمال، وللسبزواري عليه كلام، لا يخلو مراجعتهما عن الفائدة، الأسفار 2 / 152.

٨٦

مقاصد الكتاب

المقصد الأَوّل: في بيان الطرق إلى معرفة الواجب لذاته

المقصد الثاني: في صفاته الثبوتية

المقصد الثالث: في صفاته السلبية

المقصد الرابع: في التوحيد

المقصد الخامس: في العدل

المقصد السادس: في النبوّة

المقصد السابع: في الإمامة

المقصد الثامن: في المعاد

٨٧

المقصد الأَوّل

في بيان الطرق إلى معرفة الواجب لذاته

البراهين والصُرط

مَن هم المخالفون في هذا المقصد؟

وما هو اعتقادهم؟

النظام الكامل يقضي على علّية المادة

ما يقول الماديون عن هذا النظام الأجمل؟

خاتمة

٨٨

المقصد الأَوّل

في بيان الطرق إلى معرفة

الواجب لذاته

وهو من أشرف المقاصد وأعظمها وأجلّها وأهمها، بل لا تكتسب مسألة علمية شرفاً وفضلاً ما لم تخدم هذا المقصد، فهو آخر ما تُناخ به الرواحل العقلية في سفر السعادة والفضيلة. ( أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ( أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ) .

وصُرط التصديق الحقّة المستقيمة، إلى الواجب القديم القدوس الأقدس - جلّت كبريائه وعَظُم سلطانه - متعدّدة، وإليك منها ما يناسب هذه الرسالة:

الصراط الأَوّل: إنّ العقل لا يرى الموجود الواجب لذاته مستحيلاً، بل يحكم بإمكانه إمكاناً عامّاً، ولا سيما قد شاهد الواجب الذاتي بنحو مفاد كان الناقصة، مثل زوجية الأربعة، ورطوبة الماء، ودسومة الدهن ونحوها، فإذا أمكن، وُجد وثبت من دون شرط وسبب، على ما أسلفنا برهانه.

وهذا الصراط أشرف الصُرط المذكورة في هذا المقصد، ليس له زيادة مؤونة، ولا توقّف له على استحالة الدور والتسلسل، بلا ولا على وجود ممكن، كل ذلك ظاهر جداً.

ولزيادة التأكيد لحكم العقل بعدم امتناع الواجب نقول: إنّ العقلاء - مليين كانوا أو ماديين (1) - اتفقوا في كلّ زمان ومكان، على الإذعان بوجود المبدأ الأَوّل في الخارج، وهذا ممّا يؤيّد استقلال العقل بعدم امتناع مثل هذا الوجود، والعجب من ذهول الباحثين عن هذا البرهان؛ حيث لم يذكروه في هذا المقام (2) .

الصراط الثاني: إنّ الأحاسيس قد قضت على أنّ في الخارج موجوداً ما، فهو إن كان واجباً لذاته فقد حصل الغرض، وإن كان ممكناً فهو يستلزم المقصود؛ لاستحالة الدور والتسلسل، وهذه الحجّة غير قائمة بوجود الممكن كما هو ظاهر.

____________________

(1) غير مَن قال منهم بجواز الترجّح بلا مرجّح (إن كان).

(2) وبه يمكن أن يفسّر ما أُثر عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : (يا مَن دلّ على ذاته بذاته)، وما عن السجّاد عليه‌السلام : (بك عرفتك وأنت دللتني عليك).

٨٩

ثمّ إنّ هذين الوجهين المذكورين، ليسا من الأدلة الإنيّة، ولا من البراهين اللميّة؛ لعدم انتقال فيهما من العلّة إلى المعلول، ولا من المعلول إلى علّته، بل هما من شبه اللم، كما يظهر من كلمات عدّة من أكابر الحكماء.

الصراط الثالث: ما نقلناه سابقاً من المحقّق الطوسي قدّس سره في إبطال التسلسل، فإنّه يفضي إلى معرفة الواجب الوجود، ويجوز أن نعبّر عنه بألفاظ أُخرى فنقول: لا يمكن أن يكون ممكن ما من الممكنات منشأ لوجوب الممكنات، ولا لامتناع طريان العدم علّيها بالكلية، فلابدّ من واجب. وبوجه آخر: إنّ الممكن لا يستقلّ بنفسه في وجوده وهو ظاهر، ولا في إيجاده لغيره؛ لأنّ مرتبة الإيجاد بعد مرتبة الوجود، فإنّ الشيء ما لم يُوجَد لم يُوجِد، فلو انحصر الموجود في الممكن، لزم أن لا يوجد شيء أصلاً؛ لأنّ الممكن وإن كان متعدّداً، لا يستقلّ بوجود ولا إيجاد، وإذ لا وجود ولا إيجاد، فلا موجود لا بذاته ولا بغيره، إلى غير ذلك من التقارير والتعابير.

الصراط الرابع: الممكن موجود بلا ريب، فإنّ الأجسام مركّبة، وكلّ مركّب ممكن، والأعراض لمكان حاجتها إلى موضوعاتها ممكنة، بل حدوث بعض الأشياء وفقدانها وفناؤها محسوس فهو ممكن، ومهما يكن من شيء فالممكن موجود قطعاً بل ضرورةً، فيكون الواجب موجوداً بالضرورة؛ لِما مرّ من احتياج الممكن إلى الواجب، ومن بطلان الدور والتسلسل، ولعلّ قوله تعالى: ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) (1) يشير إلى ذلك، فإنّ الممكن لا يمكن أن يكون خالق نفسه؛ لما عرفت في بطلان الدور، ولا يمكن أن يوجد بلا خالق فإنّه ترجّح بلا مرجّح، ويمكن إدراج نفي التسلسل أيضاً في هذا الفرض كما يظهر بالتأمل.

ثمّ إنّ هذا الدليل الإنّي أساس لعدّة من الدلائل الأُخرى.

الصراط الخامس: ما سلكه المتكلّمون فقالوا: إنّ العالم حادث، وكلّ حادث له محدَث كما تشهد به بديهة العقل؛ ولذا مَن رأى بناءً حادثاً حكم حكماً بتياً جزمياً، بأنّ له بانياً، وعن أكثر مشايخ الاعتزال أنّ هذه المسألة - أي الكبرى - استدلالية، وقد استدلّوا عليه بوجهين (2) ، لكنّ ذلك خطأ وما استدلوا به غلط.

ثمّ إنّ هذا المحدث الصانع إن كان حادثاً احتاج إلى مؤثّر آخر، فيلزم الدور أو التسلسل وهما محالان، وإن كان قديماً أو منتهياً إلى القديم فقد ثبت المطلوب.

هذا، ولكن جملة من الفلاسفة لم يرتضوا بسلوك هذا الصراط لوجوه ثلاثة:

الأَوّل: تفنيد حدوث العالم بشراشره، بل منه ما هو قديم، ومنه ما هو حادث.

____________________

(1) الطور 52 / 35.                                   (2) شرح المواقف 3 / 3.

٩٠

الثاني: قصور هذا الدليل عن إثبات الواجب لذاته؛ لجواز أن يكون ذلك المحدِث غير الحادث ممكناً قديماً، فلا يفتقر إلى علة، فتنقطع السلسلة بلا إثبات الواجب، كما ذكره الحكيم اللاهيجي في شوارقه (1) .

الثالث: خروجه عن منهج الصدق؛ لأنّ مناط الحاجة إلى العلّة هو الإمكان دون الحدوث ولو شرطاً، ذكره الحكيم السبزواري (2) ، وقبله عنه غيره أيضاً.

أقول: هذه الوجوه ساقطة، ولا يمكن سد هذا الصراط المستقيم بها، أمّا الأَوّل، فلِما سيمرّ بك في محلّه، من حدوث تمام ما سوى الله وبطلان قِدم شيءٍ منه.

وأمّا الثاني، فينبثق بطلانه من بطلان الأَوّل؛ فإنّ القديم حينئذٍ لا يكون ممكناً، فهو واجب لعدم واسطة بينهما بالضرورة، فالقديم والواجب لذاته مترادفان عند المتكلّمين.

وأمّا الثالث ففيه، أنّ معنى علّية الإمكان للحاجة، هو سببيته للحاجة في وجوده، أو عدمه إلى المرجّح الخارجي، فحدوث الوجود، معلول عن هذا المرجّح المحدِث الخارجي، وكاشف عنه كشف كلّ معلول عن علّته، ويعبّر عنه في عرفهم بدليل الإن، فهذا لا ربط له ببطلان علّية الحدوث للحاجة، والإنصاف أنّ دلالة الحدوث على المحدِث ضرورية، وإنكارها عن هذا الرجل الفيلسوف بعيد جداً.

فاتّضح أنّ الدليل تام في نفسه، من غير أن يُبنى على الحركة الجوهرية كما تبرّع به بعضهم، لكن الذي يوجب صعوبة سلوك هذا الطريق في الجملة، هو أنّ إثبات المدّعى أسهل من تثبيت مقدّمتها الأُولى، أعني بها حدوث العالم بأجمعه، فإنّه وإن كان حقّاً إلاّ أنّ المدّعى أظهر منه، وإن أخذنا حدوث بعض العالم في المقدّمة حتى تكون ضروريةً، فلا يستنتج منها المطلوب، كما ذكره صاحب الشوارق من جواز كون القديم ممكناً.

ولا دافع له حينئذٍ أصلاً إلاّ أن يقال: بأنّ هذا القديم لا يكون إلاّ واجباً، فإنّ الممكن يستلزمه دفعاً للدور والتسلسل، لكن الدليل حينئذٍ لا يكون بلحاظ الحدوث فقط، بل مع انضمام لحاظ الإمكان.

فالتحقيق أن يقال: إنّ جملةً من هذه الموجودات حادثة حسّاً، والحادث يقتضي محدِثاً بالضرورة، وهذا المحدِث إن لم يكن له سبب وعلّة فهو المراد؛ إذ لا نعني بالقديم أو الواجب إلاّ المحدِث الذي لا سبب له، وإن كان له سبب فلابدّ من الانتهاء إلى محدِث كذلك، أي بلا سبب وعلة دفعاً للدور والتسلسل، فافهم.

____________________

(1) الشوارق 2 / 204.

(2) شرح المنظومة / 143.

٩١

الصراط السادس: ما سلكه الحكماء الطبيعيون، وهو الاستدلال بالحركات، فإنّ المتحرّك لا يوجب حركةً بل يحتاج إلى محرِّك غيره، والمحرِّكات لا محالة تنتهي إلى محرِّك غير متحرك دفعاً للدور والتسلسل، فإن كان واجباً فهو وإلاّ استلزمه لِما مرّ.

الصراط السابع: إذا كانت الموجودات منحصرةً في الممكنات لزم الدور، إذ تحقّق موجود ما يتوقّف - على هذا التقدير - على إيجاد ما؛ لأنّ وجود الممكنات إنّما يتحقق بالإيجاد، وتحقّق إيجاد ما يتوقّف أيضاً على تحقّق موجود ما؛ لأنّ الشيء ما لم يوجَد لم يُوجِد.

لكن الإنصاف، أنّ هذا التوقّف من قبيل توقّف النطفة على الحيوان، وتوقف الحيوان على النطفة، وتوقف البيض على الدجاج، وتوقف الدجاج على البيض، وهذا ليس بدور محال؛ لأنّ الدور هو الذي يكون طرفاه واحداً بالعدد، لا ما يتقدّم فيه طبيعة مرسلة على طبيعة مرسلة أُخرى، وهي تتقدّم أيضاً عليها في صورة التسلسل، فالمغالطة نشأت هاهنا، من أخذ الكلّي مكان الجزئي، والوحدة النوعية مكان الوحدة الشخصية، فتتميم هذا البرهان لا يمكن إلاّ بالتسلسل كما في الأسفار، وما رامه اللاهيجي من إصلاح الدليل، وإتمامه بالدور فقط غير تام، ومنه يظهر الحال في الصراط الآتي بكلا طريقيه.

الصراط الثامن: إنّه ليس للموجود المطلق من حيث هو موجود مبدأ، وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه، وبذلك ثبت وجود واجب الوجود بالذات، وبعبارة أُخرى: مجموع الموجودات من حيث هو موجود ليس له مبدأ بالذات، فثبت بذلك وجود الواجب لذاته.

الصراط التاسع: مجموع الموجودات من حيث هو موجود يمتنع أن يصير لا شيئاً محضاً، ومجموع الممكنات ليس يمتنع أن يصير لا شيئاً محضاً، فيثبت به الواجب لذاته.

وفيه: أنّ حيثية الإمكان وإن كانت مخالفةً لحيثية الوجود؛ لأنّ الموجود بما هو موجود يستحيل أن يصير معدوماً: لأنّ فيه ضرورة بشرط المحمول، بخلاف الموجود بما هو ممكن، فإنّ عدمه غير ممنوع، لكن هذا الاختلاف لا يؤدي إلى الاختلاف في الموضوع، كما أفاده صاحب الأسفار أيضاً.

الصراط العاشر: ما ذكره صاحب الأسفار ومَن تبعه وقال: إنّه سبيل الصدّيقين الذين يستشهدون بالحقّ على الحق، ووصفه بأنّه أسدّ البراهين وأشرفها، وإليك تقريره بعبارة السبزواري (1) مع تغيير ما: حقيقة الوجود الذي ثبتت أصالته، إن كانت واجبةً فهو المراد، وإن كانت ممكنةً - بمعنى الفقر والتعلّق بالغير، لا بمعنى سلب ضرورة الوجود والعدم؛ لأنّ ثبوت الوجود لنفسه ضروري، ولا بمعنى تساوي نسبتي الوجود والعدم؛ لأنّ نسبة الشيء إلى نفسه

____________________

(1) شرح المنظومة / 141.

٩٢

ليست كنسبة نقيضه إليه؛ لأنّ الأُولى مكيّفة بالوجوب والثانية بالامتناع - فقد استلزمت الواجب على سبيل الخلف؛ لأنّ تلك الحقيقة لا ثاني لها حتى تتعلّق به وتفتقر إليه، بل كلّما فرضته ثانياً فهو هي لا غيرها، والعدم والماهية حالهما معلومة؛ أو على سبيل الاستقامة، بأن يكون المراد بالوجود مرتبة من تلك الحقيقة، فإذا كان هذه المرتبة مفتقرة إلى الغير استلزم الغني بالذات دفعاً للدور والتسلسل، والأَوّل أوثق وأشرف وأخصر.

أقول: هذا الوجه مبني على مقدّمات، هي أغمض تصديقاً من أصل الدعوى بمراتب، فلابدّ أن يُرجع إلى الصراط الثاني.

الصراط الحادي عشر: اتّفاق الأنبياء والأولياء والعقلاء على ذلك، فإنّهم أخبروا عن وجود الواجب الصانع، وهذا الاتّفاق أقوى من التواتر، ولا شيء من المتواترات مساوٍ له في القوّة وإفادة اليقين، ذكره بعض المؤلّفين (1) ، وببالي أنّ هذا الوجه نُسب إلى جماعة من المتكلّمين.

لكن الاستدلال المذكور هيّن جداً، فإنّ العقلاء في ذلك مختلفون، وأمّا الأنبياء فهم كغيرهم، ما لم تثبت نبوّتهم المتوقّفة على وجود الواجب وصفاته، بل لا سبيل لنا إلى إحراز وجودهم - سوى خاتمهم صلى‌الله‌عليه‌وآله - من غير جهة إخباره تعالى.

هذا، مع أنّ التواتر في الحدسيات غير حجّة؛ فإنّه لا يفيد اليقين، وقد مرّ بعض الكلام فيه في المقدّمات، نعم يمكن الاستدلال بمعجزات خاتمهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوصيائه عليهم‌السلام ، على المطلوب، ولا محذور فيه أصلاً.

الصراط الثاني عشر: لو انحصرت الموجودات في الممكن لاحتاج الكلّ إلى موجِد مستقل - بأن لا يستند وجود شيء منها إلاّ إليه ولو بالواسطة - يكون ارتفاع الكلّ بالكلية - بأن لا يوجد الكلّ ولا واحد من أجزائه - ممتنعاً بالنظر إلى وجوده؛ لأنّ ما لم يجب لم يوجد، ويلزم من ذلك امتناع عدم المعلول من أجل العلة، والشيء الذي إذا فُرض عدم جميع أجزائه، كان ذلك العدم ممتنعاً نظراً إلى وجوده، يكون خارجاً عن المجموع، لا نفسه ولا داخلاً فيه؛ لأنّ عدم شيء منهما ليس ممتنعاً نظراً إلى ذاته، فيكون واجباً لذاته؛ إذ لا واسطة في الخارج بين الممكن والواجب، فتدبّر فيه.

هذه هي الصُرط القويمة، الحقّة المستقيمة، الموصلة إلى معرفة الواجب القديم، والصانع الحكيم (2)، وأنّ للعالم مبدأً تنتهي سلسلة الموجودات إليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

____________________

(1) كفاية الموحّدين 1 / 26.

(2) سوى بعضها، الذي ناقشنا فيه.

٩٣

مَن هم المخالفون

في هذا المقصد؟ وما هو اعتقادهم؟

نُسب إلى جماعة من القدماء كذيمقراطيس وأتباعه، إنكار حاجة الممكن إلى المؤثّر، وجعلوا كون العالم بالبخت والاتفاق، وأنكروا أن يكون له صانع أصلاً، ورأوا أنّ مبادئ الكل أجرام صغار لا تتجزّأ لصغرها وصلابتها، وأنّها غير متناهية بالعدد، ومبثوثة في خلاء غير متناهٍ، وأنّ جوهرها في طبايعها جوهر متشاكل، وبأشكالها تختلف، وأنّها دائمة الحركة في الخلاء، فيتفق أن يتصادم منها جملة، فتجتمع على هيئة ويكون منها عالم، وأنّ في الوجود عوالم مثل هذا العالم غير متناهية بالعدد، لكن مع ذلك يرون أنّ الأُمور الجزئية - مثل الحيوانات والنباتات - كائنة لا بحسب الاتّفاق، بل بحسب أسباب سماوية وأرضية، وفرقة أخرى منهم - كانباذقلس ومَن يجري مجراه - لم يقدموا على أن يجعلوا العالم بكلّيته كائناً بالاتفاق، ولكنّهم جعلوا الكائنات متكوّنةً عن الاسطقسات بالاتّفاق، وبالجملة فهؤلاء بأجمعهم يجوّزون الحدوث بلا سبب والكون بلا علة (1) .

أقول: هل ذميقراطيس (460 ق م) وانباذقلس كانا منكرين للواجب لذاته أم لا؟ سؤال لا طريق لنا إلى جوابه جزماً. وقد ذكر بانگون (2) ، أنّ الأَوّل ليس بمادي بل كان يعتقد وجود الروح، وذكر صاحب الأسفار أنّ كلام الثاني ناظر إلى أصالة الوجود واعتبارية الماهيات، وذكر غيره أنّ مراده هو إنكار العلة الغائية (3) ، لكن هذه الضلالة الخبيثة، والجهالة المبطلة حد الإنسانية، حدثت منذ زمن غير قريب، فإنّ آحاد الإنسان في أفكارهم ليسوا على مستوىً واحد، فمنهم مَن هو قاصر، ومنهم مَن هو متوسط، ومنهم مَن هو عالٍ، ولكلّ منها درجات.

هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى أنّ الحدود المقرّرة في الشرائع السماوية، كثيراً ما تضاد الشهوات النفسانية، والميولات الغريزية، والمخلص من هذا التضاد، هو البناء على إنكار المبدأ الشاعر القادر لا غير. قال أبيقورس أحد زعماء الماديين: إنّ راحة البال التي تقوم بها سعادة

____________________

(1) نقله في الشوارق 1 /126 من كتاب الشفاء لابن سينا.

(2) على أطلال المذهب المادي / 15.

(3) الأسفار 1 / 210.

٩٤

الإنسان، هي في اضطراب دائم؛ من جري الريب الواقع من نسبة الإنسان إلى الخليقة وإلى الله (1) ... فهذان السببان - أي القصور الفكري والشهوة - هما أحدثا هذه البلية الفاجعة.

وما قيل من أنّ المستفاد من أكثر التواريخ، أنّ تأسيس هذه النظرية الرديئة قبل ميلاد المسيح عليه‌السلام بستة قرون أو سبعة قرون، فلعلّه يُقصد به انتشارها واشتهارها، كما أنّ شدّة ظهورها وكثرة رواجها، إنّما كانت في القرن الثامن عشر والتاسع عشر بين الغربيين، فسرت منهم إلى الشرقيين، ثمّ ضعفت في القرن العشرين؛ لكشف بطلان ما اعتمدوا عليه في هذه الدعوى.

وأمّا أصل هذا المسلك فله عهد بعيد، كما ربّما يؤيّد قوله تعالى: ( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) (2) ، وإن لم يكن بدليل عليه كما لا يخفى.

ثمّ إنّ أساس عقائدهم يتخلّص إلى أصول أربعة. كما قيل:

1 - لا موجود في العالم غير المادة وآثارها.

2 - العالم مركّب من العلل والمعاليل المادية، وكلّ شيء يعلّل بعلل مادية.

3 - الموجودات بأسرها تؤثّر بعضها في بعضها، فكلّ منها علّة شيء ومعلول لشيء آخر، وجميع الحوادث في تغيّر وتحوّل، بيد أنّ القدر الجامع بينها - يعني المادة - أمر أزلي.

4 - إنّ الكائنات - بشموسها، وكواكبها، وأقمارها، وأراضيها، وسمواتها، وجميع جزئياتها - معلولة التصادف والاتّفاق، لا بمعنى أن لا علّة لها، بل بمعنى اتّحاد العلّة الفاعلية والعلة المادية فيها، فلا مُوجِد لها إلاّ المادة، ولا صانع مختار لها أبداً، فليس لها العلّة الغائية أيضاً.

والحاصل: أنّهم لا ينكرون مبدأ الكائنات، بل ينكرون شعوره وقدرته وإرادته.

تفتيش وتفنيد

أمّا الأصل الأَوّل ففيه بحثان: الأَوّل: في بيان المادة. والثاني: في بيان انحصار الموجودات بها.

أمّا البحث الأَوّل: فالمعروف عن ديمقراط (3) أنّ المادة هي الجواهر الفردة، وهي الأجزاء التي لا تتجزّأ (الأتُم)، وليس لها إلاّ أشكال هندسية، فالعالم عنده مركّب من هذه الذرّات، التي لها بنظر بعضها إلى بعض حركة دائرة، وحركة اصطدام مستقيمة (4) ، ويرى أنّ هذه الذرّات يتخلّل

____________________

(1) الرحلة المدرسية للعلاّمة المجاهد الشيخ جواد البلاغي / 292.

(2) يس 36 / 30.

(3) وقيل: إنّ أَوّل مَن تفوّه به لوقيوس أُستاذ ديمقراط.

(4) الرحلة المدرسية / 298.

٩٥

بينها فراغ، خلافاً لأرسطو وأتباعه، حيث ذهبوا إلى أنّ الجسم شيء واحد متماسك، يمكننا أن نقسّمه إلى أجزاء منفصلة، لا أنّه يشتمل سلفاً على أجزاء كذلك (1) . ثمّ إنّ هذا الذرّات غير مختلفة في حقيقتها، وما يشاهد من اختلاف آثار الموجودات المتكوّنة منها، إنّما هو من جهة اختلاف أشكالها، وأحجامها، وأمكنتها، ونظامها، وأوضاعها، هذا ولمّا كان الشكل الهندسي متناقضاً لعدم التجزّؤ، رفضوا شكلها وقالوا: إنّها غير مشكّلة؛ ولذا قال المحقّقون من أهل العصر: إنّ الجواهر التي نقول بها هي أصغر من جوهر ديمقراط جداً (2) .

أقول: وهو كذلك قطعاً، فإنّ الذرة التي زعموا عدم إمكان تجزئتها ولزوم بساطتها، قد وقع عليها التجزئة خارجاً عام 1919م، من قِبل العالِم روترفورد، ثمّ عُلم أنّ لها أجزاءً عمدتها: بروتون ونوترون والكترون.

وذهب لوسيبوس إلى أنّ تلك الذرّات تتحرّك في الفراغ منذ الأزل، والأشياء تظهر وتخفى بحسب ما تجمع وتنفصل، وعن أبيقورس: أنّها متحرّكة دائماً في الخلاء الذي لا نهاية له، بانحراف بعضها على موازاة بعض، بحيث تصطدم وتحدث حركة لولبية مخروطية كحركة الزوابع، فتؤدّي إلى تراكيب عديدية وصور متنوعة ومتغيّرة. وقال بخنر: أمّا حركة الجواهر عندنا، فمن تضادّ قوتي الجذب والدفع، اللتين نعتبرهما غريزتين في الجوهر (3).

هذا، ولكن لمّا رأى بعض العلماء أنّ الفراغ مستحيل في الطبيعة، فرضوا أنّ تلك الجواهر تسبح في مادة لطيفة، أو غاز (4) أخف من الهواء، أو سائل تام الاتصال مالئ للخلاء سمّوه الأثير، تتحرك فيه الجواهر التي هي أجزاؤه حركة الزوابع في الهواء الهادئ، ومن أحوال اجتماعها بالحركة وأفاعيلها تظهر صور الكائنات، وهذه الجواهر في الرأي القديم، هي أزلية أبدية، لم تحدث بعد العدم، ولا تتلاشى ولا تنعدم، وإنّما تخفى بتفرّقها، ولكن الرأي الجديد حسب اكتشافات العالم الفرنسي - غوستاف لبون - الرأي المبني على المشاهدة والاختبار، بحيث وافقه أكثر علماء أوروبا - هو أنّ المادة قوّة متكاثفة، وأنّ المادة ليست أبديةً، بل تتلاشى بانحلالها إلى القوة، والقوة أيضاً تنحلّ إلى الأثير، كما أنّ المادة ليست أزليةً، بل إنّ الأثير تكاثف في الأزمان البعيدة - بسبب لا نعلمه - فصار مادّةً (5) .

وأمّا البحث الثاني - وهو انحصار الموجودات في مضيقة المادة، وعدم الحاجة إلى علّة

____________________

(1) فلسفتنا / 318.

(2) الرحلة المدرسية / 274.

(3) الرحلة المدرسية / 298.

(4) جوهر هوائي قابل للضغط سيّال.

(5) الرحلة المدرسية للشيخ جواد البلاغي / 275.

٩٦

فاعلية غير مادية - فقد ذكروا لإثباته وجوهاً: الأَوّل: وهو عمدة تلفيقاتهم وأشهرها: إنّ مثل هذه العلّة غير مدركة بأحد الأحاسيس، ولم تدلّ عليها التجربة العلمية، فلا سبيل لنا إلى الإيمان به.

الثاني: إنّ كلّ موجود لابدّ له من سبب، كما أثبتته التجربة العلمية، فالوجود الغني عن السب غير معقول. ذكره بعض الفلاسفة الماركسية على ما تقدّم.

الثالث: إنّ العالم المادي لو لم يكن أزلياً وغنيّاً عن علّة مجردة لكان معلولاً لها، فيكون مخلوقاً من العدم، وهذا غير معقول، فإنّ العدم لا يسبّب الوجود ولا يكوّنه.

الرابع: إنّ كلّ موجود يجب أن يكون في الزمان والمكان، ولا يعقل ما يكون متحرّراً منهما.

الخامس: إنّ حدوث المادة غير محسوس، فلا دليل على كونها مخلوقةً للفاعل الخارج عن نشأة الطبيعة، فإذن هي قديمة.

السادس: إنّ مبدأ العالم لو كان فاعلاً مختاراً، لكان له غرض من خلقته لا محالة، مع أنّا لا نعلم الغرض المفيد في جملة من الأشياء.

السابع: إنّ التجربة العلمية دلّت على أنّ كلّ موجِد مادّي، معلّل بسبب مادّي آخر، ومعه لا ملزم للالتزام بوجد فاعل مجرّد مختار بعد المادة المذكورة.

الثامن: المؤثّر في العالم لابدّ أن يكون إمّا إرادة الفاعل المختار، وإمّا العلل الطبيعية - على سبيل منع الجمع والخلو - فإنّ تأثير المريد المختار، ينافي النظام الحاصل من تأثير العلل الطبيعي، الذي لا يتغيّر ولا يتشتّت، وحيث إنّ العلوم قاضية بتأثير العلل المادية، وإنّ الحوادث الطبيعية مسبّبة عن أسباب طبيعية، يستكشف منها عدم المبدأ المختار المذكور.

هذه هي تلفيقاتهم في هذا المبحث، ومن الضروري أنّها مخالفة للوجدان، والفطرة، والبرهان، والفلسفة، والمميّز العاقل لا يقدم على إبراز هذه الكلمات الفاسدة المخالفة لضرورة العقول الساذجة، والإنصاف أنّ هؤلاء الماديين المتفلسفين، بين مَن غرّته العلوم الطبيعية، فحسب أن تبحّره ومهارته فيها، يجوّز له الإفتاء في كل علم وفن، وإن كان جاهلاً به رأساً:

قل للذي يدّعي في العلمِ فلسفةً

حفظتَ شيئاً وغابتَ عنك أشياءُ

وبين مَن دعته إليه الأغراض السياسية الدنية، وبين مَن اشتبه عليه تباين الإلهيات والطبيعيات، فحيث لم يجد الله في الحقل التجربي أنكره، ولم يدرِ المسكين أنّ طريق الاستنتاج في كلّ من العلمينِ لا يرتبط بالآخر أصلاً، وبين مَن أضلّه تعريف أصحاب الكنائس، حيث جعلوا الخالق جسماً متحرّكاً، آكلاً شارباً، متصارعاً، إلى غير ذلك من خرافات التوراة والأناجيل الموجودين، فإذا أصبح الإله المعبود كذلك فالحق مع الماديين، والجناية حينئذٍ على عاتق

٩٧

القسّيسين والأحبار وكتّابهم.

وعلى الجملة: أنّ الموجودات - بكراتها السامية العظيمة، وميكروباتها الصغيرة - دليل على وجود الله سبحانه وتعالى، ولا يتأتى من عاقل صحيح المزاج إنكاره، وهذه الواهيات المذكورة ممّا يصادم الفطرة البشرية في أحكامها الأَوّلية، وعلى سبيل التوضيح - وإن كان توضيحاً للواضحات - ننبّه على فساد كلّ واحد واحد:

فنقول: أمّا الوجه الأَوّل فقد تقدّم بطلانه في أوائل الكتاب، وذكرنا أنّ المدركات العقلية كالحسية في الاعتبار والحجّية، بلا يتمّ إدراك حسي إلاّ بتوسط الحكم العقلي، فلابدّ أن يكون الإنسان إمّا شكّاكاً، وسوفسطائياً، أو فلسفياً يقبل العقليات والحسيات معاً؛ إذ لا حدّ فاصل بينهما.

ونزيد هنا فنقول: ماذا يريدون بقولهم هذا؟

فإن أرادوا الإحساس المباشري، وأنّ الشيء ما لم يحس بنفسه - بأحد الأحاسيس - لا يذعنون به، فهذا يرفض كيان العلوم الطبيعة بأسرها، ويبطل المجرّبات التي يقدّسونها من أصلها، أَليست الأرض متحرّكةً بحركات مختلفة؟ أَليس للهواء المحيط بنا ثقل عظيم؟ أَليس الأثير موجوداً بزعمهم بل جعلوه مبدأ الكائنات؟ أَليس الأتُم موجوداً؟ أَليست الجاذبية العامّة التي استكشفها نيوتن مسلّمةً؟ فهل الحواس أدركت حركة الأرض، وثقل الهواء، ووجود الأثير، والذرة، والجاذبية، فيجوز إنكارها بتاتاً؟ وهكذا الحال في أُلوف من نظائرها، كلا، فالإحساس المباشري لا يرتبط بقبول الحقائق والمعارف بتاتاً.

وإن أرادوا الأعم من ذلك، وأنّ الشيء يُصدّق به ولو بإحساس آثاره - كما هو المقرّر الثابت في العلوم التجربية، على ما عرفت من الأمثلة المزبورة - فهذا بعينه يجري في المقام، فإنّ الله الواجب القديم المجرّد عن الزمان والمكان، وإن لم يُدرك بإحدى الحواس لكن آثاره محسوسة، فإنّ جميع هذه الكائنات المشاهدة المحسوسة آثاره، كما تقدم برهانه، وستعرف أنّ المادة لا تصلّح للمبدئية بل هي مخلوقة لله القهّار.

وأمّا الشبهة الثانية، فقد مرّ جوابها في الفائدة العاشرة من فوائد المدخل وقلنا: إنّ التجربة قاصرة عن تثبيت الحكم في خارج الحقل المادي، ونزيدك هنا ونقول: لو صحّت ضرورة العلّة لكلّ موجود، لوجب مسببية المادّة المزعومة من مبدأ آخر، وكلّ شيء تفرضونه مبدأ للأشياء المادية، لابدّ له من سبب بحكم التجربة، فهذا - مع كونه من التسلسل المحال - يبطل قولكم أيضاً.

وأمّا الشبهة الثالث فهي مخالفة للوجدان، فإنّ الأحاسيس تشاهد في كلّ يوم أُلوفاً من

٩٨

الموجودات، توجد في الخارج بعد ما كانت معدومةً، أَليست الصور الطارئة على المادة الأزلية المزعومة حادثةً عندكم؟ فما هو جوابكم في إصلاحها؟ هو الجواب في حدوث المادة. وحلّ المطلب: أنّ معنى قولنا: يوجد من العدم، ليس كون العدم علّةً مادية للموجود، ولعلّه لم يخطر ببال صبيّ مميّز من صبيان الموحّدين، ولم يتصوّره عالم من العلماء الإلهيين، بل معناه أنّ الله يوجد الشيء بعد ما لم يكن موجوداً، فهذه الشبهة من غفلتهم بمراد المليين أو تجاهلهم به.

وأمّا الشبهة الرابعة فجوابها: أنّ كلّ موجود مادّي لابدّ له من مكان وزمان، ولا دليل على انسحاب هذا الحكم إلى كل موجود مطلقاً، وسيأتي تحقيقه في المقصد الثالث إن شاء الله.

وأمّا الخامسة فهي مضحكة، فإنّ قِدم المادة مثل حدوثها في عدم إحاطة الأحاسيس به، فكيف يذعنون بأحدهما دون الآخر، وهذا شيء عجيب؟ وسيأتي في آخر هذا الجزء أنّ العقل قاضٍ بحدوث جميع الموجودات الممكنة.

وأمّا الشبهة السادسة فهي واضحة الفساد، فإنّ الجهل بفائدة خلقة جملة من الأشياء - مع إحرازها في كثير من الموجودات بنحو تدهش العقول منها - لا يدل على أنّ المؤثّر غير عالم، بل لابدّ من الإذعان بوجود الغرض الكامل فيها إجمالاً، وأن لا نعلمه تفصيلاً؛ وذلك من جهة ما علمنا من تحقّقه في أكثر المخلوقات، أَليس إذا شاهدنا ماكنةً كبيرة ذات آلات كثيرة، وعلمنا فائدة أكثر أجزائها، لكن جهلنا فائدة بعضها الآخر، يحكم عقلنا بأنّ صانعها عالم قادر؟ وأنّ عدم علمنا بغرضه في بعض أجزائها، لا يدلّ على جهل الصانع المذكور، وإنّي أثق كل الثقة أنّ هذا الجواب ممّا يعرفه الصبيان في حين وجدانهم التمييز، لكن مَن غلب فطرته الغباوة والسفاهة لا يدرك ذلك.

وأمّا السابعة فتزيّف بأنّ الكلام في العلّة الأُولى انقطاعاً للدور التسلسل، فهي إمّا الأثير، وإمّا المادة، وعلى كلّ منهما يبطل ما ادّعوه من الكلّية المذكورة، فإنّ الذرّات أو الأثير مادّية لا علة مادّية لها، وإلاّ جاء الدور والتسلسل، فلابدّ من الالتزام بأنّ لها علّة غير مادية، وهي الواجب الوجود، ولِما ستعرف من أنّ المادة - بأي شيء فسّرت - لا تصلح للمبدئية.

وبالجملة: لزوم علّة مادية لكلّ موجود مادّي لا ينافي تأثير الواجب الوجود، ولم ينكر اللزوم المذكور الإلهيون، بل يقولون بصحّة الأسباب والمسبّبات الطبيعية في عالم الطبيعة، ومع ذلك يقولون بتأثير الواجب الوجود أيضاً، فإنّ الممكن بعلّته ومعلوله غير مستغنٍ عن الواجب حدوثاً وبقاءً كما مرّ.

وأمّا الثامنة فهي من أرذل الكلام، ولعلّ القائل بها لم يملك إدراكه حين التلفّظ بها؛ إذ أي إلهي يقول بإله ذي إرادة هدّامة للنظام الطبيعي، حتى يستكشف النظام عن عدمه؟ بل نقول: إنّ

٩٩

نظام الطبيعة من فعله وإرادته وهو - لمكان علمه وقدرته وحكمته وغنائه - لا يريد إلاّ الأصلح، فهذا النظام أكبر برهان على أنّ مبدأ العالم حي قادر عالم حكيم كامل، كما سيأتي توضيحه فيما بعد، والعمدة إلى العلل المادية في طول إرادة الخالق الحكيم، لا في عَرضها، فلا تنافي بينهما، وقد خفي هذا الموضوع المهم العالي على الماركسيين.

چشم باز وگوش باز واين عمى

حيرتم از چشم بندى خدا

فاتضح أنّ ما نسجه عبّاد المادة لا يناسب الموازين العلمية، ولا يرتبط بالنواميس العقلية، وإنّما الداعي لهم إليه ما تقدّم من الأسباب، وصدق القرآن المجيد حيث يقول: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ) (1) .

هذا كله في الأصل الأَوّل من أُصولهم الأربعة المتقدّمة، ومن تزييفه وهدمه يظهر سقوط الأصل الثاني والثالث منها أيضاً، فيبقى الأصل الرابع، وهو أنّ مبدأ العالم ومؤثّره ليس إلاّ المادة المذكورة، وقد تقدّم تفسير المادّة وكيفية تشكيل الأجسام منها. وخلاصة القول: أنّ صلاحية المادّة للمبدئية المطلقة، موقوفة على وجوبها الذاتي، وعدم توقّفها على سبب آخر، كما هو ظاهر، وكونها واجبة الوجود، وأزلية الثبوت، متفرّع على بساطتها، وعدم تركّبها اتفاقاً - ولذا أنكروا تجزئتها أشد الإنكار، فإنّ التركّب أمارة المسببية كما مرّ - وعلى أنّ حركتها من ذاتها لا من غيرها، وإلاّ كان فوقها قاهر محرّك يدبّرها، وكِلا الأمرين باطل قطعاً، فلا يمكن وقوف تعليل الموجودات على المادة المذكورة.

ثمّ يُعلم أنّا لا ننكر تركّب الأجسام من الذرّات؛ تثبيتاً لتركّبها من العناصر الأربعة المعروفة (2) أو أكثر منها، ولسنا نحن بصدده، فإنّه من مسائل العلوم الطبيعة، وإنّما ننتقد كونها علّة العالم وحدها، بحيث لا تحتاج إلى علّة فاعلية أُخرى، فنقول:

أمّا كون المادة أو الأثير مركّباً، فهو ممّا لا يدانيه شك ولا يمسّه ريب، وقد أكثروا الأدلة على ذلك وإليك بعضها:

1 - كلّ موجود مادّي له جهات ستّ، وكلّ جهة منه غير جهة أُخرى منه بالضرورة؛ إذ ليس جهتها اليمنى عين جهتها اليسرى، ولا جهتها الفوقانية عين جهتها التحتانية بالبداهة، ويستنتج منه أنّ كلّ ذرة - مهما فُرض صغرها - مركبة من أجزاء ستّة، وإن عجزت الآلات الصناعية عن تجزئته في الخارج.

____________________

(1) الحج 22 / 3.

(2) وهي الماء والتراب والهواء والنار، وزاد عليها بعض علماء العرب ثلاثة أخرى: الكبريت والزئبق والملح، وعدّها الباحثون الغربيون إلى 104 عناصر.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482