جامع الافكار وناقد الانظار الجزء ٢

جامع الافكار وناقد الانظار6%

جامع الافكار وناقد الانظار مؤلف:
المحقق: مجيد هاديزاده
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: 646

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 646 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39488 / تحميل: 6088
الحجم الحجم الحجم
جامع الافكار وناقد الانظار

جامع الافكار وناقد الانظار الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
ISBN: ٩٦٤-٥٦١٦-٧٠-٧
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

علمه ـ تعالى ـ بالجزئي على الوجه الكلّي اشارة إلى أنّ علمه ـ تعالى ـ بالجزئي على النحو الثاني ؛ ولا يلزم من ذلك أن يخرج عن علمه الشامل مفهوم الجزئي ـ كما توهّم بعض الناس وشنع على الحكماء بذلك ـ ، بل جميع المفهومات ـ جزئيا كان أو كلّيا ـ معلوم له ـ تعالى ـ بجميع الوجوه. غاية الأمر إنّ علمه بالجزئي لا يمنع عن فرض الشركة كما لا يمنع المخاطب في المثال المضروب عنه ؛ ولا محذور في ذلك ؛ انتهى.

أقول : حاصل كلام هذين المحقّقين أنّ ما يدرك بالعقل يكون كلّيا وما يدرك بالحسّ يكون جزئيا وان كان المدرك في الصورتين واحدا ، فمناط الكلّية والجزئية هو الادراك بالعقل أو الحسّ ولا يعزب عن الادراك العقلي ما يكون مدركا في الادراك الحسّى ، بل المدرك واحد وان كان أحد الادراكين غير مانع عن فرض الاشتراك والآخر مانعا عنه.

غير خفي بأنّ هذا الكلام ممّا لا يروي القليل ولا يشفي العليل!.

ويرد عليه : انّه لا يشكّ عاقل في أنّ أحد الادراكين إذا لم يكن مانعا عن فرض الشركة والآخر كان مانعا عنه يلزم البتّة أن يتحقّق في الادراك الثاني ما لا يتحقّق في الادراك الأوّل حتّى يكون ذلك مصحّحا ومنشئا لمانعية الاشتراك. ومجرّد اختلاف المدرك بكونه عقلا في الأوّل ونفسا في الثاني لا يصحّح ذلك ، لا بأن ينكر كون ادراك العقل كلّيا وادراك الحسّ جزئيا. ولكن نقول : مناط الفرق بين الكلّية والجزئية لا يمكن أن يكون بالتفاوت في المدرك ـ بالكسر ـ بأن يكون كلّما يدركه العقل كان كلّيا وكلما يدركه الحسّ كان جزئيا ، وإلاّ لم يكن للعقل أن يدرك الجزئيات مع انّه يدركها بالعلم الحضوري الانكشافي ـ كما لا يخفى ـ ، فلا بدّ أن يكون بالتفاوت في المدرك ـ بالفتح ـ. والحاصل : إنّ تحقّق المنع عن فرض الشركة في الادراك الجزئي وعدمه في الادراك الكلّي لا بدّ له من مقتض ؛ والمقتضي إمّا أن يكون من جانب المدرك ـ بالكسر ـ أو من جانب المدرك ـ بالفتح ـ ؛ والأوّل باطل ـ لما ذكر ، ولأنّ المدرك سواء كان عقلا أو غيره إذا ادرك الشيء بجميع خصوصياته ومشخّصاته وبنحو وجوده الخارجي فمع ذلك لا معنى لكونه مشتركا بين كثيرين ـ ، فيثبت الثاني ـ أعني : كون المقتضي من جانب المدرك بالفتح ـ ، و

٣٤١

ما هو إلاّ إدراك أمر فيه لا يدرك هذا الأمر في الادراك الكلّي ، وهو التشخّص الّذي به يصير الماهية جزئية.

إذا عرفت ذلك فتعلم أنّ الادراك الكلّي لا يتناول التشخّص ، بل التشخّص يخرج عنه ؛ فلا بدّ من التأمّل في أنّ خروج التشخّص هل هو مستلزم للتكفير أم لا؟.

فنقول : الحقّ انّ التشخّص ليس أمرا زائدا على الماهية في الخارج منضمّا إليها به تصير جزئية ، لأنّ كلّ ما يتصوّر من العوارض المنكشفة بالشخص وغيرها من الخصوصيات لها حقيقة كلّية ولا يوجد / ١٨٩ DA / شيء يكون بنفس مفهومه جزئيا ، بل الجزئية(١) انّما يتحقّق بحصول الشيء في الخارج. فالحقّ أنّ التشخّص إنّما هو نحو الوجود الخارجي للشيء ـ أعني : نحو الارتباط بالجاعل ـ ، فمناط الجزئية الّتي هي من عوارض المفهوم إنّما هو ادراك ذلك النحو من الارتباط الواقعى ـ أعني : الادراك المرتبط بهذا النحو الخاصّ من الارتباط ـ ، ومناط الكلّية ـ الّتي هي أيضا من عوارض المفهوم ـ إنّما هو بالادراك لا بهذا النحو ؛ فالاشياء الموجودة في الخارج بحسب انحاء وجوداتها الخارجية كلّها اشخاص. فان ادرك بالعلم الحصولي أو بالصورة الحاكية لنحو الارتباط الخارجي ـ كما في الصورة الخيالية ـ كانت جزئيات ، وإن ادركت بالصورة الغير الحاكية لنحو الارتباط ـ كأن تكون الصورة حاكية عن نفس الماهية لا عن نحو وقوعها وارتباطها بالجاعل الحقّ ـ كانت كليات ؛ فمناط الجزئية هو ادراك نحو الارتباط ـ سواء كان بالحسّ أو بغيره ـ ، ومناط الكلّية ادراك غير ذلك النحو من الارتباط.

وحينئذ نقول : لا ريب في أنّه على القول بالعلم الحصولي الكلّي يخرج عنه نحو الوجود الخارجي للأشياء وارتباطها الخاصّة بجاعلها ـ سواء كانت الأشياء ماديات أو مجردات ـ إذ الصورة العقلية الكلّية غير حاكية / ١٨٧ MA / عن نحو الوقوع الخارجي للأشياء وان كانت مجرّدة ؛ وحينئذ فلا وجه لتخصيص نفي علم الواجب والمبادي العالية على الوجه الجزئي بالماديات والحوادث الجزئية.

وما قيل : من أنّ النفي مختصّ بالماديات ـ لأنّ توهّم امتناع حكاية الصورة العقلية

__________________

(١) الاصل : + بل الجزئية.

٣٤٢

عن نحو الوجود الخارجي إنّما هو في المادّيات لا في المجرّدات ـ ؛ لا يخفى ضعفه.

وإذ ثبت انّه يخرج عن العلم الحصولي نحو الوجود الخارجي والارتباط نقول : لا ريب في أنّ من علم انّ العلم الحصولي مستلزم لذلك بأن يعلم انّ الصورة العقلية الكلّية غير حاكية عن نحو الوجود الخارجي ومع ذلك اعتقد به فيجوز تكفيره ، لأنّه اعتقد حينئذ جهله ـ سبحانه ـ بصفة واقعة ثابتة لجميع الأشياء ، لأنّ نحو الوجود الخارجي أمر محقق في نفس الأمر. وإن كان اعتباريا فليس اعتباريا محضا ، بل اعتباري نفس أمري له منشأ انتزاع في الخارج والواقع ، فخروجه عن علمه خروج أمر واقعي عن علمه. وان لم يعلم بذلك الاستلزام ـ بل توهّم انّ الصورة العقلية الكلّية حاكية عن نحو الوقوع الخارجي ـ فلا يجوز التكفير من هذه الجهة وإن صحّ التخطئة والتشنيع ، لأنّه حينئذ اعتقد ما هو الحقّ وإن أخطأ الطريق.

ثمّ نقول : لا ريب في أنّ الحكماء الحصوليين لم يتنبّهوا بالاستلزام المذكور وجزموا بأنّ الصورة العقلية حاكية عن التشخّص ومتناول له ـ سواء كان التشخّص نحو الوقوع الخارجي أو غيره ـ ، وفي عبارات الشيخ تصريحات بذلك كتصريحه بأنّه لا يعزب عنه مثقال ذرّة وتصريحه بتعقّله للموجودات كلّها ـ حاصلها وممكنها وأزليها وأبديها وكائنها وفاسدها وكلّيها وجزئيها ـ إلى اقصى الوجود ، وتصريحه بأنّه ـ سبحانه ـ يعرف الشخص وأحواله الشخصية ووقته الشخصي ومكانه الشخصي ، وأمثال تلك العبارات في كلامه كثيرة ، وحينئذ لا يصحّ التكفير وان صحّ التخطئة والتشنيع.

ثمّ على ما اخترناه فادراك نحو الوقوع الخارجي إنّما هو بالعلم الحضوري ، فانّ جميع الجزئيات يمكن أن يدرك بالنحو الجزئي بالعلم الحضوري الاشراقي والممتنع ادراكها بالوجه الجزئي إنّما هو بالعلم الحصولي الكلّي.

فما ذكره المحقّق الدوانى والسيد السند من أنّ الادراك على الوجه الجزئي إنّما هو بالاحساس ظاهر الفساد.

والمثال الّذي أورده السيد السند فالتحقيق فيه : انّ علمك به إنّما يكون جزئيا ، لادراكك نحو وقوعه في الخارج بسبب الإحساس لا لخصوصية الإحساس وعدم امكان

٣٤٣

ادراك القطرة جزئية بنحو آخر غير الإحساس ، إذ لو امكنك الاطّلاع الحضوري بها بدون الإحساس لأدركتها جزئية ، ولو أمكنك تعليمك مخاطبك بذلك النحو من الوقوع لكان ادراكه أيضا جزئيا. وحينئذ يرد على ما تمسّك به ـ من أنّ تصوّر الشبح البعيد إذا كان بالحسّ إلى آخره ـ : انّ الادراك الّذي هو مانع عن فرض / ١٨٩ DB / الاشتراك إنّما هو العلم بنحو وقوع الشيء في الخارج ، لا بمهيته أو باكثر صفاته ، فحيث حصل لنا العلم بوجه وقوع الشبح في الخارج ـ سواء كان بالحسّ أو بالعلم الحضوري ـ كان جزئيا مانعا عن فرض الاشتراك ، وجهلنا بالماهية وصفاته لا يقدح في كونه ممتنع الاشتراك.

وممّا قرّرناه وحقّقناه من ذهاب الفلاسفة إلى العلم الحصولي ولزوم كونه كلّيا وخروج التشخص عنه ظهر بطلان توجيهين ذكرا من قبل الفلاسفة تاويلا لقولهم بكون علم الواجب بالجزئيات على الوجه الكلّي دون الجزئي ؛

أحدهما من المحقّق الطوسي ، وهو : انّ مرادهم بالقول بأنّ واجب الوجود يعلم الجزئيات بوجه كلّي لا جزئي انّه ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات بالكلّية ـ أي : جميعها ـ بحيث لا يعزب عنه ـ تعالى ـ شيء عنها ، لا انّه ـ تعالى ـ يعلم بعضها ويعزب عنه بعض آخر ـ كما هو شأن الممكن ـ.

وقد تقدّم ما يرد على هذا التوجيه مفصّلا ونقلنا ما أورد عليه بأنّ في تاويل / ١٨٧ MB / كلام الفلاسفة ـ سيّما المتأخّرين إليه ـ بحث من وجهين ، وبينّا وجهي البحث بما لا مزيد عليه.

وثانيهما من صاحب المحاكمات وبعض آخر ، وهو : انّ مرادهم بالقول بأنّ واجب الوجود يعلم الجزئيات بوجه كلّي لا بوجه جزئي : انّه ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات بوجه يشابه الكلّي في أن لا يتغيّر العلم بها.

ويرد عليه ـ مضافا على ما أورد على التوجيه الأوّل ـ : شدّة بعد حمل العبارة عليه ، لأنّ الانتقال من « وجه كلّي » أو « الوجه الكلّي » إلى « وجه يشابه الكلّي » من قبيل الانتقال من اللفظ إلى المعنى لا دلالة له عليه باحدى الدلالات ، وإنّما كان الانتقال ممكنا لو كان العبارة « على الوجه الكلّي » أو « على وجه كلّي » على سبيل الاضافة دون

٣٤٤

التوصيف.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه انّ القول بالعلم الحصولي الكلّي باطل ، وكذا القول بالعلم الاجمالي والتفصيلي ؛ وانّ الحقّ المختار هو انّ علم الواجب ـ سبحانه ـ علم واحد حضوري تفصيلي فعلي غير زماني وغير متغير ومتجدّد ومقدم على ايجاد الأشياء يعلم به الأشياء ـ كلّياتها وجزئياتها ـ على الوجه الجزئي أزلا وأبدا على نهج واحد من غير تغيّر وتجدّد ، وانّ علمه المتعلّق بالأشياء اضافة اشراقية انكشافية وليس فيه تغيّر بالنسبة إلى ذاته ، ومناط هذا الانكشاف مجرّد ذاته الحقّة ، وليس هذا الانكشاف حادثا بحدوث الأشياء ـ كما زعمه الخفري ـرحمه‌الله ـ ونسبه إلى المحقّق الطوسي ـ ، وانّ مصحّح انكشاف الأشياء وحضورها بأنفسها عنده قبل وجودها العيني مع توقّفه على الوجود الخارجي هو كونها لوازم ذاته ومقتضيات وجوده مع كونها ثابتة له ـ تعالى ـ في الأزل وإن لم يوجد فيه ـ على ما مرّ مفصلا ـ. وهو الّذي دلّ عليه قواطع البرهان ويشهد به شواهد القرآن ونطقت به الاخبار الواردة عن النبي وآله الكرام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ، كما عرفت مفصلا ؛ هذا

وامّا الفرقة الرابعة ـ وهم الّذين قالوا انّ الواجب تعالى لا يعلم الحوادث قبل وقوعها ـ ؛ فشبهتهم في ذلك : انّه لو علم الواجب الحوادث قبل وقوعها لزم أن تكون تلك الحوادث ممكنة وواجبة معا ، والتالى باطل ـ للتنافي بين الوجوب والامكان ـ.

بيان الملازمة : انّها ممكنة لكونها حادثة وواجبة لوجوب وجودها بالنظر إلى تعلّق العلم بها وعدم جواز تخلّفها عنه ـ سبحانه ـ ، فانّها لو لم تكن واجبة وأمكن أن لا توجد لانقلب علمه ـ تعالى ـ جهلا.

والظاهر ـ كما قيل ـ : انّ هذا الدليل لا اختصاص له بالحوادث ، بل لو تمّ لدلّ على أنّه ـ تعالى ـ لا يعلم الممكنات مطلقا ـ سواء كانت قديمة أو حادثة ـ. ومناط الدليل استنباط وجوب الأشياء من علمه ـ تعالى ـ لو علم ، وانّه لا يجتمع مع الامكان ، ولا دخل للحدوث في ذلك.

والجواب : بأنّ الوجوب الغيري لا ينافي الامكان الذاتي ؛ مشترك.

٣٤٥

ثمّ قد أجيب عنه بوجهين :

أوّلهما : انّ العلم تابع للمعلوم ، فلا يكون علّة له ومفيدا لوجوبه.

وأورد عليه : بأنّه لا يلزم من كون العلّة تابعا وغير علّة وغير مفيد للوجوب أن لا يكون الحادث واجبا ـ لجواز استناد وجوبه إلى أمر آخر ـ ، كيف لا وقد دلّ البيان على وجوبه؟! ، ولا بدّ له من علّة. ونفي العلّة المخصوصة لا يدلّ على نفي العلّة مطلقا.

وحاصله : انّ المستدلّ جعل علمه ـ تعالى ـ واسطة بالنسبة إلى الوجوب لا واسطة للثبوت ، فنفي كون علمه علّة لا يضرّ المستدلّ ، إذ هو لا يدّعي انّ علة وجوبه علمه / ١٩٠ DA / ـ تعالى ـ ، بل جعل علمه دليلا على وجوبه بمعنى أنّ تعلّق علمه بحدوث الحادث يدلّ على وجوبه وتحقّق علمه لهذا الوجوب من دون تعيين لهذه العلّة ، ولا يلزم من كون الشيء دليلا كونه علّة ، فنفي العلّية المخصوصة لا يضرّ المستدلّ. وبهذا اشار بقوله : « ودلّ البيان على وجوبه » ؛ فلا يتوهّم انّ كلام المورد منع على المنع ، بل مطلوبه انّ منع المجيب غير مضرّ.

ثمّ البيان الدالّ على وجوبه هو : انّه لو لم يجب وجود المعلوم على الوجه الواقع في الوجود لزم جهله ـ تعالى ـ وانقلاب علمه إلى الجهل ، فيتحقّق بهذا البيان وجوب الحادث ـ سواء كان علّته العلم أم لا ـ ، فانتفاء الخاصّ لا يوجب انتفاء العامّ.

ويمكن أن يكون البيان الدالّ هو ما تقرّر وبيّن من أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فالحوادث الموجودة قد صارت واجبة البتّة.

وقد أورد على الجواب المذكور أيضا : بأنّ العلم الّذي يكون تابعا للمعلوم هو العلم الانفعالي ، لأنّ العلم الفعلي لمّا كان سببا للمعلوم فيكون المعلوم تابعا له دون العكس ؛ وأمّا العلم الانفعالي لم يكن سببا للمعلوم / ١٨٨ MA / بل مسبّبا عنه ، فيكون تابعا له. مع أنّه قد تقرّر انّ مناط علم الواجب ـ سبحانه ـ بذاته وبجميع الأشياء ليس إلاّ ذاته بذاته ، فعلمه فعلي وليس له علم انفعالي ، فالقول بأنّ علمه ـ تعالى ـ تابع للمعلوم لا وجه له أصلا ؛ فعلمه بالأشياء ليس إلاّ علما فعليا. وعلى هذا فما قيل من أنّ العلم تابع للمعلوم يمكن أن يقال : ليس المراد بالتابعية الانفعال ، بل المراد بها ما ذكره العلاّمة الطوسي في

٣٤٦

بحث الأعراض من التجريد(١) من : أنّ المراد بالتابعية هو أصالة المعلوم في التوازن والتطابق بمعنى انّه إذا أوجد العلم من حيث انّه حكاية عن المعلوم والمعلوم محكي عنه فيكون المعلوم بهذا الاعتبار أصلا والعلم تابعا له ، لأنّ الحكاية تابعة للمحكيّ عنه. وهذا المعنى لا ينافي كون العلم سببا في نفس الامر للمعلوم ، لانّ اعتبار الحكاية غير اعتبار العلية.

ثمّ توهّم كون علمه ـ تعالى ـ فعليا منافيا للقدرة قد تعلم جوابه من المباحث السابقة.

وقد ظهر بما ذكر انّ الوجه الأوّل للجواب عن الشبهة المذكورة ليس بصحيح.

وثانيهما : انّ الوجوب الغيري لا ينافي الامكان الذاتي ، فالحوادث ممكنة لذواتها وواجبة لغيرها. وإلى هذا الجواب اشار المحقّق الطوسي في التجريد بقوله : « ويمكن اجتماع الوجوب والامكان باعتبارين »(٢) . وهذا الجواب هو الصحيح ، وحاصله : انّ التالي المذكور في الشبهة غير باطل ، لجواز اجتماع الوجوب بالغير والامكان في ذاته ، إذ لا تنافي بينهما ، إنّما التنافي بين الوجوب بالذات والامكان.

ثمّ الغير ـ الّذي هو العلّة لوجوب الحوادث ـ هو العناية والعلم بالاصلح مطلقا عند من يستند(٣) جميع الموجودات إليه ـ سبحانه ـ ؛ وأمّا عند من قال : انّ افعال العباد ليست معلولة لعلم واجب الوجود ـ تعالى ـ وواجبة باقتضائه ففي تعيين علّة وجوب الحوادث تفصيل ذكره بعض المشاهير ، وهو أن يقال : الحادث إمّا فعل العبد ، أو لا ؛ ووجوب القسم الثاني إنّما نشأ من علم الواجب بالمصلحة ، ووجوب القسم الأوّل انّما نشأ من الأسباب الّتي من جملتها اختيار الفاعل ؛ فلهذا قال المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم : « فالذي ينظر إلى الأسباب الأول ويعلم انّها ليست بقدرة الفاعل ولا بإرادته يحكم بالجبر ـ وهو غير صحيح مطلقا ، لأنّ السبب القريب للفعل هو قدرته وارادته ـ ،

__________________

(١) راجع : الفصل الخامس من المقصد الثاني ؛ كشف المراد ، ص ١٥١.

(٢) المسألة الثانية من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص ٢٢٢.

(٣) الاصل : + جميع.

٣٤٧

والّذي ينظر إلى السبب القريب ينظر بالاختيار والتفويض ـ وهو أيضا ليس بصحيح مطلقا ، لأنّ الفعل لم يحصل باسباب كلّها مقدورة ومرادة له ـ ، والحقّ ما قال بعضهم : لا جبر ولا تفويض لكنّه أمر بين أمرين » ؛ انتهى.

اعلم! : انّ المراد « بالأسباب الأول » هي الأسباب الّتي ما سوى اختيار العبد وما باختياره ، مثلا إذا أراد زيد أن يكتب فالقلم والمداد والقرطاس وما اشبهها ليست من فعل زيد وبقدرته ـ لأنّه ليس موجدا لشيء من الأجسام ـ ، بل انّما هو بفعل زيد وقدرته هو الحركات الّتي تكون لها مدخلية في وجود الكتابة ؛ فالسبب القريب هو حركات زيد والأسباب البعيدة هي ما عداها. فحاصل كلام المحقّق : إنّ من نظر إلى السبب البعيد الّذي ليس بقدرة العبد أصلا توهّم انّ العبد مضطرّ في فعله / ١٩٠ DB / وليس له دخل أصلا ، ومن نظر إلى السبب القريب توهّم انّ العبد مستقل في فعله. ثمّ حكم ببطلان هذين التوجيهين وصرّح بأنّ الحقّ ما روى عن أهل البيت ـعليهم‌السلام ـ من انّه لا جبر ولا تفويض ولكنّه أمر بين أمرين. فعلى ما ذكره هذا المحقّق يكون « الجبر » عبارة عن كون فعل العبد مخلوقا لله ـ تعالى ـ بدون مدخلية العبد فيه أصلا ، و « التفويض » عبارة عن كون العبد مستقلاّ في فعله بلا مدخلية من الله فيه أصلا ، و « الأمر بين الأمرين » هو كون الفعل واقعا بقدرة العبد واختياره وكون قدرته واختياره مستندين إلى الله ـ تعالى ـ ، فيكون الأسباب البعيدة على الاضطرار والقريبة على الاختيار. فالانسان ليس بمختار مطلقا ولا بمضطرّ مطلقا. وعلى هذا فيكون مراد المحقّق في / ١٨٨ MB / التجريد من قوله : « يمكن اجتماع الوجوب والامكان باعتبارين » : انّ في غير فعل العبد من الحوادث يكون الوجوب فيه بالنظر إلى العلم بالأصلح والامكان فيه بالنظر إلى ذاته ، وفي فعل العبد فالوجوب فيه بالنظر إلى الأسباب الأول ـ ومن جملتها إرادة الله وعلمه ـ والامكان بالنظر إلى الأسباب القريبة ـ ومن جملتها إرادة العبد ـ. ويوافق ذلك ما قال بهمنيار : « فان قيل : هل لنا قدرة على الفعل أم لا؟ ، قلنا : انّ لنا قدرة على الفعل بالقياس إلى الايجاد ، وامّا بالقياس إلى الكلّ فليس لنا قدرة إلاّ على المقدور ـ أي : على ما علم واجب الوجود صدوره منا ـ ، وهو جرّ الأسباب إلى

٣٤٨

اختيارنا ايّاه ؛ انتهى.

وتوضيح كلام بهمنيار : انّ لنا قدرة بالقياس إلى كلّ واحد واحد من الآحاد الّذي هو في سلسلة الأسباب وله دخل في صدور الفعل إذا اعتبر منفردا وقطع النظر عمّا تقدّمه منها ، لأنّ من جملتها قدرتنا واختيارنا وارادتنا وهي مقدورة لنا. وأمّا بالقياس إلى الكلّ ـ أعني : مجموع سلسلة الأسباب من وجود القدرة واسبابها القريبة والبعيدة والأسباب الّتي بها ينبعث اشواقنا ـ فليس لنا قدرة إلاّ على المقدور الّذي علم الله ـ تعالى ـ انّه يصدر عنّا بالقدرة والاختيار وصدور ما علمه ـ تعالى ـ صدوره عنّا ، وهو يحصل اسباب الفعل منضمّا إلى اختيارنا له ، فيحصل عنّا الفعل فيجتمع حينئذ فيه الوجوب بالقياس إلى جميع الأسباب الّتي من جملتها قدرتنا واختيارنا ، والامكان بالنسبة إلى ذات الفعل مع قطع النظر عن اجتماع تلك الأسباب وبالنسبة إلى نفس قدرة القادر من حيث انّها قدرة من غير انضمام أمر آخر من الأمور المرجّحة لأحد طرفيها على الآخر. والحاصل : انّ قدرة العبد من جملة الأسباب ، فإذا لوحظ الفعل من حيث قدرة العبد بدون ملاحظة جميع الأسباب المتسلسلة المنتهية إلى ذلك الفعل فهو مقدور له ، وإذا لوحظ من حيث حضور جميع الأسباب المتسلسلة المنتهية إلى ذلك الفعل وجب ذلك الفعل حينئذ وليس مقدورا للعبد.

ثمّ تفصيل الكلام في هذا المقام وتحقيق الحقّ في هذا المرام قد تقدّم مع النقض والإبرام.

٣٤٩
٣٥٠

الفصل الثالث

في اثبات حياته ـ سبحانه ـ

٣٥١

( الفصل الثالث )

( في اثبات حياته ـ سبحانه ـ )

اتّفق كافّة أهل الأديان وجمهور العقلاء على أنّه ـ تعالى ـ حيّ ، وثبت من الشريعة المقدّسة اطلاق الحياة عليه ـ سبحانه ـ.

ثمّ الحياة في الحيوان عبارة عن صفة تقتضي الحسّ والحركة الارادية ، فالحياة بهذا المعنى يتمّ بادراك ـ هو الإحساس ـ وفعل ـ هو التحريك ـ منبعثين عن قوّتين مختلفتين.

ولا ريب في تنزيهه ـ سبحانه ـ عن الحياة بهذا المعنى ، فاختلف العقلاء في معنى الحياة الذي يطلق عليه ـ سبحانه ـ.

فقال جمهور المتكلّمين : انّها صفة توجب صحّة العلم والقدرة ؛

وقال الحكماء وبعض المعتزلة : انّها كونه ـ تعالى ـ بحيث يصحّ أن يعلم ويقدر.

ولا ريب في أنّ قول المتكلّمين لايجابه اثبات صفة زائدة على ذاته باطل ، فالحقّ ما ذهب إليه الحكماء. وتحقيق مذهبهم هو ما اشار إليه بهمنيار بقوله : « الحيّ هو الدراك الفعّال. وهذان الوصفان له ـ تعالى ـ بذاته ؛ ومعنى قولي : « بذاته » : إنّ وجوده ـ تعالى ـ هو كونه بحيث يصدر عنه افعال الحياة. وشرح ذلك : هو إنّ الحى هو أن يكون الشيء بحيث يصدر عنه الفعل / ١٩١ DA / والادراك ، وذلك على وجهين :

فأحد الوجهين : أن يكون وجوده حياته ؛

٣٥٢

والثاني : أن يكون حياة الشيء معنى زائدا على وجوده ، كحياة الانسان فانّه ما لم ينضمّ إلى الجسم النفس لم يوصف ذلك الجسم بأنّه حيّ ، لأنّه إن كان وجود الجسمية هو حياته لكان كلّ جسم حيّا ، وقد عرفت إنّ إنّيته ـ تعالى ـ حياته ، فانّ إنّيته هي كونه بحيث يصدر عنه افعال الحياة »(١) ؛ انتهى.

أقول : لا ريب في أنّ الحياة ما هو مبدأ ومنشأ للأفعال والآثار الصادرة عن الحيّ من العلم والقدرة والحسّ والحركة وغير ذلك. وهذا المعنى في الحيوان صفة زائدة على ذاته ، وأمّا في الواجب ـ تعالى ـ فالمبدأ ليس إلاّ ذاته ، لأنّ ذاته بذاته يعلم ويفعل ، فذاته حياته. قال بعض المشاهير : قد مرّ إنّ الوجود الحقيقي ما يكون الشيء باعتباره موجودا ، فواجب الوجود لمّا كان باعتبار ذاته موجودا كان وجوده الحقيقي عين ذاته ، وكذلك الحياة الحقيقية فانّها ما يكون الشيء باعتباره حيّا. ولمّا كان ذات الواجب باعتبار ذاته حيّا كان الحياة عين ذاته ؛ وكذا حال باقي الصفات / ١٨٩ MA / الحقيقية من العلم والإرادة وغيرهما ، فانّهما عين ذاته ـ تعالى ـ ولا تغاير بينهما إلاّ بالاعتبار ـ كما لا يخفى ـ ؛ انتهى.

وما أشار إليه من معنى عينية الصفات هو المذهب الحقّ ـ على ما تقدّم في بعض كلماتنا ـ. وهذه المسألة ـ أعني : مسئلة عينية الصفات ـ وإن لم يكن هنا موضع بيانها إلاّ أنّ هذا القائل وبعض أخرى لمّا تعرّض لبيانها هنا فلا بأس بأن نتعرّض لها نحن أيضا.

فنقول : المذاهب المعروفة في تصحيح عينية الصفات ثلاثة :

الأوّل : ما أشار إليه هذا القائل هنا ، وهو المذهب الحقّ المنصور. وبيانه : إنّ ذاته ـ تعالى ـ مصدر جميع الصفات ومحض ذاته بذاته منشأ الجميع ومناطه ومصحّحه ، بل هو فرد لكلّ واحد من الصفات قائم بذاته ، وليس له صفة زائدة على ذاته ـ كما فينا ـ ؛ فانّه ـ سبحانه ـ وان وصف بالحياة والعلم والجود والقدرة والإرادة وامثالها لكن ليس ذلك لأجل اتصافه بها من حيث انّها معان متميّزة فيه ، بل من حيث انّه ـ تعالى ـ بمحض ذاته البسيطة الواحدة الحقّة الّتي هي صرف الوجود الخالص البحت منشأ

__________________

(١) راجع : التحصيل ، ص ٥٧٩.

٣٥٣

لجميعها بحيث لا يلزم منه تركّب وتكثّر ، فهو أحدي فرد ذاتا وصفة ـ كما قال الشيخ في التعليقات : « إنّ الأوّل لا يتكثّر لأجل تكثّر صفاته ، لأنّ كلّ واحد من صفاته إذا حقّقت تكون عين الصفة الأخرى بالقياس إليه ، فتكون قدرته حياته وحياته قدرته وتكونان واحدة ، فهو حيّ من حيث هو قادر وقادر من حيث هو حيّ ، ـ وكذلك الحال في سائر صفاته » ـ(١) . قال بعض العرفاء : ومشيته ـ تعالى ـ قدرته وما يدركه بصفة يدركه بجميع الصفات ، إذ لا اختلاف هناك.

ثمّ صفاته ـ تعالى ـ منها حقيقية كمالية ـ كالجود والقدرة والعلم ـ ، وهي لا تزيد على ذاته ، بل عين ذاته بمعنى انّ ذاته من حيث حقيقته مبدأ لانتزاعها عنه ومصداق لحملها عليه ، ويطابق الحكم بها عليه بلا ملاحظة أمر آخر زائد عليه قائم به أو منتزع عنه ، بل حيثية ذاته ـ تعالى ـ هي بعينها حيثية جميع صفاته الكمالية ، فليس الواجب ـ سبحانه ـ بسبب اطلاق تلك الصفات على ذاته ذا معان متميزة يسمّى بهذه الأسماء المختلفة ، بل هو ـ سبحانه ـ يستحقّ لاطلاق هذه الأسماء لا بحيثية أخرى وراء احدية ذاته.

ومنها اضافية محضة ـ كالمبدئية والمبدعية والخالقية والرازقية وأمثالها ـ. وهذه الصفات زائدة على ذاته متأخّرة عنه وعن ما اضيف بها إليه ، لأنّ الاضافات لا يمكن أن يكون عين الحقائق المتأصّلة ، فكيف يكون عين ما هو أصل الحقائق ومنبع الذوات؟!. ولا يخلّ بوحدانيته كونها زائدة عليه ، فانّ الواجب ـ تعالى ـ ليس كماله ومجده بنفس هذه الصفات الاضافية ، بل بكونه في ذاته بحيث ينشأ منه هذه الصفات. وهو إنّما هو كذلك بنفس ذاته ، فانّ كماله ليس إلاّ بذاته لا غير.

ومنها سلبية محضة ـ كالقدوسية والفردية والازلية وغيرها ـ والاتصاف بها يرجع إلى سلب الاتصاف بصفات النقص. وصفاته الحقيقية لا يتكثّر ولا يتعدّد ولا اختلاف فيها إلاّ بحسب التسمية ، بل يكون كلّها معنى واحدا وحيثية واحدة هي بعينها حيثية الذات ، فانّ ذاته بذاته ـ تعالى ـ مع كمال فردانيته يستحقّ هذه الاسماء

__________________

(١) قريب منه يوجد في التعليقات ، ص ١٨١.

٣٥٤

لا بحيثية أخرى وراء حيثية ذاته ، كما قال المعلم الثاني : وجود كلّه وجوب كلّه علم كلّه قدرة كلّه / ١٩١ DB / حياة كلّه ، لا أنّ شيئا منه أو جهة منه علم وشيئا آخر أو جهة منه قدرة ليلزم التركيب في ذاته المقتضي للاحتياج إلى الاجزاء المنافي لوجوب الوجود ، ولا أنّ شيئا فيه علم وشيئا آخر فيه قدرة ليلزم التكثّر في صفاته الحقيقية ويكون محلاّ للأعراض ممكن الاتصاف بها ، بل حيثية ذاته وهويته البسيطة الّتي لا تكثّر ولا امكان فيه أصلا هي بعينها حيثية صفاته الحقيقية. نعم! ، في التعبير عنها تغاير وترتّب بمحض اعتبار الذهن وملاحظة العقل لا بحسب الخارج. فكما انّه من حيث هو منشئا للآثار وجود كلّه كذلك من حيث هو منشئا لانكشاف الأشياء علم كلّه ومن حيث هو منشئا لصحّة الفعل والترك قدرة كلّه ومن حيث هو مبدأ لرجحان فعل القائم ـ أعني : النظام الأكمل والأصلح بحال العالم بل وجوب صدوره عنه ـ إرادة كلّه ـ وقس عليها غيرها ـ ؛ وجميعها راجعة إلى حيثية وجوده الّتي هي عين حيثية ذاته.

وأمّا صفاته الاضافية فهي أيضا لا يتكثّر معناها وان كانت زائدة على ذاته ؛ وكذا صفاته السلبية ، فانّ اضافاته إلى الأشياء وان تعدّدت اساميها واختلفت لكن كلّها يرجع إلى معنى واحد واضافة واحدة هي قيوميته الايجابية للأشياء يصحّح جميع الاضافات / ١٨٩ MB / ـ كالرازقية والخالقية والمصورية وغير ذلك ـ ، وتغايرها بتغاير الأشياء المضاف إليها. وترتّبها حسب ترتّبها ؛ كترتب مبدئيته لها ، فمبدئيته بعينها رازقيته وبالعكس ، وهما بعينهما رحمته ولطفه وبالعكس.

وصفاته الاضافية وإن كانت ذات أسام مختلفة لكنّها ليست معانى مختلفة وإلاّ لوجب اختلاف حيثيات في ذاته ـ تعالى ـ ، فيتكثّر ذاته الأحدية بها ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ. والتعدّدات والتجدّدات الواقعة فيها إنّما هي بالقياس إلى الأشياء المتعلّقة بها المتعدّدة أو المتجدّدة في أنفسها وبقياس بعضها إلى بعض لا بقياسها إلى بارئها القيوم ـ جلّ ذكره ـ ؛ كما قيل : « ليس عند ربّك صباح ولا مساء » ، أي : نسبة الواجب ـ تعالى ـ المتعالى عن وصمة التغيّر إلى جميع الامور المتجددة المتعاقبة نسبة واحدة ومعية قيومية غير زمانية.

٣٥٥

والحاصل : إنّ اضافته إلى الأشياء اضافة واحدة بحسب المفهوم ، وهي إمّا مترتّبة ترتيبا سببيا أو مسببيا على حسب ترتّب المعلولات الواقعة في سلسلة الايجاد المنتهية إلى الواجب ـ سبحانه ـ الّتي يقال لها « السلسلة الطولية » ، فلا يوجب تعدّدها تكثّرا في ذاته كما لا يوجب صدور معلولاته الكثيرة المترتّبة اختلافا في وحدته الحقّة. وهذا معنى قولهم : « إنّ نسبة الأوّل إلى الثاني أمّ جميع النسب » ؛ وإمّا متجدّدة حسب تجدّد الأشياء الواقعة في سلسلة الاعداد الّتي يقال لها « السلسلة العرضية » ، فلا يوجب تغيّرا في ذاته كما لا يوجب صدور الزمانيات عنه ـ تعالى ـ تحوّلا له عمّا هو عليه في ثباته وبقائه.

وأمّا صفاته السلبية فهي أيضا مع تكثّرها وتعدّدها يرجع إلى سلب واحد هو سلب الامكان عنه. ومناطه وجوب الوجود ، فوجوب الوجود له ـ تعالى ـ يوجب سلب جميع النقائص عنه ـ تعالى ـ ، لا أن يكون سلب بعضها لأجل تحقّق معنى آخر فيه ليلزم التركيب إمّا في ذاته أو في صفاته الحقيقية الكمالية كسلب العرضية والجمادية والشجرية والفرسية من الانسان ، فانّ صدق كلّ منهما لأجل تحقّق معنى واحد من المعاني المتحقّقة فيه ؛ كالجوهرية والنموّ والحياة والنطق ، بخلاف سلب الجمادية عنه المندرجة تحته سلب الحجرية والمدرية وغير ذلك ، إذ جميعها تابعة له. فلا يكون صدقها بإزاء معانى مختلفة في الانسان ، بل بإزاء معنى واحد وهو النموّ. والحاصل : إنّ ذاته بذاته منشئا لجميع صفاته الحقيقية متحقّقة له في مرتبة ذاته وصفاته الاضافية متأخرة ، إلاّ أنّ تأخّرها لا يوجب نقصا ، لأنّ الصفات الإضافية ليست كمالات حقيقية له ـ تعالى ـ.

ثمّ إنّ اتصافه ـ تعالى ـ بتلك الصفات ـ سواء كانت حقيقية أو اضافية ـ لا يوجب تكثّرا وتركّبا واختلاف جهات وحيثيات فيه ـ سبحانه ـ ، لأنّ الصفات الإضافية ـ كلّها ـ راجعة إلى اضافة واحدة مصحّحة لجميع الإضافات المختلفة وهي اضافة المبدئية والقيومية ؛ فإنّ معنى القيومية يلزمها الخالقية والرازقية والمصوّرية وغير ذلك ، وكذا السلوب ـ كلّها ـ راجعة إلى سلب واحد / ١٩٢ DA / مصحّح لجميع السلوب وهو سلب الامكان ، فانّه يلزمه سلب الجسمية والعرضية وغير ذلك من السلوب ، فكون ذاته ـ سبحانه ـ مبدأ وموجدا للأشياء يلزمه جميع الصفات الاضافية

٣٥٦

والسلبية متأخرة عن ذاته ، فلا يلزم من هذه الجهة اختلاف حيثيات وتكثّر جهات فيه ـ سبحانه ـ.

وأمّا صفاته الحقيقية وإن كانت موجودة في مرتبة ذاته ومتغايرة بحسب المفهوم إلاّ أنّها ليست معانى متميزة موجودة فيه ـ تعالى ـ حتّى يلزم التركب ، فانّ الانكشاف والحياة والقدرة وغير ذلك من الصفات الحقيقية وإن كانت أمورا نفس أمرية إلاّ أنّها ليست موجودة فيه ـ سبحانه ـ بوجودات متميزة متغايرة حتّى يلزم التركّب في ذاته.

فان قلت : لا ريب في أنّ ذات الواجب ـ تعالى ـ شيء بسيط واحد من جميع الجهات وهذه الصفات أمور متغايرة مقتضية للآثار المختلفة ، فانّ حقيقة العلم الّذي هو الانكشاف غير حقيقة القدرة بأيّ معنى أخذ ـ لأنّ القدرة ببعض معانيها هي ايجاد الأشياء في الخارج وببعض معانيها الآخر هي التمكّن من الفعل والترك ، والانكشاف هو ظهور الأشياء عنده ، ولا ريب في أنّ ايجاد حقيقة الشيء في الأعيان غير ظهوره عنده ، ولذا قد يكون شيء ظاهرا عندنا ولا نتمكّن من ايجاده ـ. وإذا كان الأمر كذلك فنقول : كيف يمكن أن يكون بسيط من جميع الجهات علّة ومنشئا لأمور متعدّدة مع أنّ المناسبة بين العلّة والمعلول لازمة؟! ، والواحد من حيث هو واحد لا يناسب الكثير من حيث هو كثير؟!.

قلت : / ١٩٠ MA / الواجب الحقّ ليس إلاّ صرف الوجود المجرّد ، ومعلوم انّ التجرّد ليس صفة يوجب التركيب والتكثّر ، بل يوجب البساطة والوحدة ؛ فالوجود الصرف ليس إلاّ واحدا حقّا. ولا ريب في أنّ هذا الواحد لكونه وجودا صرفا يلزمه القيومية الّتي هي بمعنى القيام بذاته ؛ والمقوّمية للغير ، لأنّ القيوم هو القائم بذاته المقيم لغيره. ووجه الاستلزام ظاهر ، لأنّ بحت الوجود وصرفه يجب أن يكون موجودا بذاته وموجدا لغيره ، ولولاه لما شمّ ماهية من المهيات رائحة الوجود. ولا ريب في أنّ القيومية المطلقة مع التجرّد صفة واحدة يلزمها سائر الصفات الكمالية والاضافية ، لأنّ المجرّد القائم بذاته يلزمه انكشاف الأشياء عنده والقائم بذاته يلزمه كونه قديما أزليا ، و

٣٥٧

المقوّم للأشياء يلزمه كونه قادرا ـ ببعض المعاني ـ وموجودا وجوادا ورازقا ومصوّرا ـ إلى غير ذلك من الصفات الاضافية ـ ، والمقيم للأشياء العالم بها يلزمه كونه حيا ـ لأنّ الحيّ هو الفعّال الدرّاك ، كما علمت ـ ، فاللازم لذاته ـ سبحانه ـ ليس إلاّ صفة واحدة هي القيومية المطلقة. ولزومها له ـ سبحانه ـ من حيث انّها صفة واحدة بسيطة ولها جهة وحدة لا من حيث انّها كلّية ولها جهة كثرة يندرج لأجلها جميع الصفات تحتها ، فمن حيث إنّ لزومها له ـ تعالى ـ من جهة وحدتها وبساطتها لا من جهة كثرتها ومن حيث انّ كلّ الصفات مندرجة تحتها يتحقّق ما يشترط تحقّقه بين العلّة والمعلول ـ من التكافؤ والمناسبة ـ. واشتمالها على جهة الكثرة من حيث اندراج كلّ الصفات تحتها لا يوجب رفع المناسبة بين العلّة والمعلول وصدور الكثير من الواحد لأنّ ما يرفع المناسبة بين العلّة والمعلول إنّما هو إذا كان المعلول كثيرا غير مشتمل على جهة وحدة وصدر من حيث انّه كثير من الواحد من حيث هو واحد ، وأمّا إذا كان للكثير جهة وحدة ومن هذه الجهة صدر عن الواحد أو كان صدور الكثرة في مراتب فلا منع فيه ، فانّه لو كان للكثير اشتراك في جهة واحدة يكون التعلّل بينه وبين علّته الواحدة البسيطة بهذا الاعتبار ، أو كان صدور الكثير عن الواحد في مراتب لكان الصادر عن الواحد بالحقيقة واحدا ؛ فلا يلزم ارتفاع المناسبة بين العلّة والمعلول. فقد ثبت انّ الوجود الصرف يلزمه جميع الصفات الكمالية من دون لزوم اختلاف جهات وتغاير حيثيات فيه.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه إنّ صفاته ـ تعالى ـ سواء كانت حقيقية غير ذات اضافة ـ كالحياة والأزلية ـ أو حقيقية ذات اضافة ـ كالعلم والقدرة ـ أو اضافة محضة ـ كالخالقية والمصوّرية وغيرهما ـ ليس لها مبدأ زائد في ذاته كما هو فينا ، فانّ لكلّ واحد من هذه الصفات إذا أخذ / ١٩٢ DB / بالقياس إلينا يكون له مبدأ عرضي قائم بنفوسنا ، فانّ الانكشاف الحاصل لنا يتوقّف على صورة علمية قائمة بأنفسنا والقدرة بمعنى التمكّن من الفعل والترك يتوقّف على قوّة قائمة بانفسنا ـ إلى غير ذلك ـ ؛ والمبدأ لجميع هذه الصفات ـ الّتي هي معان ومفهومات ـ بعضها متحقّق في مرتبة ذاته ـ تعالى ـ وبعضها متحقّق بعد ذاته ليس إلاّ ذاته ـ سبحانه ـ من دون افتقار إلى صورة وملكة و

٣٥٨

قوّة زائدة قائمة بذاته ـ سبحانه ـ ، واستناد علمه بمعنى الانكشاف الشهودي إلى تجرّده المقتضي لزيادة البساطة والوحدة. واستناد سائر صفاته ـ تعالى ـ إلى قيوميته المطلقة المستندة إلى ذاته وعدم كون القيومية معنى زائدا على ذاته قائما به لا يلزم تكثّر ولا اختلاف جهات وحيثيات في ذاته ، وهو معنى عينية صفاته.

ثمّ انّه على هذا المذهب ـ كما أشير إليه ـ يصدق هذه الصفات على ذاته بأن يقال : إنّ ذاته علم وإرادة وقدرة. وبيان ذلك : انّ كلّ واحد من تلك الصفات يطلق على ثلاثة معان :

أحدها : المعنى الانتزاعى الاضافي المصدري الّذي يشتقّ منه الفعل ؛

وثانيها : ما يحصل به هذا المعنى الاضافي كائنا ما كان ؛

وثالثها : الملكة الّتي يقتدر بها على استحصال تلك المعاني الاضافية بالفعل.

مثلا العلم بالمعنى الأوّل هو الاضافة الاشراقية الشهودية ؛ وبالمعنى الثاني ما ينكشف به الشيء ـ وهو العلم الحقيقي ـ ؛ وبالثالث هو القوّة والملكة الّتي يقتدر بها على استحصال المنكشفات بالذات.

ولا ريب في صدق كلّ صفة بالمعنى الثاني على ذاته ـ تعالى ـ ، لأنّ ذاته بذاته هو الّذي يتحصّل به كلّ صفة / ١٩٠ MB / بالمعنى الأوّل ، فانّ ما ينكشف به الأشياء ليس إلاّ بحت ذاته وصرف وجوده ، فذاته هو العلم الحقيقي. وكذا الحال في غير العلم من الصفات.

وأمّا الصفات بالمعنى الأوّل والثالث فلا يجوز صدقها عليه ـ تعالى ـ ، لعدم كون ذاته معنى اضافيا أو ملكة يقتدر بها على استحصال شيء ، وإذا كان ذاته ممّا يصدق عليه الصفة بالمعنى الثاني حتّى يكون محلاّ لانتزاع الصفات الاضافية الاعتبارية فلا منع في أن يكون ذاته المقدّسة فردا من كلّ صفة كمالية قائما بنفسه ؛ وقد تقرّر في محلّه انّه لا يلزم في صدق المشتقّ حقيقة على شيء قيام مبدأ الاشتقاق به حقيقة ، بل لو كان مبدأ الاشتقاق ـ كالعلم مثلا ـ قائما بنفسه بحيث يترتّب عليه آثار المشتقّ كان أحقّ باسم المشتقّ ممّا قام به المبدأ ، فالله ـ سبحانه ـ عالم حقيقة لا بعلم قائم به ، قادر لا بقدرة يقوم

٣٥٩

به ، مريد لا بإرادة يعرضه ، بل هو نفس العلم والقدرة والإرادة ؛ وكذلك سائر الصفات الحقيقية.

ولو نازعنا في ذلك بعض أهل اللغة لا نبالي به ، إذ الغرض تحقيق المعاني لا تبيين الالفاظ.

وحينئذ يندفع ما أورد بأنّه يلزم على هذا كون حقيقته المقدّسة مشاركة للأعراض في ماهياتها الداخلة تحت المقولات ، أو القول بالاشتراك اللفظى ؛ لأنّ بناء هذا الايراد على كون كلّ صفة هي مبدأ ومنشئا للمعاني الاضافية قوّة عرضية زائدة قائمة بالموصوف ـ لكون صفة العلم بمعنى ما ينكشف به الشيء صورة علمية قائمة بالعالم ـ ؛ وهذا ليس بلازم ، فانّه كما انّ مفهوم الوجود المطلق معنى واحد أحد أفراده قائم بذاته هو حقيقة الواجب ـ تعالى ـ والباقي عارضة بالماهيات الممكنات ، وهو أمر اعتباري عارض للجميع كذلك يمكن أن يكون لكلّ من هذه المفهومات فرد واحد بسيط هو عين حقيقة الواجب ـ تعالى ـ غير داخلة تحت مقولة ، وسائر أفرادها اعراض داخلة تحت المقولات ولها أجناس وفصول ، وتكون المطلق من كلّ منهما اعتباريا عارضا للجميع. فكما انّ مطلق العلم بمعنى الانكشاف والظهور أمر اعتباري عارضي بالنسبة إلى الصورة الحاصلة بالعالم فكذلك بالنسبة إلى ذاته القائمة بذاته ؛ وكما أنّ الصورة والقوّة العرضية فينا منشئا ومصحّح لانتزاع هذا المطلق ـ لأجل مناسبة بينهما ـ فكذا ذاته ـ سبحانه ـ منشئا له للمناسبة ؛ وكما انّ مطلق العلم بمعنى الانكشاف أمر عرضي وانتزاعه من القوّة القائمة بالمدرك لا يصير موجبا لتركيب القوّة وتكثّرها فكذلك انتزاعها عن ذات الواجب أيضا لا يوجب تركّبه وتكثّره ؛ وكما انّ تلك القوّة فرد من العلم بمعنى انّه يصدق عليها مطلق / ١٩٣ DA / العلم ويحمل عليهما فكذلك ذاته ـ سبحانه ـ فرد من العلم بهذا المعنى ـ كالوجود المطلق ووجوده الخاصّ من دون تفاوت ـ. وبالجملة على هذا المذهب لا فرق بين ذاته ـ سبحانه ـ والصورة العلمية القائمة بالمدارك في منشئيتهما ومناطيتهما للانكشاف والظهور ، وفي كون كلّ منها فردا للعلم ومصداقا له ، فذاته بذاته منشأ لجميع الصفات الانتزاعية الّتي تكثّرها لا يوجب تركّبا وتكثّرا فيه وفرد ومصداق لجميعها ، و

٣٦٠

هو معنى العينية. وفي غيره ـ سبحانه ـ منشأ تلك الصفات الاضافية لا بدّ ان يكون قوّة زائدة قائمة به.

وبما ذكرنا ظهر فساد ما قيل : إنّ العينية بهذا المعنى يرجع إلى نفي الصفات عنه ـ تعالى ـ واثبات لوازمها وآثارها له ، فانّ القول بنفي الصفات عنه ـ سبحانه ، كما ذهب إليه بعض العرفاء ـ ليس حقّا عندنا ـ كما يأتى مفصّلة ـ. نعم! ، يرجع العينية بهذا المعنى إلى نفي الصفات الحقيقية الزائدة على ذاته ـ تعالى عنه سبحانه ـ.

المذهب الثاني في تصحيح عينية الصفات : إنّ ذاته ـ سبحانه ـ نائب مناب جميع الصفات بمعنى انّ ما يترتّب على الصور العلمية الزائدة القائمة بنفوسنا مثلا من الانكشاف يترتّب ذلك في الواجب على ذاته ، وحقيقة العلم هو تلك الصورة الزائدة القائمة بغيره ، لأنّ العلم صفة والصفة الحقيقية من حقّها أن تكون قائمة بغيره ، فما هو القائم بذاته ـ أعني : ذاته ، سبحانه ـ لا يطلق عليه شيء من الصفات ولا يكون فردا منها بل هو ذات مجهولة الكنه نائب مناب / ١٩١ MA / صفة العلم والقدرة والإرادة وغيرها ـ أي : يترتّب عليه ما يترتّب على غيرها من المعاني الاضافية ؛ أعني : الانكشاف وصحّة الصدور واللاصدور وغيرهما ـ.

وعلى هذا فالفرق بين المذهب الأوّل ـ أعني : القول بكون ذاته فردا من كلّ صفة ـ وهذا المذهب : انّ الذات على هذا المذهب لا يكون فردا من الصفات ولا يحمل عليه تلك الصفات حقيقة ، بخلاف المذهب الأوّل وان كانا مشتركين في ان الذات على كلّ منهما منشئا للمعاني الاضافية ويترتّب عليه من دون افتقار إلى أمر عرضي زائد قائم به.

وغير خفي بأنّ لزوم كلّ صفة بمعنى المناط والمنشأ للصفات الاضافية قائمة بغيرها ممنوع ؛ بل كلّ من الصفات الكمالية بمعانيها الحقيقية يمكن أن يكون قائما بذاته ، فانّه كما يطلق العلم على الصورة العلمية القائمة بالنفس ـ لاقتضائها الانكشاف ـ فلم لا يطلق على ذات المجرد مع اقتضائه ذلك؟! ؛ فالفرق بينهما في الصدق وعدمه وفي الفردية وعدمها تحكّم!.

ولو سلّم انّ اللغة لا يساعد ذلك فلا يضرّنا ، لأنّ الحقائق الخارجية لا مدخل فيه

٣٦١

للعرف واللغة.

ثمّ انك قد عرفت فيما تقدّم بأنّه يمكن أن يرجع القول بالنيابة إلى القول بالفردية ، بأن يقال : المراد من قولهم : « انّ ذاته ـ تعالى ـ نائب مناب جميع الصفات » انّ ذاته بالنسبة إليه ـ سبحانه ـ بمنزلة ما يقوم بنفوسنا من القوى والصور الزائدة العرضية بالنسبة إلينا ، فكما انّ الصورة الحاصلة في الذهن فرد من العلم بالمعنى الحقيقي ـ أي : بمعنى ما يحصل به الانكشاف ـ والقوّة القائمة بالنفس المصحّحة للفعل والترك فرد من القدرة بالمعنى الحقيقي ـ أي : بمعنى ما تحصّل به القدرة بالمعنى الاضافي الاعتباري ـ فكذلك ذاته ـ سبحانه ـ فرد للعلم والقدرة بالمعنى المذكور ؛ فاطلاق النيابة إنّما هو إذا اعتبر بالنسبة إلينا. ولو لم يحمل القول بالنيابة على ذلك وبني على ما هو الظاهر منه ـ من أنّ ذاته ليس فردا من الصفات بالمعنى الحقيقي ـ كان قولا ظاهر البطلان! ، لأنّ المعنى الحقيقي للعلم هو ما ينكشف به الأشياء ، فإذا كان ذاته بحيث ينكشف به الأشياء من دون مدخلية شيء آخر فما الباعث حينئذ في عدم كونه فردا من مطلق ما ينكشف به الأشياء؟! ، وما السبب في عدم اطلاق هذا العلم بهذا المعنى عليه؟! ؛ وقد عرفت انّ اللغة لا مدخلية له في المباحث العقلية ، مع انّ منع اللغة للفردية وعدم الإطلاق ممنوع ـ كما لا يخفى على العارف ـ.

ولا يقال : إنّ المراد من القول بالنيابة انّ ذاته ـ سبحانه ـ نائب مناب الصفات بالمعنى الاضافي الاعتباري ، إذ لا ريب في أنّ العلم بمعنى الانكشاف مثلا لا يطلق على ذاته ـ سبحانه ـ وليس ذاته فردا من الانكشاف ، لأنّ ذاته حقيقة خارجية بل هو محقّق الحقائق والانكشاف أمر اعتباري وكذا الحال في سائر / ١٩٣ DB / فرد من الانكشاف مثلا ، لأنّ هذا لا معنى له ، فانّ انكشاف الأشياء لا يمكن أن يكون له فرد قائم بذاته ، بل هو يكون ثابتا لشيء البتّة. وأيضا حقيقة الانكشاف ثابتة له ـ تعالى ـ كما هو ثابت لغيره ـ سبحانه ـ ، فلا معنى لكون ذاته نائبا عنه ، وكون حقيقته ثابتا لغيره. وأيضا النيابة إنّما تكون في ترتّب الأثر ، والأثر إنّما هو الصفات الاضافية ـ كالانكشاف وغيره ـ ، فإذا كان الانكشاف في غير الواجب أصل العلم وحقيقته وكان

٣٦٢

ذاته ـ سبحانه ـ نائبا عنه فما يبقى أمر آخر حتّى يترتّب على النائب والمنوب عنه ؛ وقس على الانكشاف غيره من الصفات الاضافية الاعتبارية.

المذهب الثالث في تصحيح عينية الصفات : ما ذهب إليه بعض المتأخّرين ؛ وهو : انّ الصفة هاهنا بمعنى الخارج المحمول ـ كالعالم والقادر والمريد ـ ، وهو عين ذاته ـ تعالى ـ بحسب الحمل المواطاة.

وتوضيح هذا المذهب ـ كما قيل ـ ، انّ الموجود ما يعبّر عنه بالفارسية بـ « هست » ، وهذا لا يستدعى قيام الوجود به ، وكذا العالم ما يعبّر عنه بـ « دانا » ، والقادر ما يعبّر عنه بـ « توانا » ، وتفسير الموجود بما قام به الوجود والعالم بما قام به العلم والقادر بما قام به القدرة إنّما هو بمقتضى اللغة. ولما دل البرهان على عدم قيام الوجود والعلم والقدرة وكذا سائر الصفات به ـ تعالى ـ وانّه موجود عالم قادر علم انّ قيام المبدأ به غير لازم.

فيقال بعد تمهيد ذلك : انّ صفة الشيء على قسمين :

أحدهما : ما يقوم به في نفس الأمر ـ كالعلم بالنسبة / ١٩١ MB / إلى زيد مثلا ـ ،

وثانيهما : عرضي لا يقوم به كالعالم والقادر بالنسبة إليه ، فانّهما عين زيد في الخارج ـ لصحّة حملهما عليه مواطاة ـ وزائدان على مهيته. والصفة بالمعنى الأوّل مغاير للموصوف في الواقع وبالثاني عينه فيه. والمراد بقولهم : « انّ صفاته ـ تعالى ـ عين ذاته » : انّ صفاته ـ سبحانه ـ من القسم الثاني لا الأوّل الزائد على الذات ، وقد عرفت أنّ قيام المبدأ غير لازم ، فصحّ كون الصفات عين الذات من غير تكلّف. وبالجملة الصفة الّتي تكون عين الذات إنّما هي الصفة بمعنى الخارج المحمول على الموصوف مواطاة ـ مثل العالم والقادر وأمثالهما ـ.

وهذا المذهب في غاية الفساد.

أمّا أوّلا : فلأنّ امثال العالم والقادر والمريد إنّما يعدّ من الاسماء لا الصفات ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّ كون الصفة بهذا المعنى عين ذاته ـ سبحانه ـ لصحّة حملها عليه مواطاة مشتركة بين الواجب بالذات والممكن ، وحينئذ فلا معنى للقول بأنّ صفات

٣٦٣

الواجب عين ذاته دون غيره ـ كما هو مذهب الحكماء والمعتزلة ـ ، لأنّ الصفة بمعنى الخارج المحمول مواطاة عين في الواجب والممكن بهذا المعنى المذكور بلا تفاوت ؛

وأمّا ثالثا : فلأنّكم لمّا اعترفتم بأنّ مبدأ اشتقاق كلّ صفة محمولة عليه غير قائم به ـ تعالى ـ فيلزمكم الاعتراف بأنّ ذاته ـ سبحانه ـ بذاته منشئا ومناط للآثار والمعاني الاضافية المترتبة على الصفات الزائدة ، فيرجع ما ذكرتم إلى أحد المذهبين الأوّلين ، إذ لو قلتم بعدم منشئية ذاته ـ سبحانه ـ لها لزمكم القول بعدم انكشاف الأشياء له ـ تعالى ـ أصلا وبعدم تمكّنه على ايجاد الأشياء وهكذا ، فيلزم نفي جميع الصفات الكمالية وآثارها المترتّبة عليها عنه ـ تعالى ـ ؛ وهو كفر وزندقة عقلا وشرعا ؛

وأمّا رابعا : فلانّه يعتبر في الخارج المحمول أن لا يكون محمولا ذاتيا للموضوع وإلاّ لم يكن خارجا ، والمعبّر عنه بمفهوم الموجود والعالم والقادر والمريد ـ وغيرهما من الصفات الكمالية ـ يكون ذات الواجب ـ جل شأنه ـ بمحض ذاته مع قطع النظر عن جميع ما عدا ذاته ، ولا احتياج في ثبوت هذه المفهومات له ـ تعالى ـ إلى حيثية تقييدية ولا إلى حيثية تعليلية ، فيكون ثبوتها له ـ تعالى ـ ضرورية ذاتية ، فيكون نسبتها إلى ذات الواجب نسبة الذاتي وإذا كانت نسبتها نسبة الذاتي فلا يصحّ القول بكون شيء منها خارجا محمولا ، بل الجميع محمولات ذاتية غير خارجة.

تتميم

ذهب جماعة إلى أنّ كلّ ما يوصف به ـ تعالى ـ من الصفات الحقيقية والاضافية والسلبية اعتبارات يحدثها عقولنا عند مقايسة ذاته ـ سبحانه ـ إلى الغير من غير أن يكون موجودة له ـ سبحانه ـ في نفس الأمر فالصفات بأسرها منفية عنه ـ سبحانه ـ ولا يتصف بشيء منها في الواقع ونفس الأمر ، إذ الاتصاف بشيء منها في نفس الأمر يوجب النقص والتركيب / ١٩٤ DA / والتكثّر ، فكمال معرفته نفي الصفات عنه وذلك هو التوحيد المطلق والاخلاص المحقّق الّذي هو نهاية العرفان وغاية سعى العارف من كلّ حركة حسّية وعقلية. وما يكون في نفس الأمر من غير تعقّل نقص فهو

٣٦٤

الوحدة المطلقة المبراة عن كلّ لاحق ؛ وقد أشار إلى ذلك سيدنا أمير المؤمنين ـعليه‌السلام ـ في بعض خطبه بقوله : « وكمال الاخلاص نفي الصفات عنه » ؛ فليس للواجب ـ سبحانه ـ في نفس الأمر صفة ثبوتية ولا سلبية. وجميع ما يوصف به ـ سبحانه ـ من الصفات إنّما هو اعتبارات محضة يحدثها عقولنا عند مقايسة ذاته ـ سبحانه ـ إلى غيرها.

والباعث في هذا الوصف ـ كما وردت به الكتب الالهية والسنن النبوية ـ أمران :

أحدهما : ليعمّ التوحيد والتنزيه كلّ طبقة من الناس ؛

والثاني : انّه لمّا كان دأب العقلاء أن يصفوا خالقهم ـ سبحانه ـ بما هو أشرف طرفي النقيض ـ لما تقرّر في عقولهم من أعظميته ومناسبة أشرف الطرفين للأعظمية ـ كان وصف الله ـ تعالى ـ به من الصفات الحقيقية والاضافية والسلبية كلّها كذلك من غير أن تكون تلك الصفات ثابتة له ـ تعالى ـ في الواقع. وربما احتجّوا على ذلك بما روي عن الامام الهمام محمّد بن عليّ الباقر ـ عليه وعلى آبائه السلام ـ : « هل يسمّى عالما وقادرا إلاّ لأنّه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرين؟! ؛ وكلّما ميزتموه بأوهامكم في ادقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم ، والباري ـ تعالى ـ واهب الحياة ومقدّر الموت. ولعلّ النمل الصغار يتوهّم انّ لله ـ تعالى ـ زبانيتين فانّهما كمالها ويتصوّر انّ عدمهما نقصان لمن لا يكونان له » ؛ هكذا حال الفضلاء فيما يصفون الله ـ تعالى ـ به / ١٩٢ MA / فيما احسب وإلى الله المفزع.

أقول : لمّا كان حاصل هذا المذهب على الظاهر انّه ليس للواجب ـ سبحانه ـ شيء من الصفات في الواقع ونفس الأمر ، لذا لم نجعلها معدودا من المذاهب المعروفة لتصحيح عينية الصفات ؛ لأنّ العينية فرع اثبات الصفة وعلى هذا المذهب لا يثبت صفة بوجه ، فهو يوجب التعطيل في حقّه ـ سبحانه ـ. وقد أتى ببطلانه شرائع الأنبياء وصرّح بفساده أساطين الحكماء. كيف ولو جوّز العقل أن ينفى عنه العلم والقدرة والحياة وغير ذلك من الصفات الكمالية لوجب عزل العقل في باب معرفة الله ـ تعالى ـ رأسا! ، فلا يمكن أن يثبت له البساطة ، أو يقال انّه محض الوجود ، أو ليس بجاهل ، أو ليس بمركّب ، أو يجب ان يكون على أعلى طرفي النقيض ، أو واجب الوجود ، أو موجد للكلّ

٣٦٥

أو غير ذلك ؛ بل ليس له أن يدرك افتراقه عن الممكن وتميّزه عنه ، فان ذلك فرع التفاوت في الصفة. ولا ريب في أنّ ذلك مخالف للقواعد العقلية ومناف لما اعطته الشرائع النبوية. ومن وصفه ـ سبحانه ـ بالصفات الكمالية الكثيرة وكونها مجرّد اعتبار يحدثها العقول من غير ثبوتها له ـ تعالى ـ في الواقع لا ينفى التعطيل عنه ـ سبحانه ـ في الواقع. والمراد من نفي الصفات في قول امير المؤمنين ـعليه‌السلام ـ : « كمال الإخلاص نفي الصفات عنه »(١) : هو نفي الصفات الزائدة عنه ، أو نفي صفات المخلوقين ـ كما صرّح بهعليه‌السلام في آخر الخطبة ـ ؛ أو نفي الصفات بالنظر إلى الموحّد العارف لا بالنظر إلى الواقع بمعنى انّ كمال اخلاص العقول البشرية أن يعتبر ذاته ـ سبحانه ـ فقط من غير ملاحظة شيء آخر ؛ وهذا إنّما يتصوّر لها عند غرقها في أنوار كبرياء الله ونقص كلّ ما عداه عنه وتنزيهه عن كلّ لاحق له وطرحه عن درجه الاعتبار وان كان ثابتا في الواقع ونفس الأمر ، وهو التوحيد المحقّق والاخلاص المطلق المسمّى في عرف المجرّدين بـ « مقام التجلية والنقص والتفريق ».

وأمّا الكلام المنقول عن الامام أبي جعفر الباقر ـعليه‌السلام ـ ، فيمكن ان يكون المراد منه : انّ اطلاق العالم والقادر عليه ـ تعالى ـ ليس كاطلاقهما على واحد منّا ، فانّ اطلاقهما على واحد منّا إنّما يكون باعتبار قيام مبدأ اشتقاقهما ـ أعني : العلم والقدرة ـ به ، واطلاقهما عليه ـ تعالى ـ ليس بذلك الاعتبار لامتناع قيام الشيء به ـ تعالى ـ. وانّما اطلقوا لفظ العالم عليه من حيث وجدوا انّه ـ تعالى ـ هو الّذي وهب العلم للعلماء وافاضه عليهم ، والمفيد لغيره كمالا لا يمكن أن يكون عاريا عنه ، فحكمنا عليه ـ تعالى ـ / ١٩٤ DB / بأنّه عالم لأجل ذلك. وعدم كون الشيء عاريا عن الكمال لا يوجب ان يكون بقيام الكمال به ، بل يمكن أن يكون لكونه عين ذاته ؛ وفي الواجب ـ تعالى ـ إنّما هو كذلك. وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية. قال بعض المشاهير بعد نقل الحديث المذكور : « هذا كلام حقّ دافع لقول من قال بزيادة الصفات الحقيقية على الذات ومؤيّد لقول من قال : صفاته الحقيقية عين ذاته ، لأنّه نفى كون صفاته مثل صفاتنا الزائدة ، بل

__________________

(١) راجع : نهج البلاغة ، الخطبة الأولى ص ٣٩.

٣٦٦

ليس له ـ تعالى ـ إلاّ كونه منشئا وواهبا لهذه الصفات فلا صفة حقيقية قائمة به ، وإنّما هو الذات البحت المنشأ والواهب لهذه الصفات ، وهذا هو المراد من العينية.

وقيل : معنى الحديث انّه لا يفهموا ان الله ـ تعالى ـ موصوف بما وصفتموه ـ من العلم والقدرة والحياة وغير ذلك ـ بالمعانى الّتي فهمتموها من تلك الصفات ، لأنّ كلّما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق ـ أي : حادث ممكن ـ مصنوع مثلكم ـ أي : في الامكان والحدوث والاحتياج إلى المادّة ـ مردود إليكم(١) ـ أي : بالحقيقة انتم مرجع هذا المميز ـ ؛ فلا ينبغي الاعتقاد بأنّه ـ تعالى ـ موصوف بمثل هذه الأشياء بهذه المعانى الّتي ميزتموها ، بل حالكم في هذا كحال النمل الصغار. فالعقلاء لمّا وجدوا انّ الله ـ تعالى ـ واهب العلم والقدرة وقصدوا بوصف خالقهم ما هو الأشرف عندهم وصفوه بهذه الصفات الّتي كانت أشرف عندهم من الطرف المقابل ، إلاّ أنّ في نفس الامر لا يوصف ـ تعالى ـ بهذه الأشياء ، بل له الطرف الأشرف من جميع الامور وإن لم يفهم انّه بأيّ نحو وما هذا الطرف الأشرف. وعلى هذا يكون الثابت له من الصفات ما هو الأشرف وعلى النحو الّذي هو الأشرف في الواقع ونفس الامر ، لا على النحو الّذي نفهمه ونتصوّره أشرف.

وغير خفي بأنّ هذا القائل إن كان مراده انّ معنى الحديث انّ الواجب كون الواجب ـ تعالى ـ على ما هو الأشرف في الواقع ونفس الأمر من الصفات وكيفية اتصافه بها وعدمها له أصلا وانّا لا نعلم ما هو الأشرف في الواقع مطلقا ؛

ففيه : انّه إذا لم يكن لنا سبيل إلى / ١٩٢ MB / تعقّل ما هو الأشرف في الواقع مطلقا وكان للواجب ـ تعالى ـ الطرف الأشرف في الواقع دون غيره لم يكن لنا القطع إلى اثبات شيء من الصفات له وعدم اثباته له وإلى اثبات نحو اتصافه ـ تعالى ـ بها ، فيلزم التعطيل المنفي بالعقل والنقل من الحديث المذكور ، مع أنّ هذا القائل صرّح بأنّ مضمون الحديث بالحقيقة نفي هذه الصفات ومؤيّد القول بالعينية. على انّه يلزم حينئذ عدم جواز حكمنا بوجوب اتصافه ـ سبحانه ـ بالطرف الأشرف في الواقع ـ لجواز كون

__________________

(١) راجع : بحار الأنوار ، ج ٦٩ ص ٢٩٣.

٣٦٧

ذلك أيضا نقصا في حقّه ـ ، فانّ العقل إذا كان معزولا في معرفته بالكلّية لم يكن له الحكم بذلك أيضا. وإن كان مراده انّ معنى الحديث إنّ بعض ما هو الأشرف يمكن لنا تعقّله فيجب أن نحكم بثبوته له ـ تعالى ـ في الواقع ولكن بعض آخر من الصفات وعدمها أو نحو اتصافه بها ممّا لا يمكن لنا تعقّل اشرفيته في الواقع وان حكم عقولنا ظاهرا بالأشرفية ، مثل انّا نعلم انّ هذه الصفات الكمالية المشهورة من الطرف الأشرف له وعدم كونها زائدة بل كونها عينا له أيضا من الطرف الأشرف في الواقع ، إلاّ انّا لا نعلم انّ العينية الّتي هو الأشرف في الواقع حقيقته ما ذا؟ ، وانّ كون تلك الصفات على الكمال الأتمّ الّذي لا يتصوّر أتمّ وأقوى وأكمل منه كما يليق بجناب قدسه كيف هو؟ ؛

ففيه : انّ ذلك مسلّم ونحن نقول به ، إذ المعقول لنا انّ تلك الصورة الكمالية ثابتة له ـ تعالى ـ مع عينيتها له ـ سبحانه ـ ، إلاّ انّ حقيقة تماميتها وكونها فوق التمام ـ كما يليق بجناب كبريائه ـ فغير معقولة لنا بكنهها كذاته ـ سبحانه ـ ، إلاّ انّ ذلك لا ينافي علمنا بعينيتها له في الواقع ونفس الأمر.

ويمكن أن يحمل قول القائلين بنفي الصفات عنه ـ تعالى ـ على هذا ؛ وحينئذ فيكون صحيحا ؛ فتأمّل.

اعلم! ، أنّ المحقّق الطوسي قال في شرح رسالة العلم : « المستند في اثبات حياته ـ تعالى ـ انّ العقلاء قصدوا وصفه ـ تعالى ـ بالطرف الأشرف من طرفي / ١٩٥ DA / النقيض ، ولمّا وصفوه بالعلم والقدرة ووجدوا انّ كلّ ما لا حياة له يمتنع الاتصاف بها وصفوه ـ تعالى ـ بالحياة ، لا سيّما وهو أشرف من الموت ـ الّذي هو ضدّها ـ. ونعم ما قال عالم من أهل بيت النبوّة ـعليهم‌السلام ـ : هل يسمّى عالما وقادرا ـ إلى آخر الحديث الّذي نقلناه عن ابى جعفر الباقرعليه‌السلام ـ »(١) .

ومراد المحقّق ـ كما قيل ـ : انّ طريق اثبات الحياة وغيرها من الصفات الكمالية للواجب ـ تعالى ـ عند العقلاء هو ان ينظروا إلى اشرف طرفي النقيض ـ أي : الّذي هو كمال للموجود بما هو موجود ـ ، ثمّ اثبتوه له ـ تعالى ـ ، فانّهم يقولون : انّ الواجب

__________________

(١) راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، المسألة الخامسة عشرة ، ص ٤٣.

٣٦٨

ـ تعالى ـ ينبغي أن يكون صرف الوجود التامّ المبرّى عن كلّ قصور ونقصان ، فانّه إذا كان أحد طرفي النقيضين أشرف من الآخر ويكون كمالا للموجود المطلق من غير لزوم فقر ونقصان لجاز أن يكون للواجب ـ تعالى ـ ، وكلّما يجوز له ـ تعالى ـ بالامكان العامّ يجب ـ وإلاّ يلزم عدم الواجب بهذا الوجه ، وهو مناف للوجوب الذاتى الرافع لجميع انحاء العدم والبطلان عن ذاته ـ. مثلا ينظرون إلى الوجوب المنقسم إلى الوجوب بالذات وإلى الوجوب بالغير ، وكذا إلى العلم المنقسم إلى العلم التامّ المحيط بكلّ شيء من غير مدخلية تأثير الغير فيه وإلى العلم الناقص المستفاد من الغير المفقود بالنظر إلى ذات العالم ، ويحكمون بانّ الوجوب الذاتي وكذا العلم الذاتى بالقياس إلى الموجود بما هو موجود لا يوجبان النقص والعدم وهما ثابتان له ـ تعالى ـ ، بخلاف الغيري منهما ـ فانّهما معدومان مع قطع النظر عن تاثير الغير فيهما ، فلا يصلحان ان يثبتا للواجب سبحانه ـ.

وبهذا يندفع الايراد عليه بأنّه لو كان الأمر كذلك من اثبات اشرف طرفي النقيضين له ـ تعالى ـ يلزم اثبات الحسّ والحركة والذوق وغيرها له ـ تعالى ـ ، لأنّها أشرف من طرفها المقابل لها ؛

ووجه الاندفاع : انّ هذه ليست من الكمالات للموجود المطلق ، بل للموجود المقيد المخصّص بالاستعداد لنوع خاصّ من الموجود الناقص ، وغرض المحقّق عن ايراد كلام الامام ـعليه‌السلام ، وهو قوله : « هل يسمّى عالما وقادرا إلاّ لأنّه وهب العلم » إلى العلماء إلى آخر ما نقل ـ : ان العقلاء مكلّفون إلى معرفته ـ تعالى ـ بالصفات الكمالية على وجه التنزيه عن النقائص والامكان وأن يثبتوا له ـ تعالى ـ مثلا العلم التامّ وكذا القدرة الكاملة الذاتية وكذا الإرادة الذاتية وغيرها من الصفات خارجة عن جنس ما نعقله نحن ، لأنّ كلّما حصل في المدرك ـ بل في عالم الامكان والتقييد ـ فهو راجع إلينا في كونه ممكنا محتاجا ، فلا يصلح أن / ١٩٣ MA / يكون له ـ تعالى ـ ، بل ينبغى ان يجعلوها من حيث انّها مدركة وعنوان للأمر اللائق بجنابه ـ تعالى ـ فما ندركه نحن له جهتان : جهة انّه مدرك لنا ، وهو بهذه الحيثية لا يليق به ـ تعالى ـ ، بل هو مثل الزبانيتين المثبتين له ـ تعالى ـ بالنسبة إلى النملة المستكملة بهما الحاكمة بنقص من فقد عنهما ؛

٣٦٩

وجهة انّه حاكية من الأمر الكمالي المجهول بالكنه ، وهو بهذا الاعتبار يجوز أن يثبت له ـ تعالى كما اثبتها في محكم كتابه في مواضع عديدة لذاته المقدّسة عن كلّ قصور ـ.

وأنت تعلم ان حاصل ما ذكره هذا القائل مقصودا للمحقق من كلام الامام ـعليه‌السلام ـ هو : انّا نعلم انّ تلك الصفات الكمالية ثابتة له ـ تعالى ـ ، إلاّ ان ثبوتها ليس من جهتها الّتي فيها نقص وامكان ، بل من جهتها الّتي ليس فيه ذلك وهو الجهة الّتي ليست معقولة لنا وإن علمنا اجمالا انّ تلك الصفات من جهة غير معقولة لنا ثابتة له ـ تعالى ـ في الواقع.

وأنت تعلم انّ ذلك راجع إلى ما ذكرناه ، لا إلى التعطيل المنفي.

وقريب منه ما ذكره المحقّق الدواني حيث قال بعد نقل كلام الامام ـعليه‌السلام ـ : هذا الكلام دقيق رشيق أنيق صدر عن مصدر التحقيق ومورد التدقيق ، والسرّ في ذلك انّ التكليف لمعرفة الله إنّما هو بحسب الوسع والطاقة ، فانّهم كلّفوا بأن يعرفوه بالصفات الّتي الفوها فيهم مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إليهم. ولمّا كان الانسان واجبا لغيره عالما قادرا مريدا حيّا متكلّما سميعا بصيرا كلّف بأن يعتقد أنّ تلك الصفات في حقّه ـ تعالى ـ مع سلب النقائص / ١٩٥ DB / الناشئة من انتسابها إلى الانسان بأن يعتقد انّه واجب لذاته لا لغيره عالم بجميع المعلومات قادر على جميع الممكنات مريد لجميع الكائنات ـ وهكذا في سائر الصفات ـ ، ولم يكلف باعتقاد صفة فيه ـ تعالى ـ لا يوجد مثاله ومناسبة بوجه ، ولو كلّف به ما امكن تعقّله بالحقيقة ، وهكذا اخذ معنى قوله ـعليه‌السلام ـ : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه »(١) مع انّه ـ تعالى ـ قال :( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (٢) .

وإذا عرفت معنى عينية الصفات وعلمت جلية الحال فاعلم! : أنّ الحياة في الواجب لمّا كان عبارة عن صحّة العلم والقدرة فهي كسائر صفاته تكون عين ذاته ، بمعنى أنّ ذاته بذاته منشئا لها. وليست هي أمرا زائدا ممتازا موجودا في ذاته حتّى يلزم التركّب والتكثّر ، بل هي مفهوم اعتباري تغايرها من سائر الصفات ليس إلاّ

__________________

(١) راجع : بحار الانوار ، ج ٢ ص ٣٢.

(٢) كريمة ٩١ ، الانعام ؛ وغيرها من الآيات.

٣٧٠

بالاعتبار. ونسبتها إلى العلم والقدرة ـ أعني : صحّة الفعل والترك ـ كنسبة القدرة إلى الفعل والترك ، بمعنى انّه كما انّ صفة القدرة مثلا ـ أعني : صحّة الفعل والترك ـ منشئا لهما فكذا صفة الحياة ـ أعني : صحّة العلم والقدرة ـ منشئا لهما ، والمنشأ الّذي هو حقيقة الكلّ ليس إلاّ ذاته ـ سبحانه ـ.

وأمّا الحياة في الحيوان فقد عرفت انّها صفة تقتضي الحسّ والحركة ، وينبغى أن تكون هذه الصفة مغايرة للحسّ والحركة ولقوّة التغذية أيضا. واستدلّ الشيخ في القانون على مغايرتها لهما بأنّ العضو المفلوج حيّ وإلاّ لتعفّن وليس فيه الحسّ والحركة الارادية ؛ وعلى مغايرتها لقوّة التغذية بأنّ العضو الزائل حيّ وليس بمتغذّ.

وأورد على الأوّل : بأنّ العضو المفلوج ليس مسلوب الحسّ بالكلّية ؛

وعلى الثاني : بأنّه يجوز أن تكون قوّة التغذية في العضو الزائل ضعيفة بحيث تكون تغذيتها أقلّ من التحلّل ، فلذلك يظهر الذبول.

وقيل : لو استدلّ على الأوّل بالعضو المنحدر لكان أتمّ.

وفيه : إنّ ما أورد على العضو المفلوج قائم هنا أيضا ، فانّه يمكن أن يقال : انّ العضو المنحدر ليس مسلوب الحسّ والحركة بالكلّية ، فكلّ واحد منهما فيه غير تمام لا أنّه غير حاصل بالتمام.

وغير خفي بأنّ الإيرادين المذكورين موجّهان على طريقة البحث والنظر. والبيان الّذي أورده غياث الحكماء ـ في شرح اثبات الواجب لأبيه ـ لدفعهما ليس بتمام. إلاّ أنّه قال بعضهم : انّه يعلم وجود الحياة في العضو المفلوج بدون قوّة الحسّ والحركة بالبداهة أو الحدس. قال صاحب المقاصد : الحقّ ان مغايرة المعنى المسمّى بالحياة للقوّة الباصرة والسامعة وغيرهما من القوى الحيوانية ممّا لا يحتاج إلى بيان ، والغرض انّ الروح الحيواني هو جسم لطيف بخاري يتكوّن من لطافة الأخلاط وينبعث من التجويف الأيسر في القلب ويسري في البدن بسريان عروق نابتة من القلب يسمّى بالشرائين هي محلّ الروح ، وهذا الروح حامل لقوى الحسّ والحركة والحياة. وقد علم بالحدس انّ الحياة غير الحسّ والحركة ، لأنّ زوال الحياة مستلزم للنقص وزوال الحسّ والحركة

٣٧١

غير مستلزم له ـ كما في العضو المفلوج ـ ، فتحدس من ذلك انّ هذا الروح من شأنه أن يفيض الحياة على عضو وان لم يفض عليه الحسّ والحركة. وذلك إمّا بأن يكون من شأنه افاضة الحياة على عضو وان لم ينفذ فيه وتوقّف افاضته للحسّ والحركة بنفوذه فيه ، فالعضو المفلوج لمّا لم ينفذ فيه هذا الروح لم يوجد فيه الحسّ والحركة. إلاّ انّه لاتصاله بما نفذ فيه هذا الروح افيض عليه الحياة ، ولذا لم ينقص أو بطريق آخر كان / ١٩٣ MB / ينفذ في عضو روح ضعيف كان من شأنه افاضة الحياة دون الحسّ والحركة ؛ فتأمّل!(١) .

__________________

(١) ما وجدته. وانظر : شرح المقاصد ، ج ٤ ص ١٣٨.

٣٧٢

الفصل الرابع

في اثبات إرادته ـ سبحانه ـ

٣٧٣

( الفصل الرابع )

( في اثبات إرادته ـ سبحانه ـ )

اعلم! أنّه اتّفق أهل الملّة وأرباب الحكمة على أنّه ـ سبحانه ـ مريد. وقد استدلّ الأشاعرة على وجوب كونه مريدا بأنّ تخصيص بعض الممكنات بالوقوع دون البعض في بعض الاوقات دون البعض مع استواء نسبة الذات إلى الكلّ لا بدّ أن يكون لصفة شانها التخصيص ـ لامتناع التخصيص بلا مخصّص وامتناع احتياج الواجب في فاعليته إلى امرّ منفصل ـ ؛ وتلك الصفة هي المسمّاة بالارادة.

وحاصل هذا الاستدلال أنّ ذات الواجب باعتبار القدرة لا يكفي في الايجاد والتأثير ، لأنّ الذات باعتبار القدرة يكون نسبته إلى الفعل والترك وكذا إلى الضدّين متساوية ـ لأنّ القدرة هى صحّة الفعل والترك ـ. / ١٩٦ DA / وكذا مطلق العلم يتعلّق بالطرفين وبالضدين ، فنسبته إلى الطرفين والضدّين على السواء ، فالعلم المطلق أيضا لا يمكن أن يكون مخصّصا ، فلا بدّ من أمر آخر لتخصيص أحد الطرفين وأحد الضدّين ، وذلك الامر الآخر المخصّص لأحد الطرفين هو الإرادة.

ويرد على هذا الاستدلال : إنّ الصفة الّتي هي الإرادة كما يمكن تعلّقها بأحد الضدين يمكن تعلقها بالضدّ الآخر أيضا ، فالتعلّق بأحدهما دون الآخر إمّا أن لا يحتاج إلى مخصّص ، فيلزم الترجيح بلا مرجّح مع لزوم عدم الاحتياج إلى الإرادة حينئذ رأسا لكفاية القدرة حينئذ في الايجاد والتأثير نظرا إلى مساواة الإرادة لها في استواء نسبتها إلى

٣٧٤

الطرفين والضدّين ـ. فلمّا جوّز تعلّق الإرادة بأحد الطرفين والضدّين دون الآخر فليجوّز ذلك في القدرة أيضا بلا تفاوت ؛

أو يحتاج إلى مخصّص آخر ، فننقل الكلام إليه ؛ فيلزم التسلسل.

فإن قيل : ذات الإرادة كافية للترجيح ؛

قلنا : قد علم بطلان ذلك فيما سبق. مع أنّه لو صحّ أن يقال ذلك لصح أن يقال :

ذات القدرة أيضا كافية للترجيح.

وإن قيل : لا نسلّم أنّ نسبة الإرادة إلى الطرفين أو الضدّين على السواء ، لجواز أن يكون أحدهما ممتنعا فلا يتعلق به الإرادة ؛

قلنا : هذا جار في القدرة بعينه من دون تفاوت.

وقد ظهر ممّا ذكر انّ مسلك الأشاعرة في اثبات الإرادة باطل ، فالمسلك الصحيح في اثباتها ـ بعد اجماع المليين والفلاسفة واطباق شرائع الأنبياء ـ كونها صفة كمال ، فيكون الفاعل بالارادة اشرف من الفاعل لا بالارادة. وكونه ـ سبحانه ـ خالقا لصاحب الإرادة فيجب أن يكون مريدا ، كما أنّ خالق العلماء يجب أن يكون عالما. قال المحقّق الطوسي في شرح الرسالة : « الإرادة في الحيوان هو شوق إلى حصول المراد أو داع يدعوا إلى تحصيله لما يتخيّل أو يتعقّل من ملائمته. ولمّا كان من دأب العقلاء أن يصفوا بارئهم بما هو أشرف طرفي النقيض وحسبوا أنّ كلّ ما يوجد بإرادة أشرف ممّا يصدر الفعل عنه من غير إرادة وصفوه بالارادة. وهي اخصّ من العلم ومرتبة فوقه ، لأنّ كلّ ما لا يعلم لا يمكن أن يراد وقد يعلم ما لا يراد »(١) .

وإذا علمت ذلك فاعلم : أنّ الإرادة فينا شوق متأكّد يحصل عقيب داع هو تصوّر الشيء الملائم تصورا علميا أو ظنيا أو تخييليا موجبا لتحريك الاعضاء الآلية لأجل تحصيل ذلك الشيء.

وأمّا في الواجب ـ سبحانه ـ فالأشاعرة على أنّها صفة قديمة زائدة على الذات قائمة متغايرة للعلم والقدرة وسائر الصفات ؛

__________________

(١) راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، المسألة الثانية عشرة ص ٤١.

٣٧٥

والجبائية على أنّها صفة زائدة قائمة بغير محلّ ؛

والكرامية على أنّها صفة حادثة قائمة بالذات ؛

وبعضهم على أنّها صفة سلبية بمعنى كون الفاعل غير مكره وغير ساء ؛

والكعبى على أنّ إرادته لفعله ـ تعالى ـ هو علمه به ، ولفعل غيره هو الأمر ؛

والمحقّق الطوسي وجمع من رؤساء المعتزلة على أنّها هي العلم

الخاصّ بما في وجود المخلوقات من المصالح الراجعة إليهم ـ أي : العلم بالنفع ، وهو الداعي ـ ؛

والفلاسفة علي انها هي العلم بنظام الكلّ على الوجه الاتمّ الاكمل.

ثمّ بطلان مذهب الأشاعرة ومن يقربهم من الجبائية والكرامية في غاية الظهور ؛

أمّا أوّلا : فلبطلان كون صفاته ـ سبحانه ـ زائدة على ذاته قائمة بها ـ للزوم التركّب والتكثر والنقص والافتقار ـ ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّ الإرادة وإن كانت قديمة عند الأشاعرة إلاّ أنّ تعلّقها حادث ، ففي تعلّقها بأحد الطرفين أو الضدّين لا بدّ له من مرجّح سوى الإرادة ـ كما عرفته مرارا ـ. والأشاعرة قالوا : لا حاجة إلى مرجّح في هذا التعلّق ـ لأنّ ترجيح الفاعل المختار بلا مرجّح جائز ، انّما المحال الترجّح بلا مرجّح ـ. وأنت قد عرفت فساد هذا القول ، فانّ الإرادة وإن كانت كافية لترجيح نفس الفعل لكن تعلّقها به لا مرجّح له ؛ ولذا إن سئل : لم اردت هذا الطرف دون الطرف الآخر لم يحر جوابا / ١٩٤ MA / ولم يستطع أن يقول : لأني أردته!. على أنّ الترجّح بلا مرجّح مستلزم للترجيح بلا مرجّح ، لأنّ الترجيح لا ينفكّ عن الترجّح ـ يقال : رجّحته فترجّح ، فانّ التفعّل مطاوع فعل ـ ؛ فاذا كان الأصل ـ أعني : الترجيح ـ بلا مرجّح كان المطاوع ـ أعني : / ١٩٦ DB / الترجّح ـ أيضا كذلك. على أنّ معنى الترجّح بلا مرجّح هو اختيار الفعل لأحد الطرفين مع تساوي نسبته إليهما ، ونحن نقول مع تساوي نسبة الطرفين إلى إرادة الفاعل إذا تعلّق إرادته بأحدهما من غير سبق إرادة اخرى بكون مرجّح لحدوث الإرادة الأولى يكون حدوث هذه الإرادة ترجّحا بلا مرجّح لا ترجيحا بلا مرجّح لأنّ الإرادة شيء من الأشياء موجود من

٣٧٦

الموجودات والفرض أنّ حدوثها وعدم حدوثها بالنسبة إلى أحد الطرفين على السواء ولا رجحان على عدم حدوثها ، ومع ذلك إنّها وجدت وحدثت من دون مرجّح من الارادات المتسلسلة إلى غير النهاية. والفاعل من حيث هو فاعل من دون انضمام مرجّح آخر لا يصحّ لأن يكون مرجّحا لحدوث هذه الإرادة ؛ فاذا حدثت مع ذلك لترجّحت وجودها على عدمها من دون رجحان ـ وهو الترجّح بلا مرجّح ـ. فالمتحقّق في هذه الصورة ليس إلاّ الترجّح بلا مرجّح حتّى يتحقّق الاستلزام ، لأنّ رجحان وجود الإرادة على عدمها ناش من قبل نفسها لا من قبل الفاعل ، فيكون ترجّحا لا ترجيحا.

وقال بعض تابعي الأشعري : إنّ هذا الاستلزام مندفع بالتخصيص.

وهذا القول يحتمل وجهين :

أحدهما : إنّه وإن لزم الترجّح بلا مرجّح في تعلّق الإرادة بأحد طرفي المقدور ـ لاستواء نسبتهما إليه ـ ، لكن هذا القسم من الترجّح ـ أي : الّذي في صورة الإرادة ـ جائز ، فانّ الترجيح المحال انّما هو الترجيح الّذي لا يكون في ضمن الترجيح بلا مرجّح بالارادة ؛ وأمّا إذا كان في ضمنه ـ كما فيما نحن فيه ـ فهو جائز. والحاصل : إنّ قولنا : إنّ الترجيح بلا مرجّح انّما يتحقّق إذا لم يكن هناك فاعل مرجّح بإرادته ، وإذا كان فاعل مرجّح بإرادته فلا يلزم ترجّح بلا مرجّح أصلا.

وأنت خبير بانّ كلا الوجهين في غاية السقوط ؛

امّا الأوّل : فلأنّ الترجيح بلا مرجّح باطل مطلقا ـ سواء كان في ضمن الترجيح بلا مرجّح أو لا ـ ، والتخصيص فيه تخصيص في القواعد العقلية ؛

وامّا الثاني : فلما عرفت من أنّ الترجيح لا ينفكّ عن الترجّح ، فاذا فرض تساوي نسبة تعلّق إرادة الفاعل إلى الفعل أو الترك حتّى كان ترجيحه بلا مرجّح لكان الترجيح المترتّب عليه أيضا بلا مرجّح وإن كان الفاعل مختارا ، لأنّ تساوي اختياره في التعلّق بالطرفين من غير تعلّق الإرادة متسلسلة لا إلى نهاية يوجب لزوم الترجّح بلا مرجّح من غير آخرية لأحدهما.

وقد ظهر بما ذكر أنّه لا ريب في بطلان مذهب الأشاعرة وما يقربه من المذاهب

٣٧٧

المذكورة ما عدا المذهبين الاخيرين ـ أعني : مذهب المحقّق الطوسي ورؤساء المعتزلة ومذهب الفلاسفة ـ ، فلنتكلّم في هذين المذهبين.

فنقول : أمّا مذهب المحقّق ـ أعني : القول بكون الإرادة عين الذات ، أعني : العلم بالمصلحة والنفع ـ فاستدلّوا عليه بأنّه لا يمكن أن يكون الإرادة أمرا آخر سوى الداعي ، إذ لو كانت أمرا آخر سواه لزم التسلسل ، وإلى هذا اشار المحقّق الطوسي في التجريد بقوله : « وليست زائدة على الداعي وإلاّ لزم التسلسل أو تعدّد القدماء »(١) .

ثمّ قيل : ان المحقّق الطوسي ومن تبعه في كون الإرادة هو الداعي لمّا ذهبوا إلى أنّ الداعي هو عين الذات فحاصل الدليل : أنّ الإرادة ـ الّتي هي أمر لا يترجّح أحد متعلّقى القدرة على الآخر إلاّ به ـ ليست زائدة على الذات ، وإلاّ لزم التسلسل في الإرادة ـ كما التزمه بعض مشايخ المعتزلة ـ ، أو تعدّد القدماء ـ كما التزمه بعض المتكلّمين ـ ، وكلاهما محالان. وحينئذ يندفع ما أورد على هذا الدليل المذكور : بأنّ لزوم التسلسل أو تعدّد القدماء لازم على أيّ حال إذا كانت الإرادة زائدة على الذات ـ سواء كانت نفس الداعي أو أمرا آخر / ١٩٧ DA / زائدا عليه ـ. والحاصل : إنّ الإرادة لو كانت زائدة على الذات يلزم أحد الامرين من تعدّد القدماء أو التسلسل ـ سواء كانت الإرادة زائدة على الداعي أو لا ـ ، فلا يثبت بهذا المدّعى ـ وهو عينية الإرادة للداعى ـ ، إذ لنا أن نسلّم عينية الإرادة للذات وعدم عينيتها للداعى. وحينئذ لا يلزم شيء من المحذورين المذكورين ، إذ بعد عينيتها للذات لا مجال ليتصوّر لزوم التسلسل أو تعدّد القدماء وإن كانت غير الداعي.

ووجه الاندفاع : إنّ الداعي هو عين الذات عند من استدلّ بهذا الدليل ـ أعني :

المحقّق وامثاله ـ ، فمقصودهم من قولهم : إنّ الإرادة غير زائدة على الداعي أنّها غير زائدة على الذات أيضا ، بل هي عين الذات وإلاّ لزم أحد الامرين المذكورين من التسلسل أو تعدّد القدماء.

وردّ الدفع المذكور بأنّه على هذا لا يكون القدرة أيضا زائدة / ١٩٤ MB / على الداعي ، فانّ الصفات كلّها عين الذات عند المحقّق وامثاله ، فلا وجه لحكمهم بانّ الإرادة

__________________

(١) راجع : المسألة الرابعة من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص ٢٢٣.

٣٧٨

ليست زائدة على الداعي دون القدرة وباقي الصفات المذكورة. والحاصل : إنّ الكلام في الصفات المتغائرة بالاعتبار ، وهو لا ينافي عينية الكلّ للذات ـ تعالى شأنه ـ. ولا يلزم أن يكون البحث عن الصفات واثباتها ونفيها على مذهب العينية لغوا محضا ، فلا بدّ للمستدلّ من اثبات أنّ الإرادة ليست مغايرة للداعى بالاعتبار أيضا وليست اعتبارا آخر للذات سوى الداعي.

فحاصل الايراد المذكور على الدليل المذكور : إنّ ما ذكر من التسلسل أو تعدّد القدماء يلزم على زيادة الإرادة على الذات ، فيدلّ على عينيتها للذات دفعا للمفسدة ، ولا يلزم منه أن يكون عين الداعي كما لا يلزم من عينية الصفات للذات أن يكون بعضها عين بعض حتّى لا يتعدّد الصفات بالاعتبار أيضا. والحاصل إنّ عينية الداعي للذات بحسب الواقع والخارج لو كان منشئا للحكم بأنّ الإرادة عين الداعي كذلك يوجب الحكم بانّها عين القدرة والتكلّم والحياة وغيرها كذلك ، لأنّ جميعها عين الذات في الخارج وإن كانت متغايرة ومغايرة للذات بالاعتبار ، فالتخصيص تحكّم!.

وإن قيل : المراد إنّ الداعي عين الذات بحسب الاعتبار أيضا بمعنى أنّه لا تغاير بينهما ولو بحسب الاعتبار ، والإرادة أيضا عين الداعي كذلك ـ أي : لا تغاير بينهما ، لا في الخارج ولا في الاعتبار ـ.

قلنا : هذا بديهى البطلان! ، لأنّ التغاير الاعتباري بين الذات والداعي وبين الإرادة والداعي ممّا لا يمكن أن ينكره عاقل. على أنّه لو صحّ هذا القول لصحّ اجرائه في باقي الصفات بالنسبة إلى الذات وبنسبة بعضها إلى بعض أيضا ، فالتخصيص تحكّم باطل!.

وأجيب عن هذا الردّ : بأنّ الداعي كالارادة عين الذات عند المحقّق ، فمراده من قوله : إنّ الإرادة عين الداعي : أنّها عين الذات وحينئذ يتمّ الدليل ، لأنّ المورد معترف بانّ الدليل تمام على تقدير اجرائه على عينية الإرادة للذات. للداعى ايماء إلى أنّ علمه ـ تعالى ـ بصلاح نظام العالم وبمنافع الغير وترتيب الخير ـ المسمّى بالداعي ـ هو نفس الإرادة المرجّحة لأحد طرفي المقدور ، وهذا ممّا لا يحتاج إلى دليل. وما ذكر ليس دليلا

٣٧٩

لذلك ، بل هو دليل لعينية الإرادة للذات. وحينئذ لا يرد على المحقّق ومن تابعه إنّ عينية الداعي للذات لو كان موجبا لعينية الإرادة له يلزم عينية جميع الصفات الحقيقية بعضها للبعض ـ كعينية القدرة للارادة وعينية السمع للكلام بمعنى التكلّم ، الّذي هو أيضا عين ذاته وإن كان الكلام بمعنى المؤلّف من الحروف والاصوات زائدا على ذاته تعالى ـ. وخلاصة هذا الجواب : إنّ مراد المحقّق وغيره ممّن استدلّ بهذا الدليل على بيان عينية الإرادة للذات لا للداعي حتّى يرد أنّ الفساد اللازم من هذا الدليل ـ أعني : التسلسل وتعدّد القدماء ـ يلزم على تقدير كون الإرادة زائدة على الذات وإن كانت عينا للداعي ، وإن وقع ذلك بأنّ الداعي عند المحقّقين عين الذات ، فالمقصود إنّ الإرادة عين الذات أيضا.

وردّ عليه حينئذ أنّ جميع الصفات كذلك ، فتخصيص هذا الحكم بالارادة تحكّم!. وأمّا إذا كان المراد بيان مجرّد عينية الإرادة للذات دون الداعي فلا يرد شيء ممّا ذكر ، غاية ما في الباب إنّه عبّر عن الذات بالداعي للنكتة المذكورة.

وأنت تعلم أنّ هذا الجواب ليس / ١٩٧ DB / بشيء ، لأنّ لبيان عينية الصفات للذات ـ سواء كانت إرادة أو غيرها ـ مبحثا على حدة ؛ وقد اشار المحقّق أيضا بعد ذلك إلى عينية جميع الصفات ، فتخصيص عينية الإرادة حينئذ هنا بالذكر لا وجه له. على أنّ المحقّق وغيره ممّن استدلّ بهذا الدليل مذهبهم أنّ الإرادة عين الداعي ، فلا بدّ لهم من اقامة برهان على ذلك ، فلو لم يجعل هذا الاستدلال برهانا على ذلك لنفي مذهبهم هذا يكون مجرّد دعوى من دون حجّة لاثباته.

وما اشار إليه المجيب المذكور من : « أنّ عينية الإرادة لعلمه ـ تعالى ـ بصلاح نظام الخير لا يحتاج إلى دليل لظهوره » في غاية الوهن والضعف! ، لانّه إن كان مراده من العينية هو العينية الشاملة للعينية بحسب الاعتبار والمفهوم أيضا فبطلانه لا يحتاج إلى بيان ، لأنّا نعلم بديهة أنّ الإرادة مغايرة بحسب الاعتبار للعلم بالاصلح ؛ وإن كان مراده من العينية هو العينية بحسب الخارج دون الاعتبار فجميع صفات الواجب عين ذاته بهذا المعنى وبعضها عين البعض الآخر كذلك ، فاذا لم يحتج عينية الإرادة منها للداعي لم يحتجّ عينية الإرادة وغيرها من الصفات للذات أيضا إلى دليل. وممّا يدلّ على أنّ حكم المحقّق

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646