جامع الافكار وناقد الانظار الجزء ٢

جامع الافكار وناقد الانظار6%

جامع الافكار وناقد الانظار مؤلف:
المحقق: مجيد هاديزاده
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: 646

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 646 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39482 / تحميل: 6087
الحجم الحجم الحجم
جامع الافكار وناقد الانظار

جامع الافكار وناقد الانظار الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
ISBN: ٩٦٤-٥٦١٦-٧٠-٧
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

الأجزاء والجزئيات والصفات القائمة بذاته وعدم التحليل إلى الماهية والوجود ؛ وعلى هذا يكون الأحدية أخصّ من الواحدية ؛ وعلى ما ذكرناه أوّلا يكونان متباينين.

وبالجملة لمّا كان نفي التركيب متصوّرا على أقسام ثلاثة فهنا ثلاثة أبحاث.

البحث الأوّل :

في عدم تركيبه من الماهيّة والوجود

واثبات أنّ كلاّ من وجوده وتعيّنه عين ذاته

أمّا الأوّل فهو المعبّر عنه بتوحيده في أصل وجوده ، والمراد إنّ ذاته المقدّسة كما انّها حقيقة موجودة بمحض ذاته من غير حاجة إلى علّة توجدها كذلك هي موجودة بخالص حقيقته من / ٢٢٧ MB / غير حاجة إلى صفة ولا حيثية ولا اعتبار زائد على صريح ذاته وبحت حقيقته ، بخلاف الممكنات الموجودة بوجود زائد على ماهياتها ؛ وبالجملة لأنّه صرف الوجود ومحض الموجود من غير ثبوت غير الوجودية وممازجة سواه معه.

والدليل عليه : انّ غير الوجود ليس إلاّ الماهية الفاقدة في مرتبة ذاته ، وتقرّرها للفعلية وفقد الفعلية والوجود في أيّ مرتبة كانت ينافي كون الشيء واجبا ، لتطرّق العدم حينئذ فيه.

وبتقرير آخر : لو كان له ذات وماهية غير الوجود وكان كونها موجودة بوجود أو اعتبار ـ وبالجملة بمعنى غير محض / ٢٢٩ DB / ذاته ـ لكانت تلك الماهية في نفسها معدومة ، ولا تكون موجودة إلاّ بعد العدم ، فكانت ممكنة لا واجبة.

وأيضا : لو كان الوجود زائدا على ذاته لكان اتصاف الذات به محتاجا إلى علّة ، والعلّة لا يمكن أن تكون نفس الماهية ـ لأنّ الماهية مع قطع النظر عن وجودها ليست موجودة ، فضلا عن أن تكون موجدة ـ ، ولا غيرها ـ وإلاّ لزم كونها ممكنة ، لأنّ المحتاج في صيرورته موجودا إلى الغير ممكن ـ. ولا يرفع ذلك فرض كون الوجود لازما لتلك الماهية ، بخلاف مهيات الممكنات ، فانّ الوجود عرض مفارق لها كما زعمه المتكلّمون وبه يفرّقون بين الواجب والممكن. وذلك لأنّ هذا الوجود الزائد لا يخلوا إنّه إمّا بنفس

٥٢١

مفهومه ومعناه واجب التحقيق والثبوت من غير حاجة إلى ماهية ولا فاعل ولا شيء أصلا ، فهو اذن واجب الوجود لا تلك الماهية المحتاجة في تحقّقها إلى غيرها ـ أعني : ذلك الوجود ـ ، أو إنّه أيضا محتاج إلى فاعل يفعله وماهية تحمله ، ففاعله اذن لا يجوز أن يكون تلك الماهية الّتي هي قابلة له ، لامتناع كون الفاعل والقابل شيئا واحدا ـ كما علم فيما سبق ـ ؛ ولأنّ تلك الماهية بنفسها معدومة ، فكيف تكون موجدة لما لا تكون موجودة إلاّ به؟!. فبقى أن تكون فاعله شيئا ثالثا ، فكانت الماهية موجودة بفاعل ومستفيدة للوجود من غيرها ، فلا تكون هذه الماهية واجبة بذاتها ولا الوجود لازما لها. فقد بين أنّ واجب الوجود عين مهيته وأن لا ماهية له سوى الوجود وانّه محض الوجود وصرف الموجود ، ولا يدخل في ذاته وهويته غير ذلك ؛ بخلاف الممكن ، فانّ مهيته غير الوجود ، بل الوجود زائد على ذاته يوصف به ويفاض عليه من علّة خارجة.

ثمّ هذا المطلب ـ أعني : كون الواجب صرف الوجود وعدم زيادة وجوده على ذاته ـ ممّا صرّح به جميع أساطين الحكمة والعرفان ، والمحقّقون من أهل الكلام. واستدلّوا عليه بالبرهان الّذي نقلناه وبغيره من البراهين القاطعة ، فلنذكر كلمات بعضهم تقوية وتأييدا لئلاّ يبقى شبهة لطالبى الحقّ واليقين ، فانّ هذا المطلب ممّا يبتنى عليه مسائل مهمّة وفوائد جمّة من جملتها سلب جميع النقائص عنه ـ سبحانه ـ ، فانّ بعد ثبوت كونه صرف الوجود ومحض الموجود يثبت تجرّده وتنزّهه عن جميع الصفات السلبية والنقائص الامكانية ـ ممّا أشير إليه من التركّب والجسمية والشركة في وجوب الوجود والجهة والحدّ وحلول الحوادث ـ ، وما لم يشر إليه من الرذائل والنقائص. فذكر كلمات المشاهير الأعلام وأساطين الحكمة والكلام مهمّ في هذا المقام ، لأنّ وفاق أجلّة الفنّ على مسئلة واجتماعهم على تمامية دليله ممّا يقوي الاعتماد ويطمئنّ به النفس.

فنقول : قال بعض الأفاضل : إنّ واجب الوجود يجب أن يكون عين الوجود ، لأنّه لو لم يكن عين الوجود لم يكن الوجود في مرتبة ذاته وما لم يكن في مرتبة ذات الشيء فثبوته له لا يكون إلاّ من علّة ، فلا بدّ لثبوت الوجود له من علّة ؛ فتلك العلّة إمّا ذاته ، فهو باطل ، لأنّ الشيء ما لم يكن محفوفا بالوجود لم يتصوّر أن يكون علّة لشيء ما من

٥٢٢

الأشياء ؛ أو غير ذاته ، فيلزم أن يكون ما فرض أنّه واجب بالذات غير واجب بالذات ، فاذن يلزم أن يكون نفس الوجود. فلا يكون هناك ماهية ووجود ، بل نفس الوجود فقط ؛ انتهى.

واستدلاله قريب ممّا ذكرناه.

وقال شيخ الإشراق في التلويحات : إنّ الّذي فصل الذهن وجوده عن مهيته فماهيته إن امتنع وجودها لعينه لا يصير شيء منها موجودا ، وإن لم يمتنع وصار شيء منها موجودا فهو كلّي له جزئيات أخرى معقولة غير ممتنعة لذاتها ولماهياتها إلاّ لمانع ، بل ممكنة إلى غير النهاية وقد علمت أنّ كلّ كلّي وقع بعض جزئياته بقي الامكان في جزئيات أخرى معقولة بعد. وإذا كان هذا الواقع واجبا وله ماهية وراء الوجود فاذا أخذت هذه الماهية كلّية أمكن وجود جزئي آخر لها لذاتها ، إذ لو امتنع الوجود لجزئيات معقولة غير واقعة بماهياتها لكان ما فرض واجبا ممتنع الوجود باعتبار مهيته ، لأنّ اقتضاء الماهية لا يختلف بالنسبة إلى افرادها ، وهو محال. غاية ما في الباب أن تمتنع تلك الجزئيات المعقولة بسبب غير نفس الماهية ، فتكون ممكنة في أنفسها. وإذا كانت جزئيات الماهية / ٢٣٠ DA / وراء ما وقع ممكنات باعتبار ماهيتها ولم تكن واجبة لكان الواجب أيضا باعتبار مهيته ممكنا ، لأنّه إذا كان / ٢٢٨ MA / بعض أفراد مهيته ممكنا باعتبار مهيته كانت الافراد الأخر أيضا كذلك ـ لما عرفت من عدم اختلاف الماهية بالنسبة إلى افرادها ـ. وكون الواجب باعتبار مهيته ممكنا محال ؛ فاذن إن كان في الوجود واجب فليس له ماهية وراء الوجود ؛ وهو الوجود الصرف البحت الّذي لا يشوبه شيء من خصوص وعموم(١) ؛ انتهى بادنى توضيح.

وحاصله : أنّه لو كان للواجب ماهية ووجود لكان مهيته كلّية ـ لأنّ الماهية من حيث انّها ماهية تكون كلية ـ ، فاذا كان فرد منها ـ أعني : الواجب ـ موجودا في الخارج لكان افراد آخر معقولة لم تقع ممكنة أو واجبة ، إذ امتناعها يوجب امتناع الواجب أيضا لعدم اختلاف اقتضاء الماهية بالنسبة إلى افرادها ، وامكانها يوجب امكان الواجب أيضا

__________________

(١) راجع : التلويحات ، ص ٣٤.

٥٢٣

لما ذكر ، ووجوبها يوجب وقوع افراد غير متناهية ، وهو باطل. والحقّ إنّ هذا البرهان تامّ لا يرد عليه شيء.

واعترض عليه بوجهين ، فلنذكرهما ونشير إلى دفعهما :

أحدهما : إنّه لم لا يجوز أن يفصل العقل أمرا موجودا إلى موجود معروض له هو الماهية ويكون ذلك المعروض جزئيا شخصيا لا كلّيا؟.

وهو مدفوع بأنّ بناء البرهان الّذي أورده الشيخ الإلهي على أنّ تشخّص الشيء نحو وجوده ـ كما هو التحقيق عند أساطين الحكمة كالمعلّمين وغيرهما ـ ، فكلّ ما يفصله الذهن إلى معروض وعارض هو الوجود كان في مرتبة ذاته مع قطع النظر عن العارض الّذي هو الوجود كلّيا بالضرورة ، وكلّ كلي نفس تصوّره لا يأبى عن أن يكون له جزئيات غير متناهية إلاّ لمانع خارجي ، فاذن لمّا كان الوجوب والامتناع والامكان من لوازم الماهية فلو كان ما فرض واجبا معنى غير نفس الوجود يكون معنى كليا له جزئيات بحسب العقل ، فتلك الجزئيات إمّا أن تكون جميعها ممتنعة لذاتها أو واجبة لذاتها ، أو ممكنة لذاتها ؛ لا سبيل إلى الأوّل وإلاّ لما تحقّق شيء منها مع أنّ الكلام على فرض تحقّق فرد واجب منها ، فلا يمتنع شيء منها لماهيتها ، فان امتنع شيء منها ممّا لم يوجد لم يكن ذلك لماهيته المشتركة بل لأمر آخر ؛ ولا سبيل أيضا إلى الثاني وإلاّ لوقع الكلّ ، وهو محال ؛ ولا إلى الثالث وإلاّ لكان هذا الواقع أيضا ممكنا مع أنّه واجب ، هذا خلف. فاذن إن كان في الوجود واجب بالذات فليس له ماهية وراء الوجود بحيث يفصّله الذهن إلى أمرين ، فهو الوجود الصرف.

وثانيهما : بأنّ القول بأنّ الواجب لو كان له ماهية كلية لكان لها عند العقل جزئيات غير متناهية ممنوع ، ولم لا يجوز أن يكون لماهية كلّية افراد معدودة متناهية لا يمكن أن يتعدّى عنها في الواقع وإن جاز في التوهّم التعدّي عليها ؛ وحينئذ نقول : غاية ما يلزم من كون الماهية الكلّية للواجب أن يكون لها افراد متعدّدة متناهية واجبة ، وبطلان ذلك لم يثبت بعد ، والرجوع إلى ادلّة نفي الشريك في وجوب الوجود يوجب عدم فائدة في هذا الدليل.

٥٢٤

ثمّ لو سلّم عدم التناهي فهو بمعنى لا يقف ، وبطلان اللازم حينئذ أيضا ممنوع ، لجواز أن تكون ماهية كلية لها افراد واجبة غير متناهية بهذا المعنى. ولو سلّم عدم التناهي بالمعنى الآخر أيضا ، فغاية ما يلزم منه أن تكون الواجبات غير متناهية.

ولقائل أن يمنع بطلان ذلك محتجّا بأنّ دلائل بطلان التسلسل لو تمّت لدلّت على امتناع ترتيب أمور غير متناهية موجودة معا ، ولزوم الترتيب بين الأفراد الواجبة غير مبيّن.

والجواب عن الأوّل : إنّ كلّ ماهية بالنظر إلى ذاتها لا يقتضي شيئا من التناهي واللاتناهي أصلا ، فاذا قطع النظر عن الأمور الخارجة عن نفس ماهيتها لا يأبى عند العقل عن أن يكون لها افراد غير متناهية ، فيكون الأفراد الغير المتناهية ممكنة بالنظر إلى ماهيتها ، فيكون الواجب أيضا ممكنا ـ لما ذكر ـ.

والجواب عن الثاني والثالث : إنّ الكلام هنا ليس في بطلان التسلسل في الواجبات حتّى قيل : إنّ بطلانه في اللايقفي وفي الأمور / ٢٢٨ MB / الموجودة الغير المترتّبة منظور فيه وإن كان البطلان في الثاني عندنا ثابتا ـ كما بينّاه في المقدّمات ـ ، بل الكلام في أنّه إذا كانت للواجب ـ تعالى ـ ماهية كلّية يمكن أن تعرض لها جزئيات غير واقعة وإن / ٢٣٠ DB / فرض وقوع جزئيات غير متناهية لها أو الماهية لما لم تكن من حيث هي إلاّ هي كان الوقوع واللاوقوع كلاهما خارجين عن نفس حقيقتها فلا تأبى بالنظر إلى ذاتها عن أن يكون لها افراد غير واقعة.

ولمّا كان كلّ من الوجوب والامتناع والامكان من لوازم الماهية فاذا وجب فرد كلّ ماهية كلّية كان جميع افراد تلك الماهية واجبة ، وإن امتنع فرد منها كان جميع افرادها ممتنعة ، وإن امكن الجميع فنقول : تلك الافراد المفروضة الغير الواقعة لا يجوز أن تكون واجبة لذاتها وإلاّ لما عدمت ، بل كانت واقعة ؛ ولا ممتنعة وإلاّ لكان هذا الواقع أيضا ممتنعا مع انّا نتكلّم بعد اثبات الواجب لذاته ؛ ولا ممكنة وإلاّ لكان الواجب لذاته ممكنا لذاته ، هذا خلف ؛ فثبت أنّ الواجب ـ سبحانه ـ لو كانت له ماهية كلّية لزم خلوّه عن الموادّ الثلاث ، وهو محال ؛ هذا.

وقال بعض أعاظم العرفاء في اثبات المطلوب : كلّ ماهية يعرض لها الوجود ففي

٥٢٥

اتصافها بالوجود وكونها مصداقا للحكم عليها بالوجود يحتاج إلى فاعل يجعله كذا ، لأنّ كلّ عرضي معلّل امّا بمهيته المعروضة له أو بامر خارج عنها وقد علم من قبل امتناع تأثير الشيء في وجود نفسه من جهة أنّ العلّة يجب أن تكون مقدّمة على المعلول بالوجود ، وتقدّم الماهية على وجودها بالوجود غير معقول بخلاف تقدّمها على صفاتها اللازمة سوى الوجود ، فلا محالة تحتاج تلك الماهية في وجودها إلى أمر خارج عنها ، وكلّ ما يحتاج في وجوده إلى أمر آخر فهو ممكن الوجود ، فلو كان الواجب ذا ماهية لزم كونه ممكن الوجود ؛ هذا خلف ، فواجب الوجود لا ماهية له سوى الانية.

وهذه الحجّة أيضا قريبة ممّا ذكرناه أوّلا. ويقرب منها أيضا ما ذكره بعض آخر من الأذكياء ، وهو : انّ وجود الواجب لو كان زائدا على ذاته لكانت معلولا للذات لا معلولا للغير ـ وإلاّ لزم احتياج الواجب إلى الغير ، وهو باطل ـ ، وإذا كان معلولا للذات لزم كون الذات مقدّما على الوجود بالوجود ـ لأنّ تقدّم العلّة بالوجود على المعلول بديهي عقلي ـ ، فنقول : هذا الوجود المقدّم إن كان عين الوجود المتأخّر لزم الدور ؛ وإن كان غيره ننقل الكلام إلى هذا الوجود المقدّم واتصاف الذات به ، فيلزم ، التسلسل وهو باطل ؛ هذا.

والشيخ الرئيس بيّن في الشفا في هذا المقام أوّلا عدم كون وجوب الوجود جزء من ماهية الواجب وحقيقته حتّى تكون ماهية الواجب مركّبة من وجوب الوجود وشيء آخر ويحصل له كثرة قبل الذات من حيث تركّب حقيقته من وجوب الوجود وشيء آخر ، لأنّ الكثرة قبل الذات انّما يتصوّر باعتبار تركّب الماهية سواء كان من وجوب الوجود وشيء آخر أو من جنس وفصل أو غيرهما ؛ ثمّ بين المطلوب الّذي نحن بصدده ـ أعني : نفي التركيب مع الذات الّذي هو عينية الوجود لماهيته وعدم كون وجوده زائدا على ذاته ـ ، فقال في بيان الأوّل : إنّ واجب الوجود لا يجوز أن يكون على الصفة الّتي فيها تركّب حتّى يكون هناك ماهية ما وتكون تلك الماهية واجبة الوجود ، فيكون لتلك الماهية معنى غير حقيقتها ـ أعني : جزئها الّذي يصدق عليه أنّه معنى غير حقيقة المركّب ـ ، لأنّ حقيقة الجزء غير حقيقة الكلّ الّذي هو المركّب و

٥٢٦

ذلك المعنى الّذي هو الجزء هو وجوب الوجود ، فلو فرضنا أنّ تلك الماهية هو الانسان ووجوب الوجود جزئه لصدق أنّ الانسان غير واجب الوجود ، فحينئذ نقول : لا يخلوا إمّا أن يكون لقولنا : « وجوب الوجود هناك » حقيقة أو لا يكون ، ومحال أن لا تكون لهذا المعنى ـ أعني : وجوب الوجود ـ حقيقة وهو مبدأ كلّ حقيقة ـ بل هو يؤكّد الحقيقة ويصحّحها ـ ، وإن كانت له حقيقة وهي غير تلك الماهية نظرا إلى انّها جزء من تلك الماهية المركّبة فان كان ذلك الوجوب من الوجود ـ أي : كان ذلك وجوب الوجود ـ الّذي هو يؤكّد الوجود ـ يلزم أن يتعلّق بتلك الماهية ولا يجب بدونها ـ أي : كان من لوازمه أن يتعلّق بتلك الماهية وبدون تعلّقه بها لم يكن هذا الوجود المتأكّد واجبا ـ لزم أن لا يكون واجب الوجود من حيث هو واجب الوجود / ٢٢٩ MA / واجبا ، أي : لم يكن الواجب بالذات واجبا باعتبار ذاته ، بل باعتبار أمر آخر صار سببا لوجوبه ـ أعني : الماهية المركّبة الّتي هي غيره ـ ، لأنّ المفروض أنّه بدون التعلّق بها لا يكون واجبا ، فيكون معنى واجب الوجود من حيث هو واجب الوجود يوجد لشيء ليس هو ؛ / ٢٣١ DA / وهذا خلف ، لأنّ الوجوب المطلق الّذي للذات لا يكون معلولا ، فبقى أن يكون واجب الوجود بالذات متحقّقا من حيث هو واجب الوجود بنفسه من دون كون تلك الماهية عارضة لذات واجب الوجود المتحقّق القوام بنفسه إن كان يمكن عدم العروض. والغرض انّ واجب الوجود يكون متحقّق القوام بنفسه ولا يحتاج في قوامه إلى تلك الماهية ، فان كانت تلك الماهية بحيث يمكن عدم عروضها ولحوقها بالنسبة إلى واجب الوجود بالذات فيصدق أنّ واجب الوجود بالذات يكون متحقّقا من حيث هو واجب الوجود بنفسه من دون تعلّقه بتلك الماهية ومن دون كون تلك الماهية عارضة أوّلا لهذا الواجب الوجود المتحقّق القوام بنفسه ؛ وإن لم يكن عدم عروض تلك الماهية وعدم لحوقها له فلا يضرّنا ، لأنّ كلّ معلول يكون متعلّقا بعلّته التامّة وعارضا لها لاحقا به ، وانّما المحال تعلّق العلّة بالمعلول وعروضها له وتحقّق قوامها منه ، فاللازم حينئذ كون واجب الوجود من حيث هو واجب الوجود متحقّق القوام بنفسه من دون احتياج إلى الماهية وإن كان قوام الماهية متحققا بها ولاحقا بالنظر إليها ، وحينئذ فواجب الوجود

٥٢٧

المشار إليه بالعقل يتحقّق واجبا وإن لم يكن تلك الماهية ، لأنّ لحوقها به وعروضها له إن لم يكن عدم العروض انّما يصحّح معلولية تلك الماهية له لا علّيتها له ، والمعلول من حيث هو لا مدخلية له في تحقّق قوام العلّة ، فاذن ليست تلك الماهية المركّبة الّتي فرضت انّها ماهية لواجب الوجود بالذات ماهية للشيء المشار إليه بالعقل إنّه واجب الوجود بالذات ، بل الواجب بالذات أمر آخر وتلك الماهية ماهية شيء آخر لا حقة به إن لم يمكن عدم اللحوق وقد فرض ماهية لواجب الوجود بالذات ، وهو خلاف الفرض. ففرض تركيب الواجب من الماهية ووجوب الوجود بالذات باطل ، فلا ماهية لواجب الوجود غير أنّه واجب الوجود ؛ انتهى بتوضيحه.

وإلى هنا تمّ مطلوبه الأوّل ـ أعني : كون وجوب الوجود جزء من مهيته سبحانه ـ.

ثمّ شرع في بيان المطلوب الثاني وهو الّذي نحن بصدد بيانه ـ أعني : عدم زيادة وجوده على مهيته ـ ، فانّ ثبوت المطلوب الأوّل لا يستلزم ثبوته ، لجواز أن لا يكون وجوب الوجود جزء من مهيته ـ تعالى ـ ولكنّه يكون صفة زائدة على مهيته عارضة أو لازمة ، فقال متّصلا بما نقلناه : « وهذه ـ أي : ماهية الواجب الّتي ليس شيئا وراء أنّه واجب الوجود ـ هي الإنّية ، يعنى إنّ مهيته عين وجوده ومعناه انّ الإنّية والوجود لو صار للماهية حتّى تكون الإنّية الّتي هي الوجود زائدا على الماهية ، فلا يخلوا إمّا أن يلزمها لذاتها أو لشيء آخر ، ومحال أن يكون لذات الماهية لأنّ التابع لا يتبع إلاّ موجودا ، فيلزم أن يكون للماهية وجود قبل وجودها ، وهذا محال. فنقول : إنّ كلّ ماله ماهية غير الانية فهو معلول ، وذلك لانّك علمت انّ الانية والوجود لا يقوم من الماهية الّتي هي خارجة عن الانية مقام الأمر المقوم ـ أي : لا يكون الوجود جزء ذاتيا مقوّما للماهية ، بل يكون زائدا عليها ـ فيكون من اللوازم ، ولا محالة إمّا أن يلزم الماهية لانّها لتلك الماهية ؛ وإمّا أن يكون لزومها ايّاه بسبب شيء ، ومعنى قولنا : « للزوم اتباع الوجود وأن يتبع موجودا لا معدوما » ، أي : معنى اللزوم اتباع وجود الشيء لشيء آخر واتباع وجود الشيء لا يكون إلاّ لشيء موجود ، فان كانت الانية تتبع الماهية و

٥٢٨

يلزمها بنفسها فيكون الانية قد بقيت في وجودها موجودا ، فكان متبوعة ـ أعني : الماهية موجودا بالذات قبله ـ ، فيكون الماهية موجودة بذاتها قبل وجودها ؛ هذا خلف. فبقي أن يكون الوجود فيها عن علّة ، فكلّ ذي ماهية هو معلول وسائر الأشياء غير الواجب فلها مهيات ، فتلك المهيات هي الّتي بانفسها ممكنة الوجود ، وانّما يعرض لها وجود من خارج ، فالأوّل لا ماهية له وذوات المهيات يفيض عليها الوجود منه ، فهو مجرّد الوجود بشرط سلب العدم وسائر الاوصاف عنه ـ أي : هو مجرّد الوجود الّذي لا يكون فيه شائبة عدم وقوّة ـ ، ولا الاوصاف الزائدة على ذاته ـ أعني : الصفات الكمالية الزائدة ـ ثمّ سائر الأشياء الّتي هي مهيات فانّها ممكنة توجد به ، فهى لا تخلوا عن العدم والقوّة ، لأنّ جميعها باعتبار ذواتها / ٢٣١ DB / داخلة تحت معنى ما بالقوة.

وهذا البرهان أيضا قريب ممّا ذكرناه أوّلا ، إذ حاصله أنّ وجود الواجب إذا كان زائدا على ذاته فلا يكون الوجود / ٢٢٩ MB / أمرا ذاتيا له ، فثبوته له لا يكون إلاّ من علّة ، فتلك العلّة لا تخلو : إمّا تكون ذات الواجب ومهيته ، فهو باطل ـ لأنّه إذا فرض أنّ أمرا يكون علّة لامر آخر فتلك العلّة ما لم تكن محفوفة بالوجود يمتنع أن يتبع لها أمر آخر ، لأنّ تابعية شيء لا يتصوّر إلاّ لشيء موجود ـ ؛ أو يكون أمرا سوى الواجب بالذات ، فيلزم أن يكون ما فرض أنّه واجب الوجود بالذات ممكن الوجود بالذات ؛ هذا خلف.

قال بعض الأفاضل : إنّ وجود العلّة وإن لم تكن علّة لمعلول تلك العلّة لكن يكون وجود تلك العلّة متقدّما على معلول تلك العلّة ، لأنّ الشيء ما لم يثبت له الوجود لا يصحّ أن يتبع لها امر آخر وإذا لم يجز أن يكون شيء علّة للآخر ما لم يكن محفوفا بالوجود ، فاذا فرض أنّ واجب الوجود بالذات علّة لوجوده فلا بدّ أن يكون علّة بالوجود لوجوده فذلك الوجود الّذي هو العلّة إمّا أن يكون عين الوجود الّذي هو معلول فيلزم تقدّم الشيء على نفسه ؛ أو غيره ، فننقل الكلام إليه ؛ فامّا أن يذهب إلى غير النهاية ، وهو باطل ـ لبطلان التسلسل ، وللزوم كون شيء واحد هو جزئي حقيقي موجودا بوجودات متعدّدة ؛

٥٢٩

وأيضا : من قال أنّ الواجب بالذات علّة لوجوده يلزم عليه أن يكون الشيء موجدا وخالقا لنفسه ، لأنّ كلّ مفيض للوجود وعلّته موجد وخالق ؛

وأيضا : إذا فرض أنّ الواجب ذاته علّة لوجوده يكون الذات باعتبار ذاته علّة للوجود ، وإذا كان باعتبار ذاته علّة للوجود ويكون الذات باعتبار ذاته منشئا للآثار فيلزم أن يكون الذات عين الوجود ـ لأنّ الوجود ليس إلاّ ما هو منشأ الآثار ـ ، فاذا كان الذات منشأ الآثار يكون معنى الوجود ، فيلزم الكرّ إلى ما منه الفرّ ؛ انتهى.

وبما ذكرنا ظهر أنّ عينية وجود الواجب لذاته وعدم زيادته على مهيته ممّا ادلّته قاطعة تامّة ، وآراء اجلّة الفن عليه متطابقة.

فان قيل : الحجّة الّتي ذكرتها وما هو في معناها ويقرب منه معارضة بالماهيات الامكانية ، لانّها قابلة للوجود متصفة به والقابل للشيء المتصف به يجب أن يكون متقدّما عليه بالوجود ، فيلزم تقدّم الماهية الممكنة بالوجود على الوجود ، وهو باطل ؛ فما يقال هنا في الجواب فهو الجواب عن لزوم تقدّم الواجب بالوجود على الوجود لو كان زائدا على ذاته ؛

قلنا : الماهية القابلة للوجود لا يلزم تقدّمها على ذلك الوجود بالوجود ، بل يمتنع ذلك لانّها لا تتجرّد عن الوجود إلاّ في نحو من انحاء ملاحظة العقل لا بأن يكون في تلك الملاحظة منفكّة عن الوجود ، لأنّ تلك الملاحظة أيضا نحو وجود عقلي كما أنّ الكون في الخارج وجود خارجي ، بل بأنّ العقل من شأنه أن يلاحظها وحدها من غير ملاحظة الوجود وعدم اعتبار الشيء ليس اعتبار العدم. والسرّ في عدم تجرّدها عن الوجود إنّ اتّصاف الماهية بالوجود أمر عقلي وليس كاتصاف الجسم بالبياض الّذي يمتاز بحسب الموصوف والصفة ، فانّ الماهية ليس لها وجود منفرد ولعارضه المسمّى بالوجود وجود آخر حتّى يمتنع اجتماع القابل والمقبول ، بل الماهيّة إذا كانت فكونها بعينها هو وجودها ، ففي الخارج ليس شيء هو الماهية وشيء آخر هو الوجود ، بل وجودها ليس إلاّ ظهورها من العدم إلى الأعيان وصيرورتها منشئا للآثار الخارجية. واظهار المعدوم في الأعيان وجعله بالحمل البسيط ليس من قبيل اتصاف شيء بشيء

٥٣٠

آخر حتّى يتوقّف على قابل ومقبول ـ كما أنّ قول الخطّ وجعله لا يتوقف على ذلك ـ ، فحقيقة اتصاف المهيات بالوجود لا يتحقّق إلاّ بمعدومية المهيات قبل صيرورتها موجودة ، فقابل الوجود لا يلزم تقدّمه بالوجود على الوجود. وأمّا قابل الوجود وقابل غير الوجود من الأوصاف فيجب تقدّمها بالوجود على الوجود والأوصاف. فقد ظهر أنّ ما يقال : « إنّ الماهية قابلة للوجود » فالمراد انّها قابلة له عند وجودها في العقل فقط ، وفي الخارج ليس قابل ومقبول ؛ فالماهية مع / ٢٣٠ MA / قطع النظر عن وجودها ليست فاعلة لشيء ولا منشئا لأثر أصلا.

وما قيل : « إنّ لوازم الماهية مستندة إلى الماهية من حيث هي من دون مدخلية وجود الماهية » ، فمعناه : إنّ وجود الماهية لا دخل له في لازم الماهية ، لا أنّ الماهية حال كونها منفكّة عن الوجود وعارية عنه تكون علّة تلازمها ، بل وجود / ٢٣٢ DA / الماهية يكون مع العلّة ـ أعني : الماهية بالقياس إلى لازمها ـ. والحاصل : انّ المراد أنّ الماهيّة بعد وجودها علّة للازمها ، فمع قطع النظر عن وجودها ليس لها علّة وتاثير أصلا ؛ هذا.

واعلم! ، أنّه ليس معنى عينية وجود الواجب لذاته انّ لمطلق الوجود الانتزاعي البديهى المعلوم لكلّ أحد حصولا بنفسه في الخارج وهو الواجب ؛ وكذا ليس معنى زيادة وجود الممكن على ذاته أنّ له عروضا انضماميا لماهيات الممكنات وقياما حقيقيا بها في الأعيان ، إذ الوجود المطلق الّذي ليس إلاّ مفهوما اعتباريا لا يصلح أن يكون عين ماهية موجودة في الخارج أو غيرها قائما بها فيه ، بل المراد بعينيّته في الواجب أنّ الواجب ذاته بذاته منشأ انتزاع الوجود المطلق الاعتباري ومناطه ـ أي : هو بحيث إذا حصل في الذهن ينتزع العقل منه هذا المفهوم البديهي الاعتباري ، لا بملاحظة حيثية أخرى أيّ حيثية كانت انضمامية أو ارتباطية ـ ؛ ومعنى زيادته في الممكن أنّ ذاته من حيث هي ليست بحيث إذا حصلت في الذهن ينتزع منها العقل الوجود المطلق الاعتباري ، أو ماهية الممكن من حيث هي لا يلزمها الوجود ، بل انتزاع الوجود منها يتوقّف على ملاحظة حيثية اخرى سوى نفس ذاته ومهيته ـ وهي كون الماهية منتسبة

٥٣١

إلى موجبها التامّ صادرة عنه ـ. وبالجملة وجود المطلق لكونه انتزاعيا لا بدّ له من منشأ الانتزاع فكلّ ذات منشأ انتزاع هذا الوجود منه نفس ذاته فالوجود عين ذاته ـ كما في الواجب ـ ، وكلّ ذات منشأ انتزاعه منه غير ذاته فوجوده زائد على ذاته ـ كما في الممكن.

وتحقيق الكلام في هذا المقام : انّا قلنا : إنّ الواجب ـ سبحانه ـ صرف الوجود في الخارج ، ولا ريب في أنّ المراد منه ليس أنّه صرف الوجود العامّ البديهي ، لأنّه ليس إلاّ المفهوم والمفهوم من حيث هو لا يكون عين حقيقة خارجية ، فالمراد : إنّه ـ سبحانه ـ صرف الوجود الحقيقي الّذي موجود بنفسه في الخارج وقائم بذاته وهو محقّق الحقائق ومذوّت الذوات ومفيض جميع الموجودات الامكانية بحيث يفيض على كلّ ذي حقّ حقّه.

ثمّ إنّ حقيقة الوجود الحقيقي الّذي هو عين الواجب ليس معلوما لنا بالكنه ، فحكمنا عليه ـ سبحانه ـ بانّه صرف الوجود الحقيقي وخالص الوجود وبحته مبني على أنّ مرادنا من صرف الوجود هو الحقيقة الحقّة البسيطة الصرفة القائمة بنفسها الّتي ذاتها بذاتها من دون ملاحظة ذات آخر وحيثية أخرى منشأ الآثار الخارجية ومناط انتزاع الوجود المطلق ، ولمّا كان ذات الواجب ـ سبحانه ـ في غاية البساطة والتجرّد وكان بذاتها من دون ملاحظة شيء آخر وحيثية اخرى منشئا للآثار الخارجية ومناطا ومصحّحا لانتزاع الوجود المطلق عنه حكمنا بانّه صرف الوجود وبحته ، وانّه عين الوجود الحقيقي الّذي لو لاه ما شمّ غيره رائحة الوجود وفائحة الظهور.

ثمّ اعلم! ، أنّ ذات الشيء إن اعتبرت من حيث انّها موجودة في الخارج سمّيت « حقيقة » ، وإن اعتبرت من حيث وجودها في الذهن سميت « ماهية » ، فالحقيقة هي الماهية باعتبار وجودها في الخارج كما ان الماهيّة هي الحقيقة باعتبار وجودها في الذهن ؛ فالماهيّة تكون منتزعة عن الحقيقة. مثلا الانسان بالطبع الموجود في الخارج يسمّى « حقيقة الانسان » ، وما ينتزع منه العقل من المفهوم الكلّي يسمّى « ماهية الانسان ». وعلى هذا فالوجود الحقيقي الّذي هو عين الواجب في الخارج يسمّى حقيقة وما ينتزع

٥٣٢

منه العقل يسمّى ماهية ، فماهيات الأشياء منتزعة عن حقائقها.

ثمّ ما يحصل في الذهن من الماهيّة لا يمكن أن يكون مع الوجود الخارجي وإلاّ كان الذهن خارجيا ، بل ما يحصل في الذهن ليس إلاّ المنتزع من الوجود الخارجي.

ثمّ الموجود لمّا كانت مركّبة من الماهية والوجود فالعقل يحلّلها إلى شيئين : حقيقة ، ووجود خارجي ، وما ينتزع من حقائقها فهو المهيات ، وما ينتزع من وجوداتها الخاصّة الخارجية فهو الوجود الاعتباري الانتزاعي ؛ وامّا الواجب فلمّا كان وجوده عين حقيقته ولم يكن له حقيقة سوى الوجود فما ينتزع منه لا يكون ماهيّة ، بل المنتزع / ٢٣٢ DB / هو الوجود الاعتباري الانتزاعي ، ولهذا صرّح المحقّقون بنفي الماهية عنه ـ سبحانه ـ. وما هو القائم مقام الماهية في الواجب ليس إلاّ مفهوم الوجود ، إذ كما أنّ المهيات تنتزع / ٢٣٠ MB / من حقائق الممكنات من غير اعتبار أمر خارج كذلك مفهوم الوجود ينتزع من صرف الوجود الّذي هو عين ذات الواجب بلا ملاحظة أمر آخر ، فالماهية في الواجب ـ أي : ما ينتزع من ذاته ـ ليس إلاّ مفهوم الوجود المنتزع ، إذ لو انتزع منه ـ سبحانه ـ سوى هذا المفهوم مفهوم آخر هو الماهية لزم أن ينتزع من واحد بسيط بنفسه من دون اعتبار حيثية أخرى مفهومان مختلفان ، وهو باطل ، فماهية الواجب عين وجوده في الذهن ـ وهو الوجود الاعتباري المنتزع ـ ، كما أنّ وجوده الحقيقي ـ أي : ما هو منشأ انتزاع الوجود الاعتباري ـ عين حقيقته في الخارج. وهذا هو ما صرّح به المحقّقون من أنّه كما أنّ الوجود الحقيقي للواجب عين حقيقته في الخارج فكذلك الوجود المنتزع عنه عين مهيته في الذهن ، فالماهية بالحقيقة منفية عنه ـ سبحانه ـ. ولذا صرّح الحكماء بأنّ الواجب ليس له كنه ، لأنّ المراد من « الكنه » هو الماهية من دون الوجود ، ولو كان المراد من الكنه هو الوجود الخارجي وكان مرادهم من نفي الكنه عنه حينئذ انّ كنهه لا يمكن أن يصير معقولا ـ لأنّ الوجود الخارجى من حيث هو وجود خارجى لا يحصل في الذهن ـ ، ورد عليه : إنّ نفي تعقّل الكنه بهذا المعنى لا يختصّ بالواجب ، لأنّ كلّ موجود خارجي من حيث انّه موجود في الخارج لا يمكن أن يحصل في الذهن.

٥٣٣

تتميم

قد ظهر من البراهين الّتي ذكرناها لاثبات عينية الوجود وكون ذاته ـ تعالى ـ صرف الوجود انّه يلزم أن يكون بحت الوجود متحقّقا في الخارج وقائما بذاته وهو الواجب ـ سبحانه ـ ، وبهذا الطريق يحصل برهان على اثبات الواجب ـ سبحانه ـ هو اوثق البراهين. بيانه : إنّه لو لم يكن صرف الوجود موجودا وكان جميع الموجودات زائدة على المهيات لكانت المهيات في اتصافها بها والوجودات في حصولها لها محتاجة إلى العلّة ، والعلّة لا يمكن أن تكون نفس المهيات ـ لأنّ الشيء لا يمكن أن يفيض وجوده بنفسه ـ ، فتعيّن أن يكون غيرها ؛ والغير إن كان ما هو وجوده زائد على مهيته فننقل الكلام إليه ، فيلزم التسلسل ، وهو باطل ، فيلزم أن يكون صرف الوجود موجودا حتّى ينتهى إليه سلسلة الوجودات الامكانية. وقريب من هذا الطريق ما قيل في اثباته ـ سبحانه ـ : إنّ الموجود إمّا متعلّق بغيره بوجه من الوجوه ، أو غير متعلّق بشيء أصلا ، والمتعلّق بغيره إمّا يكون تعلّقه من حيث امكانه ؛ أو من حيث كونه ذا ماهية ؛ أو من حيث كونه موجودا بعد العدم. أمّا الأوّل ـ أعني : الامكان ـ فهو أمر اعتباري سلبي ، لأنّ مفهومه سلب ضرورة الوجود والعدم عن الماهية ، فلا يوجب تعلّقا بغيره ولا يكون متعلّقا بما سواه كما لا يكون معلولا لعلّة مباينة للمعلول أصلا ـ لكونه من لوازم المهيات الامكانية كما أنّ الحدوث من لوازم الوجودات الحادثة ـ ؛ وأمّا الثاني ـ أعني : الماهية ـ فهى ليست سببا للحاجة إلى العلّة ولا هي أيضا مجعولة متعلّقة بالجاعل ولا موجودة إلاّ بالعرض وبتبعية الوجودات ؛ وأمّا الثالث ـ أعني : كونه موجودا بعد العدم ـ إذا حللناه يحصل أمور ثلاثة : عدم سابق ؛ ووجود ؛ وكون هذا الوجود بعد ذلك العدم السابق. والعدم بما هو عدم نفي محض لا يصلح أن يتعلّق بشيء ، وكون الوجود بعد العدم من اللوازم الضرورية للموجود بعد كونه معدوما ، فلا يكون متعلّقا بالغير ـ لأنّ لوازم الشيء لذاته غير مجعولة ـ ، فالمتعلّق بالغير في الموجود الّذي تعلّق بغيره هو أصل وجوده لا مهيته ، ولا شيء آخر ؛ والوجود المتعلّق بالغير المقوّم به

٥٣٤

يستدعي أن يكون مقوّمة له وما يفيضه وجودا أيضا ـ إذ غير الوجود لا يتصوّر أن يكون مقوّما للوجود وموجدا له ـ ؛ فان كان ذلك المقوّم الموجد قائما بنفسه فهو المطلوب ؛ وإن كان قائما بغيره فننقل الكلام إلى ذلك المقوّم وهكذا إلى أن يتسلسل أو يدور أو ينتهى إلى موجود قائم بذاته غير متعلّق بغيره. والأوّلان باطلان ، فتعيّن الثالث ، فلا بدّ من الانتهاء إلى وجود / ٢٣٣ DA / غير متعلق لشيء أصلا ، وهو صرف الوجود وبحته. وهو الواجب ـ سبحانه ـ ، وما سواه رشحات فيضه وجوده ؛ هذا.

وامّا كون تعيّنه وتشخّصه عين ذاته ـ سبحانه ـ فقد ظهر ممّا ذكرناه ، لأنّ تشخّصه لو كان زائدا على ذاته فان كان هو في كونه موجودا متعيّنا مشخّصا مفتقرا إلى هذا الزائد كان ممكنا ، وإن كان موجودا متعيّنا بدونه كان اعتباره باطلا. وأيضا : التشخّص إمّا نحو الوجود ـ كما هو مذهب التحقيق ـ ، أو الخصوصيات والأعراض المنضمّة إلى الكلّي الّتي تجعله جزئيا بحيث لا يصدق على كثيرين ، وهذه الخصوصيات مثل الكمّ والكيف والوضع المعينين وغير ذلك. فعلى الأوّل ـ أعني : كون التشخّص نحو الوجود ـ فالعينية ظاهرة ، لأنّ نحو الوجود ليس زائدا على الوجود الّذي هو عين الذات ؛ وعلى الثاني ـ أعني : كون التشخّص / ٢٣١ MA / عبارة عن العوارض المنضمّة ـ نقول : لا ريب في أنّ ضمّ تلك العوارض والخصوصيات إلى الماهية الكلّية محتاج إلى علّة ، ولا يمكن أن يكون تلك العلّة غير الواجب تعالى ـ للزوم احتياجه تعالى إلى غيره ـ ؛ ولا يمكن أن يكون ذات الواجب أيضا ـ لأنّ الشيء لا يكون علّة ما لم يكن موجودا ولا يكون موجودا ما لم يكن متشخّصا ـ ؛ اقول : وكذلك لا يكون متشخّصا ما لم يكن موجودا على ما قيل : « الشيء ما لم يوجد لم يتشخّص ». فلو كان الواجب علّة لتشخّص ذاته فيجب أن يكون متشخّصا حتّى يكون علّة تشخّصه لنفسه ، فالشخص المقدّم إن كان عين الشخص المعلول لزم تقدّم الشيء على نفسه. وإن كان غيره ننقل الكلام إليه حتّى يلزم التسلسل ، وهو باطل ، فيجب أن يكون تشخّصه ـ سبحانه ـ بنفس ذاته.

وقد ظهر من هذا أنّ ذات الواجب لا يمكن أن يكون ماهية كلّية ـ أي : ماهية تكون معروضة للتشخّص ـ كما أنّه لا يمكن أن يكون ماهية معروضة للوجود ، فالوجود و

٥٣٥

التشخّص كلاهما في الواجب عين الذات.

ثمّ اعلم! ، أنّ الماهية المعروضة للوجود تكون كلّية كماهية الانسان المعروضة لوجوده ، وتكون جزئية كماهيّة زيد المعروضة لوجوده ؛ وأمّا الماهيّة المعروضة للتشخّص فلا تكون إلاّ كلّية ، فانّ الماهيّة المعروضة لتشخّص الانسان والمعروضة لتشخّص زيد ماهية واحدة كلّية ، لأنّ تشخّص زيد هو بعينه تشخّص الانسان أيضا ، ومعروض التشخّصين واحد. وأمّا معروض وجودهما ليس واحدا وإن كان وجود زيد هو بعينه وجود الانسان أيضا ، لأنّ وجود زيد من حيث أنّه وجود زيد معروضه مجموع ماهية الانسان مع التشخّص ، ومن حيث أنّه وجود انسان معروضه ماهية الانسان بدون التشخّص.

البحث الثاني :

في نفي التركيب الّذي يتصوّر

باعتبار الانقسام إلى الذات والصفات

عنه ـ سبحانه ، أعني : اثبات عينية صفاته الكمالية

لذاته وعدم زيادتها عليه ـ

ونحن قد بيّنا فيما تقدّم ما هو الحقّ في معنى عينية الصفات وقرّرنا ذلك مفصّلا ومشروحا ، فهاهنا نكتفي بذكر بعض البراهين الدالّة على نفي زيادة صفاته على ذاته ـ تعالى ـ. والبراهين على ذلك كثيرة :

فمنها : إنّ وجوب الوجود يدلّ على نفي الصفات الزائدة كما أنّه يدلّ على نفي التركيب مطلقا ، لأنّ الصفات الزائدة إن كانت واجبة لذاتها لزم تعدّد الواجب ، وهو باطل ؛ وإن كانت ممكنة لذاتها فالموجب لها إن كان ذات الواجب لزم أن يكون الواحد قابلا وفاعلا ، وهو باطل ـ على ما مرّ ـ ؛ وإن كان غيره لزم افتقار الواجب إلى غيره.

ومنها : إنّ صفاته ـ سبحانه ـ لو كانت زائدة على ذاته قائمة بها لكانت متأخّرة بالذات عن الذات ـ سواء كانت مستندة إليه سبحانه أو إلى غيره ـ ، فذات الواجب

٥٣٦

يكون في مرتبة الذات المتقدّمة على الصفات خالية عن الصفات الكمالية ، وهو يوجب النقص والتركيب. أمّا لزوم النقص فلأنّ خلوّه في مرتبة الذات عن الصفات الكمالية نقص لا محالة ، فيكون في مرتبة ذاته مشتملا على النقص ؛ وأمّا لزوم التركيب فلأنّه ـ تعالى ـ في مرتبة ذاته المقدّمة الّتي لم توجد فيه الصفات تكون له ـ تعالى ـ قوّة الاتصاف بها ، فتكون هذه المرتبة ظرفا لامكان تلك الصفات وتكون هذه الصفات ممكنة له ـ سبحانه ـ ، فيلزم أن يكون الواجب ـ تعالى ـ في مرتبة الذات مشتملا على جهة امكانية ، فيلزم أن يكون مركّبا من جهتي الوجوب والامكان ، لأنّ الوجوب والامكان لا يمكن أن يتحقّقا من جهة واحدة ؛ ولا ريب في بطلان تركّبه ـ تعالى ـ من جهتين / ٢٣٣ DB / الوجوب والامكان ، لأنّ واجب الوجوب بالذات واجب الوجود من جميع الجهات.

ومنها : انّه لو كان له ـ تعالى ـ صفات زائدة على ذاته لكان محتاجا إليها في صدور الآثار ، والاحتياج إلى الصفة الّتي هي غير الذات في صدور الآثار نقص ؛ ولو قطع النظر عن لزوم النقص نقول : لا ريب في أنّ الوجود المستغني في صدور الآثار عن الصفات أكمل من الوجود المحتاج فيه إليها ـ كالوجودات الناقصة الامكانية الّتي تحتاج في صدور كلّ نوع من الآثار إلى صفة ـ ، ولا ريب في أنّ وجود الواجب أكمل انحاء الوجودات وأجمل انحاء الموجودات مستغن عن الصفة في صدور الآثار ، فيجب أن يكون وجود الواجب مستغنيا عنها فيه.

ومنها : إنّ صفاته ـ سبحانه ـ كالعلم والقدرة والإرادة لو كانت زائدة على ذاته لكانت معلولة للواجب ـ سبحانه ـ ؛ فصدورها من الذات إمّا بواسطة تلك الصفات بعينها ؛ أو بواسطة غيرها من / ٢٣١ MB / نوع تلك الصفات ؛ أو بلا واسطة صفات أصلا ، والأوّل يوجب تقدّم الشيء على نفسه ، والثاني يوجب التسلسل ، والثالث يوجب كونه ـ تعالى ـ فاعلا موجبا بالنسبة إلى ايجاد تلك الصفات ، والايجاب بهذا المعنى ـ أي : صدور الفعل بدون العلم والقدرة والإرادة عنه ، سبحانه ـ باطل باجماع العقلاء.

ومنها : إنّ صفاته ـ تعالى ـ لو كانت زائدة على ذاته فامّا أن تكون حادثة ، أو

٥٣٧

قديمة ؛ والأوّل يوجب كون ذاته ـ سبحانه ـ محلاّ للحوادث ؛ والثاني يوجب تعدّد القدماء.

ثمّ الأشاعرة القائلون بزيادة الصفات أوردوا على القائلين بالعينية بانّه يلزم عليكم نفي الصفات رأسا ـ إذ لا فرق بين عينية الصفات وعدمها ـ ، فيلزم خلوّ الواجب عن الصفات الكمالية ، وهو نقص.

والجواب : إنّه يلزم الخلوّ عن الصفات إذا انتفى آثارها ، وامّا مع ترتّب آثارها فلا يلزم نقص أصلا ، إذ لا ريب في أنّ ترتيب آثار الصفة على مجرّد الذات من دون احتياج إلى الصفة أكمل من الترتيب مع وجود الصفة الزائدة. على أنّ القائلين بالعينية لا يقولون بعدم الصفة مصداقا ومفهوما ، بل يثبتون مفهوم الصفة ويقولون : انّ مصداقه مجرّد الذات الحقّة البسيطة ؛ ولا يشترطون في تحقّق مفهوم الصفة مصداقا مغايرا للذات ، بل يقولون : إنّ المصداق أعمّ من أن يكون مغايرا للذات ـ كما فينا ـ أو عين الذات ـ كما في الواجب ـ.

البحث الثالث :

في نفي التركيب والكثرة

قبل الذات عنه ـ سبحانه ، أعني :

تركيبه سبحانه من اجزاء خارجية أو عقلية ـ

وهو المعبّر عنه بتوحيده ـ تعالى ـ في ذاته.

اعلم! ، أنّ الادلّة على ذلك كثيرة بعضها يدلّ على نفي التركيب من الأجزاء مطلقا ، سواء كانت اجزاء وجودية خارجية مقدارية متشابهة أو غير متشابهة ، أو غير مقدارية ـ كالمادّة والصورة الخارجيتين ـ أو اجزاء وجودية عقلية بشرط اللاّئية ـ كالمادّة والصورة الذهنيتين ـ أو اجزاء عقلية حدّية حملية لا بشرطية ـ كالجنس والفصل ـ. وبعضها يدلّ على خصوص نفي تركّبه من اجزاء خارجية أو نفي اجزاء عقلية وإن كان ما دلّ على نفي تركّبه من الأجزاء العقلية دالاّ على نفي تركّبه من الأجزاء

٥٣٨

الخارجية أيضا ـ كما سنشير إليه ـ. ونحن نذكر أوّلا ما يدلّ على نفي تركّبه من الاجزاء مطلقا ثمّ نذكر ما يدلّ على نفي خصوص كلّ من الاجزاء الخارجية أو العقلية ؛ فنقول : يدلّ على الأوّل ـ أعني : نفي تركّبه من الاجزاء مطلقا ـ وجوه :

منها : إنّ كلّ مركّب من اجزاء خارجية ـ بأيّ نحو كان ـ أو اجزاء عقلية فاجزائه لا محالة متقدّمة عليه وهو متأخّر عنها بالذات ، فذاته انّما صارت موجودة بعد ما كانت معدومة في مرتبة وجود اجزائها ؛ أمّا إن كانت الأجزاء خارجية فظاهر ، وامّا إن كانت عقلية فلأنّ كونه موجودا لا يصحّ إلاّ وقد تحصّلت ذاته وتمت بعد تحصيل أجزائه ، ولا ريب في أنّ الموجود بعد العدم ممكن ، فيلزم أن يكون الواجب ممكنا ؛ وهو باطل.

ومنها : إنّه ـ تعالى ـ لو كان مركّبا لكانت اجزائه متقدّمة عليه بالطبع ، وكان وجوده موقوفا على وجود اجزائه لا محالة ـ سواء كانت اجزاء خارجية كاجزاء البيت والسرير والمركبات العنصرية واجزاء العناصر من الهيولى والصورة او أجزائها المتشابهة ، أو اجزاء ذهنية كالجنس والفصل ـ. والتوقّف / ٢٣٤ DA / في الأجزاء الخارجية ظاهر ، وأمّا الأجزاء الذهنية وإن لم يكن كلّ واحد منها موجودا بوجود على حدة في الخارج ـ بل في الذهن فقط ، لأنّ الأجزاء الذهنية هي الأجزاء الّتي إذا حصلت الماهية في العقل يحللها إليها ولم يكن شيء منها موجودا في الخارج بوجود على حدة ، فيكون وجود الأجزاء ذهنيا ووجود المركّب من حيث أنّه مركّب أيضا ذهنيا ، ولا يحصل تركيب في الخارج مع أنّ التوقّف على الأجزاء الّذي يحصل منه الاحتياج المنافي للوجوب انّما هو التوقّف على الأجزاء الموجودة في الخارج ، لأنّ التقسيم إلى الموادّ الثلاث انّما هو بحسب الوجود الخارجى ـ ، إلاّ أنّه لا شبهة في أنّ الأجزاء الذهنية لها وجود وهي نفس أمري لا وجود ذهني اختراعى ، ووجود النفس الأمري راجع إلى الوجود الخارجى ، فلو تركّب الواجب ـ سبحانه ـ من الأجزاء العقلية لتوقّف / ٢٣٢ MA / وجوده في نفس الأمر على وجود الأجزاء النفس الامرية ، فتوقّف المركّب على الاجزاء ـ سواء كانت خارجية أو عقلية ـ لازم. وإذا كان متوقّفا عليها يكون مفتقرا إليها ، والمفتقر إلى الغير وإن كان ذلك الغير جزء لها لا يكون واجب الوجود ، بل

٥٣٩

ممكنا ؛ فكلّ مركّب لا يكون واجب الوجود ، فواجب الوجود يمتنع أن يكون مركّبا.

وفرق هذا الدليل عن سابقه انّما هو بلزوم الامكان فيه من طريق الاحتياج إلى الغير وفي السابق بموجوديته بعد العدم ، وإن كان الاحتياج إلى الغير والموجودية بعد العدم متلازمين ؛ فمآل الدليلين واحد.

ومنها : انّه لو كان الواجب مركّبا من الأجزاء فامّا أن يكون كلّ واحد من تلك الأجزاء واجب الوجود ، أو ممكن الوجود ، أو يكون بعضها واجب الوجود وبعضها ممكن الوجود. والأوّل باطل ، لأنّ كلّ حقيقة تألّف من الأجزاء تألّفا طبيعيا ـ نوعيا كان أو جنسيا ، لا اعتباريا ولا مصنوعيا ، لا بدّ أن يكون بين اجزائه علاقة لزومية وارتباط طبيعي ، إذ لا يتصوّر تركّب حقيقة نوعية أو جنسية من أمور متباينة مستغنية بعضها عن بعض بحسب الوجود ـ وقد تبيّن ذلك في العلم الإلهي ـ ، فالأجزاء الخارجية للطبائع النوعية سواء كانت الاجزاء المادّية لها ـ كاجزاء الماء والنار وغيرهما ، أو الهيولى والصورة لها ـ والأجزاء العقلية لها كاجناسها وفصولها لا بدّ أن تكون بينهما علاقة لزومية وارتباط ايجابي وحينئذ لو تركّب الواجب ـ سبحانه ـ من الأجزاء لزم أن تكون هذه الأجزاء متلازمة ، اذ يكون تركّبه تركّبا طبيعيا حقيقيا لا مصنوعيا أو اعتباريا ؛ إذ الأوّل بديهي البطلان ـ لافتقاره إلى صانع ـ ؛ والثاني يرجع إلى تعدّد واجب الوجود وتحقّق العلاقة اللزومية بين الواجبات باطل ـ إذ يلزم افتقار كلّ واجب إلى الآخر ـ ؛ والاخيران ـ أعني : كون جميع الأجزاء ممكنة أو بعضها ممكنا وبعضها واجبا ـ أيضا باطلان ، للزوم احتياج الواجب في قوام ذاته وتحقّق حقيقته إلى الممكن ولزوم تقدّم الممكن على الواجب بحسب الذات ، وهو محال.

ومنها : انّا قد بيّنا انّ الواجب ـ سبحانه ـ صرف الوجود ، وصرف الوجود لا يمكن أن يكون مركّبا من الاجزاء الخارجية والذهنية ، لأنّه لو كان له اجزاء لكانت تلك الأجزاء غيرها ـ لأنّ الشيء نفسه لا يكون جزء نفسه ـ ، فتلك الأجزاء الّتي هي غير صرف الوجود واجزاء له لا بدّ أن تكون مقدّمة بالوجود في الخارج أو في العقل ـ على ما هي اجزاء له ، أعني : صرف الوجود ـ ، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه ؛ وهو

٥٤٠

باطل.

ومنها : إنّ الواجب صرف الوجود ـ كما بيّناه ـ ، فلو تركّب من الاجزاء فاجزائه إن كانت غير الوجود خرج الواجب عن كونه صرف الوجود ؛ وإن كان كلّ واحد منها أيضا صرف الوجود لزم التعدّد والتكثّر في صرف الوجود ، مع انّا نبيّن في بيان نفي الشريك في وجوب الوجود عنه ـ سبحانه ـ إنّ صرف الوجود لا يتعدّد ـ لا بالانفراد والاستقلال ولا بالتركيب ـ. وأيضا نحن بيّنا إنّ صرف الوجود هو القائم بذاته والمنشأ للآثار الخارجية ولانتزاع مفهوم الوجود بنفسه من غير احتياج إلى شيء آخر ، فلو كان اجزائه أيضا صرف الوجود فان كان كلّ واحد منها أيضا قائما بنفسه منشئا للآثار وانتزع مفهوم الوجود بنفسه فلا معنى لتركّبها والتيامها ؛ أمّا أوّلا فلأنّ كونه / ٢٣٤ DB / جزء وكونه قائما بذاته لا يجتمعان ؛ وأمّا ثانيا فلأنّ التركيب يكون حينئذ لغوا غير مرتّب عليه شيء وإن لم يكن كلّ منها كذلك ولم يكن صرف الوجود ، وقد فرضناه صرف الوجود ، هذا خلف ؛ هذا.

وقد استدلّ الشيخ في النجاة على المطلوب ـ أعني : بطلان تركّب الواجب بالذات من الأجزاء مطلقا ـ بما حاصله : إنّ الواجب لذاته لا جزء له وإلاّ لامكن الواجب لذاته ، لكن التالى باطل ؛ فكذا مقدّمه. أمّا بطلان التالي فهو ظاهر ؛ وأمّا الملازمة فلأنّ كلّ ما هذا شأنه وصفته كان ذات جزء منه ومفهومه ليس هو ذات الجزء الآخر ومفهومه ولا ذات المجتمع ومفهومه ؛ وحينئذ إمّا أن يصلح لكلّ واحد من اجزائه مثلا وجود منفرد ولا يصحّ للمجتمع ولا لبعضها الآخر وجود دونها ، فما لا يصحّ له هذا من المجتمع والاجزاء لا يكون واجب الوجود لذاته ، / ٢٣٢ MB / بل الواجب هو الّذي يصحّ له ذلك ؛ وإن كان لا يصحّ لتلك الاجزاء مفارقة الجملة في الوجود ولا للجملة مفارقة الأجزاء وكان وجود كلّ واحد متعلّقا بالآخر وليس واحد أقدم بالذات فليس شيء منها بواجب. على أنّ الأجزاء بالذات أقدم من الكلّ. وليس يمكننا أن نقول : إنّ الكلّ أقدم بالذات من الأجزاء ، فهو إمّا أن يكون متأخّرا ، وامّا يكون مقارنا ؛ فالأوّل باطل ـ لأنّ ما فرض أنّه واجب بالذات لا يكون شيء أقرب منه إلى الوجود ـ ؛ والثاني

٥٤١

أيضا باطل ، لأنّ العقل يحكم بأنّ الجزء الحقيقي والكلّ لا يكونان في مرتبة واحدة ؛ هذا.

وأمّا ما يدلّ على خصوص أنّ الواجب ـ سبحانه ـ ليس له اجزاء مقدارية فهو إنّه لا ريب في تشابه الجزء المقداري وكلّه في الحقيقة النوعية ـ كما قرّره الحكماء في ردّ مذهب ذيمقراطيس ـ. وحينئذ نقول : لو كان للواجب جزء مقداري فهو إمّا ممكن ـ فيلزم أن يخالف الجزء المقداري كلّه في الحقيقة ، وهو خلاف ما قرّروه ـ ؛ وإمّا واجب فيكون الواجب بالذات غير موجود بالفعل ، بل بالقوة ـ لأنّ الأجزاء المقدارية ليست موجودة بالفعل بل اجزاء تحليلية بالقوة ـ ، وهو ـ أعني : كون الواجب بالقوّة ـ بديهى البطلان.

ويقرب من هذا الاستدلال ما استدلّ به بعض الأفاضل حيث قال : إنّ الواجب لذاته لمّا كان هو الوجود المتأكّد فان كان له اجزاء مقدارية تحليلية فجزؤه المقداري التحليلي إمّا وجود متأكّد أو أمر آخر ، وعلى الأوّل يلزم كون ذلك الجزء واجبا لذاته ـ بناء على ما سبق من أنّ الوجود المتأكّد يكون واجبا لذاته ـ ؛ وعلى الثاني يكون ذلك الجزء ممكنا لذاته ـ لأنّ ما عدا الوجود المتأكّد لا يكون واجبا ـ ، فيلزم أن يخالف الجزء المقداري كلّه في الحقيقة ، مع أنّه قد تقرّر عندهم أنّ الجزء التحليلي لا يخالف الكلّ في الحقيقة. قال بهمنيار في التحصيل : اعلم! أنّ الماء والخمر مثلا لا يصلح أن يكون بينهما وحدة بالاتصال حقيقة ، فانّ الموضوع للمتصل بالحقيقة جسم بسيط متفق بالطبع ، والحكماء ردّوا مذهب ذيمقراطيس بأنّ الأجزاء الفرضية لتلك الأجسام يشارك الكلّ في الحقيقة ويشارك باقي الأجزاء فيها ، فكون الجزء ممكنا مع كون الكلّ واجبا باطل ـ بناء على ما قرّروه ـ.

فان قيل : توافق الأجزاء المقدارية للكلّ في الحقيقة ممنوع ، ولم لا يجوز أن تكون الحقائق المتباينة لها اتصال واحد؟! ، ونظير ذلك ما ذكره المشّاءون من أنّ ما فيه الحركة إذا كان كيفا فهناك كيفية بسيطة متصلة صالحة لأن ينقسم إلى كيفيات مختلفة الحقيقة ، وبالجملة العقل لا ينقبض في بادي الرأي من أن يكون للأجسام المختلفة الحقيقة اتصال واحد ، ولا بدّ لنفي ذلك من بيان.

٥٤٢

قلنا : قد أشرنا فيما سبق أنّ كلّ حقيقة نوعية أو جنسية لا بدّ أن يكون بين اجزائها علاقة لزومية وارتباط ايجابي وإلاّ لم يتصوّر تركّبها من تلك الأجزاء وحصول التأليف بينها ، ولا ريب في أنّ الأمور المتباينة المتفاصلة المستغنية بعضها عن بعض لا يتصوّر بينها علاقة لزومية ، وهذا مع بداهته وحكم الفطرة السليمة عليه قد تبيّن في العلم الإلهي بوجوه برهاني.

ثمّ الحق إنّ الأجزاء المقدارية التحليلية وإن لم تكن اجزاء موجودة بالفعل إلاّ أنّه لا ريب في انّها اجزاء نفس أمرية واقعية ، كيف وقد بيّنا أنّ الأجزاء العقلية اجزاء واقعية نفس امرية ، فكيف لا تكون الأجزاء المقدارية كذلك؟! ، / ٢٣٥ DA / فلو تركّب الواجب منها لزم افتقاره إلى غيرها ؛ ولزم تقدّم غير الواجب عليه بالوجود.

وبذلك يظهر تمامية ما استدلّ به المعلم الثاني في الفصوص على نفي تركّبه ـ سبحانه ـ من اجزاء القوام حيث قال : إنّ وجوب الوجود لا ينقسم باجزاء القوام ـ مقداريا كان أو معنويا ـ وإلاّ لكان كلّ جزء منه إمّا واجب الوجود ـ فيتكثّر واجب الوجود ـ ، وإمّا غير واجب الوجود وهو أقدم بالذات من الجملة ، فيكون الجملة ابعد من الوجود(١) ؛ انتهى.

ومراده من الشقّ الثاني إنّ كلّ ما هو جزء الشيء يجب أن يكون متقدّما بالوجود على ما هو جزء له ، فاذا فرض أنّ غير الواجب يكون جزء له فلا بدّ أن يكون ذلك الغير متقدّما عليه بالوجود ويكون أقرب إلى الوجود بالقياس إلى الواجب مع كون ذلك الغير ممكنا ، فيلزم أن يكون الممكن متقدّما على الواجب بالذات / ٢٣٣ MA / بالوجود ؛ وهو باطل.

وأيضا إذا فرض أنّ الشيء يكون واجب الوجود فلا معنى لكون شيء آخر اقرب منه إلى الوجود ، لأنّه ليس شيء أقرب إلى الوجود من الواجب بالذات ، لأنّ نسبة الوجود إلى الواجب بالذات نسبة الذاتي ـ بناء على عينية الوجود في الواجب بالذات ـ ، ونسبة الوجود إلى الممكن بالذات نسبة العرض الخارج عن الذات المعلّل لغير الذات ،

__________________

(١) راجع : فصوص الحكم ، الفص ٩ ؛ نصوص الحكم ، ص ٤٦.

٥٤٣

فيكون وجود الممكن بالذات أمرا غريبا مستفادا من الغير.

والوجه في تماميته ما ذكره المعلم الثاني : إنّ الأجزاء المقدارية كما عرفت اجزاء واقعية نفس أمرية ، فلو تركّب الواجب منها يلزم ما ذكره من الفساد.

والعجب أنّ المحقّق الدواني بعد نقل هذا الاستدلال من الفارابي قال : وهذا كلام مظلم! ، لأنّ الأجزاء التحليلية للشيء ليس لها تقدّم على الشيء ، لأنّ ذلك الشيء بسيط لا يسبقه وجود تلك الأجزاء ، فتلك الأجزاء اجزاء وهمية له ، فلا يلزم تقدّمها عليه بحسب الوجود الخارجى ؛ انتهى.

ودفعه ما ذكرناه من أنّ الأجزاء التحليلية اجزاء نفس أمرية واقعية ، فتقدّمها على الكلّ بديهي. على انّك قد عرفت أنّ الأجزاء الفرضية لتلك الأجسام يشارك الكلّ في الحقيقة ويشارك باقي الاجزاء فيها ، فيصحّ عليها من الافتراق والاتصال ما يصحّ على غيرها من الأجزاء الموجودة بالفعل ، فحينئذ ما يتصوّر أن يكون له جزء تحليلي يلزم أن يكون له جزء خارجي ، فيكون الواجب لذاته مفتقرا إلى الجزء الخارجي. وحينئذ نعود ونقول : إنّ ذلك الجزء إن كان وجودا متأكّدا كان واجبا لذاته ، فيكون موجودا بالفعل لا جزء تحليليا ، مع أنّه يلزم تعدّد الواجب بالذات ؛ وإن كان غير الوجود المتأكّد يكون ممكنا لذاته ، فتغاير الكلّ بالحقيقة ويكون جزء خارجيا أيضا لا تحليليا ، مع أنّه يلزم منه تركّب الواجب من الممكن.

ثمّ إنّه قد أجيب عن ايراد المحقّق الدواني أيضا : بأنّ ذات الجزء التحليلي مقدّم على البسيط بمعنى أنّ العقل إذا قاس الكلّ وذلك الجزء إلى الوجود يحكم بتقدّم ذات الجزء عليه ، وذلك لا ينافي تأخّر وصف الجزئية عنه ، فذات الجزء مقدّم ووصف الجزئية متأخّر.

وهذا الجواب عند التأمّل أيضا صحيح لا غبار عليه ، لأنّه لا ريب في تقدّم ذات الجزء على الكلّ ، وهو كاف للزوم الفساد.

وما قيل في دفعه ظاهر الضعف!.

وحاصل الدفع : إنّ ذات الجزء التحليلي أمر ينتزع العقل بمعونة الوهم من

٥٤٤

المتصل ؛ فان أريد بالذات هذا المعنى فهو ليس متقدّما على المتصل في الوجود الخارجي ؛ وإن أريد به مأخذ هذا الجزء وما انتزع هو منه فذلك هو المتصل نفسه ، فلا يتقدّم على نفسه. وبالجملة إنّ المتصل الواحد ما لم ينفصل إلى الأجزاء لم تكن هناك إلاّ ذات واحدة لا ذوات متعدّدة ، وإذا انفصل إلى الأجزاء فقد انعدمت الذات الواحدة وحدث ذوات متعدّدة ، فلم يتحقّق ذات واحدة مشتملة على الذوات المتعدّدة ؛ انتهى.

ووجه الضعف : إنّ ذات الجزء المقداري له تحقّق في الواقع ونفس الأمر مع قطع النظر عن انتزاع الوهم ، فله تقدّم بحسب الواقع ونفس الأمر.

ثمّ إنّه لمّا ثبت أنّ الواجب ليس له اجزاء مقدارية يظهر منه أنّه ـ سبحانه ـ ليس جسما ولا جسمانيا ـ لعدم انفكاك الجسم عن الأجزاء المقدارية ـ.

ثمّ / ٢٣٥ DB / لمّا كان تجرّد الباري ـ سبحانه ـ عن الجسمية ركنا عظيما في باب التوحيد واثباته من أهمّ المطالب الإلهية ، نظرا إلى مخالفة بعض الطباعية ـ خذلهم الله ، حيث ذهبوا إلى قدم الافلاك والعناصر وكونها موجودة بذاتها ومؤثّرات فيما بعدها من الموجودات واجبة بانفسها من دون احتياج إلى مؤثّر ـ ، فلا بدّ لنا من اقامة بعض آخر من البراهين على عدم كون الواجب جسمانيا ـ تقوية للاعتقاد وازالة للشبهات الوهمية ـ.

فنقول : من البراهين على ذلك إنّ الجسم مركّب من الأجزاء المقدارية ومن الهيولى والصورة ، وتلك الأجزاء متقدّمة عليه بالوجود وهو مفتقر في تحقّقه إليها ، فلو كان الواجب جسما لكان غيره متقدّما عليه بالوجود وكان محتاجا إلى الغير ؛ وهو باطل ؛ ولا يجوز أن يكون جسمانيا ـ أعني : قوّة لجسم أو صورة له ـ لتوقّف وجوده على الجسم. والقول بأنّه ليس كلّ قوّة أو صورة لجسم عرضا قائما به ـ إذ / ٢٣٣ MB / من القوى والصور ما لا يكون عرضا ولا قائما بالجسم من حيث ذاته ولا محتاجا إليه من كلّ وجه ، فيجوز أن يكون ذات الصورة أمرا مقوّما للجسم مقدّما عليه ، ثمّ يتوقّف في أفعاله ولوازمه وتعيناته على ذلك الجسم ـ ، ففيه : إنّ توقّف الصورة في أفعالها ولوازمها على الجسم يكفي لنفي كونها واجبة ، إذ الاحتياج بأيّ وجه كان ينافي وجوب الوجود.

على أنّه لا ريب في أنّ الصورة بنفسها من دون انضمامها إلى الهيولى لا يمكن أن تكون

٥٤٥

موجودة ، فهى في تحقّقها في الخارج ووجودها في الأعيان محتاجة إلى الغير ، وقد صرّحوا بأنّ الصورة محتاجة في وجودها إلى المادّة والاحتياج ينافي وجوب الوجود ، فلا يمكن أن تكون الصورة واجبة الوجود. وكذا لا يمكن أن تكون الهيولى واجبة الوجود ، إذ المادة انّما هي محض القوّة ولا يمكن أن يكون شيء في الواجب بالقوّة ، إذ لو وجد في الواجب ماهية القوّة لكانت ممكنة الحصول له وإلاّ لم يكن معنى لكونها بالقوّة ، فيكون للواجب قوة واستعداد بالنسبة إلى هذا الأمر الّذي له بالقوة مع أنّه ـ سبحانه ـ موجود بالفعل ، فيكون مشتملا على القوّة والفعل معا ، وكلّ مشتمل على القوّة والفعل يكون مركّبا ، فيكون الواجب مركّبا ؛ وهو باطل ـ كما تقدّم ـ.

وأيضا : لو كان للواجب شيء ممكنا فان لم يكن حصوله متوقّفا على شيء خارج عن الذات بل كان متوقّفا على مجرّد الذات لم يجز أن يكون ذلك الشيء بالقوّة ـ لأنّ الذات موجودة بالفعل وهو علّة مستقلّة له ، ووجود العلّة مستلزم لوجود المعلول ـ ؛ وإن كان متوقّفا على أمر آخر سوى الذات لزم احتياجه إلى الغير ؛ وهو باطل.

ومنها : إنّ تاثير كلّ جسم في غيره انّما هو بمشاركة الوضع ولا يتصوّر وضع بالنسبة إلى ما لم يوجد ـ ولذا حكموا بأنّ الجسم لا يوجد جسما آخر ـ ، فلو كان الواجب جسما لم يقدر على ايجاد شيء أصلا ، فلزم أن لا يكون غيره موجودا ـ لعدم تصوّر وضع له بالقياس إلى غيره ممّا لم يوجد من المجرّدات والمادّيات ـ.

ومنها : إنّ كلّ جسم مركّب من المادّة والصورة وكلّ مركّب من المادّة والصورة مفتقر إلى فاعل من خارج عن ذاته ، لأنّ الجزء المادّي في ذاته أمر مبهم لا يتحصّل إلاّ بالصورة ، والجزء الصوري لو كان فاعلا لمادّته مستغنية به في وجودها عن فاعل آخر ولم يكن قيامه بمادّة بل كلّ ذي مادّة كما يفتقر إلى تلك المادّة في وجوده وكذا يفتقر إلى المادّة في فعله وايجاده ، لأنّ الايجاد متقوّم بالوجود ، فالمفتقر إلى شيء في الوجود يلزمه أن يفتقر إليه في الايجاد أيضا ، فلا يمكن أن تكون الصورة فاعلة للمادّة ، فلو كان الواجب ـ تعالى ـ جسما يلزم افتقاره إلى خالق آخر في وجوده وفي صنعه جميعا ، واللازم باطل ، فكذا الملزوم ؛ هذا.

٥٤٦

وأمّا ما يدلّ على خصوص أنّ الواجب ليس له اجزاء عقلية فوجوه :

منها : إنّ احتياج الجنس إلى الفصل ليس في مفهومه من حيث هو هو ـ كما هو مقرّر عندهم ـ ، بل في أن يوجد ويحصل بالفعل ، فانّ الفصل كالعلّة المفيدة للجنس باعتبار بعض الملاحظات العقلية ، فلو كان للواجب جنس وفصل فجنسه إمّا يكون مفهوما غير الوجود / ٢٣٦ DA / المتأكّد ـ فيكون واجب الوجود ذا ماهية ، وقد تقدّم أنّه ليس له ماهية سوى الوجود ـ ؛ وإمّا عين الوجود المتأكّد ـ فلا يحتاج في أن يوجد إلى فصل ، فيكون ما فرضناه فصلا غير فصل ، وكذا ما فرضناه جنسا غير جنس ـ. وإذا انتفت عنه ـ سبحانه ـ الأجزاء العقلية يلزم منه انتفاء الأجزاء العينية ـ كالمادّة والصورة الخارجيتين ـ ، إذ كلّ بسيط في التصوّر بسيط في الخارج دون العكس. فجميع ما يدلّ على انتفاء الاجراء العقلية عنه ـ سبحانه ـ يدلّ على انتفاء الأجزاء الخارجية عنه ـ تعالى ـ أيضا.

ومنها : إنّه لو كان للواجب اجزاء عقلية فلا يخلوا : إمّا أن يكون جميعها أو بعض منها محض حقيقة الوجود ، أو لا يكون شيء منها كذلك ، وعلى التقادير يمتنع الحمل ، وهو خلاف الفرض.

ومنها : إنّ الواجب لو كان له اجزاء عقلية من الجنس والفصل لكان حقيقة نوعية ، وإذا كان حقيقة نوعية احتاج في وجوده الخارجي إلى تشخّص زائد على حقيقته ـ سواء كان محصورا في فرد كالعقل أو الشمس أو لا ، اذ الماهية النوعية لكونها كلّية لا يمكن أن يكون التشخّص عين ذاتها ـ. وإذا كان تشخّصه زائدا على ذاته نقول : إنّ التشخّص انّما هو سبب في كون الشيء موجودا بالفعل لا في تقويم معنى الذات وتقريره ، وكما أنّ النوع لا يحتاج إلى الفصل في كونه متصفا بالمعنى الجنسي ـ بل في كونه محصّلا / ٢٣٧ MA / بالفعل ـ فكذلك الشخص لا يحتاج إلى التشخّص في كونه متصلا بالمعنى الّذي هو النوع ، بل يحتاج إليه في كونه متصفا بالوجود.

ثمّ إنّه لمّا ثبت أنّ واجب الوجود مهيته عين وجوده فكلّ ما كان مقوّما لوجوده يكون مقوّما لسنخ حقيقته ، فلو كان حقيقته متشخّصة بتشخّص زائد على ذاته لكان

٥٤٧

التشخّص محتاجا إليه في تحقّق المعنى النوعى وتقويمه ، وهو باطل ـ كما أشير إليه ـ ، فيجب أن يكون الواجب بالذات متشخّصا بنفس حقيقته لا بأمر زائد عليه ـ أي : يكون حقيقته عبارة عن تشخّصه ، كما أنّه عبارة عن نفس وجوده ، بل الوجود والتشخّص أمر واحد فيه سبحانه ، كما أشير إليه قبل ذلك ـ ؛ وحينئذ فالواجب ـ سبحانه ـ هو الوجود البحت فلا يكون نوعا مركّبا من الجنس والفصل ولا جنسا ولا يوصف بأنّه كلّي وجزئي ـ أي : شخص لطبيعة مرسلة ـ ، بل هو متميز بذاته منفصل بنفسه عن سائر الموجودات لا بامر فصلي أو عرضي ؛ وإذ لا جنس له ولا فصل له فلا حدّ له واذ لا حدّ له فلا علّة له.

وأمّا ما يدلّ على أنّ الواجب ـ سبحانه ـ ليس من الأجزاء العقلية ـ أعني : الجنس والفصل ـ فهو أنّ الأجزاء العقلية اجزاء تحليلية غير مستقلّة في الوجود ، وعدم الاستقلال في الوجود ينافي وجوب الوجود. وأيضا لا يمكن أن يكون الواجب جنسا ، لأنّ الجنس جزء الذات لا تمامه ، فلا بدّ له من جزء آخر يكون فصلا له ، فيلزم التركيب ؛ وهو باطل.

٥٤٨

الفصل الثاني

في نفي الشريك عنه ـ سبحانه ـ

٥٤٩

( الفصل الثاني )

( في نفي الشريك عنه ـ سبحانه ـ )

وهو توحّده في وجوب وجوده.

والبراهين على هذا المطلب الأسنى أكثر من أن يحصى ، ونحن نكتفي هنا بذكر عدّة براهين هي اقوى البراهين وأتمّها.

فمنها : إنّه قد ثبت أنّ الواجب ـ سبحانه ـ صرف الوجود ومحض الموجود ولا تعدّد في صرف الشيء ومحوضته ، وهذا بديهي حدسي كشفي ، قال الشيخ الإلهي في التلويحات : « صرف الوجود الّذي لا أتمّ منه كلّ ما فرضته ثانيا فاذا نظرت فهو هو ، إذ لا ميز في صرف شيء »(١) .

وتوضيح ذلك : انّ الواجب يجب أن يكون لمحوضة الوجود موجودا من غير ثبوت غير الوجود وممازجته معه ، لأنّ غير الوجود ليس إلاّ الماهية الفاقدة في مرتبة تقرّرها للفعلية ، وفقد الفعلية والوجود في أيّ مرتبة كانت ينافي كون الشيء واجبا ـ لتطرّق العدم حينئذ فيه ـ ، فلو كان الواجب متعدّدا فلا يوجد ـ لمحوضة الوجود ، لأنّ التعدّد والامتياز بعد زوال الجهة المشتركة الساذجة إلى مقام التعدّد والغيرية ـ. و

__________________

(١) راجع : التلويحات ، ص ٣٥.

٥٥٠

التالي ـ أعني : عدم كون الواجب موجودا يعرضه الوجود ـ باطل ، فكذا المقدّم ـ أعني : تعدّد الواجب ـ.

وإلى ما ذكرناه أشار بعض المشاهير حيث قال : صرف الوجود من حيث هو موجود لا يتوهّم كثرته وتعدّده ، فصرف الوجود موجود باعتبار ذاته ولا يتكثّر من حيث هو موجود ؛ وهو المطلوب ، إذ لا نعنى بوحدة واجب الوجود إلاّ كونه موجودا بدون الكثرة ، ولهذا قيل : إنّ الوحدة في واجب الوجود من لوازم نفي الكثرة وفي غيره نفي / ٢٣٦ DB / الكثرة من لوازم الوحدة ؛ انتهى.

والمراد من قوله : « ولهذا قيل : انّ الوحدة في واجب الوجود ـ إلى آخره ـ » الاستشهاد بكلام القوم على أنّ الواجب بمحض ذاته موجود من دون تصوّر الكثرة فيه. ولاقتضائه نفي الكثرة يكون واحدا ، فانّه ـ تعالى شأنه ـ لمّا كان موجودا بمحوضة الوجود والاطلاق من غير أن يكون له ماهية أو ارتباط بالسبب فهو بنفس ذاته بحيث ينتزع منه نفي الكثرة ، وهو مستلزم للوحدة ، فالوحدة في الواجب من لوازم نفي الكثرة ، فانّه ما لم يتحقّق سلب جميع وجوه الكثرة واقسامها لم يتحقّق الوحدة الصرفة الحقّة ، فالوحدة الصرفة الحقّة من لوازم سلب الكثرة. وأمّا الممكن لمّا لم يكن موجودا بصرافة الوجود واطلاقه بل بالماهية المشخّصة المرتبطة بالجاعل التامّ فهو بحسب مهيته يحتمل الكثرة ، لأنّ له جنسا وفصلا ولكن بحسب الجاعل يكون واحدا موجودا ، فوحدته ليست من لوازم نفي الكثرة ، بل نفي الكثرة من لوازم وحدته الحاصلة من الجاعل.

ثمّ اعترض على هذا الدليل بانّه انّما يتمّ لو كان معنى عينية الوجود في الواجب كونه عين معنى الوجود ـ لأنّ عين الوجود ومحضه لا يتكثّر ـ ، و/ ٢٣٤ MB / أمّا على التحقيق الصحيح في معنى العينية من كون الواجب لمحض ذاته موجودا فلا يتمّ ذلك الدليل ، لورود الشبهة بانه ربما كان ذاتان أو اكثر كذا ـ أي : كون الجميع لمحض ذاته موجودا ـ ؛ انتهى.

وفيه : انّا بيّنا بالبراهين القاطعة أنّ الواجب صرف الوجود وعينه ، فالاعتراض

٥٥١

مندفع.

ومنها : إنّه لا يمكن تعدّد الواجب بالذات ، إذ حقيقته محض الوجود من حيث هو وجود وكلّ شيء حقيقته محض الوجود يكون متشخّصا بنفس حقيقته ، إذ لا يمكن أن يكون تشخّص حقيقة الوجود بشيء آخر ، وإلاّ لزم الاحتياج المنافي للوجوب.

ومنها : إنّ الواجب ـ كما علم ـ صرف الوجود ومحض الموجود ، ولا يتصوّر في محوضة المعنى الواحد التعدّد ـ لتساوي محض الشيء بالنسبة إلى مراتب الأعداد الّتي فوق الواحد ـ. والحاصل : إنّ الواجب ـ سبحانه ـ يجب أن يكون موجودا بمحوضة الوجود في الخارج ، ونسبة محض الشيء إلى المراتب الكثيرة الّتي فوق الواحد في أن يوجد متساوية ، فلو كان الواجب متعدّدا فوجوده في مرتبة من مراتب الأعداد الّتي فوق الواحد دون سائر المراتب يوجب الترجيح بلا مرجّح.

والفرق بين هذا الدليل والّذي قبله : إنّه أخذ في هذا الدليل تساوي مراتب الاعداد إلى الواحد الصرف وجعل ذلك برهانا على عدم التعدّد في محوضة المعنى الواحد ؛ وفي الدليل السابق لم يؤخذ ذلك ، بل ثبت عدم التعدّد في صرف الوجود من طريق آخر ـ كما ذكرناه ـ.

وإلى هذا الدليل اشار بعض المشاهير حيث قال : حقيقة وجوب الوجود الّذي هو محض الوجود يجب أن يكون لصرافته ومحوضته موجودا ، ولا يتصوّر في محوضة المعنى الواحد التعدّد ـ لتساوي مراتب الاعداد فوق الواحد ـ ؛ فواجب الوجود موجود واحد لا شريك له في محوضة الوجود ، ووجوب الوجود ووحدته عبارة عن وجوده بلا شريك أو نظير ؛ انتهى.

وقوله : « وحدته عبارة ـ إلى آخره ـ » اشارة إلى دفع ما ربما يقال : إنّه يلزم على هذا الدليل أن يكون حقيقة وجوب الوجود مقتضية للوحدة ، وهذا غير موافق للتحقيق ، لأنّ المذهب الحقّ أنّ وحدة الواجب ـ تعالى ـ ووجوده وسائر صفاته الكمالية عين ذاته وليس ذات الواجب شيئا مغايرا مقتضيا لوحدته ، ووجوده وسائر صفاته الكمالية ؛

٥٥٢

وحاصل الدفع : إنّ المراد من اقتضاء الوحدة هو أنّه موجود بلا شريك ، لا أنّه يقتضي الوحدة أو غيرها.

واعترض على هذا الدليل : باحتمال وجود صرف الوجود في جميع المراتب بأن يكون وجود محوضة المعنى في جميع مراتب الاعداد الّتي فوق الواحد معنى يكون الواجب غير متناهي الافراد ، وعدم التناهي هنا لا يمكن ابطاله بأدلّة بطلان التسلسل ـ لعدم وقوع الترتيب بين الافراد ـ.

والجواب عنه : أمّا أوّلا إنّ وجود محوضة المعنى الواحد في جميع المراتب يوجب الترجيح بلا مرجّح أيضا ، لأنّ وقوعه في جميع المراتب مع امكان وجوده في سائر المراتب الّتي فوق الواحد تحكّم بحت وترجيح من غير مرجّح ؛

وامّا ثانيا : إنّا بيّنا بطلان عدم التناهي في الأمور الموجودة وإن لم يقع الترتيب بينها ؛ هذا.

والأكثر جعلوا هذا البرهان / ٢٣٧ DA / برهانين مستقلّين ، فانّهم جعلوا ما ذكر أوّلا من عدم تصوّر التعدّد في محوضة المعنى الواحد برهانا وجعلوا ما ذكروا ثانيا ـ أعني : تساوي نسبته إلى المراتب الّتي فوق الواحد ـ برهانا آخر. بيان الأوّل : انّه قد ثبت أنّ واجب الوجود يجب أن يكون صرف وجوب الوجود ، يعنى يكون واجب الوجود عين وجوب الوجود فقط لا وجوب الوجود مع أمر آخر ، فاذا كان الواجب صرف وجوب الوجود فلم يتصوّر التعدّد ، لأنّ كلّ معنى من المعاني باعتبار صرافته ومرتبة محوضته لا يتصوّر فيه تكثّر أصلا ، ولا خصوصية لهذا الحكم بوجوب الوجود ، فانّ الانسان أيضا باعتبار صرافته ومحوضته لا يتصوّر فيه تكثّر ، فاذا كان الأمر كذلك فلا يتصوّر تعدّد الواجب. وبهذا القدر يتمّ البرهان ولا يحتاج إلى ضمّ شيء آخر. وهذا البرهان قريب من سابقه.

وبيان الثاني : إنّ الحقائق إمّا مادّية يكون لها امكان استعدادي ؛ أو مجرّدة ، والحقائق المجرّدة يجب أن يكون كلّ منها منحصرا في الفرد ـ لأنّ مراتب الاعداد فوق الواحد متساوية بالنسبة إليه ـ ، فثبوت بعض من تلك المراتب دون بعض آخر ترجيح

٥٥٣

بلا مرجّح بخلاف الحقائق المادّية ـ أي : الحقائق الّتي لها امكان استعدادي ، فانّه لمّا كان لها امكان استعدادي يجوز أن يثبت لها بعض تلك المراتب دون بعض آخر منها بواسطة الامكان الاستعدادي ، فلا يلزم ترجيح بلا مرجّح ـ ؛ ووجوب الوجود بالذات من الحقائق الّتي ليس لها امكان استعدادي ، فمن ثبوت بعض مراتب الاعداد فوق الواحد له دون بعض يلزم الترجيح.

وقد ذكر ذلك الشيخ في مواقع من الشفا لاثبات انّ الطبائع الّتي ليس لها امكان استعدادي يجب أن يكون منحصرة في الفرد ؛ وإلى هذا البرهان أشار بعض المشاهير حيث قال : ومن براهين / ٢٣٥ MA / التوحيد إنّ الوجود الحقيقي الّذي هو عين ذات الوجود امّا أن يمتنع تعدّده أو لا ؛ فعلى الأوّل يلزم المطلوب ؛ وعلى الثاني يلزم الترجيح بلا مرجّح ، لأنّ نسبة جميع الاعداد إليه واحدة ، فترجيح الاثنى أو عدد آخر على باقي الأعداد ترجيح بلا مرجّح ، وهو محال ؛ فبقى الأوّل الّذي هو مستلزم للمطلوب.

ومنها : إنّ وجوب الوجود الّذي هو تأكّد الوجود ومحض حقيقة الوجود وهو الواجب ـ سبحانه ـ إمّا أن يقتضي الوحدة ؛ أو يقتضي التعدّد ؛ أو لا يقتضي شيئا منهما ؛ فعلى الأوّل يلزم المطلوب ـ إذ حقيقة وجوب الوجود إذا اقتضى وحدة لم يكن مشتركا وكان واحدا محضا ـ ، وعلى الثاني يلزم تحقّق الكثير بلا واحد ، لأنّ صرف الوجود حينئذ ليس مقتضاه الوحدة بل مقتضاه الكثرة ، فكلّ ما صدر عنه يكون كثيرا لا واحدا ، لأنّه مخصّص للكثرة. وأيضا كلّ فرد من تلك الحقيقة المقتضية للكثرة يكون مشتملا على تلك الطبيعة ، والمفروض انّها علّة تامّة للكثرة ، فيكون حكم الفرد والطبيعة واحدا ، فكيف يتصوّر وجود الواحد؟. قال المعلم الثاني : المعنى الوحداني لا يتكثّر بذاته وإلاّ لم يوجد الكثرة أيضا ، لأنّ الكثرة مركّبة من الآحاد ، فاذا فرضنا أنّ المعنى الواحد يتكثّر بذاته فقد ابطلنا الكثرة ؛ انتهى.

وبالجملة الكثرة لا يجوز أن يكون من لوازم حقيقة واحدة بمعنى أنّ الحقيقة الواحدة تصير متكثّرة بذاتها بلا مدخلية أمر آخر وانضمام شيء آخر إليها. وعلى الثالث يلزم الاحتياج إلى الممكن الّذي لا اقتضاء له أصلا ، لأنّ أحدهما ـ أعني :

٥٥٤

الوحدة والتعدّد ـ واقع قطعا ، فلا بدّ له من مقتض ، فلو لم يكن مقتضيه نفس حقيقة الوجود ـ على ما هو الفرض ـ لكان مقتضيه غيره من الممكنات ، فلزم الاحتياج إلى الممكن ، وهو باطل. وأيضا لا خفاء في أنّ ذلك الاحتياج ـ أي احتياج تحقّق الوحدة أو التعدّد إلى الممكن ـ يعود إلى اقتضاء حقيقة بعض الوجود ـ أي : إلى اقتضاء وجوب الوجود ـ ، لأنّ اقتضاء الممكن إلى الشيء ينجرّ إلى اقتضاء حقيقة الواجب ـ أي : يؤول إلى أنّ حقيقة الوجوب يقتضي التعدّد أو الوحدة ـ لوجوب انتهاء سلسلة الامكانيات إليه / ٢٣٧ DB / ـ تعالى ـ ، فرجع حينئذ الأمر إلى اقتضاء حقيقة الوجود الوحدة أو التعدّد ، والأوّل يستلزم المطلوب ، والثاني يوجب تحقّق الكثير بما هو واحد ، وهو باطل ـ كما مرّ ـ.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ كون غير الوجود المحض ـ أعني : الممكن ـ مقتضيا لأحدهما ـ أعني : التعدّد والوحدة ـ باطل بوجهين :

أحدهما : إنّ الممكن لا اقتضاء له أصلا ؛

وثانيهما : إنّه ينتهى اقتضاء الممكن إلى اقتضاء حقيقة الوجود. وإذ ابطل هذا الشقّ ـ أعني : الشقّ الثالث ـ بقي الشقّان الأوّلان ـ أعني : اقتضاء حقيقة الوجود الوحدة أو التعدّد ـ ، والأوّل يستلزم المطلوب والثاني باطل للزوم تحقّق الكثير بلا واحد.

ثمّ إنّه اعترض على هذا الدليل أمّا أوّلا : فبانّه إن أراد بحقيقة الوجود الّذي يقتضي الوحدة أو التعدّد الوجود الخاصّ الّذي ثبت كونه عين الواجب نختار إنّه يقتضي الوحدة ولا يثبت به الوحدة الّتي هي المطلوب ، لجواز أن يكون الوجود الخاصّ لكلّ من المتعدّد مغايرا بالذات للوجود الخاصّ للآخر ويكون عين كلّ منها ومقتضيا للوحدة ، وهو واحد ، إذ كلّ منهما واحد وما ثبت اشتراكه معنى انّما هو الوجود المطلق لا الخاصّ ؛ وإن أراد بحقيقة الوجود الوجود المطلق نختار الشقّ الثالث ـ أعني : عدم اقتضائه لأحدهما ـ. وما ذكر من أنّه يلزم حينئذ الاحتياج إلى الممكن ، فهو ممنوع ، إذ الوجود المطلق زائد على ذات الواجب ، فجاز أن يكون مقتضى تعدّد هذا الوجود الزائد

٥٥٥

أو وحدته هو ذات الواجب المغاير بالذات لذات الواجب الآخر ـ تعالى عن ذلك ـ ؛

وأمّا ثانيا : فبأنّا نختار الشقّ الثاني ـ أي : إنّ حقيقة الوجود يقتضي التعدّد ـ ، وما ذكر من أنّه يلزم حينئذ تحقّق الكثير بلا واحد فهو ممنوع ، لجواز أن يكون مقتضيا لتعدّد مخصوص لكونه اثنين أو ثلاثا مثلا ـ أي : مقتضيا لأن يكون نوعا منحصرا في ثلاثة أفراد أو اثنين مثلا ـ ، فيكون مقتضيا لأن يكون كلّ فرد من افراده موجودا مع فرد آخر منه أو / ٢٣٥ MB / مع اثنين آخرين ، ولا محذور فيه ؛ انتهى.

والجواب عن الاعتراض الأوّل : إنّ المراد بحقيقة الوجود الّذي ورد فيه بانّه يقتضي الوحدة أو التعدّد هو صرف الوجود البحت الموجود في الخارج المتحقّق في الأعيان ، وهو الوجود الواجبى الخاصّ الّذي هو عين ذاته دون المطلق الاعتباري الزائد على الذات. وما ذكر من أنّه يجوز أن يكون وجود الخاصّ متعدّدا ويكون كلّ من الوجود الخاصّ مغايرا بالذات للوجود الخاصّ الآخر ويكون كلّ وجود خاص واجبا وعينا للذات ومقتضيا لوحدة نفسه ، ففيه : إنّ الوجود الخاصّ الواجبي انّما هو بحت الوجود الخاصّ ـ كما تقدّم بيانه ـ ، وبحت الوجود ومحضه لا يتعدّد بنفسه حتّى يكون فردا منه مغايرا بالذات للفرد الآخر منه ـ لكونه حقيقة واحدة ومعنى واحدا ـ ؛ وحينئذ فامّا أن يقتضي الوحدة ، فيلزم المطلوب ؛ أو التعدّد ، فيلزم الفساد المذكور.

والجواب عن الاعتراض الثاني : انّه إذا اقتضى الوجود المحض التعدّد فلا معنى لتحقّق فرد واحد منه ، وإذا لم يتحقّق الواحد لم يتحقّق الكثير.

ومن تأمّل يعرف ما في هذا الاعتراض من الاختلال والاشتباه.

ومنها : إنّ حقيقة وجوب الوجود ـ أعني : محض الوجود ـ إمّا أن يكون مقتضيا لأن يكون عين الذات الموجود المتعيّن ، أو يكون شرط وجوب الوجود أن يكون متحقّقا في الموجود المتعيّن ، وعلى التقديرين لا يتحقّق بدون ذلك المتعيّن ، ولا يمكن أن لا يكون مقتضيا لأن يكون عين وجود متعين ولا مشروطا بتحقّقه فيه ، لأنّ المعنى الواحد والحقيقة الصرفة البسيطة لاثبات المختلفات ، فيجب أن يكون مقتضيا لعينية المتعيّن أو مشروطا بتحقّقه فيه وإن كان لغيره مدخل في تحقّقه فيه وذلك الغير ممكن

٥٥٦

لا محالة ، وليس للممكن اقتضاء باعتبار ذاته ، فيعود هذا القسم أيضا إلى اقتضاء حقيقة وجوب الوجود ، فحقيقته يقتضي الوحدة ونفي التشريك.

ومنها : إنّ حقيقة الوجود المحض لا يمكن أن لا يقتضي عدم كثرة الافراد ، وإلاّ لكان لغيره مدخل في ذلك الاقتضاء ، لأنّ الوحدة ما حصل فيه قطعا ـ وإلاّ لم يحصل الفرد أصلا ـ ، فعدم الكثرة حاصل في فرده البتة. فاذا لم يقتضيه الوجود المحض كان / ٢٣٨ DA / للغير مدخل في اقتضاء عدم الكثرة المذكورة ، وغير محض الوجود يحتاج في التحقّق إلى الوجود ، فيعود اقتضاء ذلك الغير بالحقيقة إلى اقتضاء الوجود ، فاذا كان الوجود المحض يقتضي عدم كثرة الافراد كان باعتبار ذاته واحدا لا شريك له ؛ وهو المطلوب.

والفرق بين هذا الدليل والدليل السابق عليه باعتبار تفاوت طريق عود مدخلية الغير إلى الاقتضاء المذكور ، فانّه في السابق باعتبار الامكان وفي هذا باعتبار الوجود.

فان قيل : قد أخذ في هذا الدليل عدم كثرة الافراد مسلّما ، ثمّ بيّن بأنّ مقتضيه يجب أن يكون حقيقة الوجود لا غيره ـ للزوم الفساد المذكور ـ ، مع أنّ الخصم لا يسلّم عدم كثرة الافراد ، فلا وجه لتسليمه وطلب علّته! ؛

قلنا : هذا البرهان مبني على بطلان أمرين قد علم من الادلّة السابقة ؛ أحدهما : كون حقيقة الوجود المحض مقتضية للكثرة ؛ وثانيهما : عدم كونها مقتضية رأسا لا للكثرة ولا للوحدة ، فبقي احتمال ثالث وهو أنّ حقيقة الوجود المحض هل هي مقتضية لعدم كثرة الافراد بذاتها أو لا؟ ، بل عدم كثرة الأفراد ثابت لها باقتضاء غيرها وبسبب غيرها لا باقتضاء ذاتها. واستدلّ على ابطال اقتضاء الغير بانّه لو اقتضى الغير لكان اقتضائه راجعا إلى اقتضاء حقيقة الوجود المحض ، فتعيّن الأوّل ـ وهو أن يكون المقتضي لعدم كثرة الافراد هو حقيقة الوجود المحض ـ ؛ هذا.

وقال بعض المشاهير : جميع براهين اثبات وحدة الواجب موقوف على اتحاد حقيقة الوجود ـ أي : الوجود الحقيقي الّذي باعتباره يتحقّق الموجودات ـ ، وهو الّذي يعبّر عنه بوجوب الوجود ؛ وتلك الوحدة بديهية حدسية. وهذا أظهر من الشمس

٥٥٧

عندي ، فانّ الوجود الحقيقي الّذي باعتباره تكون الموجودات متحقّقة هو شمس عالم العقول والنفوس ، بل نور السموات والارض ؛ وهو في غاية الظهور وبه ظهور كلّ شيء وادراك كلّ ذي ادراك ، وكذلك وحدته بحسب الحقيقة ظاهر عند كلّ من له وجدان صحيح ؛ انتهى.

وقال بعض أعاظم العرفاء : إنّ البراهين الدالّة على وحدة الواجب عندي كثيرة ، لكن تتميم جميعها متوقّف على أنّ حقيقة واجب الوجود بالذات هو الوجود البحت القائم بذاته وأنّ ما يعرضه الوجوب بالتبع فهو في / ٢٣٦ MA / حدّ ذاته ممكن ووجوبه ـ كوجوده ـ انّما يستفاد من الغير ، فلا يكون واجبا. وهذه المقدّمة ممّا انساق إليه البرهان وصرّح به في كتب الفن ـ كالشفاء وغيره ـ.

وستعلم أنّ بعض براهين اثبات التوحيد لا يتوقّف على تسليم كون صرف الوجود واحدا.

ثمّ لا يخفى إنّ البراهين المذكورة تامّة على اثبات وحدة الواجب. ولا يرد على تلك البراهين شبهة ابن كمونة أصلا ، لأنّ حاصل هذه الشبهة : إنّ معنى واجب الوجود ومعنى كون الوجود عين الذات هو أن يكون الذات بمحض الذات من دون اعتبار شيء خارج معها منشئا لانتزاع الوجود منها ، والحكم بانّها موجودة بخلاف الممكن ، فانّه ما لم يعتبر معه علّته لم يصحّ ذلك. وليس معنى وجوب الوجود وعينية الوجود أن يكون الوجود متحقّقا في الخارج ويكون عين الذات ، ولا أن يكون مفهوم الوجود الّذي لا يحصل إلاّ في الذهن عين الحقيقة الخارجية ، وانّكم تجوّزون أن يكون مفهوم الوجود مشتركا بينه ـ تعالى ـ وبين غيره وأن يكون معنى واحد لازما لحقائق مختلفة ، فحينئذ لم لا يجوز أن يكون حقيقتان مختلفتان بتمام الماهية ويكون كلّ واحدة منهما بذاتها منشئا لانتزاع الوجود منها ويكون وجوب الوجود عرضيا لازما مشتركا بينهما ومنتزعا من ذات كلّ واحدة منها بنفس ذاتها ـ كمفهوم نفس الوجود ـ ولا يتحقّق بينهما ما به اشتراك ذاتي حتّى يلزم التركيب في ذاتهما من جنس وفصل أو احتياجهما في التشخّص إلى أمر خارج عن ذاتهما. ولا ريب في أنّ مبنى هذه الشبهة على كون

٥٥٨

وجوب الوجود أمرا عرضيا وعدم كون الذات صرف الوجود ، ومبنى البراهين المذكورة على أنّ وجوب الوجود هو يؤكّد الوجود وكون الواجب صرف الوجود ومحضه وخالص الموجود وبحته وعدم جواز التعدّد في محوضة الشيء ؛ وحينئذ لا مدخلية لهذه الشبهة بالنسبة إلى البراهين المذكورة أصلا ، ولا ورود لها عليها مطلقا.

وقال بعض أعاظم العرفاء : وبما ذكرناه ـ من كون الواجب صرف الوجود القائم بذاته ـ يندفع ما يتكذّب به أذهان الأكثرين بما قيل : لم لا يجوز أن تكون هناك هويّتان بسيطتان مجهولتا الكنه مختلفتان بتمام الماهيّة البسيطة يكون كلّ منهما واجبا لذاته ويكون مفهوم واجب الوجود مخترعا منهما مقولا عليهما قولا عرضيا؟ ؛ إذ قد علمت أنّه لو كان كذلك لكان عروض هذا المفهوم لكلّ منهما أو لأحدهما إمّا معلولا لذات / ٢٣٨ DB / المعروض ، فيلزم تقدّمه بالوجود على نفسه ، وهذا محال ؛ أو معلولا لغيره ، فاستحالته أظهر. بل نقول : لو نظرنا إلى نفس مفهوم الوجود المعلوم بوجه من الوجوه بديهة أو بالنظر إلى أنّ حقيقته وما ينتزع هو منه أمر قائم بذاته هو الواجب الحقّ والوجود المطلق الّذي لا يشعر به عموم ولا خصوص ولا تعداد كلّ ما وجوده هذا الوجود فرضنا لا يمكن أن يكون بينه وبين شيء آخر له أيضا هذا الوجود مباينة وتغاير أصلا ، فلا يكون اثنان ، بل يكون هناك ذات واحدة ووجود واحد ؛ كما اشار إليه صاحب التلويحات بقوله : « صرف الوجود الّذي لا اتمّ منه كلّما فرضته ثانيا فاذا نظرت فهو هو إذ لا ميز في صرف شيء »(١) ، فوجوب وجوده الّذي هو ذاته يدلّ على وحدته كما اشير إليه في الكتاب الإلهي بقوله ـ تعالى ـ :( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ) (٢) .

ثمّ إنّه يأتي بيان ورود هذه الشبهة على بعض البراهين الآتية وحلّها بوجه آخر.

ومنها : الدليل المشهور من الحكماء ، وتقريره : أنّه لو كان واجب الوجود اثنين لكان معنى وجوب الوجود ـ وهو معنى واحد بالضرورة ـ مشتركا بينهما ، فيلزم اعتبار جهة ما به الامتياز ، لأنّ حصول الاثنينية بدون ما به الامتياز محال ؛ ولا ريب في أنّ ما به الامتياز غير ما به الاشتراك ، فيلزم التركيب ، وهو محال.

__________________

(١) راجع : التلويحات ، ص ٣٥.

(٢) كريمة ١٨ ، آل عمران.

٥٥٩

وأورد على هذا الدليل الشبهة الكمونية المشهورة بافتخار الشياطين ؛ وقد عرفت أنّ اثبات التوحيد ممكن من البراهين المتقدّمة الّتي لا يتوهّم ورود هذه الشبهة عليها. وأمّا دفعها عن هذا الدليل المشهور فهو : إنّ وجوب الوجود لو كان عرضيا لكان عروضه لهما محتاجا إلى علّة ، فعلّته إن كانت ذات الواجبين من دون اتصافهما بوجوب الوجود لزم أن يكون غير واجب الوجود علّة لوجوب الوجود ، وهو باطل ؛ وإن كانت ذاتهما / ٢٣٦ MB / مع اعتبار وجوب الوجود فان كان وجوب الوجود الّذي هو العلّة عين وجوب الوجود الّذي هو المعلول لزم تقدّم الشيء على نفسه ، وإن كان غيره ننقل الكلام إليه ، فيلزم التسلسل.

فان قيل : الوجود العامّ المنتزع من الواجب عرضىّ ، فيلزم من عرضيته أحد المفاسد المذكورة ؛

قلنا : الوجود الانتزاعي ليس ممّا يتوقّف عليه العلّة ، لأنّ العلّة انّما هو الوجود الخاصّ وهو الوجود الواجبي ، فيمكن أن يكون علّة لانتزاع هذا المفهوم ، فتقدّم الواجب عليه انّما هو بالوجود الخاصّ ووجوب الوجود ـ لأنّه يتحقّق حقيقة واجب الوجود مع قطع النظر عنه ـ.

وقيل في الجواب عن الشبهة المذكورة : إنّ وجوب الوجود إن لم يكن هو نفسه ذاتيا لهما جنسا أو نوعا حتّى يلزم التركب بل كان عرضا عامّا منتزعا عنهما نقول : هذا العرض إمّا واجب ، أو ممكن ؛ والأوّل باطل ، إذ العرض محتاج إلى المحلّ والمحتاج لا يمكن أن يكون واجب الوجود ؛ والثاني ـ أعني : كون هذا العرض ممكنا ـ أيضا باطل ، لأنّ علّته إن كانت أحدهما فقط دون الآخر لكان معلولا لواجب ودونه ، وإن كانا هما علّة له فان كانت العلّة مستندة إلى أمر مشترك ذاتي لزم التركب ، وإن لم تكن مستندة إليه ـ بل كانت مستندة إلى ذاتيهما المتخالفين ـ لزم اشتراك معنى واحد بين حقائق مختلفة من دون أن يكون تبعا لأمر مشترك ذاتي ، وهو باطل ؛ لأنّ المختلفين من حيث انّهما مختلفان من دون جهة الاشتراك لا يناسبان معنى واحدا حتّى يكونا علّتين له ، فيلزم توارد علّتين مختلفين على معلول واحد شخصي ، ويلزم ارتفاع المناسبة بين العلّة و

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646