جامع الافكار وناقد الانظار الجزء ٢

جامع الافكار وناقد الانظار6%

جامع الافكار وناقد الانظار مؤلف:
المحقق: مجيد هاديزاده
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: 646

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 646 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39471 / تحميل: 6084
الحجم الحجم الحجم
جامع الافكار وناقد الانظار

جامع الافكار وناقد الانظار الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
ISBN: ٩٦٤-٥٦١٦-٧٠-٧
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

باطل.

ومنها : إنّ الواجب صرف الوجود ـ كما بيّناه ـ ، فلو تركّب من الاجزاء فاجزائه إن كانت غير الوجود خرج الواجب عن كونه صرف الوجود ؛ وإن كان كلّ واحد منها أيضا صرف الوجود لزم التعدّد والتكثّر في صرف الوجود ، مع انّا نبيّن في بيان نفي الشريك في وجوب الوجود عنه ـ سبحانه ـ إنّ صرف الوجود لا يتعدّد ـ لا بالانفراد والاستقلال ولا بالتركيب ـ. وأيضا نحن بيّنا إنّ صرف الوجود هو القائم بذاته والمنشأ للآثار الخارجية ولانتزاع مفهوم الوجود بنفسه من غير احتياج إلى شيء آخر ، فلو كان اجزائه أيضا صرف الوجود فان كان كلّ واحد منها أيضا قائما بنفسه منشئا للآثار وانتزع مفهوم الوجود بنفسه فلا معنى لتركّبها والتيامها ؛ أمّا أوّلا فلأنّ كونه / ٢٣٤ DB / جزء وكونه قائما بذاته لا يجتمعان ؛ وأمّا ثانيا فلأنّ التركيب يكون حينئذ لغوا غير مرتّب عليه شيء وإن لم يكن كلّ منها كذلك ولم يكن صرف الوجود ، وقد فرضناه صرف الوجود ، هذا خلف ؛ هذا.

وقد استدلّ الشيخ في النجاة على المطلوب ـ أعني : بطلان تركّب الواجب بالذات من الأجزاء مطلقا ـ بما حاصله : إنّ الواجب لذاته لا جزء له وإلاّ لامكن الواجب لذاته ، لكن التالى باطل ؛ فكذا مقدّمه. أمّا بطلان التالي فهو ظاهر ؛ وأمّا الملازمة فلأنّ كلّ ما هذا شأنه وصفته كان ذات جزء منه ومفهومه ليس هو ذات الجزء الآخر ومفهومه ولا ذات المجتمع ومفهومه ؛ وحينئذ إمّا أن يصلح لكلّ واحد من اجزائه مثلا وجود منفرد ولا يصحّ للمجتمع ولا لبعضها الآخر وجود دونها ، فما لا يصحّ له هذا من المجتمع والاجزاء لا يكون واجب الوجود لذاته ، / ٢٣٢ MB / بل الواجب هو الّذي يصحّ له ذلك ؛ وإن كان لا يصحّ لتلك الاجزاء مفارقة الجملة في الوجود ولا للجملة مفارقة الأجزاء وكان وجود كلّ واحد متعلّقا بالآخر وليس واحد أقدم بالذات فليس شيء منها بواجب. على أنّ الأجزاء بالذات أقدم من الكلّ. وليس يمكننا أن نقول : إنّ الكلّ أقدم بالذات من الأجزاء ، فهو إمّا أن يكون متأخّرا ، وامّا يكون مقارنا ؛ فالأوّل باطل ـ لأنّ ما فرض أنّه واجب بالذات لا يكون شيء أقرب منه إلى الوجود ـ ؛ والثاني

٥٤١

أيضا باطل ، لأنّ العقل يحكم بأنّ الجزء الحقيقي والكلّ لا يكونان في مرتبة واحدة ؛ هذا.

وأمّا ما يدلّ على خصوص أنّ الواجب ـ سبحانه ـ ليس له اجزاء مقدارية فهو إنّه لا ريب في تشابه الجزء المقداري وكلّه في الحقيقة النوعية ـ كما قرّره الحكماء في ردّ مذهب ذيمقراطيس ـ. وحينئذ نقول : لو كان للواجب جزء مقداري فهو إمّا ممكن ـ فيلزم أن يخالف الجزء المقداري كلّه في الحقيقة ، وهو خلاف ما قرّروه ـ ؛ وإمّا واجب فيكون الواجب بالذات غير موجود بالفعل ، بل بالقوة ـ لأنّ الأجزاء المقدارية ليست موجودة بالفعل بل اجزاء تحليلية بالقوة ـ ، وهو ـ أعني : كون الواجب بالقوّة ـ بديهى البطلان.

ويقرب من هذا الاستدلال ما استدلّ به بعض الأفاضل حيث قال : إنّ الواجب لذاته لمّا كان هو الوجود المتأكّد فان كان له اجزاء مقدارية تحليلية فجزؤه المقداري التحليلي إمّا وجود متأكّد أو أمر آخر ، وعلى الأوّل يلزم كون ذلك الجزء واجبا لذاته ـ بناء على ما سبق من أنّ الوجود المتأكّد يكون واجبا لذاته ـ ؛ وعلى الثاني يكون ذلك الجزء ممكنا لذاته ـ لأنّ ما عدا الوجود المتأكّد لا يكون واجبا ـ ، فيلزم أن يخالف الجزء المقداري كلّه في الحقيقة ، مع أنّه قد تقرّر عندهم أنّ الجزء التحليلي لا يخالف الكلّ في الحقيقة. قال بهمنيار في التحصيل : اعلم! أنّ الماء والخمر مثلا لا يصلح أن يكون بينهما وحدة بالاتصال حقيقة ، فانّ الموضوع للمتصل بالحقيقة جسم بسيط متفق بالطبع ، والحكماء ردّوا مذهب ذيمقراطيس بأنّ الأجزاء الفرضية لتلك الأجسام يشارك الكلّ في الحقيقة ويشارك باقي الأجزاء فيها ، فكون الجزء ممكنا مع كون الكلّ واجبا باطل ـ بناء على ما قرّروه ـ.

فان قيل : توافق الأجزاء المقدارية للكلّ في الحقيقة ممنوع ، ولم لا يجوز أن تكون الحقائق المتباينة لها اتصال واحد؟! ، ونظير ذلك ما ذكره المشّاءون من أنّ ما فيه الحركة إذا كان كيفا فهناك كيفية بسيطة متصلة صالحة لأن ينقسم إلى كيفيات مختلفة الحقيقة ، وبالجملة العقل لا ينقبض في بادي الرأي من أن يكون للأجسام المختلفة الحقيقة اتصال واحد ، ولا بدّ لنفي ذلك من بيان.

٥٤٢

قلنا : قد أشرنا فيما سبق أنّ كلّ حقيقة نوعية أو جنسية لا بدّ أن يكون بين اجزائها علاقة لزومية وارتباط ايجابي وإلاّ لم يتصوّر تركّبها من تلك الأجزاء وحصول التأليف بينها ، ولا ريب في أنّ الأمور المتباينة المتفاصلة المستغنية بعضها عن بعض لا يتصوّر بينها علاقة لزومية ، وهذا مع بداهته وحكم الفطرة السليمة عليه قد تبيّن في العلم الإلهي بوجوه برهاني.

ثمّ الحق إنّ الأجزاء المقدارية التحليلية وإن لم تكن اجزاء موجودة بالفعل إلاّ أنّه لا ريب في انّها اجزاء نفس أمرية واقعية ، كيف وقد بيّنا أنّ الأجزاء العقلية اجزاء واقعية نفس امرية ، فكيف لا تكون الأجزاء المقدارية كذلك؟! ، / ٢٣٥ DA / فلو تركّب الواجب منها لزم افتقاره إلى غيرها ؛ ولزم تقدّم غير الواجب عليه بالوجود.

وبذلك يظهر تمامية ما استدلّ به المعلم الثاني في الفصوص على نفي تركّبه ـ سبحانه ـ من اجزاء القوام حيث قال : إنّ وجوب الوجود لا ينقسم باجزاء القوام ـ مقداريا كان أو معنويا ـ وإلاّ لكان كلّ جزء منه إمّا واجب الوجود ـ فيتكثّر واجب الوجود ـ ، وإمّا غير واجب الوجود وهو أقدم بالذات من الجملة ، فيكون الجملة ابعد من الوجود(١) ؛ انتهى.

ومراده من الشقّ الثاني إنّ كلّ ما هو جزء الشيء يجب أن يكون متقدّما بالوجود على ما هو جزء له ، فاذا فرض أنّ غير الواجب يكون جزء له فلا بدّ أن يكون ذلك الغير متقدّما عليه بالوجود ويكون أقرب إلى الوجود بالقياس إلى الواجب مع كون ذلك الغير ممكنا ، فيلزم أن يكون الممكن متقدّما على الواجب بالذات / ٢٣٣ MA / بالوجود ؛ وهو باطل.

وأيضا إذا فرض أنّ الشيء يكون واجب الوجود فلا معنى لكون شيء آخر اقرب منه إلى الوجود ، لأنّه ليس شيء أقرب إلى الوجود من الواجب بالذات ، لأنّ نسبة الوجود إلى الواجب بالذات نسبة الذاتي ـ بناء على عينية الوجود في الواجب بالذات ـ ، ونسبة الوجود إلى الممكن بالذات نسبة العرض الخارج عن الذات المعلّل لغير الذات ،

__________________

(١) راجع : فصوص الحكم ، الفص ٩ ؛ نصوص الحكم ، ص ٤٦.

٥٤٣

فيكون وجود الممكن بالذات أمرا غريبا مستفادا من الغير.

والوجه في تماميته ما ذكره المعلم الثاني : إنّ الأجزاء المقدارية كما عرفت اجزاء واقعية نفس أمرية ، فلو تركّب الواجب منها يلزم ما ذكره من الفساد.

والعجب أنّ المحقّق الدواني بعد نقل هذا الاستدلال من الفارابي قال : وهذا كلام مظلم! ، لأنّ الأجزاء التحليلية للشيء ليس لها تقدّم على الشيء ، لأنّ ذلك الشيء بسيط لا يسبقه وجود تلك الأجزاء ، فتلك الأجزاء اجزاء وهمية له ، فلا يلزم تقدّمها عليه بحسب الوجود الخارجى ؛ انتهى.

ودفعه ما ذكرناه من أنّ الأجزاء التحليلية اجزاء نفس أمرية واقعية ، فتقدّمها على الكلّ بديهي. على انّك قد عرفت أنّ الأجزاء الفرضية لتلك الأجسام يشارك الكلّ في الحقيقة ويشارك باقي الاجزاء فيها ، فيصحّ عليها من الافتراق والاتصال ما يصحّ على غيرها من الأجزاء الموجودة بالفعل ، فحينئذ ما يتصوّر أن يكون له جزء تحليلي يلزم أن يكون له جزء خارجي ، فيكون الواجب لذاته مفتقرا إلى الجزء الخارجي. وحينئذ نعود ونقول : إنّ ذلك الجزء إن كان وجودا متأكّدا كان واجبا لذاته ، فيكون موجودا بالفعل لا جزء تحليليا ، مع أنّه يلزم تعدّد الواجب بالذات ؛ وإن كان غير الوجود المتأكّد يكون ممكنا لذاته ، فتغاير الكلّ بالحقيقة ويكون جزء خارجيا أيضا لا تحليليا ، مع أنّه يلزم منه تركّب الواجب من الممكن.

ثمّ إنّه قد أجيب عن ايراد المحقّق الدواني أيضا : بأنّ ذات الجزء التحليلي مقدّم على البسيط بمعنى أنّ العقل إذا قاس الكلّ وذلك الجزء إلى الوجود يحكم بتقدّم ذات الجزء عليه ، وذلك لا ينافي تأخّر وصف الجزئية عنه ، فذات الجزء مقدّم ووصف الجزئية متأخّر.

وهذا الجواب عند التأمّل أيضا صحيح لا غبار عليه ، لأنّه لا ريب في تقدّم ذات الجزء على الكلّ ، وهو كاف للزوم الفساد.

وما قيل في دفعه ظاهر الضعف!.

وحاصل الدفع : إنّ ذات الجزء التحليلي أمر ينتزع العقل بمعونة الوهم من

٥٤٤

المتصل ؛ فان أريد بالذات هذا المعنى فهو ليس متقدّما على المتصل في الوجود الخارجي ؛ وإن أريد به مأخذ هذا الجزء وما انتزع هو منه فذلك هو المتصل نفسه ، فلا يتقدّم على نفسه. وبالجملة إنّ المتصل الواحد ما لم ينفصل إلى الأجزاء لم تكن هناك إلاّ ذات واحدة لا ذوات متعدّدة ، وإذا انفصل إلى الأجزاء فقد انعدمت الذات الواحدة وحدث ذوات متعدّدة ، فلم يتحقّق ذات واحدة مشتملة على الذوات المتعدّدة ؛ انتهى.

ووجه الضعف : إنّ ذات الجزء المقداري له تحقّق في الواقع ونفس الأمر مع قطع النظر عن انتزاع الوهم ، فله تقدّم بحسب الواقع ونفس الأمر.

ثمّ إنّه لمّا ثبت أنّ الواجب ليس له اجزاء مقدارية يظهر منه أنّه ـ سبحانه ـ ليس جسما ولا جسمانيا ـ لعدم انفكاك الجسم عن الأجزاء المقدارية ـ.

ثمّ / ٢٣٥ DB / لمّا كان تجرّد الباري ـ سبحانه ـ عن الجسمية ركنا عظيما في باب التوحيد واثباته من أهمّ المطالب الإلهية ، نظرا إلى مخالفة بعض الطباعية ـ خذلهم الله ، حيث ذهبوا إلى قدم الافلاك والعناصر وكونها موجودة بذاتها ومؤثّرات فيما بعدها من الموجودات واجبة بانفسها من دون احتياج إلى مؤثّر ـ ، فلا بدّ لنا من اقامة بعض آخر من البراهين على عدم كون الواجب جسمانيا ـ تقوية للاعتقاد وازالة للشبهات الوهمية ـ.

فنقول : من البراهين على ذلك إنّ الجسم مركّب من الأجزاء المقدارية ومن الهيولى والصورة ، وتلك الأجزاء متقدّمة عليه بالوجود وهو مفتقر في تحقّقه إليها ، فلو كان الواجب جسما لكان غيره متقدّما عليه بالوجود وكان محتاجا إلى الغير ؛ وهو باطل ؛ ولا يجوز أن يكون جسمانيا ـ أعني : قوّة لجسم أو صورة له ـ لتوقّف وجوده على الجسم. والقول بأنّه ليس كلّ قوّة أو صورة لجسم عرضا قائما به ـ إذ / ٢٣٣ MB / من القوى والصور ما لا يكون عرضا ولا قائما بالجسم من حيث ذاته ولا محتاجا إليه من كلّ وجه ، فيجوز أن يكون ذات الصورة أمرا مقوّما للجسم مقدّما عليه ، ثمّ يتوقّف في أفعاله ولوازمه وتعيناته على ذلك الجسم ـ ، ففيه : إنّ توقّف الصورة في أفعالها ولوازمها على الجسم يكفي لنفي كونها واجبة ، إذ الاحتياج بأيّ وجه كان ينافي وجوب الوجود.

على أنّه لا ريب في أنّ الصورة بنفسها من دون انضمامها إلى الهيولى لا يمكن أن تكون

٥٤٥

موجودة ، فهى في تحقّقها في الخارج ووجودها في الأعيان محتاجة إلى الغير ، وقد صرّحوا بأنّ الصورة محتاجة في وجودها إلى المادّة والاحتياج ينافي وجوب الوجود ، فلا يمكن أن تكون الصورة واجبة الوجود. وكذا لا يمكن أن تكون الهيولى واجبة الوجود ، إذ المادة انّما هي محض القوّة ولا يمكن أن يكون شيء في الواجب بالقوّة ، إذ لو وجد في الواجب ماهية القوّة لكانت ممكنة الحصول له وإلاّ لم يكن معنى لكونها بالقوّة ، فيكون للواجب قوة واستعداد بالنسبة إلى هذا الأمر الّذي له بالقوة مع أنّه ـ سبحانه ـ موجود بالفعل ، فيكون مشتملا على القوّة والفعل معا ، وكلّ مشتمل على القوّة والفعل يكون مركّبا ، فيكون الواجب مركّبا ؛ وهو باطل ـ كما تقدّم ـ.

وأيضا : لو كان للواجب شيء ممكنا فان لم يكن حصوله متوقّفا على شيء خارج عن الذات بل كان متوقّفا على مجرّد الذات لم يجز أن يكون ذلك الشيء بالقوّة ـ لأنّ الذات موجودة بالفعل وهو علّة مستقلّة له ، ووجود العلّة مستلزم لوجود المعلول ـ ؛ وإن كان متوقّفا على أمر آخر سوى الذات لزم احتياجه إلى الغير ؛ وهو باطل.

ومنها : إنّ تاثير كلّ جسم في غيره انّما هو بمشاركة الوضع ولا يتصوّر وضع بالنسبة إلى ما لم يوجد ـ ولذا حكموا بأنّ الجسم لا يوجد جسما آخر ـ ، فلو كان الواجب جسما لم يقدر على ايجاد شيء أصلا ، فلزم أن لا يكون غيره موجودا ـ لعدم تصوّر وضع له بالقياس إلى غيره ممّا لم يوجد من المجرّدات والمادّيات ـ.

ومنها : إنّ كلّ جسم مركّب من المادّة والصورة وكلّ مركّب من المادّة والصورة مفتقر إلى فاعل من خارج عن ذاته ، لأنّ الجزء المادّي في ذاته أمر مبهم لا يتحصّل إلاّ بالصورة ، والجزء الصوري لو كان فاعلا لمادّته مستغنية به في وجودها عن فاعل آخر ولم يكن قيامه بمادّة بل كلّ ذي مادّة كما يفتقر إلى تلك المادّة في وجوده وكذا يفتقر إلى المادّة في فعله وايجاده ، لأنّ الايجاد متقوّم بالوجود ، فالمفتقر إلى شيء في الوجود يلزمه أن يفتقر إليه في الايجاد أيضا ، فلا يمكن أن تكون الصورة فاعلة للمادّة ، فلو كان الواجب ـ تعالى ـ جسما يلزم افتقاره إلى خالق آخر في وجوده وفي صنعه جميعا ، واللازم باطل ، فكذا الملزوم ؛ هذا.

٥٤٦

وأمّا ما يدلّ على خصوص أنّ الواجب ليس له اجزاء عقلية فوجوه :

منها : إنّ احتياج الجنس إلى الفصل ليس في مفهومه من حيث هو هو ـ كما هو مقرّر عندهم ـ ، بل في أن يوجد ويحصل بالفعل ، فانّ الفصل كالعلّة المفيدة للجنس باعتبار بعض الملاحظات العقلية ، فلو كان للواجب جنس وفصل فجنسه إمّا يكون مفهوما غير الوجود / ٢٣٦ DA / المتأكّد ـ فيكون واجب الوجود ذا ماهية ، وقد تقدّم أنّه ليس له ماهية سوى الوجود ـ ؛ وإمّا عين الوجود المتأكّد ـ فلا يحتاج في أن يوجد إلى فصل ، فيكون ما فرضناه فصلا غير فصل ، وكذا ما فرضناه جنسا غير جنس ـ. وإذا انتفت عنه ـ سبحانه ـ الأجزاء العقلية يلزم منه انتفاء الأجزاء العينية ـ كالمادّة والصورة الخارجيتين ـ ، إذ كلّ بسيط في التصوّر بسيط في الخارج دون العكس. فجميع ما يدلّ على انتفاء الاجراء العقلية عنه ـ سبحانه ـ يدلّ على انتفاء الأجزاء الخارجية عنه ـ تعالى ـ أيضا.

ومنها : إنّه لو كان للواجب اجزاء عقلية فلا يخلوا : إمّا أن يكون جميعها أو بعض منها محض حقيقة الوجود ، أو لا يكون شيء منها كذلك ، وعلى التقادير يمتنع الحمل ، وهو خلاف الفرض.

ومنها : إنّ الواجب لو كان له اجزاء عقلية من الجنس والفصل لكان حقيقة نوعية ، وإذا كان حقيقة نوعية احتاج في وجوده الخارجي إلى تشخّص زائد على حقيقته ـ سواء كان محصورا في فرد كالعقل أو الشمس أو لا ، اذ الماهية النوعية لكونها كلّية لا يمكن أن يكون التشخّص عين ذاتها ـ. وإذا كان تشخّصه زائدا على ذاته نقول : إنّ التشخّص انّما هو سبب في كون الشيء موجودا بالفعل لا في تقويم معنى الذات وتقريره ، وكما أنّ النوع لا يحتاج إلى الفصل في كونه متصفا بالمعنى الجنسي ـ بل في كونه محصّلا / ٢٣٧ MA / بالفعل ـ فكذلك الشخص لا يحتاج إلى التشخّص في كونه متصلا بالمعنى الّذي هو النوع ، بل يحتاج إليه في كونه متصفا بالوجود.

ثمّ إنّه لمّا ثبت أنّ واجب الوجود مهيته عين وجوده فكلّ ما كان مقوّما لوجوده يكون مقوّما لسنخ حقيقته ، فلو كان حقيقته متشخّصة بتشخّص زائد على ذاته لكان

٥٤٧

التشخّص محتاجا إليه في تحقّق المعنى النوعى وتقويمه ، وهو باطل ـ كما أشير إليه ـ ، فيجب أن يكون الواجب بالذات متشخّصا بنفس حقيقته لا بأمر زائد عليه ـ أي : يكون حقيقته عبارة عن تشخّصه ، كما أنّه عبارة عن نفس وجوده ، بل الوجود والتشخّص أمر واحد فيه سبحانه ، كما أشير إليه قبل ذلك ـ ؛ وحينئذ فالواجب ـ سبحانه ـ هو الوجود البحت فلا يكون نوعا مركّبا من الجنس والفصل ولا جنسا ولا يوصف بأنّه كلّي وجزئي ـ أي : شخص لطبيعة مرسلة ـ ، بل هو متميز بذاته منفصل بنفسه عن سائر الموجودات لا بامر فصلي أو عرضي ؛ وإذ لا جنس له ولا فصل له فلا حدّ له واذ لا حدّ له فلا علّة له.

وأمّا ما يدلّ على أنّ الواجب ـ سبحانه ـ ليس من الأجزاء العقلية ـ أعني : الجنس والفصل ـ فهو أنّ الأجزاء العقلية اجزاء تحليلية غير مستقلّة في الوجود ، وعدم الاستقلال في الوجود ينافي وجوب الوجود. وأيضا لا يمكن أن يكون الواجب جنسا ، لأنّ الجنس جزء الذات لا تمامه ، فلا بدّ له من جزء آخر يكون فصلا له ، فيلزم التركيب ؛ وهو باطل.

٥٤٨

الفصل الثاني

في نفي الشريك عنه ـ سبحانه ـ

٥٤٩

( الفصل الثاني )

( في نفي الشريك عنه ـ سبحانه ـ )

وهو توحّده في وجوب وجوده.

والبراهين على هذا المطلب الأسنى أكثر من أن يحصى ، ونحن نكتفي هنا بذكر عدّة براهين هي اقوى البراهين وأتمّها.

فمنها : إنّه قد ثبت أنّ الواجب ـ سبحانه ـ صرف الوجود ومحض الموجود ولا تعدّد في صرف الشيء ومحوضته ، وهذا بديهي حدسي كشفي ، قال الشيخ الإلهي في التلويحات : « صرف الوجود الّذي لا أتمّ منه كلّ ما فرضته ثانيا فاذا نظرت فهو هو ، إذ لا ميز في صرف شيء »(١) .

وتوضيح ذلك : انّ الواجب يجب أن يكون لمحوضة الوجود موجودا من غير ثبوت غير الوجود وممازجته معه ، لأنّ غير الوجود ليس إلاّ الماهية الفاقدة في مرتبة تقرّرها للفعلية ، وفقد الفعلية والوجود في أيّ مرتبة كانت ينافي كون الشيء واجبا ـ لتطرّق العدم حينئذ فيه ـ ، فلو كان الواجب متعدّدا فلا يوجد ـ لمحوضة الوجود ، لأنّ التعدّد والامتياز بعد زوال الجهة المشتركة الساذجة إلى مقام التعدّد والغيرية ـ. و

__________________

(١) راجع : التلويحات ، ص ٣٥.

٥٥٠

التالي ـ أعني : عدم كون الواجب موجودا يعرضه الوجود ـ باطل ، فكذا المقدّم ـ أعني : تعدّد الواجب ـ.

وإلى ما ذكرناه أشار بعض المشاهير حيث قال : صرف الوجود من حيث هو موجود لا يتوهّم كثرته وتعدّده ، فصرف الوجود موجود باعتبار ذاته ولا يتكثّر من حيث هو موجود ؛ وهو المطلوب ، إذ لا نعنى بوحدة واجب الوجود إلاّ كونه موجودا بدون الكثرة ، ولهذا قيل : إنّ الوحدة في واجب الوجود من لوازم نفي الكثرة وفي غيره نفي / ٢٣٦ DB / الكثرة من لوازم الوحدة ؛ انتهى.

والمراد من قوله : « ولهذا قيل : انّ الوحدة في واجب الوجود ـ إلى آخره ـ » الاستشهاد بكلام القوم على أنّ الواجب بمحض ذاته موجود من دون تصوّر الكثرة فيه. ولاقتضائه نفي الكثرة يكون واحدا ، فانّه ـ تعالى شأنه ـ لمّا كان موجودا بمحوضة الوجود والاطلاق من غير أن يكون له ماهية أو ارتباط بالسبب فهو بنفس ذاته بحيث ينتزع منه نفي الكثرة ، وهو مستلزم للوحدة ، فالوحدة في الواجب من لوازم نفي الكثرة ، فانّه ما لم يتحقّق سلب جميع وجوه الكثرة واقسامها لم يتحقّق الوحدة الصرفة الحقّة ، فالوحدة الصرفة الحقّة من لوازم سلب الكثرة. وأمّا الممكن لمّا لم يكن موجودا بصرافة الوجود واطلاقه بل بالماهية المشخّصة المرتبطة بالجاعل التامّ فهو بحسب مهيته يحتمل الكثرة ، لأنّ له جنسا وفصلا ولكن بحسب الجاعل يكون واحدا موجودا ، فوحدته ليست من لوازم نفي الكثرة ، بل نفي الكثرة من لوازم وحدته الحاصلة من الجاعل.

ثمّ اعترض على هذا الدليل بانّه انّما يتمّ لو كان معنى عينية الوجود في الواجب كونه عين معنى الوجود ـ لأنّ عين الوجود ومحضه لا يتكثّر ـ ، و/ ٢٣٤ MB / أمّا على التحقيق الصحيح في معنى العينية من كون الواجب لمحض ذاته موجودا فلا يتمّ ذلك الدليل ، لورود الشبهة بانه ربما كان ذاتان أو اكثر كذا ـ أي : كون الجميع لمحض ذاته موجودا ـ ؛ انتهى.

وفيه : انّا بيّنا بالبراهين القاطعة أنّ الواجب صرف الوجود وعينه ، فالاعتراض

٥٥١

مندفع.

ومنها : إنّه لا يمكن تعدّد الواجب بالذات ، إذ حقيقته محض الوجود من حيث هو وجود وكلّ شيء حقيقته محض الوجود يكون متشخّصا بنفس حقيقته ، إذ لا يمكن أن يكون تشخّص حقيقة الوجود بشيء آخر ، وإلاّ لزم الاحتياج المنافي للوجوب.

ومنها : إنّ الواجب ـ كما علم ـ صرف الوجود ومحض الموجود ، ولا يتصوّر في محوضة المعنى الواحد التعدّد ـ لتساوي محض الشيء بالنسبة إلى مراتب الأعداد الّتي فوق الواحد ـ. والحاصل : إنّ الواجب ـ سبحانه ـ يجب أن يكون موجودا بمحوضة الوجود في الخارج ، ونسبة محض الشيء إلى المراتب الكثيرة الّتي فوق الواحد في أن يوجد متساوية ، فلو كان الواجب متعدّدا فوجوده في مرتبة من مراتب الأعداد الّتي فوق الواحد دون سائر المراتب يوجب الترجيح بلا مرجّح.

والفرق بين هذا الدليل والّذي قبله : إنّه أخذ في هذا الدليل تساوي مراتب الاعداد إلى الواحد الصرف وجعل ذلك برهانا على عدم التعدّد في محوضة المعنى الواحد ؛ وفي الدليل السابق لم يؤخذ ذلك ، بل ثبت عدم التعدّد في صرف الوجود من طريق آخر ـ كما ذكرناه ـ.

وإلى هذا الدليل اشار بعض المشاهير حيث قال : حقيقة وجوب الوجود الّذي هو محض الوجود يجب أن يكون لصرافته ومحوضته موجودا ، ولا يتصوّر في محوضة المعنى الواحد التعدّد ـ لتساوي مراتب الاعداد فوق الواحد ـ ؛ فواجب الوجود موجود واحد لا شريك له في محوضة الوجود ، ووجوب الوجود ووحدته عبارة عن وجوده بلا شريك أو نظير ؛ انتهى.

وقوله : « وحدته عبارة ـ إلى آخره ـ » اشارة إلى دفع ما ربما يقال : إنّه يلزم على هذا الدليل أن يكون حقيقة وجوب الوجود مقتضية للوحدة ، وهذا غير موافق للتحقيق ، لأنّ المذهب الحقّ أنّ وحدة الواجب ـ تعالى ـ ووجوده وسائر صفاته الكمالية عين ذاته وليس ذات الواجب شيئا مغايرا مقتضيا لوحدته ، ووجوده وسائر صفاته الكمالية ؛

٥٥٢

وحاصل الدفع : إنّ المراد من اقتضاء الوحدة هو أنّه موجود بلا شريك ، لا أنّه يقتضي الوحدة أو غيرها.

واعترض على هذا الدليل : باحتمال وجود صرف الوجود في جميع المراتب بأن يكون وجود محوضة المعنى في جميع مراتب الاعداد الّتي فوق الواحد معنى يكون الواجب غير متناهي الافراد ، وعدم التناهي هنا لا يمكن ابطاله بأدلّة بطلان التسلسل ـ لعدم وقوع الترتيب بين الافراد ـ.

والجواب عنه : أمّا أوّلا إنّ وجود محوضة المعنى الواحد في جميع المراتب يوجب الترجيح بلا مرجّح أيضا ، لأنّ وقوعه في جميع المراتب مع امكان وجوده في سائر المراتب الّتي فوق الواحد تحكّم بحت وترجيح من غير مرجّح ؛

وامّا ثانيا : إنّا بيّنا بطلان عدم التناهي في الأمور الموجودة وإن لم يقع الترتيب بينها ؛ هذا.

والأكثر جعلوا هذا البرهان / ٢٣٧ DA / برهانين مستقلّين ، فانّهم جعلوا ما ذكر أوّلا من عدم تصوّر التعدّد في محوضة المعنى الواحد برهانا وجعلوا ما ذكروا ثانيا ـ أعني : تساوي نسبته إلى المراتب الّتي فوق الواحد ـ برهانا آخر. بيان الأوّل : انّه قد ثبت أنّ واجب الوجود يجب أن يكون صرف وجوب الوجود ، يعنى يكون واجب الوجود عين وجوب الوجود فقط لا وجوب الوجود مع أمر آخر ، فاذا كان الواجب صرف وجوب الوجود فلم يتصوّر التعدّد ، لأنّ كلّ معنى من المعاني باعتبار صرافته ومرتبة محوضته لا يتصوّر فيه تكثّر أصلا ، ولا خصوصية لهذا الحكم بوجوب الوجود ، فانّ الانسان أيضا باعتبار صرافته ومحوضته لا يتصوّر فيه تكثّر ، فاذا كان الأمر كذلك فلا يتصوّر تعدّد الواجب. وبهذا القدر يتمّ البرهان ولا يحتاج إلى ضمّ شيء آخر. وهذا البرهان قريب من سابقه.

وبيان الثاني : إنّ الحقائق إمّا مادّية يكون لها امكان استعدادي ؛ أو مجرّدة ، والحقائق المجرّدة يجب أن يكون كلّ منها منحصرا في الفرد ـ لأنّ مراتب الاعداد فوق الواحد متساوية بالنسبة إليه ـ ، فثبوت بعض من تلك المراتب دون بعض آخر ترجيح

٥٥٣

بلا مرجّح بخلاف الحقائق المادّية ـ أي : الحقائق الّتي لها امكان استعدادي ، فانّه لمّا كان لها امكان استعدادي يجوز أن يثبت لها بعض تلك المراتب دون بعض آخر منها بواسطة الامكان الاستعدادي ، فلا يلزم ترجيح بلا مرجّح ـ ؛ ووجوب الوجود بالذات من الحقائق الّتي ليس لها امكان استعدادي ، فمن ثبوت بعض مراتب الاعداد فوق الواحد له دون بعض يلزم الترجيح.

وقد ذكر ذلك الشيخ في مواقع من الشفا لاثبات انّ الطبائع الّتي ليس لها امكان استعدادي يجب أن يكون منحصرة في الفرد ؛ وإلى هذا البرهان أشار بعض المشاهير حيث قال : ومن براهين / ٢٣٥ MA / التوحيد إنّ الوجود الحقيقي الّذي هو عين ذات الوجود امّا أن يمتنع تعدّده أو لا ؛ فعلى الأوّل يلزم المطلوب ؛ وعلى الثاني يلزم الترجيح بلا مرجّح ، لأنّ نسبة جميع الاعداد إليه واحدة ، فترجيح الاثنى أو عدد آخر على باقي الأعداد ترجيح بلا مرجّح ، وهو محال ؛ فبقى الأوّل الّذي هو مستلزم للمطلوب.

ومنها : إنّ وجوب الوجود الّذي هو تأكّد الوجود ومحض حقيقة الوجود وهو الواجب ـ سبحانه ـ إمّا أن يقتضي الوحدة ؛ أو يقتضي التعدّد ؛ أو لا يقتضي شيئا منهما ؛ فعلى الأوّل يلزم المطلوب ـ إذ حقيقة وجوب الوجود إذا اقتضى وحدة لم يكن مشتركا وكان واحدا محضا ـ ، وعلى الثاني يلزم تحقّق الكثير بلا واحد ، لأنّ صرف الوجود حينئذ ليس مقتضاه الوحدة بل مقتضاه الكثرة ، فكلّ ما صدر عنه يكون كثيرا لا واحدا ، لأنّه مخصّص للكثرة. وأيضا كلّ فرد من تلك الحقيقة المقتضية للكثرة يكون مشتملا على تلك الطبيعة ، والمفروض انّها علّة تامّة للكثرة ، فيكون حكم الفرد والطبيعة واحدا ، فكيف يتصوّر وجود الواحد؟. قال المعلم الثاني : المعنى الوحداني لا يتكثّر بذاته وإلاّ لم يوجد الكثرة أيضا ، لأنّ الكثرة مركّبة من الآحاد ، فاذا فرضنا أنّ المعنى الواحد يتكثّر بذاته فقد ابطلنا الكثرة ؛ انتهى.

وبالجملة الكثرة لا يجوز أن يكون من لوازم حقيقة واحدة بمعنى أنّ الحقيقة الواحدة تصير متكثّرة بذاتها بلا مدخلية أمر آخر وانضمام شيء آخر إليها. وعلى الثالث يلزم الاحتياج إلى الممكن الّذي لا اقتضاء له أصلا ، لأنّ أحدهما ـ أعني :

٥٥٤

الوحدة والتعدّد ـ واقع قطعا ، فلا بدّ له من مقتض ، فلو لم يكن مقتضيه نفس حقيقة الوجود ـ على ما هو الفرض ـ لكان مقتضيه غيره من الممكنات ، فلزم الاحتياج إلى الممكن ، وهو باطل. وأيضا لا خفاء في أنّ ذلك الاحتياج ـ أي احتياج تحقّق الوحدة أو التعدّد إلى الممكن ـ يعود إلى اقتضاء حقيقة بعض الوجود ـ أي : إلى اقتضاء وجوب الوجود ـ ، لأنّ اقتضاء الممكن إلى الشيء ينجرّ إلى اقتضاء حقيقة الواجب ـ أي : يؤول إلى أنّ حقيقة الوجوب يقتضي التعدّد أو الوحدة ـ لوجوب انتهاء سلسلة الامكانيات إليه / ٢٣٧ DB / ـ تعالى ـ ، فرجع حينئذ الأمر إلى اقتضاء حقيقة الوجود الوحدة أو التعدّد ، والأوّل يستلزم المطلوب ، والثاني يوجب تحقّق الكثير بما هو واحد ، وهو باطل ـ كما مرّ ـ.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ كون غير الوجود المحض ـ أعني : الممكن ـ مقتضيا لأحدهما ـ أعني : التعدّد والوحدة ـ باطل بوجهين :

أحدهما : إنّ الممكن لا اقتضاء له أصلا ؛

وثانيهما : إنّه ينتهى اقتضاء الممكن إلى اقتضاء حقيقة الوجود. وإذ ابطل هذا الشقّ ـ أعني : الشقّ الثالث ـ بقي الشقّان الأوّلان ـ أعني : اقتضاء حقيقة الوجود الوحدة أو التعدّد ـ ، والأوّل يستلزم المطلوب والثاني باطل للزوم تحقّق الكثير بلا واحد.

ثمّ إنّه اعترض على هذا الدليل أمّا أوّلا : فبانّه إن أراد بحقيقة الوجود الّذي يقتضي الوحدة أو التعدّد الوجود الخاصّ الّذي ثبت كونه عين الواجب نختار إنّه يقتضي الوحدة ولا يثبت به الوحدة الّتي هي المطلوب ، لجواز أن يكون الوجود الخاصّ لكلّ من المتعدّد مغايرا بالذات للوجود الخاصّ للآخر ويكون عين كلّ منها ومقتضيا للوحدة ، وهو واحد ، إذ كلّ منهما واحد وما ثبت اشتراكه معنى انّما هو الوجود المطلق لا الخاصّ ؛ وإن أراد بحقيقة الوجود الوجود المطلق نختار الشقّ الثالث ـ أعني : عدم اقتضائه لأحدهما ـ. وما ذكر من أنّه يلزم حينئذ الاحتياج إلى الممكن ، فهو ممنوع ، إذ الوجود المطلق زائد على ذات الواجب ، فجاز أن يكون مقتضى تعدّد هذا الوجود الزائد

٥٥٥

أو وحدته هو ذات الواجب المغاير بالذات لذات الواجب الآخر ـ تعالى عن ذلك ـ ؛

وأمّا ثانيا : فبأنّا نختار الشقّ الثاني ـ أي : إنّ حقيقة الوجود يقتضي التعدّد ـ ، وما ذكر من أنّه يلزم حينئذ تحقّق الكثير بلا واحد فهو ممنوع ، لجواز أن يكون مقتضيا لتعدّد مخصوص لكونه اثنين أو ثلاثا مثلا ـ أي : مقتضيا لأن يكون نوعا منحصرا في ثلاثة أفراد أو اثنين مثلا ـ ، فيكون مقتضيا لأن يكون كلّ فرد من افراده موجودا مع فرد آخر منه أو / ٢٣٥ MB / مع اثنين آخرين ، ولا محذور فيه ؛ انتهى.

والجواب عن الاعتراض الأوّل : إنّ المراد بحقيقة الوجود الّذي ورد فيه بانّه يقتضي الوحدة أو التعدّد هو صرف الوجود البحت الموجود في الخارج المتحقّق في الأعيان ، وهو الوجود الواجبى الخاصّ الّذي هو عين ذاته دون المطلق الاعتباري الزائد على الذات. وما ذكر من أنّه يجوز أن يكون وجود الخاصّ متعدّدا ويكون كلّ من الوجود الخاصّ مغايرا بالذات للوجود الخاصّ الآخر ويكون كلّ وجود خاص واجبا وعينا للذات ومقتضيا لوحدة نفسه ، ففيه : إنّ الوجود الخاصّ الواجبي انّما هو بحت الوجود الخاصّ ـ كما تقدّم بيانه ـ ، وبحت الوجود ومحضه لا يتعدّد بنفسه حتّى يكون فردا منه مغايرا بالذات للفرد الآخر منه ـ لكونه حقيقة واحدة ومعنى واحدا ـ ؛ وحينئذ فامّا أن يقتضي الوحدة ، فيلزم المطلوب ؛ أو التعدّد ، فيلزم الفساد المذكور.

والجواب عن الاعتراض الثاني : انّه إذا اقتضى الوجود المحض التعدّد فلا معنى لتحقّق فرد واحد منه ، وإذا لم يتحقّق الواحد لم يتحقّق الكثير.

ومن تأمّل يعرف ما في هذا الاعتراض من الاختلال والاشتباه.

ومنها : إنّ حقيقة وجوب الوجود ـ أعني : محض الوجود ـ إمّا أن يكون مقتضيا لأن يكون عين الذات الموجود المتعيّن ، أو يكون شرط وجوب الوجود أن يكون متحقّقا في الموجود المتعيّن ، وعلى التقديرين لا يتحقّق بدون ذلك المتعيّن ، ولا يمكن أن لا يكون مقتضيا لأن يكون عين وجود متعين ولا مشروطا بتحقّقه فيه ، لأنّ المعنى الواحد والحقيقة الصرفة البسيطة لاثبات المختلفات ، فيجب أن يكون مقتضيا لعينية المتعيّن أو مشروطا بتحقّقه فيه وإن كان لغيره مدخل في تحقّقه فيه وذلك الغير ممكن

٥٥٦

لا محالة ، وليس للممكن اقتضاء باعتبار ذاته ، فيعود هذا القسم أيضا إلى اقتضاء حقيقة وجوب الوجود ، فحقيقته يقتضي الوحدة ونفي التشريك.

ومنها : إنّ حقيقة الوجود المحض لا يمكن أن لا يقتضي عدم كثرة الافراد ، وإلاّ لكان لغيره مدخل في ذلك الاقتضاء ، لأنّ الوحدة ما حصل فيه قطعا ـ وإلاّ لم يحصل الفرد أصلا ـ ، فعدم الكثرة حاصل في فرده البتة. فاذا لم يقتضيه الوجود المحض كان / ٢٣٨ DA / للغير مدخل في اقتضاء عدم الكثرة المذكورة ، وغير محض الوجود يحتاج في التحقّق إلى الوجود ، فيعود اقتضاء ذلك الغير بالحقيقة إلى اقتضاء الوجود ، فاذا كان الوجود المحض يقتضي عدم كثرة الافراد كان باعتبار ذاته واحدا لا شريك له ؛ وهو المطلوب.

والفرق بين هذا الدليل والدليل السابق عليه باعتبار تفاوت طريق عود مدخلية الغير إلى الاقتضاء المذكور ، فانّه في السابق باعتبار الامكان وفي هذا باعتبار الوجود.

فان قيل : قد أخذ في هذا الدليل عدم كثرة الافراد مسلّما ، ثمّ بيّن بأنّ مقتضيه يجب أن يكون حقيقة الوجود لا غيره ـ للزوم الفساد المذكور ـ ، مع أنّ الخصم لا يسلّم عدم كثرة الافراد ، فلا وجه لتسليمه وطلب علّته! ؛

قلنا : هذا البرهان مبني على بطلان أمرين قد علم من الادلّة السابقة ؛ أحدهما : كون حقيقة الوجود المحض مقتضية للكثرة ؛ وثانيهما : عدم كونها مقتضية رأسا لا للكثرة ولا للوحدة ، فبقي احتمال ثالث وهو أنّ حقيقة الوجود المحض هل هي مقتضية لعدم كثرة الافراد بذاتها أو لا؟ ، بل عدم كثرة الأفراد ثابت لها باقتضاء غيرها وبسبب غيرها لا باقتضاء ذاتها. واستدلّ على ابطال اقتضاء الغير بانّه لو اقتضى الغير لكان اقتضائه راجعا إلى اقتضاء حقيقة الوجود المحض ، فتعيّن الأوّل ـ وهو أن يكون المقتضي لعدم كثرة الافراد هو حقيقة الوجود المحض ـ ؛ هذا.

وقال بعض المشاهير : جميع براهين اثبات وحدة الواجب موقوف على اتحاد حقيقة الوجود ـ أي : الوجود الحقيقي الّذي باعتباره يتحقّق الموجودات ـ ، وهو الّذي يعبّر عنه بوجوب الوجود ؛ وتلك الوحدة بديهية حدسية. وهذا أظهر من الشمس

٥٥٧

عندي ، فانّ الوجود الحقيقي الّذي باعتباره تكون الموجودات متحقّقة هو شمس عالم العقول والنفوس ، بل نور السموات والارض ؛ وهو في غاية الظهور وبه ظهور كلّ شيء وادراك كلّ ذي ادراك ، وكذلك وحدته بحسب الحقيقة ظاهر عند كلّ من له وجدان صحيح ؛ انتهى.

وقال بعض أعاظم العرفاء : إنّ البراهين الدالّة على وحدة الواجب عندي كثيرة ، لكن تتميم جميعها متوقّف على أنّ حقيقة واجب الوجود بالذات هو الوجود البحت القائم بذاته وأنّ ما يعرضه الوجوب بالتبع فهو في / ٢٣٦ MA / حدّ ذاته ممكن ووجوبه ـ كوجوده ـ انّما يستفاد من الغير ، فلا يكون واجبا. وهذه المقدّمة ممّا انساق إليه البرهان وصرّح به في كتب الفن ـ كالشفاء وغيره ـ.

وستعلم أنّ بعض براهين اثبات التوحيد لا يتوقّف على تسليم كون صرف الوجود واحدا.

ثمّ لا يخفى إنّ البراهين المذكورة تامّة على اثبات وحدة الواجب. ولا يرد على تلك البراهين شبهة ابن كمونة أصلا ، لأنّ حاصل هذه الشبهة : إنّ معنى واجب الوجود ومعنى كون الوجود عين الذات هو أن يكون الذات بمحض الذات من دون اعتبار شيء خارج معها منشئا لانتزاع الوجود منها ، والحكم بانّها موجودة بخلاف الممكن ، فانّه ما لم يعتبر معه علّته لم يصحّ ذلك. وليس معنى وجوب الوجود وعينية الوجود أن يكون الوجود متحقّقا في الخارج ويكون عين الذات ، ولا أن يكون مفهوم الوجود الّذي لا يحصل إلاّ في الذهن عين الحقيقة الخارجية ، وانّكم تجوّزون أن يكون مفهوم الوجود مشتركا بينه ـ تعالى ـ وبين غيره وأن يكون معنى واحد لازما لحقائق مختلفة ، فحينئذ لم لا يجوز أن يكون حقيقتان مختلفتان بتمام الماهية ويكون كلّ واحدة منهما بذاتها منشئا لانتزاع الوجود منها ويكون وجوب الوجود عرضيا لازما مشتركا بينهما ومنتزعا من ذات كلّ واحدة منها بنفس ذاتها ـ كمفهوم نفس الوجود ـ ولا يتحقّق بينهما ما به اشتراك ذاتي حتّى يلزم التركيب في ذاتهما من جنس وفصل أو احتياجهما في التشخّص إلى أمر خارج عن ذاتهما. ولا ريب في أنّ مبنى هذه الشبهة على كون

٥٥٨

وجوب الوجود أمرا عرضيا وعدم كون الذات صرف الوجود ، ومبنى البراهين المذكورة على أنّ وجوب الوجود هو يؤكّد الوجود وكون الواجب صرف الوجود ومحضه وخالص الموجود وبحته وعدم جواز التعدّد في محوضة الشيء ؛ وحينئذ لا مدخلية لهذه الشبهة بالنسبة إلى البراهين المذكورة أصلا ، ولا ورود لها عليها مطلقا.

وقال بعض أعاظم العرفاء : وبما ذكرناه ـ من كون الواجب صرف الوجود القائم بذاته ـ يندفع ما يتكذّب به أذهان الأكثرين بما قيل : لم لا يجوز أن تكون هناك هويّتان بسيطتان مجهولتا الكنه مختلفتان بتمام الماهيّة البسيطة يكون كلّ منهما واجبا لذاته ويكون مفهوم واجب الوجود مخترعا منهما مقولا عليهما قولا عرضيا؟ ؛ إذ قد علمت أنّه لو كان كذلك لكان عروض هذا المفهوم لكلّ منهما أو لأحدهما إمّا معلولا لذات / ٢٣٨ DB / المعروض ، فيلزم تقدّمه بالوجود على نفسه ، وهذا محال ؛ أو معلولا لغيره ، فاستحالته أظهر. بل نقول : لو نظرنا إلى نفس مفهوم الوجود المعلوم بوجه من الوجوه بديهة أو بالنظر إلى أنّ حقيقته وما ينتزع هو منه أمر قائم بذاته هو الواجب الحقّ والوجود المطلق الّذي لا يشعر به عموم ولا خصوص ولا تعداد كلّ ما وجوده هذا الوجود فرضنا لا يمكن أن يكون بينه وبين شيء آخر له أيضا هذا الوجود مباينة وتغاير أصلا ، فلا يكون اثنان ، بل يكون هناك ذات واحدة ووجود واحد ؛ كما اشار إليه صاحب التلويحات بقوله : « صرف الوجود الّذي لا اتمّ منه كلّما فرضته ثانيا فاذا نظرت فهو هو إذ لا ميز في صرف شيء »(١) ، فوجوب وجوده الّذي هو ذاته يدلّ على وحدته كما اشير إليه في الكتاب الإلهي بقوله ـ تعالى ـ :( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ) (٢) .

ثمّ إنّه يأتي بيان ورود هذه الشبهة على بعض البراهين الآتية وحلّها بوجه آخر.

ومنها : الدليل المشهور من الحكماء ، وتقريره : أنّه لو كان واجب الوجود اثنين لكان معنى وجوب الوجود ـ وهو معنى واحد بالضرورة ـ مشتركا بينهما ، فيلزم اعتبار جهة ما به الامتياز ، لأنّ حصول الاثنينية بدون ما به الامتياز محال ؛ ولا ريب في أنّ ما به الامتياز غير ما به الاشتراك ، فيلزم التركيب ، وهو محال.

__________________

(١) راجع : التلويحات ، ص ٣٥.

(٢) كريمة ١٨ ، آل عمران.

٥٥٩

وأورد على هذا الدليل الشبهة الكمونية المشهورة بافتخار الشياطين ؛ وقد عرفت أنّ اثبات التوحيد ممكن من البراهين المتقدّمة الّتي لا يتوهّم ورود هذه الشبهة عليها. وأمّا دفعها عن هذا الدليل المشهور فهو : إنّ وجوب الوجود لو كان عرضيا لكان عروضه لهما محتاجا إلى علّة ، فعلّته إن كانت ذات الواجبين من دون اتصافهما بوجوب الوجود لزم أن يكون غير واجب الوجود علّة لوجوب الوجود ، وهو باطل ؛ وإن كانت ذاتهما / ٢٣٦ MB / مع اعتبار وجوب الوجود فان كان وجوب الوجود الّذي هو العلّة عين وجوب الوجود الّذي هو المعلول لزم تقدّم الشيء على نفسه ، وإن كان غيره ننقل الكلام إليه ، فيلزم التسلسل.

فان قيل : الوجود العامّ المنتزع من الواجب عرضىّ ، فيلزم من عرضيته أحد المفاسد المذكورة ؛

قلنا : الوجود الانتزاعي ليس ممّا يتوقّف عليه العلّة ، لأنّ العلّة انّما هو الوجود الخاصّ وهو الوجود الواجبي ، فيمكن أن يكون علّة لانتزاع هذا المفهوم ، فتقدّم الواجب عليه انّما هو بالوجود الخاصّ ووجوب الوجود ـ لأنّه يتحقّق حقيقة واجب الوجود مع قطع النظر عنه ـ.

وقيل في الجواب عن الشبهة المذكورة : إنّ وجوب الوجود إن لم يكن هو نفسه ذاتيا لهما جنسا أو نوعا حتّى يلزم التركب بل كان عرضا عامّا منتزعا عنهما نقول : هذا العرض إمّا واجب ، أو ممكن ؛ والأوّل باطل ، إذ العرض محتاج إلى المحلّ والمحتاج لا يمكن أن يكون واجب الوجود ؛ والثاني ـ أعني : كون هذا العرض ممكنا ـ أيضا باطل ، لأنّ علّته إن كانت أحدهما فقط دون الآخر لكان معلولا لواجب ودونه ، وإن كانا هما علّة له فان كانت العلّة مستندة إلى أمر مشترك ذاتي لزم التركب ، وإن لم تكن مستندة إليه ـ بل كانت مستندة إلى ذاتيهما المتخالفين ـ لزم اشتراك معنى واحد بين حقائق مختلفة من دون أن يكون تبعا لأمر مشترك ذاتي ، وهو باطل ؛ لأنّ المختلفين من حيث انّهما مختلفان من دون جهة الاشتراك لا يناسبان معنى واحدا حتّى يكونا علّتين له ، فيلزم توارد علّتين مختلفين على معلول واحد شخصي ، ويلزم ارتفاع المناسبة بين العلّة و

٥٦٠

المعلول. فنمنع اشتراك معنى واحد بين حقائق مختلفة إلاّ تبعا لمشترك ذاتي بينهما ؛ وهذا ما يقال : « انّ ما به الاشتراك العرضي تابع ومستند إلى ما به الاشتراك الذاتي ».

وإن شئت بيانا أوضح من ذلك فنقول : قد عرفت أنّ حقيقة الوجود ـ أعني : ما هو منشأ انتزاع الوجود العامّ ـ كما هو عين ذات الواجب في الخارج فكذلك ماهية الواجب عين مفهوم وجوده في الذهن ، ومفهوم وجوب الوجود معنى واحد غير مختلف ، فلو كان هذا المفهوم منتزعا من حقيقتين مختلفين لزم أن يكون لحقيقتين مختلفين ماهية واحدة غير مختلفة وهو محال ، إذ حقيقته ـ كما عرفت ـ ليست إلاّ الماهية باعتبار وجودها في الخارج ، بل الحقيقة ليست في الحقيقة إلاّ / ٢٣٩ DA / منشأ انتزاع الماهيّة ، فلو كان مفهوم واجب الوجود معنى واحد غير مختلف منتزعا من حقيقتين مختلفين لزم أن يكون معنى واحد غير مختلف تمام ماهية حقيقتين مختلفتين ، وبطلانه من أجلى البديهيات ؛ هذا.

وما قاله جماعة في جواب الشبهة المذكورة على الدليل المذكور يرد عليه اشكال قوي ، وهو : انّه إذا كان ما به الاشتراك العرضي تابعا لما به الاشتراك يلزم أن لا يكون مفهوم الوجود عين الوجود العامّ المنتزع مشتركا معنويا بين الواجب والممكنات ، لأنّه إذا كان مشتركا معنويا بينهما يلزم أن يكون مستندا إلى ما به الاشتراك ذاتي بينهما ـ بناء علي المقدّمة المذكورة ـ ، فيلزم التركّب في الواجب ـ سبحانه ـ. ولأجل ذلك ذهب جماعة إلى القول بالاشتراك اللفظي ؛ وفساد هذا القول أظهر من أن يخفى على أحد.

وأنكر الأكثر المقدّمة المذكورة وقالوا : لا مانع من انتزاع أمر وحدانى من أمور متخالفة بأنفسها ؛

وأجابوا عن الشبهة الكمونية بما ذكرناه سابقا من أنّ وجوب الوجود ليس عرضيا ، إذ وجود الواجب ـ سبحانه ـ عين ذاته والوجوب ليس إلاّ تأكّد الوجود ـ أي : كون الشيء موجودا في حدّ ذاته من غير افتقار إلى شيء ـ ، فهو أيضا عين الذات ؛ وإذا كان عين الذات فلا يمكن أن يكون عرضيا. والحقّ إنّ وجوب الوجود ليس عرضا وهو تأكّد الوجود ـ أي : صرف الوجود ومحضه ـ ، فلا يمكن أن يكون متعدّدا ـ كما

٥٦١

تقدّم ـ ، فجواب الأكثر مطابق للواقع ونفس الأمر. والتزام كون وجوب الوجود عرضيا خلاف التحقيق ، إلاّ أنّ التحقيق إنّ المقدمة المذكورة لا يمكن انكارها ، إذ لو لم يكن ما به الاشتراك العرضي مستندا إلى ما به الاشتراك الذاتي لزم ارتفاع المناسبة بين العلّة والمعلول وجواز صدور الواحد الشخصي عن العلل المتخالفة ؛ وهو بعيد عن الحقّ والصواب.

وربما يجاب عن الاشكال المذكور الوارد على انتزاع مفهوم الوجود مع كونه واحدا عن الواجب والممكن بأنّ هذا الوجود المنتزع وإن كان مشتركا معنويا إلاّ أنّه مقول على افراده بالتشكيك ، فالوجود المنتزع من الوجود الخاصّ الواجبي القائم بذاته الغير المحتاج إلى علّة أقوى وأشدّ من المنتزع عن الوجودات الخاصّة الامكانية القائمة بالواجب المحتاجة إليه ، فانّ الوجود الخاصّ / ٢٣٧ MA / الواجبي الّذي هو صرف الوجود القائم بذاته وإن كان مخالفا لنفسه للوجودات الامكانية المعلولة له إلاّ أنّ الوجودات الامكانية بعد صدورها يكون منشئا للآثار الخارجية ولانتزاع مفهوم الوجود عنها كالوجود الواجبى ، إلاّ أنّ منشئية الآثار وانتزاع مفهوم الوجود الّتي للوجود الحقّ القائم بذاته ممتازة عن منشئية الآثار وانتزاع الوجود العامّ الّتي للوجودات المعلولة الامكانية بالكمال والنقص والشدّة والضعف ، وإن كان الآثار بالحقيقة صادرة عنهما ومفهوم الوجود بالحقيقة منتزعا عنهما وكان صدور الآثار ومفهوم الوجود مشتركين معنويين إلاّ أنّ الآثار الصادرة والواردة المنتزع من الوجود الخاصّ الواجبى مغاير بالكمال والتمامية عن الآثار الصادرة والوجود المنتزع عن الوجودات الخاصة الامكانية. والاختلاف بالكمال أو النقص لا يخالف الاشتراك المعنوي ، وصدور الأمر الواحداني العامّ الاعتباري الّذي كان افراده الذهنية الاعتبارية مختلفة بالكمال عن الأشياء المخالفة بأنفسها لا مانع فيه ، لأنّه حينئذ لا يوجب ارتفاع المناسبة بين العلّة والمعلول ، فانّ الفرد الصادر عن كلّ منها مغاير بالكمال أو النقص عن الفرد الآخر.

ولا يخفى عدم تمامية هذا الجواب ، لأنّ مفهوم الوجود الّذي هو مقول بالتشكيك وإن كان بالنسبة إلى افراد مختلفة بالكمال والنقص إلاّ أنّ كلّ مقول بالتشكيك يكون

٥٦٢

افراده الممتازة بالكمال والنقص مشتركة في أمر ذاتي ، فيكون افراد الوجود العامّ الذهنية مشتركة في أمر ذاتي. وإذا كان مشتركا في أمر ذاتي فيجب أن يستند ذلك الأمر المشترك ـ لعرضيته بالنسبة إلى الوجود الواجبي والوجودات الامكانية ـ إلى أمر مشترك ذاتي بينهما ، وعلى هذا فيلزم أن يكون الامتياز بين الوجود الخاصّ للواجب والوجودات / ٢٣٩ DB / الخاصة الممكنة بنفس الكمال والنقص مع اشتراكهما في أمر ذاتي مشترك. وحينئذ إن كان نفس الكمالية والنقص شيئا على حدة أو كان بينهما ما به الامتياز يلزم التركب في وجود الواجب ، وإن لم يتحقّق ما به الامتياز أصلا لزم اتحاد وجود الواجب والممكن.

ويمكن أن يقال : لا مانع من اشتراك الوجود الخاصّ الواجبي مع الوجودات الخاصّة الامكانية مع امتياز الوجود الواجبى بالكمال الّذي هو فوق التمام ، فانّ الوجودات تترتّب وتتصاعد كمالا إلى أن ينتهى إلى ما هو أكمل ولا يتصوّر أكمل منه ويكون فوق التمام ، وهو الوجود الصرف القائم بنفسه والامتياز بنفس الكمالية والنقصان مع الاشتراك في ذاتي لا يوجب تركّبا ولا نقصا ولا اتحاد وجود الواجب مع وجود الممكنات ، لأنّ الأكملية التامّة والأتمية الكاملة المترتّبة على محوضة الوجود والقيام بالذات من دون افتقار إلى علّة خارجة كافية للامتياز التامّ وحصول الاثنينية ، فلا يتحقّق اتحاد بوجه ؛ وحينئذ فيجوز أن يكون مفهوم الوجود منتزعا عن وجود الواجب والممكنات ومشتركا معنويا بين الجميع مع امتياز افراده الذهنية بالكمال والنقص كالوجودات الخاصّة بعينها من دون فرق.

والاظهر أن يقال في الجواب : إنّ المفهوم الواحد لا يجوز أن ينتزع من الامور المتخالفة المتباينة بانفسها إذا لم تكن تلك الأمور مشتملة على أمر واحد مشترك أو لم تكن تلك الأمور مرتبطة ومنتسبة إلى واحد حقيقي ، والوجود العامّ وإن كان معنى واحدا منتزعا عن الأشياء المتخالفة بانفسها ـ أعني : الواجب والوجودات الخاصة الامكانية المتخالفة بانفسها ـ إلاّ أنّ جميعها لمّا كانت مرتبطة منتسبة إلى الواجب معلولة له ومترشّحة عنه فلا مانع من انتزاعه مع وحدته عن الواجب وعن الوجودات المترشّحة

٥٦٣

عنه الفائضة منه وإن كانت متخالفة بانفسها ؛ فتأمّل.

ومنها : إنّه لو كان واجب الوجود ماهية نوعية متحقّقة في ضمن اثنين وإن كان وجوب الوجود تمام ماهية الفردين وكان امتيازهما بعوارض مشخّصة فلا ريب في أنّ تلك العوارض المشخّصة لا يمكن أن تكون واجبة لأنّ العارض محتاج إلى المعروض والاحتياج ينافي الوجوب ، فتعيّن أن تكون ممكنة ، والممكن محتاج إلى العلّة وعلّته إن كانت ذات الفردين ـ والمفروض إنّ ذات الفردين واحدة هي وجوب الوجود وانّما امتيازهما بعوارض ـ لزم. / ٢٣٧ MB / أن يكون العارض في الفردين واحدا ، فلا يتحقّق الاثنينية ، وإن كانت علّته خارجة عن ذات الفردين لزم عدم تعيّن الفردين في حدّ ذاتهما مع قطع النظر عن الأمر الخارج ، فلا يكون الفردان مع قطع النظر عن الغير موجودين ، فلا يكونان واجبي الوجود ، فلو كانت ماهية الواجب متكثّرة الافراد بالعوارض المعلولة لغير الذات لزم أن لا يكون الواجب موجودا في حدّ ذاته.

ويمكن أن يورد الشبهة الكمونية على هذا الدليل أيضا ، فيجاب أيضا بما تقدّم.

ومنها : إنّه لا يمكن تعدّد الواجب وإلاّ فالتعين الّذي به الامتياز إن كان نفس الماهيّة الواجبية أو معلّلا بها أو بلازمها فلا تعدّد ، وإن كان معلّلا بأمر منفصل عن الذات ـ فلا وجوب بالذات لامتناع احتياج الواجب في تعينه إلى أمر منفصل ، لأنّ الاحتياج في التعيّن يقتضي الاحتياج في الوجود ، إذ الشيء ما لم يتعيّن لم يوجد ـ.

واعترض عليه : بأنّ هذا من قبيل اشتباه المفهوم بما صدق عليه ، فانّ الماهيّة الواجبة أريد بها في أوّل شقي الترديد مفهومها ، وفي الآخر ما صدقت هي عليه ، ليستقيم الكلام ، فانّ قوله : « إن كان نفس الماهية الواجبية فلا تعدّد » ، إن أريد بالواجب ما صدق هو عليه ورد المنع على اللزوم ، فانّه يجوز أن يوجد واجبان تعيّن كلّ واحد منهما نفس ذاته بلا محذور ؛ وكذا قوله : « وإن كان معلّلا بأمر منفصل عن الواجب فلا وجوب بالذات » ؛ وإن أريد به المفهوم ورد المنع على اللزوم ، فانّه يجوز أن يكون تعيّن كلّ واجب معلّلا بأمر منفصل عن مفهوم الواجب ـ أعني : ذات الواجب ـ بلا محذور.

٥٦٤

لا يقال : الانفصال بين ذات الواجب ومفهومه فلا يمكن أن يقال : إنّ الأمر المنفصل عن مفهوم الواجب هو ذات الواجب ، إذ / ٢٤٠ DA / الظاهر أنّ المراد من الأمر المنفصل هو أن لا يكون بينهما اتصال ويمكن الافتراق بينهما ، وليس المفهوم بالنسب إلى الذات كذلك ؛ لانّا نقول : فحينئذ يتحقّق شقّ خامس في الجواب نختاره ، وهو أن يكون التعيّن معلّلا بذات الواجب. والحاصل : انّا لا نقول حينئذ : أنّ ذات الواجب أمر منفصل عن المفهوم ، بل نقول : انّكم قلتم : انّ التعيّن إمّا نفس الماهية الواجبة ، أو معلّلا بها ، أو بلازمها ، أو بأمر منفصل عن مفهوم الذات. ويرد على كلّ واحدة منها مفسدة. وأنا أقول : بقي قسم خامس هو أن يكون التعلّل معلّلا بذات الواجب ، وهذا على تقدير أن يكون المراد من الواجب المفهوم ، فانّ ذات الواجب هو ما صدق عليه لا المفهوم ، فيكون قسما خامسا. وحاصل هذا الاعتراض : إنّ لكلّ من وجوب الوجود والموجود والوجود مفهوما ومصداقا ، والكلام انّما هو في المصداق لا في المفهوم ، لأنّ من قال : إنّ وجوب الوجود والوجود والموجود عين ذاته ـ سبحانه ـ ليس مراده أنّ مفهوم هذه الأمور عين له ـ تعالى ـ ؛ مع أنّ ما ذكر في الدليل المذكور ـ من أنّ ما به الامتياز إن كان نفس الماهية الواجبة إلى آخره ـ انّما يستقيم في المفهوم ، إذ لو أريد بالماهية الواجبة المصداق لورد أنّه يجوز أن يكون واجبان تعيّن كلّ منهما عين ذاته ووجوب الوجود عرضي لهما ؛ وهذا الاعتراض هي الشبهة الكمونية.

وأجاب بعض المشاهير من هذا الاعتراض : بأنّ المراد بالماهية الواجبة في الدليل حقيقة محض الوجود ، فانّ الوجوب هو تأكّد الوجود. وذلك لأنّه قد سبق أنّ الوجود الحقيقي ليس زائدا على حقيقة الواجب ، لا في التعقّل ولا في الخارج. وأيضا : قد مرّ الشبهات على أنّ الوجود الانتزاعي واحد والغرض منها التنبيه على أنّ الوجود الحقيقي واحد ـ على ما مرّ تفصيله ـ. والحاصل : أنّ الوجود الحقيقي الّذي هو أمر واحد وعين حقيقة الواجب لا يخلوا عن الاقسام الاربعة المذكورة الّتي رابعها محال بالبديهة ، والأقسام الباقية مستلزمة للمطلوب ، لأنّ التعيّن الّذي به الامتياز إذا كان عين محض الوجود الّذي هو حقيقة الواجب أو معلّلا بها أو بلازمها كان الواجب واحدا ولم يتصوّر

٥٦٥

التعدّد. وبالجملة : إنّ مراد القوم بالماهية الواجبة ليس مفهوم الوجود الانتزاعي الّذي هو أمر عرضي غير موجود في الخارج ، بل المراد منها حقيقة محض الوجود بلا ممازجة شيء من الأمور الخارجة عن حقيقة الوجود من الماهية والكمّ والكيف والوضع وغيرها ، فانّ الوجوب هو تأكّد الوجود ، فيكون نفس حقيقة الوجود المبرّى عن كلّ مداخل ، وإلاّ يلزم الاحتياج المنافي لوجوب الوجود. وإذا كان الوجوب نفس حقيقة الوجود الّذي هو غير زائد على ذات الواجب ـ تعالى ـ لا في العقل ولا في الخارج فيجب أن يكون حقيقة الواجب وماهيتها نفس ذاته ـ تعالى ـ لا أمرا عرضيا انتزاعيا ـ كما فهمه المعترض وبنى الاعتراض عليه بقوله بافتخار الشياطين / ٢٣٨ MA /.

وبما ذكر يندفع ما فهمه ، ووجه الاندفاع : إنّه قد مرّ انّ الوجود الّذي قد حكم بانّه عين حقيقة الواجب وذاته انّما هو الوجود الحقيقي الّذي تصوّره بالوجه الممكن بديهي ، وقد مرّ أنّ الحكم بكونه واحدا بديهي حدسي يتحدّس بوحدته بملاحظة الموجودات وما توجد باعتباره وملاحظة وحدة الوجود الانتزاعي ، فانّ الموجودات كلّها بحيث يمكن انتزاع مفهوم الوجود المصدري الانتزاعي منها ، والموجودات الممكنة لا يمكن أن يكون منشأ الانتزاع إلاّ بسبب مدخلية الوجود الحقيقي الّذي غير محتاج في كونه منشئا لانتزاع هذا المفهوم إلى أمر آخر من فاعل أو قابل أو ارتباط بشيء من الأشياء ، وعلى هذا فمراد المستدلّ من قوله : الماهيّة الواجبة الوجود الحقيقي الّذي قد مرّ الاشارة إلى وحدته وإلى كونه عين حقيقة الواجب ، وهو لا يخلوا عن الأقسام الاربعة الّتي رابعها باطل بالبديهة والثلاثة الباقية مستلزمة للمطلوب.

وقال بعض الأفاضل في بيان التحدّس من الموجودات بالوجود الحقيقي ووحدته : إنّ مفهوم الوجود المنتزع من الموجودات لمّا كان مشتركا معنويا بين الموجودات فيكون مفهوم الوجود معنى واحدا مشتركا بين الموجودات ، والمفهوم الواحد لا يجوز أن يكون بإزائه / ٢٤٠ DB / معان مختلفة ، لأنّه لا يكون المفهوم الواحد إلاّ بإزاء معنى واحد ، لأنّ العقل يحكم بديهة بأنّ الأمور المتخالفة المتباينة من حيث انّها متخالفة متباينة وباعتبار محض ذواتها المتباينة لا يكون منشئا ومبدأ ومستلزما لحصول معنى واحد بعينه منها

٥٦٦

في العقل ، بل المفهوم الواحد لا يمكن أن ينتزع من المخالفات إلاّ إذا كانت مشتملة على أمر واحد يكون مشتركا بينها أو تكون تلك الأمور المتخالفة منتسبة ومرتبطة إلى أمر واحد أو أمور متشابهة. ثمّ إنّ الوجودات الامكانية الّتي ينتزع منها مفهوم الوجود متخالفة بانفسها ، فليس بينها أمر مشترك ، فيجب أن يكون منتسبة ومرتبطة إلى واحد قائم بذاته ، وهو الوجود الحقيقي الّذي هو عين الواجب ـ تعالى ـ.

فان قيل : الامكان والشيئية وكذا سائر الأمور العامّة يكون انتزاعها من الحقائق المتباينة الّتي ليس بينها قدر مشترك مثل الجوهر والعرض ؛

قلت : الامكان والشيئية من المعقولات الثانية. وبيان انتزاع المعقولات الثانية عن الحقائق المتباينة من أدقّ مسائل الحكمة ؛ وقد بيّنا ذلك في بعض الحواشي.

ويمكن أن يقال : إنّ الوجود وكذا الموجود لمّا كان مشتركا معنويا فيكون معنى واحدا منتزعا من الموجودات ولا يصحّ أن يكون خصوصية شيء من الممكنات لها مدخل في انتزاع هذا المفهوم وإلاّ لما صحّ انتزاعه من غيرها ، وإذا لم يكن لشيء من الخصوصيات مدخل فلا بدّ أن يكون ما بإزاء ذلك المعنى أمرا آخر خارجا عن الموجودات الممكنة واحدا ، لأنّه لا يجوز استناد أمر واحد إلى أمور متكثّرة ؛ لأنّه إذا فرض أنّ أمرا واحدا يكون مستندا إلى أمرين فنقول : لا يخلوا من أن يكون خصوصية شيء من ذينك الأمرين لها مدخل في ذلك الأمر المستند أو لا ، فان كان لها مدخل فكيف يتصوّر وجود ذلك الأمر المستند بدونها؟! ؛ وإن لم يكن لشيء من الخصوصيّتين مدخل فلا يكون شيء منهما علّة لذلك الأمر المستند ، بل العلّة هي القدر المشترك بينهما ، فاذا لم يكن بينهما قدر مشترك فيجب أن يكون هذا المعنى مستندا إلى أمر خارج عنها ، ويكون هذا المعنى منتزعا من الموجودات المتخالفة الممكنة لأجل انتسابها وارتباطها إلى ذلك الأمر الخارج ـ وهو الوجود الحقيقي القائم بذاته ـ ، فثبت من انتزاع مفهوم الوجود من الموجودات وجود حقيقة الوجود ووحدته ؛ هذا.

وقال بعض الأفاضل في توجيه الدليل المذكور : إنّ غرض المستدلّ هو أنّ المعبّر عنه بمفهوم وجوب الوجود معنى واحد ـ بناء على نفي الاشتراك اللفظي ـ ، فذلك المعنى

٥٦٧

الواحد لا يخلوا من أن يكون حقيقة شخصية مشخّصة بذاتها ويكون تشخّصها عينها ، أو يكون حقيقة كلّية يكون لها افراد وتشخّصات زائدة ؛ فعلى الأوّل يمتنع التعدّد ؛ وعلى الثاني فلا يخلوا إمّا أن يكون طبيعة نوعية أو جنسية ، أو لا هذا ولا ذاك ، بل تكون طبيعة عرضية. فعلى تقدير كونها طبيعة نوعية أو جنسية يكون لها تشخّص زائد وتعيّن زائد ، فذلك التعيّن الّذي به امتاز أحد الفردين عن الآخر لا يخلوا من أن تكون معلّلة بتلك الطبيعة أو بلازمها ، فلا تعدّد ، لأنّ اقتضاء الطبيعة أو لازمها ليس إلاّ واحدا ، وإن كان معلّلا بأمر منفصل فلا وجوب بالذات ، وعلى تقدير كونها طبيعة عرضية يلزم أن لا يكون الواجب بالذات واجبا في مرتبة الذات.

فان قيل : للمعترض أن يقول إنّ طبيعة وجوب الوجود طبيعة نوعية أو جنسية ويكون لها افراد متعينة ويكون تعيّن كلّ فرد نفس ذات ذلك الفرد وزائدا بالنظر إلى الطبيعة الكلّية ، فلا يلزم المحذور أصلا ،

قلت : بناء على ذلك الفرض يكون كلّ فرد منها له ماهية كلّية وكلّ شيء يكون له ماهية كلية وتعيّن يكون تعيّنه عارضا بالنسبة إلى تلك الطبيعة الكلّية ، فلا بدّ له من علّة ، وتلك العلّة لا يجوز أن تكون ذات ذلك الفرد المتعيّن ، لأنّ الشيء لا يجوز أن يكون علّة لتعينه وتشخّصه ، فبقى أن تكون العلّة إمّا الطبيعة المعروضة لذلك التعيّن أو أمر آخر ؛ فعلى الأوّل يلزم الانحصار ؛ وعلى الثاني يلزم أن لا يكون ما فرض / ٢٣٨ MB / واجبا بالذات واجبا بالذات. وبالجملة الشيء الّذي له ماهية كلّية وتعيّن وتشخّص لا يجوز أن يكون تعينه نفس ذاته ، بل المتعيّن يكون جزء له ولا يصحّ أن يكون الشيء علّة لجزئه.

وأنت خبير بأنّ هذا التوجيه وإن كان صحيحا في نفسه / ٢٤١ DA / إلاّ أنّ الدليل المذكور غير منطبق عليه ظاهرا ، فالصحيح في توجيهه ما نقلناه عن بعض المشاهير.

ثمّ إنّه يرد على ما ذكره المعترض أخيرا بقوله : « لا يقال : لا انفصال بين ذات الواجب ومفهومه ، لانّا نقول : فحينئذ بتحقّق شقّ الخامس نختاره في الجواب ـ إلى آخره » : إن أريد بالواجب في الترديد الوجوب الحقيقي الّذي هو عين حقيقته لا يتصوّر

٥٦٨

قسم خامس ، لأنّه لا يتصوّر انفصال أصلا بين الذات وبين مفهوم الواجب المراد هنا ـ وهو الوجود الحقيقي الّذي هو باعتبار ذاته موجود ـ ، كيف والبرهان قد حكم بأن فرد الواجب لا يكون إلاّ صرف طبيعة الواجب ، لا أنّ هناك طبيعة الواجب أوّلا ثمّ يلحق بها العوارض الخارجة عن تلك الطبيعة ويحصل الفرد؟! ، والقسم الخامس انّما يتصوّر إذا أريد بالواجب مفهوم الواجب الانتزاعي الّذي هو مغاير للذات في التعقّل ؛ مع أنّ المستدلّ لم يرد ذلك ، بل أراد منه ـ أي : من الواجب ـ ما يعبّر عنه بالمفهوم الانتزاعي ـ وهو عين الذات ـ ، فلا يتصوّر انفصال بينه وبين الذات ، فلا يتصوّر قسم خامس.

ومنها : إنّه لو كان الواجب اكثر من واحد لكان لكلّ منهما تعيّن ضرورة ، وحينئذ إمّا أن يكون بين الوجوب والتعيّن لزوم أو لا ، فان لم يكن بل جاز انفكاكهما لزم جواز الوجوب بدون التعيّن ، وهو محال ـ لأنّ كلّ موجود متعيّن ـ ، أو جواز التعيّن بدون الوجوب وهو ينافي كون الوجوب ذاتيا ، بل يستلزم كون الواجب ممكنا حيث يتعين بلا وجوب ؛ وإن كان بين التعيّن والوجوب لزوم ، فان كان الوجوب بالتعين لزم تقدّم الوجوب على نفسه ضرورة تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب. بيان ذلك : انّه إذا كان الوجوب بالتعين يكون الوجوب معلولا للتعيّن والتعين علّة له ، والعقل يحكم بتقدّم العلّة على المعلول بحسب الوجوب ـ لأنّ العلّة يجب أوّلا ثمّ يجب المعلول بها ـ ، ولا فرق في ذلك بين كون العلّة والمعلول موجودين في الخارج أو في نفس الأمر. غاية ما في الباب إنّه لو كان المعلول موجودا في الخارج يكون تقدّم العلّة على المعلول بالوجوب بحسب وجوده الخارجى ولو كان موجودا في نفس الأمر دون الخارج يكون تقدّم العلّة على المعلول بحسب ذلك النحو من الوجود لا الوجود الخارجي أيضا. وبالجملة : إذا كان التعيّن متقدّما بالوجود على الوجوب نظرا إلى علّته له فالوجوب المتقدّم إن كان عين الوجوب المتأخّر يلزم تقدّم الشيء على نفسه وإن كان غيره فننقل الكلام إليه ونقول : لا يخلو من أن يكون بينهما لزوم أم لا ـ إلى آخر الكلام ـ وهكذا ، فيلزم التسلسل ، فان التعين بالوجوب أو كلاهما بالذات لزم خلاف المفروض ـ وهو تعدّد الواجب ـ ، لأنّ تعيّن المعلول لازم غير متخلّف ، فلا يوجد الواجب بدونه. قيل : لمّا

٥٦٩

كان المراد من التعيّن الّذي وقع الترديدان بينه وبين الوجوب لزوما أم لا هو / ٢٣٩ MA / التعيّن المتعيّن لا تعيّن ما فلا ريب في أنّه لو كان مستندا إلى الوجوب لزم نفي الكثير ، لأنّه لو كان التعيّن التعيّن مستندا إلى الوجوب لكان الوجوب لا يتحقّق بدون ذلك التعيّن فلا يتحقّق فرد آخر للوجوب غير ذلك الفرد ، لأنّه لو تحقّق فرد آخر يلزم اجتماع ذلك التعيّن بعينه في الفرد الآخر فيلزم كون الشخص الواحد شخصين ، وهو محال ؛ ولو كان المراد من التعيّن في دليل المستدلّ تعيّنا ما لا التعيّن المعيّن لم يلزم من استناده إلى الوجوب نفي التكثّر ، لأنّ كون تعيّن ما مستندا إلى الوجوب لا يوجب نفي التكثّر ، لأنّه لا مانع من وجود واجبين يكون وجوب أحدهما مقتضيا لتعيّن ما ووجوب الآخر مقتضيا لتعيّن آخر ـ وسيجيء لذلك زيادة بيان ـ ؛ وإن كان التعيّن والوجوب لأمر منفصل لم يكن الواجب واجبا بالذات ـ لاستحالة احتياجه في الوجوب والتعين ، بل في أحدهما إلى أمر منفصل ، وهو ظاهر ـ.

ثمّ إنّه قد اعترض على هذا الدليل بوجوه لا بدّ لنا من ذكرها والاشارة إلى دفعها :

أوّلها : إنّ قول المستدلّ : « لزم تقدّم الوجوب على نفسه ضرورة تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب » ، فيه : إنّ تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب انّما هو على تقدير كون المعلول موجودا خارجيا ، والمعلول هنا ليس كذلك ، لما سبق من أنّ الوجوب من الأمور الاعتبارية انتهى.

والجواب عنه : أمّا أوّلا فيما تقدّم من أنّه لا فرق في لزوم تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب بين كون العلّة والمعلول موجودين في الخارج / ٢٤١ DB / ونفس الأمر ، غاية ما في الباب إنّ العلّة والمعلول لو كانا موجودين في نفس الأمر يكون تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب بحسب نفس الأمر ، ولا ريب في أنّ الوجوب لو كان من الأمور الاعتبارية يكون من الاعتبارات النفس الامرية ـ فيكون الفساد المذكور ـ أعني : تقدّم الشيء على نفسه ـ ، أو التسلسل.

وأمّا ثانيا : فبانّ خلاصة الدليل المذكور إنّه على تقدير تعدّد الواجب امّا أن يكون بين الوجوب الّذي هو الوجود الحقيقي الّذي هو الوجود المتأكّد الّذي يكون

٥٧٠

الواجب به موجودا والتعيّن الّذي يتشخّص به الواجب الواحد لزوم أم لا ؛ وعلى الثاني جاز انفكاك كلّ من الوجود المتأكّد والتعيّن عن الآخر ولزم جواز تحقّق التعيّن بدون وجوب الوجود ، وهذا مستلزم لكون الواجب ممكنا ، وعلى الأوّل يلزم أحد من الأقسام المذكورة الّتي بعضها مستلزم للمطلوب وبعضها محال.

وعلى هذا يندفع الاعتراض المذكور ، لأنّ المراد بوجوب الوجود إذا كان هو الوجود الحقيقي المتأكّد الّذي تحقّق الواجب باختياره فلا تبقى شبهة في تحقّقه في الخارج ـ لكونه عين حقيقة الواجب ، كما مرّ سابقا ـ.

وثانيها : إنّ الوجوب الموقوف مغاير للوجوب الموقف عليه ، لأنّ أحدهما وجوب الذات والآخر وجوب التعيّن ؛ وحاصله : أنّه لا يلزم من تقدّم وجوب التعيّن على وجوب الذات تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّ هاهنا وجوبين : أحدهما : وجوب التعيّن ؛ والآخر : وجوب الذات ، فالمتقدّم هو وجوب التعيّن والمتأخّر هو وجوب الذات ، فلا يلزم تقدّم الشيء على نفسه.

والجواب عنه : أمّا أوّلا : فبانّه لو نقل الكلام إلى وجوب التعيّن ـ كما ذكرنا ـ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، أو التسلسل ؛

وأمّا ثانيا : فبأنّ وجوب الذات ليس إلاّ وجوب مجرّد الذات ـ إذ بدون الوجود الحقيقي يتحقّق انعدام الذات ـ ، فيلزم تقدّم وجوب الوجود على نفسه على تقدير كون التعيّن علّة لوجوب الوجود. والحاصل إنّ وجوب الذات ليس إلاّ عين وجوب وجود الذات ـ لأنّ معنى وجوب الذات هو أنّ وجودها واجب بالذات ، لأنّه بدون وجوب وجود الذات يتحقّق انعدام الذات ـ ، ووجوب وجود الذات عبارة عن الوجود المتأكّد الّذي هو الوجود الحقيقي ، فوجود وجوب الذات هو الوجود الحقيقي وكونه معلولا يستلزم تقدّم الشيء على نفسه بالضرورة.

وثالثها : إنّ قوله : « إمّا أن يكون بين الوجوب والتعيّن لزوم ، أو لا » إن اراد بالتعيّن الواحد المعيّن من التعيّنين اللّذين للواجبين ، نختار أنّه لا لزوم بينه وبين الوجوب ؛

٥٧١

قوله : « إن جاز انفكاكهما لزم جواز وجود الوجوب بدون التعيّن » ؛

قلنا : ممنوع ، وانّما يلزم لو لم يكن هناك تعيّن آخر ؛

وإن أراد بالتعيّن أحد التعيّنين المذكورين لا على التعيين فقوله : « إن كان التعيّن بالوجوب أو كلاهما بالذات لزم خلاف المفروض وهو تعدّد الواجب » ممنوع.

قوله : « لأنّ التعيّن المعلول لازم غير متخلّف » ؛ قلنا : مسلّم ، لكن لزوم أحد التعيّنين لا على التعيين لا ينافي التعدّد ؛ انتهى.

وأجاب عنه بعض المشاهير : بأنّ المراد هو الشقّ الأوّل ـ وهو أن يراد بالتعيّن الواحد المعيّن من التعيّنين ـ ، ولا خفاء في أنّه إذا لم يتحقّق بينه وبين وجوب الوجود لزوم جاز انفكاك كلّ منهما عن الآخر ، فجاز انفكاك التعيّن ، وهو باطل ـ للزوم تحقّق التعيّن بدون الوجوب وهو يستلزم الامكان ـ ؛ وذلك يكفي في اتمام الدليل.

ولعلّ اللزوم اشتبه بالتلازم عند المعترض ولا حاجة إلى اعتبار التلازم في اتمام الدليل المذكور ، بل اعتبار اللزوم كاف.

وحاصل هذا الجواب : إنّ الاستدلال المذكور ليس مبنيّا على وجوب تحقّق التلازم بين الوجوب والتعيّن ـ أي : ليس مبنيّا على أنّه لا يجوز وجود التعيّن بدون الوجوب ولا وجود الوجوب بدون التعين ـ حتّى يرد ما أورد عليه المعترض ، لأنّه إذا جاز الانفكاك بين الوجوب والتعيّن المعيّن لا يلزم جواز وجود الواجب بدون التعيّن لوجود تعيّن آخر ، بل الاستدلال انّما هو مبني على وجوب اللزوم بين الوجوب والتعيّن المعيّن ؛ ولا ريب في أنّه لو لم يكن بين الوجوب والتعيّن لزوم فيصحّ وجود أحدهما بدون الآخر فيجوز وجود التعيّن بدون الوجوب ، وهو يستلزم امكان ما فرض أنّه واجب ، فيلزم أن يكون بينهما لزوم. وعلى فرض نفي اللزوم يعلم جواز وجود التعيّن بدون الوجوب للتسلسل ، وهو يكفي للزوم الفساد المثبت للمطلوب. / ٢٤٢ DA / فلا يحتاج إلى التعرض ـ لجواز تحقّق الوجوب / ٢٣٩ MB / بدون التعيّن ـ حتّى يرد عليه : بأنّ جواز تعقّله بدون تعيّن لا يستلزم جواز تحققه بدون التعيّن مطلقا ـ لوجود تعيّن آخر ـ. ثمّ السرّ في عدم ورود الايراد المذكور في الصورة الأولى ووروده في الصورة الثانية

٥٧٢

إنّ التعيّن لما كان اثنين فاذا أخذنا واحدا معينا منهما وقلنا بجواز انفكاكه عن وجوب الوجود ـ أي : وجوده بذاته ـ لزم امكان الواجب ، فمن مجرّد جواز انفكاك التعيّن عن الوجوب يلزم المطلوب ؛ وامّا وجوب الوجود فلمّا كان أمرا واحدا كلّيا مشتركا بين الواجبين فاذا جاز انفكاكه عن أحد التعيّنين ـ أي : وجوده بدونه ـ فيمكن أن يكون متعينا بتعين آخر ؛ فلا يلزم الفساد المذكور ـ أعني : وجود الشيء بدون التعيّن ـ.

وتوضيح المقام : إنّ التلازم نسبة بين شيئين موجبة لاستصحاب أحدهما الآخر ، ومقتضى هذا الاستصحاب إمّا كون أحد الشيئين المتلازمين علّة للآخر ، أو كونهما معلولين لثالث ؛ وإذا كان التلازم عبارة عن شبه بين شيئين يستصحب أحدهما الآخر فأحدهما لا على التعيين أيضا لازم ، فنفي التلازم انّما يعلم بجواز انفكاك كلّ منهما عن الآخر بأن يجوز وجود كلّ منهما بدون الآخر ، ولا يكفى في نفيه جواز انفكاك واحد معين منهما عن الآخر بدون العكس ـ أي : يجوز وجود هذا الواحد المعيّن بدون الآخر بأن يكون هذا الواحد لازما أعمّ ، بخلاف العكس بأن لا يجوز وجود الآخر لكونه ملزوما بدون اللازم المذكور ـ ، فاذا كان بين الواجب والتعين المعيّن تلازم ولا يعلم أيّهما ملزوم وأيّهما لازم فنفيه انّما يعلم بجواز انفكاك كلّ منهما عن الآخر ، ولا يكفي مجرّد جواز انفكاك أحدهما عن الاخر. وحينئذ كما أنّه لا بدّ في فرض نفيه من القول بانّه يجوز انفكاك التعيّن عن الوجوب لا بدّ أيضا من القول بانّه يجوز انفكاك الوجوب عن التعيّن. وحينئذ ـ إذا بيّن فساد ذلك بانّه مستلزم لجواز وجود الواجب بدون التعيّن ثبت منه التلازم بينهما ـ يرد عليه الإيراد المذكور.

وأمّا اللزوم فلمّا كان عبارة عن تحقّق المصاحبة بين شيئين بايّ نحو كان ، فنفيه انّما يعلم بارتفاعها بالكلّية ، وهو انّما يعلم بجواز انفكاك كلّ منهما عن الآخر ، فاذا كان بين وجوب الوجود والتعيّن المعيّن لزوم فنفيه انّما يعلم إذا علم جواز انفكاك كلّ منهما عن الآخر ، فاذا فرض نفيه يعلم منه جواز انفكاك التعيّن عن الوجوب البتة. وبذلك يتمّ المطلوب ؛ ولا يحتاج إلى التعرّض لجواز انفكاك الوجوب عن التعيّن حتّى يرد عليه الايراد المذكور ، وإن كان هذا الجواز أيضا حاصلا ؛ هذا.

٥٧٣

وقيل : إنّ المعترض لم يشتبه عنده اللزوم بالتلازم ، لأنّ المستدلّ أخذ في دليله جواز تحقّق التعيّن بدون الوجوب ، وكذا جواز تحقّق الوجوب بدون التعيّن ، وبحث المعترض انّما هو على دليل المستدلّ وما ذكره المجيب دليل آخر ، لأنّه أسقط المقدّمة الّتي هي مناط البحث ـ أعني : جواز تحقّق الوجوب بدون التعيّن ـ. وقول المستدلّ : « وإن كان بين التعيّن والوجوب لزوم فان كان الوجوب بالتعين لزم كذا وإن كان التعيّن بالوجوب أو كلاهما بالذات لزم كذا » صريح في أنّ المستدلّ أخذ اللزوم بمعنى التلازم.

وغير خفيّ بانّه لمّا كان الدليل المذكور ممّا يمكن تصحيحه بحيث يندفع عنه الاعتراض المذكور بنحو ما ذكره المجيب فلا ضير لو كان قصور في التقرير الّذي ذكره المستدلّ ، فانّ أصل الدليل حينئذ يكون تامّا ناهضا باثبات المطلوب.

ثمّ لا يخفى بأن الفرق بين اللزوم والتلازم بنحو ما مرّ ليس كلّيا ، لأنّه في الغالب يستعملان بمعنى واحد ؛ هذا.

وقال المجيب المذكور : نعم يرد على الدليل المذكور إنّه لا حاجة في تتميمه إلى اثبات محالية جواز الوجوب بدون التعيّن بالدليل المذكور ، وهو قوله : لأنّ كلّ موجود متعيّن ؛ بل يمكن اثبات محالية ذلك الجواز بأن يقال : لمّا جاز تحقّق الوجوب بدون المعين فلا بدّ من علّة لمقارنته له ، فامّا أن تكون تلك العلّة هي ذلك المعيّن ، فلزم المحذور المذكور ـ وهو تقدّم الوجوب على نفسه ، ضرورة / ٢٤٢ DB / تقدّم العلّة على المعلول بالوجوب والوجود ـ ، وإمّا ان تكون تلك العلّة أمرا منفصلا لزم امكان الواجب ، فعلى هذا التقدير يمكن اعتبار كلّ من اللزوم والتلازم بين الوجوب والتعيّن المعيّن بما ذكر بأن يقال : يجب أن يكون بينهما لزوم ، لأنّه لو لم يكن بينهما لزوم لزم جواز وجود أحدهما بدون الآخر ، فلا بدّ من علّة لمقارنة أحدهما للآخر ، فامّا أن تكون تلك العلّة ـ إلى آخره ـ ؛ وأن يقال : يجب أن يكون بينهما تلازم وإلاّ يلزم جواز وجود كلّ منهما بدون الآخر ، فلا بدّ من علّة لمقارنة كلّ منهما للآخر ، وتلك العلّة إمّا أن تكون ـ إلى آخر ـ ؛ فعلى هذا التقدير لا يرد الايراد المذكور ، أي : لا يمكن أن يقال : إن أريد بالتعين واحد معين من التعيّنين نختار إنّه لا لزوم بينه وبين الوجوب ولا يلزم جواز وجود الوجوب

٥٧٤

بدون التعيّن لوجود تعيّن آخر هناك ، لأنّه لا ريب في مقارنة تعيّن معين للوجوب ، فلا بدّ من علّة لمقارنته له ، وتلك العلّة امّا نفس ذلك التعيّن ـ فيلزم المحذور المذكور ـ ، أو أمر منفصل ـ فيلزم امكان الواجب ـ ؛ هذا.

ولا خفاء في توجيه نظير الايراد الّذي أورد على الدليل السابق ـ أعني : الشبهة الكمونية ـ على هذا الدليل أيضا بأن يقال : إن أريد بالتعين التعيّن الخاصّ فهو لا يكون بالوجوب ، بل يكون بالذات ولا ينفكّ عن الذات أصلا ؛ وإن أريد به تعيّن ما فهو لطبيعة الوجوب ولا ينفكّ عنهما ؛ وحينئذ لا يتمّ الدليل لجواز أن يكون في الوجود واجبان بالذات يكون كنههما مجهولين ويكون المعيّن والخاصّ / ٢٤٠ MB / لكلّ منهما بذاته ومطلق التعيّن لطبيعة الوجوب. ودفعه ما مرّ من أنّ المراد بوجوب الوجود حقيقة محض الوجود المنزّه عن الماهيّة ، وانّ اتحاد حقيقة محض الوجود بديهي حدسي.

قيل : ويمكن دفعه بوجه آخر ، وهو : إنّه لو تعدّد الواجب بالذات فلا بدّ أن يكون هناك لكلّ واحد منهما وجوب وتعيّن ، لأنّ الوجوب معنى واحد ـ بناء على ثبوت الاشتراك المعنوي ـ ولا يتصوّر في معنى واحد تكثّر إلاّ بانضمام أمر إليه ، فلا بدّ من انضمام التعين إلى الوجوب ليحصل بانضمام كلّ تعيّن فرد من الواجب ، فالمتعين يكون جزء للفرد الواجب ، فلا يكون التعيّن مستندا إلى الفرد ـ أعني : الذات ـ ، وإلاّ يلزم كون الشيء علّة لجزئه ؛ وهو باطل.

وبهذا يظهر بطلان ما ذكره المعترض المذكور بقوله : « فانّه يجوز أن يكون تعيّن كلّ واجب معلّلا بأمر منفصل عن مفهوم الواجب ـ أعني : ذات الواجب ـ ». ووجه البطلان إنّه : إذا كان تعيّن ذات الواجب معلّلا بذات الواجب يلزم أن يكون الشخص علّة لتشخّصه ، وذلك باطل ؛ لأنّ كلّ تشخّص إمّا أن يكون عين الشخص ـ كما في الواجب بالذات ـ أو جزئه ـ كما في الممكن ـ ، وعلى أيّ تقدير لا يصحّ كون الشخص علّة لتشخّصه. وأيضا نقول : إنّ المنضمّ إلى الوجوب يكون أمرا خارجيا عن الوجوب والأمر الخارج عن الوجوب إمّا ممكن أو ممتنع ، والممتنع لا يجوز أن يكون جزء لموجود خارجي ، فبقى أن يكون ممكنا ، فيلزم أن يكون الواجب مركّبا من الواجب والممكن ،

٥٧٥

فلا يكون ما فرض أنّه واجب بالذات واجبا بتمامه ، بل ببعضه ؛ فالواجب بالذات هو ذلك البعض لا المركّب ، فلا يلزم تكثّر الواجب بالذات ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّه إذا كان في الوجود واجبان تعيّن كلّ منهما بذاته ، بمعنى أن يكون تعيّن كلّ منهما عين ذاته كما نقول نحن ذلك في الواجب لا يلزم أن يكون الشخص علّة لتشخّصه ، لأنّ تشخّصه حينئذ ليس إلاّ ذاته ، فالصحيح في الجواب ما ذكر أوّلا.

ومنها : برهان أورده بعض الأزكياء ، وهو يتوقّف على تمهيد مقدّمتين :

الأولى : إنّ الوجود وكذا الوجوب من المشتركات المعنوية دون اللفظية ـ كما ثبت في محلّه ـ ؛

والثانية : إنّ كلاّ منهما عين في الواجب ـ سبحانه ـ وليس شيء منهما زائدا عليه ـ كما قرّرناه ـ.

وبعد تمهيد هاتين المقدّمتين نقول : لو كان في الوجود واجبان بالذات لكان وجوب الوجود مشتركا معنويا بينهما لا لفظيا ـ لما عرفت ـ ، فلا يخلوا إمّا أن يكون ذاتيا لهما أو عرضيا ، والثاني باطل ـ للزوم الاحتياج إلى حيثية تقييدية أو تعليلية ، والبرهان الدالّ على عينية الصفات دلّ على أنّه سبحانه لا يحتاج في حمل واجب أو عالم أو قادر وغيرها من الصفات الكمالية عليه تعالى إلى حيثية تقييدية أو تعليلية ، بل ذاته تعالى بذاته مصداق حمل تلك المحمولات. وبالجملة قد حكم البرهان بأنّ نسبة تلك الصفات / ٢٤٣ DA / الكمالية إلى ذاته تعالى كنسبة الانسانية إلى الانسان من حيث عدم الاحتياج إلى حيثية تقييدية أو تعليلية ـ ، فبقي أن يكون وجوب الوجوب قدرا مشتركا ذاتيا ؛ فحينئذ إمّا أن يكون جنسا أو نوعا أو فصلا ، والأوّل ـ أعني : كونه جنسا ـ باطل ، لأنّه لو كان جنسا لكان حقيقته ووجوب الوجود مبهمة في مرتبة الذات ولا يكون متعينة في مرتبته بذاتها ، فلا بدّ لها من التعيّن ومن رافع لابهامها ، والرافع لابهامها هو الفصل ، والفصل خارج عن حقيقة الجنس ، فيلزم أن يكون ما يرفع الابهام عن حقيقة وجوب الوجود خارجا عنها ، والخارج عن حقيقة وجوب الوجود ممكن أو ممتنع ، والممتنع لا يصلح لذلك ـ وهو ظاهر ـ ، فبقي أن يكون ممكنا ، وهو ظاهر البطلان!.

٥٧٦

والثاني ـ أعني : كونه نوعا ـ أيضا باطل ، لأنّه لو كان نوعا لكان له تشخّص خارج عنه ، والخارج عن حقيقة وجوب الوجود إمّا ممكن أو ممتنع ، وشيء منهما لا يصلح أن يكون الامتياز ، فيكون كلّ منهما مركبا من حقيقة وجوب الوجود ومن غيرها فيلزم أن لا يكون فصلا ـ لأنّ الفصل يكون مميزا اذا كان ما بين الواجبين مشترك ذاتي ـ ، فيكون كلّ منهما مركّبا من حقيقة وجوب الوجود ومن غيرها ، فليزم أن لا يكون ما فرض واجبا بالذات بتمامه ، بل ببعضه ، فيلزم خلاف الفرض. وهذه المفسدة آتية على تقدير كون حقيقة وجوب الوجود جنسا أو نوعا أيضا ، لانّها إذا كانت جنسا أو نوعا لكان فردها النوعي أو الشخصي مركّبا من الجنس وغيره ، أو من النوع وغيره ، وذلك الغير يكون ممكنا لا ممتنعا ، فيلزم أن لا يكون الواجب واجبا بتمامه ، بل ببعضه ؛ فظهر أنّ مفهوم وجوب الوجود يجب أن يكون بإزاء الذات والهوية جميعا والمفهوم الّذي بإزاء ذات الشيء وهويته جميعا يمتنع أن يتصوّر له فردان فضلا عن جواز وقوعهما ـ وإلاّ لزم أن يكون الشخص كلّيا ـ. ونعم ما قيل : إنّه كما أنّ تعدّد الواجب بالذات ممتنع كذلك تصوّر التعدّد في وجوب الوجود ممتنع.

ثمّ لا يخفى بانّه بعد اثبات أنّ وجوب الوجود لا يمكن أن يكون عرضيا بين الواجبين بل لو اشترك بينهما لكان ذاتيا يمكن أن يقال في تتميم البرهان : إنّه يلزم حينئذ التركيب لاحتياجهما إلى ما به الامتياز ، إلاّ أنّ هذا طريق آخر سوى ما نقلناه عن بعض الأذكياء.

ومنها : ما ذكره الشيخ في الشفا ، وهو : إنّ وجوب الوجود إذا كان صفة لشيء وموجودا له فامّا أن يعيّن وجوب الوجود على سبيل الوجوب كونه صفة لهذا الشيء ، فلا يوجد في غيره ؛ وإمّا أن يكون كونه صفة لهذا الشيء المعيّن معلّلا بأمر غير وجوب الوجود ، فيكون ممكنا. ثمّ قال : وبعبارة أخرى نقول : إنّ كون الواحد واجب الوجود وكونه هو إمّا أن يكون واحدا ، فيكون كلّ ما هو واجب الوجود ، فهو هذا الواحد بعينه ولا يكون غيره واجبا ، لأنّه لمّا كان وجوب الوجود بمعنى واحدا فاذا كان التعيّن والهوية عند ذلك المعنى فلا يتصوّر أن يكون لذلك المعنى شخصان وإلاّ يلزم أن يكون

٥٧٧

الشخص الواحد شخصين ؛ وإن كان كونه واجب الوجود غير كونه هو بعينه فمقارنة واجب الوجود لما هو بعنيه إمّا أن يكون أمرا لذاته من حيث هو واجب الوجود أو لعلّة وسبب غيره ، فان كان لذاته ـ أي : لأنّه / ٢٤١ MA / واجب الوجود ـ فيكون كلّ ما هو واجب الوجود هذا المعيّن بعينه ، فلا يكون غيره واجب الوجود ؛ وإن كان بسبب وموجب غير الذات من حيث هو واجب الوجود فيكون لكون واجب الوجود هذا بعينه سبب ، فيكون هذا ممكنا معلولا ، وقد فرضناه فردا لواجب الوجود بالذات.

وقريب ، من هذا الدليل ما ذكره أيضا في الشفا بأنّ الواحد بما هو واجب الوجود يكون ما هو به هو وهو ذاته ومعناه ، أمّا مقصور عليه لذات ذلك المعنى لا لعلّة ، فان كانت حقيقة الواجب الوجود لأجل نفسها هي هذا المعيّن استحال أن يكون تلك الحقيقة ليست هذا ، فلا يمكن أن يوجد / ٢٤٣ DB / لغيره ؛ وإن كان تحقّق هذه الحقيقة لهذا المعيّن لا عن ذاتها بل عن غيرها فيكون وجود الخاصّ له مستفادا من غيره ، فلا يكون واجب الوجود هذا خلف ؛ فاذن حقيقة واجب الوجود واحد فقط. وكيف يكون الماهيّة المجرّدة ـ أي الماهية الصرفة ـ بلا لحوق أمر آخر إليه للذاتين والشيئان انّما يكون اثنين امّا بسبب المعنى ـ أي : بسبب نفس الماهيّة وأصل المعنى ـ أو بسبب الخاصّ للمعنى ، فالوضع للعرض أو العلّة للمعلول ؛ وإمّا بسبب الوضع والمكان ؛ أو بسبب الوقت والزمان ، وبالجملة لعلّة من العلل ؛ لأنّ كلّ اثنين لا يختلفان بالمعنى فانّما يختلفان لشيء عارض للمعنى مقارن له ، وكلّ ما ليس له وجود إلاّ وجود معيّن ولا يتعلّق بسبب خارج أو حالة خارجية فبما ذا يخالف مثله؟.

ومنها : ما ذكره الشيخ أيضا في الشفا بقوله : وبالجملة إنّ الفصول وما يجري مجريها لا يتحقّق بها حقيقة المعنى الجنسى من حيث معناه ـ أي : ليس متمّما وداخلا في معناه ـ ، بل انّما كانت علّة لتقديم الحقيقة موجودة والوجود امر خارج عن حقيقة المعنى الجنسي في غير الواجب ، فانّ الناطق ليس شرطا يتعلّق به الحيوان في أنّ له معنى الحيوان وحقيقته ، بل في أن يكون موجودا معينا ، وإذا كان المعنى العامّ ـ أي : الّذي فرض أنّه جنس ـ وما يوجب التعيّن فصله أو نوع وما يوجب التعيّن بشخصه نفس

٥٧٨

واجب الوجود وكان الفصل يحتاج إليه في أن يكون واجب الوجود موجودا فقد دخل ما هو كالفصل في ماهية ما هو كالجنس لأنّه يحصل به الوجود الّذي هو نفس الجنس على الفرض المذكور ، فيلزم أن يكون للفصل دخل في أصل حقيقة الجنس. والحاصل : انّ حقيقة واجب الوجود هو الوجود ، فاذا فرض أنّه جنس والفصل لتقويم الحقيقة الموجودة فيدخل الفصل في حقيقة الجنس وهو خلاف سائر الفصول بالنسبة إلى الأجناس. والحال فيما يقع به اختلاف غير فصلي في جميع هذا أظهر ـ أي : حال ما يوجب الاختلاف والتعدّد في الماهيّة غير الفصل ممّا ذكر من الموضوع والزمان والمكان وغيرها اظهر في جميع ما ذكرنا من الاحكام من أنّه لا بدّ أن لا يكون لهذه الأمور دخل في أصل المعنى الجنسي أو النوعي ـ. وإذا كان هذه الأمور موجبة لتعيّن الواجب يلزم أن يكون لها دخل في أصل المعنى العامّ بناء على أنّه هو الوجود ولهذه الأمور دخل في الوجود قطعا. وإلى هذا الدليل اشار بهمنيار في التحصيل حيث قال : اعلم! أنّ كلّ معنى عامّ فامّا أن يتحصّل بالفصل أو بالعرض ، والفصل والعرض لا يفيدان ماهية الجنس ولكنهما يفيدان قوام وجود الجنس بالفعل ، والعرض لا يفيد ماهية النوع بل يفيد قوام وجودها. وحيث ماهية الجنس أو النوع عين الوجود وفرض دخول فصل أو عرض عليه لزم أن يكون الفصل يفيد ماهية الجنس والعرض يفيد ماهية النوع ، فالموجود الّذي لا سبب له إن فرض له جنس وفصل أو ماهيّة نوعية والفصل يفيد وجود الجنس والعرض يفيد وجود النوع يلزم أن يكون ما لا علّة له معلولا ؛ فتبيّن من هذا أنّ الموجود الّذي لا سبب له والموجود الّذي مهيته إنّيته لا يتكثّر بالفصول والعوارض ، فلا شركة لواجب الوجود بالذات.

وقريب من هذا الدليل ما ذكره أيضا في الشفا : بأنّ الواحد بما هو واجب الوجود يكون ما هو به هو وهو ذاته ومعناه ، أمّا مقصور عليه لذات ذلك المعنى لا لعلّة ، فان كانت حقيقة الواجب الوجود لأجل نفسها هي هذا المعيّن استحال أن يكون تلك الحقيقة ليست هذا ، فلا يمكن أن يوجد / ٢٤٣ DB / لغيره ؛ وإن كان تحقّق هذه الحقيقة لهذا المعيّن لا عن ذاتها بل عن غيرها فيكون وجود الخاصّ له مستفادا من

٥٧٩

غيره ، فلا يكون واجب الوجود ، هذا خلف ؛ فاذن حقيقة واجب الوجود واحد فقط. وكيف يكون الماهيّة المجرّدة ـ أي : الماهية الصرفة ـ بلا لحوق أمر آخر إليه للذاتين والشيئان انّما يكون اثنين امّا بسبب المعنى ـ أي : بسبب نفس الماهيّة وأصل المعنى ـ أو بسبب الخاصّ للمعنى ، فالوضع للعرض أو العلّة للمعلول ؛ وإمّا بسبب الوضع والمكان ؛ أو بسبب الوقت والزمان وبالجملة لعلّة من العلل ، لأنّ كلّ اثنين لا يختلفان بالمعنى فانّما يختلفان لشيء عارض للمعنى مقارن له ، وكلّ ما ليس له وجود إلاّ وجود معيّن ولا يتعلّق بسبب خارج أو حالة خارجية فبما ذا يخالف مثله؟ ؛ فاذن لا يكون لله مشارك في معناه ، فالأوّل لا ندّ له.

ومنها : ما ذكره الشيخ أيضا في الشفا بقوله : وبالجملة إنّ الفصول وما يجري مجريها لا يتحقق بها حقيقة المعنى الجنسى من حيث معناه ـ أي : ليس متمّما وداخلا في معناه ـ ، بل انّما كانت علّة لتقديم الحقيقة موجودة والوجود امر خارج عن حقيقة المعنى الجنسي في غير الواجب ، فانّ الناطق ليس شرطا يتعلّق به الحيوان في أنّ له معنى الحيوان وحقيقته ، بل في أن يكون موجودا معينا ، وإذا كان المعنى العامّ ـ أي : الّذي فرض أنّه جنس ـ وما يوجب التعيّن فصله أو نوع وما يوجب التعيّن بشخصه نفس واجب الوجود وكان الفصل يحتاج إليه في أن يكون واجب الوجود موجودا فقد دخل ما هو كالفصل في ماهية ما هو كالجنس ، لأنّه يحصل به الوجود الّذي هو نفس الجنس على الفرض المذكور ، فيلزم أن يكون للفصل دخل في أصل حقيقة الجنس. والحاصل : انّ حقيقة واجب الوجود هو الوجود ، فاذا فرض أنّه جنس والفصل لتقويم الحقيقة الموجودة فيدخل الفصل في حقيقة الجنس ، وهو خلاف سائر الفصول بالنسبة إلى الاجناس ، والحال فيما يقع به اختلاف غير فصلي في جميع هذا اظهر ـ أي : حال ما يوجب الاختلاف والتعدّد في الماهيّة غير الفصل ممّا ذكر من الموضوع والزمان والمكان وغيرها أظهر في جميع ما ذكرنا من الأحكام ، من أنّه لا بدّ أن لا يكون لهذه الأمور دخل في أصل المعنى الجنسى أو النوعي ـ ، وإذا كان هذه الأمور موجبة لتعين الواجب يلزم أن يكون لها دخل في أصل المعنى العامّ بناء على أنّه هو الوجود ولهذه الامور دخل في الوجود قطعا. وإلى هذا الدليل اشار بهمنيار في التحصيل حيث قال : اعلم! ، أنّ كلّ

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646